شعيب الخديم
2011-05-21, 18:43
العقل السلفي.. العقل الليبرالي.. لماذا لا يُبدعان؟
د. عبد الله البريدي
الحقيقة الماثلة أمامنا أن كلاً من السلفية والليبرالية
فشلت في تطوير طرائق التفكير والإدارة، وفي ابتكار أدوات
منهجية وتشخيصية جديدة، كما أخفقت في إبداع نظريات ونماذج
ومصطلحات جديدة في مختلف الحقول المعرفية، فالتقليد هو
النزعة السائدة في الرواقين السلفي والليبرالي، فما أسباب
ذلك؟
الحقيقة أن القضية معقدة إلى أبعد حد، ولكن لا بأس من طرح
بعض الرؤى والتحليلات التشخيصية المبدئية، محاولاً الإفادة
من خبرتي التراكمية المتواضعة في علوم التفكير والإبداع -
في فترة تلامس خمس عشرة سنة -، علنا نفلح في الوصول إلى
توصيف عام للعقل السلفي والعقل الليبرالي، وفي خضم ذلك
التوصيف يتوجب علينا مراعاة الأمور التالية:
(1) ان التوصيف يتعلق بالنفس أو النسق العام لكل من
السلفية والليبرالية بمفرداتها الفكرية وممارساتها العملية
وليس بالأشخاص، ومقتضى ذلك التوصيف أننا لا نذهب إلى تعميم
النتائج على كامل الأفراد المنتمين للسلفية والليبرالية،
ولكنها السمة العامة.
(2) سنعرض في هذا التحليل أبرز الخصائص العقلية لكل من
السلفية والليبرالية وليس المزايا والعيوب، ومؤدى ذلك أننا
نحلل ونعرض مجموعة من الخصائص (المحايدة) مع إيراد بعض
الإيجابيات والسلبيات في بعض السياقات.
(3) ان العقل السلفي (عقل منمط) إلى حد كبير حيث إنه يصدر
من إطار فكري واحد، بخلاف العقل الليبرالي حيث إنه يتشكل
داخل أطر فكرية متنوعة فهو أشبه ما يكون ب(جبهة تضم عدة
أحزاب) أو عصا بعدة رؤوس، فالذين ينتحلون الليبرالية أو
ينتسبون إليها لهم مشارب فكرية متنوعة وربما متضادة في بعض
المنطلقات مع عدم اتفاقهم على معنى متماسك لليبرالية
أصلاً، ويعني ذلك أننا سنواجه صعوبة أكبر في توصيف العقل
الليبرالي مما يضطرنا لأن نمارس نوعاً من المقاربة التي
تستكشف رؤوساً متنوعة لا رأساً واحداً!
يتسم العقل السلفي - ضمن صفات كثيرة - بأنه (عقل مثالي)،
حيث يتمركز حول (المفترض)، فالعقل السلفي منجذب إلى مجموعة
من المبادئ والقيم والأخلاق كنقطة ارتكازية في التحليل
والتشخيص والتفكير، مما يجعل السلفي يُكثر من استخدام بعض
الجمل والتراكيب، فمثلاً كثيراً ما نسمعه يقول: (ما يتوجب
علينا هو ....)، (ما يجب أن يكون ....)، (أخلاقنا
وقيمنا....)، وهذا أمر إيجابي، ولكن ثمة إشكاليات في
التوجه المثالي لدى العقل السلفي، فمن ذلك أنه يميل إلى
الاعتقاد بأن الناس ينبغي أن يتفقوا في كل شيء تقريباً
ويضيق ذرعاً بالاختلافات نظراً لمحورية القيم وصحتها
المطلقة وهيمنتها على تفكيره، والمثير للاستغراب أن العقل
السلفي لم يستفد من السعة الهائلة في الفقه الإسلامي وهو
موطن للتنوع المدهش في الاجتهادات والتطبيقات، كما أنه قد
لا يعترف ولا يعالج بعض الحقائق بحجة الحفاظ على المكتسبات
القيمية؛ مع تلبسه بتفاؤل مغرق وتفكير سطحي يهدر بعض
التحديات الكبار التي تواجه مجتمعاتنا العربية والإسلامية،
وينضاف إلى ذلك أنه يجتهد لأن يحقق (المثال) أو الأنموذج
السلفي في الواقع المعاش ب (معايير عالية) وتوقعات مرتفعة
دون مراعاة للظروف والملابسات في كثيرٍ من الأحيان. وهذا
يجعلنا نقرر دون عناء بأن العقل السلفي (عقل استرجاعي) لا
(عقل توليدي)، فهو يسترجع الأفكار والتطبيقات من الذاكرة
السلفية ولا يصنّعها، وبهذا نكون قد ظفرنا بخيط رفيع قد
يوصلنا إلى اكتشاف بعض أسباب ضمور الإبداع لدى السلفية.
