تسجيل الدخول

مشاهدة النسخة كاملة : الزهرة واللواء...قصة ثورية حقيقية اقرأها


الفارس العربي
2008-09-04, 11:21
الزهرة واللواء
في إحدى قرى الوطن الكبير تفتحت زهرة عطرة ربيع سنة 1916 ...
الوطن الكبير ، معقل الأحرار يدعى منذ قديم الأزل الجزائر، والقرية الفتية يسمونها ليوة..أما الزهرة فهي تتعبق بعطر المحبة والتضحية ، والكفاح ،وهي أيضا اختاروا لها اسم القايمة..والقايمة لفظة تدل على القيام بالأمر..والقوامة أي المقدرة والاستطاعة ..ويدل معناها أيضا على الاستقامة ..والثبات والمداومة..
نشأت في أرض طاهرة زكية ...في أسرة طيبة من أب طيب يسمى أيضا الحاج الطيب..ومن أم شريفة كريمة تسمى مريم وحتى هذا الاسم يذكرنا بالطهارة والقداسة والعذرية..
الزهرة تترعرع..وتزهو ألوانها بين زهور الروض ..وبلغت ستة عشر ربيعا..وما أجمل زهور الربيع !!!وأحسن برائحتها الشذية..
وكعادة الأجداد منذ القدم ، زفت القايمة إلى ابن عمها الذي يسمى الطاهر...أيضا طهارة في طهارة في طهارة ، ولأن الطهر هو عنوان كلامنا منذ البدء ، فإن الوطن يبحث عن طهر..لقد دنس العدو الأرض ..واغتصب الحرية ..ولأن ذلك كذلك فلقد شهدت القايمة أخاها عليا مجاهدا مدافعا عن القضية ..وصوت اسم علي بما له من معان ..يجلجل ويدوي بين جنبات التاريخ والتراث ...ولذلك فقد كان دبيب الكرامة ..والعزة وحب التحرر، والتخلص من قيد الظلم يدب في وجدانها ..بل وحتى في أحشائها ...وما أجمل أن يعيش المرء القضية بعقله..بقلبه ..وحتى بجسمه.
في حوالي سنة 1933 ..تتبرعم نبتة الزهور ..وتثمر الزهرة ثمرة ..وهكذا الحياة فلقد أنجبت القائمة طفلا ..سمته العرافي، رضع الحليب من ثدي أمه ..ورضع من صدرها كذلك الأنفة والصبر وشموخ الحياة وعلو الهمة .....
وهو الذي لا ينتظر طويلا حتى تستقيم عظامه وتصلب ..ثم ينخرط مباشرة في جيش التحرير..في عقده الثاني ..ويحث أمه على التكتم عن الأمر...مهما بلغ الاستعمار في تعنته..إن لم نقل بأنها هي التي زرعت فيه ركوب العزائم والمضي صعدا عبر الجبال..والقمم والأعالي ..حيث يلتقي الأسود رفاق الدرب والسلاح..
كان العرافي يبغض العدو بغضه للشيطان ..ولطالما كان يتحمس لرؤية طائرات العدو..فيبادرها برشاشه ورصاصه ، ولأنه كذلك فلقد كان رفقاؤه يخافون انكشاف مخابئهم أمام العدو فيضطرون في كثير من الأحيان إلى تقييده ..وكبت حماسه واندفاعه..
هذا الاندفاع الذي دفعه يوما ما في خريف سنة 1961 إلى الظهور عيانا دون خوف على إحدى قمم جبل قسوم الشامخة ..ومواجهة جبروت الطائرات المقنبلة ..وبرصاصها وقنابلها لقي البطل ما كان يصبو إليه ..شهادة تكتب بحبر الأبدية ..وفوزا بفردوس ربه ..وثمنا وفداء لحرية الوطن .
جهاد في جهاد في جهاد ..والزهرة تنجب ثمرة ..والثمرة تنمو لتفتح من براعمها الزهور..والسلالة نقية وشذية ..
وهذه الأم سليلة المجاهدين والأحرار هي نفسها مثل الوطن الأم الذي تفجرت أشلاء أبنائه..وسالت دماؤهم غزيرا ضريبة لنيل الاستقلال ..وما أغلاها ضريبة..ولكن ما أغلى أن يرتفع علم بلادي عاليا ..شامخا ..مرفرفا ..
لمجده تغرد النساء عاليا ..
لمجده تهرب من حناجر الصغار
قصائد تحكي عن انتصار
لمجده تنحبس الأنفاس في حلوقها
تغرورق العيون في آماقها
قد اشرق النهــار..قد طلع النهار
لمجده فلتخشع الصدور ..والأبصار
هنا ..دفنـــا العـــــــار..
...كانت القايمة تريده أن يكون عاليا ..شاهقا كما كان أخوها علي وابنها العرافي ..ولطالما اعتنت بالثلاثة سويا ..
كانت تطعم وفود المجاهدين سرا ..وكانت تغسل ثيابهم ، وكانت تخيطها ..وكانت أناملها الرقيقة تعالج رقعا من القماش الأبيض والأحمر والأخضر فتتحول هذه الرقع إلى علم جميل ..تزينه النجمة والهلال الأحمران..لون الثورة والدم المهراق قرابة سبع من السنوات المريرة التي أكلت الأخضر واليابس..والأحمر كذلك لون الشفاه الأنثوية التي زغردت صباح أشرق نهار الجزائر من عام 1962 ..والأحمر كذلك هو لون أكمام الزهور المتفتحة معلنة عن فصل الربيع ..وعن الخير والغنى بعد الجفاف والجدب ، واليسر بعد العسر قال تعالى { إن بعد العسر يسرا }.
