تسجيل الدخول

مشاهدة النسخة كاملة : تفسير القرآن الكريم


yacine414
2011-03-26, 10:04
سورة الفاتحة



تعليمُ العبادِ كيفيةَ الحمد

طلب حقيقة العون والاستعانة والهداية من الله تعالى

خاتمــــــة في بَيَان الأسرَار القُدْسِيّة في فاتِحَة الكِتاب العَزيز



أعُوذُ باللهِ مِنَ الشَّيطَانِ الرَّجيم



تَفْسِيرُ الاسْتِعَاذَة: المعنى: أستجير بجناب الله وأعتصم به من شر الشيطان العاتي المتمرد، أن يضرني في ديني أو دنياي، أو يصدني عن فعل ما أُمرت به، وأحتمي بالخالق السميع العليم من همزه ولمزه ووساوسه، فإِن الشيطان لا يكفه عن الإِنسان إِلا الله رب العالمين .. عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان إِذا قام من الليل، استفتح صلاته بالتكبير ثم يقول: (أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم، من همزه ونفخه ونفثه) [أخرجه أصحاب السنن: أبو داود والترمذي، والنسائي وابن ماجه].



بســــمِ اللهِ الرحمنِ الرَّحيمِ



تَفْسِيرُ البَسْمَلَة: المعنى: أبدأ بتسمية الله وذكره قبل كل شيء، مستعيناً به جلَّ وعلا في جميع أموري، طالباً منه وحده العون، فإِنه الرب المعبود ذو الفضل والجود، واسع الرحمة كثير التفضل والإِحسان، الذي وسعت رحمته كل شيء، وعمَّ فضله جميع الأنام.



تـــنبيـــه:

{بسـمِ اللهِ الرحمنِ الرَّحيمِ} افتتح الله بهذه الآية سورة الفاتحة وكل سورة من سور القرآن - ما عدا سورة التوبة - ليرشد المسلمين إلى أن يبدءوا أعمالهم وأقوالهم باسم الله الرحمن الرحيم، التماساً لمعونته وتوفيقه، ومخالفةً للوثنيّين الذين يبدءون أعمالهم بأسماء آلهتهم أو طواغيتهم فيقولوا: باسم اللات، أو باسم العزى، أو باسم الشعب، أو باسم هُبَل.

قال الطبري: "إِن الله تعالى ذكره وتقدست أسماؤه، أدَّب نبيّه محمداً صلى الله عليه وسلم بتعليمه ذكر أسمائه الحسنى أمام جميع أفعاله، وجعل ذلك لجميع خلقه سنّةً يستنّون بها، وسبيلاً يتبعونه عليها فقول القائل: بسم الله الرحمن الرحيم إِذا افتتح تالياً سورة ينبئ عن أن مراده: أقرأ باسم الله، وكذلك سائر الأفعال".



بَين يَدَي السُّورَة



هذه السورة الكريمة مكية وآياتها سبعٌ بالإِجماع، وتسمى "الفاتحة" لافتتاح الكتاب العزيز بها حيث إِنها أول القرآن في الترتيب لا في النزول، وهي - على قصرها ووجازتها - قد حوت معاني القرآن العظيم، واشتملت على مقاصده الأساسية بالإِجمال، فهي تتناول أصول الدين وفروعه، تتناول العقيدة، والعبادة، والتشريع، والاعتقاد باليوم الآخر، والإِيمان بصفات الله الحسنى، وإِفراده بالعبادة والاستعانة والدعاء، والتوجه إِليه جلَّ وعلا بطلب الهداية إِلى الدين الحق والصراط المستقيم، والتضرع إِليه بالتثبيت على الإِيمان ونهج سبيل الصالحين، وتجنب طريق المغضوب عليهم والضالين، وفيها الإخبار عن قصص الأمم السابقين، والاطلاع على معارج السعداء ومنازل الأشقياء، وفيها التعبد بأمر الله سبحانه ونهيه، إلى غير ما هنالك من مقاصد وأغراض وأهداف، فهي كالأم بالنسبة لبقية السور الكريمة ولهذا تسمّى "أم الكتاب" لأنها جمعت مقاصده الأساسية.



فضـــلهَــا: أ- روى الإِمام أحمد في المسند أن "أبيَّ بن كعب" قرأ على النبي صلى الله عليه وسلم أم القرآن فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (والذي نفسي بيده ما أُنزل في التوراة ولا في الإِنجيل ولا في الزَّبور ولا في الفرقان مثلها، هي السبعُ المثاني والقرآنُ العظيمُ الذي أوتيتُه) فهذا الحديث الشريف يشير إلى قوله تعالى في سورة الحجر {وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنْ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ} [الحجر: 87].

ب- وفي صحيح البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأبي سعيد بن المعلَّى: (لأعلمنَّك سورة هي أعظم السور في القرآن: الحمد لله رب العالمين، هي السبعُ المثاني والقُرآن العظيم الذي أُوتيتُه).



التسِمَيــــة: تسمى "الفاتحة، وأم الكتاب، والسبع المثاني، والشافية، والوافية، والكافية، والأساس، والحمد" وقد ذكر العلامة القرطبي عددها لهذه السورة اثني عشر اسماً.



تعليمُ العبادِ كيفيةَ الحمد



{الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ(2)الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ(3)مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ(4)}



علمنا الباري جلّ وعلا كيف ينبغي أن نحمده ونقدسه ونثني عليه بما هو أهله فقال {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} أي قولوا يا عبادي إِذا أردتم شكري وثنائي الحمد لله، اشكروني على إِحساني وجميلي إِليكم، فأنا الله ذو العظمة والمجد والسؤدد، المتفرد بالخلق والإِيجاد، رب الإِنس والجن والملائكة، ورب السماوات والأرضين، فالثناء والشكر لله رب العالمين دون ما يُعبد من دونه {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} أي الذي وسعت رحمته كل شيء، وعمَّ فضله جميع الأنام، بما أنعم على عباده من الخَلْق والرَّزْق والهداية إِلى سعادة الدارين، فهو الرب الجليل عظيم الرحمة دائم الإِحسان {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} أي هو سبحانه المالك للجزاء والحساب، المتصرف في يوم الدين تصرّف المالك في ملكه {يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ} [الإنفطار: 19].



طلب حقيقة العون والاستعانة والهداية من الله تعالى



إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ(5)اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ(6)صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ(7)}.



{ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} أي نخصُّك يا الله بالعبادة، ونخصك بطلب الإِعانة، فلا نعبد أحداً سواك، لك وحدك نذلُّ ونخضع ونستكين ونخشع، وإِيَّاك ربنا نستعين على طاعتك ومرضاتك، فإِنك المستحق لكل إِجلال وتعظيم، ولا يملك القدرة على عوننا أحدٌ سواك .

{ اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} أي دلنا وأرشدنا يا رب إِلى طريقك الحق ودينك المستقيم، وثبتنا على الإِسلام الذي بعثت به أنبياءك ورسلك، وأرسلت به خاتم المرسلين، واجعلنا ممن سلك طريق المقربين {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} أي طريق من تفضّلت عليهم بالجود والإِنعام، من النبييّن والصدّيقين والشهداء والصالحين، وَحَسُنَ أولئك رفيقاً {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} أي لا تجعلنا يا الله من زمرة أعدائك الحائدين عن الصراط المستقيم، السالكين غير المنهج القويم، من اليهود المغضوب عليهم أو النصارى الضالين، الذين ضلوا عن شريعتك القدسية، فاستحقوا الغضب واللعنة الأبدية، اللهم آمين.



خاتمــــــة :في بَيَان الأسرَار القُدْسِيّة في فاتِحَة الكِتاب العَزيز



لا شك أن من تدبَّر الفاتحة الكريمة رأى من غزارة المعاني وجمالها، وروعة التناسب وجلاله ما يأخذ بلبه، ويضيء جوانب قلبه، فهو يبتدئ ذاكراً تالياً متيمناً باسم الله، الموصوف بالرحمة التي تظهر آثارها رحمته متجددة في كل شيء، فإِذا استشعر هذا المعنى ووقر في نفسه انطلق لسانه بحمد هذا الإِله {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} وذكّره الحمد بعظيم نعمه وكريم فضله، وجميل آلائه البادية في تربيته للعوالم جميعاً، فأجال بصيرته في هذا المحيط الذي لا ساحل له، ثمّ تذكر من جديد أن هذه النعم الجزيلة والتربية الجليلة، ليست عن رغبةٍ ولا رهبة، ولكنها عن تفضل ورحمة، فنطق لسانه مرة ثانية بـ {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} ومن كمال هذا الإِله العظيم أن يقرن الرحمن بـ "العدل" ويذكّر بالحساب بعد الفضل فهو مع رحمته السابغة المتجددة سيُدين عباده ويحاسب خلقه يوم الدين {يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ}.

فتربيته لخلقه قائمة على الترغيب بالرحمة، والترهيب بالعدالة والحساب {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} وإِذا كان الأمر كذلك فقد أصبح العبد مكلفاً بتحري الخير،والبحث عن وسائل النجاة، وهو في هذا أشد ما يكون حاجة إِلى من يهديه سواء السبيل، ويرشده إِلى الصراط المستقيم، وليس أولى به في ذلك من خالقه ومولاه فليلجأ إِليه وليعتمد عليه وليخاطبه بقوله {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}.

وليسأله الهداية من فضله إِلى الصراط المستقيم، صراط الذين أنعم عليهم بمعرفة الحق واتباعه، غير المغضوب عليهم بالسلب بعد العطاء، والنكوص بعد الاهتداء، وغير الضالين التائهين، الذين يضلون عن الحق أو يريدون الوصول إِليه فلا يوفقون للعثور عليه، آمين. ولا جرم أن "آمين" براعة مقطع في غاية الجمال والحسن، وأي شيء أولى بهذه البراعة من فاتحة الكتاب، والتوجه إِلى الله بالدعاء؟ فهل رأيت تناسقاً أدق، أو ارتباطاً أوثق، مما تراه بين معاني هذه الآية الكريمة؟

وتَذَكَّر وأنت تهيم في أودية هذا الجمال ما يرويه رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ربه في الحديث القدسي : (قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين ولعبدي ما سأل ..) الحديث وأدم هذا التدبير والإِنعام، واجتهد أن تقرأ في الصلاة وغيرها على مكث وتمهّل، وخشوع وتذلَل، وأن تقف على رؤوس الآيات، وتعطي التلاوة حقها من التجويد أو النغمات، من غير تكلف ولا تطريب، واشتغال بالألفاظ عن المعاني، فإِن ذلك يعين على الفهم، ويثير ما غاض من شآبيب الدمع، وما نفع القلب شيء أفضلُ من تلاوة في تدبرٍ وخشوعٍ".

laytitya
2011-03-26, 10:08
baraka allah fika

yacine414
2011-03-26, 10:09
سورة البقرة



صفات المؤمنين وجزاء المتقين

صفات الكافرين

سبب عدم إيمان الكافرين

صفات المنافقين

بيان قبائح المنافقين

ضرب الأمثال للمنافقين

الأمر بعبادة الله وحده وأدلة التوحيد

إثبات نبوَّة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وإقامة البرهان على إعجاز القرآن

ما أعدَّه الله لأوليائه

الحكمة من ضرب الأمثال في القرآن

من مظاهر قدرة الله تعالى

استخلاف الإنسان في الأرض وتعليمه اللغات

تكريم اللهِ آدمَ بسجود الملائكة له

قصة آدم وحواء في الجنة

العظة من قصة آدم:

ما طلب الله من بني إسرائيل

عرض لشيء من أخلاق اليهود السيئة

نِعَمُ الله العشر على بني إسرائيل

تتمة النِّعَم العشر على بني إسرائيل

بعض مطامع اليهود وجزاؤهم

عاقبة المؤمنين

بعض جرائم اليهود وعقابهم

قصة البقرة وإحياء الميت

جفاء اليهود وقسوة قلوبهم

استبعاد إيمان اليهود

تحريف أحبار اليهود للتوراة

مخالفة اليهود للميثاق

موقف اليهود من الرسل والكتب المنزلة

كفر اليهود بما أنزل الله ، وقتلهم الأنبياء

تكذيب ادعاء اليهود الإيمان بالتوراة

حرص اليهود على الحياة وموقفهم من الملائكة والرسل

كفر اليهود بالقرآن ونقضهم المعهود



بَين يَدَيْ السُّورَة

سورة البقرة أطول سور القرآن على الإِطلاق، وهي من السور المدنية التي تُعنى بجانب التشريع، شأنها كشأن سائر السور المدنية، التي تعالج النُّظُم والقوانين التشريعية التي يحتاج إِليها المسلمون في حياتهم الاجتماعية.

اشتملت هذه السورة الكريمة على معظم الأحكام التشريعية: في العقائد، والعبادات، والمعاملات، والأخلاق، وفي أمور الزواج، والطلاق، والعدة، وغيرها من الأحكام الشرعية.

وقد تناولت الآيات في البدء الحديث عن صفات المؤمنين، والكافرين، والمنافقين، فوضّحت حقيقة الإِيمان، وحقيقة الكفر والنفاق، للمقارنة بين أهل السعادة وأهل الشقاء.

ثم تحدثت عن بدء الخليقة فذكرت قصة أبي البشر "آدم" عليه السلام، وما جرى عند تكوينه من الأحداث والمفاجآت العجيبة التي تدل على تكريم الله جل وعلا للنوع البشري.

* ثم تناولت السورة الحديث بالإِسهاب عن أهل الكتاب، وبوجه خاص بني إِسرائيل "اليهود" لأنهم كانوا مجاورين للمسلمين في المدينة المنورة، فنبهت المؤمنين إِلى خبثهم ومكرهم، وما تنطوي عليه نفوسهم الشريرة من اللؤم والغدر والخيانة، ونقض العهود والمواثيق، إِلى غير ما هنالك من القبائح والجرائم التي ارتكبها هؤلاء المفسدون، مما يوضح عظيم خطرهم، وكبير ضررهم، وقد تناول الحديث عنهم ما يزيد على الثلث من السورة الكريمة، بدءاً من قوله تعالى {يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِي الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ}. إلى قوله تعالى {وَإِذْ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ}.

وأما بقية السورة الكريمة فقد تناولت جانب التشريع، لأن المسلمين كانوا -وقت نزول هذه السورة- في بداية تكوين "الدولة الإِسلامية" وهم في أمسّ الحاجة إِلى المنهاج الرباني، والتشريع السماوي، الذي يسيرون عليه في حياتهم سواء في العبادات أو المعاملات، ولذا فإِن السورة تتناول الجانب التشريعي، وهو باختصار كما يلي:

"أحكام الصوم مفصلة بعض التفصيل، أحكام الحج والعمرة، أحكام الجهاد في سبيل الله، شؤون الأسرة وما يتعلق بها من الزواج، والطلاق، والرضاع، والعدة، تحريم نكاح المشركات، والتحذير من معاشرة النساء في حالة الحيض إِلى غير ما هنالك من أحكام تتعلق بالأسرة، لأنها النواة الأولى للمجتمع الأكبر".

ثم تحدثت السورة الكريمة عن "جريمة الربا" التي تهدّد كيان المجتمع وتقوّض بنيانه، وحملت حملة عنيفة شديدة على المرابين، بإِعلان الحرب السافرة من الله ورسوله على كل من يتعامل بالربا أو يقدم عليه {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنْ الرِّبَا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ}.

وأعقبت آيات الربا بالتحذير من ذلك اليوم الرهيب، الذي يجازى فيه الإِنسان على عمله إِن خيراً فخير، وإِن شراً فشر {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} وهو آخر ما نزل من القرآن الكريم، وآخر وحي تنزَّل من السماء إِلى الأرض، وبنزول هذه الآية انقطع الوحي، وانتقل الرسول صلى الله عليه وسلم إِلى جوار ربه، بعد أن أدى الرسالة وبلَّغ الأمانة.

وختمت السورة الكريمة بتوجيه المؤمنين إِلى التوبة والإِنابة، والتضرع إِلى الله جلَّ وعلا برفع الأغلال والآصار، وطلب النصرة على الكفار، والدعاء لما فيه سعادة الدارين {رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلانَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} وهكذا بدأت السورة بأوصاف المؤمنين، وختمت بدعاء المؤمنين ليتناسق البدء مع الختام، ويلتئم شمل السورة أفضل التئام.‍

التسمِيــَة: سميت السورة الكريمة "سورة البقرة" إِحياءً لذكرى تلك المعجزة الباهرة، التي ظهرت في زمن موسى الكليم، حيث قُتل شخص من بني إِسرائيل ولم يُعرَف قاتله، فعُرِضَ الأمر على موسى لعله يعرف القاتل، فأوحى الله تعالى إِليه أن يأمرهم بذبح بقرة، وأن يضربوا الميت بجزءٍ منها فيحيا بإِذن الله ويخبرهم عن القاتل، وتكون برهاناً على قدرة الله جل وعلا في إِحياء الخلق بعد الموت، وستأتي القصة مفصلة في موضعها إِن شاء الله.

فضـــلهَا: عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال "لا تجعلوا بيوتكم مقابر، إِن الشيطان ينفر من البيت الذي تقرأ فيه سورة البقرة" أخرجه مسلم والترمذي. وقال صلى الله عليه وسلم: (اقرؤوا سورة البقرة، فإِن أخذها بركة، وتركها حسرة، ولا يستطيعها البَطَلَة) يعني السَّحَرَة. رواه مسلم في صحيحه.



صفات المؤمنين وجزاء المتقين

بِســــــمِ اللهِ الرَّحمَنِ الرَّحيِمِ

{الم(1)ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ(2)الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ(3)وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ(4)أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ(5)}.



ابتدأت السورة الكريمة بذكر أوصاف المتقين، وابتداء السورة بالحروف المقطعة {الم} وتصديرها بهذه الحروف الهجائية يجذب أنظار المعرضين عن هذا القرآن، إِذ يطرق أسماعهم لأول وهلة ألفاظٌ غير مألوفة في تخاطبهم، فينتبهوا إِلى ما يُلقى إِليهم من آياتٍ بينات، وفي هذه الحروف وأمثالها تنبيهٌ على "إِعجاز القرآن" فإِن هذا الكتاب منظومٌ من عين ما ينظمون منه كلامهم، فإِذا عجزوا عن الإِتيان بمثله، فذلك أعظم برهان على إِعجاز القرآن.

يقول العلامة ابن كثير رحمه الله: إِنما ذكرت هذه الحروف في أوائل السورة بياناً لإِعجاز القرآن، وأن الخلق عاجزون عن معارضته بمثله، مع أنه مركب من هذه الحروف المقطعة التي يتخاطبون بها، وهو قول جمع من المحققين، وقد قرره الزمخشري في تفسيره الكشاف ونصره أتم نصر، وإِليه ذهب الإِمام "ابن تيمية" ثم قال: ولهذا كلُّ سورة افتتحت بالحروف، فلا بدَّ أن يذكر فيها الانتصار للقرآن، وبيانُ إِعجازه وعظمته مثل {الم* ذَلِكَ الْكِتَابُ} {المص* كِتَابٌ أُنزِلَ} {الم* تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ} {حم* وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ* إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ} وغير ذلك من الآيات الدالة على إِعجاز القرآن.

ثم قال تعالى {ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ} أي هذا القرآن المنزل عليك يا محمد هو الكتابُ الذي لا يدانيه كتاب {لا رَيْبَ فِيهِ} أي لا شك في أنه من عند الله لمن تفكر وتدبر، أو ألقى السمع وهو شهيد {هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} أي هادٍ للمؤمنين المتقين، الذين يتقون سخط الله بامتثال أوامره واجتناب نواهيه، ويدفعون عذابه بطاعته، قال ابن عباس: المتقون هم الذين يتقون الشرك، ويعملون بطاعة الله، وقال الحسن البصري: اتقوا ما حُرِّم عليهم، وأدَّوْا ما افتُرض عليهم.

ثم بيَّن تعالى صفات هؤلاء المتقين فقال {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} أي يصدقون بما غاب عنهم ولم تدركه حواسهم من البعث، والجنة، والنار، والصراط، والحساب، وغير ذلك من كل ما أخبر عنه القرآن أو النبي عليه الصلاة والسلام {وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ} أي يؤدونها على الوجه الأكمل بشروطها وأركانها، وخشوعها وآدابها.

قال ابن عباس: إِقامتُها: إِتمام الركوع والسجود والتلاوة والخشوع {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} أي ومن الذي أعطيناهم من الأموال ينفقون ويتصدقون في وجوه البر والإِحسان، والآية عامة تشمل الزكاة، والصدقة، وسائر النفقات، وهذا اختيار ابن جرير، وروي عن ابن عباس أن المراد بها زكاة الأموال.

قال ابن كثير: كثيراً ما يقرن تعالى بين الصلاة والإِنفاق من الأموال، لأن الصلاة حقُّ الله وهي مشتملة على توحيده وتمجيده والثناء عليه، والإِنْفاقُ هو الإِحسان إِلى المخلوقين وهو حق العبد، فكلٌ من النفقات الواجبة، والزكاة المفروضة داخل في الآية الكريمة.

{وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ} أي يصدقون بكل ما جئت به عن الله تعالى {وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ} أي وبما جاءت به الرسل من قبلك، لا يفرّقون بين كتب الله ولا بين رسله {وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} أي ويعتقدون اعتقاداً جازماً لا يلابسه شك أو ارتياب بالدار الآخرة التي تتلو الدنيا، بما فيها من بعثٍ وجزاءٍ، وجنةٍ، ونار، وحساب، وميزان، وإِنما سميت الدار الآخرة لأنها بعد الدنيا.

{أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ} أي أولئك المتصفون بما تقدم من الصفات الجليلة، على نور وبيان وبصيرة من الله {وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} أي وأولئك هم الفائزون بالدرجات العالية في جنات النعيم.



صفات الكافرين

{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ ءأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ(6)}.



{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا} أي إِن الذين جحدوا بآيات الله وكذبوا رسالة محمد صلى الله عليه وسلم {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ} أي يتساوى عندهم {ءأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ} أي سواءٌ أَحذرتهم يا محمد من عذاب الله وخوفتهم منه أم لم تحذرهم {لا يُؤْمِنُونَ} أي لا يصدقون بما جئتهم به، فلا تطمع في إِيمانهم، ولا تذهب نفسك عليهم حسرات، وفي هذا تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم عن تكذيب قومه له.



سبب عدم إيمان الكافرين

‎‎{خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ(7)}



ثم بيَّن تعالى العلة في سبب عدم الإِيمان فقال {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ} أي طبع على قلوبهم فلا يدخل فيها نور، ولا يُشرق فيها إِيمان.

قال المفسرون: الختمُ التغطيةُ والطبعُ، وذلك أن القلوب إذا كثرت عليها الذنوب طُمِس نور البصيرة فيها، فلا يكون للإِيمان إِليها مسلكٌ، ولا للكفر عنها مخلص كما قال تعالى {بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ}.

{وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ} أي وعلى أسماعهم وعلى أبصارهم غطاء، فلا يبصرون هدى، ولا يسمعون ولا يفقهون ولا يعقلون، لأن أسماعهم وأبصارهم كأنها مغطَّاة بحجب كثيفة، لذلك يرون الحقَّ فلا يتبعونه، ويسمعونه فلا يعونه.

قال أبو حَيَّان: شبَّه تعالى قلوبهم لتَأَبِّيها عن الحقِّ، وأسماعهم لإِضرابها عن سماع داعي الفلاح، وأبصارهم لامتناعها عن تلمح نور الهداية، بالوعاء المختوم عليه، المسدود منافذه، المغطَّى بغشاء يمنع أن يصله ما يصلحه، وذلك لأنها كانت - مع صحتها وقوة إِدراكها- ممنوعة عن قبول الخير وسماعه، وتلمح نوره، وهذا بطريق الاستعارة {وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} أي ولهم في الآخِرة عذاب شديدٌ لا ينقطع، بسبب كفرهم وإِجرامهم وتكذيبهم بآيات الله.



سبب النزول:

قال ابن عباس: نزلت هذه الآيات في منافقي أهل الكتاب منهم "عبد الله بن أُبَيَّ ابن سلول، ومعتب بن قشير، والجد بن قيس" كانوا إِذا لقوا المؤمنين يظهرون الإِيمان والتصديق ويقولون: إِنّا لنجد في كتابنا نعته وصفته.



صفات المنافقين

{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ(8)يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلا أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ(9)فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ(10)}



{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ} أي ومن الناس فريق يقولون بألسنتهم صدَّقنا بالله وبما أنزل على رسوله من الآيات البينات {وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ} أي وصدَّقنا بالبعث والنشور {وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ} أي وما هم على الحقيقة بمصدقين ولا مؤمنين، لأنهم يقولون ذلك قولاً دون اعتقاد، وكلاماً دون تصديق.

قال البيضاوي: هذا هو القسم الثالث المذبذب بين القسمين، وهم الذين آمنوا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم، وهم أخبث الكفرة وأبغضهم إِلى الله، لأنّهم موَّهُوا الكفر وخلطوا به خداعاً واستهزاءً، ولذلك أطال في بيان خبثهم وجهلهم، واستهزأ بهم، وتهكَّم بأفعالهم، وسجَّل عليهم الضلال والطغيان، وضرب لهم الأمثال.

{يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا} أي يعملون عمل المخادِع بإِظهار ما أظهروه من الإِيمان مع إِصرارهم على الكفر، يعتقدون - بجهلهم - أنهم يخدعون الله بذلك، وأن ذلك نافعهم عنده، وأنه يروج عليه كما قد يروج على بعض المؤمنين، وما علموا أن الله لا يُخدع لأنه لا تخفى عليه خافية.

قال ابن كثير: النفاق هو إِظهار الخير، وإِسرارُ الشر وهو أنواع: اعتقادي وهو الذي يُخَلَّد صاحبه في النار، وعملي وهو من أكبر الذنوب والأوزار، لأن المنافق يخالف قولُه فعلَه، وسرُّه علانيته، وإِنما نزلت صفات المنافقين في السور المدنية لأن مكة لم يكن بها نفاق بل كان خلافه.

{وَمَا يَخْدَعُونَ إِلا أَنفُسَهُمْ} أي وما يخدعون في الحقيقة إِلا أَنفسَهم لأن وبال فعلهم راجع عليهم {وَمَا يَشْعُرُونَ} أي ولا يحُسّون بذلك ولا يفطنون إِليه، لتمادي غفلتهم، وتكامل حماقتهم.

{فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا} أي في قلوبهم شك ونفاق فزادهم الله رجساً فوق رجسهم، وضلالاً فوق ضلالهم، والجملةُ دعائية.

قال ابن أسلم: هذا مرضٌ في الدين، وليس مرضاً في الجسد، وهو الشك الذي داخلهم في الإِسلام فزادهم الله رجساً وشكاً {وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} أي ولهم عذابٌ مؤلمٌ بسبب كذبهم في دعوى الإِيمان، واستهزائهم بآيات الرحمن.



بيان قبائح المنافقين

{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ(11)أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ(12)وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لا يَعْلَمُونَ(13)وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِءُونَ(14)اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ(15)أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوْا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ(16)}.



ثم شرع تعالى في بيان قبائحهم، وأحوالهم الشنيعة فقال: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ} أي وإِذا قال لهم بعض المؤمنين: لا تسعوا في الأرض بالإِفساد بإِثارة الفتن، والكفر والصَدِّ عن سبيل الله.

قال ابن مسعود: الفسادُ في الأرض هو الكفرُ، والعملُ بالمعصية، فمن عصى الله فقد أفسد في الأرض.

{قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ} أي ليس شأننا الإِفسادُ أبداً، وإِنما نحن أناسٌ مصلحون، نسعى للخير والصلاح فلا يصح مخاطبتنا بذلك، قال البيضاوي: تصوَّروا الفساد بصورة الصلاح، لما في قلوبهم من المرض فكانوا كمن قال الله {أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا} ولذلك ردَّ الله عليهم أبلغ ردٍّ بتصدير الجملة بحرفيْ التأكيد: {أَلا} المنبهة و {إِنَّ} المقررة، وتعريف الخبر، وتوسيط الفصل، والاستدراك بعدم الشعور فقال: {أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ} أي أَلاَ فانتبهوا أيها الناس، إِنهم هم المفسدون حقاً لا غيرهم، ولكنْ لا يفطنون ولا يحسُون، لانطماسِ نور الإِيمان في قلوبهم.

{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ} أي وإِذا قيل للمنافقين: آمنوا إِيماناً صادقاً لا يشوبه نفاقٌ ولا رياء، كما آمن أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام، وأَخلِصوا في إِيمانكم وطاعتكم لله {قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ} الهمزة للإِنكار مع السخرية والاستهزاء أي قالوا أنؤمن كإِيمان هؤلاء الجهلة أمثال "صهيب، وعمار، وبلال" ناقصي العقل والتفكير؟‍ قال البيضاوي: وإِنما سفَّهوهم لاعتقادهم فسادَ رأيهم، أو لتحقير شأنهم، فإِن أكثر المؤمنين كانوا فقراء ومنهم موالي كصهيب وبلال.

{أَلا إِنَّهُمْ هُمْ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لا يَعْلَمُونَ} أي أَلا إِنهم هم السفهاء حقاً، لأن من ركب متن الباطل كان سفيهاً بلا امتراء، ولكن لا يعلمون بحالهم في الضلالة والجهل، وذلك أبلغ في العمى، والبعد عن الهدى. أكَّد وَنبَّه وحصر السفاهة فيهم، ثم قال تعالى منبهاً إِلى مصانعتهم ونفاقهم:

{وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا} أي وإذا رأوا المؤمنين وصادفوهم أظهروا لهم الإِيمان والموالاة نفاقاً ومصانعة {وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ} أي وإِذا انفردوا ورجعوا إِلى رؤسائهم وكبرائهم، أهلِ الضلالِ والنفاق {قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِءُونَ} أي قالوا لهم نحن على دينكم وعلى مثل ما أنتم عليه من الاعتقاد، وإِنما نستهزئ بالقوم ونسخر منهم بإِظهار الإِيمان.

قال تعالى رداً عليهم: {اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ} أي الله يجازيهم على استهزائهم بالإِمهال ثم بالنكال، قال ابن عباس: يسخر بهم للنقمة منهم ويُملي لهم كقوله {وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ} قال ابن كثير: هذا إِخبار من الله أنه مجازيهم جزاء الاستهزاء، ومعاقبهم عقوبة الخداع، فأخرج الخبر عن الجزاء مخرج الخبر عن الفعل الذي استحقوا العقاب عليه، فاللفظ متفق والمعنى مختلف،وإِليه وجهوا كل ما في القرآن من نظائر مثل {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا}ومثل {فَمَنْ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ} فالأول ظلم والثاني عدل.

{وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} أي ويزيدهم - بطريق الإِمهال والترك - في ضلالهم وكفرهم يتخبطون ويتردَدون حيارى، لا يجدون إِلى المخرج منه سبيلاً لأن الله طبع على قلوبهم وأعمى أبصارهم، فلا يبصرون رشداً ولا يهتدون سبيلاً.

{أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوْا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى} أي استبدلوا الكفر بالإِيمان، وأخذوا الضلالة ودفعوا ثمنها الهُدى {فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ} أي ما ربحت صَفْقَتهم في هذه المعاوضةِ والبيع {وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ} أي وما كانوا راشدين في صنيعهم ذلك، لأنهم خسروا سعادة الدارين.

والخلاصة: أن الله تعالى ذكر أربعة أنواع من قبائح المنافقين، وكل نوع منها كاف وحده في إنزال العقاب بهم وهي:

1- مخادعة الله، والخديعة مذمومة، والمذموم يجب أن يُمَيَّز من غيره لتجنب الذم.

2- الإفساد في الأرض بإثارة الفتنة والتأليب على المسلمين وترويج الإشاعات الباطلة.

3- الإعراض عن الإيمان والاعتقاد الصحيح المستقر في القلب، الموافق للفعل.

4- التردد والحيرة في الطغيان وتجاوز الحدود المعقولة، بالافتراء على المؤمنين ووصفهم بالسفاهة، مع أن المنافقين هم السفهاء بحق، لأن من أعرض عن الدليل، ثم نسب المتمسك به إلى السفاهة فهو السفيه، ولأن من باع آخرته بدنياه فهو السفيه، ولأن من عادى محمداً عليه الصلاة والسلام، فقد عادى الله، وذلك هو السفيه.



ضرب الأمثال للمنافقين

{مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لا يُبْصِرُونَ(17)صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ(18)أَوْ كَصَيِّبٍ مِنْ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنْ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ(19)يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ(20)}.



ثم ضرب تعالى مثلين وضَّح فيهما خسارتهم الفادحة فقال {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا} أي مثالهم في نفاقهم وحالهم العجيبة فيه كحال شخص أوقد ناراً ليستدفئ بها ويستضيء، فما اتقدت حتى انطفأت، وتركته في ظلام دامس وخوفٍ شديد {فَلَمَّا أَضَاءتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ} أي فلما أنارتْ المكان الذي حوله فأبصر وأمِن، واستأنس بتلك النار المشعة المضيئة ذهب الله بنورهم أي أطفأها الله بالكلية، فهم يتخبطون ولا يهتدون.

قال ابن كثير: ضرب الله للمنافقين هذا المثل، فشبههم في اشترائهم الضلالة بالهدى، وصيرورتهم بعد البصيرة إِلى العمى، بمن استوقد ناراً فلما أضاءت ما حوله وانتفع بها، وتأنس بها وأبصر ما عن يمينه وشماله، فبينا هو كذلك إِذْ طفئت ناره، وصار في ظلام شديد، لا يبصر ولا يهتدي، فكذلك هؤلاء المنافقون في استبدالهم الضلالة عوضاً عن الهدى، واستحبابهم الغيَّ على الرشد، وفي هذا المثل دلالةٌ على أنهم آمنوا ثم كفروا، ولذلك ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات الشك والكفر والنفاق لا يهتدون إِلى سبيل الخير، ولا يعرفون طريق النجاة.

{صُمٌّ} أي هم كالصُمِّ لا يسمعون خيراً {بُكْمٌ} أي كالخرس لا يتكلمون بما ينفعهم {عُمْيٌ} أي كالعمي لا يبصرون الهدى ولا يتبعون سبيله {فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ} أي لا يرجعون عمَّا هم فيه من الغي والضلال.

ثم ثنَّى تعالى بتمثيل آخر لهم زيادةً في الكشف والإِيضاح فقال: {أَوْ كَصَيِّبٍ مِنْ السَّمَاءِ} أي أو مثلهم في حيرتهم وترددهم كمثل قومٍ أصابهم مطر شديد، أظلمت له الأرض، وأرعدت له السماء، مصحوبٍ بالبرق والرعد والصواعق {فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ} أي في ذلك السحاب ظلماتٌ داجية، ورعدٌ قاصف، وبرقٌ خاطف .

{يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنْ الصَّوَاعِقِ} أي يضعون رءوس أصابعهم في آذانهم لدفع خطر الصواعق، وذلك من فرط الدهشة والفزع كأنهم يظنون أن ذلك ينجيهم {حَذَرَ الْمَوْتِ} أي خشية الموت من تلك الصواعق المدمرة {وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ} جملة اعتراضية أي والله تعالى محيط بهم بقدرته، وهم تحت إِرادته ومشيئته لا يفوتونه، كما لا يفوتُ من أحاط به الأعداء من كل جانب.

{يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ} أي يقارب البرقُ لشدته وقوته وكثرة لمعانه أن يذهب بأبصارهم فيأخذها بسرعة {كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ} أي كلما أنار لهم البرق الطريق مشوا في ضوئه {وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا} أي وإِذا اختفى البرق وفتر لمعانه وقفوا عن السير وثبتوا في مكانهم .. وفي هذا تصويرٌ لما هم فيه من غاية التحير والجهل، فإِذا صادفوا من البرق لمعة - مع خوفهم أن يخطف أبصارهم - انتهزوها فرصة فَخَطَوْا خطواتٍ يسيرة، وإِذا خفي وفتر لمعانه وقفوا عن السير، وثبتوا في أماكنهم خشية التردي في حفرة.

{وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ} أي لو أراد الله لزاد في قصف الرعد فأصمهم وذهب بأسماعهم، وفي ضوء البرق فأعماهم وذهب بأبصارهم {إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} أي إِنه تعالى قادر على كل شيء، لا يعجزه أحدٌ في الأرض ولا في السماء، قال ابن جرير: إِنما وصف تعالى نفسه بالقدرة على كل شيء في هذا الموضع، لأنه حذَّر المنافقين بأسه وسطوته، وأخبرهم أنه بهم محيط، وعلى إِذهاب أسماعهم وأبصارهم قادر.



المنَاسَبَة:

لما ذكر تعالى الأصناف الثلاثة "المؤمنين، والكافرين، والمنافقين" وذكر ما تميزوا به من سعادة أو شقاوة، أو إِيمان أو نفاق، وضرب الأمثال ووضَّح طرق الضلال أعقبه هنا بذكر الأدلة والبراهين على وحدانية ربِّ العالمين، وعَرَّف الناس بنعمه ليشكروه عليها، وأقبل عليهم بالخطاب {يَا أَيُّهَا النَّاسُ} وهو خطاب لجميع الفئات ممتناً عليهم بما خلق ورزق، وأبرز لهم "معجزة القرآن" بأنصع بيان وأوضح برهان، ليقتلع من القلوب جذور الشك والارتياب.



الأمر بعبادة الله وحده وأدلة التوحيد

{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ(21)الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ(22)}.



يقول تعالى منبهاً العبادَ إِلى دلائل القدرة والوحدانية {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ} أي يا معشر بني آدم اذكروا نِعَم الله الجليلة عليكم، واعبدوا الله ربكم الذي ربَّاكم وأنشأكم بعد أن لم تكونوا شيئاً، اعبدوه بتوحيده، وشكره، وطاعته.

{الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} أي الذي أوجدكم بقدرته من العدم، وخلق مَن قبلكم من الأمم {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} أي لتكونوا في زمرة المتقين، الفائزين بالهدى والفلاح، قال البيضاوي: لما عدَّد تعالى فِرَق المكلفين، أقبل عليهم بالخطاب على سبيل الالتفات، هزاً للسامع، وتنشيطاً له، واهتماماً بأمر العبادة وتفخيماً لشأنها، وإِنما كثر النداء في القرآن بـ {يَا أَيُّهَا النَّاسُ} لاستقلاله بأوجهٍ من التأكيد، وكلُّ ما نادى الله له عباده من حيث إِنها أمور عظام من حقها أن يتفطنوا لها، ويقبلوا بقلوبهم عليها وأكثرهم عنها غافلون حقيقٌ بأن يُنادى له بالآكد الأبلغ.

ثمَّ عدَّد تعالى نِعَمه عليهم فقال {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشًا} أي جعلها مهاداً وقراراً، تستقرون عليها وتفترشونها كالبساط المفروش مع كرويتها، وإِلا ما أمكنكم العيش والاستقرار عليها، قال البيضاوي: جعلها مهيأة لأن يقعدوا ويناموا عليها كالفراش المبسوط، وذلك لا يستدعي كونها مسطَّحة لأن كروية شكلها مع عظم حجمها لا يأبى الافتراش عليها.

{وَالسَّمَاءَ بِنَاءً} أي سقفاً للأرض مرفوعاً فوقها كهيئة القبة {وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً} أي مطراً عذباً فراتاً أنزله بقدرته من السحاب {فَأَخْرَجَ بِهِ مِنْ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ} أي فأخرج بذلك المطر أنواع الثمار والفواكه والخضار غذاءً لكم.

{فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} أي فلا تتخذوا معه شركاء من الأصنام والبشر تشركونهم مع الله في العبادة، وأنتم تعلمون أنها لا تَخْلُق شيئاً ولا تَرْزق، وأنَّ الله هو الخالق الرازق وحده، ذو القوة المتين، قال ابن كثير: شرع تعالى في بيان وحدانية ألوهيته بأنه هو المنعم على عبيده بإِخراجهم من العدم، وإِسباغه عليهم النِّعَم، والمرادُ بالسَّماء هنا السحاب، فهو تعالى الذي أنزل المطر من السحاب في وقته عند احتياجهم إِليه، فأخرج لهم به أنواع الزروع والثمار رزقاً لهم ولأنعامهم، ومضمونه أنه الخالق الرازق مالكُ الدار وساكنيها ورازقهم، فبهذا يستحق أن يُعبد وحده ولا يُشرك به غيره.



المناسبة:

بعد أن صنّف القرآن الناس إلى أقسام ثلاثة: متقين موحدين، وجاحدين معاندين، ومنافقين مذبذبين، وبعد أن أثبت الوحدانية والربوبية لله، ونفى الشركاء بالمنطق والبرهان، أثبت الله تعالى أن القرآن كلام الله، وأنه نزل من عنده، بدليل أنه معجز، لم يتمكن أحد من الجن أو الإنس مجاراته والإتيان بمثله، مع أن العرب فرسان البلاغة، وأساطين الفصاحة، ولا فخر لهم إلا بالكلام شعراً ونثراً وخطابة، وبما أنهم عجزوا، ولم يستطيعوا الإتيان بمثل أقصر سورة من القرآن، فقد ثبت صدق محمد صلى الله عليه وسلم فيما ادعاه من النّبوة، وما أتى به من الرسالة الإلهية. وكان مُنْكِرُ نبوته ورسالته مستحقاً العقاب والجزاء في نار جهنم.



إثبات نبوَّة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وإقامة البرهان علىإعجاز القرآن

{وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ(23)فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ(24)}.



ثم ذكر تعالى بعد أدلة التوحيد الحجة على النبوة، وأقام البرهان على إِعجاز القرآن فقال {وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا} أي وإِذا كنتم أيها الناسُ في شك وارتياب من صدق هذا القرآن، المعجز في بيانه، وتشريعه، ونظمه، الذي أنزلناه على عبدنا ورسولنا محمد صلى الله عليه وسلم {فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ} أي فأتوا بسورةٍ واحدةٍ من مثل هذا القرآن، في البلاغة والفصاحة والبيان {وَادْعُوا شُهَدَاءكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ} أي وادعوا أعوانكم وأنصاركم الذين يساعدونكم على معارضة القرآن غير الله سبحانه، والمراد استعينوا بمن شتئم غيره تعالى، قال البيضاوي: المعنى ادعوا للمعارضة من حضركم أو رجوتم معونته من إِنسكم وجِنكم وآلهتكم غيرَ اللهِ سُبحانه وتعالى، فإِنه لا يقدر أن يأتي بمثله إِلا الله {إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} أي في أنه مختلق وأنه من كلام البشر، وجوابُه محذوف دلَّ عليه ما قبله.

{فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا} أي فإِن لم تقدروا على الإِتيان بمثل سورةٍ من سوره، وعجزتم في الماضي عن الإِتيان بما يساويه أو يدانيه، مع استعانتكم بالفصحاء والعباقرة والبلغاء {وَلَنْ تَفْعَلُوا} أي ولن تقدروا في المستقبل أيضاً على الإِتيان بمثله، والجملةُ اعتراضيةٌ للإِشارة إِلى عجز البشر في الحاضر والمستقبل كقوله {لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} أي معيناً، قال ابن كثير: تحداهم القرآن وهم أفصح الأمم ومع هذا عجزوا، و{لَنْ} لنفي التأبيد في المستقبل أي ولن تفعلوا ذلك أبداً، وهذه أيضاً معجزة أخرى وهو أنه أخبر خبراً جازماً قاطعاً، غير خائفٍ ولا مشفق أنَّ هذا القرآن لا يُعارضُ بمثله أبد الآبدين ودهر الداهرين، وكذلك وقع الأمر لم يُعارض من لدنه إِلى زماننا هذا، ومن تدبّر القرآن وجد فيه من وجوه الإِعجاز فنوناً ظاهرة وخفية، من حيثُ اللفظ ومن حيثُ المعنى، والقرآنُ جميعه فصيح في غاية نهايات الفصاحة والبيان عند من يعرف كلام العرب، ويفهم تصاريف الكلام.

{فَاتَّقُوا النَّارَ} أي فخافوا عذاب الله، واحذروا نار الجحيم التي جعلها الله جزاء المكذبين {الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} أي اتقوا النار التي مادتُها التي تُشعل بها وتُضرم لإِيقادها هي الكفار والأصنام التي عبدوها من دون الله كقوله تعالى {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ} قال مجاهد: حجارةٌ من كبريت أنتُن من الجيفة يعذبون بها مع النار {أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} أي هُيّئت تلك النارُ وأُرصدت للكافرين الجاحدين، ينالون فيها ألوان العذاب المهين.

والخلاصة: أن التحدي كان متنوعاً، مرة بالنظم والمعنى، ومرة بالنظم دون المعنى، بافتراء شيء لا معنى له، وفي كل الأحوال ظهر فشلهم.

وأرشدت الآية: {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا...} على ظهور العجز التام عن المعارضة، وعلى استحقاق الكافرين النار لإنكارهم نبوة النَّبي صلى الله عليه وسلم، ولعدم تصديقهم بالقرآن، وعلى أن من اتقى النار ترك المعاندة، وعلى أن النار حالياً مخلوقة مهيأة موجودة معدّة للعصاة والفسّاق والكفّار.



المناسبة:

يعقد القرآن عادة مقارنات بين الأشياء المتضادة، فلما ذكر الله جزاء الكافرين والعصاة، أردف ذلك ببيان جزاء المؤمنين الأتقياء الأطهار، ليظهر الفرق بين الفريقين، وليكون ذلك أدعى للعبرة والعظة، والامتثال من مقارنة الأحوال.



ما أعدَّه الله لأوليائه

{وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ(25)}.



ثم لما ذكر ما أعدَّه لأعدائه، عطف عليه بذكر ما أعدَّه لأوليائه، على طريقة القرآن في الجمع بين الترغيب والترهيب، للمقارنة بين حال الأبرار والفجار فقال {وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} أي وبَشِّرْ يا محمد المؤمنين المتقين، الذين كانوا في الدنيا محسنين، والذين جمعوا بين الإِيمان والعمل الصالح {أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ} أي بأن لهم حدائق وبساتين ذاتِ أشجار ومساكن، تجري من تحت قصورها ومساكنها أنهار الجنة .

{كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا} أي كلما أعطوا عطاءً ورُزقوا زرقاً من ثمار الجنة {قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ} أي هذا مثلُ الطعام الذي قُدِّم إِلينا قبل هذه المرة.

قال المفسرون: إِن أهل الجنة يُرزقون من ثمارها، تأتيهم به الملائكة، فإِذا قُدّم لهم مرةً ثانية قالوا: هذا الذي أتيتمونا به من قبل فتقول الملائكة: كلْ يا عبد الله فاللونُ واحدٌ والطعم مختلف قال تعالى {وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا} أي متشابهاً في الشكل والمنظر، لا في الطعم والمَخْبر، قال ابن جرير: يعني في اللون والمرأى وليس يشبهه في الطعم، قال ابن عباس: لا يشبه شيء مما في الجنة ما في الدنيا إِلا في الأسماء.

{وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ} أي ولهم في الجنة زوجاتٌ من الحور العين مطهَّرات من الأقذار والأدناس الحسية والمعنوية، قال ابن عباس: مطهَّرة من القذر والأذى، وقال مجاهد: مطهَّرة من الحيض والنفاس، والغائط والبول والنخام، وورد أن نساء الدنيا المؤمنات يكنَّ يوم القيامة أجمل من الحور العين كما قال تعالى {إِنَّا أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَاءً* فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا* عُرُبًا أَتْرَابًا} [الواقعة: 35 - 37] {وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} أي دائمون، وهذا هو تمام السعادة، فإِنهم مع هذا النعيم في مقام أمين، يعيشون مع زوجاتهم في هناءٍ خالد لا يعتريه انقطاع.



المنَاسَبَة:

لمّا بينّ تعالى بالدليل الساطع، والبرهان القاطع، أن القرآن كلام الله لا يتطرق إِليه شك، وإِنه كتاب معجز أنزله على خاتم المرسلين، وتحداهم أن يأتوا بمثل سورةٍ من أقصر سوره، ذكر هنا شبهة أوردها الكفار للقدح فيه وهي أنه جاء في القرآن ذكر (النحل، والذباب، والعنكبوت، والنمل) إلخ وهذه الأمور لا يليق ذكرها بكلام الفصحاء فضلاً عن كلام ربّ الأرباب، فأجاب الله تعالى عن هذه الشبهة، وردَّ عليهم بأنَّ صغر هذه الأشياء لا يقدح في فصاحة القرآن وإِعجازه، إِذا كان ذكر المثل مشتملاً على حِكَمٍ بالغة.



سبب النزّول:

لما ذكر الله تعالى الذباب والعنكبوت في كتابه، وضرب للمشركين به المثل ضحكت اليهود وقالوا: ما يشبه هذا كلام الله، وما أراد بذكر هذه الأشياء الخسيسة؟ فأنزل الله الآية.



الحكمة من ضرب الأمثال في القرآن

{إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلاً يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلا الْفَاسِقِينَ(26)الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ أُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ(27)}.



يقول تعالى في الرد على مزاعم اليهود والمنافقين {إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً مَا} أي إِن الله لا يستنكف ولا يمتنع عن أن يضرب أيَّ مثلٍ كان، بأي شيءٍ كان، صغيراً كان أو كبيراً {بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا} أي سواء كان هذا المثل بالبعوضة أو بما هو دونها في الحقارة والصغر، فكما لا يستنكف عن خلقها، كذلك لا يستنكف عن ضرب المثل بها.

{فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ} أما المؤمنون فيعلمون أن الله حق، لا يقول غير الحق، وأن هذا المثل من عند الله {وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلاً}؟ وأما الذين كفروا فيتعجبون ويقولون: ماذا أراد الله من ضرب الأمثال بمثل هذه الأشياء الحقيرة؟

قال تعالى في الرد عليهم {يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا} أي يضل بهذا المثل كثيراً من الكافرين لكفرهم فيزيد به، ويهدي به كثيراً من المؤمنين لتصديقهم به، فيزي أولئك ضلالة، وهؤلاء هدىً {وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلا الْفَاسِقِينَ} أي ما يضل بهذا المثل أو بهذا القرآن إِلا الخارجين عن طاعة الله، الجاحدين بآياته.

ثم عدّد تعالى أوصاف هؤلاء الفاسقين فقال {الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ} أي ينقضون ما عهده إِليهم في الكتب السماوية، من الإِيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم من بعد توكيده عليهم، أو ينقضون كل عهد وميثاق من الإِيمان بالله، والتصديق بالرسل، والعمل بالشرائع {وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ} من صلة الأرحام والقرابات، واللفظ عام في كل قطيعة لا يرضاها الله كقطع الصلة بين الأنبياء، وقطع الأرحام، وترك موالاة المؤمنين {وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ} بالمعاصي، والفتن، والمنع عن الإِيمان، وإِثارة الشبهات حول القرآن {أُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} أي أولئك المذكورون، الموصوفون بتلك الأوصاف القبيحة هم الخاسرون لأنهم استبدلوا الضلالة بالهدى، والعذاب بالمغفرة، فصاروا إِلى النار المؤبدة.



المناسبة:

بعد أن ذكر الله صفات الفاسقين وموقف الكفار من القرآن، وجّه الخطاب إلى الكفار فيهاتين الآيتين على طريق الإنكار والتعجب والتوبيخ على موقفهم وصفة كفرهم، بذكر البراهين الداعية إلى الإيمان: وهي النعم الدالة على قدرته تعالى من مبدأ الخلق إلى منتهاه، من إحيائهم بعد الإماتة، ثم الإماتة والإحياء، وخلق جميع الخيرات المكنونة في الأرض ليتمتعوا بجميع ما في ظاهرها وباطنها، وخلق سبع سماوات مزينة بمصابيح، ليهتدوا بها في ظلمات البر والبحر، أفبعد هذا كله يكفرون بمحمد وبرسالته صلى الله عليه وسلم؟!



من مظاهر قدرة الله تعالى

{كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ(28)هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ(29)}.



{كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ} استفهام للتوبيخ والإِنكار، والمعنى كيف تجحدون الخالق، وتنكرون الصانع {وَكُنتُمْ أَمْوَاتًا} أي وقد كنتم في العدم نُطفاً في أصلاب الآباء وأرحام الأمهات {فَأَحْيَاكُمْ} أي أخرجكم إِلى الدنيا {ثُمَّ يُمِيتُكُمْ} عند انقضاء الآجال {ثُمَّ يُحْيِيكُمْ} بالبعث من القبور {ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} للحساب والجزاء يوم النشور.

ثم ذكر تعالى برهاناً على البعث فقال {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا} أي خلق لكم الأرض وما فيها لتنتفعوا بكل ما فيها، وتعتبروا بأن الله هو الخالق الرازق {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ} أي ثم وجّه إرادته إلى السماء {فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ} أي صيّرهن وقضاهن سبع سماوات محكمة البناء وذلك دليل القدرة الباهرة {وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} أي وهو عالم بكل ما خلق وذرأ، أفلا تعتبرون بأن القادر على خلق ذلك - وهي أعظم منكم - قادر على إعادتكم؟! بلى إنه على كل شيء قدير.



المنَاسَبَة:

لما امتنَّ تعالى على العباد بنعمة الخلق والإِيجاد وأنه سخر لهم ما في الأرض جميعاً، وأخرجهم من العدم إِلى الوجود، أتبع ذلك ببدء خلقهم، وامتنَّ عليهم بتشريف أبيهم وتكريمه، بجعله خليفة، وإِسكانه دار الكرامة، وإِسجاد الملائكة تعظيماً لشأنه، ولا شك أن الإحسان إِلى الأصل إِحسان إِلى الفرع، والنعمة على الآباء نعمة على الأبناء، ولهذا ناسب أن يذكَرهم بذلك، لأنه من وجوه النعم التي أنعم بها عليهم.



استخلاف الإنسان في الأرض وتعليمه اللغات

{وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ(30)وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاء إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ(31)قَالُوا سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ(32)قَالَ يَاآدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ(33)}.



{وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ} أي اذكر يا محمد حين قال ربك للملائكة واقصص على قومك ذلك {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً} أي خالق في الأرض ومتخذ فيها خليفة يخلفني في تنفيذ أحكامي فيها وهو آدم، أو قوماً يخلف بعضهم بعضاً قرناً بعد قرن، وجيلاً بعد جيل.

{قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا} أي قالوا على سبيل التعجب والاستعلام: كيف تستخلف هؤلاء، وفيهم من يفسد في الأرض بالمعاصي {وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ} أي يريق الدماء بالبغي والاعتداء!! {وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ} أي ننزهك عما لا يليق بك متلبسين بحمدك {وَنُقَدِّسُ لَكَ} أي نعظّم أمرك ونطهّر ذكرك مما نسبه إِليك الملحدون {قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ} أي أعلم من المصالح ما هو خفيٌ عليكم، ولي حكمة في خلق الخليقة لا تعلمونها.

{وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا} أي أسماء المسمّيات كلها، قال ابن عباس: علّمه اسم كل شيء حتى القصعة والمغرفة {ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ} أي عرض المسميات على الملائكة وسألهم على سبيل التبكيت {فَقَالَ أَنْبِئُونِي} أي أخبروني {بِأَسْمَاءِ هَؤُلاء} أي بأسماء هذه المخلوقات التي ترونها {إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} أي في زعمكم أنكم أحق بالخلافة ممن استخلفته.

والحاصل أن الله تعالى أظهر فضل آدم للملائكة بتعليمه ما لم تعلمه الملائكة، وخصّه بالمعرفة التامة دونهم، من معرفة الأسماء والأشياء، والأجناس، واللغات، ولهذا اعترفوا بالعجز والقصور {قَالُوا سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلا مَا عَلَّمْتَنَا} أي ننزهك يا الله عن النقص ونحن لا علم لنا إِلا ما علمتنا إِياه {إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ} أي الذي لا تخفى عليه خافية {الْحَكِيمُ} الذي لا يفعل إِلا ما تقتضيه الحكمة.

{قَالَ يَاآدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ} أي أعلمهم بالأسماء التي عجزوا عن علمها، واعترفوا بتقاصر هممهم عن بلوغ مرتبتها {فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ} أي أخبرهم بكل الأشياء، وسمَّى كل شيء باسمه، وذكر حكمته التي خلق لها {قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} أي قال تعالى للملائكة: ألم أنبئكم بأني أعلم ما غاب في السموات والأرض عنكم {وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ} أي ما تظهرون {وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ} أي تسرون من دعواكم أن الله لا يخلق خلقاً أفضل منكم. وروي أنه تعالى لما خلق آدم عليه السلام رأت الملائكة فطرته العجيبة، وقالوا: ليكن ما شاء فلن يخلق ربنا خلقاً إِلا كنا أكرم عليه منه.



المنَاسَبَة:

أشارت الآيات السابقة إِلى أن الله تعالى خصّ آدم عليه السلام بالخلافة، كما خصّه بعلم غزير وقفت الملائكة عاجزة عنه، وأضافت هذه الآيات الكريمة بيان نوع آخر من التكريم أكرمه الله به ألا وهو أمر الملائكة بالسجود له، وذلك من أظهر وجوه التشريف والتكريم لهذا النوع الإِنساني ممثلاً في أصل البشرية آدم عليه السلام.



تكريم اللهِ آدمَ بسجود الملائكة له

{وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِن الْكَافِرِينَ(34)}



{وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ} أي اذكر يا محمد لقومك حين قلنا للملائكة {اسْجُدُوا لآدَمَ } أي سجود تحية وتعظيم لا سجود عبادة {فَسَجَدُوا إِلا إِبْلِيسَ} أي سجدوا جميعاً له غير إبليس {أَبَى وَاسْتَكْبَرَ} أي امتنع مما أمر به وتكبر عنه {وَكَانَ مِنْ الْكَافِرِينَ} أي صار بإبائه واستكباره من الكافرين حيث استقبح أمر الله بالسجود لآدم.



قصة آدم وحواء في الجنة

{وَقُلْنَا يَاآدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنْ الظَّالِمِينَ(35)فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ(36)فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ(37)قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ(38)وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ(39)}



{وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ} أي اسكن في جنة الخلد مع زوجك حواء {وَكُلا مِنْهَا رَغَدًا} أي كلا من ثمار الجنة أكلاً رغداً واسعاً {حَيْثُ شِئْتُمَا} أي من أي مكان في الجنة أردتما الأكل فيه {وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ} أي لا تأكلا من هذه الشجرة، قال أبو عباس: هي الكرمة {فَتَكُونَا مِنْ الظَّالِمِينَ} أي فتصيرا من الذين ظلموا أنفسهم بمعصية الله.

{فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا} أي أوقعهما في الزلة بسببها وأغواهما بالأكل منها. هذا إذا كان الضمير عائداً إلى الشجرة، أما إِذا كان عائداً إلى الجنة فيكون المعنى أبعدهما وحوّلهما من الجنة {فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ} أي من نعيم الجنة.

{وَقُلْنَا اهْبِطُوا} أي اهبطوا من الجنة إلى الأرض والخطاب لآدم وحواء وإبليس {بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ} أي الشيطان عدوّ لكم فكونوا أعداء له كقوله {إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا} {وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ} أي لكم في الدنيا موضع استقرار بالإقامة فيها {وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ} أي تمتع بنعيمها إلى وقت انقضاء آجالكم.

{فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ} أي استقبل آدم دعواتٍ من ربه ألهمه إياها فدعاه بها وهذه الكلمات مفسّرة في موطن آخر في سورة الأعراف {قَالا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا} الآية {فَتَابَ عَلَيْهِ} أي قَبِل ربه توبته {إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} أي إن الله كثير القبول للتوبة، واسع الرحمة للعباد.

{قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا} كرر الأمر بالهبوط للتأكيد ولبيان أنَّ إقامة آدم وذريته في الأرض لا في الجنة {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى} أي رسول أبعثه لكم، وكتاب أنزله عليكم {فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ} أي من آمن بي وعمل بطاعتي {فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} أي لا ينالهم خوف ولا حزن في الآخرة {وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا} أي جحدوا بما أنزلت وبما أرسلت {أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} أي هم مخلدون في الجحيم أعاذنا الله منها.



العظة من قصة آدم:

1- إذا توجهت عناية الله تعالى إلى شيء جعلته جليلاً عظيماً، كما توجهت عنايته إلى التراب فخلق منه بشراً سوياً، وأفاض عليه من العلم والمعرفة وغيرهما مما عجز الملائكة عن إدراكه.

2- الإنسان وإن كرّمه الله، لكنه ضعيف، عرضة للنسيان، كما نسي آدم أوامر الله ونواهيه، فأطاع إبليسَ عدوَّه، وأكل من الشجرة التي نهاه الله عن الأكل منها.

3- إن التوبة والإنابة إلى الله سبيل الظفر برحمة الله الواسعة، فإن آدم الذي عصى ربه تاب وقبل الله توبته، فعلى العاصي أو المقصر المبادرة إلى التوبة والاستغفار دون قنوط ولا يأس من رحمة الله ورضوانه ومغفرته.

4- الكبر والعناد والإصرار على الإفساد أسباب لاستحقاق السخط الإلهي، واللعنة والغضب والطرد من رحمة الله، فإن إبليس الذي أبى السجود، وأصرّ على موقفه، وعاند الله، وتحدى سلطانه بإغراء الإنسان وصرفه عن إطاعة الله، غضب الله عليه وطرده من الجنة إلى الأبد، وأوعده نار جهنم.



المناسبة:

اختصت هذه الآيات من (41-142) بالكلام عن بني إسرائيل فيما يقارب جزءاً كاملاً، لكشف حقائقهم وبيان مثالبهم، وكانت الآيات السابقة من أول السورة إلى هنا حول إثبات وجود الله ووحدانيته، والأمر بعبادته، وأن القرآن كلام الله المعجز، وبيان مظاهر قدرة الله بخلق الإنسان وتكريمه وخلق السموات والأرض، وموقف الناس من كل ذلك وانقسامهم إلى مؤمنين وكافرين ومنافقين.

ثم بدأ سبحانه بمخاطبة الشعوب التي ظهرت فيها النبوة، فبدأ باليهود، لأنهم أقدم الشعوب ذات الكتب السماوية، ولأنهم كانوا أشد الناس عداوة للمؤمنين بالقرآن، مع أنهم أولى الناس بالإيمان بخاتم الرسل، لذا ذكَّرهم الله تعالى بنعمه الكثيرة التي أنعم بها عليهم، وذكَّرهم بالعهد المؤكد معهم على التصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم، وتنوع أسلوب القرآن في خطابهم، تارة بالملاينة والملاطفة، وتارة بالتخويف والشدة، وأحياناً بالتذكير بالنعم، وطوراً بتعداد جرائمهم وقبائحهم وتوبيخهم على أعمالهم وإقامة الحجة عليهم.



ما طلب الله من بني إسرائيل

{يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِي الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ(40)وَآمِنُوا بِمَا أَنزَلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلاً وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ(41)وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ(42)وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ(43)}.



{يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ} أي يا أولاد النبي الصالح يعقوب {اذْكُرُوا نِعْمَتِي الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ} اذكروا ما أنعمت به عليكم وعلى آبائكم من نعم لا تعد ولا تحصى {وَأَوْفُوا بِعَهْدِي} أي أدّوا ما عاهدتموني عليه من الإِيمان والطاعة {أُوفِ بِعَهْدِكُمْ} بما عاهدتكم عليه من حسن الثواب {وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ} أي اخشوني دون غيري.

{وَآمِنُوا بِمَا أَنزَلْتُ} من القرآن العظيم {مُصدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ} أي من التوراة في أمور التوحيد والنبوة {وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ} أي أول من كفر من أهل الكتاب فحقكم أن تكونوا أول من آمن { وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلاً} أي لا تستبدلوا بآياتي البينات التي أنزلتها عليكم حطام الدنيا الفانية {وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ} أي خافون دون غيري {وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ} أي لا تخلطوا الحق المنزل من الله بالباطل الذي تخترعونه، ولا تحرفوا ما في التوراة بالبهتان الذي تفترونه {وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ} أي ولا تخفوا ما في كتابكم من أوصاف محمد عليه الصلاة والسلام {وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} أنه حق أو حال كونكم عالمين بضرر الكتمان.

{وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ} أي أدوا ما وجب عليكم من الصلاة والزكاة، وصلوا مع المصلين بالجماعة، أو مع أصحاب محمد عليه الصلاة والسلام.



عرض لشيء من أخلاق اليهود السيئة

{أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ(44)وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلا عَلَى الْخَاشِعِينَ(45)الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ(46)يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِي الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ(47)وَاتَّقُوا يَوْمًا لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلا هُمْ يُنصَرُونَ(48)}



المنَاسَبَة:

لا تزال الآيات تتحدث عن بني إسرائيل، وفي هذه الآيات ذمٌ وتوبيخ لهم على سوء صنيعهم، حيث كانوا يأمرون بالخير ولا يفعلونه، ويدعون الناس إلى الهدى والرشاد ولا يتبعونه.



سَبَبُ النّزول:

نزلت هذه الآية في بعض علماء اليهود، كانوا يقولون لأقربائهم الذين أسلموا: اثبتوا على دين محمد فإِنه حق، فكانوا يأمرون الناس بالإِيمان ولا يفعلونه.



يخاطب الله أحبار اليهود فيقول لهم على سبيل التقريع والتوبيخ {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ} أي أتدعون الناس إِلى الخير وإِلى الإِيمان بمحمد {وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ} أي تتركونها فلا تؤمنون ولا تفعلون الخير {وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ} أي حال كونكم تقرؤون التوراة وفيها صفة ونعت محمد عليه الصلاة والسلام {أَفَلا تَعْقِلُونَ} أي أفلا تفطنون وتفقهون أنّ ذلك قبيح فترجعون عنه؟!.

الخطاب في الآية لا ينطبق على اليهود فقط، بل على كل من سلك مسلكهم.

فالدين كلمة تقال وسلوك يفعل فإذا انفصلت الكلمة عن السلوك ضاعت الدعوة، لأن من يراك تفعل ما تنهاه عنه يدرك أنك خادع وغشاش، ولذا قال الحق سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ} [الصف: 2-3].

فلا بد للقول من عمل وهو ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما أمر أصحابه بشيء إلا كان أسبقهم إليه، ولذا أمرنا الله تعالى باتخاذه قدوة فقال: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} [الأحزاب: 21].

وكان سيدنا عمر رضي الله عنه إذا أراد أن يأمر الرعية بشيء بدأ بنفسه وأهله قائلاً: "لقد بدا لي أن آمر بكذا وكذا، والذي نفسي بيده من خالف منكم لأجعلنه نكالاً للمسلمين".

فلا بد للعلماء والدعاة أن يكونوا قدوة إذا أرادوا إصلاح المجتمع، وهو المنهج الذي انتشر به الإسلام في كثير من البلدان كالصين عبر التجار المسلمين الملتزمين بتعاليم الإسلام.

ثم بيَّن لهم تعالى طريق التغلب على الأهواء والشهوات، والتخلص من حب الرياسة وسلطان المال فقال {وَاسْتَعِينُوا} أي اطلبوا المعونة على أموركم كلها {بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ} أي بتحمل ما يشق على النفس من تكاليف شرعية، وبالصلاة التي هي عماد الدين { وَإِنَّهَا} أي الصلاة {لَكَبِيرَةٌ} أي شاقة وثقيلة {إِلا عَلَى الْخَاشِعِينَ} أي المتواضعين المستكينين الذين صفت نفوسهم لله {الَّذِينَ يَظُنُّونَ} أي يعتقدون اعتقاداً جازماً لا يخالجه شك {أَنَّهُمْ مُلاقُو رَبِّهِمْ} أي سيلقون ربهم يوم البعث فيحاسبهم على أعمالهم {وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} أي معادهم إِليه يوم الدين.

طلب الله تعالى منهم في الآية الاستعانة بالصبر والصلاة ثم قال: {وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ} ولم يقل (وإنهما) فهل المقصود الصلاة فقط، أم الصبر والصلاة معاً؟

المقصود الأمران معاً وإنما اقتصر على واحدة لأنهما يؤديان نفس العلاج، كقوله تعالى: {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انفَضُّوا إِلَيْهَا} [الجمعة: 11] ولم يقل (إليهما) لاشتراكهما في نفس العمل وهو شغل المؤمنين عن العبادة والذكر فكذلك الأمر بالصبر والصلاة، فلا يتم الصبر بلا صلاة ولا تتقن الصلاة إلا بالصبر.

والمراد بالخشوع في قوله تعالى: {إِلا عَلَى الْخَاشِعِينَ}، وهو الخضوع لمن ترى أنه فوقك بلا منازع، وهو ما يجعلك تستحضر عظمة الحق سبحانه وتعرف ضآلة قيمتك أمام قدرته جل جلاله في إبداع هذا الكون الفسيح، وتعلم أن ما عندك هو في قبضة الله يسلبه عنك في أي لحظة، لأننا تعيش في عالم الأغيار، فعلينا أن نخضع لمن يُغَيّر ولا يتغيّر جل جلاله وعظمت قدرته.

ثم ذكّرهم تعالى بنعمه وآلائه العديدة مرة أخرى فقال {يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِي الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ} بالشكر عليها بطاعتي {وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ} أي فضلت آباءكم {عَلَى الْعَالَمِينَ} أي عالمي زمانهم بإِرسال الرسل، وإِنزال الكتب، وجعلهم سادة وملوكاً، وتفضيل الآباء شرفٌ للأبناء.

{وَاتَّقُوا يَوْمًا لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا} أي خافوا ذلك اليوم الرهيب الذي لا تقضي فيه نفسٌ عن أخرى شيئاً من الحقوق {وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ} أي لا تقبل شفاعة في نفس كافرة بالله أبداً {وَلا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ} أي لا يقبل منها فداء {وَلا هُمْ يُنصَرُونَ} أي ليس لهم من يمنعهم وينجيهم من عذاب الله.

هذه الآية وردت مرتين والصدد ذاته، ولكن الآية الأولى {وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلا هُمْ يُنصَرُونَ}، والثانية {وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلا تَنفَعُهَا شَفَاعَةٌ...} ولا تكرار في ذلك، لأن الأولى تتعلق بالنفس التي تريد أن تشفع لمن أسرف على نفسه فلا يقبل منها، ثم تطلب العدل وهو الفدية فلا يقبل منها، وأما الثانية فهي تخص النفس المسرفة، فتطلب العدل أولاً (ارجعنا نعمل صالحاً) فلا يقبل منها، ثم تبحث عن الشفعاء فلا تنفعها الشفاعة.



ما يستخلص من الآيات [44-48]:

1- الصدق مع الناس من الصفات الأساسية التي يجب على المسلم أن يتحلى بها، ومِنْ مقتضى هذا الصدق أن يكون قوله مطابقاً لفعله حتى يؤثر في الآخرين، ومَنْ خالف ذلك فهو ممقوت عند الله لقوله سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ} [الصف: 2-3] خصوصاً إذا كان هذا المُخالِف مِنَ العلماء.

2- لا بد للطاعة من صبر، ولا بد لترك المعصية من صبر، وخير معين على ذلك الدخول على الله تعالى وطلب العون منه أثناء الصلاة بكل خضوع وتذلل وافتقار، لأن أقرب ما يكون العبد إلى ربه وهو ساجد في صلاته.

3- موازين الآخرة غير موازين الدنيا، فالمجرم في الدنيا يمكن تخليصه وتبرئته بالوساطات والشفاعات عند مَنْ لا يخافون الله تعالى، وأما في الآخرة فهو خاضع لقوله تعالى: {وَاتَّقُوا يَوْمًا لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلا هُمْ يُنصَرُونَ}، {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ}.

4- الشفاعة المرفوضة يوم القيامة هي شفاعة الكافرين، فقد أجمع المفسرون على أن المراد بقوله تعالى: {وَاتَّقُوا يَوْمًا لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ…} النفس الكافرة، لا كل نفس. أما المؤمنون فتنفعهم الشفاعة بإذن الله تعالى لقوله تعالى: {وَلا يَشْفَعُونَ إِلا لِمَنِ ارْتَضَى} [الأنبياء: 28]، وقوله: {وَلا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} [سبأ: 23]، وقد وردت أحاديث كثيرة تفيد ذلك.

5- تفضيل بني إسرائيل على العالمين ليس على إطلاقه.

فمن حيث الزمان فهو مرتبط بفترة زمانية سابقة لالتزامهم بشرع الله تعالى {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ}، وغضب عليهم ولعنهم.

ومن حيث الأشخاص، لا تقتضي هذه الأفضلية بأن يكون كل فرد منهم أفضل من كل فرد من غيرهم، فهو تفضيل من حيث الجملة لا من حيث التفصيل.



نِعَمُ الله العشر على بني إسرائيل

{وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ(49)وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ(50)وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ(51)ثُمَّ عَفَوْنَا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ(52) وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ(53)وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ(54)}



المنَاسَبَة:

لَمَّا قدّم تعالى ذكر نعمه على بني إِسرائيل إِجمالاً، بيَّن بعد ذلك أقسام تلك النعم على سبيل التفصيل، ليكون أبلغ في التذكير وأدعى إِلى الشكر، فكأنه قال: اذكروا نعمتي، واذكروا إِذ نجيناكم من آل فرعون، واذكروا إِذ فرقنا بكم البحر... إِلى آخره وكل هذه النعم تستدعي شكر المنعم جل وعلا لا كفرانه وعصيانه.



{وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ} أي اذكروا يا بني إسرائيل نعمتي عليكم حين نجيت آباءكم {مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ} أي من بطش فرعون وأشياعه العتاة، والخطاب للأبناء المعاصرين للنبي صلى الله عليه وسلم إِذ أنّ النعمة على الآباء نعمة على الأبناء {يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ} أي يولونكم ويذيقونكم أشد العذاب وأفظعه. والسوء هو المشتمل على ألوان شتى من العذاب كالجلد والأعمال الشاقة ونحوها.

{يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءكُمْ} أي يذبحون الذكور من الأولاد {وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءكُمْ} أي يستبقون الإِناث على قيد الحياة للخدمة {وَفِي ذَلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ} أي فيما ذكر من العذاب المهين من الذبح والاستحياء، محنة واختبارٌ عظيم لكم من الله تعالى بتسليطهم عليكم ليتميز البرُّ من الفاجر.

قوله تعالى {وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ} ورد في موضع آخر بـ {وإذ أنجيناكم من آل فرعون…}، وهناك فرق كبير بين كلمة "نَجَّى" وكلمة "أَنْجى"، فكلمة نَجّى تكون وقت نزول العذاب، وكلمة أَنْجى تمنع عنهم العذاب، الأولى للتخليص من العذاب والثانية لإبعاده نهائياً ففضل الله عليهم كان على مرحلتين: الأولى أنه خلّصهم من عذاب واقع عليهم، والثانية أبعدهم عن آل فرعون فخلّصهم منه نهائياً.

{وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ} أي اذكروا أيضاً إِذ فلقنا لكم البحر حتى ظهرت لكم الأرض اليابسة فمشيتم عليها {فَأَنْجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ} أي نجيناكم من الغرق وأغرقنا فرعون وقومه، وذلك أن موسى عليه السلام عندما رأى فرعون وجيشه يتّجهون إلى البحر ليعبروه أراد أن يضرب البحر ليعود إلى السيولة، فلا يلحق بهم آل فرعون، أوحى الله تعالى إليه: {وَاتْرُكْ الْبَحْرَ رَهْوًا إِنَّهُمْ جُندٌ مُغْرَقُونَ} أي اتركه كما هو حتى يتبعكم فرعون وجيشه ليهلكوا {وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ} أي وأنتم تشاهدون ذلك فقد كان آية باهرة من آيات الله في إِنجاء أوليائه وإِهلاك أعدائه.

والله تعالى أراد أن يرى بنو إسرائيل آل فرعون وهم يغرقون ليذهب غيض قلوبهم على أعدائهم، وتحتمل معنى آخر وهو أن ينظر بعضكم إلى بعض وأنتم غير مصدقين أنكم نجوتم من هذا البلاء وفي نفس الوقت تطمئنون إلى أن عدوكم لن يطاردكم مرة أخرى لأنكم رأيتم مصرعه بأُمّ أعينكم.

وفرعون: لقب لكل مَنْ ملك مصر قبل البطالسة، مثل قيصر لملك الروم، وكسرى لملك الفرس، وتُبّع لملك اليمن، والنجاشي لملك الحبشة.

{وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً} أي وعدنا موسى أن نعطيه التوراة بعد أربعين ليلة وكان ذلك بعد نجاتكم وإِهلاك فرعون {ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ} أي عبدتم العجل {مِنْ بَعْدِهِ} أي بعد غيبته عنكم حين ذهب لميقات ربه {وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ} أي معتدون في تلك العبادة ظالمون لأنفسكم.

أصل هذا الذهب الذي صنع لهم السامريُّ منه عجلاً من الحليّ التي أخذوها خِلسة من نساء آل فرعون أثناء خدمتهم لهن، ولذا فتنهم الله بالمال الحرام، لأن المال الحرام لا يأتي منه خير، بل ينقلب على صاحبه شراً ووبالاً، فلا بد من أخذ العبرة مما حصل لهم، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال: "إن الله طَيّب ولا يقبل إلا طيّباً" [رواه مسلم].

{ثُمَّ عَفَوْنَا عَنْكُمْ} أي تجاوزنا عن تلك الجريمة الشنيعة {مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ} أي من بعد ذلك الاتخاذ المتناهي في القبح {لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} أي لكي تشكروا نعمة الله عليكم وتستمروا بعد ذلك على الطاعة.

{وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ} أي واذكروا نعمتي أيضاً حين أعطيت موسى التوراة الفارقة بين الحق والباطل وأيدته بالمعجزات {لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} أي لكي تهتدوا بالتدبر فيها والعمل بما فيها من أحكام.

والكتاب: هو التوراة. وأمّا الفرقان: فقد اختلفوا في تفسيره، فقيل هو مرادف للكتاب من باب التأكيد، وقيل هي الأشياء التي يُفَرق الله بها بين الحق والباطل ولقد عَلَّمها الحق تعالى لموسى عليه السلام، وتطلق هذه الكلمة على كل ما يُفَرق بين الحق والباطل ولذلك سمى الله يوم بدر بقوله: {وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ}.

ثم بَيَّنَ تعالى كيفية وقوع العفو المذكور بقوله: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنفُسَكُمْ} أي واذكروا حين قال موسى لقومه بعدما رجع من الموعد الذي وعده ربه فرآهم قد عبدوا العجل يا قوم لقد ظلمتم أنفسكم {بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ} أي بعبادتكم للعجل {فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ} أي توبوا إِلى من خلقكم بريئاً من العيب والنقصان {فَاقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ} أي ليقتل البريء منكم المجرم {ذَلِكُمْ} أي القتل {خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ} أي رضاكم بحكم الله ونزولكم عند أمره خير لكم عند الخالق العظيم {فَتَابَ عَلَيْكُمْ} أي قبل توبتكم {إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} أي عظيم المغفرة واسع التوبة.

وقوله تعالى: {فَاقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ} جزاء لها على عبادة غير الله، فكان تكفير الذنب أن ترد هذه النفس إلى بارئها بالقتل، وقد أوقفهم موسى عليه السلام صفوفاً وأمر الذين لم يعبدوا العجل بقتل الذين عبدوا العجل وعندما قتل منهم قرابة سبعين ألفاً استصرخ موسى وهارون ربهما وقالا: "البكية البكية، أي: أبكوا عسى أن يعفوا الله عنهم، ووقفوا يبكون أمام حائط المبكى فرحمهم الله.



ما يستخلص من الآيات [49-54]:

1- لكل ظالم متكبر نهاية وخيمة، ففرعون كان هلاكه بالإغراق، وقارون بالخسف وغيرها بشتى أنواع البلاء الذي ذكره القرآن {وَكَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ} الذين جاؤوا من بعدهم إلى يوم القيامة.

ولكل مستضعف مظلوم فرج قريب ونصر محقق طال الزمن أو قصر، كما جاء في الحديث القدسي: "وعزتي وجلال لأنصرنك ولو بعد حين".

2- نصرة المظلوم على عدوه نعمة إلهية تستوجب الشكر، ولذا اتخذ بنو إسرائيل يوم عاشوراء الذي أنجاه الله فيه من الغرق عيداً يتقربون فيه إلى الله بالصيام، وعندما قدم رسول الله صلى اللهعليه وسلم المدينة ووجدهم على ذلك، قال لهم: ما هذا اليوم الذي تصومونه؟ فقالوا: هذا يوم عظيم أنجى الله فيه موسى وقومه وغرّق فرعون وقومه، فصامه موسى شكراً فنحن نصومه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم فنحن أحق وأولى بموسى منكم فصامه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمر أصحابه بصيامه [رواه مسلم]. وقال الترمذي: وروي عن ابن عباس أنه قال: "صوموا التاسع والعاشر وخالفوا اليهود"، واحتج بهذا الحديث الشافعي وأحمد وإسحاق.

والشكر هو: الاجتهاد في بذل الطاعة مع الاجتناب للمعصية في السر والعلانية، كما قال سهل بن عبيد الله.

3- المبادرة إلى التوبة هي السبيل إلى التخلص من المعصية، والله جل جلاله {غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ} [غافر: 3]، بل إنه تعالى يغفر جميع الذنوب {قُلْ يَا عِبَادِي الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا} [الزمر: 53].

4- الصبر هو مفتاح الفرج، قال القشيري: من صبر في الله على قضاء الله عوضه الله صحبة أوليائه، هؤلاء بنو إسرائيل صبروا على مقاساة الضر من فرعون وقومه فجعل منهم أنبياء وجعل منهم ملوكاً وآتاهم ما لم يؤت أحداً من العالمين [البحر المحيط 1/194].

إلا أن الصبر لا يعني أبداً الرضا بالضيح، فالمسلم لا يعرف الذل والخنوع، بل عليه أن يقاوم الظلم والاستبداد بالوسائل التي شرعها الله له {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ}.

5- إن الله تعالى ذكر لنا في هذه الآيات طريقة تخلص بني إسرائيل من أوزارهم بالقتل ليظهر عظيم فضله على هذه الأمة المحمدية حيث إنه تعالى خَفَّف عنها ووضع عنها الأغلال التي كانت على الأمم السابقة، قال تعالى في وصف نبيه عليه الصلاة والسلام: {وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} [الأعراف: 157] استجابة لدعاء عباده الذي علمهم إياه في سورة البقرة {رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا} [البقرة: 286].

فمن ارتكب من أمة محمد صلى الله عليه وسلم وِزْراً لا يتعلق بحقوق الآخرين أجزأته التوبة النصوح بينه وبين الله تعالى.



تتمة النِّعَم العشر على بني إسرائيل

{وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ(55)ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ(56)وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ(57)وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ(58)فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ(59)وَإِذْ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ(60)}



المنَاسَبَة:

بعد أن ذكّر تعالى بني إسرائيل بالنعم، بيَّن لوناً من ألوان طغيانهم وجحودهم، وتبديلهم لأوامر الله، وهم مع الكفر والعصيان، يعاملون باللطف والإِحسان، فما أقبحهم من أمة وما أخزاهم!! قال الطبري: لما تاب بنو إِسرائيل من عبادة العجل أمر الله تعالى موسى أن يختار من قومه رجالاً يعتذرون إِليه من عبادتهم العجل، فاختار موسى سبعين رجلاً من خيارهم كما قال تعالى {وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِمِيقَاتِنَا} وقال لهم: صوموا وتطهروا وطهّروا ثيابكم ففعلوا، وخرج بهم إِلى "طور سيناء" فلما دنا موسى من الجبل وقع عليه الغمام حتى تغشى الجبل كله، ودنا القوم حتى إِذا دخلوا في الغمام وقعدوا سجوداً، وعلموا من حال موسى أن الله يكلمه يأمره وينهاه، فلما انكشف عن موسى الغمام أقبل إِليهم فقالوا لموسى {لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً}.



{وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى} أي اذكروا يا بني إِسرائيل حين خرجتم مع موسى لتعتذروا إِلى الله من عبادة العجل فقلتم { لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ} أي لن نصدّق لك بأنَّك رسول من عند الله {حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً} أي حتى نرى الله علانية.

وسؤالهم رؤية الله جهرة، هو سؤال عناد وحماقة، لأن الله تعالى فوق المادة، {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الأنعام: 103].

والدليل على ذلك أن الإنسان ذاته مكوّن من روح ومادة، وقد أوصله علمه عبر السنين الطوال من حلقات البحث المتسلسلة إلى إدراك بعض الجوانب المادية في جسمه، ولكنه عجز عن إدراك حقيقة الروح فضلاً عن رؤيتها {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلا قَلِيلا}

[الإسراء: 85]، {وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ} [الذاريات: 21]، فإذا عجز عن إدراك هذه الروح التي في جسده وهي مخلوقة فكيف يطمع أن يدرك، أو يرى الله جهرة وهو الخالق المصوِّر؟!

{فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ} أي أرسل الله عليهم ناراً من السماء فأحرقهم {وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ} أي ما حلّ بكم ثم لما ماتوا قام موسى يبكي ويدعو الله ويقول: ربّ ماذا أقول لبني إِسرائيل وقد أهلكت خيارهم، ومازال يدعو ربه حتى أحياهم قال تعالى {ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ} أي أحييناكم بعد أن مكثتم ميتين يوماً وليلة، فقُاموا وعاشوا ينظر بعضهم إِلى بعض كيف يحيون {لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} أي لتشكروا الله على إِنعامه عليكم بالبعث بعد الموت.

ثم ذكّرهم تعالى بنعمته عليهم وهم في التيه لما امتنعوا من دخول مدينة الجبارين وقتالهم وقالوا لموسى {فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا} فَعُوقِبُوا على ذلك بالضياع أربعين سنة يتيهون في الأرض فقال تعالى: {وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ} أي سترناكم بالسحاب من حر الشمس وجعلناه عليكم كالظُلَّة {وَأَنزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى} أي أنعمنا عليكم بأنواعٍ من الطعام والشراب من غير كدٍّ ولا تعب،والمنُّ كان ينزل عليهم مثل العسل فيمزجونه بالماء ثم يشربونه، والسلوى: طير يشبه السماني لذيذ الطعم.

{كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} أي وقلنا لهم كلوا من لذائذ نعم الله {وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} أي أنهم إذ كفروا هذه النعم الجليلة، ما ظلمونا ولكن ظلموا أنفسهم، لأن وبال العصيان راجع عليهم.

قال الشيخ الشعراوي: إن الدنيا عالم أغيار، والنعمة التي أنت فيها زائلة عنك، إما أن تتركها بالموت أو تتركك وتزول عنك. وتخرج من الدنيا تحمل أعمالك فقط، كل شيء زال وبقيت ذنوبك تحملها إلى الآخرة، ولذلك فإن كل من عصى الله وتمرّد على دينه قد ظلم نفسه لأنه قادها إلى العذاب الأبدي طمعاً في نفوذ أو مال زال عنه فترة قصيرة ولم يدم. فكأنه ظلمها بأن حرمها من نعيم أبدي وأعطاها شهوة قصيرة عاجلة.

{وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ} أي واذكروا أيضاً نعمتي عليكم حين قلنا لكم بعد خروجكم من التيه، ادخلوا بيت المقدس {فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا} أي كلوا منها أكلاً واسعاً هنيئاً {وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا} أي وادخلوا باب القرية ساجدين لله شكراً على خلاصكم من التيه {وَقُولُوا حِطَّةٌ} أي قولوا يا ربنا حطَّ عنا ذنوبنا واغفر لنا خطايانا {نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ} أي نمح ذنوبكم ونَكَفِّرْ سيئاتكم {وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ} أي نزيد من أحسن إحساناً، بالثواب العظيم، والأجر الجزيل.

{فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا} أي غَيَّر الظالمون أمر الله فقالوا {قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ} حيث دخلوا يزحفون على "أدبارهم" وقالوا على سبيل الاستهزاء "حِنْطة" وهي القمح، ليطوعوا اللفظ لأغراضهم فكأن المسألة ليست عدم قدرة على الطاعة ولكن رغبة في المخالفة وسخرية من أوامر الله. {فَأَنزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ} أي أنزلنا عليهم طاعوناً وبلاءً {بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} أي بسبب عصيانهم وخروجهم عن طاعة الله، روي أنه مات بالطاعون في ساعة واحدة منهم سبعون ألفاً.

{وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ} أي اذكروا يا بني إِسرائيل حين طلب موسى السقيا لقومه وقد عطشوا في التيه {فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ} أي اضرب أيّ حجر كان تتفجر بقدرتنا العيون منه {فَانفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا} أي فضرب فتدفق الماء منه بقوة وخرجت منه اثنتا عشرة عيناً بقدر قبائلهم.

وهنا ينبغي أن نقف وقفة، فالإنسان حين يستسقي الله يطلب منه أن ينزل عليه ماء من السماء، والحق جل جلاله كان قادراً على إنزاله من السماء، ولكنه تعالى أرادها معجزة لبني إسرائيل فسقاهم من الحجر التي تحت أرجلهم، ليعلموا أنه يستطيع أن يأتي بالماء من الحجر الصلب، وأن نبع الماء من متعلقات "كُنْ فيكون" وإن اقتضت حكمته تعالى ربط الأسباب بمسبباتها.

وصح هذا فقد تعنت بنو إسرائيل وقالوا لموسى عليه السلام: هب أننا في مكان لا حجر فيه، من أين ينبع الماء؟ فلا بد أن نأخذ معنا الحجر حتى عطشنا ضربت الحجر وشربنا. وقد نسوا أن سقوا بكلمة "كُنْ" لا بالحجر، ولكنهم قوم لا يؤمنون إلا بما يرونه بأُمِّ أعينهم.

{قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ} أي علمت كل قبيلة مكان شربها لئلا يتنازعوا {كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ} أي قلنا لهم: كلوا من المنّ والسلوى، واشربوا من هذا الماء، من غير كدّ منكم ولا تعب، بل هو من خالص إِنعام الله {وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ} أي ولا تطغوا في الأرض بأنواع البغي والفساد.



ما يستخلص من الآيات [55-60]:

1- تذكير القرآن بني إسرائيل المعاصرين بما أنعمه الله من نعم على أصولهم فيه دلالة على أن الفرع يتأثر بسلوك الأصل إن خيراً فخيراً وإن شراً فشراً. ولذا قال الحق تعالى: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} [الأنفال: 25]. وقال أيضاً في كنز الغلامين اليتيمين: {وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ} [الكهف: 82]، فكان صلاح الأب أو الجد سبباً في صلاح الابن وحفظ ما تركه له من مال.

2- أفاد قوله تعالى: {وَلَكِنْ كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ}، أن الله تعالى لا تضره معصية العاصي ولا تنفعه طاعة الطائع، وهو معنى قوله: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ} [يونس: 23].

3- تفجير الماء من الحجر، هي من المعجزات التي أجراها الله على يد موسى عليه السلام. وكان الله قادراً على تفجير الماء وفلق البحر من غير ضرب عصا، ولكنه جلّت قدرته أراد أن يعلم عباده ربط المسببات بأسبابها، لكي يسعوا إلى الأخذ بها. وكذلك الحال بالنسبة لسائر المعجزات، وكذلك تقريب لفهم المعجزة.

4- تحريف الكالم وتبديله صفة عريقة في بني إسرائيل، فقال لهم الله تعالى: {وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ} فقالوا: حِنْطَة، أي: القمح، وموسى عليه السلام بين أظهرهم، فكيف وقد غاب عنهم؟ فاليوم يتفقون معك على شيء وغداً يحرفونه ويبدلونه والعرب في سباتهم نائمون.

5- أفادت آية: {وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى} تقرير سنة الاستسقاء بإظهار سنة العبودية والفقر والذلة مع التوبة النصوح، وتكون بخروج الإمام -أو من ينوب عنه- مع المسلمين إلى المصلى للخطبة والصلاة والدعاء لما رواه مسلم عن عبد الله بن زيد المازيني قال: "خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المصلى فاستسقى وحول رداءه ثم صلى ركعتين".

وذهب أبو حنيفة إلى أنه ليس من سنة الاستسقاء صلاة ولا خروج، وإنما هو دعاء لا غير، واحتج بحديث أنس في الصحيحين، وردّ عنه القرطبي بقوله: ولا حجة له فيه، فإن ذلك كان دعاء عُجِّلت إجابته فاكتفى به عما سواه ولم يقصد بذلك بيان سنته، ولما قصد البيان بيّن فعله بحديث مسلم السابق. [انظر القرطبي ج1/418].

6- دَلَّ قوله تعالى {كُلُوا واشْرَبوا} وقوله { وَلا تَعْثَوا في الأرْضِ مُفْسِدين} على إباحة النعم والتمتع بها، والنهي عن المعاصي والإنذار بعقوبتها وأضرارها.



بعض مطامع اليهود وجزاؤهم

{وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمْ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُو بِغَضَبٍ مِنْ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ(61)}



{وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى} أي اذكروا يا بني إِسرائيل حين قلتم لنبيكم موسى وأنتم في الصحراء تأكلون من المنّ والسلوى {لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ} أي على نوع واحدٍ من الطعام وهو المنُّ والسلوى وقد وُصِفَ الطعام هنا بأنه واحد مع أنه مكوّن من صنفين لأنه كان يأتيهم من جهة واحدة من السماء، فتطلعت أنظارهم الأرض، فقالوا: {فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الأَرْضُ} أي ادع الله أن يرزقنا غير ذلك الطعام فقد سئمنا المنَّ والسلوى وكرهناه ونريد ما تخرجه الأرض من الحبوب والبقول {مِنْ بَقْلِهَا} من خضرتها كالنعناع والكرفس والكراث {وَقِثَّائِهَا} يعني القتَّة التي تشبه الخيار {وَفُومِهَا} أي الثوم {وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا} أي العدس والبصل المعروفان.

أراد الله تعالى أن يرفع من قدرهم فأنزل عليهم المنّ والسلوى من غير تعب منهم ولكنهم فضلوا الحنين إلى طعام العبيد، فطلبوا ما تخرجه الأرض من بقلها وقثائها وفومها وعدسها وبصلها. فعتب الحق جلّ جلاله عليهم لعلهم يرجعون.

{قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ} أي قال لهم موسى مُنْكِراً عليهم: ويْحَكُم أتستبدلون الخسيس بالنفيس! وتفضلون البصل والبقل والثوم على المنّ والسلوى؟

فائدة: تدخل الباء بعد كلمة الاستبدال على المتروك، فتقول: اشتريت الثوب بدرهم، أي أخذت الثوب وتركت الدرهم. فبنو إسرائيل تركوا الذي هو خير وهو المنّ والسلوى وأخذوا الذي هو أدنى، بمعنى أنه دونه رتبة في الخيرية، لا بمعنى أنه دنيء لأن رزق الله المباح لا يوصف بالدناءة.

{اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ} أي ادخلوا مصراً من الأمصار وبلداً من البلدان أيّاً كان لتجدوا فيه مثل هذه الأشياء.

ومن الممكن أن تكون مصر التي عاش فيها فرعون.

وكلمة مصر تطلق على كل مكان له مفتي وأمير وقاض، وهي مأخوذة من الاقتطاع، لأنه مكان يقطع امتداد الأرض الخلاء.

ثم قال تعالى منبهاً على ضلالهم وفسادهم وبغيهم وعدوانهم {وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمْ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ} أي لزمهم الذل والهوان وضرب عليهم الصغار والخزي الأبدي الذي لا يفارقهم مدى الحياة {وَبَاءُو بِغَضَبٍ مِنْ اللَّهِ} أي انصرفوا ورجعوا بالغضب والسخط الشديد من الله {ذَلِكَ} أي ما نالوه من الذل والهوان والسخط والغضب بسبب ما اقترفوه من الجرائم الشنيعة {بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُون النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ} أي بسبب كفرهم بآيات الله جحوداً واستكباراً، وقتلهم أنبياء الله ظلماً وعدواناً {ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ} أي بسبب عصيانهم وطغيانهم وتمردهم عَلى أحكام الله.

فائدة: فإن قيل: كيف جاز أن يخلى بين الكافرين وقتل الأنبياء؟ أجيب: بأن ذلك كرامة لهم، وزيادة في منازلهم، كمثل من يُقتل في سبيل الله من المؤمنين، وليس ذلك بِخذْلان لهم. قال ابن عباس والحسن البصري: لم يُقتل نبي قط من الأنبياء إلا من لم يؤمر بقتال، وكلّ من أمر بقتال نُصِر.



ما يستخلص من الآيات [61]:

1- ترك الأفضل من المطعومات وطلب الأدنى منه من بصل وعدس وثوم ونحوها، دليل على أن النفس البشرية قد تبدّل الطيّب بالخبيث، والأرقى بالأدنى. قال الحسن البصري: كان اليهود نتانى أهل كرّاث وأبصال وأعداس، فنزلوا إلى عكرهم -أي أصلهم- عِكْرَ السوء، واشتاقت طباعهم إلى ما جرت عليه عادتهم، فقالوا (لن نصبر على طعام واحد)، وقولهم (لن نصبر) يدل على كراهتهم ذلك الطعام، وعدم الشكر على النعمة دليل الزوال، فكأنهم طلبوا زوالها ومجيء غيرها.

2- حكم أكل الثوم والبصل وما له رائحة.

3- أفاد قوله تعالى: {أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ} أن الله تعالى يخلق الأرزاق وغيرها بالأسباب، وبالأمر المباشر بكلمة (كُنْ) وما يخلقه بغير سبب يكون أفضل مما خلقه بسبب، لأن الخلق المباشر عطاء خالص من الله تعالى ولا دخل ليد الإنسان فيه، فما كان خالصاً من عطاء الله فهو قريب من عطاء الآخرة، ولذا قال تعالى: {وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى} فوصف رزق الدنيا بأنه فتنة، ووصف رزق الآخرة بأنه خير وأبقى.

4- لم يستجب بنو إسرائيل إلى تأنيب الله لهم، وأصروا على استبدال ما هو أدنى بما هو خير، فأجابهم الله لذلك وقال لهم: {اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ} واستعمل البيان القرآني كلمة {اهبِطُوا} ليعبِّر عن نزولهم من الأعلى إلى الأدنى.

5- الجزاء الذي أنزله الله باليهود من الذلة والمسكنة وإحلال الغضب بهم، هو حق وعدل لأنه مطابق لجرائمهم، وهي: الاستكبار عن اتباع الحق وكفرهم بآيات الله، وإهانتهم الأنبياء لدرجة أن سوّلت لهم أنفسهم قتلهم بغير حق لأن الأنبياء معصومون من أن يصدر منهم ما يقتلون به، ولذا قال تعالى: {بغير حق}. وقد روى الإمام أحمد عن ابن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أشد الناس عذاباً يوم القيامة: رجل قتله نبي أو قَتَل نبياً، وإمام ضلالة، وممثل من الممثلين -أي بالتمثيل بالقتلى-".

6- الفرق بين الأنبياء والرسل: الأنبياء أسوة سلوكية يوحى إليهم ولكنهم لا يأتون بمنهج جديد، وأما الرسل فهو أسوة سلوكية يوحى إليهم بمنهج جديد، ولذلك كان كل رسول نبياً وليس كل نبي رسولاً. والله تعالى يعصم أنبياءه ورسله من الخطيئة، ويعصم رسله من القتل بخلاف الأنبياء فهم عرضة للقتل. وقد بعث الله أنبياءه لبني إسرائيل ليقتدوا بهم فقتلوهم لأنهم فضحوا كذبهم وفسقهم وانحرافهم، وذلك حال المنحرف في كل زمان فإنه يكره الملتزم ويحاول إزالته عن طريقه ولو بالقتل.



عاقبة المؤمنين

{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ(62)}



سبب النزول:

قال سلمان الفارسي: سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن أهل دِين كنت معهم، فذكرت من صلاتهم وعبادتهم فنزلت: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا} الآية. وأخرج الواحدي عن مجاهد قال: لما قص سلمان على رسول الله صلى الله عليه وسلم قصة أصحابه قال: هم في النار. قال سلمان: فأظلمت عليَّ الأرض، فنزلت {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا} إلى قوله: {يَحْزَنُونَ} قال: فكأنما كُشِفَ عني جبل.



المناسبة:

اتبع الأسلوب القرآني منهج التذكير في ثنايا بيان القصة القرآنية، وفتح باب الأمل لدفع اليأس والقنوط أثناء توضيح الأسباب الموجبة للعقاب، للفت النظر وجذب الانتباه، وهكذا كان الأمر هنا، فبعد أن ذكَّر الله اليهود بأفعال أسلافهم قديماً، وأوضح مصيرهم وجزاءهم، ليعتبر المعاصرون، أورد مبدأً عاماً لكل المؤمنين: وهو أن كل مؤمن بالله واليوم الآخر تمسَّكَ بحبل الدين المتين، وعمل صالحاً، فهو من الفائزين، سواء أكان من أتباع محمد صلى الله عليه وسلم أم من الذين هادوا أي تابوا من أتباع موسى عليه السلام، أم من الذين قالوا نحن أنصار الله من أتباع عيسى عليه السلام أم من الذين تركوا دينهم مطلقاً وأسلموا، قال تعالى: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} [الأنفال: 38].

دعا تعالى أصحاب المِلَل والنِّحَل "المؤمنين، واليهود، والنصارى، والصابئين" إِلى الإِيمان الصادق وإِخلاص العمل لله وساقه بصيغة الخبر فقال {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا} المؤمنون أتباع محمد {وَالَّذِينَ هَادُوا} أي الذين تابوا من أتباع موسى {وَالنَّصَارَى} الذين قالوا نحن أنصار الله من أتباع عيسى {وَالصَّابِئِينَ} قوم عدلوا عن اليهودية والنصرانية وعبدوا الملائكة {مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} أي من آمن من هذه الطوائف إيماناً صادقاً فصدَّق بالله، وأيقن بالآخرة وترك عقائد الشرك من التشبيه أو الكفر برسالة الإسلام وإنكار نبوة محمد صلى الله عليه وسلم فصار مسلماً {وَعَمِلَ صَالِحًا} أي عمل بطاعة الله في دار الدنيا {فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ} أي لهم ثوابهم عند الله لا يضيع منه مثقال ذرة {وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} أي ليس على هؤلاء المؤمنين خوف في الآخرة، حين يخاف الكفار من العقاب، ويحزن المقصرون على تضييع العمر وتفويت الثواب.



ما يستخلص من الآيات [62]:

أفادت هذه الآية أن مدار الفوز على الإيمان بالله واليوم الآخر وعلامة ذلك العمل الصالح، لأن الإيمان إن لم يقترن بالعمل الصالح فهو عرضة للزوال، ولذا فقد قرن الإيمان بالعمل الصالح في كثير من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية كما قُرِنت الصلاة بالزكاة، ولذا ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ليس الإيمان بالتمني ولا بالتحلي، ولكن الإيمان ما وقر في القلب وصدّقه العمل".



بعض جرائم اليهود وعقابهم

{وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ(63)ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنتُمْ مِنْ الْخَاسِرِينَ(64)وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ(65)فَجَعَلْنَاهَا نَكَالاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ(66)}.

yacine414
2011-03-26, 10:14
المنَاسَبَة:

لمّا ذكرهم تعالى بالنعم الجليلة العظيمة، أردف ذلك ببيان ما حلَّ بهم من نقم،جزاء كفرهم وعصيانهم وتمردهم على أوامر الله، فقد كفروا النعمة، ونقضوا الميثاق، واعتدوا في السبت فمسخهم الله إِلى قردة، وهكذا شأن كل أمةٍ عتت عن أمر ربها وعصت رسله.



{وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ} أي اذكروا يا بني إِسرائيل حين أخذنا منكم العهد المؤكد على العمل بما في التوراة.

وذلك بعد أن أنجاكم وأهلك عدوكم بالغرق ورجع موسى عليه السلام بالألواح والتوراة ووجدكم قد عبدتم العجل، ثم أعرضتم عن اتباع ما جاء فيها زاعمين أنها فوق طاقتكم، عندها كان التأديب الإلهي لكم بأن رفع جبل الطور فوقكم وخيّركم بين الامتثال لأوامره وبين أن يطبق عليكم الجبل.

{وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ} أي نتقناه حتى أصبح كالظلة فوقكم وقلنا لكم {خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ} أي اعملوا بما في التوراة بجدٍّ وعزيمة {وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ} أي احفظوه ولا تنسوه ولا تغفلوا عنه {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُون} أي لتتقوا الهلاك في الدنيا والعذاب في الآخرة، أو رجاء منكم أن تكونوا من فريق المتقين.

لما رأى بنو إسرائيل الجبل فوقهم سجدوا خاشعين على الأرض مما يدل على قبولهم المنهج والتكاليف الربانية، ولكنهم كانوا وهم ساجدون ينظرون إلى الجبل خشية الوقوع عليهم. ولذلك سجود اليهود إلى يومنا هذا على جهة من الوجه، بينما تنظر الجهة الأخرى إلى أعلى. ولو سألتهم لقالوا: نحمل التوراة ثم يهتزون منتفضين لأنهم اهتزوا ساعة دفع الجبل عنهم، وهو الوضع ذاته في كل صلاة.

{ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ} أي أعرضتم عن الميثاق بعد أخذه {فَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ} أي بقبول التوبة {وَرَحْمَتُهُ} بالعفو عن الزلة {لَكُنتُمْ مِنْ الْخَاسِرِينَ} أي لكنتم من الهالكين في الدنيا والآخرة.

فائدة: الفضل هو الزيادة عمّا تستحقه ولذا جاء في الحديث "سددوا وقاربوا وأبشروا فإنه لا يُدخِلُ أحداً الجنة عَمَلُه. قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله بمغفرة ورحمة" [رواه الشيخان وغيرهما]، لأن عمل الإنسان كله لا يعدل نعمة واحدة من نعم الله على الإنسان، فيأتي فضل الله ليدخله الجنة.

أما الرحمة فهي التي فتحت طريق التوبة لغفران الذنوب.

ومن رحمته تعالى وفضله على بني إسرائيل أن ذكر لهم أوصاف خاتم الأنبياء عليه الصلاة والسلام في التوراة ليخرجهم من الضلالة إلى الهدى ومن الخسران المبين إلى الفوز العظيم، ولكنهم استكبروا وجحدوا وتعنتوا فاستحقوا غضب الله تعالى.

قال تعالى: {فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ} [البقرة: 89].

{وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ} أي عرفتم ما فعلنا بمن عصى أمرنا حين خالفوا واصطادوا يوم السبت وقد نهيناهم عن ذلك.

والقصة معروفة عند اليهود -ولذا جاء التعبير القرآني {ولقد علمتم}- وهي أنتهم أرادوا يوماً للراحة فأعطاهم الله يوم السبت، وكانوا يعيشون على صيد السمك فأراد الله ابتلاءهم فحرم عليهم العمل يوم السبت، وجعل الحيتان تأتي في هذا اليوم وتطفوا على سطح الماء لتفتنهم، فإذا جاء صباح الأحد ذهبت بعيداً، فأرادوا التحايل على الله فصنعوا حياضاً عميقة، وكان السمك إذا دخلها صعب عليه الخروج منها فيصطادونه صبيحة الأحد. فبحماقة من يحتال على من يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور! فكان جزاؤهم:

{فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ} أي مسخناهم قردة بعد أن كانوا بشراً مع الذلة والإِهانة {فَجَعَلْنَاهَا} أي المسخة {نَكَالاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا} أي عقوبة زاجرة لمن شاهدها وعاينها {وَمَا خَلْفَهَا} وعبرة لمن جاء بعدها من الأمم ولم يشاهدها {وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ} أي عظةً وذكرى لكل عبدٍ صالحٍ متّقٍ لله سبحانه وتعالى.



ما يستخلص من الآيات [63-66]:

1- ذكرت هذه الآيات قصتين، الأولى: قصة رفع جبل الطور فوق بني إسرائيل، والثانية: قصة تحايل بني إسرائيل على الله.

الأولى: يؤخذ منها أن اليهود لا يعترفون ولا يلتزمون إلا بمنطق القوة، فلا حوار ينفع معهم، ولا عهود ولا مواثيق يثبتون عليها. والتاريخ خير شاهد على غدرهم وخيانتهم، فمبال بعض الناس يكذبون التاريخ ويعرضون عن كلام الله الشافي الواقي ويؤولونه على حسب ما تمليه عليهم أمزجتهم لتبرير مواقفهم، فتراهم يستشهدون بقوله تعالى: {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} ويطبّقونها في غير موضعها، ويعرضون عن قوله تعالى: {فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمْ الأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ} [محمد: 35].

ولا تعارض بين الآيتين، فمَن أراد السلم حقيقة وردّ الحقوق كاملة إلى أصحابها سالمناه، ومن أعرض ورفع شعار السلم ليسخر منّا أدّبناه بالقوة كما علّمنا ربُّنا الخبير بخفايا النفوس وما يصلح لكلٍّ منها.

الثانية: قصة تحايل بني إسرائيل على الله ومسخهم قردة: ذهب جمهور العلماء إلى أن الله تعالى مسخ المعتدين منهم بصيد السمك يوم السبت، فقال قتادة: صار الشبان قردة والشيوخ خنازير فما نجا إلا الذين نَهَوْا عن السوء -لما ذكر القرآن في سورة الأعراف- وهلك سائرهم.

وقال بعض العلماء: لمّا وجدوا أنفسهم قد تحولوا إلى خلق أقل من الإنسان لم يأكلوا ولم يشربوا حتى ماتوا. والإنسان إذا مُسخ لا يتناسل لكي ينقرض رحمة بمن جاء بعده قال تعالى: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام: 164]، فمقتضى العدل الإلهي ألاّ يتحمل الأبناء أوزار الآباء.

2- دلت هذه الآيات على أن المقصود بالكتب السماوية تلاوتها وفهمها للعمل بمقتضاها، وأما مجرد التغني بالألفاظ دون الوقوف على المعاني لفهم خطاب الشارع قصد التزامه فإنه يعرض صاحبه لغضب الله كما حَلَّ ببني إسرائيل، ولذا جاء في الحديث الذي رواه النسائي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إنّ من شرّ الناس رجلاً فاسقاً يقرأ القرآن لا يرعوي إلى شيء منه". وقال أيضاً: "رُبّ تالٍ للقرآن والقرآن يلعنه". ولا يكون ذلك إلا عند عدم تدبّره وترك العمل به.



قصة البقرة وإحياء الميت

{وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنْ الْجَاهِلِينَ(67)قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا فَارِضٌ وَلا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ(68)قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ(69) قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ(70)قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الأَرْضَ وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لا شِيَةَ فِيهَا قَالُوا الآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ(71)وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ(72)فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ(73)}.



المنَاسَبَة:

لما ذكر تعالى بعض قبائح اليهود وجرائمهم، من نقض المواثيق، واعتدائهم في السبت، وتمردهم على الله عز وجل في تطبيق شريعته المنزلة، أعقبه بذكر نوعٍ من مساوئهم ألا وهو مخالفتهم للأنبياء وتكذبيهم لهم، وعدم مسارعتهم لامتثال الأوامر التي يوحيها الله إِليهم، ثم كثرة اللجاج والعناد للرسل صلوات الله عليهم، وجفاؤهم في مخاطبة نبيّهم الكريم موسى عليه السلام، إلى أن ما هنالك من قبائح ومساوئ.

سبب هذه الحادثة العظيمة التي سميت أطول سورة باسمها، أن رجلاً من بني إسرائيل كان ثرياً جداً ولم يكن له وارث، فتآمر على ابن أخيه فقتله ليلاً ثم أخذ الجثة وألقاها في مكان قريب من إحدى القرى المجاورة ليتهموا بقتله. وكذلك كان الحال واحتدم الخلاف بينهم وأقارب القتيل، فذهبوا إلى موسى عليه السلام ليدعو ربه فيكشف القاتل، فاستجاب الله دعاءه وأمرهم بذبح البقرة.

{وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} أي اذكروا يا بني إِسرائيل حين قال لكم نبيكم موسى إِن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة.

جاء الأمر هنا من غير علة وقد أرجئت إلى آخر القصة، والحكمة في ذلك أن الأمر إذا كان صادراً ممّن هو أعلى ينبغي المبادرة إلى تنفيذه من غير البحث عن علة ذلك، فالعبد يمتثل أوامر مولاه ظهرت له الحكمة والعلة أو أخفيت عنه للابتلاء. قال تعالى: {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء: 23].

{قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا} أي فكان جوابكم الوقح لنبيكم أن قلتم: أتهزأ بنا يا موسى {قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنْ الْجَاهِلِينَ} أي ألتجئ إِلى الله أن أكون في زمرة المستهزئين الجاهلين.

{قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ} أي ما هي هذه البقرة وأي شيء صفتها؟ {قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا فَارِضٌ وَلا بِكْرٌ} أي لا كبيرة هرمة، ولا صغيرة لم يلحقها الفحل {عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ} أي وسط بين الكبيرة والصغيرة {فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ} أي افعلوا ما أمركم به ربكم ولا تتعنتوا ولا تشدّدوا فيشدّد الله عليكم.

{قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا} أي ما هو لونها أبيض أم أسود أم غير ذلك؟ {قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ} أي إِنها بقرة صفراء شديدة الصفرة، حسن منظرها تسر كل من رآها. ومع هذا اختلفوا بينهم في تحديدها فرجعوا إلى موسى عليه السلام.

و {قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ} أعادوا السؤال عن حال البقرة بعد أن عرفوا سنها ولونها ليزدادوا بياناً لوصفها، ثم اعتذروا بأن البقر الموصوف بكونه عواناً وبالصفرة الفاقعة كثيرٌ {إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا} أي التبس الأمر علينا فلم ندر ما البقرة المأمورة بذبحها {وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ} أي سنهتدي إِلى معرفتها إِن شاء الله، ولو لم يقولوا ذلك لم يهتدوا إِليها أبداً كما ثبت في الحديث أنه عليه الصلاة والسلام قال: "لو لم يستثنوا ويقولوا: إن شاء الله لما تبينت لهم آخر الأبد".

{قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الأَرْضَ وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ} أي ليست هذه البقرة مسخرة لحراثة الأرض، ولا لسقاية الزرع {مُسَلَّمَةٌ لا شِيَةَ فِيهَا} أي سليمة من العيوب ليس فيها لونٌ آخر يخالف لونها فهي صفراء كلها {قَالُوا الآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ} أي الآن بينتها لنا بياناً شافياً لا غموض فيه ولا لبس، وكأن ما قاله لهم موسى عليه السلام وحياً من ربه قبل ذلك ليس حقاً. قال تعالى إِخباراً عنهم {فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ} لغلاء ثمنها أو خوف الفضيحة أو تماطلاً في تطبيق الأوامر الإلهية كما هو شأنهم ولعله الأرجح.

ثم أخبر تعالى عن سبب أمرهم بذبح البقرة، وعما شهدوه من آيات الله الباهرة {وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا} أي اذكروا يا بني إِسرائيل حين قتلتم نفساً {فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا} أي تخاصمتم وتدافعتم بشأنها، وأصبح كل فريق يدفع التهمة عن نفسه وينسبها لغيره {وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ} أي مظهر ما تخفونه {فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا} أي اضربوا القتيل بشيء من البقرة يحيا ويخبركم عن قاتله {كَذَلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتَى} أي كما أحيا هذا القتيل أمام أبصاركم يحيي الموتى من قبورهم {وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} أي يريكم دلائل قدرته لتتفكروا وتتدبروا وتعلموا أن الله على كل شيء قدير.



ما يستخلص من الآيات [67-73]:

1- أراد الله تعالى من قصة ذبح البقرة وضرْب الميت ببعضها أن يثبت لبني إسرائيل ومَنْ جاء بعدهم من المتشكيين أن الله {وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ} [الحج: 6-7].

ومن هنا سميت أطول سورة في القرآن باسمها -سورة البقرة- لأن القصة عالجت قضية تتعلق بركن أساسي من أركان الإيمان ألا وهو الإيمان باليوم الآخر الذي يسبقه بعث الناس من القبور.

2- إن بني إسرائيل أكثروا من الأسئلة وشددوا فشدد الله عليهم ولو أنهم امتثلوا الأمر في البداية وذبحوا أية بقرة لأجزأتهم. لأجل ذلك حذّر رسول الله صلى الله عليه وسلم أمته من كثرة الأسئلة، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما نهيتكم عنه فاجتنبوه وما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم فإنما أهلك الذين من قبلكم كثرة مسائلهم واختلافهم على أنبيائهم" [رواه الشيخان]. وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ…} [المائدة: 101].

والأسئلة المنهي عنها: مثل السؤال عما أخفاه الله عن عباده كالسؤال عن قيام الساعة وعن حقيقة الروح، وعن القضاء والقدر، والسؤال على سبيل التعنت والعبث والاستهزاء، وسؤال المعجزات، والسؤال عن الأغاليط والسؤال عما لا يحتاج إليه، والسؤال عما سكت عنه الشرع من الحلال والحرام وما نحو ذلك.

وأما السؤال عمّا ينفع وينبني عليه عمل فهو أمر مطلوب شرعاً.

3- كان الأمر بذبح البقرة دون غيرها من الحيوان لأنها من جنس ما عبدوه وهو العجل ليُهَوِّن عندهم أمر تعظيمه.

4- المال الحلال يبارك الله فيه ولو كان قليلاً، وخير دليل على ذلك هذه القصة فقد كانت تلك البقرة لرجل صالح يتحرى الحلال فعندما حضرته الوفاة ورث زوجه وابنه الصغير عِجْلة كانت فيما بعد تلك البقرة الوحيدة التي انطبقت عليها المواصفات، فكان ثمنها كما جاء في الحديث (… حتى انتهوا إلى البقرة التي أمِروا بذبحها فوجدوها عند رجل ليس له بقرة غيرها فقال: والله لا أنقصها من ملء جلدها ذهباً فأخذوها بملء جلدها ذهباً فذبحوها ..." [تفسير ابن كثير 1/108].

5- أظهر الله تعالى عظمته لخلقه من خلال هذه الآية، وذلك أنه أحيا ميتاً بجزء من ميت، ولو أنه تعالى أحياه بدون أن يضرب ببعضها لقالوا: لم يكن ميتاً، وإنما كان في حالة إغماءة ثم أفاق. ولكنه تعالى أراد أن يعطيهم درساً وهم الماديون {فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} ليرى بنو إسرائيل وهم على قيد الحياة كيف يحي الله الموتى، وليعرفوا أن الإنسان لا يبقى حياً بأسباب الحياة، ولكن بإرادة مسبب الحياة جَلّ جلاله.

جفاء اليهود وقسوة قلوبهم

{ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ(74)}.



ثم أخبر تعالى عن جفائهم وقسوة قلوبهم فقال {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ} أي صلبت قلوبكم يا معشر اليهود فلا يؤثر فيها وعظٌ ولا تذكير {مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ} أي من بعد رؤية المعجزات الباهرة {فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً} أي بعضها كالحجارة وبعضها أشد قسوة من الحجارة كالحديد.

ذكر الله تعالى القلب ونسب القسوة إليه ولم ينسبها إلى النفوس، لأن القلب هو موضع الرقة والرحمة والعطف، فكلما امتلأ القلب ذكراً لله تعالى امتلأ رقة ورحمة وعطفاً، ولكما غفل عن ذكر الله ازداد قسوة وجفاء، وانعكست آثاره في الحالتين على الجوارح فيصلح المجتمع به أو يفسد. ولذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب" [رواه الشيخان].

{وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ} أي تتدفق منها الأنهار الغزيرة {وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ} أي من الحجارة ما يتصدع إِشفاقاً من عظمة الله فينبع منه الماء.

والفرق بين تفجر الأنهار من الحجارة وتشققها ليخرج منها الماء، أنه عند تفجر الأنهار يأتي الماء إلينا ونحن في مكاننا. وعندما تتشقق ليخرج منها الماء نذهب نحن إلى مكان الماء لنأخذ حاجتنا. وفرق بين عطاء نذهب إليه، وعطاء يأتي إلينا. وكلٌّ من عطاء ربنا.

{وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} أي ومنها ما يتفتّت ويتردّى من رؤوس الجبال من خشية الله.

وحدث ذلك عندما تجلى الله تعالى للجبل فجعله دكاً، قال تعالى: {فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا} [الأعراف: 143].

فالحجارة تلين وتخشع وقلوبكم يا معشر اليهود لا تتأثر ولا تلين {وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} أي أنه تعالى رقيب على أعمالكم لا تخفى عليه خافية، وسيجازيكم عليها يوم القيامة، وفي هذا وعيد وتهديد.



ما يستخلص من الآيات [74]:

1- أساس شيء في الإنسان قلبه، فإذا صلح صلحت سائر جوارحه وإذا فسد فسدت سائر جوارحه.

2- القلب معرض لأمراض كثيرة، وأخطرها القسوة التي أشارت إليها الآية القرآنية. وسبب القسوة العناء والتماطل في تطبيق أوامر الله تعالى كما فعل بنو إسرائيل. ومن قسى قلبه لا ينفعه بشيء إن لم يتدارك نفسه، وهو عرضة لغضب الله، ومن غضب الله عليه طبع على قلبه. ومن طُبِع على قلبه فلن يهتدي أبداً.

فعلى المسلم العاقل الراجي رحمة ربه أن يبادر إلى تطبيق أوامر ربه فور استماعها لقوله تعالى: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ} [النور: 51].

3- الحجارة في قبضة الله تعالى والقلوب كذلك، فمن شعر بقسوة في قلبه فعليه أن يلتجيء إلى الله تعالى مالك القلوب ليغير قلبه إلى أحسن حال وليفجره خشوعاً وليناً وانضياءاً كما فجّر الحجارة عيوناً وأنهاراً {رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} [آل عمران: 8].



استبعاد إيمان اليهود

{أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ(75)وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ(76)أَوَلا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ(77)وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلا يَظُنُّونَ(78)}.



المنَاسَبَة:

لما ذكر تعالى عناد اليهود، وعدم امتثالهم لأوامر الله تعالى، ومجادلتهم للأنبياء الكرام، وعدم الانقياد والإِذعان، عقَّب ذلك بذكر بعض القبائح والجرائم التي ارتكبوها كتحريف كلام الله تعالى، وادعائهم بأنهم أحباب الله، وأن النار لن تمسَّهم إِلا بضعة أيام قليلة، إلى آخر ما هم عليه من أماني كاذبة ورثوها عن آبائهم وأجدادهم، وقد بدأ تعالى الآيات بتيئيس المسلمين من إِيمانهم لأنهم فطروا على الضلال، وجبلوا على العناد والمكابرة.



سبب النزول:

نزلت في الأنصار كانوا حلفاء لليهود وبينهم جوارٌ ورضاعة وكانوا يودون لو أسلموا فأنزل الله تعالى {أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ..} الآية.

وروى مجاهد عن ابن عباس أن اليهود كانوا يقولون: إِن هذه الدنيا سبعة آلاف سنة، وإِنما نُعذب بكل ألف سنة يوماً في النار، وإِنما هي سبعة أيام معدودة فأنزل الله تعالى {وقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ}.



يخاطب الله تعالى عباده المؤمنين فيقول {أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ} أي أترجون يا معشر المؤمنين أن يُسلم اليهود ويدخلوا في دينكم {وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ} أي والحال قد كان طائفة من أحبارهم وعلمائهم يتلون كتاب الله ويسمعونه بَيِّناً جَلِياً {ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ} أي يغيّرون آيات التوراة بالتبديل أو التأويل، من بعد ما فهموه وضبطوه بعقولهم {وَهُمْ يَعْلَمُونَ} أنهم يرتكبون جريمة أي أنهم يخالفونه على بصيرة لا عن خطأٍ أو نسيان.

هذه الآيات تحمل أعظم تعزية لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وتطالبه ألا يحزن على عدم إيمان اليهود به لأنه مكلف بالبلاغ فقط، ولكن حرص الرسول صلى الله عليه وسلم على إيمان أهل الأرض كلهم لا يعني أنه لم يفهم خطاب ربه، ولكن معناه أنه أدرك حلاوة التكليف من ربه بحيث يريد أن يهدي كل خلق الله.

والطمع هو رغبة النفس في شيء غير حقها وإن كان محبوباً لها. فكلمة "أفتطمعون" هنا تحدد أنه يجب ألا نطمع إلا فيما نقدر عليه. وهداية اليهود أمر زائد على ما كُلِّفنا به وإن كان محبوباً لدينا. {فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ إِلا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الأَكْبَرَ} [الغاشية: 20-24].

{وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا} أي إِذا اجتمعوا بأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال المنافقون من اليهود: آمنا بأنكم على الحق، وأن محمداً هو الرسول المبشَّر به {وَإِذَا خَلا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ} أي إِذا انفرد واختلى بعضهم ببعض {قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ} أي قالوا عاتبين عليهم أتخبرون أصحاب محمد بما بيَّن الله لكم في التوراة من صفة محمد عليه السلام {لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ} أي لتكون الحجة للمؤمنين عليكم في الآخرة في ترك اتباع الرسول مع العلم بصدقه {أَفَلا تَعْقِلُونَ}؟ أي أفليست لكم عقول تمنعكم من أن تحدثوهم بما يكون لهم فيه حجة عليكم؟ والقائلون ذلك هم اليهود لمن نافق منهم.

قال تعالى رداً عليهم وتوبيخاً {أَوَلا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ} أي ألا يعلم هؤلاء اليهود أن الله يعلم ما يخفون وما يظهرون، وأنه تعالى لا تخفى عليه خافية، فكيف يقولون ذلك ثم يزعمون الإِيمان!!

ولما ذكر تعالى العلماء الذين حرّفوا وبدّلوا، ذكر العوام الذين قلدوهم ونبّه أنهم في الضلال سواء فقال: {وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ} أي ومن اليهود طائفة من الجهلة العوامّ، الذين لا يعرفون القراءة والكتابة ليطلعوا على ما في التوراة بأنفسهم ويتحققوا بما فيها {إِلا أَمَانِيَّ} أي إِلاَّ ما هم عليه من الأماني التي منّاهم بها أحبارهم، من أن الله يعفو عنهم ويرحمهم، وأن النار لن تمسهم إِلا أياماً معدودة، وأن آباءهم الأنبياء يشفعون لهم، وأنهم أبناء الله وأحباؤه، إِلى غير ما هنالك من الأماني الفارغة {وَإِنْ هُمْ إِلا يَظُنُّونَ} أي ما هم على يقين من أمرهم، بل هم مقلّدون للآباء تقليد أهل العمى والغباء.

الأماني جمع أمنية، وهي الشيء الذي يحب الإنسان تحققه وهو مستحيل الحدوث عادة. كما قال الشاعر:

ألا ليت الشباب يعود يوماً فأُخبره بما فعل المَشيبُ

ومَنْ فاته شبابه لن يعود إلى يوم القيامة.



ما يستخلص من الآيات [75-78]:

1- النفاق ظاهرة عامة موجودة عند جميع الأجناس، فليس هو محصوراً فيمن نافق من أهل المدينة فقط، بل هو موجود عند أهل الكتاب من اليهود كما أشارت الآيات، وعند النصارى وغيرهم ومن هنا وجب على المسلمين أخذ الحيطة حتى لا ينخدعوا بالإيمان المزيّف، ويتجرعوا من ورائه الويلات.

2- دلَّت الآية الأخيرة من هذا المقطع {وإن هم إلا يظنون} على بطلان التقليد في العقائد وأصول الأحكام، فلا بد للإيمان من يقين يقوم على الحجة والبرهان وهو ما عليه سلف هذه الأمة إذ كل من قلَّد في التوحيد إيمانه لا يخلو من ترد يد. ولذا قال الحق جل وعلا {فاعلم أنه لا إله لا الله} والعلم هو إدراك الشيء على ما هو عليه في الواقع بدليل.



تحريف أحبار اليهود للتوراة

{فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ(79)وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلا أَيَّامًا مَعْدُودَةً قُلْ أتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ(80)بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ(81)وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ(82)}.



سبب النزول:

نزلت الآية (79) في أهل الكتاب كما قال ابن عباس، أو في أحبار اليهود كما قال العباس: "الذين غيّروا صفة النبي صلى الله عليه وسلم وبدلوا نعته"، وكانت صفته في التوراة: أكحل، أعين، ربعة، جعد الشعر، حسن الوجه، فَمَحَوه حسداً وبغياً، وقالوا: نجده طويلاً أزرق، سبط الشعر.

ونزلت الآية (80) كما قال ابن عباس: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، ويهود تقول: إنما مدة الدنيا سبعة آلاف سنة، وإنما يعذب الناس في النار، لكل ألف سنة من أيام الدنيا يوم واحد في النار من أيام الآخرة، فإنما هي سبعة أيام، ثم ينقطع العذاب، فأنزل الله في ذلك: {لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ} إلى قوله {خَالِدُونَ}. وروى الطبري عن ابن عباس: أن اليهود قالوا: لن ندخل النار، إلا تَحِلَّة القَسَم، الأيام التي عبدنا فيها العجل أربعين ليلة، فإذا انقضت، انقطع عنا العذاب، فنزلت الآية.



ذكر تعالى جريمة أولئك الرؤساء المضلّين، الذين أضلّوا العامة في سبيل حطام الدنيا فقال: {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ} أي هلاك وعذاب لأولئك الذي حرّفوا التوراة، وكتبوا تلك الآيات المحرفة بأيديهم {ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} أي يقولون لأتباعهم الأميِّين هذا الذي تجدونه هو من نصوص التوراة التي أنزلها الله على موسى عليه السلام، مع أنهم كتبوها بأيديهم ونسبوها إِلى الله كذباً وزوراً {لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلاً} أي لينالوا به عرض الدنيا وحطامها الفاني {فوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ} أي فشدة عذاب لهم على ما فعلوا من تحريف الكتاب {وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ} أي وويل لهم مما يصيبون من الحرام والسحت.

فائدة: الويل يعني الحسرة وقت رؤية العذاب، وقيل: هو واد في جهنم يهوي الإنسان فيه سبعين خريفا.

{وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلا أَيَّامًا مَعْدُودَةً} أي لن ندخل النار إلا أياماً قلائل، هي مدة عبادة العجل، أو سبعة أيام فقط.

فائدة: المس يعني اللمس الخفيف أو اقتراب شيء من شيء بحيث يحس أحدهما بالآخر إحساساً لا يكاد يذكر. وهكذا أخذوا أقل الأقل في العذاب، وأقل الأقل في مدة العذاب، فقالوا أياماً معدودة. وهو دليل غبائهم لأن مدة المسّ لا تكون إلا لحظة ولكنها أماني وضعها الشيطان في عقولهم، فجاء الرد الإلهي:

{قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا} أي قل لهم يا محمد على سبيل الإِنكار والتوبيخ: هل أعطاكم الله الميثاق والعهد بذلك؟ فإذا كان قد وعدكم بذلك{فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ} لأن الله لا يخلف الميعاد {أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} أي أم تكذبون على الله فتقولون عليه ما لم يقله، فتجمعون بين جريمة التحريف لكلام الله، والكذب والبهتان عليه جل وعلا.

ثم بيَّن تعالى كذب اليهود، وأبطل مزاعمهم بأن النار لن تمسهموأنهم لا يخلدون فيها فقال: {بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً} أي بلى تمسكم النار وتخلدون فيها، كما يخلد الكافر الذي ارتكب إلى جانب كفره السيئات {وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ} أي غمرته من جميع جوانبه، وسدّت عليه مسالك النجاة، بأن فعل مثل فعلكم أيها اليهود {فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} أي فالنار ملازمة لهم لا يخرجون منها أبداً.

فائدة: "بلى" حرف جواب في النفي، أي ينفي الذي قبله. أي قولكم {لمن تمسنا النار إلا أياماً معدودة} غير صحيح، بل ستخلدون فيها. ومن هنا فإذا قال لك إنسان: ليس لك عندي شيء. وأردت أن تنفي ذلك، فعليك أن تقول: بلى. ولو قلت: نعم. تكون قد أثبتْتَ ما ادعاه.

{وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} أي وأما المؤمنون الذين جمعوا بين الإِيمان، والعمل الصالح فلا تمسهم النار، بل هم في روضات الجنات يحبرون {أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}أي مخلدون في الجنان لا يخرجون منها أبداً، اللهم اجعلنا منهم يا أرحم الراحمين.



ما يستخلص من الآيات [79-82]:

1- أفاد قوله تعالى {فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم} مَدَى تعمد هؤلاء اليهود للإثم. لأن الإثم قد يرتكب بالأمر وقد يرتكب بالفعل. فرئيس الدولة غالباً لا يكتب الكتب بيده وإنما تكتب بأمره ولكن هؤلاء الأحبار حرفوا وبدلوا كلام الله بأيديهم ليتأكدوا أن الأمر قد تم كما يريدون، فليست المسألة نزوة عابرة ولكنها مع سبق الإصرار والترصد، وموقمة العصيان.

2- تضمنت الآية {فويل للذين يكتبون الكتاب…} التحذير من التبديل والتغيير والزيادة في شرع الله، فكل من بدّل وغيّر وابتدع في دين الله ما ليس منه فهو داخل تحت هذا الوعيد الشديد إلا أن هذا التبديل والتحريف على نوعين، الأول: تبديل وتحريف في الحروف والألفاظ وهو الأشد، والثاني: تحريف وتبديل في المعاني والأحكام التي تستخلص من الألفاظ والحروف. ولئن سلمت هذه الأمة من الوقوع في الأول لقوله تعالى {إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون} فقد وقع بعض هذه الأمة في الثاني والعياذ بالله، وما تلك الفتاوى الباطلة -كإباحة الفوائد الربوية القليلة، والاستعانة بالمشركين لقتال المسلمين- التي يبتغي بها عرض من الدنيا قليل أو التزلف للحكام والسلاطين، ببعيد. ولذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "افترقت بنوا إسرائيل إلى اثنتين وسبعين فرقة، وستفترق أمتي إلى ثلاث وسبعين فرقة، كلهم في لنار إلا واحدة" فاللهم اجعلنا من الفرقة الناجية.

3- أفاد قوله تعالى {بلى من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته…} أن المعصية وحدها لا تخلد صاحبها في النار ما لم تكن مقرونة بالشرك، ومن هنا فأنسب تفسير لـ {أحاطت به خطيئته} هو الشرك بالله، لأنه هو الذي يحيط بالإنسان من كل جانب ويحجب عنه رحمة الله، ودليل ذلك قوله تعالى {إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} [النساء: 48]. ولما كان هؤلاء اليهود -ومن سار على طريقهم- عصاة ومشركين استحقوا الخلود في النار {فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون}.

4- أرشدت الآية الأخيرة {والذين آمنوا وعملوا الصالحات…} إلى أن دخول الجنة منوط بالإيمان والعمل الصالح كما روى مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لسفيان بن عبد الله الثقيف، وقد سأله: يا رسول الله قل لي في الإسلام قولاً لا أسأل عنه أحداً بعدك. قل: قل آمنت بالله ثم استقم".

5- يستخلص من الآيتين الأخيرتين منهج تربوي فريد في معالجة النفس البشرية في جميع مراحلها، ألا هو الجمع بين الوعد الوعيد أو الترغيب والترهيب، وقد تكرر ذلك في القرآن كثيراً.



مخالفة اليهود للميثاق

{وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلا قَلِيلاً مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ(83)وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِمَاءكُمْ وَلا تُخْرِجُونَ أَنفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ(84)ثُمَّ أَنتُمْ هَؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِّنكُم مِّن دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِم بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِن يَأتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمُ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعضٍ فَمَا جَزَآءُ مَن يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنكُمْ إِلا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ القِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ(85)أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوْا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآخِرَةِ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلا هُمْ يُنصَرُونَ(86)}.



المنَاسَبَة:

لا تزال الآيات الكريمة تعدّد جرائم اليهود، وفي هذه الآيات أمثلة صارخة على عدوانهم وطغيانهم وإِفسادهم في الأرض، فقد نقضوا الميثاق الذي أخذ عليهم في التوراة، وقتلوا النفس التي حرّم الله، واستباحوا أكل أموال الناس بالباطل، واعتدوا على إِخوانهم في الدين فأخرجوهم من الديار، فاستحقوا اللعنة والخزي والدمار.



{وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ} أي اذكروا حين أخذنا على أسلافكم يا معشر اليهود العهد المؤكد غاية التأكيد والميثاق هو كل شيء فيه تكليف من الله {لا تَعْبُدُونَ إِلا اللَّهَ} بأن لا تعبدوا غير الله.

وهذه العبادة تستلزم إفراد الله بالألوهية والإيمان بموسى عليه السلام وبالتوراة وبمن جاء وصفه في التوراة وهو سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم.

{وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} أي وأمرناهم بأن يحسنوا إِلى الوالدين إِحساناً.

الإحسان هو ما زاد على الواجب، فنحن مطالبون بأن نؤدي إليهم الواجبات وما زاد عنها من نوافل. ولأهمية الإحسان إلى الوالدين فقد قرنه بعباده في عدة مواضيع منها قوله تعالى: {وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحساناً…} [الإسراء: 43].

{وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ} أي وأن يحسنوا أيضاً إِلى الأقرباء، واليتامى الذين مات آباؤهم وهم صغار.

لأن الآباء هم الذين يكافحون في الحياة ليرعوا أولادهم. فإذا رعى المجتمع الإسلامي اليتيم عَمّت الطمأنينة بين أفراده، فلا أبٌ يخشى على أولاده بعد موته، ولا يتيم يخشى على ماله من الضياع أو على نفسه من الإهمال إذا خلفه أبوه فقيراً، ولا غني يخشى على ماله من زواله بالاختلاس أو الحسد لأن التكافل أورث بين أفراد المجتمع المحبة والألفة.

والمساكين الذين عجزوا عن الكسب.

{وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا} أي قولاً حسناً بخفض الجناح، ولين الجانب، مع الكلام الطيّب {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} أي صلوا وزكّوا كما فرض الله عليكم من أداء الرُّكْنَيْن العظيمين "الصلاة، والزكاة" لأنهما أعظم العبادات البدنية والمالية { ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلا قَلِيلاً مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ} أي ثم رفضتم وأسلافكم الميثاق رفضاً باتاً، وأعرضتم عن العمل بموجبه إِلاّ قليلاً منكم ثبتوا عليه.

فائدة: توليتم، يعني أعرضتم، إلا أن التولي قد يكون بنية حسنة كما في قوله تعالى {ومن يولهم يومئذ دبره إلا متحرفاً لقتال أو متحيزاً إلى فئة فقد باء بغضب من الله} [الأنفال: 16]. فالتولي بنية الهرب مذموم، ولكنه إذا كان بنية إعانة فئة أخرى من المسلمين أو تغيير الموقع للانقضاض على العدو فهو محمود.

والحق سبحانه وتعالى في هذه الآية أراد أن يلفت نظرنا إلى أن اليهود تولوا بنية الإعراض لا بنية أخرى ولذا قال تعالى {ثم توليتم إلا قليلاً منكم وأنتم معرضون} فأكد نواياهم السيئة بقوله {وأنتم معرضون}.

{وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِمَاءكُمْ} أي واذكروا أيضاً يا بني إِسرائيل حين أخذنا عليكم العهد المؤكد بأن لا يقتل بعضكم بعضاً.

فائدة: لماذا قال الله تعالى {لا تسفكون دماءكم} مع أن المراد قتل الغير؟

وكذلك قوله {ولا تُخرجون أنفسكم} مع أن المراد إخراج الغير.

والجواب أن الله تعالى تخاطب الجماعة المؤمنة على أنها وحدة واحدة كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى" [رواه البخاري] فمن قتل أخاه فكأنما قتل نفسه.

{وَلا تُخْرِجُونَ أَنفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ} ولا يعتدي بعضكم على بعض بالإِخراج من الديار، والإِجلاء عن الأوطان {ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ} أي ثمّ اعترفتم بالميثاق وبوجوب المحافظة عليه، وأنتم تشهدون بلزومه.

{ثُمَّ أَنتُمْ هَؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنفُسَكُمْ} أي ثم نقضتم أيضاً الميثاق يا معشر اليهود بعد إِقراركم به، فقتلتم إِخوانكم في الدين، وارتكبتم ما نهيتم عنه من القتل {وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِّنكُم مِّن دِيَارِهِمْ} أي كما طردتموهم من ديارهم من غير التفاتٍ إِلى العهد الوثيق {تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِم بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} أي تتعاونون عليهم بالمعصية والظلم {وَإِن يَأتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ} أي إِذا وقعوا في الأسر فاديتموهم، ودفعتم المال لتخليصهم من الأسر {وَهُوَ مُحَرَّمُ عَلَيْكُمْ أِخْرَاجُهُمْ} أي فكيف تستبيحون القتل والإِخراج من الديار، ولا تستبيحون ترك الأسرى في أيدي عدوهم؟.

{أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعضٍ}؟ أي أفتؤمنون ببعض أحكام التوراة وتكفرون ببعض؟ والغرض التوبيخ لأنهم جمعوا بين الكفر والإِيمان، والكفر ببعض آيات الله كُفْرٌ بالكتاب كله، ولهذا عقّب تعالى ذلك بقوله {فَمَا جَزَآءُ مَن يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنكُمْ إِلا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} أي ما عقوبة مَن يؤمن ببعض الكتاب ويكفر ببعض إِلا ذلٌ وهوان، ومقتٌ وغضب في الدنيا {وَيَوْمَ القِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ} أي وهم صائرون في الآخرة إِلى عذاب أشدّ منه، لأنه عذاب خالد لا ينقضي ولا ينتهي {وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} وفيه وعيد شديد لمن عصى أوامر الله.

فائدة: كانت (بنو قريظة) و (بنو النضير) من اليهود، فحالفت بنو قريظة الأوس، وبنو النضير الخزرج، فكانت الحرب إِذا نشبت بينهم قاتل كل فريق من اليهود مع حلفائه، فيقتل اليهودي أخاه اليهودي من الفريق الآخر، يخرجونهم من بيوتهم، وينهبون ما فيها من الأثاث والمتاع والمال، وذلك حرام عليهم في دينهم وفي نص التوراة، ثم إِذا وضعت الحرب أوزارها افْتكُوا الأسارى من الفريق المغلوب عملاً بحكم التوراة ولهذا قال تعالى {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعضٍ}.

ثم أخبر تعالى عن سبب ذلك العصيان والعدوان فقال {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوْا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآخِرَةِ}أي أولئك الموصوفون بما ذكر من الأوصاف القبيحة هم الذين استبدلوا الحياة الدنيا بالآخرة بمعنى اختاروها وآثروها على الآخرة {فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ} أي لا يُفتَّر عنهم العذاب ساعة واحدة {وَلا هُمْ يُنصَرُونَ} أي وليس لهم ناصر ينصرهم، ولا مجير ينقذهم من عذاب الله الأليم.



ما يستخلص من الآيات [83-86]:

1- الأمور التي أمر الله بها بني إسرائيل في الآية (83) وأخذ منهم العهد عليها أمر بها تعالى جميع الخلق، وهي تكوِّن النظام الديني والاجتماعي والأخلاقي وقد رتبها ترتيباً دقيقاً متناسقاً، فقدم حق الله تعالى في أفراده بالعبودية لأنه هو المنعم والمتفضل على جميع خلقه، ثم ذكر الوالدين لأنهما سبب وجود الإنسان، وهم اللذان رعاياه صغيراً حتى كبر واشتد، ثم القرابة لأن فيهم صلة الرحم، ثم اليتامى لقصورهم ثم المساكين لضعفهم، ثم أمر تعالى بالقول الحسن لإبعاد الشيطان عن بني البشر مصداقاً لقوله تعالى: {وقل لعبادي يقولوا التي هي أحسن إن الشيطان ينزغ بينهم} [الإسراء: 53]، ثم ختم جل جلاله تلك الأوامر بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، لأن الأولى تقوي الصلة بين العبد وربه ومَنْ قويت صلته بربه التزم أوامره التي تحثه على الإحسان لخلقه. والثانية تقوى الصلة بينه وبين الخلق وتخرج الدنيا من قلبه، وبهذا يحدث الترابط والتكافل بين أفراد المجتمع وهو ما يقصد إليه الشارع الحكيم.

2- السبب الأساسي في الإعراض عن شرع الله تعالى هو التعلق بالدنيا وجعلها غاية وهدفاً حتى يشرب القلب بحبها، ولذا ختم المقطع القرآني بـ {أولئك الذين اشتروا الحياة الدنيا بالآخرة} فحب الدنيا رأس كل خطيئة كما جاء في الحديث الشريف، ولذا حذر رسول الله صلى الله عليه وسلم أمته من التعلق بالدنيا، فقال: "ما الفقر أخشى عليكم ولكن أخشى عليكم أن تبسط الدنيا عليكم كما بسطت على الذين من قبلكم فتنافسوها كما تنافسوها فتهلككم كما أهلكتهم".

فالتعامل مع الدنيا أمر مطلوب شرعاً، ولكن على أن تكون وسيلة للبناء والترابط والتكافل، لا على أن تكون هدفاً وغاية في حد ذاته تستعمل في سبيل تحقيقها كل الطرق المشروعة وغير المشروعة، بحيث يصبح المرء لا يجد أي حرج في سفك الدماء والبطش بكل مَنْ تسول له نفسه بمنافسته فيها، وهو ما حذر منه رسول الله صلى الله عليه وسلم.

3- الشريعة كل متكامل فلا يجوز أن نطبق بعضها ونعرض عن الآخر بحجة أنها لم تعد صالحة لهذا الزمان، لأن هذه المقولة من أساسها باطلة عِلميَّاً وواقعاً.

فمن جزّأ الشريعة وهو يعتقد صحة ما ذهب إليه فقد كفر بإجماع المسلمين وهو ما أشار إليه البيان القرآني {أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض}.

ومن جزّأها من حيث التطبيق تكاسلاً وهو يعتقد صلاحيتها فقد فسق وانحرف.



موقف اليهود من الرسل والكتب المنزلة

{ولَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّمَا جَاءكُمْ رَسُولٌ بِمَا لا تَهْوَى أَنفُسُكُمْ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ(87)وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمْ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلاً مَا يُؤْمِنُونَ(88)وَلَمَّا جَاءهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ(89)}



المنَاسَبَة:

لا تزال الآيات تتحدث عن بني إِسرائيل، وفي هذه الآيات الكريمة تذكير لهم بضربٍ من النعم التي أمدّهم الله بها ثم قابلوها بالكفر والإِجرام، كعادتهم في مقابلة الإِحسان بالإِساءة، والنعمة بالكفران والجحود.



سبب نزول الآية (89):

قال ابن عباس: كانت يهود خيبر تقاتل غَطَفان، فكلما التقوا هُزِمت يهود خيبر، فعاذت اليهود بهذا الدعاء: "اللهم إنا نسألك بحق محمد النبيّ الأميّ الذي وعدتنا أن تخرجه لنا في آخر الزمان، إلا نصرتنا عليهم" فكانوا إذا التقوا دعوا بهذا الدعاء فهزموا غطفان. فلما بُعِث النبي صلى الله عليه وسلم كفروا به، فأنزل الله تعالى: {وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا} أي بك يا محمد، إلى قوله: {فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ}.

وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس أن يهود كانوا يستفتحون على الأوس والخزرج برسول الله صلى الله عليه وسلم قبل مبعثه، فلما بعثه الله من العرب، كفروا به، وجحدوا ما كانوا يقولون فيه، فقال لهم معاذ بن جبل وبشر بن البراء وداود بن سلمة: يا معشر اليهود:اتقوا الله وأَسلِموا، فقد كنتم تستفتحون علينا بمحمد، ونحن أهل شرك، وتخبروننا بأنه مبعوث، وتصفونه بصفته، فقال أحد بني النَّضِير: ما جاءنا بشيء نعرفه، وما هو بالذي كنا نذكر لكم، فأنزل الله: {وَلَمَّا جَاءهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} [البقرة 2/89].

وقال السُّدِّي: "كانت العرب تمرّ بيهود، فتلقى اليهود منهم أذى، وكانت اليهود تجد نعت محمد في التوراة أنه يبعثه الله، فيقاتلون معه العرب، فلما جاءهم محمد صلى الله عليه وسلم كفروا به حسداً، وقالوا: إنما كانت الرسل من بني إسرائيل، فما بال هذا من بني إسماعيل".

بعد أن بيّن الله لنا ما فعله اليهود مع نبيهم موسى عليه السلام، أراد جل جلاله أن يبيّن لنا موقفهم مع رسل وأنبياء كثيرين جاؤوا بعد موسى عليه السلام، فقال تعالى:

{وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ} أي أعطينا موسى التوراة {وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ} أي أتبعنا وأرسلنا على أثره الكثير من الرسل.

بل كانت الرسل والأنبياء تأتيهم واحداً بعد الآخر على فترات قريبة وربما اجتمع أكثر من نبي في فترة واحدة ليذكروهم وينهوهم عن غيِّهم وانحرافاتهم وما أحدثوه من فساد بعد موسى عليه السلام. وقد اعتبر اليهودُ كثرة الرسل والأنبياء فيهم ميزة ومفخرة لهم على سائر الأمم، ولكنهم قوم مغفّلون مغرورون لأن كثرة الأنبياء والرسل دلالة على كثرة الفساد الذي انتشر فيهم. ذلك أن الله يرسل رسله لتذكير الناس وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر، ألا ترى إلى المريض الذي تعددت أمراضه كيف يكثر حوله الأطباء؟ فلا حجة لهم يوم القيامة.

{وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ} أي أعطينا عيسى الآيات البينات والمعجزات الواضحات الدالة على نبوته {وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ} أي قويناه وشددنا أزره بجبريل عليه السلام.

فإن قيل: ألم يكن باقي الرسل والأنبياء مؤيدين روح القدس فلماذا التخصيص؟ والجواب أن جبريل عليه السلام كان مصاحباً لعيسى عليه السلام منذ بداية تخلقه في بطن أمه إلى أن رفعه الله إليه في السماء، فولادته لم تكن مألوفة لدى الناس مما جعل جبريل عليه السلام لا يفارقه حتى يرد كيد الناس عنه بشتى الطرق التي كلفه الله بها.

{أَفَكُلَّمَا جَاءكُمْ رَسُولٌ بِمَا لا تَهْوَى أَنفُسُكُمْ} أي أفكلما جاءكم يا بني إِسرائيل رسول بما لا يوافق هواكم {اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ} أي تبرتم عن اتباعه فطائفة منهم كذبتموهم، وطائفة قتلتموهم ..

التكذيب مسألة منكرة، ولكن القتل أمر بشع، فيحن ترى إنساناً أو حاكماً ظالماً يريد أن يتخلص من خصمه بالقتل فاعلم أنها شهادة بضعفه أمام خصمه، ولو كان ذا رجولة ومروءة لقابل الحجة بالحجة ولما تجرّأ على قتله.

ثم أخبر تعالى عن اليهود المعاصرين للنبي صلى الله عليه وسلم وبيّن ضلالهم في اقتدائهم بالأسلاف فقال حكاية عنهم: {وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ} أي في أكنة، والغلف مأخوذ من الغِلاف، فهي مُغَلّفَة لا تفقه ولا تعي ما تقوله يا محمد، والغرض إِقناطه عليه الصلاة السلام من إِيمانهم، قال تعالى رداً عليهم {بَلْ لَعَنَهُمْ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ} أي طردهم وأبعدهم من رحمته بسبب كفرهم وضلالهم {فَقَلِيلاً مَا يُؤْمِنُونَ} أي فقليلٌ من يؤمن منهم، أو يؤمنون إِيماناً قليلاً وهو إِيمانهم ببعض الكتاب وكفرهم بالبعض الآخر.

{وَلَمَّا جَاءهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ} وهو القرآن العظيم الذي أنزل على خاتم المرسلين، مصدقاً لما في التوراة {وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا} أي وقد كانوا قبل مجيئه يستنصرون به على أعدائهم.

وهم كفار المدينة من الأوس والخزرج.

ويقولون: اللهم انصرنا بالنبي المبعوث آخر الزمان، الذي نجد نعته في التوراة.

وكانوا يقولون لأهل المدينة أيضاً: أهل زمن رسول سنؤمن به ونتبعه ونقتلكم قتل عاد وإرم.

{فَلَمَّا جَاءهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ} أي فلما بعث محمد صلى الله عليه وسلم الذي عرفوه حق المعرفة كفروا برسالته {فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ} أي لعنة الله على اليهود الذين كفروا بخاتم المرسلين.

فائدة: كفر اليهود وعنادهم كان أحد أسباب نصرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأن الأوس والخزرج عندما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم تذكروا تهديد اليهود لهم به ونعوته فسارعوا للإيمان به ومبايعته ونصرته، فعظم من سخر أعداءه لنصرة شريعته.



ما يستخلص من الآيات [87-89]:

1- كثرة الرسل والأنبياء الذين أرسلوا إلى بني إسرائيل يدل على مدى العناية الإلهية بهم، ولكنهم قوم أشربت قلوبهم باللؤم فقابلوا النعم الكثيرة بالعناء والاستكبار والتكذيب ثم ختموا ذلك بأبشع جريمة عرفتها البشرية ألا وهي قتل أنبياء الله وأصفيائه، فاستحقوا لأجل ذلك اللعنة والطرد من رحمة الله والختم على القلوب {فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم} [يونس: 98] كما حدث لفرعون وقومه.

2- من صفاته تعالى "العدل" فهو منزّه عن الظلم {وما ربك بظلام للعبيد} ولذا أجاب عن سبب ختمه على قلوبهم وطرده المعاندين المستكبرين منهم من رحمته، فقال: {بل لعنهم الله بكفرهم} أي بسبب جحودهم وإعراضهم عن الحق استكباراً بعد ما تبيّن لهم ناصعاً لا غبار عليه، لأن الكفر هو الجحود والتغطية. ولا أدلّ على ذلك الجحود من تكذيبهم رسالة خاتم الأنبياء عليه الصلاة والسلام وقد كانوا يستفتحون به على الأوس والخزرج. فنعوذ بالله من الكب والمتكبرين.



كفر اليهود بما أنزل الله، وقتلهم الأنبياء

{بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ بَغْيًا أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَاءُو بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ(90)وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ(91)}



{بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنفُسَهُمْ} أي بئس الشيء التافه الذي باع به هؤلاء اليهود أنفسهم واشتروا الكفر برسالة محمد صلى الله عليه وسلم فخسروا الصفة لأنهم أخذوا الخزي في الدنيا والعذاب في الآخرة {أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ} أي كفرهم بالقرآن الذي أنزله الله {بَغْيًا} أي حسداً وطلباً لما ليس لهم {أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} أي حسداً منهم لأجل أن يُنَزّل الله وحياً من فضله على من يشاء ويصطفيه من خلقه، فلقد اختبرهم الله في رسالات متعددة ولكنهم كذبوا وقتلوا فكان مقتضى حكمته وعدله أن يعاقبهم بنزع الرسالة منهم وإعطائها لخير أمة أخرجت للناس ولذلك بغوا وحسدوا، فكان العقاب الإلهي: {فَبَاءُو بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ} أي رجعوا بغضب من الله زيادة على سابق غضبه عليهم، فنالوا غضبين: الأول أنهم لم ينفذوا ما جاء في التوراة، والثاني حين جاءهم رسول مذكور عندهم في التوراة ومطلوب منهم أن يؤمنوا به ولكنهم كفروا به حسداً فاستحقوا غضباً ثانياً. {وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ} أي ولهم عذاب شديد مع الإِهانة والإِذلال لأن كفرهم سببه التكبر والحسد فقوبلوا بالإِهانة والصغار.

{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ} أي آمنوا بما أنزل الله من القرآن وصدّقوه واتبعوه {قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا} أي يكفينا الإِيمان بما أنزل علينا من التوراة {وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ} أي يكفرون بالقرآن مع أنه هو الحق موافقاً لما معهم من كلام الله {قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ} أي قل لهم يا محمد إِذا كان إِيمانكم بما في التوراة صحيحاً فلم كنتم تقتلون أنبياء الله من قبل إِذا كنتم فعلاً مؤمنين؟ وكأن الحق أخذ الحجة لدحض كذبهم من قولهم {نؤمن بما أنزل علينا} فإذا كان هذا صحيحاً فهل يوجد في التوراة التي تؤمنون بها ما يبيح لكم قتل الأنبياء؟ ولكنه التمرّد الذي رُبّوا عليه ووَرَّثوه لأبنائهم جيلاً بعد جيل.



ما يستخلص من الآيات [90-91]:

1- الإنسان السويّ العاقل لا يؤثر الفاني على الباقي، والشيء التافه الرخيص على الغالي الثمن، ولذا ندّد القرآن بفعل اليهود مقرراً: بئس الشيء الذي اختاروا لأنفسهم، حيث استبدلوا الباطل بالحق والكفر بالإيمان.

2- مَنْ لم يؤمن بما أنزل عليه فلا مطمع في الإيمان ما أنزل على غيره.

3- علّمنا القرآن الكريم في الآية (91) كيف نُفحِم المخالف ونبطل دعواه من خلال أقواله {قل فلم تقتلون أنبياء الله من قبل إن كنتم مؤمنين} كما يقول المثل: من فمك أدينك.



تكذيب ادعاء اليهود الإيمان بالتوراة

{وَلَقَدْ جَاءكُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ(92)وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ(93)}



المنَاسَبَة:

هذه طائفة أخرى من جرائم اليهود، فقد نقضوا الميثاق حتى رفع جبلُ الطور عليهم وأمروا أن يأخذوا بما في التوراة، فأظهروا القبول والطاعة ثم عادوا إِلى الكفر والعصيان، فعبدوا العجل من دون الله، وزعموا أنهم أحباب الله، وأن الجنة خالصة لهم من دون الناس لا يدخلها أحد سواهم، وعادَوا الملائكة الأطهار وعلى رأسهم جبريل عليه السلام، وكفروا بالأنبياء والرسل، وهكذا شأنهم في سائر العصور والدهور.



{وَلَقَدْ جَاءكُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ} أي بالحجج الباهرات {ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ} أي عبدتم العجل من بعد ذهابه إِلى الطور، وأنتم ظالمون في هذا الصنيع.

وهذه الحجة ثانية على أنكم كاذبون في قولكم {نؤمن بما أنزل علينا} فالإيمان بالتوراة ينافي عبادة العجل.

{وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ} أي اذكروا يا بني إسرائيل حين أخذنا عليكم العهد المؤكد على العمل بما في التوراة، ورفعنا فوقكم جبل الطور قائلين {خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ} أي بعزمٍ وحزم وإلاّ طرحنا الجبل فوقكم.

وينبغي أن نعلم أن رفع الجبل فوقهم لم يكن لإجبارهم على أخذ الميثاق لأنهم اتبعوا موسى عليه السلام قبل رفع الجبل، ولكنهم قوم ماديون لا يؤمنون إلا بالمحسوس فأراد الله تعالى أن يخوّفهم ليعودوا لإيمانهم، وهذا يأتي من حب الله لعباده لأنه يريدهم مؤمنين.

{وَاسْمَعُوا} أي سماع طاعة وقبول.

{قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا} أي سمعنا قولك، وعصينا أمرك.

فائدة: هناك قول وفعل وعمل فالقول أن تنطق بلسانك، والفعل أن تقوم جوارحك بالتنفيذ، والعمل أن يطابق القول الفعل. فهم سمعوا ما قاله لهم الله تعالى وعصوه. ولكن {عصينا} ليست معطوفة على {سمعنا} وإنما هي معطوفة على {قالوا} قالوا سمعنا في القول وفي الفعل عصينا، فهم لم يقولوا الكلمتين، وإنما قالوا سمعنا، ولم ينفذوا ما أمرهم الله به بأفعالهم.

{وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ} أي خالط حبُّه قلوبَهم، وتغلغل في سويدائها، والمراد أن حب عبادة العجل امتزج بدمائهم ودخل في قلوبهم، كما يدخل الصبغُ في الثوب، والماء في البدن {بِكُفْرِهِمْ} أي بسبب كفرهم، فهم كفروا أولاً، وبكفرهم دخل العجل إلى قلوبهم وختم عليها.

{قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ} أي قل لهم على سبيل التهكم بهم بئس هذا الإِيمان الذي يأمركم بعبادة العجل {إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ} أي إِن كنتم تزعمون الإِيمان فبئس هذا العمل والصنيع، والمعنى: لستم بمؤمنين لأن الإِيمان لا يأمر بعبادة العجل. وقوله تعالى {إن كنتم مؤمنين} دليل على أنهم ليسوا مؤمنين، لأن قلوبهم مشربة بحب العجل الذي عبدوه.



ما يستخلص من الآيات [92-93]:

1- الإيمان الصحيح هو الذي يجعل صاحبه منسجماً في سلوكه مع مقتضى ما آمن به. ولكن اليهود على خلاف ذلك فزعموا وادعوا أنهم آمنوا بالتوراة التي ترشدهم إلى عبادة الله وحده، ولكنهم عبدوا العجل واتخذوه إلهاً من دون الله فبئس هذا الإيمان الذي يصنع إنساناً متنقضاً في حيته وسلوكه تجاه ما آمن به.

2- علامة الإيمان الصحيح المقبول عند الله أن يطابق السلوك الخارجي المعتقد الداخلي في القلب، وعلامة الإنسان السويّ أني طابق فعلُه قوله، فنعوذ بالله من قوم {قالوا سمعنا} بألسنتهم و{عصينا} بأفعالهم.



حرص اليهود على الحياة وموقفهم من الملائكة والرسل

{قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوْا الْمَوْتَ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ(94)وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ(95)وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ(96)قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ(97)مَنْ كَانَ عَدُوًّاً لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ(98)}



سبب نزول الآية (94):

أخرج ابن جرير الطبري عن أبي العالية قال: قالت اليهود: لن يدخل الجنة إلا من كان هوداً، فأنزل الله: {قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمْ الدَّارُ الآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً…} [البقرة: 94].



{قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ} أي قل لهم يا محمد إِن كانت الجنة لكم خاصة لا يشارككم في نعيمها أحد كما زعمتم {فَتَمَنَّوْا الْمَوْتَ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} أي اشتاقوا الموت الذي يوصلكم إِلى الجنة، لأن نعيم هذه الحياة لا يساوي شيئاً إِذا قيس بنعيم الآخرة. ومن أيقن أنه من أهل الجنة اشتاق إِليها.

ثم قال تعالى رادّاً عليهم تلك الدعوى الكاذبة: {وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ} أي لن يتمنوا الموت ما عاشوا بسب ما اجترحوه من الذنوب والآثام.

وفي قوله تعالى {لن يتمنوه} إعجاز قرآني، لأن الله حكم حُكماً نهائياً في أمر اختياري لعدو يكيد الإسلام، وكان من الممكن أن يفطن هؤلاء اليهود ويقولوا لمحمد صلى الله عليه وسلم: "نحن نتمنى الموت فادع لنا ربك يميتنا". من أجل أن يشككوا في هذا الدين، ولكنهم إلى الآن لم يفعلوا، ولن يفعلوا، لأنهم يعلمون أنه الحق ولو طلبوا ذلك لماتوا حقاً، وهم يحبون الحياة ويكرهون الموت، بل يحبون الحياة أكثر من غيرهم كما سيأتي.

{وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ} أي عالم بظلمهم وإِجرامهم وسيجازيهم على ذلك.

{وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا} أي ولتجدنَّ اليهود أشدّ الناس حرصاً على الحياة، وأحرص من المشركين أنفسهم، وذلك لعلمهم بأنهم صائرون إِلى النار لإِجرامهم.

لذلك كلما طالت حياتهم ظنوا أنهم بعيدون من عذاب الآخرة. وأما المشركون فلا آخرة لهم لعدم إيمانهم بها، فالدنيا هي الغاية، ولذا لا يخافون من عواقب الموت كما يخاف منها اليهود الذين أجرموا فالمشرك إن خاف من الموت فلكونها تقطعه عن لذة الدنيا. وأما اليهود فيخافون الموت لفوات لذات الدنيا ويخافونها أكثر لما ينتظرهم من خزي وعذاب على إجرامهم وطغيانهم.

{يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ} أي يتمنى الواحد منهم أن يعيش ألف سنة {وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنْ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ} أي وما طول العمر - مهما عمّر - بمبعده ومنجيه من عذاب الله {وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ} أي مطّلع على أعمالهم فيجازيهم عليها.

{قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ} أي قل لهم يا محمد من كان عدواً لجبريل فإِنه عدو لله، لأن الله جعله واسطة بينه وبين رسله فمن عاداه فقد عادى الله.

وسبب عداوتهم لجبريل عليه السلام أنه ينزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالوحي، وعلى الظالمين المستكبرين بالعذاب، فقد سأل ابنُ جوريا -أحد أحبارهم- رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَنِ الذي ينزل عليك الوحي؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: جبريل. فقال اليهودي: لو كان غيره لآمنّا بك. جبريل عدونا لأنه ينزل دائماً بالخسف والعذاب ولكن ميكائيل ينزل بالرحمة والغيث والخصب". وقد غفل هؤلاء الحمقى أن الملائكة كلهم ينفذون أوامر الله. فمن عادى أحدهم فقد عادى أمر الله.

{فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ} أي فإِن جبريل الأمين نزّل هذا القرآن على قلبك يا محمد بأمر الله تعالى ولا شأن لجبريل في ذلك فلماذا تعادونه؟ {مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ} أي مصدقاً لما سبقه من الكتب السماوية {وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} أي وفيه الهداية الكاملة، والبشارة السارة للمؤمنين بجنات النعيم.

{مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ} أي من عادى الله وملائكته ورسله، وعادى على الوجه الأخص "جبريل وميكائيل" فهو كافر عدو لله {فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ} لأن الله يبغض من عادى أحداً من أوليائه، ومن عاداهم عاداه الله، ففيه الوعيد والتهديد الشديد.

فالعداوة للرسل مثل العداوة للملائكة مثل العداوة لجبريل وميكائيل مثل العداوة لله جل جلاله، فمصدر الدين واحد وهو الحق تعالى والرسل والملائكة سفراء الله إلى عباده أمناء على ما كلفهم الله بتبليغه.



ما يستخلص من الآيات [94-98]:

1- دلت الآيتين (94-95) على أن أساء وظلم في دنياه لا يتمنى الموت أبداً، وأما صاحب العمل الصالح فإنه يستبشر بلقاء الله وكرمه له في الجنة.

فإن قيل: ما معنى النهي الوارد في قوله صلى الله عليه وسلم: "لا يَتَمَنَّيَنَّ أحدكم الموت ولا يدعو به من قبل أن يأتيه إلا أن يكون قد وثق بعلمه" [رواه أحمد في مسنده].

فالجواب: أن تمني الموت المنهى عنه يكون بقصة الاحتجاج على المصائب والآلام هروباً من قدر الله تعالى، وكأنه كره قدر الله وهذا مناف للإيمان.

وأما تمني الموت من الرجل الصالح بقصد محبة لقاء الله تعالى فهو أمر مستحب يشرحه قوله عليه الصلاة والسلام "من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه" وهو معنى قوله تعالى على لسان يوسف عليه السلام {توفني مسلماً وألحقني بالصالحين} [يوسف: 101].

2- تعددت اعتذارات اليهود عن الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم، وهنا لون آخر من الاعتذار وهو كون جبريل عليه السلام نزل وبالوحي على محمد صلى الله عليه وسلم، وجبريل من أعدائهم كما زعموا، ولكنه العناد، وحجتهم باطلة، فهو أمين الوحي بين الله ورسله، وعداوته تعني عداوة الله ورسله.

3- كشفت هذه الآيات عن مادية اليهود، فهم يقيسون الأمر على البشر لتصورهم أن الذي يجلس عن يمين السيد والذي يجلس عن يساره يتنافسان على المنزلة عنده ولكن هذا في دنيا البشر، وقد فات هؤلاء أن الملائكة منزهون عن هذا التنافس {لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يُؤمرون}.

كفر اليهود بالقرآن ونقضهم المعهود

{وَلَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلا الْفَاسِقُونَ(99)أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ(100)وَلَمَّا جَاءهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ(101)}



المناسبة:

بعد أن ذكر الله تعالى ما جبل عليه اليهود من خبث النفس ونقض العهد، وتكذيب رسل الله، ومعاداة جبريل أمين الوحي عليه السلام، أعقب ذلك أن من عادة اليهود التكذيب بآيات الله، وعدم الوفاء بالعهود، وتكذيب الرسل، والإعراض عن القرآن. وفي ذلك تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم حيث عارضوا دعوته، وأعرضوا عن القرآن الكريم.



{وَلَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ} أي والله لقد أنزلنا يا محمد آيات واضحات دالاّت على نبوتك {وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلا الفَاسِقُونَ} أي وما يجحد بهذه الآيات ويكذب بها إلا الخارجون عن الطاعة الماردون على الكفر {أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ} أي أيكفرون بالآيات وهي في غاية الوضوح وكلّما أعطوا عهداً نقضه جماعة منهم؟ {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} أي بل أكثر اليهود لا يؤمن بالتوراة الإِيمان الصدق لذلك ينقضون العهود والمواثيق.

{وَلَمَّا جَاءهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} وهو محمد صلى الله عليه وسلم {مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ} أي مصدقاً للتوراة وموافقاً لها في أصول الدين ومقرراً لنبوة موسى عليه السلام {نَبَذَ فَرِيقٌ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ} أي طرح أحبارهم وعلماؤهم التوراة وأعرضوا عنها بالكليةلأنها تدل على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم فجحدوا وأصروا على إِنكار نبوته مما جعلهم يطرحون الكتاب وراء ظهورهم حتى نسوه تماماً ولا يلتفتوا إليه. بخلاف ما لو طرحوه أمامهم فإن رؤيته قد تذكرهم بالرجوع إليه.

{كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ} أي كأنهم لا يعلمون من دلائل نبوته شيئاً.

أفاد قوله تعالى {نبذ فريق منهم} أن بعض اليهود تمسك بالكتاب واهتدى إلى الإيمان بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم كابن سلام وكعب الأحبار وغيرها.



سبب نزول الآية (102):

قال محمد بن إسحاق: قال بعض أحبار اليهود: ألا تعجبون من محمد، يزعم أن سليمان كان نبياً؟ والله ما كان إلا ساحراً، فأنزل الله: {وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ}.

وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي العالية أن اليهود سألوا النبي صلى الله عليه وسلم زماناً عن أمور من التوراة، لا يسألونه عن شيء من ذلك إلا أنزل الله عليه ما سألوه عنه، فيخصمهم، فلما رأوا ذلك، قالوا: هذا أعلم بما أنزل إلينا منا، وإنهم سألوه عن السحر وخاصموه به، فأنزل الله: {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ}.

yacine414
2011-03-26, 10:16
اشتغال اليهود بالسحر

من أدب الخطاب مع النبي صلى الله عليه وسلم

نسخ الأحكام الشرعية

حسد أهل الكتاب للمؤمنين وكيفية الرد عليهم

رأي كل فريق من اليهود والنصارى في الآخر

جزاء مانع الصلاة في المساجد، وصحة الصلاة في أيِّ مكان طاهر

افتراءات أهل الكتاب على الله تعالى

عاقبة من يترك الحق بعدما تبين له

تذكير بني إسرائيل بالنعمة وتخويفهم من الآخرة

اختبار الله لإبراهيم عليه السلام، وفضائل مكة

قصة بناء البيت العتيق ودعاء إبراهيم عليه السلام

سفاهة من يكره دين إبراهيم عليه السلام

إبطال دعوى أهل الكتاب أن الهداية باتباع اليهودية أو النصرانية

صبغة الإيمان وأثرها في النفوس

بدء التمهيد لتحويل القِبلة

تحويل القِبلة

أسباب تحويل القبلة والاختلاف فيها

الأمر بالصبر على البلاء، وحال الصابرين

السعي بين الصفا والمروة وجزاء كتمان آيات الله

وحدانية الله تعالى، وبعض من مظاهر قدرته

حال المشركين مع آلهتهم

الأمر بالأكل من الطيبات والبعد عن المحرمات

الحلال والحرام من المآكل

كتمان أهل الكتاب ما أنزل الله

مظاهر البر الحقيقي

القصاص: مشروعيته وحكمته

حكم الوصية قبل الموت

فرضية الصيام

إجابة دعوة الداعي وأحكام الصيام

أكل الأموال بالباطل

التوقيت بالشهر القمري وحقيقة البِرّ

قواعد القتال في سبيل الله

أحكام الحج والعمرة

جواز التجارة للحاجِّ ، والأمر بذكر الله تعالى كثيراً ، ورفع الحرج عمّن تعجَّل بالنفر من مِنى

من الناس منافق ومخلص





اشتغال اليهود بالسحر



{وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ(102)وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ(103)}



{وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ} أي اتبعوا طرق السحر والشعوذة التي كانت تُحَدِّثُهم بها الشياطين في عهد ملك سليمان {وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ} أي وما كان سليمان ساحراً ولا كفر بتعلُّمه السحر {وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ} أي ولكنّ الشياطين هم الذين علموا الناس السحر حتى فشا أمره بين الناس {وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ} أي وكما اتبع رؤساء اليهود السحر كذلك اتبعوا ما أنزل على الملَكيْن وهما هاروت وماروت بمملكة بابل بأرض الكوفة، وقد أنزلهما الله ابتلاءً وامتحاناً للناس.

{وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ} أي إن الملَكَيْن لا يعلمان أحداً من الناس السحر حتى يبذلا له النصيحة ويقولا إِن هذا الذي نصفه لك إِنما هو امتحان من الله وابتلاء، فلا تستعمله للإِضرار ولا تكفر بسببه، فمن تعلمه ليدفع ضرره عن الناس فقد نجا، ومن تعلمه ليلحق ضرره بالناس فقد هلك وضل.

قال تعالى {فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ} أي يتعلمون منهما من علم السحر ما يكون سبباً في التفريق بين الزوجين، فبعد أن كانت المودة والمحبة بينهما يصبح الشقاق والفراق {وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَ بِإِذْنِ اللَّهِ} أي وما هم بما استعملوه من السحر يضرون أحداً إِلا إِذا شاء الله {وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنفَعُهُمْ} أي والحال أنهم بتعلم السحر يحصلون على الضرر لا على النفع.

{وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ} أي ولقد علم اليهود الذين نبذوا كتاب الله واستبدلوا به السحر، أنهم ليس لهم حظ من رحمة الله ولا من الجنة لأنهم آثروا السحر على كتاب الله {وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} أي ولبئس هذا الشيء الذي باعوا به أنفسهم لو كان لهم علم أو فهم وإِدراك.

{وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا} أي ولو أن أولئك الذين يتعلمون السحر آمنوا بالله وخافوا عذابه {لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} أي لأثابهم الله ثواباً أفضل مما شغلوا به أنفسهم من السحر، الذي لا يعود عليهم إِلا بالويل والخسار والدمار.

سبب نزول الآية (104):

قال ابن عباس في رواية عطاء: وذلك أن العرب كانوا يتكلمون بها، فلما سمعهم اليهود يقولونها للنبي صلى الله عليه وسلم أعجبهم ذلك، وكان "راعنا" في كلام اليهود سباً قبيحاً، فقالوا: إنا كنا نسب محمداً سراً، فالآن أعلنوا السب لمحمد، فإنه من كلامه، فكانوا يأتون نبي الله صلى الله عليه وسلم فيقولون: يا محمد راعنا، ويضحكون، ففطن بها رجل من الأنصار، وهو سعد بن معاذ، وكان عارفاً بلغة اليهود، وقال: يا أعداء الله، عليكم لعنة الله، والذي نفس محمد بيده، لئن سمعتها من رجل منكم لأضربنَّ عنقه، فقالوا: ألستم تقولونها؟ فأنزل الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا رَاعِنَا} الآية.



سبب نزول الآية (105):

قال المفسرون: إن المسلمين كانوا إذا قالوا لحلفائهم من اليهود: آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم، قالوا: هذا الذي تدعوننا إليه، ليس بخير مما نحن عليه، ولوددنا لو كان خيراً، فأنزل الله تعالى تكذيباً لهم.



من أدب الخطاب مع النبي صلى الله عليه وسلم



{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ(104)مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ(105)}



{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} هذا نداء من الله جل شأنه للمؤمنين يخاطبهم فيه فيقول {لا تَقُولُوا رَاعِنَا} أي راقبنا وأمهلنا حتى نتمكن من حفظ ما تلقيه علينا {وَقُولُوا انظُرْنَا} أي انتظرنا وارتقبنا {وَاسْمَعُوا} أي أطيعوا أوامر الله ولا تكونوا كاليهود حيث قالوا سمعنا وعصينا {وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ} أي ولليهود الذين نالوا من الرسول وسبّوه، عذاب أليم موجع.

{مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ} أي ما يحب الكافرون من اليهود والنصارى ولا المشركون أن ينزّل عليكم شيء من الخير، بغضاً فيكم وحسداً لكم {وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ} أي يختص بالنبوة والوحي والفضل والإِحسان من شاء من عباده {وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} والله واسع الفضل والإِحسان.



سبب نزول الآية (106):

قال المفسرون: إن المشركين قالوا: أترون إلى محمد يأمر أصحابه بأمر ثم ينهاهم عنه ويأمرهم بخلافه، ويقول اليوم قولاً ويرجع عنه غداً، ما في هذا القرآن إلا كلام محمد، يقوله من تلقاء نفسه، وهو كلام يناقض بعضه بعضاً، مثل تغيير حد الزاني بالتعيير باللسان: {فآذوهما} والزانية بالإمساك في البيوت: {فأمسكوهن ..} إلى الجلد، فأنزل الله: {وإذا بدَّلنا آيةً مكانَ آيةٍ} الآية [النحل: 101] وأنزل أيضاً: {مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا} [البقرة: 106].



سبب نزول الآية (107):

قال ابن عباس: نزلت هذه الآية في عبد الله بن أُبيّ بن كعب ورهط من قريش، قالوا: يا محمد اجعل لنا الصفا ذهباً، وَوَسِّع لنا أرض مكة، وفجّر الأنهار خلالها تفجيراً نؤمن بك، فأنزل الله تعالى هذه الآية.

أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: قال رافع بن خزيمة ووهب بن زيد لرسول الله: يا محمد، ائتنا بكتاب تنزله علينا من السماء، نقرؤه، أو فجّر لنا أنهاراً نتبعك ونصدقك، فأنزل الله في ذلك: {أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ} إلى قوله: {سَوَاءَ السَّبِيلِ}.


سبب نزول الآية (108) وما بعدها:

كان حُيَيّ بن أخطب وأبو ياسر بن أخطب من أشد يهود، حسداً للعرب، إذ خصّهم الله برسوله، وكانا جاهدين في ردّ الناس عن الإسلام ما استطاعا، فأنزل الله فيهما: {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ} الآية (109).

وأخرج ابن جرير الطبري عن مجاهد قال: سألت قريش محمداً أن يجعل لهم الصفا ذهباً، قال: نعم، وهو لكم كالمائدة لبني إسرائيل، إن كفرتم، فأبوا ورجعوا،فأنزل الله: {أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ} الآية.



المنَاسَبَة:

لما ذكر تعالى قبائح اليهود، وما اختصوا به من ضروب السحر والشعوذة، أعقبه ببيان نوع آخر من السوء والشر، الذي يضمرونه للنبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين، من الطعن والحقد والحسد، وتمني زوال النعمة عن المؤمنين، واتخاذهم الشريعة الغراء هدفاً للطعن والتجريح بسبب النسخ لبعض الأحكام الشرعية.



نسخ الأحكام الشرعية



{مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ(106)أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ(107)أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ(108)}



ثم قال تعالى رداً على اليهود حين طعنوا في القرآن بسبب النسخ {مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا} أي ما نبدّل من حكم آية فنغيره بآخر أو ننسها يا محمد أي نمحها من قلبك {نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} أي نأت بخير لكم منها أيها المؤمنون بما هو أنفع لكم في العاجل أو الآجل، إِما برفع المشقة عنكم، أو بزيادة الأجر والثواب لكم {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} أي ألم تعلم أيها المخاطب أن الله عليم حكيم قدير، لا يصدر منه إِلا كل خير وإِحسان للعباد!!

{أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} أي ألم تعلم أن الله هو المالك المتصرف في شؤون الخلق يحكم بما شاء ويأمر بما شاء؟ {وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ} أي مالكم وليٌّ يرعى شؤونكم أو ناصر ينصركم غير الله تعالى فهو نعم الناصر والمعين.

{أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ} أي بل أتريدون يا معشر المؤمنين أن تسألوا نبيكم كما سأل قوم موسى نبيهم من قبل ويكون مثلكم مثل اليهود الذين قالوا لنبيهم {أرنا الله جهرة} فتضلوا كما ضلوا {وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالإِيمَانِ} أي يستبدل الضلالة بالهدى ويأخذ الكفر بدل الإِيمان {فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ} أي فقد حاد عن الجادة وخرج عن الصراط السوي.



سبب نزول الآية (109):

قال ابن عباس: نزلت في نفر من اليهود قالوا للمسلمين بعد وقعة أحد: ألم تروا إلى ما أصابكم، ولو كنتم على الحق، ما هُزمتم، فارجعوا إلى ديننا فهو خير لكم.



المناسبة:

بعد أن نهى الله سبحانه في الآيات السالفة عن الاستماع لنصح اليهود ورفض آرائهم، ذكر هنا وجه العلّة، وهي أنهم يحسدون المسلمين على نعمة الإسلام ويتمنون أن يحرموا منها، فهم لا يكتفون بكفرهم بالنبي والكيد له ونقض العهود، وإنما يتمنون أن يرتد المسلمون عن دينهم.



حسد أهل الكتاب للمؤمنين وكيفية الرد عليهم



{وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ(109)وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَمَا تُقَدِّمُوا لأَنفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ(110)}



{وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ} أي تمنى كثير من اليهود والنصارى {لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا} أي لو يصيّرونكم كفاراً بعد أن آمنتم {حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنفُسِهِمْ} أي حسداً منهم لكم، حملتهم عليه أنفسهم الخبيثة {مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ الْحَقُّ} أي من بعد ما ظهر لهم بالبراهين الساطعة أن دينكم هو الحق {فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا} أي اتركوهم وأعرضوا عنهم فلا تؤاخذوهم {حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ} أي حتى يأذن الله لكم بقتالهم {إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} أي قادر على كل شيء فينتقم منهم إِذا حان الأوان.

{وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} أي حافظوا على عمودي الإِسلام وهما "الصلاة والزكاة" وتقربوا إِليه بالعبادة البدنية والمالية {وَمَا تُقَدِّمُوا لأَنفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ} أي ما تتقربوا به إِلى الله من صلاة أو صدقة أو عمل صالح فرضاً كان أو تطوعاً تجدوا ثوابه عند الله {إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} أي رقيب عليكم مطلع على أعمالكم فيجازيكم عليها يوم الدين.



سبب النزول:

عن ابن عباس قال: لما قدم أهل نجران من النصارى على رسول الله صلى الله عليه وسلم أتتهم أخبار اليهود فتنازعوا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رافع بن حرملة: ما أنتم على شيء وكفر بعيسى وبالإنجيل، وقال رجل من أهل نجران من النصارى لليهود: ما أنتم على شيء وجحد نبوة موسى وكفر بالتوراة فأنزل الله {وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ}.



رأي كل فريق من اليهود والنصارى في الآخر



{وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَ مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ(111)بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ(112)وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ(113)}.



{وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَ مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى} أي قال اليهود لن يدخل الجنة إِلا من كان يهودياً، وقال النصارى لن يدخل الجنة إِلا من كان نصرانياً {تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ} أي تلك خيالاتهم وأحلامهم {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} أي قل لهم يا محمد ائتوني بالحجة الساطعة على ما تزعمون إِن كنتم صادقين في دعواكم.

{بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ} أي بلى يدخل الجنة من استسلم وخضع وأخلص نفسه لله {وَهُوَ مُحْسِنٌ} أي وهو مؤمن مصدّقٌ متبعٌ لرسول الله صلى الله عليه وسلم {فلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} أي فله ثواب عمله ولا خوف عليهم في الآخرة ولا يعتريهم حزنٌ أو كدر بل هم في نعيم مقيم.

{وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ} أي كفر اليهود بعيسى وقالوا ليس النصارى على دين صحيح معتدٍّ به فدينهم باطل {وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ} أي وقال النصارى في اليهود مثل ذلك وكفروا بموسى {وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ} أي والحال أن اليهود يقرؤون التوراة والنصارى يقرؤون الإِنجيل فقد كفروا عن علمٍ.

{كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قوْلِهِمْ} أي كذلك قال مشركو العرب مثل قول أهل الكتاب قالوا: ليس محمد على شيء {فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} أي يحكم بين اليهود والنصارى ويفصل بينهم بقضائه العادل فيما اختلفوا فيه من أمر الدين.

سبب نزول الآية (114):

هناك روايتان عن ابن عباس في سبب نزول هذه الآية، ففي رواية نزلت في ططلوس الرومي وأصحابه من النصارى، وذلك أنهم غزوا بني إسرائيل، فقتلوا مقاتلتهم، وسبوا ذراريهم، وحرفوا التوراة، وخربوا بيت المقدس، وقذفوا فيه الجيف.

وفي رواية نزلت في مشركي أهل مكة، ومنعهم المسلمين من ذكر الله تعالى في المسجد الحرام.



جزاء مانع الصلاة في المساجد، وصحة الصلاة في أيِّ مكان طاهر



{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُوْلَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلاَ خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ(114)وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ(115)}



{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا} استنكار واستبعاد لأن يكون أحد أظلم ممن فعل ذلك أي لا أحد أظلم ممن منع الناس من عبادة الله في بيوت الله، وعمل لخرابها بالهدم كما فعل الرومان ببيت المقدس، أو بتعطيلها من العبادة كما فعل كفار قريش {أُوْلَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلاَ خَائِفِينَ} أي ما ينبغي لأولئك أن يدخلوها إِلا وهم في خشية وخضوع فضلاً عن التجرؤ على تخريبها أو تعطيلها {لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ} أي لأولئك المذكورين هوانٌ وذلة في الدنيا {وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} وهو عذاب النار.

{وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ} أي لله مكان شروق الشمس ومكان غروبها والمراد جميع الأرض {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} أي إلى أي جهة توجهتم بأمره فهناك قبلته التي رضيها لكم، وقد نزلت الآية فيمن أضاع جهة القبلة {إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} أي يسع الخلق بالجود والإِفضال، عليم بتدبير شئونهم، لا تخفى عليه خافية من أحوالهم.



المنَاسَبَة:

لمّا ذكر تعالى افتراء اليهود والنصارى وزعمهم أن الجنة خاصة بهم لا يشاركهم فيها أحد أعقبه بذكر بعض قبائحهم وقبائح المشركين في ادعائهم أنَّ لله ولداً حيث زعم اليهود أن عزيراً ابن الله، وزعم النصارى أن المسيح ابن الله، وزعم المشركون أن الملائكة بنات الله فأكذبهم الله وردّ دعواهم بالحجة الدامغة والبرهان القاطع.



افتراءات أهل الكتاب على الله تعالى



{وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ(116)بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ(117)وَقَالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ لَوْلا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ(118)}.



{وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا} هو قول اليهود والنصارى والمشركين فاليهود قالوا: عزير ابن الله، والنصارى قالوا: المسيح ابن الله، والمشركون قالوا: الملائكة بنات الله فأكذب الله الجميع في دعواهم فقال {سُبْحَانَهُ} أي تقدس وتنزّه عما زعموا تنزهاً بليغاً {بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} بل للإِضراب أي ليس الأمر كما زعموا بل هو خالق جميع الموجودات التي من جملتها عُزَير والمسيح والملائكة {كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ} أي الكل منقادون له لا يستعصي شيء منهم على تكوينه وتقديره ومشيئته.

{بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} أي خالقهما ومبدعهما على غير مثال سبق {وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} أي إِذا أراد إيجاد شيء حصل من غير امتناع ولا مهلة فمتى أراد شيئاً وجد بلمح البصر، فمراده نافذ وأمره لا يتخلف {وما أمرنا إِلا واحدةٌ كلمحٍ بالبصر}.

{وَقَالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} المراد بهم جهلة المشركين وهم كفار قريش {لَوْلا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ} أي هلاً يكلمنا الله مشافهة أو بإِنزال الوحي علينا بأنك رسوله {أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ} أي تكون برهاناً وحجة على صدق نبوتك، قالوا ذلك استكباراً وعناداً {كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ} أي مثل هذا الباطل الشنيع قال المكذبون من أسلافهم لرسلهم {تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ} أي قلوب هؤلاء ومن قبلهم في العمى والعناد والتكذيب للأنبياء وفي هذا تسلية له صلى الله عليه وسلم { قَدْ بَيَّنَّا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} أي قد وضحنا الأدلة وأقمنا البراهين لقومٍ يطلبون الحق واليقين، وكلها ناطقة بصدق ما جئت به.



عاقبة من يترك الحق بعدما تبين له



{إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ(119)وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُل إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ(120)الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاَوَتِهِ أُوْلَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ(121)}.



{إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا} أي أرسلناك يا محمد بالشريعة النيّرة والدين القويم بشيراً للمؤمنين بجنات النعيم، ونذيراً للكافرين من عذاب الجحيم {وَلا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ} أي أنت لست مسؤولاً عمن لم يؤمن منهم بعد أن بذلت الجهد في دعوتهم {إِنما عليك البلاغ وعلينا الحساب}.

{وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} أي لن ترضىِ عنك الطائفتان "اليهود والنصارى" حتى تترك الإِسلام المنير وتتبع دينهم الأعوج {قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى} أي قل لهم يا محمد إِن الإِسلام هو الدين الحق وما عداه فهو ضلال {وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ} أي ولئن سايرتهم على آرائهم الزائفة وأهوائهم الفاسدة بعدما ظهر لك الحق بالبراهين الساطعة والحجج القاطعة {مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ} أي ليس لك من يحفظك أو يدفع عنك عقابه الأليم.

{الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ} مبتدأ، وهم طائفة من اليهود والنصارى أسلموا {يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاَوَتِهِ} أي يقرءونه قراءة حقة كما أنزل {أُوْلَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ} هذا خبر المبتدأ، أي فأولئك هم المؤمنون حقاً دون المعاندين المحرفين لكلام الله {وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} أي ومن كفر بالقرآن فقد خسر دنياه وآخرته.





تذكير بني إسرائيل بالنعمة وتخويفهم من الآخرة



{يَابَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِي الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ(122)وَاتَّقُوا يَوْمًا لاَ تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلا تَنفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ(123)}.



{يَابَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِي الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ} أي اذكروا نعمي الكثيرة عليكم وعلى آبائكم {وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ} أي واذكروا تفضيلي لكم على سائر الأمم في زمانكم {وَاتَّقُوا يَوْمًا لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا} أي خافوا ذلك اليوم الرهيب الذي لا تغني فيه نفس عن نفس ولا تدفع عنها من عذاب الله شيئاً، لأن كل نفسٍ بما كسبت رهينة {وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ} أي لا يقبل منها فداء {وَلا تَنفَعُهَا شَفَاعَةٌ} أي لا تفيدها شفاعة أحد لأنها كفرت بالله {فما تنفعهم شفاعة الشافعين} {وَلا هُمْ يُنصَرُونَ} أي لا يدفع عنهم أحد عذاب الله ولا يجيرهم من سطوة عقابه.



سبب نزول الآية (125):

{وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى}: روى البخاري وغيره عن عمر قال: وافقت ربي في ثلاث، قلت: يا رسول الله، لو أخذت من مقام إبراهيم مصلى، فنزلت: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى}. وقلت: يا رسول الله، إن نساءك يدخل عليهن البَرّ والفاجر، فلو أمرتهن أن يحتجبن، فنزلت آية الحجاب، واجتمع على رسول الله صلى الله عليه وسلم نساؤه في الغيرة، فقلت لهن: {عَسَى ربُّه إن طلَّقَكُنَّ أن يُبْدِلَه أزواجاً خَيْراً منكن} [التحريم: 5] فنزلت.


المنَاسَبَة:

بعد أن عدّد الله تعالى في الآيات السابقة نعمه على بني إِسرائيل، وبيّن كيف كانوا يقابلون النعم بالكفر والعناد، ويأتون منكرات في الأقوال والأعمال، وصل حديثهم بقصة إبراهيم أبي الأنبياء الذي يدّعي اليهود والنصارى انتماءهم إِليه ويقرون بفضله، ولو كانوا صادقين لوجب عليهم اتباع هذا النبي الكريم "محمد" صلى الله عليه وسلم ودخولهم في دينه القويم لأنه أثر دعوة إِبراهيم الخليل حين دعا لأهل الحرم، ثم هو من ولد إسماعيل عليه السلام فكان أولى بالاتباع والتمسك بشريعته الحنيفية السمحة التي هي متمِّمة شريعة الخليل عليه السلام.



اختبار الله لإبراهيم عليه السلام، وفضائل مكة



{وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ(124)وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ(125)وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنْ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ(126)}.



{وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ} أي اذكر يا محمد حين اختبر الله عبده إِبراهيم الخليل، وكلّفه بجملة من التكاليف الشرعية "أوامر ونواهٍ" فقام بهن خير قيام {قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا} أي قال له ربه إِني جاعلك قدوة للناس ومناراً يهتدي بك الخلق {قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي} أي قال إِبراهيم واجعل يا ربّ أيضاً من ذريتي {قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} أي لا ينال هذا الفضل العظيم أحدٌ من الكافرين.

{وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ} أي واذكر حين جعلنا الكعبة المعظمة مرجعاً للناس يقبلون عليه من كل جانب {وَأَمْنًا} أي مكان أمن يأمن من لجأ إليه، وذلك لما أودع الله في قلوب العرب من تعظيمه وإِجلاله {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} أي وقلنا للناس اتخذوا من المقام - وهو الحَجَر الذي كان يقوم عليه إبراهيم لبناء الكعبة - مصلّى أي صلوا عنده.

{وَعَهِدْنا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ} أي أوصينا وأمرنا إِبراهيم وولده إسماعيل {أَنْ طَهِّرَا بَيْتِي لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} أي أمرناهما بأن يصونا البيت من الأرجاس والأوثان ليكون معقلاً للطائفين حوله والمعتكفين الملازمين له والمصلين فيه، فالآية جمعت أصناف العابدين في البيت الحرام: الطائفين، والمعتكفين، والمصلين ..

ثم أخبر تعالى عن دعوة الخليل إِبراهيم فقال {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا} أي اجعل هذا المكان - والمراد مكة المكرمة - بلداً ذا أمن يكون أهله في أمنٍ واستقرار {وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنْ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} أي وارزق يا رب المؤمنين من أهله وسكانه من أنواع الثمرات، ليقبلوا على طاعتك ويتفرغوا لعبادتك وخصَّ بدعوته المؤمنين فقط، قال تعالى جواباً له:{قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً} أي قال الله وأرزق من كفر أيضاً كما أرزق المؤمن، أأخلق خلقاً ثم لا أرزقهم؟ أما الكافر فأمتعه في الدنيا متاعاً قليلاً وذلك مدة حياته فيها.

{ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ} أي ثم أُلجئه في الآخرة وأسوقه إِلى عذاب النار فلا يجد عنها محيصاً {وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} أي وبئس المآل والمرجع للكافر أن يكون مأواه نار جهنم. قاس الخليل الرزق على الإِمامة فنبهه تعالى على أن الرزق رحمة دنيوية شاملة للبرّ والفاجر بخلاف الإِمامة فإِنها خاصة بالخواص من المؤمنين.



قصة بناء البيت العتيق ودعاء إبراهيم عليه السلام



{وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنْ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ(127)رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ(128)رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ(129)}.



ثم قال تعالى حكاية عن قصة بناء البيت العتيق {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنْ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ} أي واذكر يا محمد ذلك الأمر الغريب وهو رفع الرسولين العظيمين "إِبراهيم وإِسماعيل" قواعد البيت وقيامهما بوضع أساسه ورفع بنائه وهما يقولان بخضوع وإِجلال {رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} أي يبنيان ويدعوان بهذه الدعوات الكريمة قائلين يا ربنا تقبل منا أي اقبل منا عملنا هذا واجعله خالصاً لوجهك الكريم فإِنك أنت السميع لدعائنا العليم بنياتنا.

{رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ} أي اجعلنا خاضعين لك منقادين لحكمك {وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ} أي واجعل من ذريتنا من يسلم وجهه لك ويخضع لعظمتك {وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا} أي وعلمنا شرائع عبادتنا ومناسك حجنا {وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} أي تب علينا وارحمنا فإنك عظيم المغفرة واسع الرحمة.

{رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ} أي ابعث في الأمة المسلمة رسولاً من أنفسهم وهذا من جملة دعواتهما المباركة فاستجاب الله الدعاء ببعثة السراج المنير محمد صلى الله عليه وسلم {يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ} أي يقرأ آيات القرآن {وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} أي يعلمهم القرآن العظيم والسنّة المطهرة {وَيُزَكِّيهِمْ} أي يطهرهم من رجس الشرك {إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} العزيز الذي لا يُقهر ولا يُغلب، الحكيم الذي لا يفعل إلا ما تقتضيه الحكمة والمصلحة.



سبب نزول الآية (130):

قال ابن عُيَيْنَة: روي أن عبد الله بن سلام دعا ابنَيْ أخيه: سلمة ومهاجراً، إلى الإسلام، فقال لهما: قد علمتما أن الله تعالى قال في التوراة: إني باعث من ولد إسماعيل نبياً اسمه أحمد، فمن آمن به فقد اهتدى ورشد، ومن لم يؤمن به فهو ملعون، فأسلم سلمة، وأبى مهاجر، فنزلت فيه الآية.



سفاهة من يكره دين إبراهيم عليه السلام



{وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَ مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ(130)إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ(131)وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلاَ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ(132)أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ(133)تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ(134)}



{وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَ مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ} أي لا يرغب عن دين إِبراهيم وملته الواضحة الغراء إِلا من استخفّ نفسه وامتهنها {وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا} أي اخترناه من بين سائر الخلق بالرسالة والنبوة والإِمامة {وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ} أي من المقربين الذين لهم الدرجات العلى {إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ} أي استسلم لأمر ربك وأخلصْ نفسك له {قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} أي استسلمت لأمر الله وخضعتُ لحكمه.

{وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ} أي وصّى الخليل أبناءه باتباع ملته وكذلك يعقوب أوصى بملة إِبراهيم {يَابَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ} أي اختار لكم دين الإِسلام ديناً وهذا حكاية لما قال إبراهيم ويعقوب لأبنائهما {فَلا تَمُوتُنَّ إِلاَ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} أي اثبتوا على الإِسلام حتى يدرككم الموت وأنتم متمسكون به.

{أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ} أي بل أكنتم شهداء حين احتضر يعقوب وأشرف على الموت وأوصى بنيه باتباع ملة إبراهيم {إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي}؟ أي أيَّ شيء تعبدونه بعدي؟ {قالوا نعبد إِلهك وإِله آبائك إِبراهيم وإِسماعيل وإِسحاق إِلهاً واحداً} أي لا نعبد إِلا إِلهاً واحداً هو الله رب العالمين إِله آبائك وأجدادك السابقين {وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} أي نحن له وحده مطيعون خاضعون، والغرض تحقيق البراءة من الشرك.

قال تعالى مشيراً إِلى تلك الذرية الطيبة {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ} والإِشارة إِلى إِبراهيم وبنيه أي تلك جماعة وجيل قد سلف ومضى {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ} أي لها ثواب ما كسبت ولكم ثواب ما كسبتم {وَلا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} أي لا تسألون يوم القيامة عما كانوا يعملون في الدنيا بل كل نفسٍ تتحمل وحدها تبعة ما اكتسبت من سوء.



تنبيه:

ظاهر قوله تعالى {فَلا تَمُوتُنَّ إِلاَ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} النهي عن الموت إِلا على هذه الحالة من الإِسلام، والمقصود الأمر بالثبات على الإِسلام إِلى حين الموت، أي فاثبتوا على الإِسلام ولا تفارقوه أبداً واستقيموا على محجته البيضاء حتى يدرككم الموت وأنتم على الإِسلام الكامل كقولك لا تصلّ إِلا وأنت خاشع.



المنَاسَبَة:

لما ذكر تعالى أن ملة إبراهيم هي ملة الحنيفية السمحة، وأن من لم يؤمن بها ورغب عنها فقد بلغ الذروة العليا في الجهالة والسفاهة، ذكر تعالى ما عليه أهل الكتاب من الدعاوى الباطلة من زعمهم أن الهداية في اتباع اليهودية والنصرانية، وبيّن أن تلك الدعوى لم تكن عن دليل أو شبهة بل هي مجرد جحود وعناد، ثم عقب ذلك بأن الدين الحق هو في التمسك بالإِسلام، دين جميع الأنبياء والمرسلين.


إبطال دعوى أهل الكتاب أن الهداية باتباع اليهودية أو النصرانية



{وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةََ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ(135)قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ(136)فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ(137)}



{وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا} أي قال اليهود كونوا على ملتنا يهوداً تهتدوا وقال النصارى كونوا نصارى تهتدوا، فكلٌ من الفريقين يدعو إِلى دينه المعوج {قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} أي قل لهم يا محمد بل نتّبع ملة الحنيفية السمحة وهي ملة إِبراهيم حال كونه مائلاً عن الأديان كلها إِلى الدين القيم وما كان إِبراهيم من المشركين بل كان مؤمناً موحّداً وفيه تعريض بأهل الكتاب وإِيذان بأنَّ ما هم عليه إِنما هو شرك وضلال.

{قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ} أي قولوا أيها المؤمنون آمنا بالله وما أنزل إِلينا من القرآن العظيم {وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ} أي وآمنا بما أنزل إِلى إِبراهيم من الصحف والأحكام التي كان الأنبياء متعبَّدين بها وكذلك حفدة إِبراهيم وإِسحاق وهم الأسباط حيث كانت النبوة فيهم {وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى} أي من التوراة والإِنجيل {وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ} أي ونؤمن بما أنزل على غيرهم من الأنبياء جميعاً ونصدّق بما جاءوا به من عند الله من الآيات البينات والمعجزات الباهرات {لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ} أي لا نؤمن بالبعض ونكفر بالبعض كما فعلت اليهود والنصارى {وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} أي منقادون لأمر الله خاضعون لحكمه.

{فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوا} أي إِن آمن أهل الكتاب بنفس ما آمنتم به معشر المؤمنين فقد اهتدوا إِلى الحق كما اهتديتم {وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ} أي وإِن أعرضوا عن الإِيمان بما دعوتهم إِليه فاعلم أنهم إِنما يريدون عداوتك وخلافك، وليسوا من طلب الحق في شيء {فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ} أي سيكفيك يا محمد شرهم وأذاهم ويعصمك منهم {وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} أي هو تعالى يسمع ما ينطقون به ويعلم ما يضمرونه في قلوبهم من المكر والشر.

سبب نزولالآية (138):

قال ابن عباس: إن النصارى كان إذا ولد لأحدهم ولد، فأتى عليه سبعة أيام، صبغوه في ماء لهم، يقال له: المعمودي، ليطهروه بذلك، ويقولون: هذا طهور، مكان الختان، فإذا فعلوا ذلك، صار نصرانياً حقاً، فأنزل الله هذه الآية.



صبغة الإيمان وأثرها في النفوس



{صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ(138)قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا فِي اللَّهِ وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ(139)أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطَ كَانُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى قُلْ ءَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمْ اللَّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ(140)تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ(141)}.



{صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً} أي ما نحن عليه من الإِيمان هو دين الله الذي صبغنا به وفطرنا عليه فظهر أثره علينا كما يظهر الصبغ في الثوب، ولا أحد أحسن من الله صبغةً أي ديناً {وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ} أي ونحن نعبده جلّ وعلا ولا نعبد أحداً سواه.

{قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا فِي اللَّهِ} أي أتجادلوننا في شأن الله زاعمين أنكم أبناء الله وأحباؤه، وأن الأنبياء منكم دون غيركم؟ {وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ} أي ربُّ الجميع على السواء وكلُّنا عبيده {وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ} أي لنا جزاء أعمالنا ولكم جزاء أعمالكم لا يتحمل أحد وزر غيره {وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ} أي قد أخلصنا الدين والعمل لله.

{أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطَ كَانُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى}؟ أي أم تدّعون يا معشر أهل الكتاب أن هؤلاء الرسل وأحفادهم كانوا يهوداً أو نصارى {قُلْ ءَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَم اللَّهُ} أي هل أنتم أعلم بديانتهم أم الله؟ وقد شهد الله لهم بملة الإسلام وبرأهم من اليهودية والنصرانية {ما كان إِبراهيم يهودياً ولا نصرانياً ولكن كان حنيفاً مسلماً} فكيف تزعمون أنهم على دينكم؟.

{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ} أي لا أحد أظلم ممَن أخفى وكتم ما اشتملت عليه آيات التوراة والإِنجيل من البشارة برسول الله، أو لا أحد أظلم ممن كتم ما أخبر الباري عنه من أن الأنبياء الكرام كانوا على الإِسلام {وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} أي مطلع على أعمالكم ومجازيكم عليها وفيه وعيد شديد.

{تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} كرّرها لأنها تضمنت معنى التهديد والتخويف، أي إِذا كان أولئك الأنبياء على فضلهم وجلالة قدرهم يجازون بكسبهم فأنتم أحرى، وقد تقدم تفسيرها فأغنى عن الإِعادة.



بدء التمهيد لتحويل القِبلة



{سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنْ النَّاسِ مَا وَلاَّهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ(142) وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلاَ لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ(143)}



{سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنْ النَّاسِ} أي سيقول ضعفاء العقول من الناس {مَا ولاَّهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا} أي ما صرفهم وحوّلهم عن القبلة التي كانوا يصلون إِليها وهي بيت المقدس، قبلة المرسلين من قبلهم؟ {قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ} أي قل لهم يا محمد الجهات كلها لله له المشرق والمغرب فأينما ولينا وجوهنا بأمر من الله كان القبول من الله {يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} أي يهدي عباده المؤمنين إِلى الطريق القويم الموصل لسعادة الدارين .

{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} أي كما هديناكم إِلى الإِسلام كذلك جعلناكم يا معشر المؤمنين أمة عدولاً خياراً {لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} أي لتشهدوا على الأمم يوم القيامة أن رسلهم بلّغتهم، ويشهد عليكم الرسول أنه بلغكم {وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا} أي وما أمرناك بالتوجه إِلى بيت المقدس ثم صرفناك عنها إِلى الكعبة {إِلاَ لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ} أي إِلا لنختبر إِيمان الناس فنعلم من يصدّق الرسول، ممن يشكّك في الدين ويرجع إِلى الكفر لضعف يقينه {وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ} أي وإِن كان هذا التحويل لشاقاً وصعباً إِلا على الذين هداهم الله .

{وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} أي ما صحَّ ولا استقام أن يضيع الله صلاتكم إِلى بيت المقدس بل يثيبكم عليها، وذلك حين سألوه صلى الله عليه وسلم عمن مات وهو يصلي إِلى بيت المقدس قبل تحويل القبلة فنزلت، وقوله تعالى {إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ} تعليل للحكم أي أنه تعالى عظيم الرحمة بعباده لا يضيع أعمالهم الصالحة التي فعلوها.



سبب النزول:

روى البخاري عن البراء قال: لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، فصلّى نحو بيت المقدس ستة عشر شهراً أو سبعة عشر شهراً، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب أن يتوجه نحو الكعبة، فأنزل الله تعالى: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ في السَّماء} الآية [البقرة: 144]، فقال السفهاء من الناس وهم اليهود: {مَا وَلاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها}، قال الله تعالى: {قُلْ: لله الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ} الآية.

وفي الصحيحين عن البراء: مات على القبلة قبل أن تحول رجال وقتلوا، فلم ندرِ ما نقول فيهم، فأنزل الله: {وَمَا كَانَ الله لِيُضِيعَ إيَمانَكُمْ}. أي صلاتكم.



سبب نزول الآية: {الذينَ آتيناهم الكتابَ}:

نزلت هذه الآية في مؤمني أهل الكتاب: عبد الله بن سَلام وأصحابه، كانوا يعرفون رسول الله صلى الله عليه وسلم بنعته وصفته وبعثه في كتابهم، كما يعرف أحدهم ولده، إذا رآه مع الغلمان، قال عبد الله بن سَلام: لأنا أشدُّ معرفةً برسول الله صلى الله عليه وسلم مني بابني، فقال له عمر بن الخطاب: وكيف ذاك يا أبن سَلام؟ قال: لأني أشهد أن محمداً رسول الله حقّاً يقيناً، وأنا لا أشهد بذلك على ابني، لأني لا أدري ما أحدث النساء، فقال عمر: وفقك الله يا ابن سَلام.



تحويل القِبلة



{قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ(144)وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ(145)الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ(146)الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنْ الْمُمْتَرِينَ(147)}



{قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ} كثيراً ما رأينا تردّد بصرك يا محمد جهة السماء تشوقاً لتحويل القبلة {فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا} أي فلنوجهنك إِلى قبلةٍ تحبها، - وهي الكعبة - قبلة أبيك إِبراهيم {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} أي توجه في صلاتك نحو الكعبة المعظمة {وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} أي وحيثما كنتم أيها المؤمنون فتوجهوا في صلاتكم نحو الكعبة أيضاً {وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ} أي إِن اليهود والنصارى ليعلمون أن هذا التحويل للقبلة حقٌ من عند الله ولكنهم يفتنون الناس بإِلقاء الشبهات {وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ} أي لا يخفى عليه شيء من أعمالهم وسيجازيهم عليها، وفيه وعيد وتهديد لهم.



المنَاسَبَة:

لما ذكر تعالى ما قاله السفهاء من اليهود عند تحويل القبلة من بيت المقدس إِلى الكعبة المعظمة، وأمر رسوله بأن يتوجه في صلاته نحو البيت العتيق، ذكر في هذه الآيات أن أهل الكتاب قد انتهوا في العناد والمكابرة إِلى درجة اليأس من إِسلامهم، فإِنهم ما تركوا قبلتك لشبهة عارضة تزيلها الحجة، وإنما خالفوك عناداً واستكباراً، وفي ذلك تسلية له صلى الله عليه وسلم من جحود وتكذيب أهل الكتاب.



{وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ} أي والله لئن جئت اليهود والنصارى بكل معجزة على صدقك في أمر القبلة ما اتبعوك يا محمد ولا صلّوا إِلى قبلتك {وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ} أي ولست أنت بمتبع قبلتهم بعد أن حوّلك الله عنها، وهذا لقطع أطماعهم الفارغة حيث قالت اليهود: لو ثبت على قبلتنا لكنا نرجو أن تكون صاحبنا الذي ننتظره تغريراً له عليه السلام {وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ} أي إِن النصارى لا يتبعون قبلة اليهود، كما أن اليهود لا يتبعون قبلة النصارى، لما بينهم من العداوة والخلاف الشديد مع أن الكل من بني إِسرائيل {وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنْ الْعِلْمِ} أي ولئن فرض وقدّر أنك سايرتهم على أهوائهم، واتبعت ما يهوونه ويحبونه بعد وضوح البرهان الذي جاءك بطريق الوحي {إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ} أي تكون ممن ارتكب أفحش الظلم، والكلام وارد على سبيل الفرض والتقدير وإِلا فحاشاه صلى الله عليه وسلم من اتباع أهواء الكفرة المجرمين، وهو من باب التهييج للثبات على الحق. .

{الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ} أي اليهود والنصارى {يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءهُمْ} أي يعرفون محمداً معرفة لا امتراء فيها كما يعرف الواحد منهم ولده معرفة يقين {وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} أي وإِن جماعة منهم - وهم رؤساؤهم وأحبارهم - ليخفون الحق ولا يعلنونه ويخفون صفة النبي مع أنه منعوت لديهم بأظهر النعوت {الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ} [الأعراف: 157] فهم يكتمون أوصافه عن علم وعرفان {الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنْ الْمُمْتَرِينَ} أي ما أوحاه الله إِليك يا محمد من أمر القبلة والدين هو الحق فلا تكوننَّ من الشاكّين، والخطاب للرسول والمراد أمته.





أسباب تحويل القبلة والاختلاف فيها



{وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ(148)وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ(149) وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلاَ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلاَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ(150)كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ(151)فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ(152)}



{وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ} أي لكل أمة من الأمم قبلةٌ هو مولّيها وجهه أي مائل إِليها بوجهه فبادروا وسارعوا أيها المؤمنون إِلى فعل الخيرات {أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا} أي في أي موضع تكونوا من أعماق الأرض أو قِمَمِ الجبال يجمعكم الله للحساب فيفصل بين المحق والمبطل {إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} أي هو قادر على جمعكم من الأرض وإِن تفرقت أجسامكم وأبدانكم.

{وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} أي من أيّ مكان خرجت إِليه للسفر فتوجه بوجهك في صلاتك وجهة الكعبة {وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} تقدم تفسيره وكرّره لبيان تساوي حكم السفر والحضر {وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} هذا أمر ثالث باستقبال الكعبة المشرفة، وفائدة هذا التكرار أن القبلة كان أول ما نسخ من الأحكام الشرعية، فدعت الحاجة إِلى التكرار لأجل التأكيد والتقرير وإِزالة الشبهة قال تعالى {لِئَلاَ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ} أي عرّفكم أمر القبلة لئلا يحتج عليكم اليهود فيقولوا: يجحد ديننا ويتبع قبلتنا فتكون لهم حجة عليكم أو كقول المشركين: يدعي محمد ملة إِبراهيم ويخالف قبلته {إِلاَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي} أي إِلا الظلمة المعاندين الذين لا يقبلون أيّ تعليل فلا تخافوهم وخافوني {وَلأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} أي أتمّ فضلي عليكم بالهداية إِلى قبلة أبيكم إِبراهيم والتوفيق لسعادة الدارين.

{كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ} الكلام متعلق بما سبق في قوله {وَلأُتِمَّ نِعْمَتِي} والمعنى كما أتممت عليكم نعمتي كذلك أرسلت فيكم رسولاً منكم {يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا} أي يقرأ عليكم القرآن {وَيُزَكِّيكُمْ} أي يطهركم من الشرك وقبيح الفعال {وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} أي يعلمكم أحكام الكتاب المجيد، والسنة النبوية المطهرة {وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ} أي يعلمكم من أمور الدنيا والدين الشيء الكثير الذي لم تكونوا تعلمونه .

{فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ} أي اذكروني بالعبادة والطاعة أذكركم بالثواب والمغفرة {وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ} أي اشكروا نعمتي عليكم ولا تكفروها بالجحود والعصيان، روي أن موسى عليه السلام قال: يا رب كيف أشكرك؟ قال له ربه: "تذكرني ولا تنساني، فإِذا ذكرتني فقد شكرتني، وإِذا نسيتني فقد كفرتني"

سبب نزول الآية (154):

نزلت في شهداء بدر، وكانوا بضعة عشر رجلاً، ثمانية من الأنصار، وستة من المهاجرين، والسبب أن الناس كانوا يقولون للرجل يقتل في سبيل الله: مات فلان وذهب عنه نعيم الدنيا ولذتها، فأنزل الله هذه الآية. قال ابن عباس: قتل عمير بن الحمام ببدر، وفيه وفي غيره نزلت: {ولا تقولوا..} الآية.





الأمر بالصبر على البلاء، وحال الصابرين



{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ(153)وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لا تَشْعُرُونَ(154)وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنْ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنْ الأَمْوَالِ وَالأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ(155)الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ(156)أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ(157)}



ثم نادى تبارك وتعالى عباده المؤمنين بلفظ الإِيمان ليستنهض هممهم إِلى امتثال الأوامر الإِلهية، وهو النداء الثاني الذي جاء في هذه السورة الكريمة فقال {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ} أي استعينوا على أمور دنياكم وآخرتكم بالصبر والصلاة، فبالصبر تنالون كل فضيلة، وبالصلاة تنتهون عن كل رذيلة {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} أي معهم بالنصر والمعونة والحفظ والتأييد.

{وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ} أي لا تقولوا للشهداء إنهم أموات {بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لا تَشْعُرُونَ} أي بل هم أحياءٌ عند ربهم يرزقون ولكن لا تشعرون بذلك لأنهم في حياةٍ برزخية أسمى من هذه الحياة .

{وَلَنَبْلوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنْ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنْ الأَمْوَالِ وَالأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ} أي ولنختبركم بشيءٍ يسير من ألوان البلاء مثل الخوف والجوع، وذهاب بعض الأموال، وموت بعض الأحباب، وضياع بعض الزروع والثمار {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ} أي بشر الصابرين على المصائب والبلايا بجنات النعيم، ثم بين تعالى تعريف الصابرين بقوله: {الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ} أي نزل بهم كرب أو بلاء أو مكروه {قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} أي استرجعوا وأقروا بأنهم عبيد لله يفعل بهم ما يشاء {أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} أي أولئك الموصوفون بما ذكره لهم ثناء وتمجيد ورحمة من الله، وهم المهتدون إلى طريق السعادة.





سبب النزول:

سبب نزول الآية (158):

أخرج الشيخان عن عروة عن عائشة رضي الله عنها قال: قلت لعائشة: أرأيت قول الله: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} فما أرى على أحد شيئاً أن لا يطوف بهما، فقالت عائشة: بئس ما قلت يا ابن أختي، إنها لو كانت على ما أوَّلتها عليه، كانت: فلا جناح عليه أن لا يطوف بهما، ولكنهما إنما أُنزلت، لأن الأنصار قبل أن يُسلموا كانوا يُهِلِّون لمناة الطاغية، وكان من أهلَّ لها، يتحرج أن يطوف بالصفا والمروة، فسألوا عن ذلك رسول الله، فقالوا: يا رسول الله، إنا كنا نتحرج أن نطَّوَّف بالصفا والمروة في الجاهلية، فأنزل الله: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ ..} الآية، ثم سن رسول الله صلى الله عليه وسلم الطواف بينهما، فليس لأحد أن يدع الطواف بينهما.



سبب نزول الآية (159 وما بعدها):

نزلت في علماء أهل الكتاب وكتمانهم آية الرجم وأمر محمد صلى الله عليه وسلم. روى الطبري عن ابن عباس رضي الله عنهما أن معاذ بن جبل وسعد بن معاذ وخارجة بن زيد سألوا نفراً من اليهود عما في التوراة من ذكْر النبي صلى الله عليه وسلم، فكتموه إياه، فأنزل الله هذه الآية.



السعي بين الصفا والمروة وجزاء كتمان آيات الله



{إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ(158)إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُوْلَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاَعِنُونَ(159)إِلا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُوْلَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ(160)إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ(161)خَالِدِينَ فِيهَا لا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ الْعَذَابُ وَلا هُمْ يُنظَرُونَ(162)}.



{إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ} اسم لجبلين بمقربة من البيت الحرام {مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} أي من أعلام دينه ومناسكه التي تعبَّدنا الله بها {فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ} أي من قصد بيت الله للحج أو قصده للزيارة بأحد النسكين "الحج" أو "العمرة"{فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} أي لا حرج ولا إِثم عليه أن يسعى بينهما، فإِذا كان المشركون يسعون بينهما ويتمسحون بالأصنام، فاسعوا أنتم لله رب العالمين، ولا تتركوا الطواف بينهما خشية التشبه بالمشركين {وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا} أي من تطوّع بالحج والعمرة بعد قضاء حجته المفروضة عليه، أو فعل خيراً فرضاً كان أو نفلاً {فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ} أي إِنه سبحانه شاكرٌ له طاعته ومجازيه عليها خير الجزاء، لأنه عليم بكل ما يصدر من عباده من الأعمال فلا يضيع عنده أجر المحسنين .

{إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى} أي يخفون ما أنزلناه من الآيات البينات، والدلائل الواضحات التي تدل على صدق محمد صلى الله عليه وسلم {مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ} أي من بعد توضيحه لهم في التوراة أو في الكتب السماوية كقوله تعالى {الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ} {أُوْلَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمْ اللاَعِنُونَ} أي أولئك الموصوفون بقبيح الأعمال، الكاتمون لأوصاف الرسول، المحرّفون لأحكام التوراة يلعنهم الله فيبعدهم من رحمته، وتلعنهم الملائكة والمؤمنون {إِلاَ الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُوْلَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ} أي إِلا الذين ندموا على ما صنعوا، وأصلحوا ما أفسدوه بالكتمان، وبينوا للناس حقيقة ما أنزل الله فأولئك يقبل الله توبتهم ويشملهم برحمته {وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} أي كثير التوبة على عبادي، واسع الرحمة بهم، أصفح عما فرط منهم من السيئات .

{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ} أي كفروا بالله واستمرّوا على الكفر حتى داهمهم الموت وهم على تلك الحالة {أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} أي يلعنهم الله وملائكته وأهل الأرض جميعاً، حتى الكفار فإِنهم يوم القيامة يلعن بعضهم بعضاً {خَالِدِينَ فِيهَا} أي خالدين في النار - وفي إِضمارها تفخيم لشأنها - { لا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ الْعَذَابُ} أي إن عذابهم في جهنم دائم لا ينقطع لا يخف عنهم طرفة عين {لا يُفتّر عنهم وهم فيه مبلسون} {وَلا هُمْ يُنظَرُونَ} أي ولا يمهلون أو يؤجلون بل يلاقيهم العذاب فور مفارقة الحياة الدنيا.



سبب النزول:

عن عطاء قال: أنزلت بالمدينة على النبي صلى الله عليه وسلم {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} فقال كفار قريش بمكة كيف يسعُ النّاسَ إِلهٌ واحد؟ فأنزل الله تعالى {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ.. إِلى قوله لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ}.

وعن أبي الضحى قال: لما نزلت هذه الآية: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} تعجب المشركون وقالوا: إله واحد؟ إن كان صادقاً فليأتنا بآية، فأنزل الله تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ } إلى آخر الآية.

وحدانية الله تعالى، وبعض من مظاهر قدرته



{وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إِلاَ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ(163)إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنْ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ(164)



{وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} أي إِلهكم المستحق للعبادة إِلهٌ واحد، لا نظير له في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله {لا إِلَهَ إِلاَ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} أي لا معبود بحق إِلا هو جلّ وعلا مُولي النعم ومصدر الإِحسان {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} أي إِن في إِبداع السموات والأرض بما فيهما من عجائب الصنعة ودلائل القدرة {وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} أي تعاقبهما بنظام محكم، يأتي الليل فيعقبه النهار، وينسلخ النهار فيعقبه الليل، ويطول النهار ويقصر الليل والعكس {وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ} أي السفن الضخمة الكبيرة التي تسير في البحر على وجه الماء وهي وموقرةٌ بالأثقال {بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ} أي بما فيه مصالح الناس من أنواع المتاجر والبضائع {وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنْ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ} أي وما أنزل الله من السحاب من المطر الذي به حياة البلاد والعباد {فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} أي أحيا بهذا الماء الزروع والأشجار، بعد أن كانت يابسة مجدبة ليس فيها حبوب ولا ثمار.

{وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ} أي نشر وفرّق في الأرض من كل ما يدب عليها من أنواع الدواب، المختلفة في أحجامها وأشكالها وألوانها وأصواتها {وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ} أي تقليب الرياح في هبوبها جنوباً وشمالاً، حارة وباردة، وليّنة وعاصفة {وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ} أي السحاب المذلّل بقدرة الله، يسير حيث شاء الله وهو يحمل الماء الغزير ثم يصبُّه على الأرض قطرات قطرات، قال كعب الأحبار: السحاب غربال المطر ولولا السحاب لأفسد المطر ما يقع عليه من الأرض {لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} أي لدلائل وبراهين عظيمة دالة على القدرة القاهرة، والحكمة الباهرة، والرحمة الواسعة لقوم لهم عقول تعي وأبصار تدرك، وتتدبر بأن هذه الأمور من صنع إِله قادر حكيم.



حال المشركين مع آلهتهم



{وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ(165)إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنْ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمْ الأَسْبَابُ(166)وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ(167)}.



ثم أخبر تعالى عن سوء عاقبة المشركين الذين عبدوا غير الله فقال {وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَندَادًا} أي ومن الناس من تبلغ بهم الجهالة أن يتخذ من غير الله أنداداً أي رؤساء وأَصناماً {يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ} أي يعظمونهم ويخضعون لهم كحب المؤمنين لله {وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ} أي حب المؤمنين لله أشدُّ من حب المشركين للأنداد.

{وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ} أي لو رأى الظالمون حين يشاهدون العذاب المعدّ لهم يوم القيامة أَن القدرة كلها لله وحده {وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ} أي وأنَّ عذاب الله شديد أليم وجواب "لو" محذوف أي لرأوا ما لا يوصف من الهول والفظاعة .

{إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنْ الَّذِينَ اتَّبَعُوا} أي تبرأ الرؤساء من الأتباع {وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمْ الأَسْبَابُ} أي حين عاينوا العذاب وتقطعت بينهم الروابط وزالت المودّات {وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ} أي تمنّى الأتباع لو أنّ لهم رجعة إِلى الدنيا ليتبرءوا من هؤلاء الذين أضلوهم السبيل {كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا} أي كما تبرأ الرؤساء من الأتباع في ذلك اليوم العصيب .. قال تعالى {كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ} أي أنه تعالى كما أراهم شدة عذابه كذلك يريهم أعمالهم القبيحة ندامات شديدة وحسراتٍ تتردد في صدورهم كأنهم شرر الجحيم {وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ} أي ليس لهم سبيل إِلى الخروج من النار، بل هم في عذاب سرمدي وشقاء أبدي.



سبب نزول الآية (168):

قال الكلبي: نزلت في ثقيف وخُزاعة وعامر بن صَعْصعة، حرموا على أنفسهم أشياء من الحرث والأنعام، وحرموا البَحِيرة والسائبة والوصيلة والحامي.

yacine414
2011-03-26, 10:17
الأمر بالأكل من الطيبات والبعد عن المحرمات



{يَاأَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلالاً طَيِّبًا وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ(168)إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ(169)وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلا يَهْتَدُونَ(170)وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لا يَسْمَعُ إِلاَ دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ(171)}.



{يَاأَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلالاً طَيِّبًا} الخطاب عام لجميع البشر أي كلوا ممّا أحله الله لكم من الطيبات حال كونه مستطاباً في نفسه غير ضار بالأبدان والعقول {وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ} أي لا تقتدوا بآثار الشيطان فيما يزينه لكم من المعاصي والفواحش {إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} أي إِنه عظيم العداوة لكم وعداوته ظاهرة لا تخفى على عاقل .

{إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ} أي لا يأمركم الشيطان بما فيه خير إِنما يأمركم بالمعاصي والمنكرات وما تناهى في القبح من الرذائل {وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} أي وأن تفتروا على الله بتحريم ما أحل لكم وتحليل ما حرّم عليكم فتحلوا وتحرّموا من تلقاء أنفسكم {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ} أي وإِذا قيل للمشركين اتبعوا ما أنزل الله على رسوله من الوحي والقرآن واتركوا ما أنتم عليه من الضلال والجهل {قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا} أي بل نتبع ماوجدنا عليه آباءنا، قال تعالى في الردّ عليهم {أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلا يَهْتَدُونَ} أي أيتّبعون آباءهم ولو كانوا سفهاء أغبياء ليس لهم عقل يردعهم عن الشر ولا بصيرة تنير لهم الطريق؟ والاستفهام للإِنكار والتوبيخ والتعجيب من حالهم في تقليدهم الأعمى للآباء.

ثم ضرب تعالى مثلاً للكافرين في غاية الوضوح والجلاء فقال تعالى {وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لا يَسْمَعُ إِلاَ دُعَاءً وَنِدَاءً} أي ومثل الكفار في عدم انتفاعهم بالقرآن وحججه الساطعة ومثل من يدعوهم إِلى الهدى كمثل الراعي الذي يصيح بغنمه ويزجرها فهي تسمع الصوت والنداء دون أن تفهم الكلام والمراد، أو تدرك المعنى الذي يقال لها، فهؤلاء الكفار كالدواب السارحة لا يفهمون ما تدعوهم إِليه ولا يفقهون، ويسمعون القرآن ويصمّون عنه الآذان { إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً} ولهذا قال تعالى {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ} أي صمُّ عن سماع الحق، بكم أي خرسٌ عن النطق به عميٌ عن رؤيته فهم لا يفقهون ما يقال لهم لأنهم أصبحوا كالدواب فهم في ضلالهم يتخبطون. وخلاصة المثل - والله أعلم - مثل الذين كفروا كالبهائم التي لا تفقه ما يقول الراعي أكثر من سماع الصوت دون أن تفهم المعنى وهو خلاصة قول ابن عباس.





الحلال والحرام من المآكل



{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ(172)إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ(173)}.



{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} خاطب المؤمنين لأنهم الذين ينتفعون بالتوجيهات الربانية والمعنى كلوا يا أيها المؤمنون من المستلذات وما طاب من الرزق الحلال الذي رزقكم الله إِياه {وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} أي واشكروا الله على نعمه التي لا تحصى إِن كنتم تخصونه بالعبادة ولا تعبدون أحداً سواه {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنزِيرِ} أي ما حرّم عليكم إلا الخبائث كالميتة والدم ولحم الخنزير {وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ} أي وما ذبح للأصنام فذكر عليه اسم غير الله كقولهم باسم اللات والعزّى {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ} أي فمن ألجأته ضرورة إِلى أكل شيء من المحرمات بشرط ألا يكون ساعياً في فساد، ولا متجاوزاً مقدار الحاجة {فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ} أي فلا عقوبة عليه في الأكل {إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} أي يغفر الذنوب ويرحم العباد ومن رحمته أن أباح المحرمات وقت الضرورة.



سبب نزول الآية (174):

أخرج الطبري عن عكرمة عن ابن عباس في قوله: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنْ الْكِتَابِ} والتي في آل عمران: {إن الذين يشترون بعهد الله} نزلتا جميعاً في يهود. وقال ابن عباس: نزلت هذه الآية في رؤساء اليهود وعلمائهم، كانوا يصيبون من سفلتهم الهدايا والفضل، وكانوا يرجون أن يكون النبي المبعوث منهم، فلما بعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم من غيرهم، خافوا ذهاب مأكلتهم وزوال رياستهم، فعمدوا إلى صفة محمد صلى الله عليه وسلم فغيروها، ثم أخرجوها إليهم، وقالوا: هذا نعت النبي الذي يخرج في آخر الزمان، لا يشبه نعت هذا النبي، فأنزل الله: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنْ الْكِتَابِ} الآية.



كتمان أهل الكتاب ما أنزل الله


{إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنْ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلاً أُوْلَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلاَ النَّارَ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ(174)أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوْا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ(175)ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ(176)}



{إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنْ الْكِتَابِ} أي يخفون صفة النبي عليه الصلاة والسلام المذكورة في التوراة وهم اليهود قال ابن عباس: نزلت في رؤساء اليهود حين كتموا نعت النبي صلى الله عليه وسلم {وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلاً} أي يأخذون بدله عوضاً حقيراً من حطام الدنيا {أُوْلَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلاَ النَّارَ} أي إِنما يأكلون ناراً تأجّج في بطونهم يوم القيامة لأن أكل ذلك المال الحرام يفضي بهم إِلى النار {وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} أي لا يكلمهم كلام رِضىً كما يكلم المؤمنين بل يكلمهم كلام غضب كقوله {اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِي} {وَلا يُزَكِّيهِمْ} أي يطهرهم من دنس الذنوب {وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} أي عذاب مؤلم وهو عذاب جهنم .

{أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوْا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى} أي أخذوا الضلالة بدل الهدى والكفر بدل الإِيمان {وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ} أي واستبدلوا الجحيم بالجنة {فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ} أي ما أشدَّ صبرهم على نار جهنم؟ وهو تعجيب للمؤمنين من جراءة أولئك الكفار على اقتراف أنواع المعاصي ثم قال تعالى مبيناً سبب النكال والعذاب {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ} أي ذلك العذاب الأليم بسبب أن الله أنزل كتابه {التوراة} ببيان الحق فكتموا وحرّفوا ما فيه {وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ} أي اختلفوا في تأويله وتحريفه {لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ} أي في خلاف بعيد عن الحق والصواب، مستوجب لأشدّ العذاب.





مظاهر البر الحقيقي



{لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلاَئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ(177)}.



{لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ} أي ليس فعلُ الخير وعملُ الصالح محصوراً في أن يتوجه الإِنسان في صلاته جهة المشرق أو المغرب {وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} أي ولكنَّ البِرَّ الصحيح هو الإِيمان بالله واليوم الآخر {وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ} أي وأن يؤمن بالملائكة والكتب والرسل {وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى} أي أعطى المال على محبته له ذوي قرابته فهم أولى بالمعروف {وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ} أي وأعطى المال أيضاً لليتامى الذين فقدوا آباءهم والمساكين الذين لا مال لهم، وابن السبيل المسافر المنقطع عن ماله {وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُتَّقُونَ} أي الذين يسألون المعونة بدافع الحاجة وفي تخليص الأسرى والأرقاء بالفداء {وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ} أي وأتى بأهم أركان الإِسلام وهما الصلاة والزكاة {وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا} أي ومن يوفون بالعهود ولا يخلفون الوعود {وَالصَّابِرِينَ} منصوب على الاختصاص أو المدح {فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} أي الصابرين على الشدائد وحين القتال والذين صدقوا في إِيمانهم وأولئك هم الكاملون في التقوى، وفي الآية ثناء على الأبرار وإيحاء إِلى ما يلاقونه من اطمئنان وخيرتٍ حسان.





سبب النزول:

هناك روايتان في سبب نزول هذه الآية (178): فروي عن قتادة والشعبي وجماعة من التابعين: أنه كان من أهل الجاهلية بغي وطاعة للشيطان، فكان الحي إذا كان فيهم عدة ومنعة، فقتل عبدُ قومٍ آخرين عبداً لهم، قالوا: لا نقتل به إلا حراً، اعتزازاً بأنفسهم على غيرهم. وإن قتلت لهم امرأة قالوا: لا نقتل بها إلا رجلاً، فأنزل الله هذه الآية، يخبرهم أن العبد بالعبد، والأنثى بالأنثى، فنهاهم عن البغي.

ثم أنزله الله تعالى في سورة المائدة بعد ذلك: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنفَ بِالأَنفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} [المائدة: 45].

وروي عن السُّدِّي أنه قال في هذه الآية: اقتتل أهل ملتين من العرب، أحدهما مسلم والآخر معاهد، في بعض ما يكون بين العرب من الأمر، فأصلح بينهم النبي صلى الله عليه وسلم - وقد كانوا قتلوا الأحرار والعبيد والنساء - على أن يؤدي الحر ديةالحر، والعبد دِيَة العبد، والأنثى دية الأنثى، فقاصَّهم بعضهم من بعض. فنزلت الآية لتأييد حكمه.



القصاص: مشروعيته وحكمته


{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنثَى بِالأُنثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ(178)وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ(179)}.



{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنثَى بِالأُنثَى} أي فرض عليكم أن تقتصوا من الجاني فقط فإِذا قتل الحرُّ الحرَّ فاقتلوه به، وإِذا قتل العبد العبد فاقتلوه به، وكذلك الأنثى إِذا قتلت الأنثى، مثلاً بمثلٍ ولا تعتدوا فتقتلوا غير الجاني، فإِن أخذ غير الجاني ليس بقصاص بل هو ظلم واعتداء {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ} أي فمن تُرك له من دم أخيه المقتول شيء، بأن ترك وليُّه القَوَد وأسقط القصاص راضياً بقبول الدية {فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ} أي فعلى العافي اتباعٌ للقاتل بالمعروف بأن يطالبه بالدية بلا عنفٍ ولا إِرهاق، وعلى القاتل أداءٌ للدية إِلى العافي - ولي المقتول - بلا مطل ولا بخس .

{ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ} أي ما شرعته لكم من العفو إِلى الدية تخفيف من ربكم عليكم ورحمة منه بكم، ففي الدية تخفيف على القاتل ونفعٌ لأولياء القتيل، وقد جمع الإِسلام في عقوبة القتل بين العدل والرحمة، فجعل القصاص حقاً لأولياء المقتول إِذا اسقطوا القصاص عن القاتل وذلك رحمة {فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ} أي فمن اعتدى على القاتل طالبوا به وذلك عدل، وشرع الدية إِذا القاتل بعد قبول الدية فله عذاب أليم في الآخرة {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاأُوْلِي الأَلْبَابِ} أي ولكم - يا أولي العقول - فيما شرعت من القصاص حياةٌ وأيُّ حياة لأنه من علم أنه إِذا قتل نفساً قُتل بها يرتدع وينزجر عن القتل، فيحفظ حياته وحياة من أراد قتله وبذلك تُصان الدماء وتُحفظ حياة الناس {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} أي لعلكم تنزجرون وتتقون محارم الله ومآثمه.



حكم الوصية قبل الموت



{كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ(180)فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ(181)فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ(182)}.



{كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا} أي فرض عليكم إِذا أشرف أحدكم على الموت وقد ترك مالاً كثيراً {الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ} أي وجب عليه الإِيصاء للوالدين والأقربين {بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ} أي بالعدل بأن لا يزيد على الثلث وألا يوصي الأغنياء ويترك الفقراء، حقاً لازماً على المتقين لله وقد كان هذا واجباً قبل نزول آية المواريث ثم نسخ بآية المواريث {فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ} أي من غيَّر هذه الوصية بعد ما علمها من وصيّ أو شاهد {فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ} أي إِثم هذا التبديل على الذين بدّلوه لأنهم خانوا وخالفوا حكم الشرع {إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} فيه وعيد شديد للمبدِّلين .

{فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا} أي فمن علم أو ظنَّ من الموصي ميلاً عن الحق بالخطأ {أَوْ إِثْمًا} أي ميلاً عن الحق عمداً {فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ} أي أصلح بين الموصي والموصَى له فلا ذنب عليه بهذا التبديل {إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} أي واسع المغفرة والرحمة لمن قصد بعمله الإِصلاح.



سبب نزول الآية (184):

أخرج ابن سعد في طبقاته عن مجاهد قال: هذه الآية نزلت في مولاي قيس بن السائب: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} فأفطر، وأطعم لكل يوم مسكيناً.



فرضية الصيام


{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ(183)أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ(184)شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ(185)}



{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} ناداهم بلفظ الإِيمان ليحرك فيهم مشاعر الطاعة ويُذْكي فيهم جَذْوة الإِيمان {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} أي فرض عليكم صيام شهر رمضان {كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} أي كما فرض على الأمم قبلكم {لَعَلكُمْ تَتَّقُونَ} أي لتكونوا من المتقين لله المجتنبين لمحارمه {أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ} أي والصيام أيامه معدودات وهي أيام قلائل، فلم يفرض عليكم الدهر كله تخفيفاً ورحمةً بكم {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} أي من كان به مرضٌ أو كان مسافراً فأفطر فعليه قضاء عدة ما أفطر من أيام غيرها .

{وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} أي وعلى الذين يستطيعون صيامه مع المشقة لشيخوخةٍ أو ضعفٍ إِذا أفطروا عليهم فدية بقدر طعام مسكين لكل يوم {فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا} أي فمن زاد على القدر المذكور في الفدية {فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ} ثم قال تعالى {وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} أي والصوم خير لكم من الفطر والفدية إِن كنتم تعلمون ما في الصوم من أجر وفضيلة.

ثم بيّن تعالى وقت الصيام فقال {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ} أي والأيام المعدودات التي فرضتها عليكم أيها المؤمنون هي شهر رمضان الذي أبتدأ فيه نزول القرآن حال كونه هداية للناس لما فيه من إِرشاد وإِعجاز وآيات واضحات تفرق بين الحق والباطل {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} أي من حضر منكم الشهر فليصمه {وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} أي ومن كان مريضاً أو مسافراً فأفطر فعليه صيام أيام أخر، وكرّر لئلا يتوهم نسخه بعموم لفظ شهود الشهر {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} أي يريد الله بهذا الترخيص التيسير عليكم لا التعسير {وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ} أي ولتكلموا عدة شهر رمضان بقضاء ما أفطرتم {وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ} أي ولتحمدوا الله على ما أرشدكم إِليه من معالم الدين {وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} أي ولكي تشكروا الله على فضله وإِحسانه ...



سبب نزول الآية (186):

أخرج ابن جرير الطبري وغيره عن معاوية بن حَيْدة عن أبيه عن جده، قال: جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: أقريب ربنا، فنناجيه، أم بعيد فنناديه؟ فسكت عنه فنزلت الآية: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي..}.



سبب نزول الآية (187):

أخرج أحمد وأبو داود والحاكم عن معاذ بن جبل قال: كانوا يأكلون ويشربون ويأتون النساء مالم يناموا، فإذا ناموا، امتنعوا، ثم إن رجلاً من الأنصار يقال له: قيس بن صِرْمة صلى العشاء، ثم نام فلم يأكل ولم يشرب، حتى أصبح، فأصبح مجهوداً، وكان عمر أصاب من النساء بعدما نام، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم، فذكر ذلك له، فأنزل الله: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ..} إلى قوله: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ}.

وهذا يدل على أنه حين فرض الصيام، كان كل إنسان يجتهد فيما يراه أحوط وأقرب للتقوى، حتى نزلت هذه الآية.



إجابة دعوة الداعي وأحكام الصيام



{وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ(186)أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتَانُونَ أَنفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ(187)}



ثم بيّن تعالى أنه قريب يجيب دعوة الداعين ويقضي حوائج السائلين فقال {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ} أي أنا معهم أسمع دعاءهم، وأرى تضرعهم وأعلم حالهم كقوله {ونحن أقرب إِليه من حبل الوريد} {أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} أي أجيب دعوة من دعاني إِذا كان عن إِيمانٍ وخشوع قلب {فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} أي إِذا كنت أنا ربكم الغني عنكم أجيب دعاءكم فاستجيبوا أنتم لدعوتي بالإِيمان بي وطاعتي ودوموا على الإِيمان لتكونوا من السعداء الراشدين .

ثم شرع تعالى في بيان تتمة أحكام الصيام بعد أن ذكر آية القرب والدعاء فقال {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} أي أبيح لكم أيها الصائمون غشيان النساء في ليالي الصوم {هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ} قال ابن عباس: هنَّ سكنٌ لكم وأنتم سكنٌ لهن {عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتَانُونَ أَنفُسَكُمْ} أي تخونونها بمقارفة الجماع ليلة الصيام وكان هذا محرماً في صدر الإِسلام ثم نسخ.

روى البخاري عن البراء رضي الله عنه قال: لما نزل صوم رمضان كانوا لا يقربون النساء رمضان كله، وكان الرجال يخونون أنفسهم فأنزل الله {عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتَانُونَ أَنفُسَكُمْ} الآية {فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ} أي فقبل توبتكم وعفا عنكم لما فعلتموه قبل النسخ {فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ} أي جامعوهن في ليالي الصوم واطلبوا بنكاحهن الولد ولا تباشروهن لقضاء الشهوة فقط {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} أي كلوا واشربوا إِلى طلوع الفجر {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} أي أمسكوا عن الطعام والشراب والنكاح إِلى غروب الشمس {وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} أي لا تقربوهن ليلاً أو نهاراً ما دمتم معتكفين في المساجد {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَقْرَبُوهَا} أي تلك أوامر الله وزواجره وأحكامه التي شرعها لكم فلا تخالفوها {كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ}أي يتقون المحارم.

سبب النزول:

قال مقاتل بن حيان: نزلت هذه الآية في امرئ القيس بن عابس الكندي، وفي عبدان بن أَشْوَع الحضرمي، وذلك أنهما اختصما إلى النَّبي صلى الله عليه وسلم في أرض، وكان امرؤ القيس هو المطلوب (المدعى عليه)، وعبدان هو الطالب (المدعي)، فأنزل الله تعالى هذه الآية، فحكم عبدان في أرضه، ولم يخاصمه.

وقال سعيد بن جبير: إن امرأ القيس بن عابس وعبدان بن أشوع الحضرمي، اختصما في أرض، وأراده امرؤ القيس أن يحلف، ففيه نزلت: {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ}.



أكل الأموال بالباطل



{وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ(188)}



{وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} أي لا يأكل بعضكم أموال بعض بالوجه الذي لم يبحه الله {وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ} أي تدفعوها إِلى الحكام رشوة {لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ} أي ليعينوكم على أخذ طائفة من أموال الناس بالباطل {وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} أنكم مبطلون تأكلون الحرام.



سبب النزول:

قال ابن عباس: إن معاذ بن جبل وثعلبة بن غَنَم - وكانا من الأنصار - قالا: يا رسول الله، ما بال الهلال يبدو دقيقاً مثل الخيط، ثم يزيد حتى يمتلئ ويستوي ويعظم، ثم لا يزال ينقص ويدِقّ، حتى يعود كما كان، لا يكون على حالة واحدة كالشمس، فنزلت هذه الآية. ويروى أيضاً أن اليهود سألت عن الأهلة.



التوقيت بالشهر القمري وحقيقة البِرّ



{يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ(189)}.



{يسْأَلُونَكَ عَنْ الأَهِلَّةِ} أي يسألونك يا محمد عن الهلال لم يبدو دقيقاً مثل الخيط ثم يعظم ويستدير ثم ينقص ويدق حتى يعود كما كان؟ {قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} أي فقل لهم إِنها أوقات لعباداتكم ومعالم تعرفون بها مواعيد الصوم والحج والزكاة {وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا} أي ليس البر بدخولكم المنازل من ظهورها كما كنتم تفعلون في الجاهلية {وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى} أي ولكنَّ العمل الصالح الذي يقرّبكم إلى الله تعالى هو اجتناب محارم الله {وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا} ادخلوها كعادة الناس من الأبواب {وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} أي اتقوا الله لتسعدوا وتظفروا برضاه.



سبب النزول:

قوله تعالى: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ..} الآية. قال ابن عباس فيما أخرجه الواحدي: نزلت هذه الآيات في صلح الحُدَيْبِيَة، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما صُدَّ عن البيت هو وأصحابه، نحر الهَدْي بالحُدَيْبِيَة، ثم صالحه المشركون على أن يرجع عامه، ثم يأتي القابل، على أن يُخْلُوا له مكة ثلاثة أيام، فيطوف بالبيت ويفعل ما شاء. وصالحهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما كان العام المقبل، تجهَّز رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه لعمرة القضاء، وخافوا أن لا تفي لهم قريش بذلك، وأن يصدّوهم عن المسجد الحرام ويقاتلوهم، وكره أصحابه قتالهم في الشهر الحرام في الحرم، فأنزل الله: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ} يعني قريشاً.

وقوله: {الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ} الآية، قال قتادة فيما أخرجه الطبري: أقبل نبيُّ الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه في ذي القعدة، حتى إذا كانوا بالحديبية، صدَّهم المشركون، فلما كان العام المقبل دخلوا مكة، فاعتمروا في ذي القعدة، وأقاموا بها ثلاث ليال، وكان المشركون قد فَجَروا عليه حين ردّوه يوم الحديبية، فأقصّه الله تعالى منهم، فأنزل: {الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ} الآية.

وقوله: {وَأَنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ..} الآية، قال الشعبي: نزلت في الأنصار، أمسكوا عن النفقة في سبيل الله تعالى، فنزلت هذه الآية، وأخرج الطبراني بسند صحيح عن أبي جبيرة بن الضحاك قال: كانت الأنصار يتصدقون ويطعمون ما شاء الله، فأصابتهم سَنَة (قحط)، فأمسكوا، فأنزل الله عزّ وجلّ هذه الآية.

وروى البخاري عن حذيفة قال: نزلت الآية في النفقة. وأخرج أبو داود والترمذي وصححه، وابن حبان والحاكم وغيرهم،عن أبي أيوب الأنصاري قال: نزلت هذه الآية فينا معشر الأنصار، لما أعزّ الله الإسلام، وكثر ناصروه، قال بعضنا لبعض سرّاً: إنّ أموالنا قد ضاعت، وإنّ الله قد أعزّ الإسلام، فلو أقمنا في أموالنا، فأصلحنا ما ضاع منها، فأنزل الله يردّ علينا ما قلنا: {وَأَنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ}، فكانت التهلكة: الإقامة على أموالنا وإصلاحها وتركنا الغزو.



قواعد القتال في سبيل الله



{وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ(190)وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنْ الْقَتْلِ وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ(191)فَإِنِ انتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ(192)وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انتَهَوْا فَلاَ عُدْوَانَ إِلاَ عَلَى الظَّالِمِينَ(193)الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ(194)وَأَنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ(195)}



{وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ} أي قاتلوا لإِعلاء دين الله من قاتلكم من الكفار {وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} أي لا تبدءوا بقتالهم فإِنه تعالى لا يحب من ظلم أو اعتدى، وكان هذا في بدء أمر الدعوة ثم نسخ بآية براءة {وقاتلوا المشركين كافة} وقيل نسخ بالآية التي بعدها وهي قوله {وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ} أي اقتلوهم حيث وجدتموهم في حلّ أو حرم {وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ} أي شرّدوهم من أوطانهم وأخرجوهم منها كما أخرجوكم من مكة {وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنْ الْقَتْلِ} أي فتنة المؤمن عن دينه أشدُّ من قتله، أو كفر الكفار أشد وأبلغ من قتلكم لهم في الحرم، فإِذا استعظموا القتال فيه فكفرهم أعظم {وَلا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ} أي لا تبدءوهم بالقتال في الحرم حتى يبدءوا هم بقتالكم فيه {فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ} أي إِن بدءوكم بالقتال فلكم حينئذٍ قتالهم لأنهم انتهكوا حرمته والبادي بالشر أظلم {كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ} أي هذا الحكم جزاء كل من كفر بالله {فَإِنِ انتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} أي فإِن انتهوا عن الشرك وأسلموا فكفّوا عنهم فإِن الله يغفر لمن تاب وأناب .

{وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ} أي قاتلوا المحاربين حتى تكسروا شوكتهم ولا يبقى شرك على وجه الأرض ويصبح دين الله هو الظاهر العالي على سائر الأديان {فَإِنِ انتَهَوْا فَلا عُدْوَانَ إِلا عَلَى الظَّالِمِينَ} أي فإِن انتهوا عن قتالكم فكفوا عن قتلهم فمن قاتلهم بعد ذلك فهو ظالم ولا عدوان إِلا على الظالمين، أو فإِن انتهوا عن الشرك فلا تعتدوا عليهم ثم بيّن تعالى أن قتال المشركين في الشهر الحرام يبيح للمؤمنين دفع العدوان فيه فقال {الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ} أي إِذا قاتلوكم في الشهر الحرام فقاتلوهم في الشهر الحرام، فكما هتكوا حرمة الشهر واستحلوا دماءكم فافعلوا بهم مثله {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} أي ردوا عن أنفسكم العدوان فمن قاتلكم في الحرم أو في الشهر الحرام فقابلوه وجازوه بالمثل {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} أي راقبوا الله في جميع أعمالكم وأفعالكم واعلموا أن الله مع المتقين بالنصر والتأييد في الدنيا والآخرة {وَأَنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} أي أنفقوا في الجهاد وفي سائر وجوه القربات ولا تبخلوا في الانفاق فيصيبكم الهلاك ويتقوى عليكم الأعداء وقيل معناه: لا تتركوا الجهاد في سبيل الله وتشتغلوا بالأموال والأولاد فتهلكوا {وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} أي أحسنوا في جميع أعمالكم حتى يحبكم الله وتكونوا من أوليائه المقربين.



سبب النزول:

سبب نزول قوله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ}: أخرج ابن أبي حاتم عن صفوان بن أمية قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم متضمخ بالزغفران، عليه جبة، فقال: كيف تأمرني يا رسول الله في عمرتي؟ فأنزل الله: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} فقال: أين السائل عن العمرة، قال: ها أنذا، فقال له: ألق عنك ثيابك، ثم اغتسل واستنشق ما استطعت، ثم ما كنت صانعاً في حجك، فاصنعه في عمرتك.

وقوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا}: روى البخاري عن كعب بن عُجْرَة أنه سُئل عن قوله: {فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ} قال: حملت إلى النبي صلى الله عليه وسلم، والقمل يتناثر على وجهي، فقال: ما كنت أرى أن الجهد بلغ بك هذا، أما تجد شاة؟ قال: قلت: لا، قال: صم ثلاثة أيام، أو أطعم ستة مساكين، لكل مسكين نصف صاع من طعام، واحلق رأسك، فنزلت فيَّ خاصة، وهي لكم عامة.

وروى مسلم عن كعب بن عُجْرة قال: فيَّ أنزلت هذه الآية، أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أدنه، فدنوت مرتين أو ثلاثاً، فقال: أيؤذيك هوامُّك؟ قال ابن عون، وأحسبه قال: نعم، فأمرني بصيام، أو صدقة، أو نسك ما تيسر".



أحكام الحج والعمرة



{وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذَا أَمِنتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ(196)الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ(197)}



{وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} أي أدوهما تأمين بأركانها وشروطها لوجه الله تعالى {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} أي إِذا منعتم من إِتمام الحج أو العمرة بمرضٍ أو عدوٍ وأردتم التحلل فعليكم أن تذبحوا ما تيسر من بدنة أو بقرةٍ أو شاة .

{وَلا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} أي لا تتحللوا من إِحرامكم بالحلق أو التقصير حتى يصل الهدي المكان الذي يحل ذبحه فيه وهو الحرم أو مكان الإِحصار {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} أي فمن كان منكم معشر المحرمين مريضاً يتضرر معه بالشعر فحلق، أو كان به أذى من رأسه كقملٍ وصداعٍ فحلق في الإِحرام، فعليه فدية وهي إِما صيام ثلاثة أيام أو يتصدق ثلاثة آصع على ستة مساكين أو يذبح ذبيحة وأقلها شاة {فَإِذَا أَمِنتُمْ} أي كنتم آمنين من أول الأمر، أو صرتم بعد الإِحصار آمنين {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنْ الْهَدْيِ} أي من اعتمر في أشهر الحج واستمتع بما يستمتع به غير المحرم من الطيب والنساء وغيرها، فعليه ما تيسّر من الهدي وهو شاة يذبحها شكراً لله تعالى.

{فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ} أي من لم يجد ثمن الهدي فعليه صيام عشرة أيام، ثلاثة حين يحرم بالحج وسبعة إِذا رجع إِلى وطنه {تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ} أي عشرة أيام كاملة تجزئ عن الذبح، وثوابها كثوابه من غير نقصان {ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} أي ذلك التمتع أو الهّدْي خاص بغير أهل الحرم، أما سكّان الحرم فليس لهم تمتع وليس عليهم هدي {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} أي خافوا الله تعالى بامتثال أوامره واجتناب نواهيه واعلموا أن عقابه شديد لمن خالف أمره.

ثم بيّن تعالى وقت الحج فقال {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} أي وقت الحج هو تلك الأشهر المعروفة بين الناس وهي شوال وذو القعدة وعشرٌ من ذي الحجة {فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} أي من ألزم نفسه الحجَّ بالإِحرام قاصد لرضاه، فعليه أن يترك الشهوات، وأن يترك المعاصي والجدال والخصام مع الرفقاء {وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ} أي وما تقدموا لأنفسكم من خير يجازيكم عليه الله خير الجزاء {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} أي تزودوا لآخرتكم بالتقوى فإنها خير زاد {وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ} أي خافون واتقوا عقابي يا ذوي العقول والأفهام.

سبب النزول:

نزول الآية (198):

روى البخاري عن ابن عباس قال: كانت عكاظ ومِجَنَّة وذو المجاز أسواقاً في الجاهلية، فتاثَّموا أن يتَجروا في المواسم، فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فنزلت: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ} أي في موسم الحج.

وأخرج أحمد وابن أبي حاتم وابن جرير الطبري والحاكم وغيرهم من طرق عن أبي أمامة التيمي قال: "قلت لابن عمر: إنا نَكْرِي (أي نُؤَجر الدواب للحجاج)، فهل لنا من حج؟ فقال ابن عمر: جاء رجل إلى النَّبي صلى الله عليه وسلم، فسأله عن الذي سألتني عنه، فلم يُجِبه، حتى نزل عليه جبريل بهذه الآية: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ..} فدعاه النَّبي صلى الله عليه وسلم فقال: أنتم حجاج".



نزول الآية (199):

أخرج ابن جرير الطبري عن ابن عباس قال: كانت العرب تقف بعرفة، وكانت قريش تقف دون ذلك بالمزدلفة، فأنزل الله: {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ}.



نزول الآية (200):

أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: كان أهل الجاهلية يقفون في الموسم، يقول الرجل منهم: كان أبي يُطعِم، ويحمل الْحَمَالات، ويحمل الديات، ليس لهم ذكر غير أفعال آبائهم، فأنزل الله: {فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ} الآية.

وأخرج ابن جرير عن مجاهد قال: كانوا إذا قضوا مناسكهم، وقفوا عند الجمرة، وذكروا آباءهم في الجاهلية، وفعال آبائهم، فنزلت هذه الآية، حتى إن الواحد منهم ليقول: اللهم إن أبي كان عظيم القُبَّة، عظيم الْجَفْنة، كثير المال، فأعطني مثل ما أعطيته، فلا يذكر غير أبيه، فنزلت الآية، ليُلزِموا أنفسَهم ذكرَ الله أكثر من التزامهم ذكر آبائهم أيام الجاهلية.



نزول آخر الآية (200) والآيتين (200-201):

أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: كان قوم من الأعراب يجيئون إلى الموقف، فيقولون: اللهم اجعله عام غيث، وعام خصب، وعام ولاء وحسن، لا يذكرون من أمر الآخرة شيئاً، فأنزل الله فيهم: {فَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ} ويجيء آخرون من المؤمنين، فيقولون: {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً..} إلى قوله: {سَرِيعُ الْحِسَابِ}.



جواز التجارة للحاجِّ ، والأمر بذكر الله تعالى كثيراً ، ورفع الحرج عمّن تعجَّل بالنفر من مِنى



{لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ(198)ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ(199)فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا فَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ(200)وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ(201)أُوْلَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ(202)وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ(203)}


{لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ} أي لا حرج ولا إِثم عليكم في التجارة في أثناء الحج فإِن التجارة الدنيوية لا تنافي العبادة الدينية، وقد كانوا يتأثمون من ذلك فنزلت الآية تبيح لهم الاتجار في أشهر الحج {فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ} أي إِذا دفعتم من عرفات بعد الوقوف بها فاذكروا الله بالدعاء والتضرع والتكبير والتهليل عند المشعر الحرام بالمزدلفة {وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ} أي اذكروه ذكراً حسناً كما هداكم هداية حسنة، واشكروه على نعمة الهداية والإِيمان فقد كنتم قبل هدايته لكم في عداد الضالين، الجاهلين بالإِيمان وشرائع الدين .

{ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ} أي ثمّ انزلوا من عرفة حيث ينزل الناس لا من المزدلفة، والخطاب لقريش حيث كانوا يترفعون على الناس أن يقفوا معهم وكانوا يقولون: نحن أهل الله وسُكّان حرمه فلا نخرج منه فيقفون في المزدلفة لأنها من الحرم ثم يفيضون منها وكانوا يسمون "الحُمْس" فأمر الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم أن يأتي عرفة ثم يقف بها ثم يفيض منها {وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} أي استغفروا الله عمّا سلف منكم من المعاصي فإِن الله عظيم المغفرة واسع الرحمة .

{فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا} أي إِذا فرغتم من أعمال الحج وانتهيتم منها فأكثروا ذكره وبالغوا في ذلك كما كنتم تذكرون آباءكم وتعدون مفاخرهم بل أشدّ، قال المفسرون كانوا يقفون بمنى بين المسجد والجبل بعد قضاء المناسك فيذكرون مفاخر آبائهم ومحاسن أيامهم فأمروا أن يذكروا الله وحده {فَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ} أي من الناس من تكون الدنيا همّه فيقول: اللهم اجعل عطائي ومنحتي في الدنيا خاصة وما له في الآخرة من حظ ولا نصيب {وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً} أي ومنهم من يطلب خيري الدنيا والآخرة وهو المؤمن العاقل، وقد جمعت هذه الدعوة كل خيرٍ وصرفت كل شر، فالحسنة في الدنيا تشمل الصحة والعافية، والدار الرحبة، والزوجة الحسنة، والرزق الواسع إلى غير ما هنالك والحسنة في الآخرة تشمل الأمن من الفزع الأكبر، وتيسير الحساب، ودخول الجنة، والنظر إلى وجه الله الكريم إلخ {وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} أي نجّنا من عذاب جهنم {أُوْلَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ} أي هؤلاء الذين طلبوا سعادة الدارين لهم حظ وافر مما عملوا من الخيرات والله سريع الحساب يحاسب الخلائق بقدر لمحة بصر.

{وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ} أي كبروا الله في أعقاب الصلوات وعند رمي الجمرات في أيام التشريق الثلاثة بعد يوم النحر {فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ} أي من استعجل بالنفر من منى بعد تمام يومين فنفر فلا حرج عليه {وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ} أي ومن تأخر حتى رمى في اليوم الثالث - وهو النفر الثاني فلا حرج عليه أيضاً {لِمَنِ اتَّقَى} أي ما ذكر من الأحكام لمن أراد أن يتقي الله فيأتي بالحج على الوجه الأكمل {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} أي خافوا الله تعالى واعلموا أنكم مجموعون إِليه للحساب فيجازيكم بأعمالكم.



سبب النزول:

روى ابن جرير عن السُّدِّي في نزول الآيات (204-206): أن الأخنس بن شُرَيق الثقفي أتى النبَّي صلى الله عليه وسلم، وأظهر له الإسلام، ثم خرج، فمرَّ بزرع لقوم من المسلمين وحُمُر، فأحرق الزرع، وعقر (قتل) الحمر، فأنزل الله الآية.