وفي الاتجاه ذاته يمكننا القول بصورة مباشرة إن العقل
السلفي يجنح في كثيرٍ من الأحيان إلى (تعميم الاستثناء)،
من خلال انتخاب بعض السلوكيات الاستثنائية لبعض السلف
ومحاولة تعميمها على بقية أفراد (الأمة)، كتعميم التطبيقات
التفصيلية للسنة النبوية المطهرة، كما في الحالة
الاستثنائية للصحابي الجليل عبدالله بن عمر - رضي الله
عنهما -، أو إيراد بعض القصص أو الخبرات الحياتية لبعض
السلف على أنها معيارية، ونلاحظ ميل بعض السلفيين إلى
ممارسة التربية والوعظ بها، والأمثلة كثيرة، فمنها قصص
التنسك لبعض السلف التي تخرج عن النطاق المعتاد سواء كانت
في الصلاة أو قراءة القرآن أو الصيام وغير ذلك، كقصص الذين
يغشى عليهم عند سماع بعض الآيات القرآنية مع أن النبي
المعصوم - عليه الصلاة والسلام - لم يرد عنه شيء من هذا
ولا قريب منه!، ومما يبعث على الحيرة أن السلفية لم تطق
الاستفادة من الكثير من التطبيقات العملية لبعض الرموز
العلمية الكبيرة - التي يصنفها البعض ادعاء على أنها سلفية
-، فمثلاً نجد الإمام أحمد بن حنبل - رحمه الله - يتخذ
لنفسه أحياناً مسلكاً غير المسلك الذي يفتي به الناس، وذلك
في أمور منها ما يتعلق بالعمل بأجر لدى السلطان، فما الذي
يجعل السلفية تتغافل عن تلك التطبيقات التي تتسم بأكبر قدر
من التجرد في الفتوى، من خلال التمييز بين (التفضيلات
الشخصية) وضوابط الاستدلال بالنص الشرعي ومنطلقاته
ومقاصده!
والعقل السلفي يستجلب الحلول المبنية على (التعاليم
الدينية) - وهذا أمر لا غبار عليه -، كما أن ذلك العقل
يتصف ب(التسليم المطلق للنص)، انطلاقاً من أن (التسليم لله
هو جوهر الإسلام)، ولا أحسب أن أحداً يخالف في ذلك أيضاً،
لقوله تعالى:(فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ
يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ
يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ
وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا) (65) سورة النساء، وقوله:
(وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى
اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ
الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ
وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُّبِينًا) (36) سورة
الأحزاب، وغيرها من النصوص الشرعية. ولكن الإشكالية تكمن
في كيفية التسليم للنص؛ فالفكر السلفي - على اختلاف درجاته
- يفصِّل ثوباً بمقاسات وألوان سلفية ثم يطالب الجميع
بارتدائه، دون مراعاة تغير الأحجام والخامات والاحتياجات،
ويترتب على (المثالية السلفية) المصحوبة بذلك اللون من
التسليم للنص أن العقل السلفي يضفي على التطبيقات البشرية
السلفية نوعاً من القداسة ويقاوم عملية تحليلها ومناقشتها
فضلاً عن تقييمها ونقدها؛ مما يعبئ العقل السلفي بكميات
هائلة من العواطف والمشاعر؛ ويجعله مندفعاً في تفكيره؛
مهمشاً للحجج العقلية والبراهين المنطقية؛ منفعلاً في
نبرته؛ محتداً في نقاشه؛ وربما يورث ذلك كله استعجالاً في
السلوك وجفاءً في التعامل مع (المخالفين). هذا اللون من
التفكير لدى السلفية يؤدي إلى تشكل بعض (الأقفال الذهنية)
في فضائها الفكري والتربوي؛ وتلك الأقفال من شأنها إعاقة
الممارسة الإبداعية بشكل كامل أو جزئي، ومن أهمها ما يسمى
- وفق أدبيات الإبداع - بقفل (الإجابة الصحيحة) الذي يتمثل
في أن: لكل شيء إجابة صحيحة واحدة فقط، الأمر الذي يفقد
الأذهان القدرة على تغيير زوايا التفكير (أي المرونة)؛
والمرونة الذهنية هي التي يتوصل بها الإنسان إلى توليد
أكبر قدر ممكن من الأفكار (أي الطلاقة)؛ والطلاقة الفكرية
تزيد من احتمالية الظفر بالأفكار غير المألوفة (أي
الأصالة).