...ألوية للجهاد ترفعها الزنود عاليا معلنة النصر القادم ..والغضب والثورة ..الغضب الساطع آت ..ويا فرنسا قد دنا وقت الحساب ..حين نعصف بالظلم والظالمين ..
...ومن قمم جبل قسوم العالية طلع صوت الأحرار ينادي قويا للاستقلال ..صوت الزغاريد يدوي في الآفاق .. ويعم سائر ربوع الوطن المنتفض ..
صوت النساء في كل ركن و زاوية يتجلجل بصرخة الرفض ..والغضب المنهمر..
ما من واحدة منهن إلا وفقدت زوجا ..أو أبا ..أو ابنا .. أو أخا ..
ما من واحدة منهن إلا واغرورقت عيناها بفيض حرارة الفقد .. ما من واحدة منهن إلا ونسجت من معاناتها رثاء كرثاء الخنساء الخالدة ..ولكن رثاءهن هذه المرة ليس شعرا ...بل دماء طاهرا وخيوطا للراية ...نسجتها النفوس قبل الأنامل ..وشكلت ألوانها من ألوان المعاناة والعذاب ..والتعذيب .
من قال أن الزهور لا تتعذب ؟؟..ومن قال أن النار لا تحرقها ؟؟..فلكم تعرضت زهور هذه الأرض الطيبة للإحراق ..والحرق ..والتحريق ..
ولأن زهور هذا الوطن من سلالة طيبة شذية كأعواد بخور العطارين ..فإنها تحترق لتذكو رائحتها ، وتزيد ..زكية ندية ..وكالشمعة تذوب لتضيء للآخرين دروبهم في الظلمات .
..وزهرتنا القايمة تعرضت لأنكى وأشد ألوان العذاب تحت نير الزبانية ..لأجل استنطاقها ..ولما كانت تشارك المجاهدين أسرارهم وهمومهم فلقد صمتت كثيرا ..وصبرت كثيرا ..وكظمت آلامها كثيرا كلما زاد تعنت زبانية العدو في استخدام الكهرباء في شتى أنحاء جسمها ...وأشياء أخرى لا تقال ..في مكان مظلم موحش يدعى لصاص ( sas )وهي في سن الأربعين أو تزيد قليلا ..وكشر الشر عن أنيابه وفارقت الحياة ..استشهدت تحت مخالبهم ..بفعل التعذيب بالكهرباء..ودفنوها في صمت مطبق على القرية ..في مكان يدعى (الشوشة) بمعنى القمة ...حتى الأرض أرادت أن تكون القايمة شهيده على القمة؟؟
سأظل رغم الداء والأعداء ....كالنسر فوق القمة الشماء
وكأن الشابي وهو ينفث قصيدته ..حل في روحها الطاهرة ...كان ذلك خريف سنة 1960م ..احترقت الزهرة طويلا ...وانتثر عبيرها يؤم الآفاق ..كرائحة البخور ليلة العيد..
رحلت القايمة ..وتركت قليلا من ملابس المجاهدين لم تغسلها ...وبعضا لم تخطها ...لكن الراية اكتملت بين أيديها ..نسجتها بإتقان وإحكام...كان شكل النجمة هندسيا رائعا جذابا ..وكان شكل الهلال مستديرا ...مستوي الاستدارة ..لا اعوجاج فيه ..
...ورحل الاستعمار بعد عامين من استشهادها ...
رحل ..لكنه لم يدر أن مركز التعذيب الذي أنشأه ...والذي عذبت فيه زهرة من زهور بلادي ..وفاضت روحها فيه ..سيكون بعد الاستقلال مدرسة ابتدائية تنشأ فيها براعم تتفتح عقولها على حب الوطن..
رحل ولم يدرأن مركزه الموحش هذا ...سيصبح قلعة من قلاع العلم تحمل إلى الأبد اسم الشهيد رحاب العرافي ..الثمرة التي أثمرتها القايمة ..وسالت عصارتها في أحد قمم جبل قسوم العالية ..
أليست القمم هي موطن النسور والصقور..؟؟
رحل الاستعمار ...ولم يدر أن تلك الراية التي اكتملت بين يدي المجاهدة الحرة الشهيدة القايمة ...وبين يدي آلاف من زهور بلادي مثلها سترفرف في أعالي القمم والمدارس والقلاع والحصون والبنايات شامخة عالية ..تحكي قصة الزهور...والدم ..واللهب ..وقصة آلاف من قايمات هذا الوطن العزيز..ليحيا العلم ..
ولقد صدق الشاعر الليوي حين قال عن العلم :
مثل الشراع شامخا يرقص كاللهب
ليس من الطرب
يرقى فلا غوغاء أو صخب
لوحده يغالب التيار
حياته فصولها مرار
ملحمة ..شخوصها كبار
خيوطه ..أسطورة من نار
سماؤه ..بيضاء كالنهــار
...نجومه عرائس حمراء تضطرب
وقودها الدماء والعرار
...هلاله من رحم الضباب والسحب
ولادة الإعصــــار...
فسلام عليك أيتها الراية ..وألف سلام عليك أيتها الأم ..البطلة الشهيدة التي علمتنا معنى الصمود ورفض الخضوع للعدو..
وألف ألف سلام عليك أيها الوطن الذي نعيش بين ربوعه..أحرارا ..
والمجد والخلود لشهدائنا الأبرار.

قصة حقيقية أبدعها ونسج عباراتها سليمان حشاني .. عشية أحد أيام شهر جوان من سنة 2008 .