وقال سعيد بن المسيِّب - فيما يرويه الحارث بن أبي أسامة في مسنده وبن أبي حاتم -: أقبل صهيب الرومي مهاجراً إلى النبَّي صلى الله عليه وسلم، فاتبعه نفر من قريش، فنزل عن راحلته، وانتشل ما في كنانته، ثم قال: يا معشر قريش: لقد علمتم أني من أرماكم رجلاً، وأيم الله، لا تصلون إليّ حتى أرمي كل سهم معي في كنانتي، ثم أضرب بسيفي، ما بقي في يدي منه شيء، ثم افعلوا ما شئتم، وإن شئتم دللتكم على ما لي بمكة، وخليتم سبيلي، قالوا: نعم، فلما قدم على النبَّي صلى الله عليه وسلم المدينة، قال: "ربح البيع أبا يحيى، ربح البيع"، ونزلت الآية: {وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ..}.



من الناس منافق ومخلص



{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ(204)وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ(205)وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ(206)وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ(207)}

{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ} أي ومن الناس فريق يروقك كلامه يا محمد ويثير إِعجابَك بخلابة لسانه وقوة بيانه، ولكنه منافق كذّاب {فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} أي في هذه الحياة فقط أما الآخرة فالحاكم فيها علاّم الغيوب الذي يطّلع على القلوب والسرائر {وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ} أي يظهر لك الإِيمان ويبارز الله بما في قلبه من الكفر والنفاق {وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ} أي شديد الخصومة يجادل بالباطل ويتظاهر بالدين والصلاح بكلامه المعسول {وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا} أي وإِذا انصرف عنك عاث في الأرض فساداً، وقد نزلت في الأخنس ولكنها عامة في كل منافق يقول بلسانه ما ليس في قلبه

"يعطيك من طرف اللسان حلاوة ويروغ منك كما يروغُ الثعلب"

{وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ} أي يهلك الزرع وما تناسل من الإِنسان والحيوان ومعناه أن فساده عام يشمل الحاضر والباد، فالحرث محل نماء الزروع والثمار، والنسل هو نتاج الحيوانات التي لا قوام للناس إِلا بهما، فإِفسادهما تدمير للإِنسانية {وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ} أي يبغض الفساد ولا يحب المفسدين.

yacine414
2011-03-26, 10:20
سورة البقرة



الدعوة إلى الدخول في الإسلام

حالة الرسل مع الناس

مقدار نفقة التطوع ومصرفها

فرضية القتال وإباحته في الأشهر الحرم

المرحلة الثانية من مراحل تحريم الخمر وحرمة القمار

الولاية على مال اليتيم

زواج المسلم بالمشركة

الحيض وأحكامه

حكم اليمين

حكم الإيلاء

عدة المطلقة وحق المرأة

طريقة الطلاق الشرعية، وما يترتب عليها من أحكام

واجب الرجل في معاملة المطلقة وولاية التزويج

مدة الرضاعة ونفقة الأولاد وانفصال الزوجين

عدة المتوفَّى عنها زوجها

خطبة المتوفَّى عنها زوجها

حكم المطلقة قبل الدخول

الأمر بالمحافظة على الصلاة

أحكام العدة ومتعة المطلقة

موت الأمم بالجبن والبخل وحياتها بالشجاعة والعطاء

قصة طالوت وجالوت

أضواء من التاريخ على قصة طالوت وجالوت

إثبات ملك طالوت واختياره الاتباع، وانهزام الفئة الكثيرة أمام الفئة القليلة

درجات الرسل عند الله وأحوال الناس في اتباعهم

الأمر بالإنفاق في سبيل الخير

آية الكرسي

منع الإكراه على المُعْتَقَد في الإسلام

قصة النُّمْرُود مع إبراهيم عليه السلام

قصة العُزَير

طَلَبَ إبراهيمُ عليه السلام المعاينة للطُّمَأْنينة

ثواب الإنفاق في سبيل الله وآدابُهُ

الإنفاق ابتغاء مرضاة الله تعالى

الأمر بإنفاق الطيِّب من الأموال لا الخبيث

تخويف الشيطان من الفقر، ومعرفة الحكمة

الإسرار والإعلان بالصَّدَقَة

مستحِقُّو الصدقة

لله ملك السماوات والأرض ولا تخفى عليه خافية

الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله والتكليف بقَدْر الوُسْع

خلاصة أهم الأحكام في سورة البقرة المسمّاة "فسطاط القرآن"





الدعوة إلى الدخول في الإسلام

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ(208)فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمْ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ(209)هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَ أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلائِكَةُ وَقُضِيَ الأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ(210)سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ(211) زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ(212)}



سبب نزول الآية [208]:

نزلت في عبد الله بن سَلاَم وأصحابه من اليهود لما عظموا السبت وكرهوا الإبل بعد قبول الإسلام، قالوا: يا رسول الله، يوم السبت يوم نعظمه، فدعنا فلنُسِبت فيه، وإن التوراة كتاب الله، فدعنا فلنقم بها بالليل، فنزلت: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً} الآية. هذا ما رواه ابن جرير عن عكرمة.

وروى عطباء عن ابن عباس: نزلت هذه الآية في عبد الله بن سَلام وأصحابه، وذلك أنهم حين آمنوا بالنبي صلى الله عليه وسلم، فآمنوا بشرائعه وشرائع موسى، فعظموا السبت، وكرهوا لحمان الإبل وألبانها بعدما أسلموا، فأنكر ذلك عليهم المسلمون، فقالوا: إنا نقوى على هذا وهذا، وقالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: إن التوراة كتاب الله، فدعنا فلنعمل بها، فأنزل الله تعالى هذه الآية.



ثم أمر تعالى المؤمنين بالانقياد لحكمه والاستسلام لأمره والدخول في الإِسلام الذي لا يقبل الله ديناً سواه فقال {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً} أي ادخلوا في الإِسلام بكليته في جميع أحكامه وشرائعه، فلا تأخذوا حكماً وتتركوا حكماً، لا تأخذوا بالصلاة وتمنعوا الزكاة مثلاً فالإسلام كلٌ لا يتجزأ، ويريد الله تعالى بهذه الدعوة أن يعصم الناس من فتنة اختلاف أهوائهم، ثم حذرنا الحق جل وعلا من اتباع الشيطان لأنه هو الذي يعمل على إبعادنا عن منهج الله، فقال تعالى: {وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} أي لا تتبعوا طرق الشيطان وإغواءه فإنه عدوَ لكم ظاهر العداوة، وعداوته لكم قديمة، وقد توعدكم بالإغواء جميعاً، فقال تعالى على لسانه: {لأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين} [ص: 82-83].

فائدة: ضابط التفريق بين ما يزينه الشيطان وما تزينه النفس: أن النفس تصر على معصية من لون واحد، فهي تريد من صاحبها لوناً واحداً من المعصية يتبع نقصها، كحب تجميع المال من حله وحرامه، أو الركض وراء الجنس وما إلى ذلك. وأما الشيطان فلا يصر على معصية بعينها، فكلما تفطن الإنسان لإغوائه من باب انتقل إلى باب آخر ولون آخر من المعصية حتى يوقع صاحبه، ولا لذا قال تعالى: {ولا تتبعوا خطوات الشيطان}، فسبله متعددة، فإذا وفّق الله عبده وغلق على الشيطان الباب الذي أتاه منه فلا يطمئن إلى جانبه،وعليه أن ينتظر مجيئه من باب آخر.

{فإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءتْكُمْ الْبَيِّنَاتُ}، الزلة هي المعصية، وهي مأخوذة من "زال"، وذاك الشيء إذا خرج عن استقامة، فكل شيء له استقامة والخروج عنها يعتبر زللاً وانحرافاً، أي إن انحرفتم عن الدخول في الإسلام من بعد مجيء الحجج الباهرة والبراهين القاطعة على أنه حق {فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} أي اعلموا أن الله غالب لا يعجزه الانتقام ممن عصاه حكيم في خلقه وصنعه {هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَ أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلائِكَةُ} أي ما ينتظرون شيئاً، وما الذي يؤجل دخولهم في الإسلام كافة؟ فهل ينتظرون إِلا أن يأتيهم الله يوم القيامة لفصل القضاء بين الخلائق حيث تنشق السماء وتظهر آيات الله العظام وأمره وتأتي ظللٍ من الغمام وحملة العرش والملائكة الذين لا يعلم كثرتهم إِلا الله ولهم زجل من التسبيح يقولون: سبحان ذي الملك والملكوت، سبحان ذي العزة والجبروت، سبحان الحي الذي لا يموت، سبحان الذي يميت الخلائق ولا يموت، سبوح قدوس رب الملائكة والروح {وَقُضِيَ الأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ} أي انتهى أمر الخلائق بالفصل بينهم فريق في الجنة وفريق في السعير، وإِلى الله وحده مرجع الناس جميعاً. والمقصود تصوير عظمة يوم القيامة وهولها وشدتها وبيان أن الحاكم فيها هو ملك الملوك جل وعلا الذي لا معقب لحكمه ولا رادّ لقضائه وهو أحكم الحاكمين. والمراد من هذا الخطاب والتقريع أن ينتهزوا الفرصة ويندفعوا لهذا الدين الحق قبل أن يفوت الأوان.

فائدة: قوله تعالى: {ترجع الأمور} فيها قراءتان بفتح التاء وضمها، فعلى الفتح فإن الأمور تكون مندفعة إلى الله بذاتها، وعلى الضم فإنها تساق إلى سوقاً، فكذلك الإنسان ففاعل الخيرات يرغب في لقاء ربه وينساق إليه، وفاعل الموبقات يكره لقاء الله ولكنه يُساق إليه سوقاً، فمن لم يأت راغباً جاء راهباً.

ثم قال تعالى مخاطباً رسوله الكريم {سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ} "كم" هنا كناية عن الإخبار عن الأمر الكثير بخلاف "كم" الاستفهامية. أي سلْ يا محمد بني إِسرائيل - توبيخاً لهم وتقريعاً - كم شاهدوا مع موسى من معجزات باهرات وحجج قاطعات تدل على صدقه، ألم يفلق لهم البحر ونجاهم من فرعون؟ ألم يظللهم الله بالغمام؟ ألم يعطهم الله المنّ والسلوى؟ وغير ذلك من نعمه التي لا تعد ولا تُحصى، ومع ذلك كفروا ولم يؤمنوا، فحل عليهم غضب الله وأخذهم بالسنين وألوان العذاب، {وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} أي من يبدل نعم الله بالكفر والجحود بها فإِن عقاب الله له أليم وشديد، والعقاب كما يكون في الآخرة يكون في الدنيا أيضاً وبألوان شتى وما هذه الزلازل والبراكين والعواصف والأمراض والأزمات وغيرها ببعيد عنا، {زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا} أي زينت لهم شهوات الدنيا ونعيمها حتى نسوا الآخرة وأشربت محبتها في قلوبهم حتى تهافتوا عليها وأعرضوا عن دار الخلود. {وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا} أي وهم مع ذلك يهزؤون ويسخرون بالمؤمنين يرمونهم بقلة العقل لتركهم ما حرمه الله عليهم من الدنيا وإِقبالهم على الآخرة كقوله {إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنْ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ} قال تعالى رداً عليهم {وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} أي والمؤمنون المتقون لله فوق أولئك الكافرين منزلةً ومكانة، فهم في أعلى علّيين وأولئك في أسفل سافلين، والمؤمنون في الآخرة في أوج العز والكرامة والكافرون في حضيض الذل والمهانة.

فائدة: قال تعالى: {والذين اتقوا فوقهم} ولم يقل {والذين آمنوا فوقهم يوم القيامة} حتى لا يؤخذ الإيمان على أنه اسم مجرد عن مسماه الذي هو الالتزام بمقتضياته، فالدرجة العالية يوم القيامة لا تنال بمجرد الادعاء بل لا بد من التقوى.

{وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} أي والله يرزق أولياءه رزقاً واسعاً رغداً، لا فناء له ولا انقطاع كقوله {يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ} أو يرزق في الدنيا من شاء من خلقه ويوسع على من شاء مؤمناً كان أو كافراً، براً أو فاجراً على حسب الحكمة والمشيئة دون أن يكون له محاسب سبحانه وتعالى.

فائدة: من الخطأ أن نحصر الرزق فيما هو شائع كالمال والأولاد، لأن الزرق يشمل كل ما ينتفع به، فالعلم رزق والخلق رزق، والصبر رزق، والصحة رزق والمكانة في المجتمع رزق وغير ذلك من الأرزاق التي لا تعد ولا تحصى، فمن ابتلى في نوع واحد من الرزق كالمال مثلاً فتضجر ونسي الأرزاق الكثيرة التي متعه الله بها فهو من اللؤماء.



ما يستخلص من الآيات [208-212]:

1- الإسلام كل متكامل لا يقبل التجزء، فمن آمن به وجب عليه أن يلتزم بجميع تعاليمه ونبذ ما سواه مما يتعارض معه، فمن لم يستجب لذلك دخل تحت قوله تعالى: {أفتؤمنون بعض الكتاب وتكفرون ببعض فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب وما الله بغافل عما تعملون} [البقرة: 85].

2- ودل قوله تعالى: {فإن زللتم من بعد ما جاءتكم البينات} على أن عقوبة العالم بالذنب أعظم من عقوبة الجاهل به، ومن لم تبلغه دعوة الإسلام لا يكون كافراً بترك الشرائع.

3- ودل قوله تعالى: {زيّن للذين كفروا الحياة الدنيا ويسخرون ...} على أن ميزان التفضيل عند غالبية الناس هو المال والجاه والسلطان، وهو ميزان خاسر لأنه يعود على أصحابه بالخزي في الدنيا والعذاب الشديد في الآخرة، وأن ميزان العدل والإنصاف هو ميزان التقوى {إن أكرمكم عند الله أتقاكم} وأما المال والجاه والسلطان فقد يرفع صاحبه إذا اقترن بالتقوى وسخر فيما يرضي الله ويخدم عباده، وقد يهوي بصاحبه في أسفل السافلين.

4- ودل قوله تعالى {والله يرزق من يشاء بغير حساب} على أن الله تعالى يعطي الدنيا للمؤمن وللكافر {كلا نمد هؤلاء وهؤلاء وما كان عطاء ربك محظوراً} [الإسراء: 20] ولكنه تعالى لا يعطي الآخرة إلا للمؤمن الطائع.

وأن تعالى تقسم هذه الدنيا بين عباده كيفما يشاء من غير أن يخضع عطاؤه لمحاسب، فلا يجوز للعبد العاقل أن يعترض على مولاه، لما أعطيت فلاناً وأغدقت عليه بالمال وحرمتني؟

وقد نسي هذا الغفل المسكين أن الله حرمه لوناً واحداً من الرزق لحكمة هي في صالحه، وأغدق عليه بألوان كثيرة من الأرزاق، وأعطى ذلك –الذي ظنه محظوظاً- لوناً واحداً من الرزق وحرمه ألواناً كثيرة لِحِكَم هي في صالحه، نعوذ بالله من أن نعود إلى الكفر بعد الإيمان.



حالة الرسل مع الناس

{كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمْ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ(213)أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمْ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ(214)}



سبب النزول:

نزول الآية (214):

قال قتادة والسُّدِّي: نزلت هذه الآية في غزوة الخندق (الأحزاب) حين أصاب المسلمين ما أصابهم من الجهد والشدة، والحر والبرد، وسوء العيش، وأنواع الأذى.

وقال عطاء: لما دخل رسول الله عليه وسلم وأصحابه المدينة، اشتد الضر عليهم، بأنهم خرجوا بلا مال، وتركوا ديارهم وأموالهم بأيدي المشركين، وآثروا رضاء الله ورسوله، وأظهرت اليهود العداوة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وأَسَرّ قوم من الأغنياء النفاق، فأنزل الله تعالى تطييباً لقلوبهم: {أم حسبتم}.



{كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً} أي كانوا على الإِيمان والفطرة المستقيمة فاختلفوا وتنازعوا، وسبب الخلاف هو التنافس على الدنيا، ففي بداية الأمر كانوا أمة واحدة على منهج آدم الذي علمه لذريته، لأنهم كانوا قلائل والأرض واسعة وخيراتها كثيرة ثم بدأ النزع حول أو قضية ذكرها لنا القرآن بين هابيل وقابيل فأراد قابيل أن يستأثر بأخته التي ولدت معه في بطن واحد وهي لا تحل له. فالناس كانوا أمة واحدة ولكنهم اختلفوا لحظة الاستئثار بالمنافع لأجل ذلك بعث الله النبيين ليذكروهم ويردوهم إلى منهج الله القويم. {فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ} أي بعث الله الأنبياء لهداية الناس مبشرين للمؤمنين بجنات النعيم ومنذرين للكافرين بعذاب الجحيم {وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ} أي وأنزل معهم الكتب السماوية لهداية البشرية حال كونها منزلة بين الناس في أمر الدين الذي اختلفوا فيه {وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَ الَّذِينَ أُوتُوهُ} أي وما اختلف في الكتاب الهادي المنير المنزل لإِزالة الاختلاف {إلا الذين أوتوه} وهم الذين أرسل الله إليهم رسله وأنزل فيهم كتبه كاليهود والنصارى، {مِنْ بَعْدِ مَا جَاءتْهُمْ الْبَيِّنَاتُ} أي من بعد ظهور الحجج الواضحة والدلائل القاطعة على صدق الكتاب فقد كان خلافهم عن بيّنة وعلم لا عن غفلةٍ وجهل، ومن هنا نعلم أن الاختلاف لا ينشأ إلا من إرادة البغي، والبغي هو إرادة الإنسان أخذ غير حقه، وبسبب ذلك ينشأ البغض والتنازع. {بَغْيًا بَيْنَهُمْ} أي ظلماً وحسداً من الكافرين للمؤمنين {فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ} الهداية من الله ترد على معنيين: الأول هو الدلالة على الطريق الموصل، والثاني هو المعونة.

فالهداية بالمعنى الأول تشمل جميع الناس وبذا نفعهم قوله تعالى: {وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى فأخذتهم صاعقة العذاب بما كانوا يكسبون} أي دلهم الله ولكنهم استحبوا العمى على الهدى.

وبالمعنى الثاني تشمل كل من أذن وأراد السير على الطريق المستقيم الذي بينه الله لعباده، وهؤلاء هم المؤمنون الذين هداهم الله بمعنى أعانهم على سلوك الطريق المستقيم. أي هدى الله المؤمنين للحق الذي اختلف فيه أهل الضلالة بتيسيره ولطفه {وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} أي يهدي من يشاء هدايته إِلى طريق الحق الموصل إِلى جنات النعيم. فلا يبررن أحد ضلاله بأن الله لم يشأ أن يهديه، لأنا نقول له: الهداية نوعان: هداية دلالة وهداية إعانة، فالأولى لكل الناس، والثانية لمن أراد أن يسلك طريق الحق بعد ما بينه الله له، وهي المرادة بقوله {والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم} ثم قال تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ} أي بل ظننتم يا معشر المؤمنين أن تدخلوا الجنة بدون ابتلاءٍ وامتحان واختبار، والعلاقة بين هذه الآية وما سبقها أن بني إسرائيل حسبوا أنهم يدخلون الجنة بدون أي محنة فأراد الله أن ينبه أمة محمد صلى الله عليه وسلم إلى أن الابتلاء سنة الله في الكون والجنة محفوفة بالمكاره. {وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ} أي والحال لم ينلكم مثل ما نال من سبقكم من المؤمنين من المحن الشديدة، ولم تُبتلوا بمثل ما ابتلوا به من النكبات، إلى الآن إلا أن هذا النفي متوقع الحدوث فاستعدوا له. {مَسَّتْهُمْ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ} أي أصابتهم الشدائد والمصائب والنوائب {حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ}؟ أي أزعجوا إِزعاجاً شديداً شبيهاً بالزلزلة حتى وصل بهم الحال أن يقول الرسول والمؤمنون معه متى نصر الله؟ أي متى يأتي نصر الله وذلك استبطاءً منهم للنصر لتناهي الشدة عليهم، وهذا غاية الغايات في تصوير شدة المحنة، فإِذا كان الرسل - مع علو كعبهم في الصبر والثبات - قد عيل صبرهم وبلغوا هذا المبلغ من الضجر والضيق كان ذلك دليلاً على أن الشدة بلغت منتهاها قال تعالى جواباً لهم {أَلاَ إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} أي ألا فأبشروا بالنصر فإِنه قد حان أوانه {ولينصرنَّ الله من ينصره إِن الله لقوي عزيز}.



ما يستخلص من الآيات [213-214]:

1- دلت الآية [213] على أن الناس كانوا أمة واحدة والحرص على الاستئثار بلذات الدنيا فرقهم وشتتهم، ولذا قال عليه الصلاة والسلام: "حب الدنيا رأس كل خطيئة" وقال أيضاً محذراً أصحابه وأمته: "ما الفقر أخشى عليكم، ولكن أخشى عليكم أن تبسط عليكم الدنيا كما بسطت على الذين من قبلكم فتنافسوها كما تنافسوها فتهلككم كما أهلكتهم"، وتحصيل لذات الدنيا المباحة شرعاً ليس ممنوعاً شرعاً، وإنما المحظور هو البغي في تحصيلها بأن يتجاوز المرء حقوقه ليلتهم حقوق الآخرين، أو أنه يستخدم ما أكرمه الله به من نعم في الترفع على الناس واحتقارهم واستغلالهم.

2- ودلت أيضاً على سعة رحمة الله بعباده إذ أرسل إليهم رسله وأنبيائه ليذكروهم بطريق الله القويم الذي حادوا عنه وتاهوا في ظلمات أهوائهم ونزعات شهواتهم التي زادتهم شقاء إلى شقاء بسب ما نتج عنها من تحاسد وتدابر وتقاتل وما إلى ذلك.

3- ودل قوله تعالى: {أم حسبتم أن تتركوا ...} على أن هذه الدنيا هي دار ابتلاء واختبار، وأنها لا تصفو لأحد، ولو صفت لأحد لصفت للأنبياء والمرسلين عليهم السلام، فلا بد من التمحيص ليتميز الصادق في إيمانه من المدعي الكاذب، مصداقاً لقوله تعالى: {الم أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين} [العنكبوت: 1-3].



مقدار نفقة التطوع ومصرفها

{يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلْ مَا أَنفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ(215)}



سبب النزول:

قال ابن عباس: نزلت في عمرو بن الْجَمُوح الأنصاري، وكان شيخاً كبيراً ذا مال كثير، فقال: يا رسول الله، بماذا أتصدق، وعلى من أنفق؟ فنزلت هذه الآية.



{يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ} أي يسألونك يا محمد ماذا ينفقون وعلى من ينفقون؟ وقد نزلت لمّا قال بعض الصحابة يا رسول الله: ماذا ننفق من أموالنا وأين نضعها؟ {قُلْ مَا أَنفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} أي قل لهم يا محمد اصرفوها في هذه الوجوه، وقوله تعالى {من خير} فيه إشارة إلى أمرين مهمين:

الأول: أن الخير يشمل أشياء كثيرة فمن أعطى ماله فقد أنفق، ومن أعطى علمه فقد أنفق، ومن أعطى ضحى بوقته من أجل الآخرين فقد أنفق، ومن واسى منكوباً مهموماً بكلمة طيبة فقد أنفق، فهي عامة في كل خير، فلو حصر الله الإنفاق في المال فقط لعجز عنه كثير من الناس، ولكنه تعالى وسع الدائرة لتشمل جميع المسلمين.

الثاني: ينبغي أن يكون هذا المنفق مما يصدق عليه بين العقلاء أنه من الخير، "فإن الله طيب ولا يقبل إلا طيباً" كما جاء في الحديث. {وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ} أي وكل معروف تفعلونه يعلمه الله وسيجزيكم عليه أوفر الجزاء. وبناء على ذلك فقدموا المعروف للناس ولا تنتظروا منهم جزاء ولا مدحاً، لأن الله المتفضل عليكم بهذا الخير هو الذي سيجازيكم عليه الجزاء الأولى {ويطعمون الطعام على حبه مسكيناً ويتيماً وأسيراً إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا شكوراً إنا نخاف من ربنا يوماً عبوساً قمطريراً فوقاهم الله شر ذلك اليوم ولقاهم نضرة وسروراً وجزاهم بما صبروا جنة وحريراً} [الإنسان: 8-12].



ما يستخلص من الآية [215]:

1- دلت الآية على أن أبواب الخير كثيرة، وبإمكان أي مسلماً ولو كان فقيراً، أن ينفق في سبيل الله من وقت، ومن علمه، ومن بسطة وجهه، ومن صحته وإلى ذلك.

2- ودلت أيضاً على أن الكثير والقليل يستحق به المسلم الثواب عند الله إذا ابتغى بذلك وجه الله تعالى: {فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره} [الزلزلة: 7].

3- الإنفاق يكون على حسب الأقرب فالأقرب، للآية ولقوله صلى الله عليه وسلم "ابدأ بمن تعول: أمك وأباك وأختك وأخاك وأدناك فأدناك".



فرضية القتال وإباحته في الأشهر الحرم

{كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ(216)يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ والْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ(217)إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَت اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ(218)}



سبب نزول الآية (216):

قال ابن عباس: لما فرض الله الجهاد على المسلمين شق عليهم وكرهوا، فنزلت هذه الآية.



سبب نزول الآية (217):

أخرج ابن جرير الطبري وابن أبي حاتم والطبراني في الكبير والبيهقي في سننه عن جندب بن عبد الله: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث رهطاً وبعث عليهم عبد الله بن جحش الأسدي، فلقوا ابن الحضرمي، ولم يدروا أن ذلك اليوم من رجب أو من جمادى فقاتلوهم وقتلوا منهم، فقال المشركون للمسلمين: قتلتم في الشهر الحرام، فأنزل الله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنْ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ} فسبب نزولها قصة عبد الله بن جحش باتفاق المفسرين.



{كُتِبَ عَليْكُمْ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ} أي فرض عليكم قتال الكفار أيها المؤمنون وهو شاق ومكروه على نفوسكم لِما فيه من بذل المال وخطر هلاك النفس {وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} أي ولكن قد تكره نفوسكم شيئاً وفيه كل النفع والخير {وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ} أي وقد تحب نفوسكم شيئاً وفيه كل الخطر والضرر عليكم، فلعل لكم في القتال - وإِن كرهتموه - خيراً لأن فيه إِما الظفر والغنيمة أو الشهادة والأجر، ولعل لكم في تركه - وإِن أحببتموه - شراً لأن فيه الذل والفقر وحرمان الأجر، وقد شرح ابن عطاء الله السكندري رحمه الله هذه الآية بحكمته المشورة: "ربما أعطاك فمنعك وربما منعك فأعطاك، ولو أدركت حكمة المنع لعرفت أنه عين العطاء" والمعنى أن الله تعالى قد يعطيك شيئاً أنت تراه عطاء ولكنه في حقيقة الأمر منع لأن ذلك الشيء يكون سبباً في حرمانك من أشياء هي أفضل منه، كمن يتمنى الولد فيكرم به فيكون سبباً في شقائه في الدنيا والآخرة، وربما يمنعك الله من شيء فيكون ذلك المنع سبباً في سعادتك في الدنيا والآخرة ولو أعطيته لشقيت، ولو كشف الله لك الحجاب وأدركت حكمة المع لتيقنت أنه عين العطاء وهو السعادة بعينها، فما على المؤمن العاقل إلا أن يأخذ بالأسباب ثم يسلم الأمر لله يفعل به ما يشاء، فهو وحده الذي يعلم ما يُصلحه وما يفسده، {وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} أي الله أعلم بعواقب الأمور منكم وأدرى بما فيه صلاحكم في دنياكم وآخرتكم فبادروا إِلى ما يأمركم به. وهذا تأكيد منه تعالى لعباده المؤمنين حتى يتيقنوا من تلك الحقيقة ويسلموا الأمر لله تعالى.

{يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ} أي يسألك أصحابك يا محمد عن القتال في الشهر الحرام أيحل لهم القتال فيه؟ {قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ} أي قل لهم القتال فيه أمره كبير ووزره عظيم ولكن هناك ما هو أعظم وأخطر وهو {وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ} أي ومنع مشركي قريش المؤمنين عن دين الله وكفرُهم بالله وصدُّهم عن المسجد الحرام - يعني مكة - وإِخراجكم من البلد الحرام وأنتم أهله وحماته، كلُّ ذلك أعظم وزراً وذنباً عند الله من قتل من قاتلكم من المشركين، فإِذا استعظموا قتالكم لهم في الشهر الحرام فليعلموا أنَّ ما ارتكبوه في حق النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين أعظم وأشنع {وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ} أي فتنة المسلم عن دينه حتى يردوه إِلى الكفر بعد إِيمانه أكبر عند الله من القتل. ثم بيّن تعالى أن قتال الكفار للمسلمين مستمر، فقال: {وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا} أي ولا يزالون جاهدين في قتالكم حتى يعيدوكم إِلى الكفر والضلال إِن قدروا، و"إن" تأتي دائماً في الأمر المشكوك فيه، والمعنى: ولن يستطيعوا أبداً أن يردوكم جميعاً عن دينكم، فهم غير راجعين عن كفرهم وعدوانهم، ولذا عليكم أن تحذروا من مكايدهم حتى لا ترجعوا عن دينكم، ومن رجع عن دينه فمصيره: {وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ} أي ومن يستجب لهم منكم فيرجع عن دينه ويرتد عن الإِسلام ثم يموت على الكفر فقد بطل عمله الصالح في الدارين وذهب ثوابه {وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} أي وهم مخلدون في جهنم لا يخرجون منها أبداً.

فائدة: قد يتساءل بعض الناس عن مصير بعض الكفار الذين قدموا خدمات إنسانية راقية لا يزال العالم ينتفع بها، كيف لا ينالون جزاءهم يوم القيامة على تلك الأعمال النافعة؟ والجواب: أن الذي يعمل عملاً يطلب الأجر ممن عمل له، وهؤلاء لم يضعوا في حسبانهم أن ينالوا الثواب من الله، وإنما كان همهم الإنسانية والشهرة والمجد، وقد أعطتهم الإنسانية الشهرة والمجد والتخليد، وما داموا قد نالوا جزاءهم في الدنيا فلي لهم أن ينتظروا أجرة في الآخرة لأنهم لا يؤمنون بها. ولذا قال فيهم الحق تعالى: {والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماءً حتى إذا جاءه لم يجده شيئاً ووجد الله عنده فوفاه حسابه والله سريع الحساب} [النور: 39].

{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} أي إِن المؤمنين الذين فارقوا الأهل والأوطان وجاهدوا الأعداء لإِعلاء دين الله {أُوْلَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَت اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} أي الذين يطمعون أن تصيبهم رحمة الله، فإن قال قائل: أو يقدمون كل تلك الأعمال الجليلة ثم لا يتيقنون من رحمة الله؟ والجواب: أن ليس للعبد عند الله شيء متيقن لأنه لا يدري ما قدمت يداه، أأعماله كاملة أم ناقصة؟ أتاب من جميع ذنوبه أم غفل عن بعضها؟ أتوبته نصوحاً أم لا؟ أأعماله مقبولة أم مردودة؟ فهذا سيد الخلق عليه الصلاة والسلام يقول: "اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع وعمل لا يرفع ودعاء لا يسمع" [رواه أحمد والحاكم وابن حبان].

إن الإنسان لو عبد الله واشتغل بالطاعة طوال حياته لن يستطيع أن يرد مقابل جزء يسير من النعم التي أكرمه الله بها سابقاً كنعمة الإيجاد والحياه والسمع والبصر وغير ذلك فضلاً عن أن يرد مقابل النعم التي تأتيه لاحقاً لحظة لحظة إلى أن يفارق الحياة، فما أتاه سابقاً فهو فضل زائد عن أعماله وأتاه لاحقاً فهو كذلك، فأنى للعاقل أن يتيقن من رحمة الله تعالى؟ فهذا سيد الخلق عليه الصلاة والسلام يقول: "لن يدخل أحدكم الجنة بعمله. فقالوا: ولا أنت يا رسول الله. قال: ولا أنا حتى يتغمدني الله برحمته" [رواه الشيخان وغيرهما].

فعلى العبد العاقل أن يتعلق بالخوف والرجاء ليكون قريباً من رحمة الله تعالى فاللهم عاملنا بفضلك لا بعدلك وبإحسانك لا بميزانك وبجبرك لا بحسابك. {والله غفور رحيم} أي: عظيم المغفرة واسع الرحمة وهي تأكيد لما سبق من أن الإنسان مهما قدم من طاعات فهو مقصر ولا يجبر تقصيره إلا رحمة الله وغفرانه.



ما يستخلص من الآيات [216-218]:

1- دل قوله تعالى: {كُتب عليكم القتال وهو كره لكم{ على أن الإسلام دين يحترم الفطرة الإنسانية ولا يطلب من اتباعه أن يعشوا مثالية أفلاطون، ولذا أقر ما يدور في أنفسهم وإن لم تنطق به ألسنتهم، فبيّن لهم أن الجهاد أمر تكرهه النفوس لما فيه من المشقة عليها، كإخراج المال ومفارقة الوطن والأهل، والتعرض بالجسد إلى الجراح أو الإتلاف وما إلى ذلك ولكن مصالحه أكبر من مفاسده لأنه سبيل العز ودرء الظلم والاستبداد عن البشرية، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم القائل: "وما ترك قوم الجهاد في سبيل الله إلا ذُلُّوا"، قال عكرمة في هذه الآية: "إنهم كرهوه ثم أحبوه" لما فيه من فضل وثواب لا يعلمه إلا الله.

2- ودل قوله تعالى: {وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم ...} على أن المؤمن العاقل، يجب عليه أن يأخذ بالأسباب ويمتثل أمر ربه ثم يقف بعد ذلك موقف العبد الراضي المسلم بكل ما يقدره له مولاه الكريم الرحيم وإن جاء خلاف ما تشتهيه نفسه لأنه لا يدري حقيقة الخير أين هو، أهو في المنع أم في العطاء، "فربما منعك فأعطاك وربما أعطاك فمنعك ولو أدركت حكمة المنع لعرفت أنه عين العطاء"، كما قالابن عطاء الله رحمة الله.

3- ودل قوله تعالى: {ويسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه ...} على حرمة القتال في الشهر الحرام، إلا أن العلماء اختلفوا في نسخها:

أ- فذهب عطاء إلى أنها محكمة غير منسوخة، لأن آية القتال عامة وهذه خاصة والعام لا ينسخ الخاص.

ب- وذهب جمهور العلماء إلى نسخها وأن قتال المشركين في الأشهر الحرم مباح، والناس في قول الزهري {وقاتلوا المشركين كافة} [التوبة: 36] أو {قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر} [التوبة: 22].

4- حكم عمل المرتد الذي تاب قبل موته:

اتفق العلماء على أن من ارتد عن الإسلام ومات على ذلك حبِط جميع عمله، ولكنهم اختلفوا إذا تاب قبل أن يموت.

أ- فذهب الإمام الشافعي إلى أن حبوط العمل مشروط بالموت على الكفر استناداً لقوله تعالى: {ومن يرتدد عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة} لأن ظاهر الآية دل على أن الردة لا تحبط العمل حتى يموت صاحبها على الكفر.

ب- وذهب الإمام مالك وأبو حنيفة أن الردة بمفردها تحبط العمل ولو رجع صاحبها إلى الإسلام، لورودها في مواضع عدة مجردة عن اشتراط الموت على ذلك لحبوط العمل، كقوله تعالى: {ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله وهو في الآخرة من الخاسرين} [المائدة: 5]، وقوله: {لئن أشركت ليحبطن عملك} [الزمر: 65]، وقوله: {ولو أشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون} [الأنعام: 88]، فهذه الآيات في الردة فقط وقد عُلِّق الحبوط فيها على الشرك، والخطاب وإن كان للنبي صلى الله عليه وسلم فالمراد به أمته لاستحالة الشرك عليه.

وأما الآية التي استدل به الشافعي {ومن يرتدد منكم عن دينه ...} فرتبت حكمين: الحبوط والخلود في النار، ومن شروط الخلود أن يموت على كفره كما ذكر ابن العربي [أحكام القرآن 1/148].

وتظهر ثمرة الخلاف فيمن حج ثم ارتد ثم رجع إلى الإسلام قبل أن يموت.

فعلى مذهب الشافعي لا يلزمه الحج لأن حجه سبق ردته وقد تاب قبل أن يموت.

وعلى رأي مالك وأبي حنيفة: يلزمه الحج لأن ردته أحبطت جميع أعماله بما في ذلك الحج.



المرحلة الثانية من مراحل تحريم الخمر وحرمة القمار

{يَسْأَلُونَكَ عَنْ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ(219)}



سبب نزول الآية [219]:

نزلت آية {يَسْأَلُونَكَ عَنْ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ..} في عمر بن الخطاب ومعاذ بن جبل ونفر من الأنصار، أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: أفتنا في الخمر والميسر، فإنهما مذهبة للعقل، مسلبة للمال، فأنزل الله تعالى هذه الآية.

وروى أحمد عن أبي هريرة قال: "قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، وهم يشربون الخمر، ويأكلون الميسر، فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عنهما، فنزلت الآية، فقال الناس: ما حُرِّم علينا، إنما قال: إثمٌ كبير، وكانوا يشربون الخمر، حتى كان يوم، صلى رجل من المهاجرين، وأمَّ الناس في المغرب، فخلّط في قراءته، فأنزل الله آية أغلظ منها: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} [النساء: 43]. ثم نزلت آية أغلظ من ذلك: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ} [المائدة: 90] إلى قوله: {فهل أنتم منتهون} قالوا: انتهينا ربَّنا".



وأما سبب نزول قوله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ}: فهو ما أخرجه ابن أبي حاتم عن ابن عباس: أن نفراً من الصحابة حين أمروا بالنفقة في سبيل الله، أتوا النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: إنا لا ندري ما هذه النفقة التي أمرنا في أموالنا، فما ننفق منها؟ فأنزل الله: {وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلْ الْعَفْوَ} والسائل هم المؤمنون، وهو الظاهر من واو الجماعة، وقيل: السائل: عمرو بن الجموح. والنفقة هنا: قيل: في الجهاد، وقيل: في الصدقات أي التطوع في رأي الجمهور، وقيل: في الواجب أي الزكاة المفروضة.



{يَسْأَلُونَكَ عَنْ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ} الخمر: مأخوذة من خمر الشيء إذا ستره وغطاه، وسمّيت بذلك لأن تستر العقل وتغطيه، والميسر هو القمار، وهو مأخوذ من اليسر وهو السهولة لأنه يحصل لصاحبه مالاً بلا جهد ولا تعب. أي يسألونك يا محمد عن حكم الخمر وحكم القمار {قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} أي قل لهم إِن في تعاطي الخمر والميسر ضرراً عظيماً وإِثماً كبيراً، أما الضرر الخمر فهو بيّن ومتعدد، منه أنه يغطي نعمة العقل العظيمة التي امتن الله بها على عباده في مواضع عدة، والإنسان شرف بعقله فإذا غاب عنه تصرف بتصرفات المجانين، ولذا قال عليه الصلاة والسلام "الخمر أم الخبائث" فهي مفتاح الشرور والمفاسد وأضرارها الاجتماعية والصحية لم تعد خافية على القاصي والداني. وأما الميسر فإنه يزرع البغض والحسد بين اللاعبين لحرص كل منهم على أخذها في جيب الآخر بالحيلة والمكر وغالباً ما يؤدي إلى التنازع والشجار وربما إلى القتل، كما أنه يعود اللاعبين على الكسل ونبذ العمل والسعي لتحصيل المال بالطرق اليسيرة كالسرقة والرشوة والتدليس والغش وما إلى ذلك. {وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا} أي وضررهما أعظم من نفعهما فإِن ضياع العقل وذهاب المال وتعريض البدن للمرض في الخمر، وما يجرُّه القمار من خراب البيوت ودمار الأسر وحدوث العداوة والبغضاء بين اللاعبين، كلُّ ذلك محسوس مشاهد وإِذا قيس الضرر الفادح بالنفع التافه ظهر خطر المنكر الخبيث {وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ} أي ويسألونك ماذا ينفقون وماذا يتركون من أموالهم؟ قل لهم: أنفقوا الفاضل عن الحاجة ولا تنفقوا ما تحتاجون إِليه فتضيعوا أنفسكم {كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ} أي كما يبيّن لكم الأحكام يبيّن لكم المنافع والمضار والحلال والحرام {لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ}.



سبب نزول الآية [220]:

أخرج أبو داود والنسائي والحاكم وغيرهم عن ابن عباس قال: لما نزلت: {وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [الأنعام: 152] و {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى} الآية [النساء: 10]، انطلق من كان عنده يتيم، فعزل طعامه من طعامه، وشرابه من شرابه، فجعل يفضل له الشيء من طعامه، فيجس له حتى يأكله أو يفسد، فاشتد ذلك عليهم، فذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ الْيَتَامَى} الآية.



الولاية على مال اليتيم

{فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ(220)}



{فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ} أي لتتفكروا في أمر الدنيا والآخرة فتعلموا أن الأولى فانية والآخرة باقية فتعملوا لما هو أصلح، والعاقل من آثَر ما يبقى على ما يفنى. {وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ} أي ويسألونك يا محمد عن مخالطة اليتامى في أموالهم أيخالطونهم أم يعتزلونهم؟ فقل لهم: مداخلتهم على وجه الإصلاح خير من اعتزالهم {وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ} أي إذا خلطتم أموالهم بأموالكم على وجه المصلحة لهم فهم إِخوانكم في الدين، وأخوة الدين أقوى من أخوّة النسب، ومن حقوق هذه الأخوّة المخالطة بالإِصلاح والنفع {وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفسِدَ مِنْ الْمُصْلِحِ} أي والله تعالى أعلم وأدرى بمن يقصد بمخالطتهم الخيانة والإِفساد لأموالهم، ويعلم كذلك من يقصد لهم الإِصلاح فيجازي كلاً بعمله {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لأَعْنَتَكُمْ} أي لو شاء تعالى لأوقعكم في الحرج والمشقة وشدَّد عليكم ولكنه يسّر عليكم الدين وسهّله رحمة بكم {إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} أي هو تعالى الغالب الذي لا يمتنع عليه شيء الحكيم فيما يشرّع لعباده من الأحكام.



سبب النزول:

في رواية: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث مِرْثَد بن أبي مِرْثَد الغنوي إلى مكة، ليخرج منها ناساً من المسلمين، وكان يهوى امرأة في الجاهلية اسمها: عَنَاق، فأتته، وقالت: ألا تخلو؟ فقال: ويحك، إن الإسلام قد حال بيننا، فقالت: فهل لك أن تتزوج بي؟ قال: نعم، ولكن أرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأستأمرُه، فاستأمَرَه، فنزلت".



زواج المسلم بالمشركة

{وَلا تَنكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلا تُنكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُوْلَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ(221)}



ثم قال تعالى محذراً من زواج المشركات اللواتي ليس لهن دين سماوي {وَلا تَنكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} أي لا تتزوجوا أيها المسلمون بالمشركات من غير أهل الكتاب حتى يؤمنَّ بالله واليوم الآخر {وَلأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ} أي ولأمة مؤمنة خير وأفضل من حرة مشركة، ولو أعجبتكم المشركة بجمالها ومالها وسائر ما يوجب الرغبة فيها من حسب أو جاه أو سلطان {وَلا تُنكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا} أي ولا تتزوجوا بناتكم من المشركين - وثنيّين كانوا أم من أهل كتاب - حتى يؤمنوا بالله ورسوله {وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ} أي ولأن تزوجوهنَّ من عبد مؤمنٍ خير لكم من أن تزوجوهن من حرٌ مشرك مهما أعجبكم في الحسب والنسب والجمال.

{أُوْلَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ} أي أولئك المذكورون من المشركين والمشركات الذين حرمت عليكم مصاهرتهم ومناكحتهم يدعونكم إِلى ما يوصلكم إِلى النار وهو الكفر والفسوق فحقكم ألا تتزوجوا منهم ولا تزوجوهم {وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ} أي هو تعالى يريد بكم الخير ويدعوكم إِلى ما فيه سعادتكم وهو العمل الذي يوجب الجنة ومغفرة الذنوب {وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} أي يوضح حججه وأدلته للناس ليتذكروا فيميزوا بين الخير والشر والخبيث والطيب.



سبب النزول:

نزول الآية: (222):

روى مسلم والترمذي عن أنس بن مالك أن اليهود كانوا ذا حاضت المرأة منهم، لم يؤاكلوها ولم يجامعوها في البيوت، فسأل الأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فأنزل الله عز وجل: {ويسألونك عن المحيض} الآية، فقال: "اصنعوا كل شيء إلا النكاح".



نزول الآية (223):

روى الشيخان وأبو داود والترمذي عن جابر قال: كانت اليهود تقول إذا جامعها من ورائها - أي يأتي امرأته من ناحية دبرها في قُبُلها -: إن الولد يكون أحول، فنزلت: {نساؤكم حرث لكم ..} الآية.



الحيض وأحكامه

{وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ(222)نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لأَنفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ(223)}



ثم بيّن تعالى أحكام الحيض فقال {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى} يا محمد عن إِتيان النساء في حالة الحيض أيحل أم يحرم؟ فقل لهم: إِنه شيء مستقذر ومعاشرتهن في هذه الحالة فيه أذى للزوجين {فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ} أي اجتنبوا معاشرة النساء في حالة الحيض {وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} أي لا تجامعوهن حتى ينقطع عنهن دم الحيض ويغتسلن. والمرادُ التنبيه على أن الغرض عدم المعاشرة لا عدم القرب منهن وعدم مؤاكلتهن ومجالستهن كما كان يفعل اليهود إِذا حاضت عندهم المرأة.

{فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ} أي فإِذا تطَهَّرن بالماء فأتوهنَّ في المكان الذي أحله الله لكم، وهو مكان النسل والولد القُبُل لا الدبر {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} أي يحبُّ التائبين من الذنوب، المتنزهين عن الفواحش والأقذار {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ} أي نساؤكم مكان زرعكم وموضع نسلكم وفي أرحامهن يتكوّن الولد، فأتوهن في موضع النسل والذرية ولا تتعدوه إِلى غيره قال ابن عباس: "اسق نباتك من حيث ينبت" ومعنى {أَنَّى شِئْتُمْ} أي كيف شئتم قائمةً وقاعدةً ومضطجعة بعد أن يكون في مكان الحرث "الفرج" وهو ردٌّ لقول اليهود: إِذا أتى الرجل امرأته في قُبُلها من دبرها جاء الولد أحول {وَقَدِّمُوا لأَنفُسِكُمْ} أي قدموا صالح الأعمال التي تكون لكم ذخراً في الآخرة {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ}أي خافوا الله باجتناب معاصيه وأيقنوا بأن مصيركم إِليه فيجازيكم بأعمالكم {وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} أي بشرهم بالفوز العظيم في جنات النعيم.



سبب النزول:

نزول الآية (224):

روى ابن جرير الطبري عن ابن جُرَيج، أن قوله تعالى: {وَلا تَجْعلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لأَيْمَانِكُمْ} نزلت بسبب أبي بكر الصديق إذ حلف ألا ينفق على مِسْطح، حين غاص مع المنافقين في حديث الإفك وتكلم في عائشة رضي الله عنها، وفيه نزل: {وَلا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُوْلِي الْقُرْبَى} [النور: 22].



حكم اليمين

{وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ(224)لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ(225)}



{وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لأَيْمَانِكُمْ} أي لا تجعلوا الحلف بالله سبباً مانعاً عن فعل الخير فتتعللوا باليمين بأن يقول أحدكم: قد حلفتُ بالله ألاّ أفعله وأريد أن أبرّ بيميني بل افعلوا الخير وكفّروا عن أيمانكم قال ابن عباس: لا تجعلنَّ الله عرضة ليمينك أن لا تصنع الخير ولكن كفّر عن يمينك واصنع الخير {أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ} أي لا تجعلوه تعالى سبباً مانعاً عن البر والتقوى والإِصلاح بين الناس وقيل نزلت في "عبد الله بن رواحة" حين حلف ألا يكلّم ختنه "النعمان بن بشير" ولا يصلح بينه وبين أخته {وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} أي سميع لأقوالكم عليم بأحوالكم .

ثم قال تعالى {لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ} أي لا يؤاخذكم بما جرى على لسانكم من ذكر اسم الله من غير قصد الحلف كقول أحدكم: بلى والله، ولا والله لا يقصد به اليمين {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} أي يؤاخذكم بما قصدتم إِليه وعقدتم القلب عليه من الأيمان إِذ حنثتم فيها {وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ}أي واسع المغفرة لا يعاجل عباده بالعقوبة.



سبب النزول:

قال ابن عباس: كان إيلاء أهل الجاهلية السّنة والسّنتين وأكثر من ذلك، فوقَّت الله أربعة أشهر، فمن كان إيلاؤه أقل من أربعة أشهر فليس بإيلاء. وقال سعيد بن المسيب: كان الإيلاء ضرار أهل الجاهلية، كان الرجل لا يريد المرأة ولا يحبّ أن يتزوجها غيره، فيحلف أن لا يقربها أبداً، وكان يتركها كذلك، لا أيّماً ولا ذات بعل، فجعل الله تعالى الأجل الذي يعلم به ما عند الرجل في المرأة أربعة أشهر، وأنزل الله تعالى: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ} الآية.

وذكر مسلم في صحيحه أن النبَّي صلى الله عليه وسلم آلى وطلَّق، وسبب إيلائه سؤال نسائه إياه من النفقة ما ليس عنده.



حكم الإيلاء

{لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ(226)وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ(227)}



{لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ} أي للذين يحلفون ألاّ يجامعوا نساءهم للإضرار بهن انتظار أربعة أشهر{فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} أي إن رجعوا إلى عشرة أزواجهن بالمعروف-وهو كناية عن الجماع-أي رجعوا عن اليمين إلى الوطء فإن الله يغفر ما صدر منهم من إساءة ويرحمهم .

{وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} أي وإن صمّموا على عدم المعاشرة والامتناع عن الوطء فإن الله سميعٌ لأقوالهم عليم بنيّاتهم، والمراد من الآية أن الزوج إذا حلف ألا يقرب زوجته تنتظره الزوجة مدة أربعة أشهر فإن عاشرها في المدة فبها ونعمت ويكون قد حنث في يمينه وعليه الكفارة، وإن لم يعاشرها وقعت الفرقة والطلاق بمضي تلك المدة عند أبي حنيفة، وقال الشافعي: ترفع أمره إلى الحاكم فيأمره إِما بالفيئة أو الطلاق فإن امتنع عنهما طلّق عليه الحاكم هذا هو خلاصة حكم الإِيلاء.



عدة المطلقة وحق المرأة

{وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلاحًا وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ(228)}



ثم قال تعالى مبيناً أحكام العدّة والطلاق الشرعي {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} أي الواجب على المطلقات الحرائر المدخول بهن أن ينتظرن مدة ثلاثة أطهار-على قول الشافعي ومالك- أو ثلاث حِيَض على قول أبي حنيفة وأحمد ثم تتزوج إن شاءت بعد انتهاء عدتها، وهذا في المدخول بها أما غير المدخول بها فلا عدة عليها لقوله تعالى {فما لكم عليهن من عدة} {وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ} أي لا يباح للمطلقات أن يخفين ما في أرحامهن من حبلٍ أو حيض استعجالاً في العدة وإِبطالاً لحق الزوج في الرجعة {إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} أي إن كنَّ حقاً مؤمناتٍ بالله ويخشين من عقابه، وهذا تهديد لهنَّ حتى يخبرن بالحق من غير زيادة ولا نقصان لأنه أمر لا يُعلم إلاّ من جهتهنَّ {وَبُعُولَتهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلاحًا} أي وأزواجهن أحقُّ بهنَّ في الرجعة من التزويج للأجانب إذا لم تنقض عدتهن وكان الغرض من الرجعة الإِصلاح لا الإِضرار، وهذا في الطلاق الرجعي {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} أي ولهنَّ على الرجال من الحق مثل ما للرجال عليهن، بالمعروف الذي أمر تعالى به من حسن العشرة وترك الضرار ونحوه {وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ} أي وللرجال على النساء ميزةٌ وهي فيما أمر تعالى به من القوامة والإِنفاق والإِمرة ووجوب الطاعة فهي درجة تكليفٍ لا تشريف لقوله تعالى {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13] {وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} أي غالب ينتقم ممن عصاه حكيم في أمره وتشريعه.



سبب النزول:

لم يكن للطلاق لدى عرب الجاهلية حد ولا عدد، فكان الرجل يطلق ثم يراجع وتستقيم الحال، وإن قصد الإضرار يراجع قبل انقضاء العدة، ثم يستأنف طلاقاً جديداً، مرة تلو مرة إلى أن يسكن غضبه، فجاء الإسلام لإصلاح هذا الشذوذ ومنع الضرر.



نزول الآية (229):

أخرج الترمذي والحاكم وغيرهما عن عائشة قالت: "كان الرجل يطلق امرأته ما شاء أن يطلق، وهي امرأته إذا ارتجعها، وهي في العدة، وإن طلقها مائة مرة وأكثر، حتى قال رجل لامرأته: والله لا أطلقك، فتبيني مني، ولا آويك أبداً، قالت: وكيف ذلك؟ قال: أطلقك، فكلما همت عدتك أن تنقضي، راجعتك، فذهبت المرأة، وأخبرت النبي صلى الله عليه وسلم، فسكت حتى نزل القرآن: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ}.

وقوله تعالى: {وَلا يَحِلُّ لَكُمْ...} الآية: أخرج أبو داود في الناسخ والمنسوخ عن ابن عباس قال: كان الرجل يأكل من امرأته نِحْلَه - عطاءه - الذي نحلها وغيره، لا يرى أن عليه جناحاً، فأنزل الله: {ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئاً}.

وقوله تعالى: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَ يُقِيمَا...} الآية: أخرج ابن جرير الطبري عن ابن جريج قال: نزلت هذه الآية في ثابت بن قيس وفي حبيبة، وكانت اشتكته إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "أَتَرُدِّين عليه حديقته"؟ قالت: نعم، فدعاه، فذكر ذلك له، قال: وتطيب لي بذلك؟ قال:نعم، قال: قد فعلت، فنزلت: {وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلا أَنْ يَخَافَا أَلا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ...} الآية.

وروى البخاري وابن ماجه والنسائي عن ابن عباس أن جميلة أخت عبد الله بن أُبيّ بن سلول زوج ثابت بن قيس أتت النبي صلى الله عليه وسلم، فقالت: يا رسول الله، ثابت بن قيس، ما أعتب عليه في خلق ولا دين، ولكن لا أطيقه بغضاً، وأكره الكفر في الإسلام، قال: أَتَرُدِّين عليه حديقته؟ قالت: نعم، قال: "اقبل الحديقة وطلقها تطليقة".



نزول الآية (230):

أخرج ابن المنذر عن مقاتل بن حيان قال: نزلت هذه الآية في عائشة بنت عبد الرحمن بن عَتيك، كانت عند رفاعة بن وهب بن عتيك، وهو ابن عمها، فطلقها طلاقاً بائناً، فتزوجت بعده عبد الرحمن بن الزبير القرظي، فطلقها، فأتت النبي صلى الله عليه وسلم، فقالت: إنه طلقني قبل أن يمسني، أفأرجع إلى الأول؟ قال: لا حتى يمس، ونزل فيها: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} فيجامعها {فَإِنْ طَلَّقَهَا} بعدما جامعها {فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا }.



طريقة الطلاق الشرعية، وما يترتب عليها من أحكام

{الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلاَ أَنْ يَخَافَا أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ(229)فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ(230)}



ثم بيّن تعالى طريقة الطلاق الشرعية فقال {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} أي الطلاق المشروع الذي يملك به الزوج الرجعة مرتان وليس بعدهما إِلا المعاشرة بالمعروف مع حسن المعاملة أو التسريح بإِحسان بألا يظلمها من حقها شيئاً ولا يذكرها بسوء ولا ينفّر الناس عنها.

{وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} أي لا يحل لكم أيها الأزواج أن تأخذوا مما دفعتم إليهن من المهور شيئاً ولو قليلاً {إِلاَ أَنْ يَخافَا أَلاَ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ} أي إلا أن يخاف الزوجان سوء العشرة وألا يرعيا حقوق الزوجية التي أمر الله تعالى بها {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} أي فإن خفتم سوء العشرة بينهما وأرادت الزوجة أن تختلع بالنزول عن مهرها أو بدفع شيء من المال لزوجها حتى يطلقها فلا إثم على الزوج في أخذه ولا على الزوجة في بذله.

{تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوهَا} أي هذه الأحكام العظيمة من الطلاق والرجعة والخلع وغيرها هي شرائع الله وأحكامه فلا تخافوها ولا تتجاوزوها إلى غيرها ممّا لم يشرعه الله {وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ} أي من خالف أحكام الله فقد عرَّض نفسه لسخط الله وهو من الظالمين المستحقين للعقاب الشديد.

{فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} أي فإن طلّق الرجل المرأة ثالث مرة فلا تحل له بعد ذلك حتى تتزوج غيره وتطلق منه، بعد أن يذوق عسيلتها وتذوق عسيلته كما صرّح به الحديث الشريف، وفي ذلك زجر عن طلاق المرأة ثلاثاً لمن له رغبة في زوجته لأن كل ذي مروءة يكره أن يفترش امرأته آخر {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ} أي إن طلقها الزوج الثاني فلا بأس أن تعود إلى زوجها الأول بعد انقضاء العدّة إن كان ثمة دلائل تشير إلى الوفاق وحسن العشرة {وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} أي تلك شرائع الله وأحكامه يوضحها ويبينها لذوي العلم والفهم الذين ينظرون في عواقب الأمور.



سَبَب النّزول:

روي أن "معقل بن يسار" زوَّج أخته رجلاً من المسلمين على عهد النبي صلى الله عليه وسلم فكانت عنده ما كانت ثم طلقها تطليقه لم يراجعها حتى انقضت العدة، فهويها وهويته ثم خطبها مع الخطّاب فقال له: يا لُكَع " أي يا لئيم" أكرمتك بها وزوجتك فطلقتها !! والله لا ترجع إليك أبداً فعلم الله حاجته إليها وحاجتها إلى بعلها فأنزل الله {وَإِذَا طَلَّقْتُمْ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَّ.. } الآية فلما سمعها معقل قال: سمعاً لربي وطاعة ثم دعاه فقال: أزوجك وأكرمك.



واجب الرجل في معاملة المطلقة وولاية التزويج

{وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ(231)وَإِذَا طَلَّقْتُمْ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ(232) }



{وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ} أي إذا طلقتم يا معشر الرجال النساء طلاقاً رجعياً وقاربن انقضاء العدة {فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} أي فراجعوهنّ من غير ضرار ولا أذى أو اتركوهن حتى تنقضي عدتهن بإِحسان من غير تطويل العدة عليهن {وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا} أي لا تراجعوهن إِرادة الإِضرار بهن لتظلموهن بالإِلجاء إِلى الافتداء، وفيه زجرٌ لما كان عليه الناس حيث كان الزوج يترك المعتدة حتى إِذا شارفت انقضاء العدّة يراجعها للإِضرار بها ليطوّل عليها العدة لا للرغبة فيها {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} أي من يمسكها للإِضرار بها أو ليكرهها على الافتداء فقد ظلم بذلك العمل نفسه لأنه عرّضها لعذاب الله {وَلا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا} أي لا تهزؤوا بأحكام الله وأوامره ونواهيه فتجعلوا شريعته مهزوءاً بها بمخالفتكم لها .

{وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ} أي اذكروا فضل الله عليكم بهدايتكم للإِسلام وما أنعم به عليكم من القرآن العظيم والسنة المطهّرة {يَعِظُكُمْ بِهِ} أي يرشدكم ويذكّركم بكتابه وهدي رسوله إِلى سعادتكم في الدارين {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} أي خافوا الله وراقبوه في أعمالكم واعلموا أنه تعالى لا تخفى عليه خافية من أحوالكم.

ثم أمر تعالى الأولياء بعدم عضل النساء الراغبات في العودة إِلى أزواجهن فقال {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ} إِذا طلقتم النساء وانقضت عدتهن {فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ} أي فلا تمنعوهن يا معشر الأولياء من العودة لأزواجهن إِذا صلحت الأحوال بين الزوجين وظهرت أمارات الندم ورضي كل منهما العودة لصاحبه والسير بما يرضي الله {ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} أي ما نهيتكم عنه من الإِضرار والعضل يُنصح به ويوعظ من كان يؤمن بالله واليوم الآخر لأنه هو المنتفع بالمواعظ الشرعية {ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ} أي الاتعاظ بما ذكر والتمسك بأوامر الله خير وأنفع لكم وأطهر من الآثام وأوضار الذنوب {وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} أي والله يعلم ما هو أصلح لكم من الأحكام والشرائع وأنتم لا تعلمون ذلك، فامتثلوا أمره تعالى ونهيه في جميع ما تأتون وما تذرون.



مدة الرضاعة ونفقة الأولاد وانفصال الزوجين

{وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاَ وُسْعَهَا لا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ فَإِنْ أَرَادَا فِصَالاً عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ(233)}



{وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ} أي الواجب على الأمهات أن يرضعن أولادهنّ لمدة سنتين كاملتين {لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} أي إِذا شاء الوالدان إتمام الرضاعة ولا زيادة عليه {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} أي وعلى الأب نفقة الوالدات المطلقات وكسوتهن بما هو متعارف بدون إِسراف ولا تقتير لتقوم بخدمته حق القيام {لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاَ وُسْعَهَا} أي تكون النفقة بقدر الطاقة لأنه تعالى لا يكلّف نفساً إِلا وسعها.

{لا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ} أي لا يضرَّ الوالدان بالولد فيفرِّطا في تعهده ويقصّرا في ما ينبغي له، أو لا يضارَّ أحدهما الآخر بسبب الولد فترفض الأم إِرضاعه لتضرّ أباه بتربيته، أو ينتزع الأب الولد منها إِضراراً بها مع رغبتها في إِرضاعه ليغيظ أحدهما صاحبه، قاله مجاهد {وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ} أي وعلى الوارث مثلُ ما على والد الطفل من الإِنفاق على الأم والقيام بحقوقها وعدم الإِضرار بها والمراد به وارثُ الأب وقيل: وارثُ الصبي، والأول اختيار الطبري.

{فَإِنْ أَرَادَا فِصَالاً عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا} أي فإِذا اتفق الوالدان على فطامه قبل الحولين ورأيا في ذلك مصلحة له بعد التشاور فلا إِثم عليهما {وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ} أي وإِن أردتم أيها الآباء أن تطلبوا مرضعةً لولدكم غير الأم بسبب عجزها أو إِرادتها الزواج فلا إِثم عليكم شريطة أن تدفعوا لها ما اتفقتم عليه من الأجر، فإِن المرضع إِذا لم تكرم لا تهتم بالطفل ولا تُعنى بإِرضاعه {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} أي راقبوا الله في جميع أفعالكم فإِنه تعالى لا يخفى عليه شيء من أقوالكم وأحوالكم.



عدة المتوفَّى عنها زوجها

{وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ(234)}



{وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} أي على النساء اللواتي يموت أزواجهن أن يمكثن في العدّة أربعة أشهر وعشرة أيام حداداً على أزواجهنَّ وهذا الحكم لغير الحامل أما الحامل فعدتها، وضع الحمل لقوله تعالى {وأولاتُ الأحمال أجلهنَّ أن يضعن حملهنَّ} {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} أي فإذا انقضت عدتهن فلا إِثم عليكم أيها الأولياء في الإِذن لهن بالزواج وفعل ما أباحه لهنّ الشرع من الزينة والتعرض للخطّاب {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} أي عليم بجميع أعمالكم فيجازيكم عليها.



خطبة المتوفَّى عنها زوجها

{وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ أَوْ أَكْنَنتُمْ فِي أَنفُسِكُمْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلَكِنْ لا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلاَ أَنْ تَقُولُوا قَوْلاً مَعْرُوفًا وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ(235)}



{وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ} أي لا إِثم عليكم أيها الرجال في التعريض بخطبة النساء المتوفّى عنهن أزواجهن في العدّة، بطريق التلميح لا التصريح قال ابن عباس: كقول الرجل: وددتُ أن الله يسَّر لي امرأةً صالحة، وإِن النساء لمن حاجتي {أَوْ أَكْنَنتُمْ فِي أَنفُسِكُمْ} أي ولا إِثم عليكم أيضاً فيما أخفيتموه في أنفسكم من رغبة الزواج بهن.

{عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلَكِنْ لا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلاَ أَنْ تَقُولُوا قَوْلاً مَعْرُوفًا} أي قد علم الله أنكم ستذكرونهن في أنفسكم ولا تصبرون عنهن فرفع عنكم الحرج، فاذكروهنَّ ولكنْ لا تواعدوهنَّ بالنكاح سرّاً إِلا بطريق التعريض والتلويح وبالمعروف الذي أقره لكم الشرع {وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ} أي ولا تعقدوا عقد النكاح حتى تنتهي العدّة {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ} أي احذروا عقابه في مخالفتكم أمره {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ} أي يمحو ذنب من أناب ولا يعاجل العقوبة لمن عصاه.

حكم المطلقة قبل الدخول

{لا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ(236)وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلاَ أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلا تَنسَوْا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ(237)}



ثم ذكر تعالى حكم المطلقة قبل المساس فقال {لا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً} أي لا إِثم عليكم أيها الرجال إِن طلقتم النساء قبل المسيس "الجماع" وقبل أن تفرضوا لهنَّ مهراً، فالطلاق في مثل هذه الحالة غير محظور إِذا كان لمصلحة أو ضرورة {وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ} أي فإِذا طلقتموهنَّ فادفعوا لهنَّ المتعة تطييباً لخاطرهن وجبراً لوحشة الفراق، على قدر حال الرجل في الغنى والفقر، الموسر بقدر يساره، والمعسر بقدر إِعساره، تمتيعاً بالمعروف حقاً على المؤمنين المحسنين.

{وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} أي وإِذا طلقتموهن قبل الجماع وقد كنتم ذكرتم لهنَّ مهراً معيناً فالواجب عليكم أن تدفعوا نصف المهر المسمّى لهن لأنه طلاقٌ قبل المسيس {إِلاَ أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} أي إِلا إِذا أسقطت المطلّقة حقها أو أسقط وليُّ أمرها الحق إِذا كانت صغيرة، وقيل: هو الزوج لأنه هو الذي يملك عُقدة النكاح وذلك بأن يسامحها بكامل المهر الذي دفعه لها واختاره ابن جرير، وقال الزمخشري: القول بأنه الوليُّ ظاهر الصحة {وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} الخطاب عام للرجال والنساء قال ابن عباس: أقربهما للتقوى الذي يعفو {وَلا تَنسَوْا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} أي لا تنسوا أيها المؤمنون الجميل والإِحسان بينكم، فقد ختم تعالى الآيات بالتذكير بعدم نسيان المودة والإِحسان والجميل بين الزوجين، فإِذا كان الطلاق قد تمّ لأسباب ضرورية قاهرة فلا ينبغي أن يكون هذا قاطعاً لروابط المصاهرة ووشائج القربى.



المنَاسَبَة:

توسطت آيات المحافظة على الصلاة خلال الآيات الكريمة المتعلقة بأحكام الأسرة وعلاقات الزوجين عند الطلاق أو الافتراق وذلك لحكمة بليغة، وهي أن الله تعالى لما أمر بالعفو والتسامح وعدم نسيان الفضل بعد الطلاق بيّن بعد ذلك أمر الصلاة، لأنها أعظم وسيلة إِلى نسيان هموم الدنيا وأكدارها ولهذا كان صلى الله عليه وسلم إِذا حزبه همٌ فزع إِلى الصلاة فالطلاق يولّد الشحناء والبغضاء، والصلاة تدعو إِلى الإِحسان والتسامح وتنهى عن الفحشاء والمنكر، وذلك أفضل طريق لتربية النفس الإِنسانية.



الأمر بالمحافظة على الصلاة

{حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاَةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ(238)فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَانًا فَإِذَا أَمِنتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ(239)}



{حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى} أي واظبوا أيها المؤمنون وداوموا على أداء الصلوات في أوقاتها وخاصة صلاة العصر فإِن الملائكة تشهدها {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} أي داوموا على العبادة والطاعة بالخشوع والخضوع أي قوموا لله في صلاتكم خاشعين {فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَانًا} أي فإِذا كنتم في خوفٍ من عدوٍ أو غير فصلوا ماشين على الأقدام أو راكبين على الدواب.

{فَإِذَا أَمِنتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ} أي فإِذا زال الخوف وجاء الأمن فأقيموا الصلاة مستوفية لجميع الأركان كما أمركم الله وعلى الوجه الذي شرعه لكم وهذه كقوله {فَإِذَا اطْمَأْنَنتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ} [النساء: 103] والذكرُ في الآية يراد به الصلاة الكاملة المستوفية للأركان قال الزمخشري: المعنى اذكروه بالعبادة كما أحسن إِليكم بما علمكم من الشرائع وكيف تصلون في حال الخوف والأمن.



أحكام العدة ومتعة المطلقة

{وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ(240)وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ(241)كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ(242)}



ثم قال تعالى مبيناً أحكام العدة {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ} أي والذين يموتون من رجالكم ويتركون زوجاتهم على هؤلاء أن يوصوا قبل أن يُحتضروا بأن تمُتَّع أزواجهم بعدهم حولاً كاملاً يُنْفق عليهنَّ من تركته ولا يُخرجن من مساكنهنَّ - وكان ذلك في أول الإِسلام ثم نسخت المدة إِلى أربعة أشهر وعشرة أيام {فَإِنْ خَرَجْنَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ} أي فإِن خرجن مختارات راضيات فلا إِثم عليكم يا أولياء الميت في تركهن أن يفعلن ما لا ينكره الشرع كالتزين والتطيب والتعرض للخُطّاب {وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} أي هو سبحانه غالبٌ في ملكه حكيم في صنعه.

{وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ}أي واجبٌ على الأزواج أن يمتِّعن المطلقات بقدر استطاعتهم جبراً لوحشة الفراق وهذه المتعة حقٌّ لازم على المؤمنين المتقين لله{كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} أي مثل ذلك البيان الشافي الذي يوجه النفوس نحو المودة والرحمة يبيّن الله سبحانه لكم آياته الدالة على أحكامه الشرعية لتعقلوا ما فيها وتعملوا بموجبها.

موت الأمم بالجبن والبخل وحياتها بالشجاعة والعطاء

{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمْ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ(243)وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ(244)مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْصُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ(245)}



{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ} أي ألم يصل إِلى سمعك يا محمد أو أيها المخاطب حال أولئك القوم الذين خرجوا من وطنهم وهم ألوف مؤلفة {حَذَرَ الْمَوْتِ} أي خوفاً من الموت وفراراً منه والغرض من الاستفهام التعجيب والتشويق إِلى سماع قصتهم، وكانوا سبعين ألفاً {فَقَالَ لَهُمْ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ} أي أماتهم الله ثم أحياهم، وهم قوم من بني إِسرائيل دعاهم ملكهم إِلى الجهاد فهربوا خوفاً من الموت فأماتهم الله ثمانية أيام ثم أحياهم بدعوة نبيهم "حزقيل" فعاشوا بعد ذلك دهراً، وقيل: هربوا من الطاعون فأماتهم الله قال ابن كثير: وفي هذه القصة عبرةٌ على أنه لا يغني حذرٌ من قدر، وأنه لا ملجأ من الله إِلا إِليه {إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ} أي ذو إِنعام وإِحسان على الناس من حيث يريهم من الآيات الباهرة والحجج القاطعة ما يبصّرهم بما فيه سعادتهم في الدنيا والآخرة {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ} أي لا يشكرون الله على نعمه بل ينكرون ويجحدون .

{وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} أي قاتلوا الكفار لإِعلاء دين الله، لا لحظوظ النفس وأهوائها واعلموا أن الله سميع لأقوالكم، عليم بينّاتكم وأحوالكم فيجازيكم عليها، وكما أن الحذر لا يغني من القدر فكذلك الفرار من الجهاد لا يقرّب أجلاً ولا يبعده {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً} أي من الذي يبذل ماله وينفقه في سبيل الخير ابتغاء وجه الله، ولإِعلاء كلمة الله في الجهاد وسائر طرق الخير، فيكون جزاؤه أن يضاعف الله تعالى له ذلك القرض أضعافاً كثيرة؟ لأنه قرضٌ لأغنى الأغنياء ربّ العالمين جل جلاله وفي الحديث (من يقرض غير عديم ولا ظلوم) {وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْصطُ} أي يقتّر على من يشاء ويوسّع على من يشاء ابتلاءً وامتحاناً {وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} أي يوم القيامة فيجازيكم على أعمالكم.

yacine414
2011-03-26, 10:22
قصة طالوت وجالوت

{أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمْ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلاَ تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلاَ نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلاَ قَلِيلاً مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ(246)وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنْ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ(247)}



{أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى} أي ألم يصل خبر القوم إِليك؟وهو تعجيب وتشويق للسامع كما تقدم وكانوا من بني إِسرائيل وبعد وفاة موسى عليه السلام كما دلت عليه الآية {إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمْ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} أي حين قالوا لنبيِّهم "شمعون" - وهو من نسل هارون أقم لنا أميراً واجعله قائداً لنا لنقاتل معه الأعداء في سبيل الله{قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلاَ تُقَاتِلُوا} أي قال لهم نبيّهم: أخشى أن يُفرض عليكم القتال ثم لا تقاتلوا عدوكم وتجبنوا عن لقائه .

{قَالُوا وَمَا لَنَا أَلاَ نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا} أي أيُّ سببٍ لنا في ألاّ نقاتل عدونا وقد أخذت منا البلاد وسُبيت الأولاد؟ قال تعالى بياناً لما انطوت عليه نفوسهم من الهلع والجبن {فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلاَ قَلِيلاً مِنْهُمْ} أي لما فرض عليهم القتال نكل أكثرهم عن الجهاد إِلا فئة قليلة منهم صبروا وثبتوا، وهم الذين عبروا النهر مع طالوت، قال القرطبي: وهذا شأن الأمم المتنعِّمة المائلة إِلى الدَّعة، تتمنى الحرب أوقات الأنفة فإِذا حضرت الحرب جُبنت وانقادت لطبعها {وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ} وعيدٌ لهم على ظلمهم بترك الجهاد عصياناً لأمره تعالى .

{وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا} أي أخبرهم نبيّهم بأنَّ الله تعالى قد ملَّك عليهم طالوت ليكونوا تحت إِمرته في تدبير أمر الحرب واختاره ليكون أميراً عليهم {قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنْ الْمَالِ} أي قالوا معترضين على نبيّهم كيف يكون ملكاً علينا والحال أننا أحقُّ بالملك منه لأن فينا من هو من أولاد الملوك وهو مع هذا فقير لا مال له فكيف يكون علينا؟

{قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ} أي أجابهم نبيّهم على ذلك الاعتراض فقال: إِن الله اختاره عليكم وهو أعلم بالمصالح منكم، والعمدة في الاختيار أمران: العلم ليتمكن به من معرفة أمور السياسة، والأمر الثاني قوة البدن ليعظم خطره في القلوب، ويقدر على مقاومة الأعداء ومكابدة الشدائد، وقد خصّه الله تعالى منهما بحظ وافر قال ابن كثير: ومن ههنا ينبغي أن يكون الملك ذا علمٍ، وشكلٍ حسن، وقوةٍ شديدة في بدنه ونفسه، {وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ} أي يعطي الملك لمن شاء من عباده من غير إِرثٍ أو مال {وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} أي واسع الفضل عليمٌ بمن هو أهل له فيعطيه إِياه.



أضواء من التاريخ على قصة طالوت وجالوت

ظل بنو إسرائيل بعد مجيئهم إلى فلسطين بعد موسى عليه السلام من غير ملك 356سنة، وتعرضوا في تلك الفترة لغزوات الأمم القريبة منهم كالعمالقة من العرب، وأهل مَدْيَن وفلسطين والآراميين وغيرهم، فمرة يَغْلبون وتارة يُغْلبون.

وفي أواسط المائة الرابعة أيام "عالي الكاهن" تحارب العبرانيون مع الفلسطينيين سكان أُشدود قرب غزة، فغلبهم الفلسطينيون، وأخذوا تابوت العهد منهم، وهو التابوت (الصندوق) الذي فيه التوراة أي الشريعة، فعزَّ عليهم ذلك، لأنهم كانوا يستنصرون به.

وكان من قضاة بني إسرائيل نبي اسمه صمويل، جاء إليه جماعة من أشرافهم وشيوخهم في بلدة الرامة، وطلبوا منه تعيين ملك عليهم، يقودهم إلى قتال أعدائهم الذين أذلوهم وقهروهم زمناً طويلاً، فلم يقتنع بمطلبهم لما يعلمه من تخاذل نفوسهم، إن فرض عليهم القتال، فأجابوه بأن دواعي القتال موجودة: وهي إخراج الأعداء لهم من أوطانهم وأسرهم أبناءهم.

فجعل عليهم طالوت ملكاً، واسمه في سفر صمويل: شاول بن قيس، من سبط بنيامين، وكان شاباً جميلاً عالماً وأطول بني إسرائيل، فرضي به جماعة، ورفضه آخرون، لأنه ليس من سلالة الملوك، وهو راع فقير.

وحاول صمويل إقناعهم بكفاءة طالوت وجدارته للملك والسلطة، وحسن الاختيار، ورضا الله عنه، وأن الدليل المادي على ملكه هو عودة التابوت الذي أخذه منهم الفلسطينيون إليهم، وأن الملائكة تحمله إلى بيت طالوت تشريفاً وتكريماً له، فرضوا به.

قام طالوت بتكوين الجيش وجمع الجنود لمحاربة الفلسطينيين (العمالقة) بزعامة أو إمارة جالوت الجبار الذي كان قائدهم وبطلهم الشجاع الذي يهابه الناس. وتم فعلاً اختيار سبعين أو ثمانين ألفاً من شباب بني إسرائيل، وخرج معهم لقتال الأعداء.

ولكن حكمة القائد طالوت ومعرفته بهم وتشككه في صدقهم وثباتهم دفعته إلى اختبارهم في أثناء الطريق وفي وقت الحر بالشرب من نهر بين فلسطين والأردن، فتبين له عصيان الأكثرين، وطاعة الأقلين، فتابع الطريق وتجاوز النهر مع القلة المؤمنة، ولكن بعضهم قالوا حين مشاهدة جيش جالوت العظيم: لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده، فرد عليهم الآخرون بأنه كثيراً ما غلبت الفئة القليلة فئات كثيرة بإذن الله.

وكان من حاضري الحرب داود بن يسّى الذي كان شاباً صغيراً راعياً للغنم، لا خبرة له بالحرب، أرسله أبوه ليأتيه بأخبار إخوته الثلاثة مع طالوت، فرأى جالوت يطلب المبارزة، والناس يهابونه، فسأل داود عما يكافأ به قاتل هذا الفلسطيني، فأجيب بأن الملك يغنيه غنى جزيلاً، ويعطيه ابنته، ويجعل بيت أبيه حراً.

فذهب داود إلى طالوت يستأذنه بمبارزة جالوت أمير العمالقة وكان من أشد الناس وأقواهم، فضن به وحذره، فقال: إني قتلت أسداً أخذ شاة من غنم أبي، وكان معه دب فقتلته. ثم تقدم بعصاه وخمسة أحجار ماس في جعبته، ومعه مقلاعه، وبعد كلام مع جالوت، رماه داود بحجر، فأصاب جبهته فصرع، ثم تقدم منه وأخذ سيفه، وحزّ به رأسه، وهزم الفلسطينيون، فزوجه الملك ابنته "ميكال" وجعله رئيس الجند.



إثبات ملك طالوت واختياره الأتباع، وانهزام الفئة الكثيرة أمام الفئة القليلة

{وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلاَئِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ(248)فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلاَ قَلِيلاً مِنْهُمْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاَقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ(249)وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ(250)فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ(251)تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ(252)}



ولما طلبوا آية تدل على اصطفاء الله لطالوت أجابهم إِلى ذلك {وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ} أي علامة ملكه واصطفائه عليكم {أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ} أي يردَّ الله إِليكم التابوت الذي أخذ منكم، وهو كما قال الزمخشري: صندوق التوراة الذي كان موسى عليه السلام إِذا قاتل قدَّمه فكانت تسكن نفوس بني إِسرائيل ولا يفرون {فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ} أي في التابوت السكون والطمأنينة والوقار وفيه أيضاً بقية من آثار آل موسى وآل هارون وهي عصا موسى وثيابه وبعض الألواح التي كتبت فيها التوراة تحمله الملائكة قال ابن عباس: جاءت الملائكة تحمل التابوت بين السماء والأرض حتى وضعته بين يدي طالوت والناس ينظرون {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ} أي إِن في نزول التابوت لعلامة واضحة أن الله اختاره ليكون ملكاً عليكم إِن كنتم مؤمنين بالله واليوم الآخر .

{فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ} أي خرج بالجيش وانفصل عن بيت المقدس وجاوزه وكانوا ثمانين ألفاً أخذ بهم في أرضٍ قفرة فأصابهم حر وعطشٌ شديد {قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ} أي مختبركم بنهر وهو نهر الشريعة المشهور بين الأردن وفلسطين {فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي} أي من شرب منه فلا يصحبني - وأراد بذلك أن يختبر إِرادتهم وطاعتهم قبل أن يخوض بهم غمار الحرب - {وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي} أي من لم يشرب منه ولم يذقه فإِنه من جندي الذين يقاتلون معي {إِلاَ مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ} أي لكن من اغترف قليلاً من الماء ليبلَّ عطشه وينقع غلته فلا بأس بذلك، فأذن لهم برشفةٍ من الماء تذهب بالعطش .

{فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلاَ قَلِيلاً مِنْهُمْ} أي شرب الجيش منه إِلا فئة قليلة صبرت على العطش قال السدي: شرب منه ستة وسبعون ألفاً وتبقّى منه أربعة آلاف {فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ} أي لما اجتاز النهر مع الذين صبروا على العطش والتعب ورأوا كثرة عدوهم اعتراهم الخوف فقال فريق منهم {قَالُوا لا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ} أي لا قدرة لنا على قتال الأعداء مع قائد جيشهم جالوت فنحن قلة وهم كثرة كاثرة {قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا اللَّهِ} أي قال الذين يعتقدون بلقاء الله وهم الصفوة الأخيار والعلماء الأبرار من أتباع طالوت {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ} أي كثيراً ما غلبت الجماعة القليلة الجماعة الكثيرة بإِرادة الله ومشيئته، فليس النصر عن كثرة العدد وإِنما النصر من عند الله {وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} أي معهم بالحفظ والرعاية والتأييد ومن كان الله معه فهو منصور بحول الله .

{وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ}أي ظهروا في الفضاء المتسع وجهاً لوجه أمام ذلك الجيش الجرار جيش جالوت المدرّب على الحروب {قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا} دعوا الله ضارعين إِليه بثلاث دعوات تفيد إِدراك أسباب النصر فقالوا أولاً: ربنا أفضْ علينا صبراً يعمنا في جمعنا وفي خاصة نفوسنا لنقوى على قتال أعدائك {وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا} أي ثبتنا في ميدان الحرب ولا تجعل للفرار سبيلاً إِلى قلوبنا وهي الدعوة الثانية {وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} أي انصرنا على من كفر بك وكذب رسلك وهم جالوت وجنوده وهي الدعوة الثالثة.

قال تعالى إِخباراً عن نتيجة هذه المعركة فقال: {فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ} أي هزموا جيش جالوت بنصر الله وتأييده إِجابةً لدعائهم وانكسر عدوهم رغم كثرته {وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ} أي وقتل داود - وكان في جيش المؤمنين مع طالوت - رأس الطغيان جالوت واندحر جيشه {وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ} أي أعطى الله تعالى داود الملك والنبوة وعلّمه ما يشاء من العلم النافع الذي أفاضه عليه قال ابن كثير: كان طالوت قد وعده إِن قتل جالوت أن يزوجه ابنته ويشاطره نعمته، ويشركه في أمره، فوفى له ثم آل الملك إِلى داود عليه السلام مع ما منحه الله به من النبوة العظيمة {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأَرْضُ} أي لولا أن يدفع الله شرّ الأشرار بجهاد الأخيار لفسدت الحياة، لأن الشر إِن غلب كان الخراب والدمار {وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ} أي ذو تفضلٍ وإِنعام على البشر حيث لم يمكّن للشر من الاستعلاء.

{تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ} أي ما قصصنا عليك يا محمد من الأمور الغريبة والقصص العجيبة التي وقعت في بني إِسرائيل هي من آيات الله وأخباره المغيبة التي أوحاها إِليك بالحق بواسطة جبريل الأمين {وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ} أي وإِنك يا محمد لمن جملة الرسل الذين أرسلهم الله لتبليغ دعوة الله عز وجل.



درجات الرسل عند الله وأحوال الناس في اتباعهم

{تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمْ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنْ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ(253)}



{تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ} أي أولئك الرسل الكرام الذين قصصنا عليك من أنبائهم يا محمد هم رسل الله حقاً، وقد فضّلنا بعضهم على بعض في الرفعة والمنزلة والمراتب العالية {مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ} أي منهم من خصّه الله بالتكليم بلا واسطة كموسى عليه السلام {وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ} أي ومنهم من خصّه الله بالمرتبة الرفيعة السامية كخاتم المرسلين محمد صلى الله عليه وسلم فهو سيد الأولين والآخرين في الدنيا والآخرة، وكأبي الأنبياء إِبراهيم الخليل {وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ} أي ومنهم من أعطاه الله المعجزات الباهرات كإِحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص والإِخبار عن المغيبات {وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ} أي قويناه بجبريل الأمين وهو عيسى بن مريم .

{وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءتْهُمْ الْبَيِّنَاتُ} أي لو أراد الله ما اقتتل الأمم الذين جاءوا بعد الرسل من بعد الحجج الباهرة والبراهين الساطعة التي جاءتهم بها رسلهم، فلو شاء الله ما تنازعوا ولا اختلفوا ولا تقاتلوا، ولجعلهم متفقين على اتباع الرسل كما أن الرسل متفقون على كلمة الحق {وَلَكِنْ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ} أي ولكنَّ الله لم يشأ هدايتهم بسبب اختلافهم في الدين وتشعب مذاهبهم وأهوائهم، فمنهم من ثبت على الإِيمان ومنهم من حاد وكفر {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ} أي لو شاء الله لجعل البشر على طبيعة الملائكة لا يتنازعون ولا يقتتلون ولكنّ الله حكيم يفعل ما فيه المصلحة، وكلُّ ذلك عن قضاء الله وقدره فهو الفعال لما يريد.