بمعنى أن الذهنية السلفية تتمحور حول عددٍ محدودٍ من
الحلول المقولبة والمستجلبة من بعض تطبيقات السلف، تلك
الحلول التي تشبه إلى حد كبير (العلب الجاهزة) التي نفرّغ
ما في أجوافها حين نروم إطفاء جوع ملتهب أو إكرام ضيف
عزيز، فالفكرة واحدة مع اختلاف المناسبات أو الظروف، وهذا
التحليل يجعلنا نقرر بأن العقل السلفي يميل إلى استخدام
(التفكير التقاربي) الذي يركز على إنتاج عددٍ صغيرٍ من
الحلول الصحيحة بدلاً من توليد أفكار متنوعة (وهو ما يعرف
بالتفكير التشعبي)؛ والمسألة تصبح أكثر خطورة وأشد ضرراً
على الإبداع إذا تذكرنا بأن العقل السلفي يمارس عمليات
استدعاء للأفكار أكثر من توليدها، وهذا ما نعتناه بالعقل
الاسترجاعي، أي أننا أمام حالة خاصة من التفكير التقاربي،
يمكننا تسميتها ب(التفكير التقاربي المنمط) أو (التفكير
التقاربي الاسترجاعي)، ونحسب أن هذا التوصيف لنمط التفكير
جديد في أدبيات الإبداع، وربما يستحق نوعاً من الاستكشاف
النوعي والقياس الكمي.
وفي سياق التفكير التقاربي المنمط، تجدر الإشارة إلى أن
السلفية لم تفلح في التفريق بين الثوابت التي لا تحتمل غير
إجابة صحيحة واحدة وبين المتغيرات التي تستوعب إجابات
كثيرة وتحتمل بدائل متنوعة، ولم تعِ السلفية حقيقة أن
الثوابت دائرتها ضيقة بخلاف المتغيرات، فمالت بإفراط إلى
(تثبيت المتغيرات)؛ ففقدت السلفية القدرة على التفاعل مع
اللحظة الراهنة بل تميل إلى أن تجهز عليها بنظراتها الضيقة
في كثير من المسائل والقضايا، وهذا ما يجلي لنا سر انكماش
التيارات السلفية وفقدانها للكارزمية داخل المجتمعات
العربية والإسلامية، ليس ذلك فحسب بل داخل الأقليات
العربية والإسلامية في الغرب، وينضاف إلى ذلك النزعة
الانطوائية المنبثقة من (التزكية) المطلقة أو شبه المطلقة
للذات بالصلاح والاستقامة و(العقيدة الصافية).
ومن الخصائص العقلية الأخرى للمبدعين ما يعرف ب (الحساسية
تجاه المشاكل) التي تتجسد في القدرة على اكتشاف أكبر قدر
ممكن من المشاكل وبأسرع وقت ممكن، والإنسان لا يستطيع أن
يكتشف أي مشكلة إلا إذا كان ملماً بجانبين اثنين:
(1) معرفة المفترض (ما يجب أن يكون)، (2) معرفة الواقع (ما
هو قائم فعلاً)، فإن كان ثمة عدم تطابق بينهما فإن ذلك
يعني وجود مشكلة معينة، والعقل السلفي غالباً ما يفشل في
اكتشاف الكثير من المشاكل التي تحيط به، والسبب الرئيس أنه
يجهل إلى حد كبير الواقع بتعقيداته وعلاقاته التشابكية،
فهو يميل إلى التبسيط المتناهي للمسائل والقضايا ومعالجة
أقل كمية قليلة من الحقائق والمعلومات؛ ويؤدي ذلك إلى
تكريس (الخمول الذهني)؛ فالعقل الإنساني لا ينشط بالتفكير
والإبداع إلا إذا كان مدفوعاً لحل مشاكل ملحة أو معالجة
أزمات خطيرة أو إطفاء أسئلة ملتهبة. ونخلص من هذا التحليل
المختصر إلى أن العقل السلفي يفتقر لأبرز الخصائص العقلية
للإبداع ويفشل في إجراء (المران الذهني) في كثيرٍ من
الميادين! وسيكون لنا وقفة أخرى مع العقل الليبرالي لنكشف
أبرز الأسباب التي جعلته يخفق في ممارسة الإبداع هو أيضاً!
