المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : إلى : مدرسي اللغة العربي وآدابها.. مع التقدير


احمد الموصلي
2011-04-09, 06:25
بدأة ذي بدء، أحب أن أقرر أن العربية ليست بدعًا من اللغات، وليست هي أصعبها، ولا أكثرها تعقيدًا، وإعادة إحيائها في كلام الناس ليست أمرًا ممتنعًا ولا مستحيلاً، ولا سيما أن اللغة العامة في الأقطار العربية لم تبعد عن الفصيح بما تصير به لغة مستقلة، وأكثر ألفاظها فصيحة الأصل، ودعوى أن الإنجليزية أو الفرنسية أسهل من العربية غيرُ مُسَلَّمة، بَلْهَ الصينيةَ وما شاكلها، والألمانيةَ وما والاها، ومع ذلك فأهل كل لغة من هذه اللغات يتعلمونَها ويتقنونَها ويحسنون التحدث بِها، وإن لم يكونوا من المختصين، وأننا عندما نتكلم عن العربية فنحن لا نتكلم عن النحو والصرف، فالعربية ليست مقصورة على النحو والصرف، أو ما كان يعرف بعلوم الآلة، على أهمية هذه العلوم، وإنما آفاقها من ذلك أرحب، ومجالاتُها لا شكّ أوسع، فبلسان العرب كتب ابنُ سينا شفاءه وقانونه، والبيرونيُّ تحقيقَه واستيعابَه، والرازي حاويَه وشكوكَه، وابنُ عربي فتوحاتِه وفصوصَه، ونقل حُنينٌ من العلوم ما نقل، في الطب والفلسفة، والمنطق والطبيعة، والدين والأخلاق، وسائر المعارف والعلوم والفنون.
أُحِبُّ النحوَ العربيَّ حبًّا جمًّا، وتُطربني قراءة مسائله ونكته، وأنتصر للنحاة، وأستمتع بجوابات بعضهم على بعض، ولكني أقول إن العربية ليست هي النحو، ولا النحو هو العربية، وإن كانوا قديمًا يطلقون على النحو علم العربية، لشدة اهتمامهم به، وإيمانِهم بفضله، وأرى أن من الغبن للطلاب والدارسين أن نضيع كثيرًا من أوقاتِهم في تدريس النحو على الطريقة التي ما برح يُدرّس بِها في المدارس، ولا ننفك نرتلُ لهم قواعده ترتيلاً، ونطالبهم بحفظها عن ظهر قلب: إن هم حفظوها لم يعوها، وإن وعَوها لم يطبّقوها، وإن طبقوها أخطؤوا التطبيق.
ولئن عدمنا البيئة العربية التي تعين على اكتساب اللغة من أفواه أهلها، إننا لم نعدم الوسائل التي يمكن أن تعيننا على محاكاة مثل تلك البيئة، من خلال الفضائيات والإنترنت ببرامجه الكثيرة المتنوعة، ثم من خلال اختيار معلمي اللغة العربية من أصحاب الملكات لا من خريجي كليات التربية الذين إن صلح بعضهم فلا يصلح أكثرهم. فمعلم العربية يجب أن يكون ذا ملكة راسخة، وذوق عال ممتاز، يعلمُ أن هاهنا دقائقَ وأسرارًا، طريق العلم بِها الرويّة والفكر، ولطائف مستقاها العقل، وخصائص معان ينفرد بِها قوم قد هُدوا إليها ودُلّوا عليها وكُشف عنها لهم، ورُفعت الحجب بينها وبينهم، كما قال الجرجاني، وأن يَسلك في تعليمها مسلك الصوفيِّ المتعبد، الذي يؤمن أن من ذاق عرف، ومن عرف اغترف، ومن اغترف اعترف، فالعربية لغة الذوق العالي، والشعرية السامية، والموسيقى العذبة؛ لغة البناء المرصوص ، والنظم المرصوف، في كل لفظة من ألفاظها حلاوة، ولكل تركيب من تراكيبها جرس بديع وإيقاع.