الأمر بالإنفاق في سبيل الخير

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خُلَّةٌ وَلاَ شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ(254)}



{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ} أي أنفقوا في سبيل الله من مال الله الذي منحكم إِيّاه، ادفعوا الزكاة وأنفقوا في وجوه الخير والبر والصالحات {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفَاعَةٌ} أي من قبل مجيء ذلك اليوم الرهيب الذي لا تستطيعون أن تفتدوا نفوسكم بمالٍ تقدمونه فيكون كالبيع، ولا تجدون صديقاً يدفع عنكم العذاب، ولا شفيعاً يشفع لكم ليحط عنكم من سيئاتكم إِلا أن يأذن الله رب العالمين {وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ} أي لا أحد أظلم ممن وافى الله يؤمئذٍ كافراً، والكافر بالله هو الظالم المعتدي الذي يستحق العقاب.



آية الكرسي

{اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَ بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلاَ بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَلاَ يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ(255)}



{اللهُ لا إِلَهَ إِلاَ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} أي هو الله جل جلاله الواحد الأحد الفرد الصمد، ذو الحياة الكاملة، الباقي الدائم الذي لا يموت، القائم على تدبير شؤون الخلق بالرعاية والحفظ والتدبير {لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ} أي لا يأخذه نعاسٌ ولا نوم كما ورد في الحديث (إنَّ الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام يخفض القسط ويرفعه).

{لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ} أي جميع ما في السماوات والأرض ملكه وعبيده وتحت قهره وسلطانه {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلا بِإِذْنِهِ} أي لا أحد يستطيع أن يشفع لأحد إِلا إِذا أذن له الله تعالى، قال ابن كثير: وهذا بيانٌ لعظمته وجلاله وكبريائه بحيث لا يتجاسر أحد على الشفاعة إِلا بإِذن المولى.

{يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ} أي يعلم ما هو حاضر مشاهد لهم وهو الدنيا وما خلفهم أي أمامهم وهو الآخرة فقد أحاط علمه بالكائنات والعوالم {وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلاَ بِمَا شَاءَ} أي لا يعلمون شيئاً من معلوماته إِلا بما أعلمهم إِياه على ألسنة الرسل {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ} أي أحاط كرسيّه بالسماوات والأرض لبسطته وسعته، والسماواتُ السبع والأرضون بالنسبة للكرسي كحلقةٍ ملقاةٍ في فلاة، وروي عن ابن عباس {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ} قال: علمه بدلالة قوله تعالى {رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا} [غافر: 7] فأخبر أن علمه وسع كل شيء، وقال الحسن البصري: الكرسي هو العرش، قال ابن كثير: والصحيح أن الكرسي غير العرش وأن العرش أكبر منه كما دلت على ذلك الآثار والأخبار.

{وَلا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} أي لا يثقله ولا يعجزه حفظ السماوات والأرض ومن فيهما وهو العلي فوق خلقه ذو العظمة والجلال كقوله {وهو الكبير المتعال}.



منع الإكراه على المُعْتَقَد في الإسلام

{لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدْ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ(256)اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمْ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنْ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ(257)}



{لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الغَيِّ} أي لا إِجبار ولا إِكراه لأحد على الدخول في دين الإِسلام، فقد بان ووضح الحق من الباطل والهدى من الضلال {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدْ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} أي من كفر بما يعبد من غير الله كالشيطان والأوثان وآمن بالله فقد تمسك من الدين بأقوى سبب {لا انفِصَامَ لَهَا} أي لا انقطاع لها ولا زوال {وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} أي سميع لأقوال عباده عليم بأفعالهم .

{اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ منْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} أي الله ناصر المؤمنين وحافظهم ومتولي أمورهم، يخرجهم من ظلمات الكفر والضلالة إِلى نور الإِيمان والهداية {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمْ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنْ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ} أي وأما الكافرون فأولياؤهم الشياطين يخرجونهم مننور الإِيمان إِلى ظلمات الشك والضلال {أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} أي ماكثون في نار جهنم لا يخرجون منها أبداً.



قصة النُّمْرُود مع إبراهيم عليه السلام

{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّي الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنْ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنْ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ(258)}



{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ} تعجيب للسامع من أمر هذا الكافر، المجادل في قدرة الله أي ألم ينته علمك إِلى ذلك المارد وهو "النمرود بن كنعان" الذي جادل إِبراهيم في وجود الله؟ {أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ} أي لأن آتاه الله الملك حيث حمله بطره بنعم الله على إِنكار وجود الله، فقابل الجود والإِحسان بالكفر والطغيان.

{إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّي الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ} أي حين قال له إِبراهيم مستدلاً على وجود الله إِن ربي هو الذي يخلق الحياة والموت في الأجساد فهو وحده ربُّ العالمين {قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ} أي قال ذلك الطاغية وأنا أيضاً أحيي وأميت، روي أنه دعا برجلين حكم عليهما بالإِعدام فأمر بقتل أحدهما فقال: هذا قتلتُه، وأمر بإِطلاق الآخر وقال: هذا أحييتُه، ولما رأى الخليل حماقته ومشاغبته في الدليل عدل إِلى دليل آخر أجدى وأروع وأشد إِفحاماً .

{قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنْ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنْ الْمَغْرِبِ} أي إِذا كنت تدعي الألوهية وأنك تحيي وتميت كما يفعل رب العالمين جل جلاله فهذه الشمس تطلع كل يوم من المشرق بأمر الله ومشيئته فأطلعها من المغرب بقدرتك وسلطانك ولو مرة واحدة {فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ} أي أُخرس ذلك الفاجر بالحجة القاطعة، وأصبح مبهوتاً دهشاً لا يستطيع الجواب {وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} أي لا يلهمهم الحجة والبيان في مقام المناظرة والبرهان بخلاف أوليائه المتقين.



قصة العُزَير

{أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ(259)}



{أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا} وهذه هي القصة الثانية وهي مثلٌ لمن أراد الله هدايته والمعنى ألم ينته إلى علمك كذلك مثل الذي مرَّ على قرية وقد سقطت جدرانها على سقوفها وهي قرية بيت المقدس لما خرَّبها بختنصر {قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا} أي قال ذلك الرجل الصالح واسمه "عزير" على الرأي الأشهر": كيف يحيي الله هذه البلدة بعد خرابها ودمارها؟ قال ذلك استعظاماً لقدرة الله تعالى وتعجباً من حال تلك المدينة وما هي عليه من الخراب والدمار، وكان راكباً على حماره حينما مرَّ عليها .

{فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ} أي أمات الله ذلك السائل واستمر ميتاً مائة سنة ثم أحياه الله ليريه كمال قدرته {قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ} أي قال له ربه بواسطة الملك كم مكثتَ في هذه الحال؟ قال يوماً ثم نظر حوله فرأى الشمس باقية لم تغب فقال: أو بعض يوم أي أقل من يوم فخاطبه ربه بقوله {قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ} أي بل مكثت ميتاً مائة سنة كاملة {فَانظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ} أي إن شككت فانظر إلى طعامك لم يتغير بمرور الزمن، وكان معه عنبٌ وتينٌ وعصير فوجدها على حالها لم تفسد {وَانظُرْ إِلَى حِمَارِكَ} أي كيف تفرقت عظامه ونخرت وصار هيكلاً من البلى {وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ} أي فعلنا ما فعلنا لتدرك قدرة الله سبحانه ولنجعلك معجزة ظاهرة تدل على كمال قدرتنا {وَانظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيفَ نُنشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا} أي تأمل في عظام حمارك النخرة كيف نركّب بعضها فوق بعض وأنت تنظر ثم نكسوها لحماً بقدرتنا {فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} أي فلما رأى الآيات الباهرة قال أيقنت وعلمت علم مشاهدة أن الله على كل شيء قدير.



طَلَبَ إبراهيمُ عليه السلام المعاينة للطُّمَأْنينة

{وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنْ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ(260)}



{وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى} وهذه هي القصة الثالثة وفيها الدليل الحسي على الإِعادة بعد الفناء والمعنى: اذكر حين طلب إِبراهيم من ربه أن يريه كيف يحيي الموتى، سأل الخليل عن الكيفية مع إِيمانه الجازم بالقدرة الربانية، فكان يريد أن يعلم بالعيان ما كان يوقن به بالوجدان، ولهذا خاطبه ربه بقوله {قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} أي أولم تصدِّق بقدرتي على الإِحياء؟ قال بلى آمنت ولكن أردت أن أزداد بصيرةً وسكون قلب برؤية ذلك .

{قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنْ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ} أي خذ أربعة طيور فضمهنَّ إِليك ثم اقطعهن ثم اخلط بعضهن ببعض حتى يصبحن كتلة واحدة {ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً} أي فرِّق أجزاءهن على رؤوس الجبال {ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا} أي نادهنَّ يأتينك مسرعات قال مجاهد: كانت طاووساً وغراباً وحمامة وديكاً فذبحهن ثم فعل بهن ما فعل ثم دعاهن فأتين مسرعات {وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} أي لا يعجز عما يريده حكيم في تدبيره وصنعه.

قال المفسرون: ذبحهن ثم قطعهن ثم خلط بعضهن ببعض حتى اختلط ريشها ودماؤها، ولحومها ثم أمسك برءوسها عنده وجزأها أجزاءً على الجبال ثم دعاهن كما أمره تعالى فجعل ينظر إلى الريش يطير إلى الريش، والدم إلى الدم، واللحم إلى اللحم حتى عادت طيراً كما كانت وأتينه يمشين سعياً ليكون أبلغ له في الرؤية لما سأل. ذكره ابن كثير.



ثواب الإنفاق في سبيل الله وآدابُهُ

{مَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ(261)الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لاَ يُتْبِعُونَ مَا أَنفَقُوا مَنًّا وَلا أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ(262)قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ(263) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالأَذَى كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ(264)}



{مَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ} قال ابن كثير: هذا مثلٌ ضربه الله تعالى لتضعيف الثواب لمن أنفق في سبيله وابتغاء مرضاته وأن الحسنة تضاعف بعشر أمثالها إِلى سبعمائة ضعف أي مثل نفقتهم كمثل حبة زُرعت فأنبتت سبع سنابل {فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ} أي كل سنبلةٍ منها تحتوي على مائة حبة فتكون الحبة قد أغلَّتْ سبعمائة حبة، وهذا تمثيل لمضاعفة الأجر لمن أخلص في صدقته ولهذا قال تعالى {وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ} أي يضاعف الأجر لمن أراد على حسب حال المنفق من إِخلاصه وابتغائه بنفقته وجه الله {وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} أي واسع الفضل عليم بنيَّة المنفق .

{الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ مَا أَنفَقُوا مَنًّا وَلا أَذًى} أي لا يقصدون بإِنفاقهم إلا وجه الله، ولا يعقبون ما أنفقوا من الخيرات والصدقات بالمنِّ على من أحسنوا إِليه كقوله قد أحسنتُ إليك وجبرتُ حالك، ولا بالأذى كذكره لغيره فيؤذيه بذلك {لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ} أي لهم ثواب ما قدموا من الطاعة عند الله {وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} أي لا يعتريهم فزعٌ يوم القيامة ولا هم يحزنون على فائتٍ من زهرة الدنيا .

{قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى} أي ردُّ السائل بالتي هي أحسن والصفحُ عن إِلحاحه، خيرٌ عند الله وأفضل من إِعطائه ثم إِيذائه أو تعييره بذلّ السؤال {وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ} أي مستغنٍ عن الخلق حليم لا يعاجل العقوبة لمن خالف أمره.

ثم أخبر تعالى عما يبطل الصدقة ويضيع ثوابها فقال {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالأَذَى} أي لا تحبطوا أجرها بالمنِّ والأذى {كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ} أي كالمرائي الذي يبطل إِنفاقه بالرياء {وَلا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} أي لا يصدّق بلقاء الله ليرجئ ثواباً أو يخشى عقاباً {فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ} أي مثل ذلك المرائي بإِنفاقه كمثل الحجر الأملس الذي عليه شيء من التراب يظنه الظانُّ أرضاً طيبةً منبتةً {فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا} أي فإِذا أصابه مطر شديد أذهب عنه التراب فيبقى صلداً أملس ليس عليه شيء من الغبار أصلاً كذلك هذا المنافق يظن أن له أعمالاً صالحة فإِذا كان يوم القيامة اضمحلت وذهبت ولهذا قال تعالى {لا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا} أي لا يجدون له ثواباً في الآخرة فلا ينتفع بشيءٍ منها أصلاً {وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} أي لا يهديهم إِلى طريق الخير والرشاد.



الإنفاق ابتغاء مرضاة الله تعالى

{وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ(265)أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ(266)}



ثم ضرب تعالى مثلاً آخر للمؤمن المنفق ماله ابتغاء مرضاة الله فقال {وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ} أي ينفقونها طلباً لمرضاته وتصديقاً بلقائه تحقيقاً للثواب عليه {كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ} أي كمثل بستان كثير الشجر بمكانٍ مرتفع من الأرض، وخُصَّت بالربوة لحسن شجرها وزكاة ثمرها {أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ} أي أصابها مطر غزير فأخرجت ثمارها جنيَّة مضاعفة، ضعفي ثمر غيرها من الأرض {فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ} أي فإِن لم ينزل عليها المطر الغزير فيكفيها المطر الخفيف أو يكفيها الندى لجودتها وكرم منبتها ولطافة هوائها فهي تنتج على كل حال {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} أي لا يخفى عليه شيء من أعمال العباد.

{أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ} أي أيحب أحدكم أن تكون له حديقة غناء فيها من أنواع النخيل والأعناب والثمار الشيء الكثير {تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ} أي تمر الأنهار من تحت أشجارها {لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ} أي ينبت له فيها جميع الثمار ومن كل زوج بهيج {وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ} أي أصابته الشيخوخة فضعف عن الكسب وله أولاد صغار لا يقدرون على الكسب {فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ} أي أصاب تلك الحديقة ريح عاصفة شديدة معها نار فأحرقت الثمار والأشجار وهو أحوج ما يكون الإِنسان إِليها {كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ} أي مثل هذا البيان الواضح في هذا المثل الرائع المحكم يبيّن الله لكم آياته في كتابه الحكيم لكي تتفكروا وتتدبروا بما فيها من العبر والعظات.



الأمر بإنفاق الطيِّب من الأموال لا الخبيث

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الأَرْضِ وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلاَ أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ(267)}



{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ} أي أنفقوا من الحلال الطيب من المال الذي كسبتموه {وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الأَرْضِ} أي ومن طيبات ما أخرجنا لكم من الحبوب والثمار {وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ} أي ولا تقصدوا الرديء الخسيس فتتصدقوا منه {وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلاَ أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ} أي لستم منه!! {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ} أي أنه سبحانه غني عن نفقاتكم حميد يجازي المحسن أفضل الجزاء.



تخويف الشيطان من الفقر، ومعرفة الحكمة

{الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمْ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلاً وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ(268)يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ(269)}



ثم حذّر تعالى من وسوسة الشيطان فقال {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمْ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ} أي الشيطان يخوفكم من الفقر إِن تصدقتم ويغريكم بالبخل ومنع الزكاة {وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلاً} أي وهو سبحانه يعدكم على إِنفاقكم في سبيله مغفرةً للذنوب وخلفاً لما أنفقتموه زائداً عن الأصل {وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} أي واسع الفضل والعطاء عليم بمن يستحق الثناء .

{يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ} أي يعطي العلم النافع المؤدي إِلى العمل الصالح من شاء من عباده {وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا} أي من أعطي الحكمة فقد أعطي الخير الكثير لمصير صاحبها إِلى السعادة الأبدية {وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَ أُوْلُوا الأَلْبابِ} أي ما يتعظ بأمثال القرآن وحكمه إِلا أصحاب العقول النيرة الخالصة من الهوى.

الإسرار والإعلان بالصَّدَقَة

{وَمَا أَنفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ(270)إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ(271)}



{وَمَا أَنفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ} أي ما بذلتم أيها المؤمنون من نفقة أو نذرتم من شيء في سبيل الله فإِن الله يعلمه ويجازيكم عليه {وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ} أي وليس لمن منع الزكاة أو صرف المال في معاصي الله، من معين أو نصير ينصرهم من عذاب الله {إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ} أي إِن تظهروا صدقاتكم فنعم هذا الشيء الذي تفعلونه {وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} أي وإِن تخفوها وتدفعوها للفقراء فهو أفضل لكم لأن ذلك أبعد عن الرياء {وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ} أي يزيل بجميل أعمالكم سيء أثامكم {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} أي هو سبحانه مطلع على أعمالكم يعلم خفاياكم، والآية ترغيب في الإِسرار.



مستحِقُّو الصدقة

{لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلأَنفُسِكُمْ وَمَا تُنفِقُونَ إِلاَ ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ(272)لِلفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الأَرْضِ يَحْسَبُهُمْ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنْ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ(273)الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلاَنِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ(274)}



{لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} أي ليس عليك يا محمد أن تهتدي الناس فإِنك لست بمؤاخذ بجريرة من لم يهتد، إِنما أنت ملزم بتبليغهم فحسب، والله يهدي من شاء من عباده إِلى الإِسلام {وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلأَنفُسِكُمْ} أي أيّ شيء تنفقونه من المال فهو لأنفسكم لا ينتفع به غيركم لأن ثوابه لكم {وَمَا تُنفِقُونَ إِلاَ ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ} خبرٌ بمعنى النهي أي لا تجعلوا إِنفاقكم إِلا لوجه الله لا لغرضٍ دنيوي {وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ} أي فإِن أجره وثوابه أضعافاً مضاعفة تنالونه أنتم ولا تنقصون شيئاً من حسناتكم.

{لِلفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} أي اجعلوا ما تنفقونه للفقراء الذين حبسوا أنفسهم للجهاد والغزو في سبيل الله {لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الأَرْضِ} أي لا يستطيعون بسبب الجهاد السفر في الأرض للتجارة والكسب {يَحْسَبُهُمْ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنْ التَّعَفُّفِ} أي يظنهم الذي لا يعرف حالهم أغنياء موسرين من شدة تعففهم {تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا} أي تعرف حالهم أيها المخاطب بعلامتهم من التواضع وأثر الجهد، وهم مع ذلك لا يسألون الناس شيئاً أصلاً فلا يقع منهم إِلحاح وقيل معناه: إِن سألوا سألوا بلطفٍ ولم يلحّوا {وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ} أي ما أنفقتموه في وجوه الخير فإِن الله يجازيكم عليه أحسن الجزاء .

{الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً} أي الذين ينفقون في سبيل الله ابتغاء مرضاته، في جميع الأوقات، من ليل أو نهار، وفي جميع الأحوال من سر وجهر {فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} أي لهم ثواب ما أنفقوا ولا خوف عليهم يوم القيامة ولا هم يحزنون على ما فاتهم في الدنيا.



تحريم الربا وأضرارُه على الفرد والمجتمع

{الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لا يَقُومُونَ إِلاَ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنْ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ(275)يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ(276)إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ(277)يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنْ الرِّبَا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ(278)فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ(279)وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ(280)وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ(281)}



{الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لا يَقُومُونَ إِلاَ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنْ الْمَسِّ} أي الذين يتعاملون بالربا ويمتصون دماء الناس لا يقومون من قبورهم يوم القيامة إِلا كما يقوم المصروع من جنونه، يتعثر ويقع ولا يستطيع أن يمشي سوياً، يقومون مخبلين كالمصروعين تلك سيماهم يعرفون بها عند الموقف هتكاً لهم وفضيحة {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا} أي ذلك التخبط والتعثر بسبب استحلالهم ما حرّمه الله، وقولهم: الربا كالبيع فلماذا يكون حراماً؟ قال تعالى ردّاً عليهم {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} أي أحل الله البيع لما فيه من تبادل المنافع، وحرّم الربا لما فيه من الضرر الفادح بالفرد والمجتمع، لأن فيه زيادة مقتطعةً من جهد المدين ولحمه .

{فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ} أي من بلغه نهيُ الله عن الربا فانتهى عن التعامل به فله ما مضى قبل التحريم {وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ} أي أمره موكول إِلى الله إِن شاء عفا عنه وإِن شاء عاقبه {وَمَنْ عَادَ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} أي ومن عاد إِلى التعامل بالربا واستحله بعد تحريم الله له فهو من المخلدين في نار جهنم .

{يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ} أي يُذهب ريعه ويمحو خيره وإِن كان زيادة في الظاهر، ويُكثر الصدقات وينمّيها وإِن كانت نقصاناً في الشاهد {وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ} أي لا يحب كل كفور القلب، أثيم القول والفعل، وفي الآية تغليظ في أمر الربا وإِيذان بأنه من فعل الكفار، ثم قال تعالى مادحاً المؤمنين المطيعين أمره في إِقامة الصلاة وإِيتاء الزكاة.

{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ} أي صدّقوا بالله وعملوا الصالحات التي من جملتها إِقامة الصلاة وإِيتاء الزكاة {لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} أي لهم ثوابهم الكامل في الجنة، ولا يخافون يوم الفزع الأكبر ولا يحزنون على ما فاتهم في الدنيا .

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنْ الرِّبَا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ} أي اخشوا ربكم وراقبوه فيما تفعلون، واتركوا ما لكم من الربا عند الناس إن كنتم مؤمنين بالله حقاً {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} أي وإِن لم تتركوا التعامل بالربا فأيقنوا بحرب الله ورسوله لكم، قال ابن عباس: يقال لآكل الربا يوم القيامة خذ سلاحك للحرب {وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ} أي إِن رجعتم عن الربا وتركتموه فلكم أصل المال الذي دفعتموه من غير زيادة ولا نقصان.

{وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} أي إِذا كان المستدين معسراً فعليكم أن تمهلوه إلى وقت اليسر لا كما كان أهل الجاهلية يقول أحدهم لمدينه: إِمّا أن تَقْضي وإِما أن تُرْبي {وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} أي إِن تجاوزتم عمّا لكم عنده فهو أكرم وأفضل، إِن كنتم تعلمون ما فيه من الذكر الجميل والأجر العظيم.

ثم حذّر تعالى عباده من ذلك اليوم الرهيب الذي لا ينفع فيه إِلا العمل الصالح فقال {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} أي احذروا يوماً سترجعون فيه إِلى ربكم ثم توفى كل نفسٍ حسابها وأنتم لا تظلمون، وقد ختمت هذه الآيات الكريمة بهذه الآية الجامعة المانعة التي كانت آخر ما نزل من القرآن وبنزولها انقطع الوحي، وفيها تذكير العباد بذلك اليوم العصيب الشديد، قال ابن كثير: هذه الآية آخر ما نزل من القرآن العظيم وقد عاش النبي صلى الله عليه وسلم بعد نزولها تسع ليال ثم انتقل إلى الرفيق الأعلى.



آية الدَّيْن وآية الرهن

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلاَ يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلِ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى وَلا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا وَلا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلاَ تَرْتَابُوا إِلاَ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلاَ تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلا يُضَارَّ كَاتِبٌ ولا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ(282)وَإِنْ كُنتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ(283)}



{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} أي إِذا تعاملتم بدينٍ مؤجل فاكتبوه، وهذا إِرشاد منه تعالى لعباده بكتابة المعاملات المؤجلة ليكون ذلك أحفظ وأوثق لمقدارها وميقاتها {وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ} أي وليكتب لكم كاتب عادل مأمون لا يجور على أحد الطرفين.

{وَلا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ} أي ولا يمتنع أحد من الكتابة بالعدل كما علّمه الله {فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ} أي وليمل على الكاتب ويلقي عليه المدينُ وهو الذي عليه الحق لأنه المقر المشهود عليه {وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلاَ يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا} أي وليخشَ الله ربّ العالمين ولا ينقص من الحق شيئاً.

{فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا} أي إِن كان المدين ناقص العقل مبذراً أو كان صبياً أو شيخاً هرماً {أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلِ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ} أي لا يستطيع الإِملاء بنفسه لعيٍّ أو خرسٍ أو عُجْمة فليملل قيِّمه أو وكيله بالعدل من غير نقصٍ أو زيادة.

{وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} أي اطلبوا مع الكتابة أن يشهد لكم شاهدان من المسلمين زيادة في التوثقة {فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} أي فإِن لم يكن الشاهدان رجلين، فليشهد رجل وامرأتان ممن يُوثق بدينهم وعدالتهم {أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى} أي تنسى إِحدى المرأتين الشهادة فتذكّرها الأخرى، وهذا علةٌ لوجوب الاثنتين لنقص الضبط فيهن .

{وَلا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا} أي ولا يمتنع الشهداء عن أداء الشهادة أو تحملها إِذا طلب منهم ذلك {وَلا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ} أي لا تملّوا أن تكتبوا الدين صغيراً كان أو كبيراً، قليلاً أو كثيراً إِلى وقت حلول ميعاده {ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلا تَرْتَابُوا} أي ما أمرناكم به من كتابة الدين أعدل في حكمه تعالى، وأثبت للشهادة لئلا تنسى، وأقرب أن لا تشكّوا في قدر الدَّيْن والأجل .

{إِلا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ} أي إِلا إِذا كان البيع حاضراً يداً بيد والثمن مقبوضاً {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌأَلاَ تَكْتُبُوهَا} أي فلا بأس بعدم كتابتها لانتفاء المحذور {وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ} أي أشهدوا على حقكم مطلقاً سواءً كان البيع ناجزاً أو بالدين لأنه أبعد عن النزاع والاختلاف .

{وَلا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ} أي لا يضر صاحبُ الحق الكُتَّاب والشهود {وَإِنْ تَفْعلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ} أي إِن فعلتم ما نهيتم عنه فقد فسقتم بخروجكم عن طاعة الله {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ} أي خافوا الله وراقبوه يمنحكم العلم النافع الذي به سعادة الدارين {وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} أي عالم بالمصالح والعواقب فلا يخفى عليه شيء من الأشياء .

{وَإِنْ كُنتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} أي إِن كنتم مسافرين وتداينتم إِلى أجلٍ مسمى ولم تجدوا من يكتب لكم، فليكن بدل الكتابة رهانٌ مقبوضة يقبضها صاحب الحق وثيقةً لدينه .

{فَإِنْ أَمِنَ بعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ} أي فإِن أمن الدائن المدين فاستغنى عن الرهن ثقة بأمانة صاحبه فليدفع ذاك المؤتمن الدين الذي عليه وليتق الله في رعاية حقوق الأمانة .

{وَلا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ} أي إِذا دعيتم إِلى أداء شهادة فلا تكتموها فإِن كتمانها إِثم كبير، يجعل القلب آثماً وصاحبه فاجراً، وخُصّ القلب بالذكر لأنه سلطان الأعضاء، إِذا صلح صلح الجسد كله وإِذا فسد فسد الجسد كله {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} أي لا يخفى عليه شيء من أعمال وأفعال العباد.

لله ملك السماوات والأرض ولا تخفى عليه خافية

{لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ(284)}



{لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ} أي هو سبحانه المالك لما في السماوات والأرض المطّلع على ما فيهن {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ} أي إِن أظهرتم ما في أنفسكم من السوء أو أسررتموه فإِن الله يعلمه ويحاسبكم عليه {فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} أي يعفو عمن يشاء ويعاقب من يشاء وهو القادر على كل شيء الذي لا يُسأل عما يفعل وهم يُسألون.



الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله والتكليف بقَدْر الوُسْع

{آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ 1ذذذذذذرُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ(285)لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلاَنَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (286)}



{آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ} أي صدّق محمد صلى الله عليه وسلم بما أنزل الله إِليه من القرآن والوحي وكذلك المؤمنون {كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ} أي الجميع من النبي والأتباع صدَّق بوحدانية الله، وآمن بملائكته وكتبه ورسله {لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ} أي لا نؤمن بالبعض ونكفر بالبعض كما فعل اليهود والنصارى بل نؤمن بجميع رسل الله دون تفريق {وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} أي أجبنا دعوتك وأطعنا أمرك فنسألك يا الله المغفرة لما اقترفناه من الذنوب وإِليك وحدك يا الله المرجع والمآب.

{لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَ وُسْعَهَا} أي لا يكلف المولى تعالى أحداً فوق طاقته {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} أي لكل نفس جزاء ما قدمت من خير، وجزاء ما اقترفت من شرّ {رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} أي قولوا ذلك في دعائكم والمعنى لا تعذبنا يا الله بما يصدر عنا بسبب النسيان أو الخطأ.

{رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا} أي ولا تكفلنا بالتكاليف الشاقة التي نعجز عنها كما كلفت بها من قبلنا من الأمم كقتل النفس في التوبة وقرض موضع النجاسة.

{رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ} أي لا تحمّلنا ما لا قدرة لنا عليه من التكاليف والبلاء {وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا} أي امحُ عنا ذنوبنا واستر سيئاتنا فلا تفضحنا يوم الحشر الأكبر وارحمنا برحمتك التي وسعت كل شيء {أَنْتَ مَوْلانَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} أي أنت يا الله ناصرنا ومتولي أمورنا فلا تخذلنا، وانصرنا على أعدائنا وأعداء دينك من القوم الكافرين، الذين جحدوا دينك وأنكروا وحدانيتك وكذبوا برسالة نبيك صلى الله عليه وسلم. روي أنه عليه السلام لما دعا بهذه الدعوات قيل له عند كل دعوة: قد فعلتُ.



خلاصة أهم الأحكام في سورة البقرة المسمّاة "فسطاط القرآن":

أولاً: العقائد:

1- دعوة جميع الناس إلى عبادة الله تعالى.

2- تحريم اتِّخاذ الأنداد والشركاء مع الله.

3- إثبات الوحي والرِّسالة بالقرآن وتحدِّي الناس بالإتيان بسورة من مثله.

4- أساس الدِّين: توحيد الله، وإثبات البعث ومحاجة الكافرين الضالين في ذلك.



ثانياً: الأحكام العملية الفرعية:

1- إباحة الأكل من الطَّيِّبات.

2- الحفاظ على حق الحياة بتشريع القصاص والقتال في سبيل الله.

3- أحكام أركان الإسلام: إقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، والحج والعمرة.

4- إنفاق المال في سبيل الله تحقيقاً للتّكافل الاجتماعي في الإسلام.

5- تحريم الخمر والميسر والرِّبا.

6- الولاية على اليتامى ومخالطتهم في المعيشة.

7- أحكام الزواج من طلاق ورضاع وعدّة ونفقة.

8- الوصية الواجبة.

9- كتابة وثيقة الدَّين والإشهاد عليه والرِّهان وكتمان الشهادة ونصاب الشهادة المطلوب في المعاملات.

10- أداء الأمانة.

11- صيغة الدُّعاء المطلوبة في التَّشريع.

yacine414
2011-03-26, 10:26
سورة آل عمران



تنزيل الكتب السماوية،وإنذار الكافرين من عذاب الله

المحكم والمتشابه في القرآن

عاقبة الكفار المغرورين بالأولاد والأموال

اغترار الناس بشهوات الدنيا

الجنات خير من الدنيا وما فيها

الشهادة بوحدانية الله وقيامه بالعدل ، والدين المقبول عند الله

جزاء الذين يكفرون ويقتلون بغير سبب

إعراض أهل الكتاب عن حكم الله تعالى

دلائل قدرة الله وعظمته وتصرفه في خلقه والتفويض إليه

موالاة الكافرين والتحذير من الآخرة

محبة الله تكون باتِّباع رسوله صلى الله عليه وسلم وطاعته

اصطفاء الأنبياء وقصة نذر امرأة عمران ما في بطنها لعبادة الله تعالى

قصة زكريا ويحيى

قصة زكريا عليه السلام

قصة مريم

قصة عيسى عليه السلام

حال عيسى مع قومه المؤمنين والكفار

الرَّدُّ على مَن زعم ألوهية عيسى عليه السلام

الدعوة إلى توحيد الله وبيان مِلَّة إبراهيم عليه السلام

كشف نوايا وأفعال بعض أهل الكتاب

الأمانة والوفاء عند بعض أهل الكتاب

شناعة أفعال بعض اليهود

افتراء أهل الكتاب على الأنبياء

بيان ميثاق الأنبياء

الإيمان بالأنبياء جميعاً

أنواع الكفار وحالهم في التوبة

النفقة المبرورة وجزاء الإنفاق

الردّ على اليهود في تحريم بعض الأطعمة

منزلة الكعبة المشرَّفة وفرضية الحجّ

إصرار أهل الكتاب على الكفر وصدهم عن سبيل الله

الحفاظ على الشخصية الإسلامية باتِّباع هدي الإسلام

فلاح الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، وهلاك المتفرِّقين

بيان خيرية الأمة الإسلامية وسوء اليهود

صفة بعض أهل الكتاب وثوابهم

العمل بلا إيمان غير مقبول عند الله

النهي عن إطلاع الكافرين على الأسرار وبيان ما يضمرونه للمؤمنين

وصف غزوة أُحُد

إرشاد المؤمنين إلى ما ينفعهم في دنياهم وأخراهم

الأمر بالمسارعة إلى مغفرة الله ، وصفات المتقين وجزاؤهم

تعليم وتوسية للمؤمنين بعد غزوة أُحُد

عتاب لبعض أهل أُحُد وتوجيههم نحو الأكمل

التحذير من طاعة الكافرين

أسباب هزيمة أُحُد

تحذير المؤمنين من تثبيط الكافرين وبيان فضل الجهاد

رحمة النبي صلى الله عليه وسلم بأصحابه ووعدُ الله بالنصر

أمانة النبي صلى الله عليه وسلم وإصلاحه للأمة

بعض أخطاء المؤمنين في أُحُد، وبعض قبائح المنافقين

منزلة المجاهدين في سبيل الله عند الله، وصفاتهم في الدنيا

مواساة النبي صلى الله عليه وسلم بعد أُحُد، ومناقشة الكفار والبخلاء، وتمييز الخبيث من الطيب

بعض قبائح اليهود من نسبة الفقر إلى الله تعالى وتكذيبهم النبيَّ صلى الله عليه وسلم

الموت مصير كل نفس، والجزاء يوم القيامة ، والدنيا هي دار الابتلاء

أَخْذُ الميثاق على أهل الكتاب ومحبتهم المدح بغير حق

توجيه العقول إلى التفكر في السماوات والأرض ، وبيان جزاء العاملين لله تعالى

جزاء الكافرين والأتقياء ومؤمني أهل الكتاب





بَين يَدَيْ السُّورَة



سورة آل عمران من السور المدنيّة الطويلة، وقد اشتملت هذه السورة الكريمة على ركنين هامين من أركان الدين: الأول: ركن العقيدة وإِقامة الأدلة والبراهين على وحدانية الله جل وعلا الثاني: التشريع وبخاصة فيما يتعلق بالمغازي والجهاد في سبيل الله .. أما الأول فقد جاءت الآيات الكريمة لإِثبات الوحدانية، والنبوة، وإِثبات صدق القرآن، والرد على الشبهات التي يثيرها أهل الكتاب حول الإِسلام والقرآن وأمر محمد عليه الصلاة والسلام.

وإِذا كانت سورة البقرة قد تناولت الحديث عن الزمرة الأولى من أهل الكتاب وهم "اليهود" وأظهرت حقيقتهم وكشفت عن نواياهم وخباياهم، وما انطوت عليه نفوسهم من خبث ومكرٍ، فإِن سورة آل عمران قد تناولت الزمرة الثانية من أهل الكتاب وهم "النصارى" الذين جادلوا في شأن المسيح وزعموا ألوهيته وكذّبوا برسالة محمد صلى الله عليه وسلم وأنكروا القرآن، وقد تناول الحديث عنهم ما يقرب من نصف السورة الكريمة، وكان فيها الرد على الشبهات التي أثاروها بالحجج الساطعة والبراهين القاطعة، وبخاصة فيما يتعلق بشأن مريم وعيسى عليه السلام، وجاء ضمن هذا الرد الحاسم بعض الإِشارات والتقريعات لليهود، والتحذير للمسلمين من كيد ودسائس أهل الكتاب، أما الركن الثاني فقد تناول الحديث عن بعض الأحكام الشرعية كفرضية الحج والجهاد وأمور الربا وحكم مانع الزكاة، وقد جاء الحديث بالإِسهاب عن الغزوات كغزوة بدر، وغزوة أحد والدروس التي تلقاها المؤمنون من تلك الغزوات، فقد انتصروا في بدر، وهزموا في أُحد بسبب عصيانهم لأمر الرسول صلى الله عليه وسلم وسمعوا بعد الهزيمة من الكفار والمنافقين كثيراً من كلمات الشماتة والتخذيل، فأرشدهم تعالى إِلى الحكمة من ذلك الدرس، وهي أن الله يريد تطهير صفوف المؤمنين من أرباب القلوب الفاسدة، ليميز بين الخبيث والطيب.

كما تحدثت الآيات الكريمة بالتفصيل عن النفاق والمنافقين وموقفهم من تثبط همم المؤمنين، ثم ختمت بالتفكر والتدبر في ملكوت السماوات والأرض وما فيهما من إِتقانٍ وإِبداع، وعجائب وأسرار تدل على وجودِ الخالق الحكيم، وقد ختمت بذكر الجهاد والمجاهدين في تلك الوصية الفذّة الجامعة، التي بها يتحقق الخير، ويعظم النصر، ويتم الفلاح والنجاح {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءامنوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}.



فضـــلهَا:

عن النواس بن سمعان قال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (يُؤتى يوم القيامة بالقرآن وأهله الذين كانوا يعملون به، تقْدمهم سورة البقرة وآل عمران).



التســـميَـــة:

سميت السورة بـ "آل عمران" لورود ذكر قصة تلك الأسرة الفاضلة "آل عمران" والد مريم أم عيسى عليه السلام، وما تجلّى فيها من مظاهر القدرة الإِلهية بولادة مريم البتول وابنها عيسى عليهما السلام.





تنزيل الكتب السماوية،وإنذار الكافرين من عذاب الله



{الَمَ(1)اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ(2)نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإنْجِيلَ(3)مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ(4)إِنَّ اللَّهَ لا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الأرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ(5)هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ(6)}



سَبَبُ النّزول:

نزلت هذه الآيات في وفد نصارى نجران وكانوا ستين راكباً، فيهم أربعة عشر من أشرافهم ثلاثة منهم أكابرهم "عبد المسيح" أميرهم و "الأيهم" مشيرهم و"أبو حارثة بن علقمة" حبرُهم، فقدموا على النبي صلى الله عليه وسلم فتكلم منهم أولئك الثلاثة معه فقالوا تارةً عيسى هو "الله" لأنه كان يحيي الموتى، وتارةً هو "ابن الله" إِذ لم يكن له أب، وتارة إِنه "ثالث ثلاثة" لقوله تعالى "فعلنا وقلنا" ولو كان واحداً لقال "فعلتُ وقلتُ" .

فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم:" ألستم تعلمون أن ربنا حيٌّ لا يموت وأن عيسى يموت"!! قالوا: بلى، قال ألستم تعلمون أنه لا يكون ولد إِلا ويشبه أباه!! قالوا بلى، قال ألستم تعلمون أن ربنا قائم على كل شيء يكلؤه ويحفظه ويرزقه فهل يملك عيسى شيئاً من ذلك؟ قالوا: لا، قال ألستم تعلمون أن الله لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء، فهل يعلم عيسى شيئاً من ذلك إِلا ما علم؟ قالوا: لا، قال ألستم تعلمون أن ربنا لا يأكل الطعام ولا يشرب الشراب ولا يحدث الحدث وأن عيسى كان يطعم الطعام ويشرب الشراب ويحدث الحدث!! قالوا بلى فقال صلى الله عليه وسلم فكيف يكون كما زعمتم؟ فسكتوا وأبوا إِلا الجحود فأنزل الله من أول السورة إِلى نيفٍ وثمانين آية.



{الَمَ} إِشارة إِلى إِعجاز القرآن وأنه منظوم من أمثال هذه الحروف الهجائية وقد تقدّم في أول البقرة {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ} أي لا ربَّ سواه ولا معبود بحقٍ غيره {الْحَيُّ الْقَيُّومُ} أي الباقي الدائم الذي لا يموت، القائم على تدبير شؤون عباده {نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ} أي نزّل عليك يا محمد القرآن بالحجج والبراهين القاطعة {مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ} أي من الكتب المنزّلة قبله المطابقة لما جاء به القرآن .

{وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإنْجِيلَ * مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ} أي أنزل الكتابين العظيمين "التوراة" و"الإِنجيل" من قبل إِنزال هذا القرآن هداية لبني إِسرائيل {وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ} أي جنس الكتب السماوية لأنها تفرق بين الحق والباطل، والهدى والضلال، وقيل: المراد بالفرقان القرآنُ وكرّر تعظيماً لشأنه {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ} أي جحدوا بها وأنكروها وردّوها بالباطل {لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ} أي عظيم أليم في الآخرة {وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ} أي غالب على أمره لا يُغلب، منتقم ممن عصاه .

{إِنَّ اللَّهَ لا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الأرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ} أي لا يغيب ولا يغرب عن علمه أمرٌ من الأمور، فهو مطَّلع على كل ما في الكون لا تخفى عليه خافية {هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ} أي يخلقكم في أرحام أمهاتكم كما يشاء من ذكرٍ وأنثى، وحَسن وقبيح {لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} أي لا ربّ سواه، متفردٌ بالوحدانية والألوهية، العزيز في ملكه الحكيم في صنعه، وفي الآية ردٌّ على النصارى حيث ادعوا ألوهية عيسى فنبّه تعالى بكونه مصوّراً في الرحم، وأنه لا يعلم الغيب على أنه عبد كغيره من العباد.





المحكم والمتشابه في القرآن

{هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلا أُوْلُوا الألْبَابِ(7)رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ(8)رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ(9)}.



{هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ} أي أنزل عليك يا محمد القرآن العظيم {مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ} أي فيه آيات بينات واضحات الدلالة، لا التباس فيها ولا غموض كآيات الحلال والحرام، هنَّ أصل الكتاب وأساسه {وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} أي وفيه آيات أُخَر فيها اشتباه في الدلالة على كثير من الناس، فمن ردّ المتشابه إِلى الواضح المحكم فقد اهتدى، وإِن عكس فقد ضلّ ولهذا قال تعالى {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ} أي فأمّا من كان في قلبه ميلٌ عن الهدى إِلى الضلال فيتبع المتشابه منه ويفسّره على حسب هواه {ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ} أي طلباً لفتنة الناس في دينهم، وإِيهاماً للأتباع بأنهم يبتغون تفسير كلام الله، كما فعل النصارى الضالون حيث احتجوا بقوله تعالى في شأن عيسى {وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ} [النساء: 171] على أن عيسى ابن الله أو هو جزء من الله فادعوا ألوهيته وتركوا المحكم وهو قوله تعالى {إِنْ هُوَ إِلا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ} [الزخرف: 59] الدالّ على أنه عبد من عباد الله ورسول من رسله .

وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلا اللَّهُ} أي لا يعلم تفسير المتشابه ومعناه الحقيقي إِلا الله وحده {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ} أي الثابتون المتمكنون من العلم يؤمنون بالمتشابه وأنه من عند الله {كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} أي كلٌ من المتشابه والمحكم حقٌ وصدق لأنه كلام الله، قال تعالى {وَمَا يَذَّكَّرُ إِلا أُوْلُوا الألْبَابِ} أي ما يتعظ ويتدبر إِلا أصحاب العقول السليمة المستنيرة .

{رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا} أي لا تُمِلْها عن الحق ولا تضلّنا {بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا} أي بعد أن هديتنا إِلى دينك القويم وشرعك المستقيم {وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً} أي امنحنا من فضلك وكرمك رحمةً تثبتنا بها على دينك الحق {إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} أي أنت يا رب المتفضل على عبادك بالعطاء والإِحسان {رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ} أي جامع الخلائق في ذلك اليوم الرهيب "يوم الحساب" الذي لا شك فيه {إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ} أي وعدك حق وأنت يا رب لا تخلف الموعد، كقوله تعالى {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنْ اللَّهِ حَدِيثًا}؟! [النساء: 87].



عاقبة الكفار المغرورين بالأولاد والأموال

{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنْ اللَّهِ شَيْئًا وَأُوْلَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ(10)كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأَخَذَهُمْ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ(11)قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ(12)قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لأُوْلِي الأبْصَارِ(13)}



{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ} أي لن تفيدهم الأموال والأولاد، ولن تدفع عنهم من عذاب الله في الآخرة {مِنْ اللَّهِ شَيْئًا} أي من عذاب الله وأليم عقابه {وَأُوْلَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ} أي هم حطب جهنم الذي تُسْجر وتوقد به النار {كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ} أي حال هؤلاء الكفار وشأنهم كحال وشأن آل فرعون، وصنيعُهم مثلُ صنيعهم {وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} أي من قبل آل فرعون من الأمم الكافر كقوم هود وصالح وشعيب {كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا} أي كذبوا بالآيات التي تدل على رسالات الرسل {فَأَخَذَهُمْ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ} أي أهلكهم وعاقبهم بسبب الكفر والمعاصي {وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ} أي أليم العذاب شديد البطش، والغرض من الآية أن كفار قريش كفروا كما كفر أولئك المعاندون من آل فرعون ومن سبقهم، فكما لم تنفع أولئك أموالهم ولا أولادهم فكذلك لن تنفع هؤلاء.

{قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا} أي قل يا محمد لليهود ولجميع الكفار {سَتُغْلَبُون} أي تُهزمون في الدنيا {وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ} أي تجُمعون وتساقون إِلى جهنم {وَبِئْسَ الْمِهَادُ} أي بئس المهاد والفراش الذي تمتهدون نار جهنم .

{قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ} أي قد كان لكم يا معشر اليهود عظة وعبرة {فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا} أي في طائفتين التقتا للقتال يوم بدر {فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} أي طائفةٌ مؤمنة تقاتل لإِعلاء دين الله {وَأُخْرَى كَافِرَةٌ} أي وطائفة أخرى كافرة تقاتل في سبيل الطاغوت وهم كفار قريش {يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ} أي يرى المؤمنون الكافرين أكثر منهم مرتين {رَأْيَ الْعَيْنِ} أي رؤية ظاهرةً مكشوفة بالعين المجردة لا بالوهم والخيال، وقيل: المراد يرى الكافرون المؤمنين ضعيفهم في العدد، وذلك أن الله أكثر المؤمنين في أعين الكافرين ليرهبوهم ويجبنوا عن قتالهم، والقول الأول اختيار ابن جرير وهو الأظهر لقوله تعالى {رَأْيَ الْعَيْنِ} أي رؤية حقيقية لا بالخيال {وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ} أي يقوّي بنصره من يشاء {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً} أي لآية وموعظة {لأُوْلِي الأبْصَارِ} أي لذوي العقول السليمة والأفكار المستقيمة. ومغزى الآية أن القوة المادية ليست كل شيء، وأن النصر لا يكون بكثرة العَدد والعتاد، وإِنما يكون بمعونة الله وتأييده كقوله {إِنْ يَنْصُرْكُمْ اللَّهُ فَلا غَالِبَ لَكُمْ} [آل عمران: 160].



اغترار الناس بشهوات الدنيا

{زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنْ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنْ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ(14)}



ثم أخبر تعالى عن اغترار الناس بشهوات الحياة الفانية فقال {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنْ النِّسَاءِ} أي حُسِّن إِليهم وحُبّب إِلى نفوسهم الميل نحو الشهوات، وبدأ بالنساء لأن الفتنة بهن أشد، والالتذاذ بهن أكثر وفي الحديث (ما تركتُ بعدي فتنةً أضرَّ على الرجال من النساء) ثم ذكر ما يتولد منهن فقال {وَالْبَنِينَ} وإِنما ثنّى بالبنين لأنهم ثمرات القلوب وقرة الأعين كما قال القائل:

وإِنمـا أولادنــا بـيننا أكبـادُنا تمشي على الأرض

لو هبَّت الريح على بعضهم لامتنعـتْ عينـي عن الغَمْض

وقُدّموا على الأموال لأن حب الإِنسان لولده أكثر من حبه لماله {وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنْ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالأنْعَامِ} أي الأموال الكثيرة المكدَّسة من الذهب والفضة، وإِنما كان المال محبوباً لأنه يحصل به غالب الشهوات، والمرء يرتكب الأخطار في تحصيله قال تعالى: {وتحبون المال حباً جماً} والذهب والفضة أصل التعامل ولذا خُصَّا بالذكر {وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ} أي الأصلية الحسان {وَالأنْعَام} أي الإِبل والبقر والغنم فمنها المركب والمطعم والزينة {وَالْحَرْثِ} أي الزرع والغراس لأن فيه تحصيل أقواتهم {ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} أي إِنما هذه الشهوات زهرة الحياة الدنيا وزينتُها الفانية الزائلة {وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ} أي حسن المرجع والثواب.





الجنات خير من الدنيا وما فيها

{قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنْ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ(15)الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ(16)الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأسْحَارِ(17)}



{قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ} أي قل يا محمد أأخبركم بخيرٍ ممّا زُيِّن للناس من زهرة الحياة الدنيا ونعيمها الزائل؟ والاستفهام للتقرير {لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ} أي للمتقين يوم القيامة جناتٌ فسيحات تجري من خلال جوانبها وأرجائها الأنهار {خَالِدِينَ فِيهَا} أي ماكثين فيها أبد الآباد {وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ} أي منزهةٌ عن الدنس والخبث، الحسي والمعنوي، لا يتغوَّطن ولا يتبولن ولا يحضن ولا ينفسن، ولا يعتريهن ما يعتري نساء الدنيا {وَرِضْوَانٌ مِنْ اللَّهِ} أي ولهم مع ذلك النعيم رضوانٌ من الله وأيُّ رضوان، وقد جاء في الحديث (أُحلُّ عليكم رضواني فلا أسخط عليكم بعده أبداً) {وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} أي عليم بأحوال العباد يعطي كلاً بحسب ما يستحقه من العطاء.

ثم بيّن تعالى صفات هؤلاء المتقين الذين أكرمهم بالخلود في دار النعيم فقال {الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا} أي آمنا بك وبكتبك ورسلك {فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} أي اغفر لنا بفضلك ورحمتك ذنوبنا ونجنا من عذاب النار {الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ} أي الصابرين على البأساء والضراء، والصادقين في إِيمانهم وعند اللقاء، والمطيعين لله في الشدة والرخاء {وَالْمُنْفِقِينَ} أي الذين يبذلون أموالهم في وجوه الخير {وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأسْحَارِ} أي وقت السحر قُبيل طلوع الفجر. وخصَّ وقت السحر بالذكر لفضله ولأنه وقت يصفو فيه القلب من الشواغل.





الشهادة بوحدانية الله وقيامه بالعدل ، والدين المقبول عند الله

{شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ(18)إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإسْلامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمْ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ(19)فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِي لِلَّهِ وَمَنْ اتَّبَعَن وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالأمِّيِّينَ ءَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدْ اهْتَدَوا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ(20)}



{شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ} أي بيّن وأعلم تعالى عباده بانفراده بالوحدانية، قال الزمخشري: شبهت دلالته على وحدانيته بشهادة الشاهد في البيان والكشف {وَالْمَلائِكَةُ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ} أي وشهدت الملائكة وأهل العلم بوحدانيته بدلائل خلقه وبديع صنعه {قَائِمًا بِالْقِسْطِ} أي حال كونه مقيماً للعدل فيما يقسم من الآجال والأرزاق {لا إِلَهَ إِلا هُوَ} أي لا معبود في الوجود بحق إِلا هو {الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} أي العزيز في ملكه الحكيم في صنعه .

{إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإسْلامُ} أي الشرع المقبول عند الله هو الإِسلام، ولا دين يرضاه الله سوى الإِسلام {وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءهُمْ الْعِلْمُ} أي وما اختلف اليهود والنصارى في أمر الإِسلام ونبوة محمد عليه السلام، إِلا بعد أن علموا بالحجج النيّرة والآيات الباهرة حقيقة الأمر، فلم يكن كفرهم عن شبهة وخفاء وإِنما كان عن استكبار وعناد، فكانوا ممن ضلَّ عن علم {بَغْيًا بَيْنَهُمْ} أي حسداً كائناً بينهم حملهم عليه حب الرئاسة {وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} وهو وعيد وتهديد أي من يكفر بآياته تعالى فإِنه سيصير إلى الله سريعاً فيجازيه على كفره .

{فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِي لِلَّهِ} أي إِن جادلوك يا محمد في شأن الدين فقل لهم: أنا عبدٌ لله قد استسلمتُ بكليتي لله، وأخلصت عبادتي له وحده، لا شريك له ولا نِدَّ ولا صاحبة ولا ولد {وَمَنْ اتَّبَعَنِ} أي أنا وأتباعي على ملة الإِسلام، مستسلمون منقادون لأمر الله {وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالأمِّيِّينَ} أي قل لليهود والنصارى والوثنيين من العرب {ءَأََسْلَمْتُمْ} أي هل أسلمتم أم أنتم باقون على كفركم فقد أتاكم من البينات ما يوجب إِسلامكم {فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدْ اهْتَدَوا} أي فإِن أسلموا كما أسلمتم فقد نفعوا أنفسهم بخروجهم من الضلال إِلى الهدى ومن الظلمة إِلى النور {وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ} أي وإِن أعرضوا فلن يضروك يا محمد إِذ لم يكلفك الله بهدايتهم وإِنما أنت مكلف بالتبليغ فحسب والغرض منها تسلية النبي صلى الله عليه وسلم {وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} أي عالم بجميع أحوالهم فيجازيهم عليها، روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قرأ هذه الآية على أهل الكتاب قالوا: أسلمنا فقال عليه السلام لليهود: أتشهدون أن عيسى كلمة الله وعبده ورسوله! فقالوا: معاذا الله، فقال للنصارى: أتشهدون أن عيسى عبد الله ورسوله! فقالوا: معاذ الله أن يكون عيسى عبداً وذلك قوله عز وجل {وَإِنْ تَوَلَّوْا}.





جزاء الذين يكفرون ويقتلون بغير سبب

{إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنْ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ(21)أُوْلَئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ(22)}



{إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ} أي يكذبون بما أنزل الله {وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ} أي يقتلون أنبياء الله بغير سبب ولا جريمة إِلا لكونهم دعوهم إِلى الله، وهم اليهود قتلوا زكريا وابنه يحيى وقتلوا أنبياء الله، قال ابن كثير: "قتلت بنو إِسرائيل ثلاثمائة نبيّ من أول النهار، وأقاموا سوق بقلهم من آخره" {وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنْ النَّاسِ} أي يقتلون الدعاة إِلى الله الذين يأمرون بالخير والعدل {فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} أي أخبرهم بما يسرهم وهو العذاب الموجع المهين، والأسلوب للتهكم وقد استحقوا ذلك لأنهم جمعوا ثلاثة أنواع من الجرائم: الكفر بآيات الله، وقتل الأنبياء، وقتل الدعاة إِلى الله قال تعالى مبيناً عاقبة إِجرامهم {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ} أي بطلت أعمالهم التي عملوها من البر والحسنات، ولم يبق لها أثر في الدارين، بل بقي لهم اللعنة والخزي في الدنيا والآخرة {وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ} أي ليس لهم من ينصرهم من عذاب الله أو يدفع عنهم عقابه.



إعراض أهل الكتاب عن حكم الله تعالى

{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنْ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ(23)ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ(24)فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ(25)}



ثم ذكر تعالى طرفاً من لَجَاج وعناد أهل الكتاب فقال {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنْ الْكِتَابِ} أي ألا تعجب يا محمد من أمر هؤلاء الذين أوتوا نصيباً من الكتاب! فالصيغة صيغة تعجيب للرسول أو لكل مخاطب، قال الزمخشري: يريد أحبار اليهود وأنهم حصلوا نصيباً وافراً من التوراة {يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ} أي يدعون إلى التوراة كتابهم الذي بين أيديهم والذي يعتقدون صحته، ليحكم بينهم فيما تنازعوا فيه فيأبون {ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ} أي ثم يعرض فريق منهم عن قبول حكم الله، وهو استبعاد لتوليهم بعد علمهم بوجوب الرجوع إليه، وجملة {وَهُمْ مُعْرِضُونَ} تأكيد للتولي أي وهم قوم طبيعتهم الإعراض عن الحق، والإصرار على الباطل، والآية كما يقول المفسرون تشير إلى قصة تحاكم اليهود إلى النبي صلى الله عليه وسلم لما زنى منهم اثنان فحكم عليهما بالرجم فأبوا وقالوا: لا نجد في كتابنا إلا التحميم فجيء بالتوراة فوجد فيها الرجم فرجما، فغضبوا فشنَّع تعالى عليهم بهذه الآية .

{ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ} أي ذلك التولي والإِعراض بسبب افترائهم على الله وزعمهم أنهم أبناء الأنبياء وأن النار لن تصيبهم إلا مدةً يسيرة -أربعين يوماً- مدة عبادتهم للعجل {وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} أي غرهم كذبهم على الله {فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ} أي كيف يكون حالهم يوم القيامة حين يجمعهم الله للحساب!! وهو استعظام لما يدهمهم من الشدائد والأهوال {وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ} أي نالت كل نفسٍ جزاءها العادل {وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} أي لا يظلمون بزيادة العذاب أو نقص الثواب.



دلائل قدرة الله وعظمته وتصرفه في خلقه والتفويض إليه

{قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ(26)تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنْ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنْ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ(27)}



{قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ} أي قل: يا ألله يا مالك كل شيء {تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ} أي أنت المتصرف في الأكوان، تهب الملك لمن تشاء وتخلع الملك ممن تشاء {وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ} أي تعطي العزة لمن تشاء والذلة لمن تشاء {بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} أي بيدك وحدك خزائن كل خير وأنت على كل شيء قدير .

{تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنْ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنْ الْحَيِّ} أي تدخل الليل في النهار كما تدخل النهار في الليل، فتزيد في هذا وتنقص في ذاك والعكس، وهكذا في فصول السنة شتاءً وصيفاً {وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنْ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنْ الْحَيِّ} أي تخرج الزرع من الحب والحب من الزرع، والنخلةَ من النواة والنواة من النخلة، والبيضةَ من الدجاجة والدجاجةَ من البيضة، والمؤمن من الكافر والكافر من المؤمن هكذا قال ابن كثير، وقال الطبري: "وأولى التأويلات بالصواب تأويل من قال: يخرج الإنسان الحيَّ والأنعام والبهائم من النطف الميتة، ويخرج النطفة الميتة من الإِنسان الحي والأنعام والبهائم الأحياء" {وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} أي تعطي من تشاء عطاءً واسعاً بلا عدٍّ ولا تضييق.



موالاة الكافرين والتحذير من الآخرة

{لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنْ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمْ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ(28)قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ(29)يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمْ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ(30)}



ثم نهى تعالى عن اتخاذ الكافرين أنصاراً وأحباباً فقال {لا يَتَّخِذْ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} أي لا توالوا أعداء الله وتتركوا أولياءه فمن غير المعقول أن يجمع الإِنسان بين محبة الله وبين محبة أعدائه، قال الزمخشري: نُهوا أن يوالوا الكافرين لقرابةٍ بينهم أو صداقة أو غير ذلك من الأسباب التي يُتَصادق بها ويُتَعاشر {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنْ اللَّهِ فِي شَيْءٍ} أي من يوالِ الكفرة فليس من دين الله في شيء {إِلا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً} أي إِلا أن تخافوا منهم محذوراً أو تخافوا أذاهم وشرهم، فأظهروا موالاتهم باللسان دون القلب، لأنه من نوع مداراة السفهاء كما روي " إنّا لنبش في وجوه أقوامٍ وقلوبنا تلعنهم" {وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ} أي يخوّفكم الله عقابه الصادر منه تعالى {وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ} أي المنقلب والمرجع فيجازي كل عاملٍ بعمله.

{قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ} أي إِن أخفيتم ما في قلوبكم من موالاة الكفار أو أظهرتموه فإِن الله مطلع عليه لا تخفى عليه خافية {وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ} أي عالم بجميع الأمور، يعلم كل ما هو حادث في السماوات والأرض {وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} أي وهو سبحانه قادر على الانتقام ممن خالف حكمه وعصى أمره، وهو تهديد عظيم {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا} أي يوم القيامة يجد كل إِنسان جزاء عمله حاضراً لا يغيب عنه، إِن خيراً فخير وإِن شراً فشر، فإِن كان عمله حسناً سرّه ذلك وأفرحه {وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا} أي وإِن كان عمله سيئاً تمنّى أن لا يرى عمله، وأحبَّ أن يكون بينه وبين عمله القبيح غايةً في نهاية البعد أي مكاناً بعيداً كما بين المشرق والمغرب {وَيُحَذِّرُكُمْ اللَّهُ نَفْسَهُ} أي يخوفكم عقابه {وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ} أي رحيم بخلقه يحبّ لهم أن يستقيموا على صراطه المستقيم.



محبة الله تكون باتِّباع رسوله صلى الله عليه وسلم وطاعته

{قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ(31)قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ(32)}



{قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللَّهُ} أي قل لهم يا محمد إِن كنتم حقاً تحبون الله فاتبعوني لأني رسوله يحبكم الله {وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} أي باتباعكم الرسول وطاعتكم لأمره يحبكم الله ويغفر لكم ما سلف من الذنوب، قال ابن كثير: "هذه الآية الكريمة حاكمةٌ على كل من ادعى محبة الله وليس هو على الطريقة المحمدية، فإِنه كاذب في دعواه تلك حتى يتّبع الشرع المحمدي في جميع أقواله وأفعاله" .

ثم قال تعالى: {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ} أي أطيعوا أمر الله وأمر رسوله {فَإِنْ تَوَلَّوْا} أي أعرضوا عن الطاعة {فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ} أي لا يحب من كفر بآياته وعصى رسله بل يعاقبه ويخزيه {يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ ءامنوا مَعَهُ} [التحريم: 8].



المنَاسَــبَة:

لما بيّن تعالى أن محبته لا تتم إِلا بمتابعة الرسل وطاعتهم، بيّن علوَّ درجات الرسل وشرف مناصبهم، فبدأ بآدم أولهم، وثنَّى بنوح أبي البشر الثاني، ثم أتى ثالثاً بآل إِبراهيم فاندرج فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنه من ولد إِسماعيل، ثم أتى رابعاً بآل عمران فاندرج فيه عيسى عليه السلام، وأعقب ذلك بذكر ثلاث قصص: قصة ولادة مريم، وقصة ولادة يحيى، وقصة ولادة عيسى، وهي خوارق للعادة تدل على قدرة العلي القدير.



اصطفاء الأنبياء وقصة نذر امرأة عمران ما في بطنها لعبادة الله تعالى

{إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ(33)ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ(34)إِذْ قَالَتْ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ(35)فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ(36)فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ(37)}



{إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ} أي اختار للنبوة صفوة خلقه منهم آدم أبو البشر {وَنُوحًاً} شيخ المرسلين {وَآلَ إِبْرَاهِيمَ} أي عشيرته وذوي قرباه وهم إِسماعيل وإِسحاق والأنبياء من أولادهما ومن جملتهم خاتم المرسلين {وَآلَ عِمْرَانَ} أي أهل عمران ومنهم عيسى بن مريم خاتم رسل بني إِسرائيل {عَلَى الْعَالَمِينَ} أي عالمي زمانهم، قال القرطبي: وخصَّ هؤلاء بالذكر من بين الأنبياء لأن الأنبياء والرسل جميعاً من نسلهم {ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ} أي اصطفاهم متجانسين في الدين والتُّقى والصلاح {وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} أي سميع لأقوال العباد عليم بضمائرهم .

{إِذْ قَالَتْ امْرَأَةُ عِمْرَانَ} أي اذكر لهم وقت قول امرأة عمران واسمها "حنَّة بنت فاقود" {رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي} أي نذرت لعبادتك وطاعتك ما أحمله في بطني {محرراً} أي مخلصاً للعبادة والخدمة {فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} أي السميع لدعائي العليم بنيّتي {فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى} أي لمَّا ولدتها قالت على وجه التحسر والاعتذار يا ربّ إِنها أنثى، قال ابن عباس: إِنما قالت هذا لأنه لم يكن يُقبل في النذر إِلا الذكور فقبل الله مريم قال تعالى {وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ} أي والله أعلم بالشيء الذي وضعت قالت ذلك أولم تقله {وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأنْثَى} أي ليس الذكر الذي طَلَبْته كالأنثى التي وُهِبتها بل هذه أفضل والجملتان معترضتان من كلامه تعالى تعظيماً لشأن هذه المولودة وما علّق بها من عظائم الأمور وجعلها وابنها آيةَ للعالمين {وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ} من تتمة كلام امرأة عمران والأصل إِني وضعتُها أنثى وإِني سميتُها مريم أي أسميت هذه الأنثى مريم ومعناه في لغتهم العابدة خادمة الرب {وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} أي أُجيرها بحفظك وأولادها من شر الشيطان الرجيم.

فاستجاب الله لها ذلك قال تعالى {فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ} أي قبلها الله قبولاً حسناً، قال ابن عباس: سلك بها طريق السعداء {وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا} أي ربّاها تربية كاملة ونشأها تنشئة صالحة {وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا} أي جعل زكريا كافلاً لها ومتعهداً للقيام بمصالحها، حتى إِذا بلغت مبلغ النساء انزوت في محرابها تتعبد لله {كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا} أي كلما دخل عليها زكريا حجرتها ومكان عبادتها وجد عندها فاكهة وطعاماً، قال مجاهد: وجد عندها فاكهة الصيف في الشتاء، وفاكهة الشتاء في الصيف {قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا}؟ أي من أين لك هذا؟ {قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} أي رزقاً واسعاً بغير جهد ولا تعب.



قصة زكريا ويحيى

{هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ(38)فَنَادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنْ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنْ الصَّالِحِينَ(39)قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ قَالَ كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ(40)قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي ءايَةً قَالَ ءايَتُكَ أَلا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلا رَمْزًا وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالإبْكَارِ(41)}



{هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ} أي في ذلك الوقت الذي رأى فيه زكريا كرامة الله لمريم دعا ربّه متوسلاً ومتضرعاً {قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً} أي أعطني من عندك ولداً صالحاً - وكان شيخاً كبيراً وامرأته عجوزاً وعاقراً - ومعنى طيبة صالحة مباركة {إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ} أي مجيبٌ لدعاء من ناداك {فَنَادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ} أي ناداه جبريل حال كون زكريا قائما في الصلاة {أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى} أي يبشرك بغلام اسمه يحيى {مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنْ اللَّهِ} أي مصدقاً بعيسى مؤمناً برسالته، وسمي عيسى كلمة الله لأنه خلق بكلمة "كن" من غير أب {وَسَيِّدًا} أي يسود قومه ويفوقهم {وَحَصُورًا} أي يحبس نفسه عن الشهوات عفةً وزهداً ولا يقرب النساء مع قدرته على ذلك، وما قاله بعض المفسرين أنه كان عنَيناً فباطل لا يجوز على الأنبياء لأنه نقص وذم والآية وردت مورد المدح والثناء {وَنَبِيًّا مِنْ الصَّالِحِينَ} أي ويكون نبياً من الأنبياء الصالحين، قال ابن كثير: وهذه بشارة ثانية بنبوته بعد البشارة بولادته وهي أعلى من الأولى كقوله لأم موسى {إِنا رادّوه إِليك وجاعلوه من المرسلين} .

{قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ} أي كيف يأتينا الولد {وَقَدْ بَلَغَنِي الْكِبَرُ} أي أدركتني الشيخوخة وكان عمره حينذاك مائة وعشرين سنة {وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ} أي عقيم لا تلد وكانت زوجته بنت ثمان وتسعين سنة، فقد اجتمع فيهما الشيخوخة والعقم في الزوجة وكلٌ من السببين مانع من الولد {قَالَ كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ} أي لا يعجزه شيء ولا يتعاظمه أمر {قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي ءايَةً} أي علامة على حمل امرأتي {قَالَ ءايَتُكَ أَلا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلا رَمْزًا} أي علامتك عليه أن لا تقدر على كلام الناس إِلا بالإِشارة ثلاثة أيام بلياليها مع أنك سويٌّ صحيح والغرض أنه يأتيه مانع سماوي يمنعه من الكلام بغير ذكر الله {وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا} أي اذكر الله ذكراً كثيراً بلسانك شكراً على النعمة، فقد منع عن الكلام ولم يُمنع عن الذكر لله والتسبيح له وذلك أبلغ في الإِعجاز {وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالإبْكَارِ} أي نزّه الله عن صفات النقص بقولك سبحان الله في آخر النهار وأوله. وقيل: المراد صلّ لله، قال الطبري: يعني عظّم ربك بعبادته بالعشي والإِبكار.



قصة زكريا عليه السلام

لما رأى زكريا آيات الله الباهرات وإكرامه تعالى لمريم ورزقها من حيث لا تحتسب، دعا ربه ليرزقه ذرية طيبة مباركة تلي أمور بني إسرائيل، فحملت زوجه بيحيى وبشره الله بنبوته، وأعلمه أن آية ذلك أن يعجز عن الكلام مع الناس ثلاثة أيام لا يكلمهم إلا رمزاً.

وقد منع زكريا الكلام بآفة دخلت عليه منعته إياه، وتلك الآفة عدم القدرة على الكلام مع الصحة. أما عن ذكر الله فلا.



قصة مريم

{وَإِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ(42)يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ(43)ذَلِكَ مِنْ أنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ(44)}.



{وَإِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ} أي اذكر وقت قول الملائكة أي جبريل يا مريم إِن الله اختارك من بين سائر النساء فخصَّكِ بالكرامات {وَطَهَّرَكِ} من الأدناس والأقذار ومما اتهمكِ به اليهود من الفاحشة {وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ} أي اختارك على سائر نساء العالمين لتكوني مظهر قدرة الله في إِنجاب ولد بدون أب .

{يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ} أي إِلزمي عبادته وطاعته شكراً على اصطفائه {وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ} أي صلي لله مع المصلين {ذَلِكَ مِنْ أنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ} أي هذا الذي قصصناه عليك من قصة امرأة عمران وابنتها مريم البتول ومن قصة زكريا ويحيى إِنما هو من الأنباء المغيبة والأخبار الهامة التي أوحينا بها إِليك يا محمد ما كنت تعلمها من قبل {وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ} أي ما كنت عندهم إِذا يختصمون ويتنافسون على كفالة مريم حين ألقوا سهامهم للقرعة كلٌ يريدها في كنفه ورعايته {وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ} أي يتنازعون فيمن يكفلها منهم، والغرض أن هذه الأخبار كانت وحياً من عند الله العليم الخبير .. روي أن حنّة حين ولدتها لفَّتها في خرقة وحملتها إِلى المسجد ووضعتها عند الأحبار وهم في بيت المقدس كالحجبة في الكعبة فقالت لهم: دونكم هذه النذيرة، فتنافسوا فيها لأنها كانت بنت إِمامهم ثم اقترعوا فخرجت في كفالة زكريا فكفلها، قال ابن كثير: وإِنما قدّر الله كون زكريا كافلاً لها لسعادتها لتقتبس منه علماً جماً وعملاً صالحاً.



قصة عيسى عليه السلام

{إِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالأخِرَةِ وَمِنْ الْمُقَرَّبِينَ(45)وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَمِنَ الصَّالِحِينَ(46)قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ(47)وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإنجِيلَ(48)وَرَسُولاً إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بئايَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنْ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الأكْمَهَ وَالأبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لايَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنينَ(49)وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنْ التَّوْرَاةِ وَلأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُون(50)إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ(51)}



{إِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ} أي بمولودٍ يحصل بكلمة من الله بلا واسطة أب {اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ} أي اسمه عيسى ولقبه المسيح، ونسبَه إِلى أمه تنبيهاً على أنها تلده بلا أب {وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالأخِرَةِ} أي سيداً ومعظماً فيهما {وَمِنْ الْمُقَرَّبِينَ} عند الله {وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً} أي طفلاً قبل وقت الكلام ويكلمهم كهلاً قال الزمخشري "ومعناه يكلم الناس في هاتين الحالتين كلام الأنبياء من غير تفاوتٍ بين حال الطفولة وحال الكهولة" ولا شك أن ذلك غاية في الإعجاز {وَمِنْ الصَّالِحِينَ} أي وهو من الكاملين في التقى والصلاح.

{قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ} أي كيف يأتيني الولد وأنا لست بذات زوج؟ {قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ} أي هكذا أمر الله عظيم لا يعجزه شيء يخلق بسببٍ من الوالدين وبغير سبب {إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} أي إِذا أراد شيئاً حصل من غير تأخرٍ ولا حاجةٍ إِلى سبب، يقول له كن فيكون {وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ} أي الكتابة {وَالْحِكْمَةَ} أي السداد في القول والعمل أو سنن الأنبياء {وَالتَّوْرَاةَ وَالإنجِيلَ} أي ويجعله يحفظ التوراة والإِنجيل، قال ابن كثير: وقد كان عيسى يحفظ هذا وهذا .

{وَرَسُولاً إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ} أي ويرسله رسولاً إِلى بني إِسرائيل قائلاً لهم {أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ} أي بأني قد جئتكم بعلامةٍ تدل على صدقي وهي ما أيدني الله به من المعجزات، وآيةُ صدقي {أنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنْ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ} أي أصوّر لكم من الطين مثل صورة الطير {فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ} أي أنفخ في تلك الصورة فتصبح طيراً بإِذن الله. قال ابن كثير: وكذلك كان يفعل، يصوّر من الطين شكل طير ثم ينفخ فيه فيطير عياناً بإِذن الله عز وجل الذي جعل هذا معجزة له تدل على أنه أرسله، وهذه المعجزة الأولى {وَأُبْرِئُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ} أي أشفي الذي ولد أعمى كما أشفي المصاب بالبرص، وهذه المعجزة الثانية {وَأُحْيِ الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ} أي أحيي بعض الموتى لا بقدرتي ولكن بمشيئة الله وقدرته، وقد أحيا أربعة أنفس: عازر وكان صديقاً له،وابن العجوز، وبنت العاشر، وسام بن نوح هكذا ذكر القرطبي وغيره، وكرر لفظ "بإِذن الله" دفعاً لتوهم الألوهية، وهذه المعجزة الثالثة .

{وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ} أي وأخبركم بالمغيبات من أحوالكم التي لا تشكُّون فيها فكان يخبر الشخص بما أكل وما ادخر في بيته وهذه هي المعجزة الرابعة {إِنَّ فِي ذَلِكَ لايَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنينَ} أي فيما أتيتكم به من المعجزات علامة واضحة تدل على صدقي إِن كنتم مصدّقين بآيات الله، ثم أخبرهم أنه جاء مؤيداً لرسالة موسى فقال {وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنْ التَّوْرَاةِ} أي وجئتكم مصدقاً لرسالةموسى، مؤيداً لما جاء به في التوراة {وَلأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ} أي ولأحلّ لكم بعض ما كان محرماً عليكم في شريعة موسى، قال ابن كثير: وفيه دليل على أن عيسى نسخ بعض شريعة التوراة وهو الصحيح .

{وَجِئْتُكُمْ بئايَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ} أي جئتكم بعلامة شاهدة على صحة رسالتي وهي ما أيدني الله به من المعجزات وكرِّر تأكيداً {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ} أي خافوا الله وأطيعوا أمري {إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ} أي أنا وأنتم سواء في العبودية له جلَّ وعلا {هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} أي فإِن تقوى الله وعبادته، والإِقرار بوحدانيته هو الطريق المستقيم الذي لا اعوجاج فيه.





حال عيسى مع قومه المؤمنين والكفار

{فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمْ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ(52)رَبَّنَا ءامَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ(53)وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ(54)إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ(55)فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ(56)وَأَمَّا الَّذِينَ ءامنوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ(57)ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَليْكَ مِنْ الأيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ(58)}



{فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمْ الْكُفْرَ} أي استشعر من اليهود التصميم على الكفر والاستمرار على الضلال وإِرادتهم قتله {قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ} أي من أنصاري في الدعوة إِلى الله، قال مجاهد: أي من يتبعني إِلى الله {قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} أي قال المؤمنون الأصفياء من أتباعه نحن أنصار دين الله {قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ} أي صدقنا بالله وبما جئتنا به واشهد بأننا منقادون لرسالتك مخلصون في نصرتك {رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ} أي آمنا بآياتك واتبعنا رسولك عيسى فاكتبنا مع من شهد لك بالوحدانية ولرسولك بالصدق .

ثم أخبر تعالى عن اليهود المتآمرين الذين أرادوا قتل عيسى فقال {وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ} أي أرادوا قتله فنجّاه الله من شرهم ورفعه إِلى السماء دون أن يمسَّ بأذى وألقى شبهه على ذلك الخائن "يهوذا" وسمّي مكراً من باب المشاكلة ولهذا قال {وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} أي أقواهم مكراً بحيث جعل تدميرهم في تدبيرهم وفي الحديث (اللهمَّ امكرْ لي ولا تمكر عليَّ) .

{إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} أي إِني رافعك إِلى السماء ثم مميتك بعد استيفائك كامل أجلك والمقصود بشارته بنجاته من اليهود ورفعه إِلى السماء سالماً دون أذى، قال قتادة: هذا من المقدم والمؤخر تقديره إِني رافعك إِلىَّ ثم متوفيك بعد ذلك، وقد ذكره الطبري فقال: وقال آخرون معنى ذلك: إِذ قال الله يا عيسى إِني رافعك إِليَّ ومطهرك من الذين كفروا، ومتوفيك بعد إِنزالي إِيّاك إِلى الدنيا {وَمُطَهِّرُكَ مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا} أي مخلصك من شر الأشرار الذين أرادوا قتلك، قال الحسن: طهّره من اليهود والنصارى والمجوس ومن كفار قومه {وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} أي جاعل أتباعك الذين ءامنوا بك فوق الذين جحدوا نبوتك ظاهرين على من ناوأهم إِلى يوم القيامة وقال في تفسير الجلالين: {الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ} أي صدقوا بنبوتك من المسلمين والنصارى {فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا} وهم اليهود يعلونهم بالحجة والسيف {ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} أي ثم مصيركم إِلى الله فيقضي بين جميعكم بالحق فيما كنتم تختلفون فيه من أمر عيسى.

{فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ} أي أما الكافرون بنبوتك المخالفون لملتك فإِني معذبهم عذاباً شديداً في الدنيا بالقتل والسبي، وبالآخرة بنار جهنم {وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ} أي ليس لهم ناصر يمنع عنهم عذاب الله {وَأَمَّا الَّذِينَ ءامنوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ} أي وأما المؤمنون فيعطيهم جزاء أعمالهم الصالحة كاملةً غير منقوصة {وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} أي لا يحب من كان ظالماً فكيف يظلم عباده؟ {ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَليْكَ} أي هذه الأنباء التي نقصها عليك يا محمد {مِنْ الأيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ} أي من آيات القرآن الكريم المحكم، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.



الرَّدُّ على مَن زعم ألوهية عيسى عليه السلام

{إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ ءادَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ(59)الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ(60)فَمَنْ حَآجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ(61)إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلاَّ اللَّهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ(62)فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ(63)}.



{إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ ءادَمَ} أي إِن شأن عيسى إِذ خلقه بلا أب - وهو في بابه غريب - كشأن آدم {خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} أي خلقَ آدم من غير أب ولا أم ثم قال له كن فكان، فليس أمر عيسى بأعجب من أمر آدم {الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} أي هذا هو القول الحق في عيسى فلا تكن من الشاكين.

{فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنْ الْعِلْمِ} أي من جادلك في أمر عيسى بعدما وضح لك الحق واستبان {فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ} أي هلمّوا نجتمع ويدعُ كل منا ومنكم أبناءه ونساءه ونفسه إِلى المباهلة في صحيح مسلم لما نزلت هذه الآية دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم فاطمة وحسناً وحُسيناً فقال: اللهم هؤلاء أهلي {ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ} أي نتضرع إِلى الله فنقول: اللهم العنْ الكاذب منا في شأن عيسى، فلما دعاهم إِلى المباهلة امتنعوا وقبلوا بالجزية عن ابن عباس أنه قال "لو خرج الذين يباهلون رسول الله صلى الله عليه وسلم لرجعوا لا يجدون أهلاً ولا مالاً" قال أبو حيان: "وفي ترك النصارى الملاعنة لعلمهم بصدقه شاهد عظيم على صحة نبوته" .

ثم قال تعالى {إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ} أي هذا الذي قصصناه عليك يا محمد في شأن عيسى هو الحق الذي لا شك فيه {وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلا اللَّهُ} أي لا يوجد إِله غير الله، وفيه ردٌّ على النصارى في قولهم بالتثليثَ {وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} أي هو جل شأنه العزيز في ملكه الحكيم في صنعه {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ} أي إِن أعرضوا عن الإِقرار بالتوحيد فإِنهم مفسدون والله عليم بهم وسيجازيهم على ذلك شر الجزاء.



الدعوة إلى توحيد الله وبيان مِلَّة إبراهيم عليه السلام

{قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلا نَعْبُدَ إِلا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ(64)يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَآجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتْ التَّوْرَاةُ وَالإنجِيلُ إِلا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ(65)هَاأَنْتُمْ هَؤُلاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَآجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ(66)مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ(67)إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ ءامَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ(68)}



{قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَىكَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ} أي قل لهم يا معشر اليهود والنصارى هلموا إِلى كلمة عادلة مستقيمة فيها إِنصاف من بعضنا لبعض {أَلاَّ نَعْبُدَ إِلا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا} أي أن نفرد الله وحده بالعبادة ولا نجعل له شريكاً {وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} أي لا يعبد بعضنا بعضاً كما عبد اليهود والنصارى عزيراً وعيسى، وأطاعوا الأحبار والرهبان فيما أحلوا لهم وحرّموا، روي أن الآية لمّا نزلت قال عدي بن حاتم ما كنا نعبدهم يا رسول الله، فقال صلى الله عليه وسلم أما كانوا يحلّون لكم ويحرّمون فتأخذون بقولهم؟ فقال: نعم فقال النبي صلى الله عليه وسلم هو ذاك {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} أي فإِن أعرضوا عن التوحيد ورفضوا قبول تلك الدعوة العادلة فقولوا أنتم اشهدوا يا معشر أهل الكتاب بأننا موحّدون مسلمون، مقرّون لله بالوحدانية مخلصون له العبادة .

{يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَآجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ} أي يا معشر اليهود والنصارى لم تجادلون وتنازعون في إِبراهيم وتزعمون أنه على دينكم {وَمَا أُنْزِلَتْ التَّوْرَاةُ وَالإنجِيلُ إِلا مِنْ بَعْدِهِ} أي والحال أنه ما حدثت هذه الأديان إِلا من بعده بقرونٍ كثيرة فكيف يكون من أهلها؟ {أَفَلا تَعْقِلُونَ} بطلان قولكم؟ فقد كان بين إِبراهيم وموسى ألف سنة، وبين موسى وعيسى ألفا سنة فكيف يقول بذلك عاقل؟ والاستفهام للتوبيخ .

{هَاأَنْتُمْ هَؤُلاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ} أي ها أنتم يا معشر اليهود والنصارى جادلتم وخاصمتم في شأن عيسى وقد عشتم زمانه فزعمتم ما زعمتموه {فَلِمَ تُحَآجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ} أي فلم تخاصمون وتجادلون في شأن إِبراهيم ودينه وتنسبونه إِلى اليهودية أو النصرانية بدون علم؟ أفليست هذه سفاهة وحماقة؟ {وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} أي والله يعلم الحقَّ من أمر إِبراهيم وأنتم لا تعلمون ذلك، قال أبو حيان: "وهذا استدعاء لهم أن يسمعوا كما تقول لمن تخبره بشيء لا يعلمه: اسمع فإِني أعلم ما لا تعلم".

ثم أكذبهم الله تعالى في دعوى إِبراهيم فقال {مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرَانِيًّا} أي ما كان إبراهيم على دين اليهودية ولا على دين النصرانية، فإِن اليهودية ملة محرّفة عن شرع موسى، وكذلك النصرانية ملة محرفة عن شرع عيسى {وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا} أي مائلاً عن الأديان كلها إِلى الدين القيّم {وَمَا كَانَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ} أي كان مسلماً ولم يكن مشركاً، وفيه تعريض بأنهم مشركون في قولهم عزير بن الله، والمسيح بن الله، وردٌّ لدعوى المشركين أنهم على ملة إِبراهيم .

{إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ} أي أحق الناس بالانتساب إِلى إِبراهيم أتباعه الذين سلكوا طريقه ومنهاجه في عصره وبعده {وَهَذَا النَّبِيُّ} أي محمد صلى الله عليه وسلم {وَالَّذِينَ آمَنُوا} أي المؤمنون من أمة محمد فهو الجديرون بأن يقولوا نحن على دينه لا أنتم {وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ} أي حافظهم وناصرهم.





كشف نوايا وأفعال بعض أهل الكتاب

{وَدَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَمَا يُضِلُّونَ إِلا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ(69)يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِئآيَاتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ(70)يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ(71)وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ ءامِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ ءامَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا ءاخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ(72)وَلا تُؤْمِنُوا إِلا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَآجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ(73)يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ(74)}



ولما دعا اليهود بعض الصحابة إِلى اليهودية نزل قوله {وَدَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ} أي تمنَّوا إِضلالكم بالرجوع إِلى دينهم حسداً وبغياً {وَمَا يُضِلُّونَ إِلا أَنْفُسَهُمْ} أي لا يعود وبال ذلك إِلا عليهم إذ يُضاعف به عذابهم {وَمَا يَشْعُرُونَ} أي ما يفطنون لذلك، ثم وبّخهم القرآن على فعلهم القبيح فقال {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِئايَاتِ اللَّهِ} أي بالقرآن المنزل على محمد صلى الله عليه وسلم {وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ} أي تعلمون أنه حق .

{يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ} أي لم تخلطون بين الحق والباطل بإِلقاء الشُّبَه والتحريف والتبديل؟ {وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} أي تكتمون ما في كتبكم من صفة محمد صلى الله عليه وسلم وأنتم تعلمون ذلك، ثم حكى تعالى نوعاً آخر من مكرهم وخبثهم، وهو أن يظهروا الإِسلام في أول النهار ثم يرتدوا عنه في آخره ليشككوا الناس في دين الإِسلام فقال {وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ ءامِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ ءامَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ} قال ابن كثير: وهذه مكيدة أرادوها ليلبسوا على الضعفاء من الناس أمر دينهم، وهو أنهم تشاوروا بينهم أن يظهروا الإِيمان أول النهار ويصلّوا مع المسلمين فإِذا جاء آخر النهار ارتدوا إِلى دينهم ليقول الجهلة من الناس إِنما ردهم إِلى دينهم اطلاعهم على نقيصةٍ وعيبٍ في دين المسلمين {وَاكْفُرُوا ءاخِرَهُ} أي اكفروا بالإِسلام آخر النهار {لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} أي لعلهم يشكّون في دينهم فيرجعون عنه .