د. عبد الله البريدي
الحقيقة الماثلة أمامنا أن كلاً من السلفية والليبرالية
فشلت في تطوير طرائق التفكير والإدارة، وفي ابتكار أدوات
منهجية وتشخيصية جديدة، كما أخفقت في إبداع نظريات ونماذج
ومصطلحات جديدة في مختلف الحقول المعرفية، فالتقليد هو
النزعة السائدة في الرواقين السلفي والليبرالي، فما أسباب
ذلك؟
الحقيقة أن القضية معقدة إلى أبعد حد، ولكن لا بأس من طرح
بعض الرؤى والتحليلات التشخيصية المبدئية، محاولاً الإفادة
من خبرتي التراكمية المتواضعة في علوم التفكير والإبداع -
في فترة تلامس خمس عشرة سنة -، علنا نفلح في الوصول إلى
توصيف عام للعقل السلفي والعقل الليبرالي، وفي خضم ذلك
التوصيف يتوجب علينا مراعاة الأمور التالية:
(1) ان التوصيف يتعلق بالنفس أو النسق العام لكل من
السلفية والليبرالية بمفرداتها الفكرية وممارساتها العملية
وليس بالأشخاص، ومقتضى ذلك التوصيف أننا لا نذهب إلى تعميم
النتائج على كامل الأفراد المنتمين للسلفية والليبرالية،
ولكنها السمة العامة.
(2) سنعرض في هذا التحليل أبرز الخصائص العقلية لكل من
السلفية والليبرالية وليس المزايا والعيوب، ومؤدى ذلك أننا
نحلل ونعرض مجموعة من الخصائص (المحايدة) مع إيراد بعض
الإيجابيات والسلبيات في بعض السياقات.
(3) ان العقل السلفي (عقل منمط) إلى حد كبير حيث إنه يصدر
من إطار فكري واحد، بخلاف العقل الليبرالي حيث إنه يتشكل
داخل أطر فكرية متنوعة فهو أشبه ما يكون ب(جبهة تضم عدة
أحزاب) أو عصا بعدة رؤوس، فالذين ينتحلون الليبرالية أو
ينتسبون إليها لهم مشارب فكرية متنوعة وربما متضادة في بعض
المنطلقات مع عدم اتفاقهم على معنى متماسك لليبرالية
أصلاً، ويعني ذلك أننا سنواجه صعوبة أكبر في توصيف العقل
الليبرالي مما يضطرنا لأن نمارس نوعاً من المقاربة التي
تستكشف رؤوساً متنوعة لا رأساً واحداً!
يتسم العقل السلفي - ضمن صفات كثيرة - بأنه (عقل مثالي)،
حيث يتمركز حول (المفترض)، فالعقل السلفي منجذب إلى مجموعة
من المبادئ والقيم والأخلاق كنقطة ارتكازية في التحليل
والتشخيص والتفكير، مما يجعل السلفي يُكثر من استخدام بعض
الجمل والتراكيب، فمثلاً كثيراً ما نسمعه يقول: (ما يتوجب
علينا هو ....)، (ما يجب أن يكون ....)، (أخلاقنا
وقيمنا....)، وهذا أمر إيجابي، ولكن ثمة إشكاليات في
التوجه المثالي لدى العقل السلفي، فمن ذلك أنه يميل إلى
الاعتقاد بأن الناس ينبغي أن يتفقوا في كل شيء تقريباً
ويضيق ذرعاً بالاختلافات نظراً لمحورية القيم وصحتها
المطلقة وهيمنتها على تفكيره، والمثير للاستغراب أن العقل
السلفي لم يستفد من السعة الهائلة في الفقه الإسلامي وهو
موطن للتنوع المدهش في الاجتهادات والتطبيقات، كما أنه قد
لا يعترف ولا يعالج بعض الحقائق بحجة الحفاظ على المكتسبات
القيمية؛ مع تلبسه بتفاؤل مغرق وتفكير سطحي يهدر بعض
التحديات الكبار التي تواجه مجتمعاتنا العربية والإسلامية،
وينضاف إلى ذلك أنه يجتهد لأن يحقق (المثال) أو الأنموذج
السلفي في الواقع المعاش ب (معايير عالية) وتوقعات مرتفعة
دون مراعاة للظروف والملابسات في كثيرٍ من الأحيان. وهذا
يجعلنا نقرر دون عناء بأن العقل السلفي (عقل استرجاعي) لا
(عقل توليدي)، فهو يسترجع الأفكار والتطبيقات من الذاكرة
السلفية ولا يصنّعها، وبهذا نكون قد ظفرنا بخيط رفيع قد
يوصلنا إلى اكتشاف بعض أسباب ضمور الإبداع لدى السلفية.