نطمع في أن يدرك من يتعاطون تدريس العربية هذه المسألة، وأن يضعوا نصب أعينهم أنّهم إذ يعلمون العربية فإنّهم يصقلون أذواقًا، ويصنعون قرائح، وينشئون ملكات، فالعربية تأبى أن تنقاد إلا لصاحب الذوق السليم، والقريحة الجيدة، لا لحافظ القواعد المملة، والقوالب الجاهزة، فكأيّن من حافظ لمتن الأجرومية إن تكلم سبق لحنُه إعرابه، أو متيم بالألفية غلب خطؤه صوابَه! ورحم الله أحد شيوخ العربية، إذ قال: "ووجوهُ الإحسان في تأدِية المعاني كثيرة، ومنادحُها واسعة، ولا يكادُ يظفر بِها إلا من وُهِب لطافةَ الحسّ، وخفّة الروح، ورحابة النفس، والارتياح والطرب لمظاهر إبداع الله عزّ وجلّ في هذا الكون، وما بثّه في ملكوت السموات والأرض، وما أجراه على ألسنة خلقه، أمّا "أهل الكثافة" وهم الّذين امتحنهم الله بثقل الظلّ وركود الهواء، فما أبعدهم عن البيان والإحسان.
أما القواعد الكثيرة المتشعبة فإن هي إلا وصف أمين لعبقرية العربية، ومبلغ العرب من الذوق والبراعة والجري وراء طلب الخفة في كل ما قالوه وفاهوا به، ولا حاجة للناس بها إن هم عرفوا الصواب، وسبيل ذلك أن يعالج الذوق العام، وأن تقوم السليقة الجماعية، بأن يطرق الصوابُ أسماعَ الناس في كل وقت وحين، وأن يرَوا الكلام في الكتب مشكولاً شكلاً صحيحًا، لا أن نلجأَ إلى القواعد التي لا تنتهي: قلت مرّةً لصديق لي من علماء الندوة إني أعجب من الناس كيف يعدلون عن صواب خفيف إلى خطأ ثقيل، كعدولهم عن لفظة "الكيّ"، في قولهم "كيّ الثياب"، إلى لفظة "الكَوي"، فأجاب بأن ثقل لفظة "الكوي" أخفُّ من تعلُّم القاعدة الصرفية التي جعلت "الكيَّ" كيًّا! أنا لا يعنيني أن يعرفَ غيرُ المختصِّ كيف صار الكيُّ كيًّا، ولا أن يحذقَ قواعد الإعلال والإبدال، وإنما أن يعرف الكلمة الصحيحة، ويشعر وهو ينطقها أنّها أخف على اللسان وأوقع في الآذان.
وثَمَّةَ قواعدُ ما انفكَّ الطلبة يستصعبونها، كقواعد الممنوع من الصرف مثلاً، فقد منعت العرب من الصرف أسماء بعينها، ثم جاء النحاة وبوّبوا للمواضع التي منعت من الصرف ونصّوا على علل منعها، وسَمَّوا أسماء كثيرة، ولكنك إن تأملت تلك المواضع بعيدًا عن علل النحويين، أدركت أن باب المنع من الصرف مجلى لبراعة العربية وعبقريتها، وعلمت أن العلة في الحقيقة واحدة، هي طلب الخفة والفرار من الثقل، اقرأ إن شئت قوله تعالى: "لهدِّمت صوامعُ وبِيَعٌ وصلواتٌ ومساجدُ يذكر فيها اسم الله" وجرِّبْ أن تبدل بضمة صوامع أو مساجد تنوينًا، ثم انظر كيف تكون ثقيلة في النطق ممجوجة في السمع. ولو تأملت الحالتين اللتين صرفت فيهما العرب ما حقه المنع من الصرف تعجبت من لطيف حسهم، وحسن ذوقهم، فقد صرفوا ما حقه المنع من الصرف إذا أضيف أو عُرِّف بأل، وفي كلا الحالتين يزول الثقل الداعي إلى المنع من الصرف، فسبحان من ألهمهم هذا وأنطقهم به.

mokhtar bouzid
2011-04-10, 13:24
بارك الله فيكم