{وَلا تُؤْمِنُوا إِلا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ} هذا من تتمة كلام اليهود حكاه الله عنهم والمعنى: لا تصدقوا ولا تظهروا سرّكم وتطمئنوا لأحدٍ إِلا إِذا كان على دينكم {قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ} أي قل لهم يا محمد الهدى ليس بأيدكم وإِنما الهدى هدى الله، يهدي من يشاء إِلى الإِيمان ويثبته عليه كما هدى المؤمنين، والجملة اعتراضيه، ثم ذكر تعالى بعد ذلك الاعتراض بقية كلام اليهود فقال {أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَآجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ} أي يقول اليهود بعضهم لبعض: لا تصدّقوا إِلا لمن تبع دينكم، وانظروا فيمن ادعى النبوة فإِن كان متبعاً لدينكم فصدقوه وإِلا فكذبوه، ولا تقروا ولا تعترفوا لأحدٍ بالنبوة إِلا إِذا كان على دينكم، خشية أن يؤتى أحدٌ مثل ما أوتيتم وخشية أن يحاجوكم به عند ربكم، فإِذا أقررتم بنبوة محمد ولم تدخلوا في دينه تكون له الحجة عليكم يوم القيامة، وغرضهم نفي النبوة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

{قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ} أي قل لهم يا محمد أمر النبوة ليس إِليكم وإِنما هو بيد الله والفضل والخير كله بيد الله يؤتيه من يشاء {وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} أي كثير العطاء واسع الإِنعام يعلم من هو أهل للفضل {يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ} أي يختص بالنبوة من شاء {وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} أي فضله واسع عظيم لا يُحدُّ ولا يُمنع.

الأمانة والوفاء عند بعض أهل الكتاب

{وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ(75)بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ(76)إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلاً أُوْلَئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الأخِرَةِ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ(77)}



{وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ} أي من اليهود والنصارى من إِذا ائتمنته على المال الكثير أدّاه إليك لأمانته كعبد الله بن سلام أودعه قرشي ألف أوقية ذهباً فأداها إليه {وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ} أي ومنهم من لا يؤتمن على دينار لخيانته كفنحاص بن عازوراء ائتمنه قرشي على دينار فجحده {إِلا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا} أي إِلا إِذا كنت ملازماً له ومُشهداً عليه.

{ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأمِّيِّينَ سَبِيلٌ} أي إِنما حملهم على الخيانة زعمهم أن الله أباح لهم أموال الأميين - يعني العرب - روي أن اليهود قالوا {نحن أبناء الله وأحباؤه} والخلق لنا عبيد، فلا سبيل لأحدٍ علينا إِذا أكلنا أموال عبيدنا، وقيل إِنهم قالوا إِن الله أباح لنا مال من خالف ديننا {وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} أي يكذبون على الله بادعائهم ذلك وهم يعلمون أنهم كاذبون مفترون، روي أنهم لما قالوا {لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأمِّيِّينَ سَبِيلٌ} قال نبي الله صلى الله عليه وسلم: كذب أعداء الله ما من شيء كان في الجاهلية إِلا هو تحت قدميَّ هاتين إِلا الأمانة فإِنها مؤداة إِلى البرّ والفاجر.

ثم قال تعالى {بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} أي ليس كما زعموا بل عليهم فيه إِثم لكنْ من أدّى الأمانة منهم وآمن بمحمد صلى الله عليه وسلم واتقى الله واجتنب محارمه فإِن الله يحبه ويكرمه {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلاً} أي يستبدلون بالعهد الذي عاهدوا عليه من التصديق بمحمد وبأيمانهم الكاذبة حطام الدنيا وعرضها الخسيس الزائل {أُوْلَئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الأخِرَةِ} أي ليس لهم حظ ولا نصيب من رحمة الله تعالى {وَلا يُكَلِّمُهُمْ اللَّهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} أي لا يكلمهم كلام أنسٍ ولطف، ولا ينظر إِليهم بعين الرحمة يوم القيامة {وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} أي لا يطهرهم من أوضار الأوزار، ولهم عذاب مؤلم على ما ارتكبوه من المعاصي.

شناعة أفعال بعض اليهود

{وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ(78)}



{وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ} أي وإِن من اليهود طائفة يفتلون ألسنتهم في حال قراءة الكتاب لتحريف معانيه وتبديل كلام الله عن المراد منه، قال ابن عباس: يحرفونه بتأويله على غير مراد الله {لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ} أي لتظنوا أن هذا المحرّف من كلام الله وما هو إِلا تضليل وبهتان {وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} أي ينسبونه إِلى الله وهو كذبٌ على الله {وَهُمْ يَعْلَمُونَ} أنهم كذبوا وافتروا على الله.



افتراء أهل الكتاب على الأنبياء

{مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ(79)وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ(80)}



ثم قال تعالى رداً على النصارى لما زعموا أن عيسى أمرهم أن يعبدوه {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ} أي لا يصح ولا ينبغي لأحدٍ من البشر أعطاه الله الكتاب والحكمة والنبوة {ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ} أي ثم يقول للناس اعبدوني من دون الله، والنفيُ في مثل هذه الصيغة {مَا كَانَ} إِنما يؤتى به للنفي العام الذي لا يجوز عقلاً ثبوتُه والغرض أنه لا يصح أصلاً ولا يتصور عقلاً صدور دعوى الألوهية من نبي قط أعطاه الله النبوة والشريعة فضلاً عن أن يحصل ذلك بالفعل لأن الرسول سفير بين الله وخلقه ليرشد الناس إِلى عبادة الله فكيف يدعوهم إِلى عبادة نفسه؟ {وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ} أي ولكن يقول لهم كونوا ربانيّين، قال ابن عباس: حكماء علماء حلماء والمعنى: لا أدعوكم إِلى أن تكونوا عباداً لي ولكن أدعوكم أن تكونوا علماء فقهاء مطيعين لله {بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ} أي بتعليمكم الناس الكتاب ودراستكم إِيّاه.

{وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا} أي وما كان له أن يأمركم بعبادة غير الله - ملائكة أو أنبياء - لأنَّ مهمة الرسل الدعوة إِلى الله وإِخلاص العبادة له {أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} أي أيأمركم نبيكم بالكفر وجحود وحدانية الله، بعد أن أسلمتم ودخلتم في دين الله؟ والاستفهام إِنكاري تعجبي.



بيان ميثاق الأنبياء

{وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا ءاتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَآءكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ ءَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنْ الشَّاهِدِينَ(81)فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ(82)أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ(83)}



{وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ} أي اذكروا يا أهل الكتاب حين أخذ الله العهد المؤكد على النبيّين {لَمَا ءاتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ} أي لمن أجل ما آتيتكم من الكتاب والحكمة، قال الطبري: المعنى لمهْما آتيتكم أيها النبيّون من كتاب وحكمة {ثُمَّ جَآءكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ} أي ثم جاءكم رسول من عندي بكتاب مصدق لما بين أيديكم وهو محمد صلى الله عليه وسلم {لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ} أي لتصدقنه ولتنصرنه، قال ابن عباس: ما بعث الله نبياً من الأنبياء إِلا أخذ عليه الميثاق لئن بعث الله محمداً وهو حي ليؤمننَّ به ولينصرنه وأمره أن يأخذ الميثاق على أمته {قَالَ ءَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي} أي أأقررتم وأعترفتم بهذا الميثاق وأخذتم عليه عهدي؟ {قَالُوا أَقْرَرْنَا} أي اعترفنا {قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنْ الشَّاهِدِينَ} أي اشهدوا على أنفسكم وأتباعكم وأنا من الشاهدين عليكم وعليهم .

{فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ} أي أعرض ونكث عهده {فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ} أي هم الخارجون عن طاعة الله{أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ} الهمزة للإِنكار التوبيخي أي أيبتغي أهل الكتاب ديناً غير الإِسلام الذي أرسل الله به رسله؟ {وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ} أي ولله استسلم وانقاد وخضع أهل السماوات والأرض{طَوْعًا وَكَرْهًا} أي طائعين ومكرهين، وقال قتادة: المؤمن أسلم طائعاً والكافر أسلم كارهاً حين لا ينفعه ذلك، قال ابن كثير: فالمؤمن مستسلم بقلبه وقالبه لله طوعاً، والكافر مستسلم لله كرهاً فإنه تحت التسخير والقهر والسلطان العظيم الذي لا يُخالف ولا يُمانع {وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ} أي يوم المعاد فيجازي كلاً بعمله.



الإيمان بالأنبياء جميعاً

{قُلْ ءامَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ(84)وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ(85)}

yacine414
2011-03-26, 10:28
{قُلْ ءامَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا} أي قل يا محمد أنت وأمتك آمنا بالله وبالقرآن المنزل علينا {وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطِ} أي آمنا بما أنزل على هؤلاء من الصحف والوحي، والأسباطُ هم بطون بني إِسرائيل المتشعبة من أولاد يعقوب {وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى} أي من التوراة والإِنجيل {وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ} أي وما أنزل على الأنبياء جميعهم {لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ} أي لا نؤمن بالبعض ونكفر بالبعض كما فعل اليهود والنصارى بل نؤمن بالكل {وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} أي مخلصون في العبادة مقرّون له بالألوهية والربوبية لا نشرك معه أحداً أبداً، بل أخبر تعالى بأن كل دين غير الإِسلام باطل ومرفوض فقال {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} أي يطلب شريعة غير شريعة الإِسلام بعد بعثة النبي عليه الصلاة والسلام ليدين بها فلن يتقبل الله منه {وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنْ الْخَاسِرِينَ} أي مصيره إِلى النار مخلداً فيها.

أنواع الكفار من حيث التوبة

{كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَآءهُمْ الْبَيِّنَاتُ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ(86)أُوْلَئِكَ جَزَاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ(87)خَالِدِينَ فِيهَا لا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ الْعَذَابُ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ(88)إِلا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ(89)إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الضَّالُّونَ(90)إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الأرْضِ ذَهَبًا وَلَوْ افْتَدَى بِهِ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ(91)}



{كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ} استفهام للتعجيب والتعظيم لكفرهم أي كيف يستحق الهداية قوم كفروا بعد إِيمانهم {وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ} أي بعد أن جاءتهم الشواهد ووضح لهم الحق أن محمداً رسول الله {وَجَآءهُمْ الْبَيِّنَاتُ} أي جاءتهم المعجزات والحجج البينات على صدق النبي {وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} أي لا يوفقهم لطريق السعادة، قال الحسن: هم اليهود والنصارى رأوا صفة محمد صلى الله عليه وسلم في كتابهم، وشهدوا أنه حق فلما بعث من غيرهم حسدوا العرب فكفروا بعد إِيمانهم .

{أُوْلَئِكَ جَزَاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} أي جزاؤهم على كفرهم اللعنة من الله والملائكة والخلق أجمعين {خَالِدِينَ فِيهَا لا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ الْعَذَابُ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ} أي ماكثين في النار أبد الآبدين، لا يُفتّر عنهم العذاب ولا هم يمهلون {إِلا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا} أي إِلا من تاب وأناب وأصلح ما أفسد من عمله {فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} أي متفضل على من تاب بالرحمة والغفران {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا} نزلت في اليهود كفروا بعيسى بعد إِيمانهم بموسى ثم ازدادوا كفراً حيث كفروا بمحمد والقرآن {لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ} أي لا تقبل منهم توبة ما أقاموا على الكفر {وَأُوْلَئِكَ هُمْ الضَّالُّونَ} أي الخارجون عن منهج الحق إِلى طريق الغي.

ثم أخبر تعالى عمّن كفر ومات على الكفر فقال {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ} أي كفروا ثم ماتوا على الكفر ولم يتوبوا وهو عام في جميع الكفار {فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الأرْضِ ذَهَبًا وَلَوْ افْتَدَى بِهِ} أي لن يقبل من أحدهم فدية ولو افتدى بملء الأرض ذهباً {أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} أي مؤلم موجع {وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ} أي ما لهم من أحد ينقذهم من عذاب الله ولا يجيرهم من أليم عقابه.



النفقة المبرورة وجزاء الإنفاق

{لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ(92)}



{لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} أي لن تكونوا من الأبرار ولن تدركوا الجنة حتى تنفقوا من أفضل أموالكم {وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ} أي وما تبذلوا من شيء في سبيل الله فهو محفوظ لكم تجزون عنه خير الجزاء.



الردّ على اليهود في تحريم بعض الأطعمة

{كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلاً لِبَنِي إِسْرَآئِيلَ إِلا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ(93)فَمَنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ(94)قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ(95)}



{كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلاً لِبَنِي إِسْرَآئِيلَ} أي كل الأطعمة كانت حلالاً لبني إسرائيل {إِلا مَا حَرَّمَ إِسْرَآئِيلُ عَلَى نَفْسِهِ} أي إلا ما حرّمه يعقوب على نفسه وهو لحم الإِبل ولبنها ثم حرمت عليهم أنواع من الأطعمة كالشحوم وغيرها عقوبةً لهم على معاصيهم {مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ} أي كانت حلالاً لهم قبل نزول التوراة {قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} أي قل لهم يا محمد ائتوني بالتوراة واقرؤوها عليَّ إن كنتم صادقين في دعواكم أنها لم تحرم عليكم بسبب بغيكم وظلمكم، وقال الزمخشري: وغرضهم تكذيب شهادة الله عليهم بالبغي والظلم والصدّ عن سبيل الله فلما حاجّهم بكتابهم وبكتّهم بهتوا وانقلبوا صاغرين ولم يجسر أحد منهم على إخراج التوراة، وفي ذلك الحجة البينة على صدق النبي صلى الله عليه وسلم {فَمَنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ} أي اختلق الكذب من بعد قيام الحجة على صدق النبي صلى الله عليه وسلم {فَأُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ} أي المعتدون المكابرون بالباطل.

{قُلْ صَدَقَ اللَّهُ} أي صدق الله في كل ما أوحى إلى محمد وفي كل ما أخبر {فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ} أي اتركوا اليهودية واتبعوا ملة الإِسلام التي هي ملة إبراهيم {حَنِيفًا} أي مائلاً عن الأديان الزائفة كلها {وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} برأه مما نسبه اليهود والنصارى إليه من اليهودية والنصرانية، وفيه تعريض بإشراكهم.



منزلة الكعبة المشرَّفة وفرضية الحجّ



{إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ(96)فِيهِ ءايَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ ءامِنًا وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ(97)}



{إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ} أي أول مسجد بني في الأرض لعبادة الله المسجد الحرام الذي هو بمكة {مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ} أي وضع مباركاً كثير الخير والنفع لمن حجه واعتمره، ومصدر الهداية والنور لأهل الأرض لأنه قبلتهم، ثم عدد تعالى من مزاياه ما يستحق تفضيله على جميع المساجد فقال {فِيهِ ءايَاتٌ بَيِّنَاتٌ} أي فيه علامات واضحات كثيرة تدل على شرفه وفضله على سائر المساجد منها {مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ} وهو الذي قام عليه حين رفع القواعد من البيت، وفيه زمزم والحطيم، وفيه الصفا والمروة والحجر الأسود، أفلا يكفي برهاناً على شرف هذا البيت وأحقيته أن يكون قبلة للمسلمين؟ {وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ ءامِنًا} وهذه آية أخرى وهي أمن من دخل الحرَم بدعوة الخليل إبراهيم {رب اجعل هذا البلد ءامناً}.

{وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} أي فرضٌ لازم على المستطيع حج بيت الله العتيق {وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} أي من ترك الحج فإن الله مستغنٍ عن عبادته وعن الخلق أجمعين، وعبّر عنه بالكفر تغليظاً عليه، قال ابن عباس: من جحد فريضة الحج فقد كفر والله غني عنه.



إصرار أهل الكتاب على الكفر وصدهم عن سبيل الله

{قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ(98)قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ ءامَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجًا وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ(99)}



ثم أخذ يبكّت أهل الكتاب على كفرهم فقال {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ} أي لم تجحدون بالقرآن المنزل على محمد مع قيام الدلائل والبراهين على صدقه {وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ} أي مطلع على جميع أعمالكم فيجازيكم عليها {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} أي لم تصرفون الناس عن دين الله الحق، وتمنعون من أراد الإِيمان به؟ {تَبْغُونَهَا عِوَجًا} أي تطلبون أن تكون الطريق المستقيمة معوجّة، وذلك بتغيير صفة الرسول، والتلبيس على الناس بإيهامهم أن في الإِسلام خلالاً وعوجاً {وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ} أي عالمون بأن الإِسلام هو الحق والدين المستقيم {وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} تهديد ووعيد، وقد جمع اليهود والنصارى الوصفين: الضلال والإِضلال كما أشارت الآيتان الكريمتان فقد كفروا بالإِسلام ثم صدّوا الناس عن الدخول فيه بإلقاء الشبه والشكوك في قلوب الضعفة من الناس.

الحفاظ على الشخصية الإسلامية باتِّباع هدي الإسلام

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ(100)وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ ءايَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ(101)يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ(102)وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ ءايَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ(103)}



{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} أي إن تطيعوا طائفة من أهل الكتاب {يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ} أي يصيرّوكم كافرين بعد أن هداكم الله للإِيمان، والخطاب للأوس والخزرج إذ كان اليهود يريدون فتنتهم كما في سبب النزول، واللفظ في الآية عام.

{وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ ءايَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ} إنكار واستبعاد أي كيف يتطرق إليكم الكفر والحال أن آيات الله لا تزال تتنزّل عليكم والوحي لم ينقطع ورسول الله حيٌ بين أظهركم؟ {وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} أي من يتمسك بدينه الحق الذي بيَّنه بآياته على لسان رسوله فقد اهتدى إلى أقوم طريق، وهي الطريق الموصلة إلى جنات النعيم .

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} أي اتقوا الله تقوى حقة أو حق تقواه، قال ابن مسعود: "هو أن يطاع فلا يعصى، وأن يذكر فلا ينسى، وأن يشكر فلا يكفر" والمراد بالآية أي كما يحق أن يتقى وذلك باجتناب جميع معاصيه {وَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} أي تمسكوا بالإِسلام وعضوا عليه بالنواجذ حتى يدرككم الموت وأنتم على تلك الحالة فتموتوا على الإِسلام والمقصود الأمر بالإِقامة على الإِسلام .

{وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا} أي تمسكوا بدين الله وكتابه جميعاً ولا تتفرقوا عنه ولا تختلفوا في الدين كما اختلف من قبلكم من اليهود والنصارى {وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ} أي اذكروا إنعامه عليكم يا معشر العرب {إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا} أي حين كنتم قبل الإِسلام أعداء ألداء فألف بين قلوبكم بالإِسلام وجمعكم على الإِيمان {وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا} أي وكنتم مشرفين على الوقوع في نار جهنم فأنقذكم الله منها بالإِسلام {كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ ءايَاتِهِ} أي مثل ذلك البيان الواضح يبين الله لكم سائر الآيات {لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} أي لكي تهتدوا بها إلى سعادة الدارين.



فلاح الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، وهلاك المتفرِّقين

{وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ(104)وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ(105)يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ(106)وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ(107)تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعالَمِينَ(108)وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأمُورُ(109)}



{وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ} أي ولتقم منكم طائفة للدعوة إلى الله {وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ} أي للأمر بكل معروف والنهي عن كل منكر {وأولئك هم المفلحون} أي هم الفائزون {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ} أي لا تكونوا كاليهود والنصارى الذين تفرقوا في الدين واختلفوا فيه بسبب اتباع الهوى من بعد ما جاءتهم الآيات الواضحات {وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} أي لهم بسبب الاختلاف عذاب شديد يوم القيامة .

{يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ} أي يوم القيامة تبيض وجوه المؤمنين بالإِيمان والطاعة، وتسود وجوه الكافرين بالكفر والمعاصي {فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} هذا تفصيل لأحوال الفريقين بعد الإِجمال والمعنى أما أهل النار الذين اسودت وجوههم فيقال لهم على سبيل التوبيخ: أكفرتم بعد إيمانكم أي بعد ما وضحت لكم الآيات والدلائل {فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ} أي ذوقوا العذاب الشديد بسبب كفركم .

{وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ} أي وأما السعداء الأبرار الذين ابيضت وجوههم بأعمالهم الصالحات {فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} أي فهم في الجنة مخلدون لا يخرجون منها أبداً {تِلْكَ ءايَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ} أي هذه آيات الله نتلوها عليك يا محمد حال كونها متلبسة بالحق {وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعالَمِينَ} أي وما كان الله ليظلم أحداً ولكنَّ الناس أنفسهم يظلمون {وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ} أي الجميع ملكٌ له وعبيد {وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأمُورُ} أي هو الحاكم المتصرف في الدنيا والآخرة.



بيان خيرية الأمة الإسلامية وسوء اليهود



{كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ ءامَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ(110)لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلا أَذًى وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الأدْبَارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ(111)ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِئايَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الأنبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ(112)}



{كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} أي أنتم يا أمة محمد خير الأمم لأنكم أنفع الناس للناس ولهذا قال {أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} أي أخرجت لأجلهم ومصلحتهم، روى البخاري عن أبي هريرة قال: أي خير الناس تأتون بهم في السلاسل في أعناقهم حتى يدخلوا في الإِسلام {تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} وهذا بيان لوجه الخيرية كأنه قيل السبب في كونكم خير أمة هذه الخصال الحميدة روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال "من سرَّه أن يكون من هذه الأمة فليؤد شرط الله فيها".

ثم قال تعالى {وَلَوْ ءامَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ} أي لو آمنوا بما أنزل على محمد وصدّقوا بما جاء به لكان ذلك خيراً لهم في الدنيا والآخرة {مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ} أي منهم فئة قليلة مؤمنة كالنجاشي وعبد الله بن سلام، والكثرةُ الكثيرة فاسقة خارجة عن طاعة الله.

{لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلا أَذًى} أي لن يضروكم إلا ضرراً يسيراً بألسنتهم من سبٍّ وطعن {وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الأدْبَارَ} أي ينهزمون من غير أن ينالوا منكم شيئاً {ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ} أي ثم شأنهم الذي أبشركم به أنهم مخذولون لا ينصرون، والجملة استئنافية .

{ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا} أي لزمهم الذل والهوان أينما وجدوا وأحاط بهم كما يحيط البيت المضروب بساكنه {إِلا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ} أي إلا إذا اعتصموا بذمة الله وذمة المسلمين، قال ابن عباس: بعهدٍ من الله وعهدٍ من الناس {وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ} أي رجعوا مستوجبين للغضب الشديد من الله {وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمْ الْمَسْكَنَةُ} أي لزمتهم الفاقة والخشوع فهي محيطة بهم من جميع جوانبهم {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بئِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الأنبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ} أي ذلك الذل والصغار والغضب والدمار، بسبب جحودهم بآيات الله وقتلهم الأنبياء ظلماً وطغياناً {ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ} أي بسبب تمردهم وعصيانهم أوامر الله تعالى.



صفة بعض أهل الكتاب وثوابهم

{لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ ءايَاتِ اللَّهِ ءانَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ(113)يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الأخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُوْلَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ(114)وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ(115)}



{لَيْسُوا سَوَاءً} أي ليس أهل الكتاب مستوين في المساوئ، وهنا تمّ الكلام ثم ابتدأ تعالى بقوله {مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ} أي منهم طائفة مستقيمة على دين الله {يَتْلُونَ ءايَاتِ اللَّهِ ءانَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ} أي يتهجدون في الليل بتلاوة آيات الله حال الصلاة {يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} أي يؤمنون بالله على الوجه الصحيح {وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ} أي يدعون إلى الخير وينهون عن الشر ولا يداهنون أي يعملونها مبادرين غير متثاقلين {وَأُوْلَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ} أي وهم في زمرة عباد الله الصالحين .

{وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ} أي ما عملوا من عمل صالح فلن يضيع عند الله {وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ} أي لا يخفى عليه عمل عامل، ولا يضيع لديه أجر المتقين.



العمل بلا إيمان غير مقبول عند الله

{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنْ اللَّهِ شَيْئًا وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ(116)مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ(117)}



أخبر تعالى عن مآل الكافرين فقال {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنْ اللَّهِ شَيْئًا} أي لن تدفع عنهم أموالهم التي تهالكوا على اقتنائها ولا أولادهم الذين تفانوا في حبهم من عذاب الله شيئاً {وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} أي مخلدون في عذاب جهنم .

{مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ} أي مثل ما ينفقونه في الدنيا بقصد الثناء وحسن الذكر كمثل ريح عاصفة فيها بردٌ شديد {أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ} أي أصابت تلك الريح المدمرة زرع قوم ظلموا أنفسهم بالمعاصي فأفسدته وأهلكته فلم ينتفعوا به، فكذلك الكفار يمحق الله أعمالهم الصالحة كما يذهب هذا الزرع بذنوب صاحبه {وَمَا ظَلَمَهُمْ اللَّهُ وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} أي وما ظلمهم الله بإهلاك حرثهم ولكن ظلموا أنفسهم بارتكاب ما يستوجب العقاب.





النهي عن إطلاع الكافرين على الأسرار وبيان ما يضمرونه للمؤمنين

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمْ الآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ(118)هَاأَنْتُمْ أُوْلاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الأنَامِلَ مِنَ الغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ(119)إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ(120)}



حذر تعالى من اتخاذ المنافقين بطانة يطلعونهم على أسرارهم فقال {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ} أي لا تتخذوا المنافقين أصدقاء تودونهم وتطلعونهم على أسراركم وتجعلونهم أولياء من غير المؤمنين {لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً} أي لا يقصرون لكم في الفساد {وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ} أي تمنوا مشقتكم وما يوقعكم في الضرر الشديد {قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ} أي ظهرت أمارات العداوة لكم على ألسنتهم فهم لا يكتفون ببغضكم بقلوبهم حتى يصرحوا بذلك بأفواههم {وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ} أي وما يبطنونه لكم من البغضاء أكثر مما يظهرونه {قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ} أي وضحنا لكم الآيات الدالة على وجوب الإِخلاص في الدين، وموالاة المؤمنين ومعاداة الكافرين {إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ} أي إن كنتم عقلاء، وهذا على سبيل الهزّ والتحريك للنفوس كقولك إن كنت مؤمناً فلا تؤذ الناس وقال ابن جرير المعنى: إن كنتم تعقلون عن الله أمره ونهيه.

ثم بيّن سبحانه ما هم عليه من كراهية المؤمنين فقال {هَاأَنْتُمْ أُوْلاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ} أي هاأنتم يا معشر المؤمنين خاطئون في موالاتكم إذ تحبونهم ولا يحبونكم، تريدون لهم النفع وتبذلون لهم المحبة وهم يريدون لكم الضر ويضمرون لكم العداوة {وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ} أي وأنتم تؤمنون بالكتب المنزلة كلها وهم مع ذلك يبغضونكم، فما بالكم تحبونهم وهم لا يؤمنون بشيء من كتابكم؟ وفيه توبيخ شديد بأنهم في باطلهم أصلب منكم في حقكم {وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا ءامَنَّا} أي وهذا من خبثهم إذ يظهرون أمامكم الإِيمان نفاقاً {وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الأنَامِلَ مِنَ الغَيْظِ} أي وإذا خلت مجالسهم منكم عضوا أطراف الأصابع من شدة الحنق والغضب لما يرون من ائتلافكم، وهو كناية عن شدة الغيظ والتأسف لما يفوتهم من إذاية المؤمنين {قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ} هو دعاء عليهم أي قل يا محمد أدام الله غيظكم إلى أن تموتوا {إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} أي إن الله عالم بما تكنه سرائركم من البغضاء والحسد للمؤمنين.

ثم أخبر تعالى بما يترقبون نزوله من البلاء والمحنة بالمؤمنين فقال {إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ} أي إن أصابكم ما يسركم من رخاءٍ وخصبٍ ونصرة وغنيمة ونحو ذلك ساءتهم {وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا} أي وإن أصابكم ما يضركم من شدةٍ وحرب وهزيمةٍ وأمثال ذلك سرتهم، فبيّن تعالى بذلك فرط عداوتهم حيث يسوءهم ما نال المؤمنين من الخير ويفرحون بما يصيبهم من الشدة {وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا} أي إن صبرتم على أذاهم واتقيتم الله في أقوالكم وأعمالكم لا يضركم مكرهم وكيدهم، فشرط تعالى نفي ضررهم بالصبر والتقوى {إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} أي هو سبحانه عالم بما يُدبّرونه لكم من مكائد فيصرف عنكم شرهم ويعاقبهم عل نواياهم الخبيثة.



وصف غزوة أُحُد

{وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ(121)إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ(122)وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ(123)إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ ءالافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ(124)بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ ءالافٍ مِنْ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ(125)وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ(126)لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ(127)لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ(128)وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ(129)}



{وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ} أي اذكر يا محمد حين خرجت إلى أحد من عند أهلك {تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ} أي تنزّل المؤمنين أماكنهم لقتال عدوهم {وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} أي سميع لأقوالكم عليمٌ بأحوالكم {إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا} أي حين كادت طائفتان من جيش المسلمين أن تجبنا وتضعفنا وهمتا بالرجوع وهما "بنو سلمة" و "بنو حارثة" وذلك حين خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم لأحد بألفٍ من أصحابه فلما قاربوا عسكر الكفرة وكانوا ثلاثة آلاف انخذل "عبد الله بن أبي" بثلث الجيش وقال: علامَ نقتل أنفسنا وأولادنا؟ فهمَّ الحيان من الأنصار بالرجوع فعصمهم الله فمضوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وذلك قوله تعالى {وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا} أي ناصرهما ومتولي أمرهما {وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} أي في جميع أحوالهم وأمورهم.

ثم ذكّرهم تعالى بالنصر يوم بدر لتقوى قلوبهُم ويتسلوا عمّا أصابهم من الهزيمة يوم أحد فقال {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ} أي نصركم يوم بدر مع قلة العدد والسلاح لتعلموا أن النصر من عند الله لا بكثرة العدد والعُدد {فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} أي اشكروه على ما منَّ به عليكم من النصر {إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ ءالافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ} أي إِذ تقول يا محمد لأصحابك أما يكفيكم أن يعينكم الله بإِمداده لكم بثلاثة آلاف من الملائكة منزلين لنصرتكم {بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا} بلى تصديق للوعد أي بلى يمدكم بالملائكة إن صبرتم في المعركة واتقيتم الله وأطعتم أمره {وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا} أي يأتيكم المشركون من ساعتهم هذه {يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ ءالافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ} أي يزدكم الله مدداً من الملائكة معلَّمين على السلاح ومدربين على القتال {وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلا بُشْرَى لَكُمْ} أي وما جعل الله ذلك الإِمداد بالملائكة إلا بشارة لكم أيها المؤمنون لتزدادوا ثباتاً {وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ} أي ولتسكن قلوبكم فلا تخافوا من كثرة عدوكم وقلة عددكم {وَمَا النَّصْرُ إِلا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} أي فلا تتوهموا أن النصر بكثرة العَدَد والعُدَد، ما النصر في الحقيقة إلا بعون الله وحده، لا من الملائكة ولا من غيرهم {الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} أي الغالب الذي لا يغلب في أمره الحكيم الذي يفعل ما تقتضيه حكمته الباهرة .

{لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا} أي ذلك التدبير الإِلهي ليهلك طائفة منهم بالقتل والأسر، ويهدم ركناً من أركان الشرك {أَوْ يَكْبِتَهُمْ} أي يغيظهم ويخزيهم بالهزيمة {فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ} أي يرجعوا غير ظافرين بمبتغاهم، وقد فعل تعالى ذلك بهم في بدر حيث قتل المسلمون من صناديدهم سبعين وأسروا سبعين وأعز الله المؤمنين وأذل الشرك والمشركين {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمْرِ شَيْءٌ} هذه الآية وردت اعتراضاً وهي في قصة أحد، وذلك لما كسرت رباعيته صلى الله عليه وسلم وشُج وجهه الشريف قال: كيف يفلح قوم خضبوا وجه نبيهم بالدم؟! فنزلت {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمْرِ شَيْءٌ} أي ليس لك يا محمد من أمر تدبير العباد شيء وإنما أمرهم إلى الله {أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ} أي فالله مالك أمرهم فإما أن يهلكهم، أو يهزمهم، أو يتوب عليهم إن أسلموا، أو يعذبهم إن أصرّوا على الكفر فإنهم ظالمون يستحقون العذاب {وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} أي له جل وعلا ملك السماوات والأرض يعذب من يشاء ويغفر لمن يشاء وهو الغفور الرحيم.

إرشاد المؤمنين إلى ما ينفعهم في دنياهم وأخراهم

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ(130)وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ(131)وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ(132)}



{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً} هذا نهيٌ من الله تعالى لعباده المؤمنين عن تعاطي الربا مع التوبيخ بما كانوا عليه في الجاهلية من تضعيفه، قال ابن كثير: كانوا في الجاهلية إذا حلّ أجل الدين يقول الدائن: إمّا أن تَقْضي وإمّا أن تُرْبي! فإن قضاه وإلاَّ زاده في القدر وهكذا كلّ عام فربما تضاعف القليل حتى يصير كثيراً مضاعفاً {وَاتَّقُوا اللَّهَ} أي اتقوا عذابه بترك ما نهى عنه {لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} أي لتكونوا من الفائزين {وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} أي احذروا نار جهنم التي هيئت للكافرين {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} أي أطيعوا الله ورسوله لتكونوا من الأبرار الذين تنالهم رحمة الله.

الأمر بالمسارعة إلى مغفرة الله ، وصفات المتقين وجزاؤهم

{وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ(133)الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ(134)وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ(135)أُوْلَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ(136)}



{وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ} أي بادروا إِلى ما يوجب المغفرة بطاعة الله وامتثال أوامره {وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأرْضُ} أي وإِلى جنة واسعة عرضها كعرض السماء والأرض كما قال في سورة "الحديد" {عرضُها كعرض السماء والأرض} والغرض بيان سعتها فإِذا كان هذا عرضها فما ظنك بطولها؟ {أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} أي هيئت للمتقين لله .

{الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ} أي يبذلون أموالهم في اليسر والعسر، وفي الشدة والرخاء {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ} أي يمسكون غيظهم مع قدرتهم على الانتقام {وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ} أي يعفون عمن أساء إِليهم أو ظلمهم {وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} أي يحب المتصفين بتلك الأوصاف الجليلة وغيرها {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً} أي ارتكبوا ذنباً قبيحاً كالكبائر {أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ} بإِتيان أي ذنب {ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ} أي تذكروا عظمة الله ووعيده لمن عصاه فأقلعوا عن الذنب وتابوا وأنابوا {وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلا اللَّهُ} استفهام بمعنى النفي أي لا يغفر الذنوب إِلا الله وهي جملة اعتراضية لتطييب نفوس العباد وتنشيطهم للتوبة ولبيان أن الذنوب - وإِن جلَّت - فإِن عفوه تعالى أجل ورحمته أوسع {وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ} أي لم يقيموا على قبيح فعلهم وهم عالمون بقبحه بل يقلعون ويتوبون .

{أُوْلَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ} أي الموصوفون بتلك الصفات الحميدة جزاؤهم وثوابهم العفو عما سلف من الذنوب {وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ} أي ولهم جنات تجري خلال أشجارها الأنهار {خَالِدِينَ فِيهَا} أي ماكثين فيها أبداً {وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ} أي نعمت الجنة جزاءً لمن أطاع الله.



تعليم وتوسية للمؤمنين بعد غزوة أُحُد

{قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الأرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ(137)هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ(138)وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ(139)إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ ءامَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ(140)وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ ءامَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ(141)}



ثم ذكر تعالى تتمة تفصيل غزوة أُحد بعد تمهيد مبادئ الرشد والصلاح فقال {قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ} أي قد مضت سنة الله في الأمم الماضية بالهلاك والاستئصال بسبب مخالفتهم الأنبياء {فَسِيرُوا فِي الأرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} أي تعرفوا أخبار المكذبين وما نزل بهم لتتعظوا بما ترون من آثار هلاكهم .

{هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ} أي هذا القرآن فيه بيانٌ شاف للناس عامة {وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ} أي وهداية لطريق الرشاد وموعظة وذكرى للمتقين خاصة، وإِنما خصّ المتقين بالذكر لأنهم هم المنتفعون به دون سائر الناس، ثم أخذ يسليهم عمّا أصابهم من الهزيمة في وقعة أُحد فقال {وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا} أي لا تضعفوا عن الجهاد ولا تحزنوا على ما أصابكم من قتلٍ أو هزيمة {وَأَنْتُمُ الأعْلَوْنَ} أي وأنتم الغالبون لهم المتفوقون عليهم فإِن كانوا قد أصابوكم يوم أُحد فقد أبليتم فيهم يوم بدر {إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} أي إِن كنتم حقاً مؤمنين فلا تهنوا ولا تحزنوا .

{إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ} أي إِن أصابكم قتلٌ أو جراح فقد أصاب المشركين مثل ما أصابكم {وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} أي الأيام دول، يوم لك ويوم عليك، ويوم تُساء ويوم تُسر {وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ ءامَنُوا} أي فعل ذلك ليمتحنكم فيرى من يصبر عند الشدائد ويميز بين المؤمنين والمنافقين {وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ} أي وليكرم بعضكم بنعمة الشهادة في سبيل الله {وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} أي لا يحب المعتدين ومنهم المنافقون الذين انخذلوا عن نبيه يوم أُحد {وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ ءامَنُوا} أي ينقيهم ويطهرهم من الذنوب ويميزهم عن المنافقين {وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ} أي يهلكهم شيئاً فشيئاً.

عتاب لبعض أهل أُحُد وتوجيههم نحو الأفضل

{أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ(142)وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ(143)وَمَا مُحَمَّدٌ إِلا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِينْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ(144)وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلاً وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ(145)وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ(146)وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ(147)فَآتَاهُمْ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ(148)}



{أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ} استفهام على سبيل الإِنكار أي هل تظنون يا معشر المؤمنين أن تنالوا الجنة بدون ابتلاء وتمحيص؟ {وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ} أي ولما تجاهدوا في سبيله فيعلم الله جهادكم وصبركم على الشدائد؟ قال الطبري المعنى: أظننتم يا معشر أصحاب محمد أن تنالوا كرامة ربكم ولمّا يتبين لعبادي المؤمنين المجاهدون منكم في سبيل الله والصابرون عند البأس على ما ينالهم في ذات الله من ألم ومكروه!! .

{وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ} أي كنتم تتمنون لقاء الأعداء لتحظوا بالشهادة {مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ} أي من قبل أن تذوقوا شدته، والآية عتاب في حق من انهزم {فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ} أي رأيتموه بأعينكم حين قُتل من إِخوانكم وشارفتم أن تقتلوا، ونزل لما أشاع الكافرون أن محمداً قد قتل وقال المنافقون: إِن كان قد قتل تعالوا نرجع إِلى ديننا الأول .

{وَمَا مُحَمَّدٌ إِلا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ} أي ليس محمد إِلا رسول مضت قبله الرسل، والرسل منهم من مات ومنهم من قُتل {أَفَإِينْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ} أفإِن أماته الله أو قتله الكفار ارتددتم كفاراً بعد إِيمانكم؟ {وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا} أي ومن يرتد عن دينه فلا يضر الله، وإِنما يضر نفسه بتعريضها للسخط والعذاب {وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} أي يثيب الله المطيعين وهم الذين ثبتوا ولم ينقلبوا.

ثم أخبر تعالى أنه جعل لكل نفسٍ أجلاً لا يتقدم ولا يتأخر فقال {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ} أي بإِرادته ومشيئته {كِتَابًا مُؤَجَّلاً} أي كتب لكل نفسٍ أجلها كتاباً مؤقتاً بوقت معلوم لا يتقدم ولا يتأخر، والغرض تحريضهم على الجهاد وترغيبهم في لقاء العدو، فالجبنُ لا يزيد في الحياة، والشجاعة لا تنقص منها، والحذر لا يدفع القدر والإِنسان لا يموت قبل بلوغ أجله وإِن خاض المهالك واقتحم المعارك {وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا} أي ومن أراد بعملهِ أجر الدنيا أعطيناه منها وليس له في الآخرة من نصيب، وهو تعريض بالذين رغبوا في الغنائم، فبيّن تعالى أن حصول الدنيا للإِنسان ليس بموضع غبطة لأنها مبذولة للبر والفاجر {وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا} أي ومن أراد بعمله أجر الآخرة أعطيناه الأجر كاملاً مع ما قسمنا له من الدنيا كقوله {وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ} أي سنعطيهم من فضلنا ورحمتنا بحسب شكرهم وعملهم.

{وَكَأيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ} أي كم من الأنبياء قاتل لإِعلاء كلمة الله وقاتل معه علماء ربانيون وعُبَّاد صالحون قاتلوا فقُتل منهم من قتل {فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} أي ما جنبوا ولا ضعفت هممهم لما أصابهم من القتل والجراح {وَمَا ضَعُفُوا} عن الجهاد {وَمَا اسْتَكَانُوا} أي ما ذلّوا ولا خضعوا لعدوهم {وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ} أي يحب الصابرين على مقاساة الشدائد والأهوال في سبيل الله .

{وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا} أي ما كان قولهم في الدين مع ثباتهم وقوتهم إِلا طلب المغفرة من الله {وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا} أي وتفريطنا وتقصيرنا في واجب طاعتك وعبادتك {وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا} أي ثبتنا في مواطن الحرب {وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} أي انصرنا على الكفار {فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ} أي جمع الله لهم بين جزاء الدنيا بالغنيمة والعز والظفر والتمكين لهم بالبلاد وبين جزاء الآخرة بالجنة ونعيمها {وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} أي يحب من أحسن عمله وأخلص نيته، وخص ثواب الآخرة بالحسن إِشعاراً بفضله وأنه المعتد عند الله.



التحذير من طاعة الكافرين

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءامنوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ(149)بَلِ اللَّهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ(150)سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ(151)}



{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءامنوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا} أي إِن أطعتم الكفار والمنافقين فيما يأمرونكم به {يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ} أي يردوكم إِلى الكفر {فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ} أي ترجعوا إلى الخسران، ولا خسران أعظم من أن تتبدلوا الكفر بالإِيمان، قال ابن عباس: هم المنافقون قالوا للمؤمنين لما رجعوا من أُحد لو كان نبياً ما أصابه الذي أصابه فارجعوا إِلى إِخوانكم .

{بَلِ اللَّهُ مَوْلاكُمْ} بل للإِضراب أي ليسوا أنصاراً لكم حتى تطيعوهم بل الله ناصركم فأطيعوا أمره {وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ} أي هو سبحانه خير ناصر وخير معين فلا تستنصروا بغيره.

ثم بشر تعالى المؤمنين بإِلقاء الرعب في قلوب أعدائهم فقال {سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ} أي سنقذف في قلوبهم الخوف والفزع {بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا} أي بسبب إِشراكهم بالله وعبادتهم معه آلهة أخرى من غير حجة ولا برهان {وَمَأْوَاهُمْ النَّارُ} أي مستقرهم النار {وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ} أي بئس مقام الظالمين نار جهنم، فهم في الدنيا مرعوبون وفي الآخرة معذبون وفي الحديث (نصرت بالرعب مسيرة شهر).



أسباب هزيمة أُحُد

{وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ(152)إِذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا مَا أَصَابَكُمْ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ(153)ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الأمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الأمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ(154)إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ(155)}



{وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ} أي وفى الله لكم ما وعدكم به من النصر على عدوكم {إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ} أي تقتلونهم قتلاً ذريعاً وتحصدونهم بسيوفكم بإِرادة الله وحكمه {حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأمْرِ} أي حتى إِذا جبنتم وضعفتم واختلفتم في أمر المقام في الجبل {وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ} أي عصيتم أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بعد أن كان النصر حليفكم، وكان النبي صلى الله عليه وسلم وضع خمسين من الرماة فوق الجبل وأمرهم أن يدفعوا عن المسلمين وقال لهم: لا تبرحوا أماكنكم حتى ولو رأيتمونا تخطفتنا الطير، فلما التقى الجيشان لم تقو خيل المشركين على الثبات بسبب السهام التي أخذتهم في وجوههم من الرماة فانهزم المشركون، فلما رأى الرماة ذلك قالوا: الغنيمة الغنيمةَ ونزلوا لجمع الأسلاب، وثبت رئيسهم ومعه عشرة فجاءهم المشركون من خلف الجبل فقتلوا البقية من الرماة ونزلوا على المسلمين بسيوفهم من خلف ظهورهم فانقلب النصر إِلى هزيمة للمسلمين فذلك قوله تعالى {من بعد ما أراكم ما تحبون} أي من بعد النصر {مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا} أي الغنيمة وهم الذين تركوا الجبل {وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآخِرَةَ} أي ثواب الله وهم العشرة الذين ثبتوا في مركزهم مع أميرهم "عبد الله بن جبير" ثم استشهدوا .

{ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ} أي ردكم بالهزيمة عن الكفار ليمتحن إِيمانكم {وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ} أي صفح عنكم مع العصيان، وفيه إِعلام بأن الذنب كان يستحق أكثر مما نزل بهم لولا عفو الله عنهم ولهذا قال {وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} أي ذو مَنٍّ ونعمةٍ على المؤمنين في جميع الأوقات والأحوال .

{إِذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ} أي اذكروا يا معشر المؤمنين حين وليتم الأدبار تبعدون في الفرار ولا تلتفتون إِلى ما وراءكم ولا يقف واحد منكم لآخر {وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ} أي ومحمد صلى الله عليه وسلم يناديكم من وراءكم يقول (إِليَّ عبادَ الله، إِليَّ عباد الله، أنا رسول الله، من يكرُّ فله الجنة) وأنتم تمعنون في الفرار {فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ} أي جازاكم على صنيعكم غماً بسبب غمكم للرسول صلى الله عليه وسلم ومخالفتكم أمره {لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ} أي لكيلا تحزنوا على ما فاتكم من الغنيمة {وَلا مَا أَصَابَكُمْ} أي من الهزيمة، والغرض بيان الحكمة من الغم، وهو أن ينسيهم الحزن على ما فاتهم وما أصابهم وذلك من رحمته تعالى بهم {وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} أي يعلم المخلص من غيره .

{ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا} وهذا امتنانٌ منه تعالى عليهم أي ثم أرسل عليكم بعد ذلك الغم الشديد النعاس للسكينة والطمأنينة ولتأمنوا على أنفسكم من عدوكم فالخائف لا ينام، روى البخاري عن أنس أن أبا طلحة قال: "غشينا النعاسُ ونحن في مصافنا يوم أحد، قال فجعل سيفي يسقط من يدي وآخذه، ويسقط وآخذه" ثم ذكر سبحانه أن تلك الأمنة لم تكن عامة بل كانت لأهل الإِخلاص، وبقى أهل النفاق في خوف وفزع فقال {يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ} أي يغشى النوم فريقاً منكم وهم المؤمنون المخلصون {وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ} أي وجماعة أخرى حملتهم أنفسهم على الهزيمة فلا رغبة لهم إِلاّ نجاتها وهم المنافقون، وكان السبب في ذلك توعد المشركين بالرجوع إِلى القتال، فقعد المؤمنون متهيئين للحرب فأنزل الله عليهم الأمنة فناموا، وأما المنافقون الذين أزعجهم الخوف بأن يرجع الكفار عليهم فقد طار النوم من أعينهم من الفزع والجزع {يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ} أي يظنون بالله الظنون السيئة مثل ظنِّ أهل الجاهلية، قال ابن كثير: وهكذا هؤلاء اعتقدوا أن المشركين لما ظهروا تلك الساعة أنها الفيصلة، وأن الإِسلام قد باد وأهله، وهذا شأن أهل الريب والشك، إِذا حصل أمر من الأمور الفظيعة، تحصل لهم هذه الظنون الشنيعة.

{يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الأمْرِ مِنْ شَيْءٍ} أي ليس لنا من الأمر شيء، ولو كان لنا اختيار ما خرجنا لقتال {قُلْ إِنَّ الأمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ} أي قل يا محمد لأولئك المنافقين الأمر كله بيد الله يصرّفه كيف شاء {يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لا يُبْدُونَ لَكَ} أي يبطنون في أنفسهم ما لا يظهرون لك {يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا} أي لو كان الاختيار لنا لم نخرج فلم نُقتل ولكن أكرهنا على الخروج، وهذا تفسير لما يبطنونه، قال الزبير: أُرسل علينا النوم ذلك اليوم وإِنّي لأسمع قول "معتّب بن قشير" والنعاس يغشاني يقول: لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا ههنا .

{قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ} أي قل لهم يا محمد لو لم تخرجوا من بيوتكم وفيكم من قدّر الله عليه القتل لخرج أولئك إِلى مصارعهم، فَقَدرُ الله لا مناص منه ولا مفر {وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ} أي ليختبر ما في قلوبكم من الإِخلاص والنفاق {وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} أي ولينقّي ما في قلوبكم ويطهّره فعل بكم ذلك {وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} أي عالم بالسرائر مطّلع على الضمائر وما فيها من خير أو شر، ثم ذكر سبحانه الذين انهزموا يوم أُحد فقال {إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ} أي انهزموا منكم من المعركة {يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ} أي جمع المسلمين وجمع المشركين {إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمْ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا} أي إِنما أزلهم الشيطان بوسوسته وأوقعهم في الخطيئة ببعض ما عملوا من الذنوب وهو مخالفة أمر الرسول صلى الله عليه وسلم {وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ} أي تجاوز عن عقوبتهم وصفح عنهم {إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ} أي واسع المغفرة حليم لا يعجل العقوبة لمن عصاه.





تحذير المؤمنين من تثبيط الكافرين وبيان فضل الجهاد

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءامنوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الأرْضِ أوَ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيِ وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ(156)وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ(157)وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لإلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ(158)}



ثم نهى سبحانه عن الاقتداء بالمنافقين في أقوالهم وأفعالهم فقال {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءامنوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا} أي لا تكونوا كالمنافقين {وَقَالُوا لإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الأرْضِ} أي وقالوا لإِخوانهم من أهل النفاق إذا خرجوا في الأسفار والحروب {أَوْ كَانُوا غُزًّى} أو خرجوا غازين في سبيل الله {لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا} أي لو أقاموا عندنا ولم يخرجوا لما ماتوا ولا قتلوا، قال تعالى ردّاً عليهم {لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ} أي قالوا ذلك ليصير ذلك الاعتقاد الفاسد حسرة في نفوسهم {وَاللَّهُ يُحْيِ وَيُمِيتُ} ردٌّ على قولهم واعتقادهم أي هو سبحانه المحيي المميت فلا يمنع الموت قعود {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} أي مطلع على أعمال العباد فيجازيهم عليها.

{وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} أي استشهدتم في الحرب والجهاد {أَوْ مُتُّمْ} أي جاءكم الموت وأنتم قاصدون قتالهم {لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} أي ذلك خير من البقاء في الدنيا وجمع حطامها الفاني {وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ} أي وسواء متم على فراشكم أو قتلتم في ساحة الحرب فإِن مرجعكم إِلى الله فيجازيكم بأعمالكم، فآثروا ما يقربكم إِلى الله ويوجب لكم رضاه من الجهاد في سبيل الله والعمل بطاعته، ولله در القائل حيث يقول:

فإِن تكن الأبـدان للمـوت أُنشئت فقتل امرئٍ بالسيف في الله أفضل





رحمة النبي صلى الله عليه وسلم بأصحابه ووعدُ الله بالنصر

{فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ(159)إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ(160)}



{فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ} أي فبسبب رحمةٍ من الله أودعها الله في قلبك يا محمد كنت هيناً ليّن الجانب مع أصحابك مع أنهم خالفوا أمرك وعصوك {وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} أي لو كنت جافي الطبع قاسي القلب، تعاملهم بالغلظة والجفا، لتفرقوا عنك ونفروا منك، ولمّا كانت الفظاظة في الكلام نفى الجفاء عن لسانه والقسوة عن قلبه {فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأمْرِ} أي فتجاوز عما نالك من أذاهم يا محمد، واطلب لهم من الله المغفرة، وشاورهم في جميع أمورك ليقتدي بك الناس قال الحسن "ما شاور قومٌ قط إِلاّ هُدوا لأرشد أمورهم" وكان عليه السلام كثير المشاورة لأصحابه .

{فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} أي إِذا عقدت قلبك على أمر بعد الاستشارة فاعتمد على الله وفوّض أمرك إِليه {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} أي يحب المعتمدين عليه، المفوضين أمورهم إِليه {إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غَالِبَ لَكُمْ} أي إِن أراد الله نصركم فلا يمكن لأحدٍ أن يغلبكم {وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ} أي وإِن أراد خذلانكم وترك معونتكم فلا ناصر لكم، فمهما وقع لكم من النصر كيوم بدر أو من الخذلان كيوم أُحد بمشيئته سبحانه فالأمر كله لله، بيده العزة والنصرة والإِذلال والخذلان {وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} أي وعلى الله وحده فليلجأ وليعتمد المؤمنون.



أمانة النبي صلى الله عليه وسلم وإصلاحه للأمة

{وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ(161)أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ(162)هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ(163)لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ ءايَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ(164)}



{وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ} أي ما صحَّ ولا استقام شرعاً ولا عقلاً لنبيٍّ من الأنبياء أن يخون في الغنيمة، والنفيُ هنا نفيٌ للشأن وهو أبلغ من نفي الفعل لأنَّ المراد أنه لا يتأتّى ولا يصحُّ أن يُتصوّر فضلاً عن أن يحصل ويقع {وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} أي ومن يُخن من غنائم المسلمين شيئاً يأت حاملاً له على عنقه يوم القيامة فضيحةً له على رؤوس الأشهاد {ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ} أي تعطى جزاء ما عملت وافياً غير منقوص {وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} أي تنال جزاءها العادل دون زيادة أو نقص، فلا يزاد في عقاب العاصي، ولا ينقص من ثواب المطيع .

{أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ} أي لا يستوي من أطاع الله وطلب رضوانه، ومن عصى الله فاستحق سخطه وباء بالخسران {وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} أي مصيره ومرجعه جهنم وبئست النار مستقراً له {هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ} أي متفاوتون في المنازل، قال الطبري: هم مختلفو المنازل عند الله، فلمن اتبع رضوان الله الكرامةُ والثواب الجزيل، ولمن باء بسخطٍ من الله المهانةُ والعقاب الأليم {وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ} أي لا تخفى عليه أعمال العباد وسيجازيهم عليها.

ثمَّ ذكّر تعالى المؤمنين بالمنّة العظمى عليهم ببعثة خاتم المرسلين فقال {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ} أي والله لقد أنعم الله على المؤمنين حين أرسل إِليهم رسولاً عربياً من جنسهم، عرفوا أمره وخبروا شأنه، وخصَّ تعالى المؤمنين بالذكر وإِن كان رحمة للعالمين، لأنهم هم المنتفعون ببعثته {يَتْلُوا عَلَيْهِمْ ءايَاتِهِ} أي يقرأ عليهم الوحي المنزل {وَيُزَكِّيهِم} أي يطهرهم من الذنوب ودنس الأعمال {وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} أي يعلمهم القرآن المجيد والسنة المطهرة {وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} أي الحال والشأن أنهم كانوا قبل بعثته في ضلال ظاهر، فنقلوا من الظلمات إِلى النور، وصاروا أفضل الأمم.



بعض أخطاء المؤمنين في أُحُد، وبعض قبائح المنافقين

{أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ(165)وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ(166)وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لاتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ(167)الَّذِينَ قَالُوا لإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ(168)}



{أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ} أي أو حين أصابتكم أيها المؤمنون كارثةٌ يوم أحد فقُتل منكم سبعون {قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا} أي في بدر حيث قتلتم سبعين وأسرتم سبعين {قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا}؟ أي من أين هذا البلاء، ومن أين جاءتنا الهزيمة وقد وعدنا بالنصر، وموضع التقريع قولهم {أَنَّى هَذَا}؟ مع أنهم سبب النكسة والهزيمة {قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ} أي قل لهم يا محمد: إِن سبب المصيبة منكم أنتم بمعصيتكم أمر الرسول وحرصكم على الغنيمة {إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} أي يفعل ما يشاء لا معقب لحكمه ولا رادّ لِقضائه .

{وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ} أي وما أصابكم يوم أُحد، يوم التقى جمع المسلمين وجمع المشركين فبقضاء الله وقدره وبإِرادته الأزلية وتقديره الحكيم، ليتميّز المؤمنون عن المنافقين {وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ} أي ليعلم أهل الإِيمان الذين صبروا وثبتوا ولم يتزلزلوا {وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا} أي وليعلم أهل النفاق كعبد الله بن أُبي ابن سلول وأصحابه الذين انخذلوا يوم أُحد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجعوا وكانوا نحواً من ثلاثمائة رجل فقال لهم المؤمنون: تعالوا قاتلوا المشركين معنا أو ادفعوا بتكثيركم سوادنا {قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لاتَّبَعْنَاكُمْ} أي قال المنافقون لو نعلم أنكم تلقون حرباً لقاتلنا معكم، ولكن لا نظن أن يكون قتال {هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإيمَانِ} أي بإِظهارهم هذا القول صاروا أقرب إِلى الكفر منهم إِلى الإِيمان {يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ} أي يظهرون خلاف ما يضمرون {وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ} أي بما يخفونه من النفاق والشرك .

{الَّذِينَ قَالُوا لإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا} أي وليعلم الله أيضاً المنافقين الذين قالوا لإِخوانهم الذين هم مثلهم وقد قعدوا عن القتال {لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا} أي لو أطاعنا المؤمنون وسمعوا نصيحتنا فرجعوا كما رجعنا ما قتلوا هنالك {قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمْ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} أيقل يا محمد لأولئك المنافقين إن كان عدم الخروج ينجي من الموت فادفعوا الموت عن أنفسكم إِن كنتم صادقين في دعواكم، والغرض منه التوبيخ والتبكيت وأن الموت آتٍ إِليكم ولو كنتم في بروج مشيدة.



منزلة المجاهدين في سبيل الله عند الله، وصفاتهم في الدنيا



{وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ(169)فَرِحِينَ بِمَا ءاتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ(170)يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ(171)الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ(172) الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ(173)فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ(174)إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ(175)}



{وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا} أي لا تظنَّن الذين استشهدوا في سبيل الله لإِعلاء دينه أمواتاً لا يُحسّون ولا يتنعمون {بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} أي بل هم أحياء متنعمون في جنان الخلد يرزقون من نعيمها غدواً وعيشاً، قال الواحدي: الأصح في حياة الشهداء ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم من أن أرواحهم في أجواف طيور خضر وأنهم يُرزقون ويأكلون ويتنعمون.

{فَرِحِينَ بِمَا ءاتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} أي هم منعّمون في الجنة فرحون بما هم فيه من النعمة والغبطة {وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ} أي يستبشرون بإِخوانهم المجاهدين الذين لم يموتوا في الجهاد بما سيكونون عليه بعد الموت إِن استشهدوا فهم لذلك فرحون مستبشرون {أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} أي بأنْ لا خوف عليهم في الآخرة ولا هم يحزنون على مفارقة الدنيا لأنهم في جنات النعيم.

{يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ} أكّد استبشارهم ليذكر ما تعلّق به من النعمة والفضل والمعنى: يفرحون بما حباهم الله تعالى من عظيم كرامته وبما أسبغ عليهم من الفضل وجزيل الثواب، فالنعمة ما استحقوه بطاعتهم، والفضلُ ما زادهم من المضاعفة في الأجر {الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمْ الْقَرْحُ} أي الذين أطاعوا الله وأطاعوا الرسول من بعد ما نالهم الجراح يوم أُحد، قال ابن كثير: وهذا كان يوم "حمراء الأسد" وذلك أن المشركين لما أصابوا ما أصابوا من المسلمين كرّوا راجعين إِلى بلادهم ثم ندموا لم لا تتمّموا على أهل المدينة تجعلوها الفيصلة، فلما بلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ندب المسلمين إِلى الذهاب وراءهم ليرعبهم ويريهم أنّ بهم قوة وجَلَداً، ولم يأذن لأحدٍ سوى من حضر أحداً فانتدب المسلمون على ما بهم من الجراح والإِثخان طاعة لله عز وجل ولرسوله صلى الله عليه وسلم.

{لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ} أي لمن أطاع منهم أمر الرسول وأجابه إِلى الغزو - على ما به من جراح وشدائد - الأجرُ العظيم والثوابُ الجزيل {الَّذِينَ قَالَ لَهُمْ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا} أي الذين أرجف لهم المرجفون من أنصار المشركين فقالوا لهم: إِن قريشاً قد جمعت لكم جموعاً لا تحصى فخافوا على أنفسكم فما زادهم هذا التخويف إِلا إيماناً {وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} أي قال المؤمنون الله كافينا وحافظنا ومتولي أمرنا ونعم الملجأ والنصير لمن توكل عليه جلا وعلا {فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ} أي فرجعوا بنعمة السلامة وفضل الأجر والثواب {لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ} أي لم ينلهم مكروه أو أذى {وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ} أي نالوا رضوان الله الذي هو سبيل السعادة في الدارين {وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ} أي ذو إِحسان عظيم على العباد.

{إِنَّمَا ذَلِكُمْ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ} أي إِنما ذلكم القائل {إِن الناس قد جمعوا لكم} بقصد تثبيط العزائم هو الشيطان يخوِّف أولياءه وهم الكفار لترهبوهم {فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} أي فلا تخافوهم ولا ترهبوهم فإِني متكفل لكم بالنصر عليهم، ولكن خافوا إن كنتم مؤمنين حقاً أن تعصوا أمري فتهلكوا، والمراد بالشيطان "نعيم ابن مسعود الأَشجعي" الذي أرسله أبو سفيان ليثبط المسلمين، قال أبو حيان: وإِنما نسب إِلى الشيطان لأنه ناشيء عن وسوسته وإِغوائه وإِلقائه.



مواساة النبي صلى الله عليه وسلم بعد أُحُد، ومناقشة الكفار والبخلاء، وتمييز الخبيث من الطيب



{وَلا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا يُرِيدُ اللَّهُ أَلاَّ يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ(176)إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالإيمَانِ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ(177)وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ(178)مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ(179)وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا ءاتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ(180)}



{وَلا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ} تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم أي لا تحزن ولا تتألم يا محمد لأولئك المنافقين الذين يبادرون نحو الكفر بأقوالهم وأفعالهم، ولا تبال بما يظهر منهم من آثار الكيد للإِسلام وأهله {إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا} أي إِنهم بكفرهم لن يضروا الله شيئاً وإِنما يضرون أنفسهم {يُرِيدُ اللَّهُ أَلا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الآخِرَةِ} أي يريد تعالى بحكمته ومشيئته ألاّ يجعل لهم نصيباً من الثواب في الآخرة {وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} أي ولهم فوق الحرمان من الثواب عذاب عظيم في نار جهنم.

{إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالإيمَانِ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} أي الذين استبدلوا الكفر بالإِيمان وهم المنافقون المذكورون قبل، لن يضروا الله بكفرهم وارتدادهم ولهم عذاب مؤلم {وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لأَنْفُسِهِمْ} أي لا يظنَّن الكافرون أن إِمهالنا لهم بدون جزاء وعذاب، وإِطالتنا لأعمارهم خير لهم {إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا} أي إِنما نمهلهم ونؤخر آجالهم ليكتسبوا المعاصي فتزداد آثامهم {وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ} أي ولهم في الآخرة عذاب يهينهم .

{مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ} هذا وعدٌ من الله لرسوله بأنه سيميّز له المؤمن من المنافق والمعنى لن يترك الله المؤمنين مختلطين بالمنافقين حتى يبتليهم فيفصل بين هؤلاء وهؤلاء، كما فعل في غزوة أُحد حيث ظهر أهل الإِيمان وأهل النفاق قال ابن كثير "أي لا بدّ أن يعقد شيئاً من المحنة يظهر فيها وليُّه ويُفضح بها عدوه، يُعرف به المؤمن الصابر من المنافق الفاجر، كما ميّز بينهم يوم أُحد".

{وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ} قال الطبري: وأولى الأقوال بتأويله: أي وما كان الله ليطلعكم على قلوب عباده فتعرفوا المؤمن من المنافق والكافر، ولكنه يميز بينهم بالمحن والابتلاء كما ميّز بينهم يوم أُحد بالبأساء وجهاد عدوه {وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ} أي يختار من رسله من يشاء فيطلعهم على غيبه كما أطلع النبي صلى الله عليه وسلم على حال المنافقين {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ} أي آمنوا إِيماناً صحيحاً بأن الله وحده المطلع على الغيب وأن ما يخبر به الرسول من أمور الغيب إِنما هو بوحي من الله {وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ} أي وإِن تصدّقوا رسلي وتتقوا ربكم بطاعته فلكم ثواب عظيم .

{وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا ءاتَاهُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ} لما بالغ تعالى في التحريض على بذل النفس في الجهاد شرع هنا في التحريض على بذل المال في سبيل الله، وذكر الوعيد الشديد لمن يبخل بماله والمعنى لا يحسبنَّ البخيلُ أن جمعه المال وبخله بإِنفاقه ينفعه، بل هو مضرّة عليه في دينه ودنياه {بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ} أي ليس كما يظنون بل ذلك البخلُ شرٌّ لهم {سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} أي سيجعل الله ما بخلوا به طوقاً في أعناقهم يعذبون به يوم القيامة كما جاء في صحيح البخاري (من آتاه الله مالاً فلم يؤدّ زكاته مُثِّل لهيوم القيامة شجاعاً أقرع - أي ثعباناً عظيماً - له زبيبتان فيأخذ بلهزمتيه - يعني شدقيه - ثم يقول: أنا مالك أنا كنزك ثم تلا صلى الله عليه وسلم {وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ} الآية {وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ} أي جميع ما في الكون ملك له يعود إِليه بعد فناء خلقه {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} أي مطلع على أعمالكم.





بعض قبائح اليهود من نسبة الفقر إلى الله تعالى وتكذيبهم النبيَّ صلى الله عليه وسلم

{لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الأنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ(181)ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلامٍ لِلْعَبِيدِ(182)الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جَاءكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ(183)فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جَاءُوا بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ(184)}



{لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ} هذه المقالة الشنيعة مقالة أعداء الله اليهود عليهم لعنة الله زعموا أن الله فقير، وذلك حين نزل قوله تعالى {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا} [البقرة: 245] قالوا: إِن الله فقير يقترض منا كما قالوا {يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ} قال القرطبي: وإِنما قالوا هذا تمويهاً على ضعفائهم لا أنهم يعتقدون هذا، وغرضُهم تشكيك الضعفاء من المؤمنين وتكذيب النبي صلى الله عليه وسلم أي إِنه فقير على قول محمد لأنه اقترض منا {سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الأنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ} أي سنأمر الحفظة بكتابة ما قالوه في صحائف أعمالهم ونكتب جريمتهم الشنيعة بقتل الأنبياء بغير حق، والمراد بقتلهم الأنبياء رضاهم بفعل أسلافهم {وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ} أي ويقول الله لهم في الآخرة على لسان الملائكة: ذوقوا عذاب النار المحرقة الملتهبة .

{ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ} أي ذلك العذاب بما اقترفته أيديكم من الجرائم {وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلامٍ لِلْعَبِيدِ} أي وأنه سبحانه عادل ليس بظالم للخلق، والمراد أن ذلك العقاب حاصل بسبب معاصيكم، وعدلِ الله تعالى فيكم، قال الزمخشري: ومن العدل أن يعاقب المسيء ويثيب المحسن {الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا} أي هم الذين قالوا إِن الله أمرنا وأوصانا في التوراة {أَلا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ} أي أمرنا بأن لا نصدّق لرسول حتى يأتينا بآية خاصة وهي أن يقدّم قرباناً فتنزل نار من السماء فتأكله، وهذا افتراء على الله حيث لم يعهد إِليهم بذلك .

{قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ} أي قل لهم يا محمد توبيخاً وإِظهاراً لكذبهم: قد جاءتكم رسلٌ قبلي بالمعجزات الواضحات والحجج الباهرات الدالة على صدق نبوتهم وبالذي ادعيتم {فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} أي فلم كذبتموهم وقتلتموهم إِن كنتم صادقين في دعواكم الإِيمان بالله والتصديق برسله؟ ثم قال تعالى مسلياً لرسوله صلى الله عليه وسلم {فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ} أي لا يحزنك يا محمد تكذيب هؤلاء لك، فإِنهم إِن فعلوا ذلك فقد كذَّبت أسلافهم من قبلُ رسل الله فلا تحزن فلك بهم أسوة حسنة {جَاءُوا بِالْبَيِّنَاتِ} أي كذبوهِم مع أنهم جاءوهم بالبراهين القاطعة والمعجزات الواضحة {وَالزُّبُرِ وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ} أي بالكتب السماوية المملوءة بالحِكَم والمواعظ، والكتاب الواضح الجلي كالتوراة والإِنجيل.



الموت مصير كل نفس، والجزاء يوم القيامة، والدنيا هي دار الابتلاء

{كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنْ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلا مَتَاعُ الْغُرُورِ(185)لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأمُورِ(186)}



{كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} أي مصير الخلائق إِلى الفناء وكل نفسٍ ميّتة لا محالة كقوله {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ} [الرحمن: 26] {وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} أي تُعطون جزاء أعمالكم وافياً يوم القيامة {فَمَنْ زُحْزِحَ عَنْ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ} أي فمن نُحي عن النار وأُبْعِد عنها، وأُدخل الجنة فقد فاز بالسعادة السرمدية والنعيم المخلّد {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلا مَتَاعُ الْغُرُورِ} أي ليست الدنيا إِلا دار الفناء يستمتع بها الأحمق المغرور، قال ابن كثير: الآية فيها تصغير لشأن الدنيا وتحقير لأمرها وأنها فانية زائلة .

{لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ} أي والله لتمتحننَّ وتختبرنَّ في أموالكم بالفقر والمصائب، وفي أنفسكم بالشدائد والأمراض {وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا} أي ولينالنكم من اليهود والنصارى والمشركين - أعدائكم - الأذى الكثير، وهذا إِخبارٌ منه جلّ وعلا للمؤمنين بأنه سينالهم بلايا وأكدار من المشركين والفجّار، وأمرٌ لهم بالصبر عند وقوع ذلك لأن الجنة حفَّت بالمكاره ولهذا قال {وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا} أي وإِن تصبروا على المكاره وتتقوا الله في الأقوال والأعمال {فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ} أي الصبر والتقوى من الأمور التي ينبغي أن تعزموا وتحزموا عليها لأنها ممّا أمر الله بها.





أَخْذُ الميثاق على أهل الكتاب ومحبتهم المدح بغير حق

{وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلاً فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ(187)لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ(188)وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ(189)}



{وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} أي اذكر يا محمد حين أخذ الله العهد المؤكد على اليهود في التوراة {لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ} أي لتظهرنَّ ما في الكتاب من أحكام الله ولا تخفونها، قال ابن عباس: هي لليهود أُخذ عليهم العهد والميثاق في أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فكتموه ونبذوه {فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلاً} أي طرحوا ذلك العهد وراء ظهورهم واستبدلوا به شيئاً حقيراً من حُطام الدنيا {فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ} أي بئس هذا الشراء وبئست تلك الصفقة الخاسرة .

{لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوا} أي لا تظننَّ يا محمد الذين يفرحون بما أتوا من إِخفاء أمرك عن الناس {وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا} أي ويحبون أن يحمدهم الناس على تمسكهم بالحق وهم على ضلال {فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ} أي فلا تظننَّهم بمنجاة من عذاب الله {وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} أي عذاب مؤلم، قال ابن عباس: نزلت في أهل الكتاب سألهم النبي عن شيء فكتموه إِيّاه وأخبروه بغيره وفرحوا بما أوتوا من كتمانهم إِياه ما سألهم عنه {وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ} أي له سبحانه جميع ما في السماوات والأرض فكيف يكون من له ما في السماوات والأرض فقيراً؟ والآية ردٌّ على الذين قالوا إِن الله فقير ونحن أغنياء {وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} أي هو تعالى قادر على عقابهم.



توجيه العقول إلى التفكر في السماوات والأرض ، وبيان جزاء العاملين لله تعالى

{إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُولِي الألْبَابِ(190)الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ(191)رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ(192)رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلإيمَانِ أَنْ ءامنوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأبرَارِ(193)رَبَّنَا وَءاتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ(194)فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ(195)}

{إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ} أي إِن في خلق السموات والأرض على ما بهما من إِحكام وإِبداع {وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} أي وتعاقب الليل والنهار على الدوام {لآيَاتٍ لأُولِي الألْبَابِ} أي علامات واضحة على الصانع وباهر حكمته، ولا يظهر ذلك إِلا لذوي العقول الذين ينظرون إِلى الكون بطريق التفكر والاستدلال لا كما تنظر البهائم.

ثم وصف تعالى أولي الألباب فقال {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ} أي يذكرون الله بألسنتهم وقلوبهم في جميع الأحوال في حال القيام والقعود والاضطجاع فلا يغفلون عنه تعالى في عامة أوقاتهم، لاطمئنان قلوبهم بذكره واستغراق سرائرهم في مراقبته {وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ } أي يتدبرون في ملكوت السماوات والأرض، في خلقهما بهذه الأجرام العظام وما فيهما من عجائب المصنوعات وغرائب المبتدعات قائلين {رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً} أي ما خلقت هذا الكون وما فيه عبثاً من غير حكمة {سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} أي ننزهك يا الله عن العبث فأجرنا واحمنا من عذاب جهنم {رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ} أي من أدخلته النار فقد أذللته وأهنته غاية الإِهانة وفضحته على رؤوس الأشهاد {وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} أي ليس لهم من يمنعهم من عذاب الله، والمراد بالظالمين الكفار كما قال ابن عباس وجمهور المفسرين وقد صرح به في البقرة (254) {وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ}.

{رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلإيمَانِ} أي داعياً يدعو إِلى الإِيمان وهو محمد صلى الله عليه وسلم {أَنْ ءامنوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا} أي يقول هذا الداعي أيها الناس ءامنوا بربكم واشهدوا له بالوحدانية فصدقنا بذلك واتبعناه {رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا} أي استر لنا ذنوبنا ولا تفضحنا بها {وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا} أي امح بفضلك ورحمتك ما ارتكبناه من سيئات {وَتَوَفَّنَا مَعَ الأبْرَارِ} أي ألحقنا بالصالحين، قال ابن عباس: الذنوب هي الكبائر والسيئات هي الصغائر ويؤيده {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} [النساء: 31] فلا تكرار إِذاً .

{رَبَّنَا وَءاتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ} تكرير النداء للتضرع ولإِظهار كمال الخضوع أي أعطنا ما وعدتنا على ألسنة رسلك وهي الجنة لمن أطاع قاله ابن عباس {وَلا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ} أي لا تفضحنا كما فضحت الكفار {إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ} أي لا تخلف وعدك وقد وعدت من ءامن بالجنة.

{فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى} أي أجاب الله دعاءهم بقوله إِني لا أُبطل عمل من عمل خيراً ذكراً كان العامل أو أُنثى، قال الحسن: ما زالوا يقولون ربنا، ربنا، حتى استجاب لهم {بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ} أي الذكر من الأنثى، والأنثى من الذكر، فإِذا كنتم مشتركين في الأصل فكذلك أنتم مشتركون في الأجر {فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ} أي هجروا أوطانهم فارين بدينهم، وألجأهم المشركون إِلى الخروج من الديار {وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي} أي تحملوا الأذى من أجل دين الله {وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا} أي وقاتلوا أعدائي وقتلوا في سبيلي {لأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ} أي الموصوفون بما تقدم لأمحونَّ ذنوبهم بمغفرتي ورحمتي {وَلأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} أي ولأدخلنهم جنات النعيم جزاءً من عند الله على أعمالهم الصالحة {وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ} أي عنده حسن الجزاء وهي الجنة التي فيها ما لا عينٌ رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر.





جزاء الكافرين والأتقياء ومؤمني أهل الكتاب



{لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ(196)مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ(197)لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلاً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلأَبْرَارِ(198)وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ لا يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلاً أُوْلَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ(199)يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءامنوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ(200)}



ثم نبه تعالى إِلى ما عليه الكفار في هذه الدار من النعمة والغبطة والسرور، وبيّن أنه نعيم زائل فقال {لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ} أي لا يخدعنك أيها السامع تنقل الذين كفروا في البلاد طلباً لكسب الأموال والجاه والرتب {مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ} أي إِنما يتنعمون بذلك قليلاً ثم يزول هذا النعيم، ومصيرهم في الآخرة إِلى النار، وبئس الفراش والقرار نار جهنم. {لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا} أي لكن المتقون لله لهم النعيم المقيم في جنات النعيم مخلدين فيها أبداً {نُزُلاً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} أي ضيافة وكرامة من عند الله {وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلأبْرَارِ} أي وما عند الله من الثواب والكرامة للأخيار الأبرار، خير مما يتقلب فيه الأشرار الفجار من المتاع القليل الزائل.

ثم أخبر تعالى عن إِيمان بعض أهل الكتاب فقال {وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ} أي ومن اليهود والنصارى فريق يؤمنون بالله حق الإِيمان، ويؤمنون بما أنزل إِليكم وهو القرآن، وبما أنزل إِليهم وهو التوراة والإِنجيل كعبد الله بن سلام وأصحابه، والنجاشي وأتباعه {خَاشِعِينَ لِلَّهِ} أي خاضعين متذللين لله {لا يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلاً} أي لا يحرّفون نعت محمد ولا أحكام الشريعة الموجودة في كتبهم لعرضٍ من الدنيا خسيس كما فعل الأحبار والرهبان {أُوْلَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ} أي ثواب إِيمانهم يعطونه مضاعفاً كما قال {أولئك يُؤتون أجرهم مرتين} {إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} أي سريعٌ حسابُه لنفوذ علمه بجميع المعلومات، يعلم ما لكل واحدٍ من الثواب والعقاب، قال ابن عباس والحسن: نزلت في النجاشي وذلك أنه لما مات نعاه جبريل لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه: قوموا فصلوا على أخيكم النجاشي فقال بعضهم لبعض: يأمرنا أن نصلي على علج من علوج الحبشة فأنزل الله {وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ} [آل عمران: 199].

ثم ختم تعالى السورة الكريمة بهذه الوصية الجامعة لسعادة الدارين فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءامنوا اصْبِرُوا} أي اصبروا على مشاقّ الطاعات وما يصيبكم من الشدائد {وَصَابِرُوا} أي غالبوا أعداء الله بالصبر على أهوال القتال وشدائد الحروب {وَرَابِطُوا} أي لازموا ثغوركم مستعدين للكفاح والغزو {وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} أي خافوا الله فلا تخالفوا أمره لتفوز بسعادة الدارين.

yacine414
2011-03-26, 10:33
سورة النساء



وحدة الأصل الإنساني

ضوابط التصرف بمال اليتيم وحرمة التعدي عليه

إباحة تعدد الزوجات ووجوب إيتاء المهر

الحجر على السفهاء والصغار وعدم تسليم المال إليهم قبل الرشد

على من تُقْسَمُ تركة الميت؟

آيات المواريث

حدود الله تعالى

جزاء ارتكاب الفاحشة في بداية التشريع الإِسلامي

التوبة ووقت قَبولها

معاملة النساء في الإِسلام

المحرَّمات من النساء في الإسلام

حرمة الزواج بالمتزوجات واشتراط المهر للزواج

شروط الزواج بالأَمَةِ وعقوبة فاحشتها

بيانٌ وتوبةٌ وتخفيفٌ من الله تعالى على المؤمنين

تحريم أكل أموال الناس بالباطل ومبدأ الرضا في العقود

جزاء اجتناب الكبائر

النهي عن الحسد

إعطاء الورثة حقهم من التركة

قوامة الرجال على النساء

توجيهات ربانية: توحيد الله، والإحسان إلى الوالدين والأقارب والجيران، والتحذير من الرياء

إن الله لا يُنْقص أحداً حسناته ولا يزيد في سيئاته

التدرّج في تحريم الخمر وتشريع التيمم عند فقد الماء

مكابرة اليهود وعدم انصياعهم للحق

أمرٌ لأهل الكتاب أن يؤمنوا بالقرآن قبل أن يُلعَنوا

سعة مغفرة الله تعالى

نماذج من افتراءات اليهود وجزاؤهم عليها

عقاب الكافرين وثواب المؤمنين

الأمر بأداء الأمانة والحكم بالعدل وإطاعة الله ورسوله وولاة الأمور

مزاعم المنافقين ومواقفهم

وجوب طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم

والتزام أوامر الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم

جزاء طاعة الله ورسوله

قواعد القتال الشرعية

فرض القتال امتحان للإيمان

طاعة الرسول طاعةٌ لله، والتدبر في القرآن يرشد إلى أنه من عند الله

إذاعة الأخبار من غير تأكُّد من صحتها مفسَدَةٌ

تحريض المؤمنين على الجهاد في سبيل الله

الشفاعة الحسنة، وردّ التحية وإثبات البعث

أوصاف المنافقين وكيفية معاملتهم

جزاء القتل الخطأ والقتل العمد

الحرص على التثبُّت في الأحكام

التفاضل بين المجاهدين والقاعدين عن الجهاد

هجرة المستضعفين

قصر الصلاة في السفر وصلاة الخوف

الجهاد والصبر عند الشدائد

القضاء بالحق والعدل

حالات النجوى الخيِّرة، والتحذير من مخالفة الرسول صلى الله عليه وسلم

التحذير من الشرك والشيطان وطرق إغوائه، وجزاء الإيمان والعمل الصالح

استحقاق الجنة ليس بالأماني، والعبرة بحسن العمل

التحذير من ظلم النساء في مِيراثهن، والصلح بين الزوجين بسبب النشوز، والعدل بين النساء

حقيقة الملك وكمال القدرة والمشيئة لله تعالى وثواب الدنيا والآخرة

العدل في القضاء والشهادة بحق، والإيمان بالله والرسول والكتب السماوية

صفات المنافقين وجزاؤهم مواقفهم من المؤمنين

بعض مواقف المنافقين وعقابهم والنهي عن موالاة الكافرين

الجهر بالسوء والعفو عنه، وإبداء الخير وإخفاؤه

جزاء الكفر والإيمان

من مواقف اليهود المتعنتة

عاقبة ظلم اليهود وارتكابهم المنهي عنه، وثواب المؤمنين منهم

وحدة الوحي الإلهي والحكمة من إرسال الرسل

جزاء الكافرين والدعوة للإيمان بالرسول صلى الله عليه وسلم

الرد على ضلالات النصارى وإفراطهم في تعظيم المسيح

دعوة الناس للإيمان بالقرآن

ميراث الكلالة: الإخوة والأخوات لأب وأم أو لأب





بَيْن يَدَيْ السُّورَة





*سورة النساء إحدى السور المدنية الطويلة، وهي سورة مليئة بالأحكام الشرعية، التي تنظم الشؤون الداخلية والخارجية للمسلمين، وهي تُعنى بجانب التشريع كما هو الحال في السور المدنية، وقد تحدثت السورة الكريمة عن أمور هامة تتعلق بالمرأة، والبيت، والأسرة، والدولة، والمجتمع، ولكنَّ معظم الأحكام التي وردت فيها كانت تبحث حول موضوع النساء ولهذا سميت " سورة النساء"‍‍



تحدثت السورة الكريمة عن حقوق النساء والأيتام- وبخاصة اليتيمات- في حجور الأولياء والأوصياء، فقررت حقوقهن في الميراث والكسب والزواج، واستنقذتهن عن عسف الجاهلية وتقاليدها الظالمة المهنية.



*وتعرضت لموضوع المرأة فصانت كرامتها، وحفظت كيانها، ودعت إلى إنصافها بإعطائها حقوقها التي فرضها الله تعالى لها كالمهر،والميراث، وإحسان العشرة.



*كما تعرضت بالتفصيل إلى ((أحكام المواريث)) على الوجه الدقيق العادل، الذي يكفل العدالة ويحقق المساواة، وتحدثت عن المحرمات من النساء ((بالنسب، والرضاع، والمصاهرة)).



*وتناولت السورة الكريمة تنظيم العلاقات الزوجية وبينت أنها ليست علاقة جسد وإنما علاقة إنسانية، وأن المهر ليس أجراً ولا ثمناً، إنما هو عطاء يوثق المحبة، ويديم العشرة، ويربط القلوب.



*ثم تناولت حق الزوج على الزوجة، وحق الزوجة على زوجها، وأرشدت إلى الخطوات التي ينبغي أن يسلكها الرجل لإصلاح الحياة الزوجية، عندما يبدأ الشقاق والخلاف بين الزوجين، وبيّنت معنى (( قوامة الرجل)) وأنها ليست قوامة استعباد وتسخير، وإنما هي قوامة نصحٍ وتأديب كالتي تكون بين الراعي والرعية.



*ثم انتقلت من دائرة الأسرة إلى ((دائرة المجتمع)) فأمرت بالإحسان في كل شيء، وبيّنت أن أساس الإحسان التكافل والتراحم، والتناصح والتسامح، والأمانة والعدل، حتى يكون المجتمع راسخ البنيان قوي الأركان.



*ومن الإصلاح الداخلي انتقلت الآيات إلى الاستعداد للأمن الخارجي الذي يحفظ على الأمة استقرارها وهدوءها، فأمرت بأخذ العدّة لمكافحة الأعداء.



*ثم وضعت بعض قواعد المعاملات الدولية بين المسلمين والدول الأخرى المحايدة أو المعادية.



*واستتبع الأمر بالجهاد حملة ضخمة على المنافقين، فهم نابتة السوء وجرثومة الشر التي ينبغي الحذر منها، وقد تحدثت السورة الكريمة عن مكايدهم وخطرهم.



*كما نبهت إلى خطر أهل الكتاب وبخاصة اليهود وموقفهم من رسل الله الكرام.

*ثم ختمت السورة الكريمة ببيان ضلالات النصارى في أمر المسيح عيسى بن مريم حيث غالوا فيه حتى عبدوه ثم صلبوه مع اعتقادهم بألوهيته، واخترعوا فكرة التثليث فأصبحوا كالمشركين الوثنيّين، وقد دعتهم الآيات إلى الرجوع عن تلك الضلالات إلى العقيدة السمحة الصافية((عقيدة التوحيد)) وصدق الله حيث يقول: {وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ}.



التسمية: سميت "سورة النساء" لكثرة ما ورد فيه من أحكام التي تتعلق بهن، بدرجة لم توجد في غيرها من السور ولذلك أُطلق عليها (( سورة النساء الكبرى)) في مقابلة ((سورة النساء الصغرى)) التي عرفت في القرآن بسورة الطلاق.





وحدة الأصل الإنساني



{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا(1)}



افتتح الله جل ثناؤه سورة النساء بخطاب الناس جميعاً ودعوتهم إِلى عبادة الله وحده لا شريك له، منبهاً لهم على قدرته ووحدانيته فقال {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ} أي خافوا الله الذي أنشأكم من أصلٍ واحد وهو نفس أبيكم آدم {وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا} أي أوجد من تلك النفس الواحدة زوجها وهي حواء {وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً} أي نشر وفرّق من آدم وحواء خلائق كثيرين ذكوراً وإِناثاً .

{وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَتَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ} أي خافوا الله الذي يناشد بعضكم بعضاً به حيث يقول: أسألك بالله، وأنشدك بالله، واتقوا الأرحام أن تقطعوها {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} أي حفيظاً مطلعاً على جميع أحوالكم وأعمالكم، وقد أكد تعالى الأمر بتقوى الله في موطنين: في أول الآية، وفي آخرها ليشير إِلى عظم حق الله على عباده، كما قرن تعالى بين التقوى وصلة الرحم ليدل على أهمية هذه الرابطة الإِنسانية، فالناس جميعاً من أصل واحد، وهم إِخوة في الإِنسانية والنسب، ولو أدرك الناس هذا لعاشوافي سعادة وأمان، ولما كانت هناك حروب طاحنة مدمرة تلتهب الأخضر واليابس، وتقضي على الكهل والوليد.