وفي الاتجاه ذاته يمكننا القول بصورة مباشرة إن العقل
السلفي يجنح في كثيرٍ من الأحيان إلى (تعميم الاستثناء)،
من خلال انتخاب بعض السلوكيات الاستثنائية لبعض السلف
ومحاولة تعميمها على بقية أفراد (الأمة)، كتعميم التطبيقات
التفصيلية للسنة النبوية المطهرة، كما في الحالة
الاستثنائية للصحابي الجليل عبدالله بن عمر - رضي الله
عنهما -، أو إيراد بعض القصص أو الخبرات الحياتية لبعض
السلف على أنها معيارية، ونلاحظ ميل بعض السلفيين إلى
ممارسة التربية والوعظ بها، والأمثلة كثيرة، فمنها قصص
التنسك لبعض السلف التي تخرج عن النطاق المعتاد سواء كانت
في الصلاة أو قراءة القرآن أو الصيام وغير ذلك، كقصص الذين
يغشى عليهم عند سماع بعض الآيات القرآنية مع أن النبي
المعصوم - عليه الصلاة والسلام - لم يرد عنه شيء من هذا
ولا قريب منه!، ومما يبعث على الحيرة أن السلفية لم تطق
الاستفادة من الكثير من التطبيقات العملية لبعض الرموز
العلمية الكبيرة - التي يصنفها البعض ادعاء على أنها سلفية
-، فمثلاً نجد الإمام أحمد بن حنبل - رحمه الله - يتخذ
لنفسه أحياناً مسلكاً غير المسلك الذي يفتي به الناس، وذلك
في أمور منها ما يتعلق بالعمل بأجر لدى السلطان، فما الذي
يجعل السلفية تتغافل عن تلك التطبيقات التي تتسم بأكبر قدر
من التجرد في الفتوى، من خلال التمييز بين (التفضيلات
الشخصية) وضوابط الاستدلال بالنص الشرعي ومنطلقاته
ومقاصده!
والعقل السلفي يستجلب الحلول المبنية على (التعاليم
الدينية) - وهذا أمر لا غبار عليه -، كما أن ذلك العقل
يتصف ب(التسليم المطلق للنص)، انطلاقاً من أن (التسليم لله
هو جوهر الإسلام)، ولا أحسب أن أحداً يخالف في ذلك أيضاً،
لقوله تعالى:(فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ
يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ
يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ
وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا) (65) سورة النساء، وقوله:
(وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى
اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ
الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ
وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُّبِينًا) (36) سورة
الأحزاب، وغيرها من النصوص الشرعية. ولكن الإشكالية تكمن
في كيفية التسليم للنص؛ فالفكر السلفي - على اختلاف درجاته
- يفصِّل ثوباً بمقاسات وألوان سلفية ثم يطالب الجميع
بارتدائه، دون مراعاة تغير الأحجام والخامات والاحتياجات،
ويترتب على (المثالية السلفية) المصحوبة بذلك اللون من
التسليم للنص أن العقل السلفي يضفي على التطبيقات البشرية
السلفية نوعاً من القداسة ويقاوم عملية تحليلها ومناقشتها
فضلاً عن تقييمها ونقدها؛ مما يعبئ العقل السلفي بكميات
هائلة من العواطف والمشاعر؛ ويجعله مندفعاً في تفكيره؛
مهمشاً للحجج العقلية والبراهين المنطقية؛ منفعلاً في
نبرته؛ محتداً في نقاشه؛ وربما يورث ذلك كله استعجالاً في
السلوك وجفاءً في التعامل مع (المخالفين). هذا اللون من
التفكير لدى السلفية يؤدي إلى تشكل بعض (الأقفال الذهنية)
في فضائها الفكري والتربوي؛ وتلك الأقفال من شأنها إعاقة
الممارسة الإبداعية بشكل كامل أو جزئي، ومن أهمها ما يسمى
- وفق أدبيات الإبداع - بقفل (الإجابة الصحيحة) الذي يتمثل
في أن: لكل شيء إجابة صحيحة واحدة فقط، الأمر الذي يفقد
الأذهان القدرة على تغيير زوايا التفكير (أي المرونة)؛
والمرونة الذهنية هي التي يتوصل بها الإنسان إلى توليد
أكبر قدر ممكن من الأفكار (أي الطلاقة)؛ والطلاقة الفكرية
تزيد من احتمالية الظفر بالأفكار غير المألوفة (أي
الأصالة).
بمعنى أن الذهنية السلفية تتمحور حول عددٍ محدودٍ من
الحلول المقولبة والمستجلبة من بعض تطبيقات السلف، تلك
الحلول التي تشبه إلى حد كبير (العلب الجاهزة) التي نفرّغ
ما في أجوافها حين نروم إطفاء جوع ملتهب أو إكرام ضيف
عزيز، فالفكرة واحدة مع اختلاف المناسبات أو الظروف، وهذا
التحليل يجعلنا نقرر بأن العقل السلفي يميل إلى استخدام
(التفكير التقاربي) الذي يركز على إنتاج عددٍ صغيرٍ من
الحلول الصحيحة بدلاً من توليد أفكار متنوعة (وهو ما يعرف
بالتفكير التشعبي)؛ والمسألة تصبح أكثر خطورة وأشد ضرراً
على الإبداع إذا تذكرنا بأن العقل السلفي يمارس عمليات
استدعاء للأفكار أكثر من توليدها، وهذا ما نعتناه بالعقل
الاسترجاعي، أي أننا أمام حالة خاصة من التفكير التقاربي،
يمكننا تسميتها ب(التفكير التقاربي المنمط) أو (التفكير
التقاربي الاسترجاعي)، ونحسب أن هذا التوصيف لنمط التفكير
جديد في أدبيات الإبداع، وربما يستحق نوعاً من الاستكشاف
النوعي والقياس الكمي.
وفي سياق التفكير التقاربي المنمط، تجدر الإشارة إلى أن
السلفية لم تفلح في التفريق بين الثوابت التي لا تحتمل غير
إجابة صحيحة واحدة وبين المتغيرات التي تستوعب إجابات
كثيرة وتحتمل بدائل متنوعة، ولم تعِ السلفية حقيقة أن
الثوابت دائرتها ضيقة بخلاف المتغيرات، فمالت بإفراط إلى
(تثبيت المتغيرات)؛ ففقدت السلفية القدرة على التفاعل مع
اللحظة الراهنة بل تميل إلى أن تجهز عليها بنظراتها الضيقة
في كثير من المسائل والقضايا، وهذا ما يجلي لنا سر انكماش
التيارات السلفية وفقدانها للكارزمية داخل المجتمعات
العربية والإسلامية، ليس ذلك فحسب بل داخل الأقليات
العربية والإسلامية في الغرب، وينضاف إلى ذلك النزعة
الانطوائية المنبثقة من (التزكية) المطلقة أو شبه المطلقة
للذات بالصلاح والاستقامة و(العقيدة الصافية).
ومن الخصائص العقلية الأخرى للمبدعين ما يعرف ب (الحساسية
تجاه المشاكل) التي تتجسد في القدرة على اكتشاف أكبر قدر
ممكن من المشاكل وبأسرع وقت ممكن، والإنسان لا يستطيع أن
يكتشف أي مشكلة إلا إذا كان ملماً بجانبين اثنين:
(1) معرفة المفترض (ما يجب أن يكون)، (2) معرفة الواقع (ما
هو قائم فعلاً)، فإن كان ثمة عدم تطابق بينهما فإن ذلك
يعني وجود مشكلة معينة، والعقل السلفي غالباً ما يفشل في
اكتشاف الكثير من المشاكل التي تحيط به، والسبب الرئيس أنه
يجهل إلى حد كبير الواقع بتعقيداته وعلاقاته التشابكية،
فهو يميل إلى التبسيط المتناهي للمسائل والقضايا ومعالجة
أقل كمية قليلة من الحقائق والمعلومات؛ ويؤدي ذلك إلى
تكريس (الخمول الذهني)؛ فالعقل الإنساني لا ينشط بالتفكير
والإبداع إلا إذا كان مدفوعاً لحل مشاكل ملحة أو معالجة
أزمات خطيرة أو إطفاء أسئلة ملتهبة. ونخلص من هذا التحليل
المختصر إلى أن العقل السلفي يفتقر لأبرز الخصائص العقلية
للإبداع ويفشل في إجراء (المران الذهني) في كثيرٍ من
الميادين! وسيكون لنا وقفة أخرى مع العقل الليبرالي لنكشف
أبرز الأسباب التي جعلته يخفق في ممارسة الإبداع هو أيضاً!