ضوابط التصرف بمال اليتيم وحرمة التعدي عليه



{وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا(2)}



ثم ذكر تعالى اليتامى فأوصى بهم خيراً وأمر بالمحافظة على أموالهم فقال {وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ} أي أعطوا اليتامى الذين مات آباؤهم وهم صغار أموالهم إِذا بلغوا {وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ} أي لا تستبدلوا الحرام وهو مال اليتامى بالحلال وهو مالكم {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ} أي لا تخلطوا أموال اليتامى بأموالكم فتأكلوها جميعاً {إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا} أي ذنباً عظيماً، فإِن اليتيم بحاجة إِلى رعاية وحماية لأنه ضعيف، وظلم الضعيف ذنب عظيم عند الله.



إباحة تعدد الزوجات ووجوب إيتاء المهر



{وَإِنْ خِفْتُمْ أَلا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلا تَعُولُوا(3)وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا(4)}



ثم أرشد تعالى إِلى ترك التزوج من اليتيمة إِذا لم يعطها مهر المثل فقال {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى} أي إِذا كانت تحت حَجْر أحدكم يتيمة وخاف ألا يعطيها مهر مثلها فليتركها إِلى ما سواها فإِن النساء كثير ولم يضيّق الله عليه {فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ} أي انكحوا ما شئتم من النساء سواهنَّ إِن شاء أحدكم اثنتين وإِن شاء ثلاثاً وإِن شاء أربعاً.

{فَإِنْ خِفْتُمْ أَلا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً} أي إِن خفتم من عدم العدل بين الزوجات فالزموا الاقتصار على واحدة {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} أي اقتصروا على نكاح الإِماء لملك اليمين إِذ ليس لهن من الحقوق كما للزوجات {ذَلِكَ أَدْنَى أَلا تَعُولُوا} أي ذلك الاقتصار على نكاح الإِماء لملك اليمين أقرب ألا تميلوا وتجوروا {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً} أي أعطوا النساء مهورهنّ عطيةً عن طيب نفسٍ {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا} أي فإِن طابت نفوسهن بهبة شيءٍ من الصَّداق {فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا} أي فخذوا ذلك الشيء الموهوب حلالاً طيباً.



الحجر على السفهاء والصغار وعدم تسليم المال إليهم إلا عند الرشد



{وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمْ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفًا(5)وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا(6)}



{وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمْ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا} أي لا تعطوا المبذرين من اليتامى أموالهم التي جعلها الله قياماً للأبدان ولمعايشكم فيضيعوها. قال ابن عباس: السفهاء هم الصبيان والنساء. وقال الطبري: لا تؤتِ سفيهاً ماله وهو الذي يفسده بسوء تدبيره، صبياً كان أو رجلاً، ذكراً كان أو أنثى {وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ} أي أطعموهم منها واكسوهم {وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفًا} أي قولاً ليناً كقولكم إِذا رَشَدْتم سلمنا إِليكم أموالكم.

{وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ} أي اختبروا اليتامى حتى إِذا بلغوا سنَّ النكاح وهو بلوغ الحلم الذي يصلحون عنده للنكاح {فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} أي إِن أبصرتم منهم صلاحاً في دينهم ومالهم فادفعوا إِليهم أموالهم بدون تأخير {وَلا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا} أي لا تسرعوا في إِنفاقها وتبذّروها قائلين ننفق كما نشتهي قبل أن يكبر اليتامى فينتزعوها من أيدينا {وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ} أي من كان منكم غنياً أيها الأولياء فليعف عن مال اليتيم ولا يأخذ أجراً على وصايته {وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ} أي ومن كان فقيراً فليأخذ بقدر حاجته الضرورية وبقدر أجرة عمله.

{فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ} أي فإِذا سلمتم إِلى اليتامى أموالهم بعد بلوغهم الرشد فأشهدوا على ذلك لئلا يجحدوا تسليمها {وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا} أي كفى بالله محاسباً ورقيباً.



على من تُقْسَمُ تركة الميت؟



{لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا(7)وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُوْلُوا الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفًا(8)وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا(9)إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا(10)}



ثم بيّن تعالى أن للرجال والنساء نصيباً من تركة الأقرباء فقال {لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ} أي للأولاد والأقرباء حظ من تركة الميت كما للبنات والنساء حظ أيضاً الجميع فيه سواء يستوون في أصل الوارثة وإِن تفاوتوا في قدرها، وسببها أن بعض العرب كانوا لا يورّثون النساء والأطفال وكانوا يقولون: إنما يرث من يحارب ويذبُّ عن الحوزة فأبطل الله حكم الجاهلية {مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ} أي سواء كانت التركة قليلة أو كثيرة { نَصِيبًا مَفْرُوضًا} أي نصيباً مقطوعاً فرضه الله بشرعه العادل وكتابه المبين .

{وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُوْلُوا الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ} أي إِذا حضر قسمة التركة الفقراء من قرابة الميت واليتامى والمساكين من غير الوارثين فأعطوهم شيئاً من هذه التركة تطييباً لخاطرهم {وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفًا} أي قولاً جميلاً بأن تعتذروا إِليهم أنه للصغار وأنكم لا تملكونه {وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ} نزلت في الأوصياء أي تذكر أيها الوصي ذريتك الضعاف من بعدك وكيف يكون حالهم وعامل اليتامى الذين في حَجْرك بمثل ما تريد أن يُعامل به أبناؤك بعد فقدك {فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا} أي فليتقوا الله في أمر اليتامى وليقولوا لهم ما يقولونه لأولادهم من عبارات العطف والحنان.

{إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا} أي يأكلونها بدون حق {إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا} أي ما يأكلون في الحقيقة إِلا ناراً تتأجج في بطونهم يوم القيامة {وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا} أي سيدخلون ناراً هائلة مستعرة وهي نار السعير.



آيات المواريث



{يُوصِيكُمْ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا فَرِيضَةً مِنْ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا(11)وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمْ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوْ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنْ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ(12)}



{يُوصِيكُمْ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ} أي يأمركم الله ويعهد إِليكم بالعدل في شأن ميراث أولادكم {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ} أي للابن من الميراث مثل نصيب البنتين {فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ} أي إِن كان الوارث إِناثاً فقط اثنتين فأكثر {فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ} أي فللبنتين فأكثر ثلثا التركة {وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ} أي وإِن كانت الوارثة بنتاً واحدة فلها نصف التركة ..بدأ تعالى بذكر ميراث الأولاد. ثم ذكر ميراث الأبوين لأن الفرع مقدم في الإِرث على الأصل فقال تعالى {وَلأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ} أي للأب السدس وللأم السدس {مِمَّا تَرَكَ} أي من تركة الميت {إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ} أي إِن وجد للميت ابن أو بنت لأن الولد يطلق على الذكر والأنثى {فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ} أي فإِن لم يوجد للميت أولاد وكان الوارث أبواه فقط أو معهما أحد الزوجين {فَلأُمِّهِ الثُّلُثُ} أي فللأم ثلث المال أو ثلث الباقي بعد فرض أحد الزوجين والباقي للأب {فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلأُمِّهِ السُّدُسُ} أي فإِن وجد مع الأبوين إِخوة للميت "اثنان فأكثر" فالأم ترث حينئذٍ السدس فقط والباقي للأب، والحكمة أن الأب مكلف بالنفقة عليهم دون أمهم فكانت حاجته إِلى المال أكثر {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ} أي إِن حق الورثة يكون بعد تنفيذ وصية الميت وقضاء ديونه فلا تقسم التركة إِلا بعد ذلك .

{آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا فَرِيضَةً مِنْ اللَّهِ} أي إِنه تعالى تولّى قسمة المواريث بنفسه وفرض الفرائض على ما علمه من الحكمة، فقسم حيث توجد المصلحة وتتوفر المنفعة ولو ترك الأمر إِلى البشر لم يعلموا ما هو أنفع لهم فيضعون الأموال على غير حكمة ولهذا أتبعه بقوله {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا} أي إنه تعالى عليم بما يصلح لخلقه حكيم فيما شرع وفرض .

ثم ذكر تعالى ميراث الزوج والزوجة فقال {وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ} أي ولكم أيها الرجال نصف ما ترك أزواجكم من المال إِن لم يكن لزوجاتكم أولاد منكم أو من غيركم {فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمْ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ} أي من ميراثهن، وألحق بالولد في ذلك ولد الإِبن بالإِجماع {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ} أي من بعد الوصية وقضاء الدين {وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ} أي ولزوجاتكم واحدة فأكثر الربع مما تركتم من الميراث إِن لم يكن لكم ولد منهن أو من غيرهن .

{فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ} أي فإِن كان لكم ولد منهن أو من غيرهن فلزوجاتكم الثمن مما تركتم من المال {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ} وفي تكرير ذكر الوصية والدين من الاعتناء بشأنهما ما لا يخفي. {وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً} أي وإِن كان الميت يورث كلالة أي لا والد له ولا ولد وورثه أقاربه البعيدون لعدم وجود الأصل أو الفرع {أَوْ امْرَأَةٌ} عطف على رجل والمعنى أو امرأةٌ تورث كلالة {وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ} أي وللمورّث أخ أو أخت من أم {فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ} أي فللأخ من الأم السدس وللأخت للأم السدس أيضاً .

{فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ} أي فإِن كان الإِخوة والأخوات من الأم أكثر من واحد فإِنهم يقتسمون الثلث بالسوية ذكورهم وإِناثهم في الميراث سواء، قال في البحر: وأجمعوا على أن المراد في هذه الآية الإِخوة للأم {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ} أي بقصد أن تكون الوصية للمصلحة لا بقصد الإِضرار بالورثة أي في حدود الوصية بالثلث لقوله عليه السلام (الثلث والثلث كثير) {وَصِيَّةً مِنْ اللَّهِ} أي أوصاكم الله بذلك وصية {وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ} أي عالم بما شرع حليم لا يعاجل العقوبة لمن خالف أمره.



حدود الله تعالى



{تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ(13)وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ(14)}



{تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ} أي تلك الأحكام المذكورة شرائع الله التي حدّها لعباده ليعملوا بها ولا يعتدوها {وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ} أي من يطع أمر الله فيما حكم وأمر رسوله فيما بيّن، يدخله جنات النعيم التي تجري من تحت أشجارها وأبنيتها الأنهار {خَالِدِينَ فِيهَا} أي ماكثين فيها أبداً {وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} أي الفلاح العظيم {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ} أي ومن يعص أمر الله وأمر الرسول ويتجاوز ما حدّه تعالى له من الطاعات {يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا} أي يجعله مخلداً في نار جهنم لا يخرُج منها أبداً {وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ} أي وله عذاب شديد مع الإِهانة والإِذلال والعذاب والنكال.



جزاء ارتكاب الفاحشة في بداية التشريع الإِسلامي



{وَاللاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً(15)وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّابًا رَحِيمًا(16)}



{وَاللاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ} أي اللواتي يزنين من أزواجكم فاطلبوا أن يشهد على اقترافهن الزنا أربعة رجال من المسلمين الأحرار {فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ} أي فإِن ثبتت بالشهود جريمتهن فاحبسوهن في البيوت {حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ} أي احبسوهنَّ فيها إِلى الموت {أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً} أي يجعل الله لهنَّ مخلصاً بما يشرعه من الأحكام، قال ابن كثير: كان الحكم في ابتداء الإِسلام أن المرأة إِذا ثبت زناها بالبيِّنة العادلة حُبست في بيت فلا تُمكَّن من الخروج منه إِلى أن تموت، حتى أنزل الله سورة النور فنسخها بالجلد أو الرجم .

{وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ} أي واللذان يفعلان الفاحشة والمراد الزاني والزانية بطريق التغليب {فَآذُوهُمَا} أي بالتوبيخ والتقريع والضرب بالنعال {فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا} أي فإِن تابا عن الفاحشة وأصلحا سيرتهما فكفّوا عن الإِيذاء لهما {إِنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّابًا رَحِيمًا} أي مبالغاً في قبول التوبة واسع الرحمة. قال الفخر الرازي: "خص الحبس في البيت بالمرأة وخص الإِيذاء بالرجل لأن المرأة إِنما تقع في الزنا عند الخروج والبروز فإِذا حبست في البيت انقطعت مادة هذه المعصية، وأما الرجل فإِنه لا يمكن حبسه في البيت لأنه يحتاج إِلى الخروج في إِصلاح معاشه واكتساب قوت عياله فلا جرم جعلت عقوبتهما مختلفة".





التوبة ووقت قَبولها



{إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُوْلَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا(17)وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ المَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُوْلَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا(18)}



{إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ} أي إِنما التوبة التي كتب الله على نفسه قبولها هي توبة من فعل المعصية سفهاً وجهالة مقدِّراً قبح المعصية وسوء عاقبتها ثم ندم وأناب {ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ} أي يتوبون سريعاً قبل مفاجأة الموت {فَأُوْلَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} أي يتقبل الله توبتهم {وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا} أي عليماً بخلقه حكيماً في شرعه.

{وَلَيْسَتْ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمْ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ} أي وليس قبول التوبة ممن ارتكب المعاصي واستمر عليها حتى إِذا فاجأه الموت تاب وأناب فهذه توبة المضطر وهي غير مقبولة وفي الحديث (إِن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر) {وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ} أي يموتون على الكفر فلا يُقبل إِيمانهم عند الاحتضار {أُوْلَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} أي هيأنا وأعددنا لهم عذاباً مؤلماً.



معاملة النساء في الإِسلام



{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا(19)وَإِنْ أَرَدْتُمْ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنطَارًا فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا(20)وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا(21)}



{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا} أي لا يحل لكم أن تجعلوا النساء كالمتاع ينتقل بالإِرث من إِنسان إِلى آخر وترثوهن بعد موت أزواجهن كرهاً عنهن، قال ابن عباس: كانوا في الجاهليةُ إِذا مات الرجل كان أولياؤه أحقَّ بامرأته إِن شاءوا تزوجها أحدهم، وإِن شاءوا زوجوها غيرهم، وإن شاءوا منعوها الزواج {وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ} أي ولا يحل لكم أن تمنعوهن من الزواج أو تضيقوا عليهن لتذهبوا ببعض ما دفعتموه لهن من الصَّداق {إِلا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} أي إِلا في حال إِتيانهن بفاحشة الزنا،وقال ابن عباس: الفاحشة المبينة النشوز والعصيان .

{وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} أي صاحبوهن بما أمركم الله به من طيب القول والمعاملة بالإِحسان {فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا} أي فإِن كرهتم صحبتهن فاصبروا عليهن واستمروا في الإِحسان إِليهن فعسى أن يرزقكم الله منهن ولداً صالحاً تَقَرُّ به أعينكم، وعسى أن يكون في الشيء المكروه الخير الكثير وفي الحديث الصحيح (لا يَفْركْ "أي لا يبغض" مؤمنٌ مؤمنة إِن كره منها خُلُقاً رضي منها آخر) .

ثم حذّر تعالى من أخذ شيء من المهر بعد الطلاق فقال {وَإِنْ أَرَدْتُمْ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ} أي وإِن أردتم أيها المؤمنون نكاح امرأة مكان امرأة طلقتموها {وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنطَارًا} أي والحال أنكم كنتم قد دفعتم مهراً كبيراً يبلغ قنطاراً {فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا} أي فلا تأخذوا ولو قليلاً من ذلك المهر {أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا} استفهام إِنكاري أي أتأخذونه باطلاً وظلماً؟

{وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ} أي كيف يباح لكم أخذه وقد استمعتم بهن بالمعاشرة الزوجية؟ {وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا} أي أخذن منكم عهداً وثيقاً مؤكداً هو "عقد النكاح" قال مجاهد: الميثاق الغليظ عقدة النكاح وفي الحديث (اتقوا الله في النساء فإِنكم أخذتموهن بأمانة الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله).



المحرَّمات من النساء في الإسلام



{وَلا تَنكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنْ النِّسَاءِ إِلا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلاً(22)حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالاتُكُمْ وَبَنَاتُ الأَخِ وَبَنَاتُ الأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمْ اللاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنْ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمْ اللاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمْ اللاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلائِلُ أَبْنَائِكُمْ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ إِلا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا(23)}



{وَلا تَنكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنْ النِّسَاءِ إِلا مَا قَدْ سَلَفَ} أي لا تتزوجوا ما تزوج آباؤكم من النساء لكن ما سبق فقد عفا الله عنه {إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا} أي فإِن نكاحهن أمر قبيح قد تناهى في القبح والشناعة، وبلغ الذروة العليا في الفظاعة والبشاعة، إِذا كيف يليق بالإِنسان أن يتزوج امرأة أبيه وأن يعلوها بعد وفاته وهي مثل أمه؟ {وَسَاءَ سَبِيلاً} أي بئس ذلك النكاح القبيح الخبيث طريقاً.

ثم بيّن تعالى المحرمات من النساء فقال {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} أي حُرّم عليكم نكاح الأمهات وشمل اللفظ الجدات من قبل الأب أو الأم {وَبَنَاتُكُمْ} وشمل بنات الأولاد وإِن نزلن {وَأَخَوَاتُكُمْ} أي شقيقة كانت أو لأب أو لأم {وَعَمَّاتُكُمْ} أي أخوات آبائكم وأخوات أجدادكم {وَخَالاتُكُمْ وَبَنَاتُ الأَخِ وَبَنَاتُ الأُخْتِ} أي بنت الأخ وبنت الأخت ويدخل فيهن أولادهن، وهؤلاء المحرمات بالنسب وهنَّ كما تقدم "الأمهات، البنات، الأخوات، العمات، الخالات، بنات الأخ، بنات الأخت" ثم شرع تعالى في ذكر المحرمات من الرضاع فقال {وَأُمَّهَاتُكُمْ اللاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنْ الرَّضَاعَةِ} نزّل الله الرضاعة منزلة النسب حتى سمّى المرضعة أماً للرضيع أي كما يحرم عليك أمك التي ولدتك، كذلك يحرم عليك أمك التي أرضعتك، وكذلك أختك من الرضاع، ولم تذكر الآية من المحرمات بالرضاع سوى "الأمهات والأخوات" وقد وضحت السنة النبوية أن المحرمات بالرضاع سبع كما هو الحال في النسب لقوله عليه السلام (يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب).

ثم ذكر تعالى المحرمات بالمصاهرة فقال {وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ} أي وكذلك يحرم نكاح أم الزوجة سواء دخل بالزوجة أو لم يدخل لأن مجرد العقد على البنت يحرم الأم {وَرَبَائِبُكُمْ اللاتِي فِي حُجُورِكُمْ} أي بنات أزواجكم اللاتي ربيتموهن، وذكرُ الحجر ليس للقيد وإِنما هو للغالب لأن الغالب أنها تكون مع أمها ويتولى الزوج تربيتها وهذا بالإِجماع {مِنْ نِسَائِكُمْ اللاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} الدخول هنا كناية عن الجماع أي من نسائكم اللاتي أدخلتموهن الستر قاله ابن عباس فإِن لم تكونوا أيها المؤمنون قد دخلتم بأمهاتهن وفارقتموهن فلا جناح عليكم في نكاح بناتهن {وَحَلائِلُ أَبْنَائِكُمْ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ} أي وحُرم عليكم نكاح زوجات أبنائكم الذين ولدتموهم من أصلابكم بخلاف من تبنيتموهم فلكم نكاح حلائلهم {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ إِلا مَا قَدْ سَلَفَ} أي وحُرّم عليكم الجمع بين الأختين معاً في النكاح إِلا ما كان منكم في الجاهلية فقد عفا الله عنه {إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا} أي غفوراً لما سلف رحيماً بالعباد.



حرمة الزواج بالمتزوجات واشتراط المهر للزواج



{وَالْمُحْصَنَاتُ مِنْ النِّسَاءِ إِلا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا(24)}



{وَالْمُحْصَنَاتُ مِنْ النِّسَاءِ إِلا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} أي وحرّم عليكم نكاح المتزوجات من النساء إِلا ما ملكتموهن بالسبي فيحل لكم وطؤهنَّ بعد الاستبراء ولو كان لهنَّ أزواج في دار الحرب لأن بالسبي تنقطع عصمة الكافر {ولا تمسكوا بعِصم الكوافر} {كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ} أي هذا فرض الله عليكم {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} أي أُحل لكم نكاح ما سواهنّ {أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ} أي إِرادة أن تطلبوا النساء بطريق شرعي فتدفعوا لهن المهور حال كونكم متزوجين غير زانين {فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً} أي فما تلذذتم به من النساء بالنكاح فآتوهنَّ مهورهن فريضةً فرضها الله عليكم بقوله {وآتوا النساء صدقاتهن نحلة}.

ثم قال تعالى {وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ} أي لا إِثم عليكم فيما أسقطن من المهر برضاهن كقوله {فإِن طبن لكم عن شيء منه نفساً فكلوه هنيئاً مريئاً} قال ابن كثير : أي إِذا فرضت لها صداقاً فأبرأتك منه أو عن شيء منه فلا جناح عليك ولا عليها في ذلك {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا} أي عليماً بمصالح العباد حكيماً فيما شرع لهم من الأحكام.



شروط الزواج بالأَمَةِ وعقوبة فاحشتها



{وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمْ الْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَانكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنْ الْعَذَابِ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ(25)}



{وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ} أي من لم يكن منكم ذا سعة وقدرة أن يتزوج الحرائر المؤمنات {فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمْ الْمُؤْمِنَاتِ} أي فله أن ينكح من الإِماء المؤمنات اللاتي يملكهن المؤمنون {وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ} جملة معترضة لبيان أنه يكفي في الإِيمان معرفة الظاهر والله يتولى السرائر {بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ} أي إِنكم جميعاً بنو آدم ومن نفسٍ واحدة فلا تستنكفوا من نكاحهن فرب أمة خير من حرة، وفيه تأنيس لهم بنكاح الإِماء فالعبرةُ بفضل الإِيمان لا بفضل الأحساب والأنساب .

{فَانكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أهْلِهِنَّ} أي تزوجوهن بأمر أسيادهن وموافقة مواليهن {وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} أي ادفعوا لهن مهورهن عن طيب نفسٍ ولا تبخسوهن منه شيئاً استهانة بهن لكونهن إِماء مملوكات {مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ} أي عفيفات غير مجاهرات بالزنى {وَلا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ} أي ولا متسترات بالزنى مع أخدانهن، قال ابن عباس: الخِدنُ هو الصديق للمرأة يزني بها سراً فنهى الله تعالى عن الفواحش ما ظهر منها وما بطن.

{فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنْ الْعَذَابِ} أي فإِذا أُحصنَّ بالزواج ثم زنين فعليهن نصف ما على الحرائر من عقوبة الزنى {ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ} أي إِنما يباح نكاح الإِماء لمن خاف على نفسه الوقوع في الزنى {وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ} أي صبركم وتعففكم عن نكاحهن أفضل لئلا يصير الولد رقيقاً وفي الحديث (من أراد أن يلقى الله طاهراً مطهراً فلينكح الحرائر) {وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} أي واسع المغفرة عظيم الرحمة.



بيانٌ وتوبةٌ وتخفيفٌ من الله تعالى على المؤمنين



{يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ(26)وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيمًا(27)يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا(28)}



{يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ} أي يريد الله أن يفصّل لكم شرائع دينكم ومصالح أموركم {وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} أي يرشدكم إِلى طرائق الأنبياء الصالحين لتقتدوا بهم {وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ} أي يقبل توبتكم فيما اقترفتموه من الإِثم والمحارم {وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} أي عليم بأحوال العباد حكيم في تشريعه لهم.

{وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ} كرّره ليؤكد سعة رحمته تعالى على العباد أي يحب بما شرع من الأحكام أن يطهركم من الذنوب والآثام، ويريد توبة العبد ليتوب عليه {وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيمًا} أي ويريد الفجرة أتباع الشيطان أن تعدلوا عن الحق إِلى الباطل وتكونوا فسقة فجرة مثلهم {يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ} أي يريد تعالى بما يسَّر أن يسهّل عليكم أحكام الشرع {وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا} أي عاجزاً عن مخالفة هواه لا يصبر عن إِتباع الشهوات.



تحريم أكل أموال الناس بالباطل ومبدأ الرضا في العقود



{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا(29)وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا(30)}



ثم حذر تعالى من أكل أموال الناس بالباطل فقال {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} أي يا أيها الذين صدقوا الله ورسوله لا يأكل بعضكم أموال بعض بالباطل وهو كل طريق لم تبحه الشريعة كالسرقة والخيانة والغصب والربا والقمار وما شاكل ذلك {إِلا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} أي إِلا ما كان بطريق شرعي شريف كالتجارة التي أحلها الله، قال ابن كثير: الاستثناء منقطع أي لا تتعاطوا الأسباب المحرمة في اكتساب الأموال لكن المتاجر المشروعة التي تكون عن تراضٍ من البائع والمشتري فافعلوها {وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} أي لا يسفك بعضكم دم بعض، والتعبير عنه بقتل النفس للمبالغة في الزجر، أو هو على ظاهره بمعنى الانتحار وذلك من رحمته تعالى بكم {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا} أي ومن يرتكب ما نهى الله عنه معتدياً ظالماً لا سهواً ولا خطأً {فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا} أي ندخله ناراً عظيمة يحترق فيها {وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا} أي هيناً يسيراً لا عسر فيه لأنه تعالى لا يعجزه شيء.



جزاء اجتناب الكبائر



{إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيمًا(31)}



{إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} أي إِن تتركوا أيها المؤمنون الذنوب الكبائر التي نهاكم الله عز وجل عنها نمح عنكم صغائر الذنوب بفضلنا ورحمتنا {وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيمًا} أي نُدخلكم الجنة دار الكرامة والنعيم، التي فيها ما لا عينٌ رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر!.



النهي عن الحسد



{وَلا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا(32)}



{وَلا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ} أي لا تتمنوا أيها المؤمنون ما خصّ الله تعالى به غيركم من أمر الدنيا أو الدين ذلك يؤدي إِلى التحاسد والتباغض، قال الزمخشري: نهُوا عن الحسد وعن تمني ما فضل الله به بعض الناس على بعض من الجاه والمال لأن ذلك التفضيل قسمة من الله صادرة عن حكمة وتدبير وعلم بأحوال العباد.

{لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ} أي لكلٍ من الفريقين في الميراث نصيبٌ معين المقدار، قال الطبري: كلٌ له جزاء على عمله بحسبه إِن خيراً فخير وإِن شراً فشر {وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ} أي وسلوا الله من فضله يعطكم فإِنه كريم وهاب {إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا} أي ولذلك جعل الناس طبقات ورفع بعضهم درجات.



إعطاء الورثة حقهم من التركة



{وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا(33)}



{وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ} أي ولكل إِنسانٍ جعلنا عصبةً يرثون ماله ممّا تركه الوالدان والأقارب من الميراث {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ} أي والذين حالفتموهم في الجاهلية على النصرة والإِرث فأعطوهم حظهم من الميراث، وقد كان هذا في ابتداء الإِسلام ثم نسخ، قال الحسن: كان الرجل يحالف الرجل ليس بينهما نسبٌ فيرث أحدُهما الآخر فنسخ الله ذلك بقوله {وأولوا الأرحام بعضُهم أولى ببعض} وقال ابن عباس: كان المهاجرون حين قدموا المدينة يرث المهاجريُّ الأنصاريَّ دون ذوي رحمه بالأخوة التي آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهم فلما نزلت {وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ} نسخ التوراة بين المهاجرين والأنصار {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا} أي مطلعاً على كل شيء وسيجازيكم عليه.



قوامة الرجال على النساء



{الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ وَاللاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا(34)وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلاحًا يُوَفِّقْ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا(35)}



ثم بيّن تعالى أن الرجال يتولون أمر النساء في المسؤولية والتوجيه فقال {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ} أي قائمون عليهن بالأمر والنهي، والإِنفاق والتوجيه كما يقوم الولاة على الرعية {بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ} أي بسبب ما منحهم الله من العقل والتدبير، وخصهم به من الكسب والإِنفاق، فهم يقومون على النساء بالحفظ والرعاية والإِنفاق والتأديب، قال أبو السعود: "والتفضيلُ للرجل لكمال العقل وحسن التدبير ورزانة الرأي ومزيد القوة، ولذلك خصوا بالنبوة والإِمامة والولاية والشهادة والجهاد وغير ذلك" .

{فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ} هذا تفصيل لحال النساء تحت رياسة الرجل، وقد ذكر تعالى أنهن قسمان : قسم صالحات مطيعات، وقسم عاصيات متمردات، فالنساء الصالحات مطيعات لله ولأزواجهن، قائمات بما عليهن من حقوق، يحفظن أنفسهن عن الفاحشة وأموال أزواجهن عن التبذير كما أنهن حافظات لما يجري بينهن وبين أزواجهن مما يجب كتمه ويجمل ستره وفي الحديث (إِن من شر الناس عند الله منزلةً يوم القيامة، الرجلُ يُفْضي إِلى امرأته وتُفْضي إِليه ثم ينشر أحدهما سرَّ صاحبه) .

{وَاللاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ} هذا القسم الثاني وهنَّ النساء العاصيات المتمردات أي واللاتي يتكبرن ويتعالين عن طاعة الأزواج فعليكم أيها الرجال أن تسلكوا معهن سبل الإِصلاح {فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنّ َفِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ} أي فخوفوهنَّ الله بطريق النصح والإِرشاد، فإِن لم ينجح الوعظ والتذكير فاهجروهنَّ في الفراش فلا تكلموهن ولا تقربوهن، قال ابن عباس: الهجر ألا يجامعها وأن يضاجعها على فراشها ويوليها ظهره، فإِن لم يرتدعن فاضربوهن ضرباً غير مبرّح {فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً} أي فإِن أطعن أمركم فلا تلتمسوا طريقاً لإِيذائهن {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا} أي فإِن الله تعالى أعلى منكم وأكبر وهو وليهن ينتقم ممن ظلمهن وبغى عليهن .. انظر كيف يعلمنا سبحانه أن نؤدب نسائنا وانظر إِلى ترتيب العقوبات ودقتها حيث أمرنا بالوعظ ثم بالهجران ثم بالضرب ضرباً غير مبرح ثم ختم الآية بصفة العلو والكبر لينبه العبد على أن قدرة الله فوق قدرة الزوج عليها وأنه تعالى عون الضعفاء وملاذ المظلومين !! .

{وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا} أي وإِن خشيتم أيها الحكام مخالفةً وعداوةً بين الزوجين فوجهوا حكماً عدلاً من أهل الزوج وحكماً عدلاً من أهل الزوجة يجتمعان فينظران في أمرهما ويفعلان ما فيه المصلحة {إِنْ يُرِيدَا إِصْلاحًا يُوَفِّقْ اللَّهُ بَيْنَهُمَا} أي إِن قصدا إِصلاح ذات البين وكانت نيتهما صحيحة وقلوبهما ناصحة لوجه الله، بورك في وساطتها وأوقع الله بين الزوجين الوفاق والألفة وألقى في نفوسهما المودة والرحمة {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا} أي عليماً بأحوال العباد حكيماً في تشريعه لهم.



توجيهات ربانية: توحيد الله، والإحسان إلى الوالدين والأقارب والجيران،

والتحذير من الرياء



{وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالاً فَخُورًا(36)الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا(37)وَالَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَنْ يَكُنْ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاءَ قَرِينًا(38)وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمْ اللَّهُ وَكَانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيمًا(39)}



{وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} أي وحدوه وعظموه ولا تشركوا به شيئاً من الأشياء صنماً أو غيره، واستوصوا بالوالدين برّاً وإِنعاماً وإِحساناً وإِكراماً {وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ} أي واحسنوا إِلى الأقارب عامة وإِلى اليتامى والمساكين خاصة {وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى} أي الجار القريب فله عليك حق الجوار وحق القرابة {وَالْجَارِ الْجُنُبِ} أي الجار الأجنبي الذي لا قرابة بينك وبينه {وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ} قال ابن عباس: هو الرفيق في السفر، وقال الزمخشري: "هو الذي صحبك إِما رفيقاً في سفر، أو جاراً ملاصقاً، أو شريكاً في تعلم علم، أو قاعداً إِلى جنبك في مجلس أو غير ذلك، من له أدنى صحبةٍ التأمت بينك وبينه فعليك أن ترعى ذلك الحق ولا تنساه وقيل: هي المرأة" {وَابْنِ السَّبِيلِ} أي المسافر الغريب الذي انقطع عن بلده وأهله {وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} أي المماليك من العبيد والإِماء {إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالاً فَخُورًا} أي متكبراً في نفسه يأنف عن أقاربه وجيرانه فخوراً على الناس مترفعاً عليهم يرى أنه خير منهم، وهذه آية جامعة جاءت حثاً على الإِحسان واستطراداً لمكارم الأخلاق، ومن تدبرها حق التدبر أغنتْه عن كثير من مواعظ البلغاء، ونصائح الحكماء.

ثم بين تعالى صفات هؤلاء الذين يبغضهم الله فقال {الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ} أي يمنعون ما أوجب الله عليهم من الإِنفاق في سبيل الله ويأمرون غيرهم بترك الأنفاق، والآية في اليهود نزلت في جماعة منهم كانوا يقولون للأنصار لا تنفقوا أموالكم في الجهاد والصدقات، وهي مع ذلك عامة {وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} أي يخفون ما عندهم من المال والغنى، ويخفُون نعته عليه السلام الموجود في التوراة {وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا} أي هيأنا للجاحدين نعمة الله عذاباً أليماً مع الخزي والإِذلال لهم.

{وَالَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ} أي ينفقونها للفخار والشهرة لا ابتغاء وجه الله {ولا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر} أي ولا يؤمنون الإِيمان الصحيح بالله واليوم الآخر، والآية في المنافقين { وَمَنْ يَكُنْ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاءَ قَرِينًا} أي من كان الشيطان صاحباً له وخليلاً يعمل بأمره فساء هذا القرين والصاحب {وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمْ اللَّهُ} الاستفهام للإِنكار والتوبيخ أي ماذا يضيرهم وأي تبعةٍ ووبالٍ عليهم في الإِيمان بالله والإِنفاق في سبيله؟ قال الزمخشري: وهذا كما يقال للمنتقم: ما ضرك لو عفوت؟ وللعاقّ: ما كان يرزؤك لو كنت باراً؟ وهو ذم وتوبيخ وتجهيل بمكان المنفعة {وَكَانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيمًا} وعيد لهم بالعقاب أي سيجازيهم بما عملوا.



إن الله لا يُنْقص أحداً حسناته ولا يزيد في سيئاته



{إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُنْ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا(40) فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا(41)يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوْا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمْ الأَرْضُ وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا(42)}



{إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ} أي لا يبخس أحداً من عمله شيئاً ولو كان وزن ذرة وهي الهباءة وذلك على سبيل التمثيل تنبيهاً بالقليل على الكثير {وَإِنْ تَكُنْ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا} أي وإِن كانت تلك الذرة حسنة ينمّها ويجعلها أضعافاً كثيرة {وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا} أي ويعط من عنده تفضلاً وزيادة على ثواب العمل أجراً عظيماً وهو الجنة .

{فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا} أي كيف يكون حال الكفار والفجار حين نأتي من كل أمةٍ بينها يشهد عليها، ونأتي بك يا محمد على العصاة والمكذبين من أمتك تشهد عليهم بالجحود والعصيان؟! كيف يكون موقفهم؟ وكيف يكون حالهم؟ والاستفهام هنا للتوبيخ والتقريع.

{يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوْا الرَّسُولَ} أي في ذلك اليوم العصيب يتمنى الفجار الذين جحدوا وحدانية الله وعصوا رسوله {لَوْ تُسَوَّى بِهِمْ الأَرْضُ} أي لو يدفنوا في الأرض ثم تُسوّى بهم كما تُسوَّى بالموتى، أو لو تنشق الأرض فتبتلعهم ويكونون تراباً كقوله {يوم ينظر المرء ما قدمت يداه ويقول الكافر يا ليتني كنتُ تراباً} وذلك لما يرون من أهوال يوم القيامة {وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا} أي لا يستطيعون أن يكتموا الله حديثاً لأن جوارحهم تشهد عليهم بما فعلوه.



التدرّج في تحريم الخمر وتشريع التيمم عند فقد الماء



{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلا جُنُبًا إِلا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنْ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمْ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا(43)}



ثم أمر تعالى باجتناب الصلاة في حال السكر والجنابة فقال {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} أي لا تصلوا في حالة السكر لأن هذه الحالة لا يتأتى معها الخشوع والخضوع بمناجاته سبحانه وتعالى، وقد كان هذا قبل تحريم الخمر روى الترمذي عن علي كرم الله وجهه أنه قال "صنع لنا عبد الرحمن بن عوف طعاماً فدعانا وسقانا من الخمر، فأخذت الخمر منا، وحضرت الصلاة فقدموني، فقرأت: "قل يا أيها الكافرون * لا أعبد ما تعبدون* ونحن نعبد ما تعبدون" فأنزل الله:

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى} الآية {وَلا جُنُبًا إِلا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا} أي ولا تقربوها وأنتم جنب أي غير طاهرين بإِنزال أو إِيلاج إِلا إِذا كنتم مسافرين ولم تجدوا الماء فصلوا على تلك الحالة بالتيمم {وَإِنْ كُنتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنْ الْغَائِطِ} أي وإِن كنتم مرضى ويضركم الماء، أو مسافرين وأنتم محدثون أو أحدثتم ببولٍ أو غائطٍ ونحوهما حدثاً أصغر ولم تجدوا الماء {أَوْ لامَسْتُمْ النِّسَاءَ} قال ابن عباس: هو الجماع {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً} أي فلم تجدوا الماء الذي تتطهرون به {فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ} أي اقصدوا عند عدم وجود الماء التراب الطاهر فتطهروا به وامسحوا وجوهكم وأيديكم بذلك التراب {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا} أي يرخّص ويسهّل على عباده لئلا يقعوا في الحرج.



مكابرة اليهود وعدم انصياعهم للحق



{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنْ الْكِتَابِ يَشْتَرُونَ الضَّلالَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ(44)وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيرًا(45)مِنْ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِنْ لَعَنَهُمْ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلا قَلِيلاً(46)}



{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنْ الْكِتَابِ} الاستفهام للتعجيب من سوء حالهم والتحذير عن موالاتهم أي ألم تنظر يا محمد إِلى الذين أعطوا حظاً من علم التوراة وهم أحبار اليهود {يَشْتَرُونَ الضَّلالَةَ} أي يختارون الضلالة على الهدى ويؤثرون الكفر على الإِيمان {وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ} أي ويريدون لكم يا معشر المؤمنين أن تضلوا طريق الحق لتكونوا مثلهم {وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ} أي هو تعالى أعلم بعداوة هؤلاء اليهود الضالِّين منكم فاحذروهم {وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيرًا} أي حسبكم أن يكون الله ولياً وناصراً لكم فثقوا به واعتمدوا عليه وحده فهو تعالى يكفيكم مكرهم .

ثم ذكر تعالى طرفاً من قبائح اليهود اللعناء فقال {مِنْ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ} أي من هؤلاء اليهود فريق يبدّلون كلام الله في التوراة ويفسرونه بغير مراد الله قصداً وعمداً فقد غيرّوا نعت محمد صلى الله عليه وسلم وأحكام الرجم وغير ذلك {وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا} أي ويقولون لك إِذا دعوتهم للإِيمان سمعنا قولك وعصينا أمرك، قال مجاهد: سمعنا ما قلته يا محمد ولا نطيعك فيه، وهذا أبلغ في الكفر والعناد {وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ} أي اسمع ما نقول لا سمعتَ والكلام ذو وجهين يحتمل الخير والشر وأصله للخير أي لا سمعتَ مكروهً ولكنَّ اليهود الخبثاء كانوا يقصدون به الدعاء على الرسول صلى الله عليه وسلم أي لا أسمعكَ الله وهو دعاء بالصمم أو بالموت {وَرَاعِنَا} أي ويقولون في أثناء خطابهم راعنا وهي كلمة سبّ من الرعونة وهي الحُمْق، فكانوا سخريةً وهزؤاً برسول الله صلى الله عليه وسلم يكلمونه بكلام محتمل ينوون به الشتيمة والإِهانة ويظهرون به التوقير والإِكرام ولهذا قال تعالى {لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ} أي فتلاً وتحريفاً عن الحق إِلى الباطل وقدحاً في الإِسلام، قال ابن عطية: وهذا موجود حتى الآن في اليهود وقد شاهدناهم يربّون أولادهم الصغار على ذلك ويحفظونهم ما يخاطبون به المسلمين مما ظاهره التوقير ويريدون به التحقير.

{وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} أي عوضاً من قولهم سمعنا وعصينا {وَاسْمَعْ وَانظُرْنَا} أي عوضاً عن قولهم غير مسمع وراعنا أي لو أن هؤلاء اليهود قالوا للرسول صلى الله عليه وسلم ذلك القول اللطيف بدل ذلك القول الشنيع {لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَقْوَمَ} أي لكان ذلك القول خيراً لهم عند الله وأعدل وأصوب {وَلَكِنْ لَعَنَهُمْ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلا قَلِيلاً} أي أبعدهم الله عن الهدى وعن رحمته بسبب كفرهم السابق فلا يؤمنون إِلا إِيماناً قليلاً، قال الزمخشري: أي ضعيفاً ركيكاً لا يُعبأ به وهو إِيمانهم ببعض الكتب والرسل.



أمرُ أهل الكتاب أن يؤمنوا بالقرآن قبل أن يُلعَنوا



{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً(47)}



ثم توعدهم تعالى بالطمس وإِذهاب الحواس فقال {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا} أي يا معشر اليهود آمنوا بالقرآن الذي نزلناه على محمد صلى الله عليه وسلم {مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ} أي مصدقاً للتوراة {مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا} أي نطمس منها الحواس من أنفٍ أو عين أو حاجب حتى تصير كالأدبار، وهذا تشويه عظيم لمحاسن الإِنسان وهو قول ابن عباس {أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ} أي نمسخهم كما مسخنا أصحاب السبت وهم الذين اعتدوا في السبت فمسخهم الله قردة وخنازير {وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً} أي إِذا أمر بأمر فإِنه نافذ كائن لا محالة.



سعة مغفرة الله تعالى



{إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا(48)}



{إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} أي لا يغفر الشرك ويغفر ما سوى ذلك من الذنوب لمن شاء من عباده {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا} أي من أشرك بالله فقد اختلق إِثماً عظيماً، قال الطبري: قد أبانت هذه الآية أن كل صاحب كبيرة ففي مشيئة الله إِن شاء عفا عنه وإِن شاء عاقبه عليها ما لم تكن كبيرته شركاً بالله.



نماذج من افتراءات اليهود وجزاؤهم عليها



{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنفُسَهُمْ بَلْ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً(49)انظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَكَفَى بِهِ إِثْمًا مُبِينًا(50)أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً(51)أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا(52)أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذًا لا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا(53)أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا(54)فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا(55)}



ثم ذكر تعالى تزكية اليهود أنفسهم مع كفرهم وتحريفهم الكتاب فقال {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنفُسَهُمْ} أي ألم يبلغك خبر هؤلاء الذين يمدحون أنفسهم ويصفونها بالطاعة والتقوى؟ والاستفهام للتعجيب من أمرهم، قال قتادة: ذلكم أعداء الله اليهود زكُّوا أنفسهم فقالوا {نحن أبناء الله وأحباؤه} وقالوا: لا ذنوب لنا {بَلْ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ} أي ليس الأمر بتزكيتهم بل بتزكية الله فهو أعلم بحقائق الأمور وغوامضها يزكي المرتضين من عباده وهم الأطهار الأبرار لا اليهود الأشرار {وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً} أي لا ينقصون من أعمالهم بقدر الفتيل وهو الخيط الذي في شق النواة وهو مثلٌ للقلة كقوله {إِن الله لا يظلم مثقال ذرة} .

{انظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ} هذا تعجيب من افترائهم وكذبهم أي انظر يا محمد كيف اختلقوا على الله الكذب في تزكيتهم أنفسهم وادعائهم أنهم أبناء الله وأحباؤه؟ {وَكَفَى بِهِ إِثْمًا مُبِينًا} أي كفى بهذا الأفتراء وزراً بيناً وجرماً عظيماً {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنْ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ} الاستفهام للتعجيب والمراد بهم أيضاً اليهود أُعطوا حظاً من التوراة وهم مع ذلك يؤمنون بالأوثان والأصنام وكلّ ما عبد من دون الرحمن {وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلاءِ أَهْدَى مِنْ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً} أي يقول اليهود لكفار قريش أنتم أهدى سبيلاً من محمد وأصحابه، قاله ابن كثير: يفضّلون الكفار على المسلمين بجهلهم وقلة دينهم وكفرهم بكتاب الله الذي بأيديهم قال تعالى إِخباراً عن ضلالهم {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمْ اللَّهُ} أي طردهم وأبعدهم عن رحمته {وَمَنْ يَلْعَنْ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا} أي من يطرده من رحمته فمن ينصره من عذاب الله ويمنع عنه آثار اللعنة وهو العذاب العظيم؟ {أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنْ الْمُلْكِ} أي أم لهم حظٌ من الملك؟ وهذا على وجه الإِنكار يعني ليس لهم من الملك شيء {فَإِذًا لا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا} أي لو كان لهم نصيب من الملك فإِذاً لا يؤتون أحداً مقدار نقير لفرط بخلهم، والنقير مثلٌ في القلة كالفتيل والقطمير وهو النكتة في ظهر النواة، ثم انتقل إِلى خصلة ذميمة أشد من البخل فقال {أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} قال ابن عباس: حسدوا النبي صلى الله عليه وسلم على النبوة وحسدوا أصحابه على الإِيمان والمعنى: بل أيحسدون النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين على النبوة التي فضل الله بها محمداً وشرّف بها العرب ويحسدون المؤمنين على ازدياد العز والتمكين؟ { فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا} أي فقد أعطينا أسلافكم من ذرية إِبراهيم النبوة وأنزلنا عليهم الكتب وأعطيناهم الملك العظم مع النبوة كداود وسليمان فلأي شيء تخصون محمداً صلى الله عليه وسلم بالحسد دون غيره ممن أنعم الله عليهم؟ والمقصود الرد على اليهود في حسدهم للنبي صلى الله عليه وسلم وإِلزام لهم بما عرفوه من فضل الله على آل إِبراهيم .

{فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ} أي من اليهود من آمن بمحمد صلى الله عليه وسلم وهم قلة قليلة ومنهم من أعرض فلم يؤمن وهم الكثرة كقوله {فمنهم مهتدٍ وكثيرٌ منهم فاسقون} {وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا} أي كفى بالنار المسعّرة عقوبة لهم على كفرهم وعنادهم.



عقاب الكافرين وثواب المؤمنين



{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا(56)وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلاً ظَلِيلاً(57)}



ثم أخبر تعالى بما أعده للكفرة الفجرة من الوعيد والعذاب الشديد فقال {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا} أي سوف ندخلهم ناراً عظيمة هائلة تشوي الوجوه والجلود {كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ} أي كلما انشوت جلودهم واحترقت احتراقاً تاماً بدلناهم جلوداً غيرها ليدوم لهم ألم العذاب، قال الحسن البصري: تُنْضجهم النار في اليوم سبعين ألف مرة كلما أكلتهم قيل لهم عودوا فعادوا كما كانوا، وقال الربيع: جلد أحدهم أربعون ذراعاً، وبطنُه لو وضع فيه جبل لوسعه، فإِذا أكلت النار جلودهم بدلوا جلوداً غيرها وفي الحديث (يعظم أهل النار في النار حتى إِن بين شحمة أذن أحدهم إِلى عاتقه مسيرة سبعمائة عام، وإِن غلظ جلده سبعون ذراعاً وإِن ضرسه مثل أحد) {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا} أي عزيز لا يمتنع عليه شيء حكيم لا يعذّب إِلا بعدل .

{وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا} هذا إِخبار عن مآل السعداء أي سندخلهم جنات تجري فيها الأنهار في جميع فجاجها وأرجائها حيث شاءوا وأين أرادوا مقيمين في الجنة لا يموتون { لَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ} أي لهم في الجنة زوجات مطهرات من الأقذار والأذى، قال مجاهد: مطهرات من البول والحيض والنخام والبزاق والمني والولد {وَنُدْخِلُهُمْ ظِلاً ظَلِيلاً} أي ظلاً دائماً لا تنسخه الشمس ولا حر فيه ولا برد، قال الحسن: وُصف بأنه ظليل لأنه لا يدخله ما يدخل ظل الدنيا من الحرّ والسموم، وفي الحديث (إِن في الجنة لشجرة يسير الراكب في ظلها مائة عام لا يقطعها).





الأمر بأداء الأمانة والحكم بالعدل وإطاعة الله ورسوله وولاة الأمور



{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا(58)يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاُ(59)}



{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} الخطاب عام لجميع المكلفين كما الأمانات تعم جميع الحقوق المتعلقة بالذمم سواءً كانت حقوق الله أو العباد، قال الزمخشري: الخطاب عام لكل أحد في كل أمانة، والمعنى يأمركم الله أيها المؤمنون بأداء الأمانات إِلى أربابها، قال ابن كثير: يأمر تعالى بأداء الأمانات إِلى أهلها وهو يعم جميع الأمانات الواجبة على الإِنسان من حقوق الله عز وجل على عباده من الصلاة والزكاة والصيام والكفارات وغيرها، ومن حقوق العباد بعضهم على بعض كالودائع وغيرها {وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} أي ويأمركم أن تعدلوا بين الناس في أحكامكم {إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ} أي نعم الشيء الذي يعظكم به {إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا} فيه وعدٌ ووعيد أي سميع لأقوالكم بصير بأفعالكم .

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأمْرِ مِنْكُمْ} أي أطيعوا الله وأطيعوا رسوله بالتمسك بالكتاب والسنة، وأطيعوا الحكام إِذا كانوا مسلمين متمسكين بشرع الله إِذ لا طاعة لمخلوقٍ في معصية الخالق، وفي قوله {مِنْكُمْ} دليل على أن الحكام الذين تجب طاعتهم يجب أن يكونوا مسلمين حسّاً ومعنى، لحماً ودماً، ولا يكفي أن يكونوا مسلمين صورة وشكلاً {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} أي فإِن اختلفتم في أمرٍ من الأمور فاحتكموا فيه إِلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم {إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} أي إِن كنتم مؤمنين حقاً وهو شرط حذف جوابه لدلالة ما سبق أي فردوه إِلى الله والرسول والغرض منه الحث على التمسك بالكتاب والسنة كما يقول القائل: إِن كنت ابني فلا تخالفني {ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاُ} أي الرجوع إِلى كتاب الله وسنة رسوله خير لكم وأصلح وأحسن عاقبة ومآلاً.



مزاعم المنافقين ومواقفهم



{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاُ بَعِيدًا(60)وإذا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا(61)فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا(62)أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنفُسِهِمْ قَوْلاُ بَلِيغًا(63)}



ثم ذكر تعالى صفات المنافقين الذين يدّعون الإِيمان وقلوبهم خاوية منه فقال {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِنْ قَبْلِكَ} تعجيبٌ من أمر من يدّعي الإِيمان ثم لا يرضى بحكم الله أي ألا تعجب من صنيع هؤلاء المنافقين الذين يزعمون الإِيمان بما أنزل إِليك وهو القرآن وما أنزل من قبلك وهو التوراة والإِنجيل {يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ} أي يريدون أن يتحاكموا في خصومتهم إِلى الطاغوت قال ابن عباس هو "كعب بن الأشرف" أحد طغاة اليهود سمي به لإِفراطه في الطغيان وعداوته للرسول عليه السلام {وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ} أي والحال أنهم قد أمروا بالإِيمان بالله والكفر بما سواه كقوله {فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى} {وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاُ بَعِيدًا} أي ويريد الشيطان بما زيّن لهم أن يحرفهم عن الحق والهدى .

{وإذا قيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ} أي وإِذا قيل لأولئك المنافقين تعالوا فتحاكموا إِلى كتاب الله وإِلى الرسول ليفصل بينكم فيما تنازعتم فيه {رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا} أي رأيتهم لنفاقهم يعرضون عنك إِعراضاً {فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ} أي كيف يكون حالهم إِذا عاقبهم الله بذنوبهم وبما جنته أيديهم من الكفر والمعاصي أيقدرون أن يدفعوا عنهم العذاب؟ {ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا} أي ثم جاءك هؤلاء المنافقون للاعتذار عما اقترفوه من الأوزار يقسمون بالله ما أردنا بالتحاكم إِلى غيرك إِلا الصلح والتأليف بين الخصمين وما أردنا رفض حكمك قال تعالى تكذيباً لهم. {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ} أي هؤلاء المنافقون يكذبون والله يعلم ما في قلوبهم من النفاق والمكر والخديعة وهم يريدون أن يخدعوك بهذا الكلام المعسول {فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ} أي فأعرضْ عن معاقبتهم للمصلحة ولا تُظهر لهم علمك بما في بواطنهم ولا تهتك سترهم حتى يبقوا على وجلٍ وحذر {وَعِظْهُمْ} أي ازجرهم عن الكيد والنفاق بقوارع الآيات {وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنفُسِهِمْ قَوْلاُ بَلِيغًا} أي انصحهم فيما بينك وبينهم بكلام بليغ مؤثر يصل إِلى سويداء قلوبهم يكون لهم رادعاً ولنفاقهم زاجراً.





وجوب طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم



{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنفُسهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمْ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا(64)فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا(65)}



ثم أخبر تعالى عن بيان وظيفة الرسل فقال {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ} أي لم نرسل رسولاً من الرسل إِلا ليطاع بأمر الله تعالى فطاعته طاعةٌ لله ومعصيته معصيةٌ لله {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ} أي لو أن هؤلاء المنافقين حين ظلموا أنفسهم بعدم قبول حكمك جاءوك تائبين من النفاق مستغفرين الله من ذنوبهم معترفين بخطئهم {وَاسْتَغْفَرَ لَهُمْ الرَّسُولُ} أي واستغفرت لهم يا محمد أي سألت الله أن يغفر لهم ذنوبهم {لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا} أي لعلموا كثرة توبة الله على عباده وسعة رحمته لهم.

ثم بين تعالى طريق الإِيمان الصادق فقال {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} اللام لتأكيد القسم أي فوربك يا محمد لا يكونون مؤمنين حتى يجعلوك حكماً بينهم ويرضوا بحكمك فيما تنازعوا فيه واختلفوا من الأمور {ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} أي ثم لا يجدوا في أنفسهم ضيقاً من حكمك وينقادوا انقياداً تاماً كاملاً لقضائك، من غير معارضة ولا مدافعة ولا منازعة، فحقيقةُ الإِيمان الخضوع والإِذعان.



التزام أوامر الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم



{وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنْ اقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ أَوْ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلا قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا(66)وَإِذًا لآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا(67)وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا(68)}



{وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنْ اقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ أَوْ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ} أي لو فرضنا على هؤلاء المنافقين ما فرضنا على من قبلهم من المشقات وشدّدنا التكليف عليهم فأمرناهم بقتل النفس والخروج من الأوطان كما فرض ذلك على بني إِسرائيل {مَا فَعَلُوهُ إِلا قَلِيلٌ مِنْهُمْ} أي ما استجاب ولا انقاد إِلا قليل منهم لضعف إِيمانهم .

{وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا} أي ولو أنهم فعلوا ما يؤمرون به من طاعة الله وطاعة رسوله لكان خيراً لهم في عاجلهم وآجلهم وأشدَّ تثبيتاً لإِيمانهم، وأبعد لهم عن الضلال والنفاق {وَإِذًا لآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا} أي أرشدناهم إِلى الطريق المستقيم الموصل إِلى جنات النعيم.



جزاء طاعة الله ورسوله



{وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقًا(69)ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنْ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا(70)}



ثم ذكر تعالى ثمرة الطاعة لله ورسوله فقال {وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} أي ومن يعمل بما أمره الله به ورسوله ويجتنب ما نهى الله عنه ورسوله، فإِن الله عز وجل يسكنه دار كرامته في دار الخلد مع المقربين {مِنْ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ} أي مع أصحاب المنازل العالية في الآخرة وهم الأنبياء الأطهار والصديقون الأبرار وهم أفاضل أصحاب الأنبياء والشهداء الأخيار وهم الذين استشهدوا في سبيل الله ثم مع بقية عباد الله الصالحين {وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقًا} أي ونعمت رفقة هؤلاء وصحبتهم، وحَسُن رفيق أولئك الأبرار، عن عائشة رضي الله عنها قالت: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم في شكواه التي قُبض فيها يقول {مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ} فعلمتُ أنه خيِّر.

{ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنْ اللَّهِ} أي ما أُعطيه المطيعون من الأجر العظيم إِنما هو بمحض فضله تعالى {وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا} أي وكفى به تعالى مجازياً لم أطاع عالماً بمن يستحق الفضل والإِحسان.



قواعد القتال الشرعية



{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانفِرُوا ثُبَاتٍ أَوْ انفِرُوا جَمِيعًا(71)وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيدًا(72)وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يَا لَيْتَنِي كُنتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزًا عَظِيمًا(73)فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآخِرَةِ وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا(74)وَمَا لَكُمْ لا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنْ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَل لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا(75)الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا(76)}



{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ} أي يا معشر المؤمنين احترزوا من عدوكم واستعدوا له {فَانفِرُوا ثُبَاتٍ أَوْ انفِرُوا جَمِيعًا} أي اخرجوا إِلى الجهاد جماعات متفرقين، سريةً بعد سرية أو اخرجوا مجتمعين في الجيش الكثيف، فخيَّرهم تعالى في الخروج إِلى الجهاد متفرقين ومجتمعين {وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ} أي ليتثاقلنَّ ويتخلفنَّ عن الجهاد، {فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ}أي قتلٌ وهزيمة {قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيدًا} أي قال ذلك المنافق قد تفضَّل الله عليَّ إِذ لم أشهد الحرب معهم فأُقتل ضمن من قتل .

{وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ} أي ولئن أصابكم أيها المؤمنون نصر وظفر وغنيمة {لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يَا لَيْتَنِي كُنتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزًا عَظِيمًا} أي ليقولنَّ هذا المنافق قول نادم متحسر كأن لم يكن بينكم وبينه معرفة وصداقة يا ليتني كنتُ معهم في الغزو لأنال حظاً وافراً من الغنيمة، وجملة {كأن لم تكن} اعتراضية للتنبيه على ضعف إِيمانهم، وهذه المودة في ظاهر المنافق لا في اعتقاده فهو يتمنى أن لو كان مع المؤمنين لا من أجل عزة الإِسلام بل طلبً للمال وتحصيلاً للحطام، ولما ذم تعالى المبطئين عن القتال في سبيل الله رغب المؤمنين فيه فقال {فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآخِرَةِ} أي فليقاتل المخلصون الباذلون أنفسهم وأموالهم في سبيل الله الذين يبيعون الحياة الفانية بالحياة الباقية {وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا}وهذا وعدٌ منه سبحانه بالأجر العظيم لمن قاتل في سبيل الله سواءً غَلَبَ أو غُلِبَ أي من يقاتل في سبيل الله لإِعلاء كلمة الله فيُستشهد أو يظفر على الأعداء فسوف نعطيه ثواباً جزيلاً فهو فائز بإِحدى الحسنيين: الشهادة أو الغنيمة كما في الحديث (تضمن الله لمن خرج في سبيله لا يُخرجه إِلا جهادٌ في سبيلي، وإِيمانٌ بي وتصديقٌ برسلي فهو عليَّ ضامن أن أُدخله الجنة أو أرجعه إِلى مسكنه الذي خرج منه نائلاً ما نال من أجر أو غنيمة).

{وَمَا لَكُمْ لا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنْ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ} الاستفهام للحث والتحريض على الجهاد أي وما لكم أيها المؤمنون لا تقاتلون في سبيل الله وفي سبيل خلاص المستضعفين من إِخوانكم الذين صدَّهم المشركون عن الهجرة فبقوا مستذلين مستضعفين يلقون أنواع الأذى الشديد؟! وقوله {مِنْ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ} بيانٌ للمستضعفين، قال ابن عباس: كنتُ أنا وأمي من المستضعفين، وهم الذين كان يدعو لهم الرسول صلى الله عليه وسلم فيقول: اللهم أنْج الوليد بن الوليد وسلمة بن هشام إلخ كما في الصحيح .

{الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ} أي الذين يدعون ربهم لكشف الضُرً عنهم قائلين: ربنا أخرجنا من هذه القرية وهي مكة إِذ أنها كانت موطن الكفر ولذا هاجر الرسول صلى الله عليه وسلم منها {الظَّالِمِ أَهْلُهَا} بالكفر وهم صناديد قريش الذين منعوا المؤمنين من الهجرة ومنعوا من ظهور الإِسلام فيها {وَاجْعَل لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَل لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا} أي اجعل لنا من هذا الضيق فرجاً ومخرجاً وسخّر لنا من عندك وليّاً وناصراً، وقد استجاب الله دعاءهم فجعل لهم خير وليّ وناصر وهو محمد صلى الله عليه وسلم حين فتح مكة ولما خرج منها ولّى عليهم "عتّاب بن أسيد" فأنصف مظلومهم من ظالمهم.

ثم شجع تعالى المجاهدين ورغبهم في الجهاد فقال {الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} أي المؤمنون يقاتلون لهدف سامٍ وغاية نبيلة وهي نصرة دين الله وإِعلاء كلمته ابتغاء مرضاته فهو تعالى وليهم وناصرهم {وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ} أي وأما الكافرون فيقاتلون في سبيل الشيطان الداعي إِلى الكفر والطغيان {فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ} أي قاتلوا يا أولياء الله أنصار وأعوان الشيطان فإِنكم تغلبونهم، فشتان بين من يقاتل لإِعلاء كلمة الله وبين من يقاتل في سبيل الشيطان، فمن قاتل في سبيل الله فهو الذي يَغْلب لأن الله وليُّه وناصرُه، ومن قاتل في سبيل الطاغوت فهو المخذول المغلوب ولهذا قال {إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا} أي سعيُ الشيطان في حد ذاته ضعيف فكيف بالقياس إِلى قدرة الله؟! قال الزمخشري: كيدُ الشيطان للمؤمنين إِلى جنب كيد الله للكافرين أضعف شيء وأوهنه.



فُرض القتال امتحان للإيمان



{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمْ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنْ اتَّقَى وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلاً(77)أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُّمْ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمَالِ هَؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا(78)مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنْ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا(79)}



{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} ألا تعجب يا محمد من قوم طلبوا القتال وهم بمكة فقيل لهم: أمسكوا عن قتال الكفار فلم يحن وقته وأعدّوا نفوسكم بإِقامة الصلاة وإِيتاء الزكاة .

{فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمْ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً} أي فلما فرض عليهم قتال المشركين إِذا جماعة منهم يخافون ويجبنون ويفزعون من الموت كخشيتهم من عذاب الله أو أشد من ذلك، قال ابن كثير: كان المؤمنون في ابتداء الإِسلام وهم بمكة مأمورين بالصلاة والزكاة والصبر على أذى المشركين وكانوا يتحرقون لو أُمروا بالقتال ليشتفوا من أعدائهم فلما أمروا بما كانوا يودونه جزع بعضهم وخاف من مواجهة الناس خوفاً شديداً {وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ} أي وقالوا جزعاً من الموت ربنا لم فرضت علينا القتال؟ {لَوْلا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ} لولا للتحضيض بمعنى هلاّ أي هلاّ أخرتنا إِلى أجل قريب حتى نموتَ بآجالنا ولا نقتل فيفرح بنا الأعداء!

{قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنْ اتَّقَى} أي قل لهم يا محمد إِن نعيم الدنيا فانٍ ونعيم الآخرة باقٍ فهو خير من ذلك المتاع الفاني لمن اتقى وامتثل أمره {وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلاً} أي لا تُنقصون من أجور أعمالكم أدنى شيء ولو كان فتيلاً وهو الخيط الذي في شق النواة، قال في التسهيل: إِن الآية في قومٍ من الصحابة كانوا قد أُمروا بالكف عن القتال فتمنوا أن يؤمروا به، فلما أُمروا به كرهوه لا شكاً في دينهم ولكن خوفاً من الموت، وقيل هي في المنافقين وهو أليق في سياق الكلام .

{أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُّمْ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ} أي في أي مكانٍ وجدتم فلا بدّ أن يدرككم الموت عند انتهاء الأجل ويفاجئكم ولو تحصنتم منه بالحصون المنيعة فلا تخشوا القتال خوف الموت {وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} أي إِن تصب هؤلاء المنافقين حسنةٌ من نصر وغنيمة وشبه ذلك يقولوا هذه من جهة الله ومن تقديره لما علم فينا من الخير {وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ} أي وإِن تنلهم سيئة من هزيمة وجوع وشبه ذلك يقولوا هذه بسبب اتباعنا لمحمد ودخولنا في دينه يعنون بشؤم محمد ودينه، وقال السدي: يقولون هذا بسبب تركنا ديننا واتباعنا محمداً أصابنا هذا البلاء كما قال تعالى عن قوم فرعون {وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ} [الأعراف: 131] {قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} أُمر صلى الله عليه وسلم بأن يرد زعمهم الباطل ويلقمهم الحجر ببيان أن الخير والشر بتقدير الله أي قل يا محمد لهؤلاء السفهاء: الحسنةُ والسيئة والنعمةُ والنقمة كلُّ ذلك من عند الله خلقاً وإِيجاداً لا خالق سواه فهو وحده النافع الضار وعن إِرادته تصدر جميع الكائنات {فَمَالِ هَؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا} أي ما شأنهم لا يفقهون أن الأشياء كلها بتقدير الله؟ وهو توبيخ لهم على قلة الفهم .. ثم قال تعالى مبيناً حقيقة الإِيمان.

{مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنْ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} الخطاب لكل سامع أي ما أصابك يا إنسان من نعمة وإِحسان فمن الله تفضيلاً منه وإِحساناً وامتناناً وامتحاناً، وما أصابك من بلية ومصيبة فمن عندك لأنك السبب فيها بما ارتكبت يداك كقوله {وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير} .. ثم قال تعالى مخاطباً الرسول {وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا} أي وأرسلناك يا محمد رسولاً للناس أجمعين تبلغهم شرائع الله وحسبك أن يكون الله شاهداً على رسالتك.

yacine414
2011-03-26, 10:38
طاعة الرسول طاعةٌ لله، والتدبر في القرآن يرشد إلى أنه من عند الله



{مَنْ يُطِعْ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا(80)وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ وَاللَّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً(81)أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا(82)}



ثم رغب تعالى في طاعة الرسول فقال {مَنْ يُطِعْ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} أي من أطاع أمر الرسول فقد أطاع الله لأنهم مبلّغٌ عن الله {وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا} أي ومن أعرض عن طاعتك فما أرسلناك يا محمد حافظاً لأعمالهم ومحاسباً لهم عليها إِن عليك إِلا البلاغ {وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ} أي ويقول المنافقون: أمرك يا محمد طاعة كقول القائل "سمعاً وطاعةً" فإِذا خرجوا من عندك دبّر جماعة منهم غير الذي تقوله لهم وهو الخلاف والعصيان لأمرك {وَاللَّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ} أي يأمر الحفظة بكتابته في صحائف أعمالهم ليجازوا عليه {فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} أي اصفح عنهم وفوّض أمرك إِلى الله وثق به {وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً} أي فهو سبحانه ينتقم لك منهم وكفى به ناصراً ومعيناً لمن توكل عليه، ثم عاب تعالى المنافقين بالإِعراض عن التدبر في القرآن في فهم معانيه المحكمة وألفاظه البليغة ففي تدبره يظهر برهانه ويسطع نوره وبيانه فقال: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا} أي لو كان هذا القرآن مختلقاً كما يزعم المشركون والمنافقون لوجدوا فيه تناقضاً كبيراً في أخباره ونظمه ومعانيه ولكنه منزه عن ذلك فأخباره صدق، ونظمه بليغ، ومعانيه محكمة، فدلَّ على أنه تنزيل الحكيم الحميد.



إذاعة الأخبار من غير تأكُّد من صحتها مفسَدَةٌ



{وَإِذَا جَاءهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأمْنِ أَوْ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاتَّبَعْتُمْ الشَّيْطَانَ إِلا قَلِيلاً(83)}



{وَإِذَا جَاءهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأمْنِ أَوْ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ} أي إِذا جاء المنافقين خبرٌ من الأخبار عن المؤمنين بالظفر والغنيمة أو النكبة والهزيمة أذاعوا به أي أفشوه وأظهروه وتحدثوا به قبل أن يقفوا على حقيقته وكان في إِذاعتهم له مفسدة على المسلمين {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} أي لو ترك هؤلاء الكلام بذلك الأمر الذي بلغهم وردوه إِلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وإِلى كبراء الصحابة وأهل البصائر منهم لعلمه الذين يستخرجونه منهم أي من الرسول وأولي الأمر {وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاتَّبَعْتُمْ الشَّيْطَانَ إِلا قَلِيلاً} أي لولا فضل الله عليكم أيها المؤمنون بإِرسال الرسول ورحمته بإِنزال القرآن لاتبعتم الشيطان فيما يأمركم به من الفواحش إِلا قليلاً منكم.



تحريض المؤمنين على الجهاد في سبيل الله



{فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا تُكَلَّفُ إِلا نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْسًا وَأَشَدُّ تَنكِيلاً(84)}



ثم أمر الرسول بالجهاد فقال {فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا تُكَلَّفُ إِلا نَفْسَكَ} أي قاتل يا محمد لإِعلاء كلمة الله ولو وحدك فإِنك موعود بالنصر ولا تهتم بتخلف المنافقين عنك {وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ} أي شجِّعهم على القتال ورغبْهم فيه {عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا} هذا وعدٌ من الله بكفهم و {عَسَى} من الله تفيد التحقيق أي بتحريضك المؤمنين يكف الله شرّ الكفرة والفجار، وقد كفهم الله بهزيمتهم في بدر وفتح مكة {وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْسًا وَأَشَدُّ تَنكِيلاً} أي هو سبحانه أشد قوة وسطوة، وأعظم عقوبة وعذاباً.



الشفاعة الحسنة، وردّ التحية وإثبات البعث



{مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتًا(85)وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا(86)اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنْ اللَّهِ حَدِيثًا(87)}



{مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا} أي من يشفع بين الناس شفاعة موافقة للشرع يكن له نصيب من الأجر {وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا} أي ومن يشفع شفاعة مخالفة للشرع يكن له نصيب من الوزر بسببها {وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتًا} أي مقتدراً فيجازي كل أحدٍ بعمله .

{وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا} أي إِذا سلّم عليكم المسلم فردوا عليه بأفضل مما سلّم أو رُدُّوا عليه بمثل ما سلّم {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا} أي يحاسب العباد على كل شيء من أعمالهم الصغيرة والكبيرة.

{اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ} هذا قسم من الله بجمع الخلائق يوم المعاد أي الله الواحد الذي لا معبود سواه ليحشرنكم من قبوركم إِلى حساب يوم القيامة الذي لا شك فيه وسيجمع الأولين والآخرين في صعيد واحدٍ للجزاء والحساب {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنْ اللَّهِ حَدِيثًا} لفظه استفهام ومعناه النفي أي لا أحد أصدق في الحديث والوعد من الله رب العالمين.





أوصاف المنافقين وكيفية معاملتهم



{فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَنْ يُضْلِلْ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً(88)وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا(89)إِلا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ فَإِنْ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمْ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً(90)سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلَّمَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهَا فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمْ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأُوْلَئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا مُبِينًا(91)}



المنَــاسَـــبَة:

لما ذكر تعالى مواقف المنافقين المخزية، عقّبه بذكر نوعٍ آخر من أحوال المنافقين الشنيعة، ثم ذكر حكم القتل الخطأ والقتل العمد، وأمر بالتثبت قبل الإِقدام على قتل إنسان لئلا يُفضي إلى قتل أحد من المسلمين، ثم ذكر تعالى مراتب المجاهدين ومنازلهم الرفيعة في الآخرة.



سبب النزول:

أ- عن زيد بن ثابت أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج إِلى أُحد فرجع ناسٌ ممن كان معه، فكان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فيهم فرقتين فقال بعضهم: نقتلهم، وقال بعضهم: لا، فأنزل الله {فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ..} الآية فقال صلى الله عليه وسلم: (إِنها طيبة تنفي الخبَث كما تنفي النار خبث الحديد) أخرجه الشيخان.

ب- يروى أن "الحارث بن يزيد" كان شديداً على النبي صلى الله عليه وسلم فجاء مهاجراً وهو يريد الإِسلام فلقيه "عياش بن أبي ربيعة" - والحارث يريد الإِسلام وعياش لا يشعر - فقتله فأنزل الله {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلا خَطَأً} [النساء: 92].

ج- عن ابن عباس قال: لحق المسلمون رجلاً في غنيمةٍ له فقال: السلام عليكم فقتلوه وأخذوا غنيمته فنزلت هذه الآية {وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمْ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا..} [النساء: 94].



{فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا} أي ما لكم أيها المؤمنون أصبحتم فرقتين في شأن المنافقين، بعضكم يقول نقتلهم وبعضكم يقول لا نقتلهم والحال أنهم منافقون والله نكسَّهم وردّهم إِلى الكفر بسبب النفاق والعصيان {أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ} أي أتريدون هداية من أضله الله، والاستفهام للإِنكار والتوبيخ في الموضعين والمعنى لا تختلفوا في أمرهم ولا تظنوا فيهم الخير لأن الله حكم بضلالهم {وَمَنْ يُضْلِلْ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً} أي من يضلله الله فلن تجد له طريقاً إِلى الهدى والإِيمان .

{وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً} أي تمنى هؤلاء المنافقون أن تكفروا مثلهم فتستووا أنتم وهم وتصبحوا جميعاً كفاراً {فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} أي لا توالوا ولا تصادقوا منهم أحداً حتى يؤمنوا ويحققوا إِيمانهم بالهجرة والجهاد في سبيل الله {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} أي إِن أعرضوا عن الهجرة في سبيل الله فخذوهم أيها المؤمنون واقتلوهم حيث وجدتموهم في حلٍّ أو حرم {وَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا} أي لا تستنصروهم ولا تستنصحوهم ولا تستعينوا بهم في الأمور ولو بذلوا لكم الولاية والنصرة .

{إِلا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ} أي إِلا الذين ينتهون ويلجأون إِلى قوم عاهدوهم فدخلوا فيهم بالحِلْف فحكمهم حكم أولئك القوم في القتال أي وإلا الذين جاءوكم وقد ضاقت صدورهم عن قتالكم وقتال قومهم فهم قوم ليسوا معكم ولا عليكم {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ} أي من لطفه بكم أن كفّهم عنكم ولو شاء لقوّاهم وجرُأهم عليكم فقاتلوكم {فَإِنْ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمْ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً} أي فإِن لم يتعرضوا لكم بقتال وانقادوا واستسلموا لكم فليس لكم أن تقاتلوهم طالما سالموكم .

{سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ} أي ستجدون قوماً آخرين من المنافقين يريدون أن يأمنوكم بإِظهار الإِيمان ويأمنوا قومهم بإِظهار الكفر إِذا رجعوا إِليهم، قال أبو السعود: هم قوم من "أسد وغطفان" كانوا إِذا أتوا المدينة أسلموا وعاهدوا ليأمنوا من المسلمين فإِذا رجعوا إِلى قومهم كفروا ونكثوا عهودهم ليأمنوا قومهم {كُلَّ مَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهَا} أي كلما دعوا إِلى الكفر أو قتال المسلمين عادوا إِليه وقُلبوا فيه على اسوأ شكل فهم شرٌ من كل عدو شرير { فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمْ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ} أي فإِن لم يجتنبوكم ويستسلموا إِليكم ويكفوا أيديهم عن قتالكم {فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ} أي فأسروهم واقتلوهم حيث وجدتموهم وأصبتموهم {وَأُوْلَئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا مُبِينًا} أي جعلنا لكم على أخذهم وقتلهم حجة واضحة وبرهاناً بيناً بسبب غدرهم وخيانتهم.



جزاء القتل الخطأ والقتل العمد



{وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلا أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنْ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا(92)وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا(93)}



{وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلا خَطَأً} أي لا ينبغي لمؤمنٍ ولا يليق به أن يقتل مؤمناً إِلا على وجه الخطأ لأن الإِيمان زاجرٌ عن العدوان {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلا أَنْ يَصَّدَّقُوا} أي ومن قتل مؤمناً على وجه الخطأ فعليه إِعتاق رقبةٍ مؤمنة لأن إِطلاقها من قيد الرق كإِحيائها، وعليه كذلك ديةٌ مؤداة إِلى ورثة المقتول إِلا إِذا عفا الورثة عن القاتل فأسقطوا الدية، وقد أوجب الشارع في القتل الخطأ شيئين: الكفارة وهي تحرير رقبة مؤمنة في مال القاتل، والدية وهي مائةٌ من الإِبل على العاقلة .

{فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} أي إِن كان المقتول خطأً مؤمناً وقومه كفاراً أعداء وهم المحاربون فإِنما على قاتله الكفارة فقط دون الدية لئلا يستعينوا بها على المسلمين {وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} أي وإِن كان المقتول خطاً من قوم كفرة بينكم وبينهم عهد كأهل الذمة فعلى قاتله دية تدفع إِلى أهله لأجل معاهدتهم ويجب أيضاً على القاتل إِعتاق رقبة مؤمنة {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ} أي فمن لم يجد الرقبة فعليه صيام شهرين متتابعين عوضاً عنها{تَوْبَةً مِنْ اللَّهِ} شرع تعالى لكم ذلك لأجل التوبة عليكم {وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا} عليماً بخلقه حكيماً فيما شرع .

ثم بين تعالى حكم القتل العمد وجريمته النكراء وعقوبته الشديدة فقال {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا} أي ومن يقدم على قتل مؤمن عالماً بإِيمانه متعمداً لقتله فجزاؤه جهنم مخلداً فيها على الدوام، وهذا محمول عند الجمهور على من استحل قتل المؤمن كما قال ابن عباس لأنه باستحلال القتل يصبح كافراً {وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} أي ويناله السخط الشديد من الله والطرد من رحمة الله والعذاب الشديد في الآخرة.



الحرص على التثبُّت في الأحكام



{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمْ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا(94)}



{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا} أي إِذا سافرتم في الجهاد لغزو الأعداء فتثبتوا ولا تعجلوا في القتل حتى يتبين لكم المؤمن من الكافر {وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمْ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا} أي ولا تقولوا لمن حياكم بتحية الإِسلام لست مؤمناً وإِنما قلت هذا خوفاً من القتل فتقتلوه {تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} أي حال كونكم طالبين لماله الذي هو حطامٌ سريع الزوال {فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ} أي فعند الله ما هو خير من ذلك وهو ما أعده لكم من جزيل الثواب والنعيم {كَذَلِكَ كُنتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا} أي كذلك كنتم كفاراً فهداكم للإِسلام ومنَّ عليكم بالإِيمان فتبينوا أن تقتلوا مؤمناً وقيسوا حاله بحالكم {إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} أي مطلعاً على أعمالكم فيجازيكم عليها.



التفاضل بين المجاهدين والقاعدين عن الجهاد



{لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلاً وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا(95)دَرَجَاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا(96)}



ثم أخبر تعالى بفضيلة المجاهدين فقال {لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ} أي لا يتساوى من قعد عن الجهاد من المؤمنين مع من جاهد بماله ونفسه في سبيل الله غير أهل الأعذار كالأعمى والأعرج والمريض، قال ابن عباس: هم القاعدون عن بدر والخارجون إِليها، ولما نزلت الآية قام ابن أم مكتوم فقال يا رسول الله: هل لي من رخصة فوالله لو أستطيع الجهاد لجاهدتُ - وكان أعمى - فأنزل الله {غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ} {فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً} أي فضل الله المجاهدين على القاعدين من أهل الأعذار درجة لاستوائهم في النية كما قال صلى الله عليه وسلم: (إِن بالمدينة أقواماً ما سرتم من مسير ولا قطعتم من وادٍ إِلا وهم معكم فيه قالوا: وهم بالمدينة يا رسول الله؟ قال:نعم حبسهم العذر) {وَكُلاً وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} أي وكلاً من المجاهدين والقاعدين بسبب ضررٍ لحقهم وعدهم الله الجزاء الحسن في الآخرة .

{وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا} أي وفضل الله المجاهدين في سبيل الله على القاعدين بغير عذر بالثواب الوافر العظيم {دَرَجَاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللَّهُغَفُورًا رَحِيمًا} أي منازل بعضها أعلى من بعض مع المغفرة والرحمة وفي الحديث (إِن في الجنة مائة درجة أعدها الله للمجاهدين في سبيله ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض).





هجرة المستضعفين



{إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمْ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءتْ مَصِيرًا(97)إِلا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنْ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً(98)فَأُوْلَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا(99)}



المنَــاسَـــبَة:

لما ذكر تعالى ثواب المجاهدين الأبرار، أتبعه بذكر عقاب القاعدين عن الجهاد الذين سكنوا في بلاد الكفر، ثم رغب تعالى في الهجرة من دار الكفر إِلى دار الإِيمان وذكر ما يترتب عليها من السعة والأجر والثواب، ثم لما كان الجهاد والهجرة سبباً لحدوث الخوف والسفر بين تعالى صلاة المسافر وطريقة صلاة الخوف، ثم أتبع ذلك بذكر أروع مثل في الانتصار للعدالة سجله التاريخ ألا وهو إِنصاف رجل يهودي اتهم ظلماً بالسرّقة وإِدانة الذين تآمروا عليه وهم أهل بيت من الأنصار في المدينة المنورة.



سبب النزول:

أ- عن ابن عباس قال: كان قوم من المسلمين أقاموا بمكة - وكانوا يستخفون بالإِسلام - فأخرجهم المشركون يوم بدر معهم فأصيب فقال المسلمون: كان أصحابنا هؤلاء مسلمين وأُكرهوا على الخروج فنزلت {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمْ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ..} الآية.

ب- كان ضمرة بن القيس من المستضعفين بمكة وكان مريضاً فلما سمع ما أنزل الله في الهجرة قال لأولاده احملوني فإِني لستُ من المستضعفين وإِني لأهتدي الطريق، والله لا أبيت الليلة بمكة فحملوه على سرير ثم خرجوا به فمات في الطريق بالتنعيم فأنزل الله {وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ}.

ج- روي أن رجلاً من الأنصار يقال له "طُّعمة بن أُبيرق" من بني ظفر سرق درعاً من جاره "قتادة ابن النعمان" في جراب دقيق، فجعل الدقيق ينتثر من خرقٍ فيه فخبأها عند "زيد بن السمين" اليهودي فالتُمست الدرع عند طعمة فلم توجد وحلف ما أخذها وما له بها علم فتركوه واتبعوا أثر الدقيق حتى انتهوا إِلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألوه أن يجادل عن صاحبهم وشهدوا ببراءته وسرقة اليهودي فهمَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يفعل فنزلت الآية {إِنَّا أنزلنا إِليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ..} الآية وهرب طُعْمة إِلى مكة وارتد ونقب حائطاً بمكة ليسرق أهله فسقط الحائط عليه فقتله.



{إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمْ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ} أي تتوفاهم الملائكة حال كونهم ظالمي أنفسهم بالإِقامة مع الكفار في دار الشرك وترك الهجرة إِلى دار الإِيمان {قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ} أي تقول لهم الملائكة في أيّ شيء كنتم في أمر دينكم؟ وهو سؤال توبيخ وتقريع {قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأرْضِ} قالوا معتذرين: كنا مستضعفين في أرض مكة عاجزين عن إِقامة الدين فيها.

{قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا}؟ أي قالت لهم الملائكة توبيخاً: أليست أرض الله واسعة فتهاجروا من دار الكفر إِلى دارٍ تقدرون فيها على إِقامة دين الله كما فعل من هاجر إِلى المدينة وإِلى الحبشة؟ قال تعالى بياناً لجزائهم {فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءتْ مَصِيرًا} أي مقرهم النار وساءت مقراً ومصيراً.

ثم استثنى تعالى منهم الضعفة والعاجزين عن الهجرة فقال {إِلا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنْ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً} أي لكن من كان منهم مستضعفاً كالرجال والنساء والأطفال الذين استضعفهم المشركون وعجزوا لإِعسارهم وضعفهم عن الهجرة ولا يستطيعون الخلاص ولا يِهتدون الطريق الموصل لدار الهجرة {فَأُوْلَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ} أي لعل الله أن يعفو عنهم لأنهم لم يتركوا الهجرة اختياراً {وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا} أي يعفو ويغفر لأهل الأعذار، وعسى في كلام الله تفيد التحقيق.



قصر الصلاة في السفر وصلاة الخوف



{وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الأرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا(100)وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنْ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمْ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا(101)وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمْ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا(102)فَإِذَا قَضَيْتُمْ الصَّلاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا(103)}



{وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الأرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً} هذا ترغيبٌ في الهجرة أي من يفارق وطنه ويهرب فراراً بدينه من كيد الأعداء يجد مُهَاجراً ومتجولاً في الأرض كبيراً يُراغم به أنف عدوه ويجد سعةً في الرزق فأرض الله واسعة ورزقه سابغ على العباد {يا عبادي الذين آمنوا إن أرضي واسعة فإِياي فاعبدون} {وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} أخبر تعالى أن من خرج من بلده مهاجراً من أرض الشرك فاراً بدينه إِلى الله ورسوله ثم مات قبل بلوغه دار الهجرة فقد ثبت أجر هجرته على الله تعالى {وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} أي ساتراً على العباد رحيماً بهم .

{وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنْ الصَّلاةِ} أي وإِذا سافرتم للغزو أو التجارة أو غيرهما فلا إِثم عليكم أن تقصروا من الصلاة فتصلوا الرباعية ركعتين {إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمْ الَّذِينَ كَفَرُوا} أي إِن خشيتم أن ينالكم مكروه من أعدائكم الكفرة، وذكرُ الخوف ليس للشرط وإِنما هو لبيان الواقع حيث كانت أسفارهم لا تخلو من خوف العدو لكثرة المشركين ويؤيده حديث "يَعْلَى بن أُمَيَّة" قال قلت لعمر بن الخطاب: إِن الله يقول: {إِنْ خِفْتُمْ} وقد أمن الناس فقال: عجبتُ مما عجبتَ منه فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال (صدقةٌ تصدَّق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته) {إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا} أي إِن الكافرين أعداء لكم مظهرون للعداوة ولا يمنعهم فرصة اشتغالكم بمناجاة الله أن يقتلوكم .

{وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمْ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ} أي وإِذا كنت معهم يا محمد وهم يصلون صلاة الخوف في الحرب فلتأتم بك طائفة منهم وهم مدججون بأسلحتهم احتياطاً ولتقم الطائفة الأخرى في وجه العدو {فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ} أي فإِذا فرغت الطائفة الأولى من الصلاة فلتأت الطائفة التي لم تصلّ إِلى مكانها لتصلي خلفك {وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ} أي وليكونوا حذرين من عدوهم متأهبين لقتالهم بحملهم السلاح .

{وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً} أي تمنى أعداؤكم أن تنشغلوا عن أسلحتكم وأمتعتكم فيأخذوكم غرة، ويشدوا عليكم شدة واحدة فيقتلوكم وأنتم تصلون والمعنى لا تتشاغلوا بأجمعكم بالصلاة فيتمكن عدوكم منكم ولكن أقيموها على الوجه الذي أُمرتم به {وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ} أي لا إِثم عليكم في حالة المطر أو المرض أن لا تحملوا أسلحتكم إِذا ضعفتم عنها {وَخُذُوا حِذْرَكُمْ} أي كونوا متيقظين واحترزوا من عدوكم ما استطعتم .

{إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا} أي أعدَّ لهم عذاباً مع الإِهانة، روى ابن كثير عند هذه الآية عن أبي عياش الزُرقي قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعُسفان فاستقبلنا المشركون عليهم خالد بن الوليد - وهم بيننا وبين القبلة - فصلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الظهر فقالوا: لقد كانوا على حالٍ لو أصبنا غرتهم ثم قالوا: يأتي عليهم الآن صلاة هي أحبُّ إِليهم من أبنائهم وأنفسهم قال: فنزل جبريل بهذه الآيات بين الظهر والعصر {وإِذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة} الآية.

ثم أمر تعالى بكثرة ذكره عقب صلاة الخوف فقال {فَإِذَا قَضَيْتُمْ الصَّلاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ} أي فإِذا فرغتم من الصلاة فأكثروا من ذكر الله في حال قيامكم وقعودكم واضطجاعكم واذكروه في جميع الحالات لعله ينصركم على عدوكم {فَإِذَا اطْمَأْنَنتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ} أي فإِذا أمنتم وذهب الخوف فأتموا الصلاة وأقيموها كما أُمرتم بخشوعها وركوعها وسجودها وجميع شروطها {إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} أي فرضاً محدوداً بأوقات معلومة لا يجوز تأخيرها عنه.



الجهاد والصبر عند الشدائد



{وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنْ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا(104)}



ثم حث تعالى على الجهاد والصبر عند الشدائد فقال {وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ} أي لا تضعفوا في طلب عدوكم بل جدّوا فيهم وقاتلوهم واقعدوا لهم كل مرصد {إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنْ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ} أي إِن كنتم تتألمون من الجراح والقتال فإِنهم يتألمون أيضاً منه كما تتألمون ولكنكم ترجون من الله الشهادة والمثوبة والنصر حيث لا يرجونه هم {وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا} أي عليماً بمصالح خلقه حكيماً في تشريعه وتدبيره، قال القرطبي: نزلت هذه الآية في حرب أُحد حيث أمر صلى الله عليه وسلم بالخروج في آثار المشركين وكان بالمسلمين جراحات وكان أمر ألا يخرج معه إِلا من حضر في تلك الوقعة، وقيل: هذا في كل جهاد.



القضاء بالحق والعدل



{إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا(105)وَاسْتَغْفِرْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا(106)وَلا تُجَادِلْ عَنْ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا(107)يَسْتَخْفُونَ مِنْ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنْ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لا يَرْضَى مِنْ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا(108)هَاأَنْتُمْ هَؤُلاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَنْ يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً(109)وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرْ اللَّهَ يَجِدْ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا(110)وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا(111)وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدْ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا(112)وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلا أَنفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَأَنزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا(113)}



{إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ} أي إِنا أنزلنا إِليك يا محمد القرآن متلبساً بالحق لتحكم بين الناس بما عرّفك الله وأوحى به إِليك {وَلا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا} أي لا تكن مدافعاً ومخاصماً عن الخائنين تجادل وتدافع عنهم، والمراد به "طعمة بن أبيرق" وجماعته {وَاسْتَغْفِرْ اللَّهَ} أي استغفر الله مما هممتَ به من الدفاع عن طُعْمة اطمئناناً لشهادة قومه بصلاحه {إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا} أي مبالغاً في المغفرة والرحمة لمن يستغفره .

{وَلا تُجَادِلْ عَنْ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنفُسَهُمْ} أي لا تخاصم وتدافع عن الذين يخونون أنفسهم بالمعاصي {إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا} أي لا يحب من كان مفرطاً في الخيانة منهمكاً في المعاصي والآثام {يَسْتَخْفُونَ مِنْ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنْ اللَّهِ} أي يستترون من الناس خوفاً وحياءً ولا يستحيون من الله وهو أحق بأن يُستحيا منه ويخاف من عقابه {وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لا يَرْضَى مِنْ الْقَوْلِ} أي وهو معهم جل وعلا عالم بهم وبأحوالهم سمع ما يدبرونه في الخفاء ويضمرونه في السر من رمي البريء وشهادة الزور والحلف الكاذب {وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا} أي لا يعزب عنه شيء منها ولا يفوت .

ثم قال تعالى توبيخاً لقوم طُعْمة {هَاأَنْتُمْ هَؤُلاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} أي هاأنتم يا معشر القوم دافعتم عن السارق والخائنين في الدنيا {فَمَنْ يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} أي فمن يدافع عنهم في الآخرة إِذا أخذهم الله بعذابه؟ {أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً}؟؟ أي من يتولى الدفاع عنه ونصرتهم من بأس الله وانتقامه؟

ثم دعاهم الله تعالى إِلى الإِنابة والتوبة فقال {وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ} أي من يعمل أمراً قبيحاً يسوء به غيره كاتهام بريء أو يرتكب جريمة يظلم بها نفسه كالسرقة {ثُمَّ يَسْتَغْفِرْ اللَّهَ يَجِدْ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا} أي ثم يتوب من ذنبه يجد الله عظيم المغفرة واسع الرحمة، قال ابن عباس: عرض اللهُ التوبة بهذه الآية على بني أُبيرق {وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا} أي من يقترف إِثماً متعمداً فإِنما يعود وبال ذلك على نفسه وكان الله عليماً بذنبه حكيماً في عقابه {وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا} أي من يفعل ذنباً صغيراً أو إِثماً كبيراً {ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدْ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا} أي ثم ينسب ذلك إلى بريء ويتهمه به فقد تحمّل جرماً وذنباً واضحاً.

ثم بين تعالى فضله على رسوله فقال {وَلَوْلا فضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ} أي لولا فضل الله عليك بالنبوة ورحمته بالعصمة لهمت جماعة منهم أن يضلوك عن الحق، وذلك حين سألوا الرسول صلى الله عليه وسلم أن يبرئ صاحبهم "طُعْمة" من التهمة ويلحقها باليهودي فتفضل الله عز وجل على رسوله بأن أطلعه على الحقيقة {وَمَا يُضِلُّونَ إِلا أَنفُسَهُمْ} أي وبال إِضلالهم راجع عليهم {وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ}{وَأَنزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} أي القرآن والسنة فكيف يضلونك وهو تعالى يُنزل عليك الكتاب ويوحي إِليك بالأحكام {وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا} أي علمك ما لم تكن تعلمه من الشرائع والأمور وكان فضله تعالى عليك كبيراً بالوحي والرسالة وسائر النعم الجسيمة.





حالات النجوى الخيِّرة، والتحذير من مخالفة الرسول صلى الله عليه وسلم



{لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا(114)وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا(115)}



المنَــاسَـــبَة:

لما ذكر تعالى قصة طُعْمة وحادثة السرقة التي اتهم بها اليهودي البريء ودفاع قومه عنه وتآمرهم في السرّ لإِيقاع البرئ بها، ذكر تعالى هنا أن موضوع النجوى لا يخفى على الله وأن كل تدبير في السرّ يعلمه الله، وأنه لا خير في التناجي إِلا ما كان يقصد الخير والإِصلاح، ثم ذكر تعالى أن مخالفة أمر الرسول صلى الله عليه وسلم جرمٌ عظيم وحذَّر من الشيطان وطرق إغوائه، ثم عاد الحديث إلى التحذير من ظلم النساء في ميراثهِن وأكد على وجوب الإِحسان إِليهن، وأعقبه بذكر النشوز والطريق إِلى الإِصلاح بين الزوجين إِما بالوفاق أو بالفراق.



سبب النزول:

أ- لما سرق "طعمة بن أبيرق" وحكم النبي صلى الله عليه وسلم عليه بالقطع هرب إلى مكة وارتد عن الإِسلام فأنزل الله {وَمَنْ يُشَاقِقْ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى} [النساء: 115].



{لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ} أي لا خير في كثير مما يُسرّه القوم ويتناجون به في الجفاء {إِلا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ} أي إلا نجوى من أمر بصدقةٍ ليعطيها سراً أو أمر بطاعة الله، قال الطبري: المعروف هو كل ما أمر الله به أو ندب إليه من أعمال البر والخير، والإِصلاح هو الإِصلاح بين المختصمَين {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ} أي ومن يفعل ما أمر به من البر والمعروف والإِصلاح طلباً لرضى الله تعالى لا لشيء من أغراض الدنيا {فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} أي فسوف نعطيه ثواباً جزيلاً هو الجنة، قال الصاوي: والتعبير بسوف إشارة إلى أن جزاء الأعمال الصالحة في الآخرة لا في الدنيا لأنها ليست دار جزاء .

{وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى} أي يخالف أمر الرسول فيما جاء به عند الله من بعد ما ظهر له الحق بالمعجزات {وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ} أي يسلك طريقاً غير طريق المؤمنين ويتبع منهاجاً غير منهاجهم {نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ} أي نتركه مع اختياره الفاسد وندخله جهنم عقوبة له {وَسَاءَتْ مَصِيرًا} أي وساءت جهنم مرجعاً لهم.



التحذير من الشرك والشيطان وطرق إغوائه، وجزاء الإيمان والعمل الصالح



{إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيدًا(116)إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلا إِنَاثًا وَإِنْ يَدْعُونَ إِلا شَيْطَانًا مَرِيدًا(117)لَعَنَهُ اللَّهُ وَقَالَ لأتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا(118)وَلأُضِلَّنَّهُمْ وَلأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الأنْعَامِ وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا(119)يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمْ الشَّيْطَانُ إِلا غُرُورًا(120)أُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَلا يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصًا(121)وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنْ اللَّهِ قِيلاً(122)}



{إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} أي لا يغفر ذنب الشرك ويغفر ما دونه من الذنوب لمن يريد {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيدًا} أي فقد بَعُد عن طريق الحق والسعادة بعداً كبيراً {إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلا إِنَاثًا} أي ما يدعو هؤلاء المشركون وما يعبدون من دون الله إلا أوثاناً سموها بأسماء الإِناث "اللات والعزى ومناة" قال في التسهيل: كانت العرب تسمي الأصنام بأسماء مؤنثة {وَإِنْ يَدْعُونَ إِلا شَيْطَانًا مَرِيدًا} أي وما يعبدون إلا شيطاناً متمرداً بلغ الغاية في العتو والفجور وهو إبليس الذي فسق عن أمر ربه .

{لَعَنَهُ اللَّهُ وَقَالَ لأتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا} أي أبعده الله عن رحمته فأقسم الشيطان قائلاً: لأتخذنَّ من عبادك الذين أبعدتني من أجلهم نصيباً أي حظاً مقدراً معلوماً أدعوهم إلى طاعتي من الكفرة والعصاة وفي صحيح مسلم يقول الله تعالى لآدم يوم القيامة "إبعثْ بعثَ النار فيقول: وما بعثُ النار؟ فيقول من كل ألفٍ تسعمائةٌ وتسعة وتسعون" {وَلأُضِلَّنَّهُمْ وَلأُمَنِّيَنَّهُمْ} أي لأصرفَنَهم عن طريق الهدى وأعدهم الأماني الكاذبة وألقي في قلوبهم طول الحياة وأن لا بعث ولا حساب {وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الأنْعَامِ} أي ولآمرنهم بتقطيع آذان الأنعام، قال قتادة: يعني تشقيقها وجعلها علامة للبحيرة والسائبة كما كانوا يفعلون في الجاهلية {وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ} أي ولآمرنهم بتغيير خلق الله كخصباء العبيد والحيوان والوشم وغيره وقيل: المراد به تغيير دين الله بالكفر والمعاصي وإحلال ما حرّم الله وتحريم ما أحل {وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ} أي ومن يتول الشيطان ويطعْه ويترك أمر الله {فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا} أي خسر دنياه وآخرته لمصيره إلى النار المؤبدة وأي خسرانٍ أعظم من هذا؟

ثم قال تعالى عن إبليس {يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ} أي يعدهم بالفوز والسعادة ويمنيهم بالأكاذيب والأباطيل، قال ابن كثير: هذا إخبارٌ عن الواقع فإن الشيطان يعد أولياءه ويمنيهم بأنهم هم الفائزون في الدنيا والآخرة وقد كذب وافترى في ذلك {وَمَا يَعِدُهُمْ الشَّيْطَانُ إِلا غُرُورًا} أي وما يعدهم إلا باطلاً وضلالاً، قال ابن عرفة: الغُرور ما له ظاهر محبوب وباطن مكروه، فهو مزيّن الظاهر فاسد الباطن .

{أُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ} أي مصيرهم ومآلهم يوم القيامة نار جهنم {وَلا يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصًا} أي ليس لهم منها مفر ولا مهرب، ثم ذكر تعالى حال السعداء الأبرار وما لهم من الكرامة في دار القرار فقال {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا} أي مخلدين في دار النعيم بلا زوال ولا انتقال {وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا} أي وعداً لا شك فيه ولا ارتياب {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنْ اللَّهِ قِيلاً} أي ومن أصدق من الله قولاً؟ والاستفهام معناه النفيُ أي لا أحد أصدق قولاً من الله، قال أبو السعود: والمقصود معارضة مواعيد الشيطان الكاذبة لقرنائه بوعد الله الصادق لأوليائه.



استحقاق الجنة ليس بالأماني، والعبرة بحسن العمل



{لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا(123)وَمَنْ يَعْمَلْ مِنْ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا(124)وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً(125)وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطًا(126)}



قال قتادة: تفاخر المؤمنون وأهل الكتاب فقال أهل الكتاب: نبينا قبل نبيكم، وكتابنا قبل كتابكم ونحن أحقٌ بالله منكم، وقال المؤمنون: نبينا خاتم النبيين وكتابنا يقضي على سائر الكتب فنزلت {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ} [النساء: 123].

{لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ} أي ليس ما وعد الله تعالى من الثواب يحصل بأمانيكم أيها المسلمون ولا بأماني أهل الكتاب وإنما يحصل بالإِيمان والعمل الصالح، قال الحسن البصري: ليس الإِيمان بالتمني ولكنْ ما وقر في القلب وصدّقه العمل، إن قوماً ألهتهم الأماني حتى خرجوا من الدنيا ولا حسنة لهم وقالوا نحسن الظن بالله، وكذبوا لو أحسنوا الظن به لأحسنوا العمل {مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ} أي من يعمل السوء والشر ينال عقابه عاجلاً أو آجلاً {وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا} أي لا يجد من يحفظه أو ينصره من عذاب الله .

{وَمَنْ يَعْمَلْ مِنْ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ} أي ومن يعمل الأعمال الصالحة سواءً كان ذكراً أو أنثى بشرط الإِيمان {فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا} أي يدخلهم الله الجنة ولا يُنقصون شيئاً حقيراً من ثواب أعمالهم كيف لا والمجازي أرحم الراحمين!! وإنما قال {وَهُوَ مُؤْمِنٌ} ليبيّن أن الطاعة لا تنفع من دون الإِيمان، ثم قال تعالى {وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ}؟ أي لا أحد أحسن ديناً ممن انقاد لأمر الله وشرعه وأخلص عمله لله {وَهُوَ مُحْسِنٌ} أي مطيعٌ لله مجتنبٌ لنواهيه {وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا} أي واتبع الدين الذي كان عليه إبراهيم خليل الرحمن، مستقيماً على منهاجه وسبيله وهو دين الإِسلام {وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً} أي صفياً اصطفاه لمحبته وخلته قال ابن كثير: فإنه انتهى إلى درجة الخلة التي هي أرفع مقامات المحبة وما ذاك إلا لكثرة طاعته لربه .

{وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ} أي جميع ما في الكائنات ملكه وعبيده وخلقه وهو المتصرف في جميع ذلك، لا رادّ لما قضى ولا معقب لما حكم {وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطًا} أي علمه نافذ في جميع ذلك لا تخفى عليه خافية.



التحذير من ظلم النساء في مِيراثهن، والصلح بين الزوجين بسبب النشوز،

والعدل بين النساء



{وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلْ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللاتِي لا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنْ الْوِلْدَانِ وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِهِ عَلِيمًا(127)وَإِنْ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الأنفُسُ الشُّحَّ وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا(128)وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا(129)وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلاً مِنْ سَعَتِهِ وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعًا حَكِيمًا(130)}



{وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ} أي يسألونك عما يجب عليهم في أمر النساء {قُلْ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ} أي قل لهم يا محمد: يبين الله لكم ما سألتم في شأنهنَّ ويبين لكم ما يتلى في القرآن من أمر ميراثهن {فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللاتِي لا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنكِحُوهُنَّ} أي ويفتيكم أيضاً في اليتيمات اللواتي ترغبون في نكاحهن لجمالهن أو لمالهنَّ ولا تدفعون لهن مهورهنَّ كاملة فنهاهم الله عز وجل عن ذلك، قال ابن عباس: كان الرجل في الجاهلية تكون عنده اليتيمة فيلقي عليها ثوبه فإِذا فعل ذلك لم يقدر أحد أن يتزوجها أبداً فإن كانت جميلة واحبها تزوجها وأكل مالها، وإن كانت دميمةً منعها الرجال حتى تموت فإذا ماتت ورثها، فحرم الله ذلك ونهى عنه {وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنْ الْوِلْدَانِ وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ} أي ويفتيكم في المستضعفين الصغار أن تعطوهم حقوقهم وأن تعدلوا مع اليتامى في الميراث والمهر، وقد كان أهل الجاهلية لا يورثون الصغار ولا النساء ويقولون: كيف نعطي المال من لا يركب فرساً ولا يحمل سلاحاً ولا يقاتل عدواً! فنهاهم الله عن ذلك وأمرهم أن يعطوهم نصيبهم من الميراث {وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِهِ عَلِيمًا} أي وما تفعلوه من عدلٍ وبرٍّ في أمر النساء واليتامى فإن الله يجازيكم عليه، قال ابن كثير: وهذا تهييجٌ على فعل الخيرات وامتثال الأوامر وأن الله سيجزي عليه أوفر الجزاء.

ثم ذكر تعالى حكم نشوز الرجل فقال {وَإِنْ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا} أي وإذا علمت امرأة أو شعرت من زوجها الترفع عليها أو الإِعراض عنها بوجهه بسبب الكره لها لدمامتها أو لكبر سنها وطموح عينه إلى من هي أشبُّ وأجمل منها {فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا} أي فلا حرج ولا إثم على كل واحد من الزوجين من المصالحة والتوفيق بينهما بإسقاط المرأة بعض حقوقها من نفقةٍ أو كسوةٍ أو مبيت لتستعطفه بذلك وتستديم مودته وصحبته، روى ابن جرير عن عائشة أنها قالت: هذا الرجل يكون له امرأتان إحداهما قد عجزت أو دميمة وهو لا يحبها فتقول: لا تطلقني وأنت حلٍّ من شأني {وَالصُّلْحُ خَيْرٌ} أي والصلح خيرٌ من الفراق {وَأُحْضِرَتِ الأنفُسُ الشُّحَّ} أي جبلت الأنفس على الشح وهو شدة البخل فالمرأة لا تكاد تسمح بحقها من النفقة والاستمتاع، والرجل لا تكاد نفسه تسمح بأن يقسم لها وأن يمسكها إذا رغب عنها وأحبَّ غيرها {وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا} أي وإن تحسنوا في معاملة النساء وتتقوا الله بترك الجور عليهن {فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} أي فإن الله عالم بما تعملون وسيجزيكم عليه أوفر الجزاء .

ثم ذكر تعالى أن العدل المطلق بين النساء بالغٌ من الصعوبة مبلغاً لا يكاد يطاق، وهو كالخارج عن حد الاستطاعة فقال {وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ} أي لن تستطيعوا أيها الرجال أن تحققوا العدل التام الكامل بين النساء وتسوّوا بينهن في المحبة والأُنس والاستمتاع {وَلَوْ حَرَصْتُمْ} أي ولو بذلتم كل جهدكم لأن التسوية في المحبة وميل القلب ليست بمقدور الإِنسان {فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ} أي لا تميلوا عن المرغوب عنها ميلاً كاملاً فتجعلوها كالمعلقة التي ليست بذات زوج ولا مطلقة، شبّهت بالشيء المعلَّق بين السماء والأرض، فلا هي مستقرة على الأرض ولا هي في السماء، وهذا من أبلغ التشبيه.

{وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا} أي وإن تصلحوا ما مضى من الجور وتتقوا الله بالتمسك بالعدل {فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا} أي يغفر ما فرط منكم ويرحمكم {وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلاً مِنْ سَعَتِهِ} أي وإن يفارق كل واحد منهما صاحبه، فإن الله يغنيه بفضله ولطفه، بأن يرزقه زوجاً خيراً من زوجه، وعيشاً أهنأ من عيشه {وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعًا حَكِيمًا} أي واسع الفضل على العباد حكيماً في تدبيره لهم.



حقيقة الملك وكمال القدرة والمشيئة لله تعالى وثواب الدنيا والآخرة



{وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ وَكَانَ اللَّهُ غَنِيًّا حَمِيدًا(131)وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً(132)إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ قَدِيرًا(133)مَنْ كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا(134)}



{وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ} أي ملكاً وخلقاً وعبيداً {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ} أي وصينا الأولين والآخرين وأمرناكم بما أمرناهم به من امتثال الأمر والطاعة {أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ} أي وصيناكم جميعاً بتقوى الله وطاعته {وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ} أي وإن تكفروا فلا يضره تعالى كفركم لأنه مستغنٍ عن العباد وهو المالك لما في السماوات والأرض {وَكَانَ اللَّهُ غَنِيًّا حَمِيدًا} أي غنياً عن خلقه، محموداً في ذاته، لا تنفعه طاعة الطائعين، ولا تضره معصية العاصين .

{وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً} أي كفى به حافظاً لأعمال عباده {إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ} أي لو أراد الله لأهلككم وأفناكم وأتى بآخرين غيركم {وَكَانَ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ قَدِيرًا} أي قادراً على ذلك {مَنْ كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا} أي من كان يريد بعمله أجر الدنيا فعند الله ما هو أعلى وأسمى وهو أجر الدنيا والآخرة فلم يطلب الأخسّ ولا يطلب الأعلى؟ فليسأل العبد ربه خيري الدنيا والآخرة فهو تعالى سميع لأقوال العباد بصير بأعمالهم.





العدل في القضاء والشهادة بحق، والإيمان بالله والرسول والكتب السماوية



{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوْ الْوَالِدَيْنِ وَالأقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا(135)يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيدًا(136)}



المنَـاسَــبَة:

لما أمر تعالى بالإِحسان إِلى النساء والعدل في معاملتهن، أمر هنا بالعدل العام في جميع الأحكام، ودعا إِلى أداء الشهادة على الوجه الأكمل سواء كان المشهود عليه غنياً أو فقيراً، وحذّر من اتباع الهوى، ثم دعا إِلى الإِيمان بجميع الملائكة والكتب والرسل، ثم أعقب ذلك بذكر أوصاف المنافقين المخزية وما لهم من العذاب والنكال في دركات الجحيم.



{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ} أي يا من آمنتم بالله وصدقتم كتابه كونوا مجتهدين في إِقامة العدل والاستقامة وأتى بصيغة المبالغة في {قَوَّامِينَ} حتى لا يكون منهم جورٌ أبداً {شُهَدَاءَ لِلَّهِ} أي تقيمون شهاداتكم لوجه الله دون تحيز ولا محاباة {وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوْ الْوَالِدَيْنِ وَالأقْرَبِينَ} أي ولو كانت تلك الشهادة على أنفسكم أو على آبائكم أو أقربائكم فلا تمنعنكم القرابة ولا المنفعة عن أداء الشهادة على الوجه الأكمل فإِن الحق حاكم على كل إِنسان.

{إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا} أي إِن يكن المشهود عليه غنياً فلا يراعى لغناه، أو فقيراً فلا يمتنع من الشهادة عليه ترحماً وإِشفاقاً {فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا} أي فالله أولى بالغني والفقير وأعلم بما فيه صلاحهما فراعوا أمر الله فيما أمركم به فإِنه أعلم بمصالح العباد منكم {فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا} أي فلا تتبعوا هوى النفس مخافة أن تعدلوا بين الناس، قال ابن كثير: أي لا يحملنكم الهوى والعصبية وبغض الناس إِليكم على ترك العدل في شؤونكم بل الزموا العدل على كل حال {وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا} أي وإِن تلووا ألسنتكم عن شهادة الحق أو تُعرضوا عن إِقامتها رأساً {فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} فيجازيكم عليه.

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} أي اثبتوا على الإِيمان ودوموا عليه {وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ} أي آمنوا بالقرآن الذي نزل على محمد صلى الله عليه وسلم {وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنزَلَ مِنْ قَبْلُ} أي وبالكتب السماوية التي أنزلها من قبل القرآن، قال أبو السعود: المراد بالكتاب الجنس المنتظم لجميع الكتب السماوية {وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيدًا} أي ومن يكفر بشيء من ذلك فقد خرج عن طريق الهدى، وبَعُد عن القصد كل البعد.



صفات المنافقين وجزاؤهم مواقفهم من المؤمنين



{إِنَّ الَّذِينَ ءامَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ءامَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً(137)بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا(138)الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا(139)وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا(140)الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً(141)}



{إِنَّ الَّذِينَ ءامَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ءامَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا} هذه الآية في المنافقين آمنوا ثم ارتدوا ثم آمنوا ثم ارتدوا ثم ماتوا على الكفر، قال ابن عباس: دخل في هذه الآية كل منافق كان في عهد النبي صلى الله عليه وسلم في البر والبحر، وقال ابن كثير: يخبر تعالى عمن دخل في الإِيمان ثم رجع ثم عاد إِلى الإِيمان ثم رجع واستمر على ضلاله ولهذا قال تعالى {لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً} أي لم يكن الله ليسامحهم على ذلك ولا ليهديهم طريقاً إِلى الجنة، قال الزمخشري: ليس المعنى انهم لو أخلصوا الإِيمان بعد تكرار الردة لم يُقبل منهم ولم يُغفر لهم ولكنه استبعاد له واستغراب كأنه أمر لا يكاد يكون، وهكذا ترى الفاسق الذي يتوب ثم يرجع ثم يتوب ثم يرجع لا يكاد يرجى منه الثبات، والغالب أنه يموت على شر حال، ثم أخبر تعالى عن مآل المنافقين فقال {بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} عبّر تعالى بلفظ {بَشِّر} تهكماً بهم أي أخبر يا محمد المنافقين بعذاب النار الأليم .

{الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} أي أولئك هم الذين يوالون الكافرين ويتخذونهم أعواناً وأنصارً لما يتوهمونه فيهم من القوة ويتركون ولاية المؤمنين {أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ} أي أيطلبون بموالاة الكفار القوة والغلبة؟ والاستفهام إِنكاري أي إِنّ الكفار لا عزة لهم فكيف تُبْتَغى منهم {فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا} أي العزة لله ولأوليائه قال ابن كثير والمقصود من هذا التهييجُ على طلب العزة من جناب الله {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ} أي نزّل عليكم في القرآن، والخطابُ لمن أظهر الإِيمان من مؤمن ومنافق {أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ ءايَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا} أي أنزل عليكم أنه إِذا سمعتم القرآن يَكْفر به الكافرون ويَسْتهزئ به المستهزئون {فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ} أي لا تجلسوا مع الكافرين الذين يستهزئون بآيات الله حتى يتحدثوا بحديث آخر ويتركوا الخوض في القرآن {إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ} أي إِنكم إِن قعدتم معهم كنتم مثلهم في الكفر {إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا} أي يجمع الفريقين الكافرين والمنافقين في الآخرة في نار جهنم لأن المرء مع من أحب، وهذا الوعيد منه تعالى للتحذير من مخالطتهم ومجالستهم .

ثم ذكر تعالى تربصهم السوء بالمؤمنين فقال {الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ} أي ينتظرون بكم الدوائر {فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ} أي غلبةٌ على الأعداء وغنيمة {قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ} أي فأعطونا مما غنمتموه من الكافرين {وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ} أي ظفرٌ عليكم يا معشر المؤمنين {قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} أي قالوا للمشركين ألم نغلبكم ونتمكنْ من قتلكم وأسركم فأبقينا عليكم وثبطنا عزائم المؤمنين حتى انتصرتم عليهم؟ فهاتوا نصيبنا مما أصبتم لأننا نواليكم ولا نترك أحداً يؤذيكم قال تعالى بياناً لمآل الفريقين {فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} أي يحكم بين المؤمنين والكافرين ويفصل بينهم بالحق {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً} أي لن يمكّنَ الكفرة من رقاب المؤمنين فيبيدوهم ويستأصلوهم، قال ابن كثير: وذلك بأن يسلطوا عليهم استيلاء استئصال بالكلية وإِن حصل لهم ظفر في بعض الأحيان، فإِن العاقبة للمتقين في الدنيا والآخرة.



بعض مواقف المنافقين وعقابهم والنهي عن موالاة الكافرين



{إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلا قَلِيلاً(142)مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لا إِلَى هَؤُلاءِ وَلا إِلَى هَؤُلاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً(143)يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُبِينًا(144)إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا(145)إِلا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا(146)مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَءامَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا(147)}



{إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ} أي يفعلون ما يفعل المخادع من إِظهار الإِيمان وإِبطال الكفر والله يجازيهم على خداعهم ويستدرجهم بأمر المؤمنين بحقن دمائهم، وقد أعدّ لهم الدرك الأسفل من النار في الآخرة، فسمّى تعالى جزاءهم خداعاً بطريق المشاكلة لأن وبال خداعهم راجع عليهم {وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى} أي يصلون وهم متثاقلون متكاسلون، لا يرجون ثواباً ولا يخافون عقاباً {يُرَاءُونَ النَّاسَ} أي يقصدون بصلاتهم الرياء والسمعة ولا يقصدون وجه الله {وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلا قَلِيلاً} أي لا يذكرون الله سبحانه إِلا ذكراً قليلاً.

{مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ} أي مضطربين مترددين بين الكفر والإِيمان، وصفهم تعالى بالحيرة في دينهم {لا إِلَى هَؤُلاءِ وَلا إِلَى هَؤُلاءِ} أي لا ينتسبون إِلى المؤمنين ولا إِلى الكافرين {وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً} أي ومن يضلله الله فلن تجد له طريقاً إلى السعادة والهدى.

ثم حذّر تعالى المؤمنين من موالاة أعداء الدين فقال {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} أي لا تتركوا موالاة المؤمنين وتوالوا الكفرة المجرمين بالمصاحبة والمصادقة {أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُبِينًا} أي أتريدون أن تجعلوا لله حجة بالغة عليكم أنكم منافقون؟ قال ابن عباس: كل سلطانٍ في القرآن حجةٌ.

ثم أخبر تعالى عن مآل المنافقين فقال {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأسْفَلِ مِنْ النَّارِ} أي في الطبقة التي في قعر جهنم وهي سبع طبقات، قال ابن عباس: أي في أسفل النار، وذلك لأنهم جمعوا مع الكفر الاستهزاء بالإِسلام وأهله، والنارُ دركات كما أن الجنة درجات {وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا} أي لن تجد لهؤلاء المنافقين ناصراً ينصرهم من عذاب الله {إِلا الَّذِينَ تَابُوا} وهذا استثناء أي تابوا عن النفاق {وَأَصْلَحُوا} أي أعمالهم ونياتهم {وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ} أي تمسكوا بكتاب الله ودينه {وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ} أي لم يبتغوا بعملهم إِلا وجه الله {فَأُوْلَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ} أي في زمرتهم يوم القيامة {وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا} أي يعطيهم الأجر الكبير في الآخرة وهو الجنة {مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَءامَنْتُمْ} أي أيُّ منفعةٍ له سبحانه في عذابكم؟ أيتشفى به من الغيظ، أم يدرك به الثأر، أم يدفع به الضر ويستجلب النفع وهو الغنى عنكم؟ {وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا} أي شاكراً لطاعة العباد مع غناه عنهم يعطي على العمل القليل الثواب الجزيل.





الجهر بالسوء والعفو عنه، وإبداء الخير وإخفاؤه



{لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلا مَنْ ظُلِمَ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا(148)إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا(149)}



المنَــاسَـــبَة:

لما ذكر تعالى المنافقين وفضحهم في الآيات السابقة، ذكر هنا أنه لا يحب إظهار الفضائح والقبائح، إِلا في حق من زاد ضررُه وعظُم خطرُه، فلا عجب أن يكشف الله عن المنافقين الستر، ثم تحدث عن اليهود وعدَّد بعض جرائمهم الشنيعة مثل طلبهم لرؤية الله، وعبادتهما للعجل، وادعائهم صلب المسيح، واتهامهم مريم البتول بالفاحشة إلى غير ما هنالك من قبائح وجرائم شنيعة.



{لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلا مَنْ ظُلِمَ} أي لا يحب الله الفُحْش في القول والإِيذاء باللسان إِلا المظلوم فإِنه يباح له أن يجهر بالدعاء على ظالمه وأن يذكره بما فيه من السوء، قال ابن عباس: المعنى لا يحب الله أن يدعو أحد على أحد إِلا أن يكون مظلوماً {وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا} أي سميعاً لدعاء المظلوم عليماً بالظالم.

{إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ} أي إِن أظهرتم أيها الناس عمل الخير أو أخفيتموه أو عفوتم عمن أساء إِليكم {فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا} أي كان مبالغاً في العفو مع كمال قدرته على المؤاخذة، قال الحسن: يعفو عن الجانين مع قدرته على الانتقام فعليكم أن تقتدوا بسنة الله تعالى، وقد حثّ تعالى على العفو وأشار إِلى أنه عفوٌّ مع قدرته فكيف لا تعفون مع ضعفكم وعجزكم؟‍



جزاء الكفر والإيمان



{إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً(150)أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا(151)وَالَّذِينَ ءامَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُوْلَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا(152)}



{إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ} الآية في اليهود والنصارى لأنهم آمنوا بأنبيائهم وكفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم وغيره، جعل كفرهم ببعض الرسل كفراً بجميع الرسل، وكفرَهُم بالرسل كفراً بالله تعالى {وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ} التفريقُ بين الله ورسله أن يؤمنوا بالله ويكفروا برسله، وكذلك التفريق بين الرسل هو الكفر ببعضهم والإِيمان ببعضهم وقد فسره تعالى بقوله بعد {وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ} أي نؤمن ببعض الرسل ونكفر ببعض، قال قتادة: أولئك أعداء الله اليهود والنصارى، آمنت اليهود بالتوراة وموسى وكفروا بالإِنجيل وعيسى، وآمنت بالنصارى بالإِنجيل وعيسى وكفروا بالقرآن وبمحمد صلى الله عليه وسلم وتركوا الإِسلام دين الله الذي بعث به رسله {وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً} أي طريقاً وسطاً بين الكفر والإِيمان ولا واسطة بينهما .

{أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا} أي هؤلاء الموصوفون بالصفات القبيحة هم الكافرون يقيناً ولو ادعوا الإِيمان {وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا}أي هيأنا لهم عذاباً شديداً مع الإِهانة والخلود في نار جهنم {وَالَّذِينَ ءامَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ} أي صدّقوا الله وأقروا بجميع الرسل وهم المؤمنون أتباع محمد صلى الله عليه وسلم لم يفرقوا بين أحد من رسله بل آمنوا بجميعهم {أُوْلَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ} أي سيعطيهم الله ثوابهم الكامل على الإِيمان بالله ورسله {وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} أي غفوراً لما سلف منهم من المعاصي والآثام متفضلاً عليهم بأنواع الإِنعام.



من مواقف اليهود المتعنتة



{يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ فَعَفَوْنَا عَنْ ذَلِكَ وءاتَيْنَا مُوسَى سُلْطَانًا مُبِينًا(153)وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثَاقِهِمْ وَقُلْنَا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُلْنَا لَهُمْ لا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا(154)فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الأنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلا قَلِيلاً(155)وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا(156)وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا(157)بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا(158)وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا(159)}



{يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ} نزلت في أحبار اليهود حين قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم إِن كنت نبياً فأتنا بكتاب من السماء جملة كما أتى به موسى جملة، وإِنما طلبوا ذلك على وجه التعنت والعناد، فذكر تعالى سؤالهم ما هو أفظع وأشنع من ذلك تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم وليتأسى بمن سبقه من الرسل فقال {فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً} أي سألوا موسى رؤية الله عز وجل عياناً {فَأَخَذَتْهُمْ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ} أي جاءتهم من السماء نار فأهلكتهم بسبب ظلمهم .

{ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءتْهُمْ الْبَيِّنَاتُ} أي ثم اتخذوا العجل إِلهاً وعبدوه من بعد ما جاءتهم المعجزات والحجج الباهرات من العصا واليد وفلق البحر وغيرها، قال أبو السعود: وهذه المسألة - وهي طلب رؤية الله - وإِن صدرت عن أسلافهم لكنهم لما كانوا مقتدين بهم في كل ما يأتون ويذرون أسندت إِليهم {فَعَفَوْنَا عَنْ ذَلِكَ} أي عفونا عما ارتكبوه مع عظم جريمتهم وخيانتهم {وَءاتَيْنَا مُوسَى سُلْطَانًا مُبِينًا} أي حجة ظاهرة تظهر صدقه وصحة نبوته، قال الطبري: وتلك الحجة هي الآيات البينات التي آتاه الله إِياها {وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثَاقِهِمْ} أي رفعنا الجبل فوقهم لما امتنعوا عن قبول شريعة التوراة بسبب الميثاق ليقبلوه {وَقُلْنَا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا} أي ادخلوا باب بيت المقدس مطأطئين رؤوسكم خضوعاً لله فخالفوا ما أُمروا به ودخلوا يزحفون على أستاههم وهم يقولون حنطة في شعرة استهزاءً {وَقُلْنَا لَهُمْ لا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ} أي لا تعتوا باصطياد الحيتان يوم السبت فخالفوا واصطادوا {وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا} أي عهداً وثيقاً مؤكداً .

{فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ} أي فبسبب نقضهم الميثاق لعنّاهم وأذللناهم و{ما} لتأكيد المعنى {وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللَّهِ} أي وبجحودهم بالقرآن العظيم {وَقَتْلِهِمُ الأنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ} كزكريا ويحيى عليهما السلام {وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ} أي قولهم للنبي صلى الله عليه وسلم قلوبنا مغشّاة بأغشية لا تعي ما تقوله يا محمد، قال تعالى رداً عليهم {بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً} أي بل ختم تعالى عليها بسبب الكفر والضلال فلا يؤمن منهم إِلا القليل كعبد الله بن سلام وأصحابه.

{وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا} أي وبكفرهم بعيسى عليه السلام أيضاً ورميهم مريم بالزنى وقد فضلها الله على نساء العالمين {وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ} أي قتلنا هذا الذي يزعم أنه رسول الله، وهذا إِنما قالوه على سبيل "التهكم والاستهزاء" كقول فرعون{إِن رسولكم الذي أُرسل إِليكم لمجنون} وإِلاّ فهم يزعمون أن عيسى ابن زنى وأمه زانية ولا يعتقدون أنه رسول الله تعالى {وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ} أي وما قتلوا عيسى ولا صلبوه ولكن قتلوا وصلبوا من أُلقي عليه شَبَهُه، قال البيضاوي: روي أن رجلاً كان ينافق لعيسى فخرج ليدل عليه فألقى الله عليه شبهه فأُخذ وصُلب وهم يظنون أنه عيسى .

{وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ} أي وإِن الذين اختلفوا في شأن عيسى لفي شك من قتله، روي أنه لما رُفع عيسى وأُلقي شبهه على غيره فقتلوه قالوا: إِن كان هذا المقتول عيسى فأين صاحبنا؟ وإِن كان هذا صاحبنا فأين عيسى؟ فاختلفوا فقال بعضهم هو عيسى وقال بعضهم ليس هو عيسى بل هو غيره، فأجمعوا أن شخصاً قد قتل واختلفوا من كان {مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلا اتِّبَاعَ الظَّنِّ} أي ما لهم بقتله علم حقيقي ولكنهم يتبعون فيه الظنَّ الذي تخيَّلوه {وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا * بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ} أي وما قتلوه متيقنين أنه هو بل شاكين متوهمين ونجّاه الله من شرهم فرفعه إِلى السماء حياً بجسده وروحه كما دلت على ذلك الأحاديث الصحيحة {وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} أي عزيزاً في ملكه حكيماً في صنعه .

{وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ} أي ليس أحد من اليهود والنصارى إِلا ليؤمننَّ قبل موته بعيسى وبأنه عبد الله ورسوله حين يعاين ملائكة الموت ولكن لا ينفعه إِيمانه، قال ابن عباس: لا يموت يهودي حتى يؤمن بعيسى قيل له: أرأيت إِن ضرُبت عُنق أحدهم؟ قال: يلجلج بها لسانه وكذا صحّ عن مجاهد وعكرمة وابن سيرين {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا} أي يشهد عيسى على اليهود بأنهم كذبوه وعلى النصارى بأنهم دعوه ابن الله.



عاقبة ظلم اليهود وارتكابهم المنهي عنه، وثواب المؤمنين منهم



{فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا(160)وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا(161)لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ أُوْلَئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْرًا عَظِيمًا(162)}



{فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ} أي بسبب ظلم اليهود وما ارتكبوه من الذنوب العظيمة حرمنا عليهم أنواعاً من الطيبات التي كانت محلّلة لهم {وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا} أي وبمنعهم كثيراً من الناس عن الدخول في دين الله، قال مجاهد: صدوا أنفسهم وغيرهم عن الحق {وَأَخْذِهِمْ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ} أي تعاطيهم الربا وقد حرمه الله عليهم في التوراة {وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ} أي بالرشوة وسائر الوجوه المحرمة {وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} أي وهيأنا لمن كفر من هؤلاء اليهود العذاب المؤلم الموجع .

{لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ} أي لكن المتمكنون في العلم منهم والثابتون فيه كعبد الله بن سلام وجماعته {وَالْمُؤْمِنُونَ} أي من المهاجرين والأنصار أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من غير أهل الكتاب {يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِنْ قَبْلِكَ} أي يؤمنون بالكتب والأنبياء {وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ} أي أمدح المقيمين الصلاة فهو نصبٌ على المدح {وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} أي المعطون زكاة أموالهم {وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} أي والمؤمنون بوحدانية الله وبالبعث بعد الموت {أُوْلَئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْرًا عَظِيمًا} أي هؤلاء الموصوفون بالأوصاف الجليلة سنعطيهم ثواباً جزيلاً على طاعتهم هو الخلود في الجنة.







وحدة الوحي الإلهي والحكمة من إرسال الرسل



{إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَءاتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا(163)وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا(164)رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا(165)لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنزَلَ إِلَيْكَ أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا(166)}



المنَـاسَــبَة:

لما حكى تعالى جرائم اليهود التي من ضمنها كفرهم بعيسى ومحمد وزعمهم أنهم صلبوا المسيح، ذكر تعالى هنا أن الإِيمان بجميع الرسل شرط لصحة الإِيمان، وأنه أرسل سائر المرسلين مبشرين ومنذرين، ثم دعا النصارى إِلى عدم الغلو في شأن المسيح باعتقادهم فيه أنه ابن الله أو ثالث ثلاثة، فليس هو ابن الله كما يزعم النصارى وليس ابن زنى كما يزعم اليهود فكلا الفريقين واقع بين الإِفراط والتفريط، ثم ختمت السورة الكريمة بما ابتدأت به من رعاية حقوق الورثة من الأقرباء.



{إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ} أي نحن أوحينا إِليك يا محمد كما أوحينا إِلى نوحٍ والأنبياء من بعده، وإِنما قدّم صلى الله عليه وسلم في الذكر وإِن تأخرت نبوته لتقدمه في الفضل {وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَءاتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا} أي وأوحينا إِلى سائر النبيين إِبراهيم وإِسماعيل وغيرهم وقد خصَّ تعالى بالذكر هؤلاء تشريفاً وتعظيماً لهم وبدأ بعد محمد صلى الله عليه وسلم بنوحٍ لأنه شيخ الأنبياء وأبو البشر الثاني ثم ذكر إِبراهيم لأنه الأب الثالث ومنه تفرعت شجرة النبوة كما قال تعالى {وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ} [العنكبوت: 27] وقدّم عيسى على أنبياء كانوا قبله لشدة العناية بأمره لغلو اليهود في الطعن فيه والنصارى في تقديسه {وءاتينا داود زبوراً} أي وخصصنا داود بالزبور، قال القرطبي: كان فيه مائة وخمسون سورة ليس فيها حكمٌ من الأحكام وإِنما هي حِكَمٌ ومواعظ.

{وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ} أي وأرسلنا رسلاً منهم من ذكرنا أخبارهم لك يا محمد في غير هذه السورة {وَرُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ} أي ورسلاً آخرين لم نخبرك عن أحوالهم {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} أي وخصّ الله موسى بأن كلّمه بلا واسطة ولهذا سُمي الكليم، وإِنما أكَّد {تَكْلِيمًا} رفعاً لاحتمال المجاز قال ثعلب: لولا التأكيد لجاز أن تقول: قد كلمت لك فلاناً بمعنى كتبت إِليه رقعة أو بعثت إِليه رسولاً فلما قال تكليماً لم يكن إِلا كلاماً مسموعاً من الله تعالى.

{رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ} أي يبشرون بالجنة من أطاع وينذرون بالنار من عصى {لِئَلا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} أي بعثهم الله ليقطع حجة من يقول لو أُرسل إِليَّ رسولٌ لآمنتُ وأطعت فقطع الله حجة البشر بإِرسال الرسل وإِنزال الكتب {وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} أي عزيزاً في ملكه حكيماً في صنعه.

ثم ذكر تعالى رداً على اليهود حين أنكروا نبوة محمد فقال {لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنزَلَ إِلَيْكَ} أي إِن لم يشهد لك هؤلاء بالنبوة فالله يشهد لك بذلك بما أنزل إِليك من القرآن المعجز {أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ} أي أنزله بعلمه الخاص الذي لا يعلمه غيره بأسلوب يعجز عنه كل بليغ، والملائكة يشهدون كذلك بما أنزل الله إِليك ويشهدون بنبوتك {وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا} أي كفى الله شاهداً فشهادته تعالى تغنيك وتكفيك وإِن لم يشهد غيره.





جزاء الكافرين والدعوة للإيمان بالرسول صلى الله عليه وسلم



{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا ضَلالاً بَعِيدًا(167)إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا(168)إِلا طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا(169)يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ فَآمِنُوا خَيْرًا لَكُمْ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا(170)}



{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا ضَلالاً بَعِيدًا} أي كفروا بأنفسهم ومنعوا الناس عن الدخول في دين الله قد ضلوا عن طريق الرشاد ضلالاً بعيداً لأنهم جمعوا بين الضلال والإِضلال فضلالهم في أقصى الغايات {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا} قال الزمخشري: أي جمعوا بين الكفر والمعاصي {لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا} أي لن يعفو الله عنهم ولن يهديهم إِلى طريق الجنة لأنهم ماتوا على الكفر {إِلا طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا} أي لن يهديهم إِلا إِلى الطريق الموصلة إِلى جهنم {وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا} لا يصعب عليه ولا يستعظمه .

{يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ} أي يا أيها الناس قد جاءكم محمد بالدين الحق والشريعة السمحة من عند ربكم {فَآمِنُوا خَيْرًا لَكُمْ} أي صدّقوا ما جاءكم من عند ربكم يكن الإِيمان خيراً لكم { وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ} أي وإِن تستمروا على الكفر فإِن الله غني عنكم لا يضره كفركم إِذ له ما في الكون ملكاً وخلقاً وعبيداً {وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا} أي عليماً بأحوال العباد حكيماً فيما دبره لهم.



سبب النزول:

جاء وفد من النصارى إِلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا يا محمد: لم تعيب صاحبنا؟ قال: ومن صاحبكم؟ قالوا عيسى قال: وأي شيء أقول فيه؟ قالوا تقول: إِنه عبد الله ورسوله، فقال لهم: إِنه ليس بعار أن يكون عبداً لله قالوا: بلى فأنزل الله {لَنْ يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ} [النساء: 172].



الرد على ضلالات النصارى وإفراطهم في تعظيم المسيح



{يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا علَى اللَّهِ إِلا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً(171)لَنْ يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا(172)فَأَمَّا الَّذِينَ ءامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا(173)}



ولما ردّ تعالى شبهة اليهود فيما سبق أخذ في الردّ على ضلالات النصارى في إِفراطهم فقال {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ} أي يا معشر النصارى لا تتجاوزوا الحدَّ في أمر الدين بإفراطكم في شأن المسيح وادعاء ألوهيته وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ} أي لا تصفوا الله بما لا يليق من الحلول والاتحاد واتخاذ الصاحبة والولد.

{إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ} أي ما عيسى إِلا رسولٌ من رسل الله وليس ابن الله كما زعمتم {وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ} أي وقد خلق بكلمته تعالى "كنْ" من غير واسطة أب ولا نطفة {وَرُوحٌ مِنْهُ} أي ذو روح مبتدأةٍ من الله وهو أثر نفخة جبريل في صدر مريم حيث حملت بتلك النفخة بعيسى، وإِنما أضيف إِلى الله تشريفاً وتكريماً {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ} أي آمنوا بوحدانيته وصدقوا رسله أجمعين {وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ} أي لا تقولوا الآلهة ثلاثة: الله، والمسيح، ومريم، أو الله ثلاثة: الأب والإِبن وروح القدس، فنهاهم تعالى عن التثليث وأمرهم بالتوحيد لأن الإِله منزّه عن التركيب وعن نسبة المركب إِليه {انتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ} أي انتهوا عن التثليث يكن ذلك خيراً لكم.

{إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ} أي منفرد في ألوهيته ليس كما تزعمون أنه ثالث ثلاثة {سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ} أي تنزّه الله عن أن يكون له ولد {لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ} خلقاً وملكاً وعبيداً وهو تعالى لا يماثله شيء حتى يتخذه ولداً {وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً} تنبيه على غناه عن الولد أي كفى الله أن يقوم بتدبير مخلوقاته وحفظها فلا حاجة له إِلى ولدٍ أو معين لأنه مالك كل شيء.

ثم ردّ تعالى على النصارى مزاعمهم الباطلة فقال {لَنْ يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ} أي لن يأنف ويتكبر المسيح الذي زعمتم أنه إِلهٌ عن أن يكون عبداً لله {وَلا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ} أي لا يستنكفون أيضاً أن يكونوا عبيداً لله {وَمَنْ يَسْتَنكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا} أي ومن يأنف ويتكبر عن عبادة الله سبحانه فسيبعثهم يوم القيامة للحساب والجزاء {فَأَمَّا الَّذِينَ ءامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ} أي يوفيهم ثواب أعمالهم {وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ} أي بإِعطائهم ما لا عينٌ رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر {وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} أي وأما الذين أنفوا وتعظّموا عن عبادته فسيعذبهم عذاباً موجعاً شديداً {وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا} أي ليس لهم من يتولاهم أو ينصرهم من عذاب الله.



دعوة الناس للإيمان بالقرآن



{يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا(174)فَأَمَّا الَّذِينَ ءامَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا(175)}



{يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ} أي أتاكم حجة من الله وهو محمد رسول الله المؤيد بالمعجزات الباهرة {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا} أي أنزلنا عليكم القرآن ذلك النور الوضاء {فَأَمَّا الَّذِينَ ءامَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ} أي صدقوا بوحدانية الله وتمسكوا بكتابه المنير {فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ} أي سيدخلهم في جنته دار الخلود {وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا} أي يهديهم إِلى دين الإِسلام في الدنيا وإِلى طريق الجنة في الآخرة.



ميراث الكلالة: الإخوة والأخوات لأب وأم أو لأب



{يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالاً وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ(176)}



{يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ} أي يستفتونك يا محمد في شأن الميت إذا لم يكن له والدٌ أو ولد من يرثه؟ {إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ} أي قل لهم من مات وليس له والدٌ أو ولد وهي الكلالة {وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ} أي وله أخت شقيقة أو أخت لأب فلها نصف ما ترك أخوها {وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ} أي وأخوها الشقيق أو لأب يرث جميع ما تركت إِن لم يكن لها ولد.

{فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ} أي إِن كانت الأختان اثنتين فأكثر فلهما الثلثان مما ترك أخوهم {وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالاً وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ} أي وإِن كان الورثة مختلطين إِخوة وأخواتٍ فللذكر منهم مثل نصيب الأختين {يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا} أي يبيّن الله لكم أحكامه وشرائعه خشية أن تضلوا {وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} أي يعلم ما فيه مصلحتكم ومنفعتكم فهو تعالى العالم بمصالح العباد في المحيا والممات.

عبد الحليم شرقي
2011-03-26, 10:44
بارك الله فيك

yacine414
2011-03-26, 10:52
سورة المائدة



الوفاء بالعقود ومنع الاعتداء والأمر بالتعاون على الخير وتعظيم شعائر الله

بيان الأطعمة المحرمة وإكمال الدين وبيان حال وأحكام الضرورة

المطعومات الحلال والزواج بالكتابيات

فرضية الوضوء والغسل من الجنابة والتيمم

الشهادة بالقسط والحكم بالعدل ووعد المؤمنين بالمغفرة والكافرين بالعذاب

التذكير بنعمة الله ونقض اليهود والنصارى للميثاق

كشف الرسول صلى الله عليه وسلم لما كان يخفيه أهل الكتاب، وهداية القرآن للحق

الرد على معتقدات اليهود والنصارى

تذكير موسى لقومه بنعم الله عليهم، وأمره لهم بدخول بيت المقدس

قصة قابيل وهابيل، وأول جريمة قتل في الدنيا

عقوبة قُطَّاع الطُّرق

أَمَرَ الله المؤمنين بالتقوى والجهاد وبيَّن حال الكافرين في الآخرة

حد السرقة

"كلمة وجيزة حول قطع يد السارق"

التوراة هدى ونور شُرِعَ القصاص فيها، وإلزام النصارى بالحكم بما فيها

الحكم بشريعة القرآن

النهي عن موالاة اليهود والنصارى

المرتدُّون ومعاداتهم للمسلمين

أسباب النهي عن موالاة الكفار

من أقبح أقوال اليهود ، وإلقاء العداوة والبغضاء بينهم ، وجزاء إيمان أهل الكتاب

أَمْرُ الرسول صلى الله عليه وسلم بتبليغ الوحي، وعصمته من الناس، ودعوة أهل الكتاب للإِيمان برسالة النبي صلى الله عليه وسلم

تكذيب اليهود رسلَهم وقتلهم إياهم

كفر النصارى بتأليههم المسيح، وما هو إلا بَشَرٌ رسول

مناقشة النصارى في تأليه عيسى عليه السلام، ومطالبة أهل الكتاب بعدم الغلوّ في الدين،ولعنة بني إسرائيل لعدم نهيهم عن المنكر

اليهود والنصارى في الميزان

النهي عن تحريم الطيِّبات

أنواع الأيمان وكفَّاراتها

التحريم الصريح لعادات جاهلية

قتل الصيد في الإحرام وما يترتب عليه من أحكام

تعظيم البيت الحرام وجعله حرماً آمناً

نفي المساواة بين الخبيث والطيب

النهي عن الأسئلة غير المفيدة

التحليل والتحريم لله وحده سبحانه وتعالى

الهداية من الله والمرجع إليه

الحض على الوصية والاهتمام بأمرها

تذكير باليوم الآخر

معجزات عيسى عليه السلام

قصة المائدة

عيسى عليه السلام ينفي عن نفسه مزاعم النصارى





بَين يَدَيْ السُّورَة



* سورة المائدة من السور المدنية الطويلة، وقد تناولت كسائر السور المدنية جانب التشريع بإِسهاب مثل سورة البقرة، والنساء، والأنفال، إِلى جانب موضوع العقيدة وقصص أهل الكتاب، قال أبو ميسرة: المائدة من آخر ما نزل من القرآن ليس فيها منسوخ وفيها ثمان عشرة فريضة.



* نزلت هذه السورة منصرفَ رسول الله صلى الله عليه وسلم من الحديبية، وجِمَاعها يتناول الأحكام الشرعية لأن الدولة الإِسلامية كانت في بداية تكوينها وهي بحاجة إِلى المنهج الرباني الذي يعصمها من الزلل، ويرسم لها طريق البناء والاستقرار.



* أما الأحكام التي تناولتها السورة فنلخصها فيما يلي: "أحكام العقود، الذبائح، الصيد، الإِحرام، نكاح الكتابيات، الردة، أحكام الطهارة، حدّ السرقة، حدّ البغي والإفساد في الأرض، أحكام الخمر والميسر، كفارة اليمين، قتل الصيد في الإِحرام، الوصية عند الموت، البحيرة والسائبة، الحكم على من ترك العمل بشريعة الله" إِلى آخر ما هنالك من الأحكام التشريعية.



* وإِلى جانب التشريع قصَّ تعالى علينا في هذه السورة بعض القصص للعظة والعبرة، فذكر قصة بني إِسرائيل مع موسى وهي قصة ترمز إِلى التمرد والطغيان ممثلة في هذه الشرذمة الباغية من "اليهود" حين قالوا لرسولهم {فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَهُنَا قَاعِدُونَ} [المائدة: 24] وما حصل لهم من التشرد والضياع إِذ وقعوا في أرض التيه أربعين سنة.





*ثم قصة ابني آدم وهي قصةٌ ترمز إِلى الصراع العنيف بين قوتي الخير والشر، ممثلة في قصة "قابيل وهابيل" حيث قتل قابيل أخاه هابيل وكانت أول جريمة نكراء تحدث في الأرض أريق فيها الدم البريء الطاهر، والقصة تعرض لمنوذجين من نماذج البشرية: نموذج النفس الشريرة الأثيمة، ونموذج النفس الخيّرة الكريمة {فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [المائدة: 30] كما ذكرت السورة قصة "المائدة" التي كانت معجزة لعيسى بن مريم ظهرت على يديه أمام الحواريين.

والسورة الكريمة تعرض أيضاً لمناقشة "اليهود والنصارى" في عقائدهم الزائفة، حيث نسبوا إِلى الله ما لا يليق من الذرية والبنين، ونقضوا العهود والمواثيق، وحرفوا التوراة والإِنجيل، وكفروا برسالة محمد عليه السلام إِلى آخر ما هنالك من ضلالات وأباطيل، وقد ختمت السورة الكريمة بالموقف الرهيب يوم الحشر الأكبر حيث يُدْعى السيد المسيح عيسى بن مريم على رؤوس الأشهاد ويسأله ربه تبكيتاً للنصارى الذين عبدوه من دون الله {ءأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ} [المائدة: 116] ويا له من موقف مخزٍ لأعداء الله، تشيب لهوله الرؤوس، وتتفطر من فزعه النفوس!!



فضــلهَــا:

عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه قال: أُنزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم سورة المائدة وهو راكب على راحلته فلم تستطع أن تحمله فنزل عنها.





التسميَة:

سميت سورة "المائدة" لورود ذكر المائدة فيها حيث طلب الحواريون من عيسى عليه السلام آية تدل على صدق نبوته وتكون لهم عيداً وقصتها أعجبُ ما ذكر فيها لاشتمالها على آيات كثيرة ولطفٍ عظيم من الله العليّ الكبير.



الوفاء بالعقود ومنع الاعتداء والتعاون على الخير وتعظيم شعائر الله



{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءامنوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ إِلا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ(1)يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُوا لا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلا الْهَدْيَ وَلا الْقَلائِدَ وَلا ءامِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَانًا وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ(2)}



{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} الخطاب بلفظ الإِيمان للتكريم والتعظيم أي يا معشر المؤمنين أوفوا بالعقود وهو لفظ يشمل كل عقدٍ وعهد بين الإِنسان وربه وبين الإِنسان والإِنسان، قال ابن عباس: العقود العهود وهي ما أحلَّ الله وما حرّم وما فرض في القرآن كله من التكاليف والأحكام {أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ إِلا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ} أي أُبيح لكم أكل الأنعام وهي الإِبل والبقر والغنم بعد ذبحها إِلا ما حُرّم عليكم في هذه السورة وهي الميتة والدم ولحم الخنزير إلخ { غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} أي أُحلت لكم هذه الأشياء من غير أن تستحلوا الصيد وأنتم محرمون {إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ} أي يقضي في خلقه بما يشاء لأنه الحكيم في أمره ونهيه .

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُوا لا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ} أي لا تستحلوا حُرمات الله ولا تعتدوا حدوده، قال الحسن: يعني شرائعه التي حدها لعباده، وقال ابن عباس: ما حرّم عليكم في حال الإِحرام {وَلا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلا الْهَدْيَ وَلا الْقَلائِدَ} أي ولا تستحلوا الشهر الحرام بالقتال فيه، ولا ما أُهدي إِلى البيت أو قُلّد بقلادة ليعرف أنه هدي بالتعرض له ولأصحابه { وَلا ءاِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَانًا} أي ولا تستحلوا قتال القاصدين إِلى بيت الله الحرام لحج أو عمرة، نهى تعالى عن الإِغارة عليهم أو صدهم عن البيت كما كان أهل الجاهلية يفعلون {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} أي إِذا تحللتم من الإِحرام فقد أُبيح لكم الصيد .

{ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا} أي لا يحملنكم بغضُ قوم كانوا قد صدوكم عن المسجد الحرام على أن تعتدوا عليهم {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} أي تعاونوا على فعل الخيرات وترك المنكرات، وعلى ما يقرب إِلى الله {وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} أي خافوا عقابه فإِنه تعالى شديد العقاب لمن عصاه.



بيان الأطعمة المحرمة وإكمال الدين وبيان حال وأحكام الضرورة



{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالأَزْلامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ(3)}



{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنزِيرِ} أي حُرّم عليكم أيها المؤمنون أكل الميتة وهي ما مات حتف أنفه من غير ذكاة والدم المسفوح ولحم الخنزير، قال الزمخشري: كان أهل الجاهلية يأكلون هذه المحرمات: البهيمة التي تموت حتف أنفها والفصيد وهو الدم في الأمعاء يشوونه ويقولون لم يحرم من فُزد - أي فصد - له وإِنما ذكر لحم الخنزير ليبيّن أنه حرام بعينه حتى ولو ذبح بالطريق الشرعي {وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ} أي ما ذكر عليه غير اسم الله أو ذبح لغير الله كقولهم باسم اللات والعزّى.

{وَالْمُنْخَنِقَةُ} هي التي تُخنق بحبلٍ وشبهه {وَالْمَوْقُوذَةُ} هي المضروبة بعصا أو حجر {وَالْمُتَرَدِّيَةُ} هي التي تسقط من جبل ونحوه {وَالنَّطِيحَةُ} هي التي نطحتها بهيمة أُخرى فماتت بالنطح {وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ} أي أكل بعضَه السبع فمات {إِلا مَا ذَكَّيْتُمْ} أي إِلا ما أدركتم فيه الروح من هذه الأشياء فذبحتموه الذبح الشرعي قبل الموت قال الطبري: معناه إِلاّ ما طهرتموه بالذبح الذي جعله الله طهوراً {وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ} أي وما ذُبح على الأحجار المنصوبة، قال قتادة: النُّصبُ حجارةٌ كان أهل الجاهلية يعبدونها ويذبحون لها فنهى الله عن ذلك، قال الزمخشري: كانت لهم حجارة منصوبة حول البيت يذبحون عليها ويشرحون اللحم عليها، يعظمونها بذلك ويتقربون به إِليها فنهى الله المؤمنين عن هذا الصنيع.

{وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالأَزْلامِ} أي وحُرّم عليكم الاستقسام بالأزلام أي طلب معرفة ما قُسم له من الخير والشر بواسطة ضرب القداح قال في الكشاف: كان أحدهم إِذا أراد سفراً أو غزواً أو تجاره أو نكاحاً أو أمراً من معاظم الأمور ضرب بالقداح وهي مكتوبة على بعضها: نهاني ربي، وعلى بعضها أمرني ربي، وبعضُها غُفْلٌ فإِن خرج الآمر مضى لغرضه وإِن خرج الناهي أمسك وإِن خرج الغفل أعاد {ذَلِكُمْ فِسْقٌ} أي تعاطيه فسقٌ وخروجٌ عن طاعة الله لأنه دخولٌ في علم الغيب الذي استأثر الله به علاّم الغيوب .

{الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ} أي انقطع طمع الكافرين منكم ويئسوا أن ترجعوا عن دينكم، قال ابن عباس: يئسوا أن ترجعوا إِلى دينهم أبداً {فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ} أي لا تخافوا المشركين ولا تهابوهم وخافون أنصركم عليهم وأجعلكم فوقهم في الدنيا والآخرة {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} أي أكملت لكم الشريعة ببيان الحلال والحرام {وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي} بالهداية والتوفيق إِلى أقوم طريق {وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا} أي اخترت لكم الإِسلام ديناً من بين الأديان وهو الدين المرضي الذي لا يقبل الله ديناً سواه {ومن يبتغ غير الإِسلام ديناً فلن يُقبل منه} {فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} أي فمن ألجأته الضرورة إِلى تناول شيء من المحرمات المذكورة، في مجاعة حال كونه غير مائل إِلى الإِثم ولا متعمد لذلك، فإِن الله لا يؤاخده بأكله، لأن الضرورات تُبيح المحظورات.



المطعومات الحلال والزواج بالكتابيات



{يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ(4)الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا ءاتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ(5)}



{يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ} أي يسألونك يا محمد ما الذي أُحل لهم من المطاعم والمآكل؟ {قُلْ أُحِلَّ لَكُمْ الطَّيِّبَاتُ} أي قل لهم أُبيح لكم المستلذات وما ليس منها بخبيث، وحُرّم كل مستقذر كالخنافس والفئران وأشباهها .

{وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ} أي وأُحل لكم صيد ما علمتم من الجوارح وهي الكلاب ونحوها مما يُصطاد به {مُكَلِّبِينَ} أي مُعلمين للكلاب الاصطياد، قال الزمخشري: المكلِّب مؤدبُ الجوارح ورائضها واشتقاقه من الكَلَب لأن التأديب أكثر ما يكون في الكلاب {تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمْ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} أي تعلمونهنَّ طرق الاصطياد وكيفية تحصيل الصيد، إِذا لم تأكل منه، فإِن أكلت فلا يحل أكله لحديث (إِذا أرسلتَ كلبَك المُعلَّم فقتل فكلْ، وإِذا أكل فلا تأكل فإِنما أمسكه على نفسه) وعلامة المعلَّم أن يسترسل إِذا أُرسل، وينزجر إِذا زُجر، وأن يُمسك الصيد فلا يأكل منه، ويشترط أن يذكر اسم الله عند إِرساله فهذه أربع شروط لصحة الأكل من صيد الكلب المعلَّم {وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ} أي عند إِرساله {وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} أي راقبوا الله في أعمالكم فإِنه سريع المجازاة للعباد .

{الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ} أي أبيح لكم المستلذات من الذبائح وغيرها {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} أي ذبائح اليهود والنصارى حلالٌ لكم {وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ} أي ذبائحكم حلالٌ لهم فلا حرج أن تُطعموهم وتبيعوه لهم {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ} أي وأُبيح لكم أيها المؤمنون زواج الحرائر العفيفات من المؤمنات {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} أي وزواج الحرائر من الكتابيات (يهوديات أو نصرانيات) وهذا رأي الجمهور، وقال عطاء: قد أكثر الله المسلمات وإِنما رخص لهم يومئذٍ {إِذَا ءاتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} أي إِذا دفعتم لهن مهورهن {مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ} أي حال كونكم أعفاء بالنكاح غير مجاهرين بالزنى {وَلا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ} أي وغير متخذين عشيقات وصديقات تزنون بهن سراً، قال الطبري: المعنى ولا منفرداً ببغية قد خادنها وخادنته واتخذها لنفسه صديقةً يفجر بها .

{وَمَنْ يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} أي ومن يرتد عن الدين ويكفر بشرائع الإِيمان فقد بطل عمله وهو من الهالكين.



فرضية الوضوء والغسل من الجنابة والتيمم



{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ(6)وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ(7)}



ثم أمر تعالى بإِسباغ الوضوء عند الصلاة فقال {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ} أي إِذا أردتم القيام إِلى الصلاة وأنتم محدثون {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} أي اغسلوا الوجوه والأيدي مع المرافق {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} أي امسحوا رؤوسكم واغسلوا أرجلكم إِلى الكعبين أي معهما قال الزمخشري: وفائدة المجيء بالغاية {إِلَى الْكَعْبَيْنِ} لدفع ظن من يحسبها ممسوحة لأن المسح لم تُضرب له غاية في الشريعة وفي الحديث (ويلٌ للأعقاب من النار) وهذا الحديث يردُّ على الإِمامية الذين يقولون بأن الرجلين فرضهما المسحُ لا الغسل، والآية صريحة لأنها جاءت بالنصب {وَأَرْجُلَكُم} فهي معطوفة على المغسول وجيء بالمسح بين المغسولات لإِفادته الترتيب.

{وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} أي إِن كنتم في حالة جنابة فتطهروا بغسل جميع البدن {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ} أي إِن كنتم مرضى ويضركم الماء، أو كنتم مسافرين ولم تجدوا الماء {أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ} أي أتى من مكان قضاء الحاجة {أَوْ لامَسْتُمْ النِّسَاءَ} أي جامعتموهنَّ { فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} أي ولم تجدوا الماء بعد طلبه فاقصدوا التراب الطاهر للتيمم به.

{فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ} أي امسحوا وجوهكم وأيديكم بالتراب بضربتين كما وضحّت السنة النبوية {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ} أي ما يُريد بما فرض عليكم من الوضوء والغسل والتيمم تضييقاً عليكم {وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} أي يطهركم من الذنوب وأدناس الخطايا بالوضوء والتيمم، وليتم نعمته عليكم ببيان شرائع الإِسلام ولتشكروه على نعمه التي لا تحصى .

{وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} الخطاب للمؤمنين والنعمةُ هنا الإِسلام وما صاروا إِليه من اجتماع الكلمة والعزة أي اذكروا يا أيها المؤمنون نعمة الله العظمى عليكم بالإِسلام وعهده الذي عاهدكم عليه رسوله حين بايعتموه على السمع والطاعة في العسر واليسر، والمنشط والمكره {وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} أي اتقوا الله فإِنه عالم بخفايا نفوسكم فيجازيكم عليها.



الشهادة بالقسط والحكم بالعدل ووعد المؤمنين بالمغفرة والكافرين بالعذاب



{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ للهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ(8)وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ ءامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ(9)وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ(10)}



{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ للهِ} أي كونوا مبالغين في الاستقامة بشهادتكم لله وصيغة قوّام للمبالغة {شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ} أي تشهدون بالعدل {وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلا تَعْدِلُوا } أي لا يحملنكم شدة بغضكم للأعداء على ترك العدل فيهم والاعتداء عليهم { اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} أي العدل مع من تبغضونهم أقرب لتقواكم لله {وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} أي مطلع على أعمالكم ومجازيكم عليها، قال الزمخشري: وفي هذا تنبيه عظيم على أن العدل إِذا كان واجباً مع الكفار الذين هم أعداء الله وكان بهذه الصفة من القوة، فما الظن بوجوبه مع المؤمنين الذين هم أولياؤه وأحباؤه؟!

{وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ ءامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} أي وعد الله المؤمنين المطيعين {لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ} أي لهم في الآخرة مغفرة للذنوب وثواب عظيم وهو الجنة {وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} لما ذكر مآل المؤمنين المتقين وعاقبتهم ذكر مآل الكافرين المجرمين وأنهم في دركات الجحيم دائمون في العذاب، قال أبو حيان: وقد جاءت الجملة فعلية بالنسبة للمؤمنين متضمنة الوعد بالماضي الذي هو الدليل على الوقوع، وفي الكافرين جاءت الجملة إِسمية دالة على ثبوت هذا الحكم لهم وأنهم أصحاب النار فهم دائمون في عذاب الجحيم.



أراد بنو النضير أن يلقوا على رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم الرحى وأن يغدروا به وبأصحابه فأنزل الله {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ ..} الآية.



التذكير بنعمة الله ونقض اليهود والنصارى للميثاق



{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ(11)وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ وَءاتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَءامَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا لأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ(12)فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلا قَلِيلاً مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ(13)وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ(14)}



سبب النزول:



{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ} أي اذكروا فضل الله عليكم بحفظه إِياكم من أعدائكم {إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ} أي يبطشوا بكم بالقتل والإِهلاك {فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ} أي عصمكم من شرهم وردَّ أذاهم عنكم {وَاتَّقُوا اللَّهَ} بامتثال أوامره واجتناب نواهيه {وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} أي فليثقْ المؤمنون بالله بإِنه كافيهم وناصرهم.

ثم ذكر تعالى أحوال اليهود وما تنطوي عليه نفوسهم من الخيانة ونقض الميثاق فقال {وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ} أي عهدهم المؤكد باليمين {وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا} أي وأمرنا موسى بأن يأخذ اثني عشر نقيباً - والنقيبُ كبير القوم القائم بأمورهم - من كل سبطٍ نقيبٌ يكون كفيلاً على قومه بالوفاء بالعهد توثقةً عليهم، قال الزمخشري: لما استقر بنو إِسرائيل بمصر بعد هلاك فرعون أمرهم الله تعالى بالسير إِلى "أريحاء" بأرض الشام كان يسكنها الكنعانيون الجبابرة وقال لهم: إِني كتبتها لكم داراً وقراراً فجاهدوا من فيها فإِني ناصركم، وأمر موسى بأن يأخذ من كل سِبْطٍ نقيباً فاختار النقباء وسار بهم فلما دنا من أرض كنعان بعثهم يتجسّسون الأخبار فرأوا قوماً أجسامهم عظيمة ولهم قوةٌ وشوكة فهابوهم ورجعوا وحدثوا قومهم وكان موسى قد نهاهم أن يتحدثوا بما يرون فنكثوا الميثاق وتحدثوا إِلا اثنين منهم .

{وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ} أي ناصركم ومعينكم {لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ وَءاتَيْتُمْ الزَّكَاةَ} اللام للقسم أي وأقسم لكم يا بني إِسرائيل لئن أديتم ما فرضتُ عليكم من إِقامة الصلاة وإِيتاء الزكاة {وَءامَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ} أي وصدقتم برسلي ونصرتموهم ومنعتموهم من الأعداء {وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا} أي بالإِنفاق في سبيل الخير ابتغاء مرضاة الله {لأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} أي لأمحونَّ عنكم ذنوبكم، وهذا جواب القسم، قال البيضاوي: وقد سدَّ مسدَّ جواب الشرط {وَلأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ} أي تجري من تحت غرفها وأشجارها أنهار الماء واللبن والخمر والعسل {فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ} أي من كفر بعد ذلك الميثاق، فقد أخطأ الطريق السويّ وضلّ ضلالاً لا شبهة فيه {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ} أي بسبب نقضهم الميثاق طردناهم من رحمتنا {وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً} أي جافة جافية لا تلين لقبول الإِيمان {يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ} قال ابن كثير: تأولوا كتابه - التوراة - على غير ما أنزله وحملوه على غير مراده وقالوا على الله ما لم يقلْ، ولا جُرْم أعظمُ من الاجتراء على تغيير كلام الله عز وجل {وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ} أي تركوا نصيباً وافياً مما أُمروا به في التوراة .

{وَلا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلا قَلِيلاً مِنْهُمْ} أي لا تزال يا محمد تظهر على خيانةٍ منهم من نقض العهود وتدبير المكايد، فالغدرُ والخيانة عادتُهم وعادةُ أسلافهم إِلا قليلاً منهم ممن أسلم {فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} أي لا تعاقبوا واصفح عمن أساء منهم، وهذا منسوخ بآية السيف والجزية كما قال الجمهور {وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ} أي ومن الذين ادّعو أنهم أنصار الله وسمّوا أنفسهم بذلك أخذنا منهم أيضاً الميثاق على توحيد الله والإِيمان بمحمد رسول الله {فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ} أي فتركوا ما أُمروا به في الإِنجيل من الإِيمان بالأنبياء ونقضوا الميثاق .

{فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} أي ألزمنا وألصقنا بين فِرَق النصارى العداوة والبغضاء إِلى قيام الساعة، قال ابن كثير: ولا يزالون متباغضين متعادين، يكفِّر بعضهم بعضاً، ويلعن بعضهم بعضاً، وكل فرقةٍ تمنع الأخرى دخول معبدها .. وهكذا نجد الأمم الغربية - وهم أبناء دين واحد - يتفنّن بعضهم في إِهلاك بعض، فمن مخترعٍ للقنبلة الذرية إِلى مخترع للقنبلة الهيدروجينية وهي مواد مدّمرة لا يمكن أن يتصور العقل ما تحدثه من تلفٍ بالغ وهلاك شامل {إِنما يريد الله أن يعذبهم بها في الحياة الدنيا وتزهق أنفسهم وهم كافرون} ثم قال تعالى {وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} تهديد لهم أي سيلقون جزاء عملهم القبيح.



كشف الرسول صلى الله عليه وسلم لما كان يخفيه أهل الكتاب، وهداية القرآن للحق





{يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ(15)يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ(16)}



{يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ} الخطاب لليهود والنصارى أي يا معشر أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم بالدين الحق يبيّن لكم الكثير مما كنتم تكتمونه في كتابكم من الإِيمان به، ومن آية الرجم، ومن قصة أصحاب السبت الذين مسخوا قردة وغير ذلك مما كنتم تخفونه {وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ} أي يتركه ولا يُبيّنه وإِنما يبيّن لكم ما فيه حجة على نبوته وشهادة على صدقه، ولو ذكر كل شيء لفضحكم، قال في التسهيل: وفي الآية دليل على صحة نبوتهلأنه بيّن ما أخفوه في كتبهم وهو أميٌّ لم يقرأ كتبهم.

{قَدْ جَاءَكُمْ مِنْ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ} أي جاءكم نور هو القرآن لأنه مزيل لظلمات الشرك والشك وهو كتاب مبين ظاهر الإِعجاز {يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ} أي يهدي بالقرآن من اتبع رضا الله طرق النجاة والسلام ومناهج الاستقامة {وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ} أي يخرجهم من ظلمات الكفر إِلى نور الإِيمان بتوفيقه وإِرادته {وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} هو دين الإِسلام.



الرد على معتقدات اليهود والنصارى



{لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الأَرْضِ جَمِيعًا وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ(17)وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ(18)يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ(19)}



ثم ذكر تعالى إِفراط النصارى في حق عيسى حيث اعتقدوا ألوهيته فقال {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ} أي جعلوه إِلهاً وهم فرقةٌ من النصارى زعموا أن الله حلَّ في عيسى ولهذا نجد في كتبهم "وجاء الرب يسوع" وأمثاله، ويسوع عندهم هو عيسى {قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الأَرْضِ جَمِيعًا} أي قل لهم يا محمد لقد كذبتم فمن الذي يستطيع أن يدفع عذاب الله لو أراد أن يهلك المسيح وأمه وأهل الأرض جميعاً؟ فعيسى عبد مقهور قابلٌ للفناء كسائر المخلوقات ومن كان كذلك فهو بمعزل عن الألوهية ولو كان إِلهاً لقدر على تخليص نفسه من الموت {وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا} أي من الخلق والعجائب {يخْلُقُ مَا يَشَاءُ} أي هو قادر على أن يخلق ما يريد ولذلك خلق عيسى من غير أب {وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} أي لا يعجزه شيء.

ثم حكى عن اليهود والنصارى افتراءهم فقال {وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ} أي نحن من الله بمنزلة الأبناء من الآباء ونحن أحباؤه لأننا على دينه، قال ابن كثير: أي نحن منتسبون إِلى أنبيائه وهم بنوه وله بهم عناية وهو يحبنا {قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ}؟ أي لو كنتم كما تدَّعون أبناءه وأحباؤه فلم أعدَّ لكم نار جهنم على كفركم وافترائكم؟ {بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ} أي أنتم بشر كسائر الناس وهو سبحانه الحاكم في جميع عباده {يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ} أي يغفر لمن شاء من عباده ويعذب من شاء لا اعتراض لحكمه ولا رادَّ لأمره {وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ} أي الجميع ملكه وتحت قهره وسلطانه وإِليه المرجع والمآب.

ثم دعاهم إِلى الإِيمان بخاتم المرسلين فقال {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ} أي يا معشر اليهود والنصارى لقد جاءكم محمد صلى الله عليه وسلم يوضّح لكم شرائع الدين على انقطاع من الرسلِ ودروسٍ من الدين، وكانت الفترة بين عيسى ومحمد ومدتها خمسمائة وستون سنة لم يُبعث فيها رسول {أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ} أي لئلا تحتجوا وتقولوا: ما جاءنا من رسولٍ يبشر بالخير وينذر من الشر {فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ} هو محمد صلى الله عليه وسلم {وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} قال ابن جرير: أي قادرٌ على عقاب من عصاه وثواب من أطاعه.



تذكير موسى لقومه بنعم الله عليهم، وأمره لهم بدخول بيت المقدس



{وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا وَءاتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ(20)يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ(21)قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ(22)قَالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ(23)قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ(24)قَالَ رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ(25)قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الأَرْضِ فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ(26)}



ثم ذكر تعالى ما عليه اليهود من العناد والجحود فقال {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ} أي اذكر يا محمد حين قال موسى لبني إِسرائيل يا قوم تذكّروا نعمة الله العظمى عليكم واشكروه عليها {إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا} أي حين بعث فيكم الأنبياء يرشدونكم إِلى معالم الدين وجعلكم تعيشون كالملوك لا يغلبكم غالب بعد أن كنتم مملوكين لفرعون مقهورين فأنقذكم منه بإِغراقه، قال البيضاوي: لم يُبعث في أمةٍ ما بعث في بني إِسرائيل من الأنبياء {وَءاتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنْ الْعَالَمِينَ} أي من أنواع الإِنعام والإِكرام من فلق البحر وتظليل الغمام وإِنزال المنّ والسلوى ونحوها .

{يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ} قال البيضاوي: هي أرض بيت المقدس سميت بذلك لأنها كانت قرار الأنبياء ومسكن المؤمنين ومعنى {الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ} أي التي وعدكموها على لسان أبيكم إسرائيل وقضى أن تكون لكم {وَلا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ} أي ولا ترجعوا مدبرين خوفاً من الجبابرة، قال في التسهيل: روي أنه لما أمرهم موسى بدخول الأرض المقدسة خافوا من الجبارين الذين فيها وهمّوا أن يرجعوا إِلى مصر {قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ} أي عظام الأجسام طوال القامة لا قدرة لنا على قتالهم وهم العمالقة من بقايا عاد {وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا} أي لن ندخلها حتى يسلّموها لنا من غير قتال { فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ} أي لا يمكننا الدخول ما داموا فيها فإِن خرجوا منها دخلناها.

{قَالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا} أي فلما جبنوا حرضهم رجلان من النقباء ممن يخاف أمر الله ويخشى عقابه وفيهما الصلاح واليقين {ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ} أي قالا لهم لا يهولنكم عِظَم أجسامهم، فأجسامهم عظيمة وقلوبهم ضعيفة فإِذا دخلتم عليهم باب المدينة غلبتموهم بإِذن الله {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ} أي اعتمدوا على الله فإِنه ناصركم إِن كنتم حقاً مؤمنين .

{قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} وهذا إِفراط في العصيان ومع سوء الأدب بعبارةٍ تقتضي الكفر والاستهانة بالله ورسوله، وأين هؤلاء من الصحابة الأبرار الذين قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم: لسنا نقول لك كما قالت بنو إِسرائيل ولكن نقول لك اذهب أنت وربك فقاتلا إِنّا معكما مقاتلون؟! {قَالَ رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ} أي قال موسى حينذاك معتذراً إِلى الله متبرءاً من مقالة السفهاء: يا ربّ لا أملك قومي، لا أملك إِلا نفسي وأخي هارون فافصل بيننا وبين الخارجين عن طاعتك بحكمك العادل .

{قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الأَرْضِ} استجاب الله دعاءه وعاقبهم في التّيه أربعين سنة والمعنى: قال الله لموسى إِن الأرض المقدسة محرم عليهم دخولها مدة أربعين سنة يتيهون في الأرض ولا يهتدون إِلى الخروج منها {فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ} أي لا تحزن عليهم فإِنهم فاسقون مستحقون للعقاب، قال في التسهيل: روي أنهم كانوا يسيرون الليل كله فإِذا أصبحوا وجدوا أنفسهم في الموضع الذي كانوا فيه.





قصة قابيل وهابيل، وأول جريمة قتل في الدنيا



{وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ ءادَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ قَالَ لأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ(27)لَئِنْ بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ(28)إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوأَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ(29)فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ(30)فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ قَالَ يَوَيْلَتَى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ(31)مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا وَلَقَدْ جَاءتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ(32)}



المناسبة:

لمّا ذكر تعالى تمرد بني إِسرائيل وعصيانهم لأمر الله في قتال الجبارين، ذكر قصة ابني آدم وعصيان "قابيل" أمر الله وإِقدامه على قتل النفس البريئة التي حرمها الله، فاليهود اقتفوا في العصيان أوَّل عاصٍ لله في الأرض، فطبيعةُ الشر فيهم مستقاةٌ من ولد آدم الأول، فاشتبهت القصتان من حيث التمرد والعصيان، ثم ذكر تعالى عقوبة قُطّاع الطريق والسُرَّاق الخارجين على أمن الدولة والمفسدين في الأرض.



{وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ ءادَمَ بِالْحَقِّ} أي اقرأ يا محمد على هؤلاء الحسدة من اليهود وأشباههم خبر "قابيل وهابيل" ابنيْ آدم ملتبسةً بالحق والصِّدق وذكّرهم بهذه القصة فهي قصة حق {إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ} أي حين قرَّب كلٌ منهما قرباناً فتُقبل من هابيل ولم يُتقبل من قابيل، قال المفسرون: سبب هذا القربان أن حوّاء كانت تلد في كل بطنٍ ذكراً وأنثى وكان يزوّج الذكر من هذا البطن الأنثى من البطن الآخر فلما أراد آدم أن يزوّج قابيلَ أخت هابيل ويزوّج هابيل أخت قابيل رضي هابيل وأبى قابيل لأن توأمته كانت أجمل فقال لهما آدم: قرّبا قرباناً فمن أيكما تُقبل تزوجها، وكان قابيل صاحب زرع فقرّب أرذل زرعه وكان هابيل صاحب غنم فقرّب أحسن كبشٍ عنده فقبل قربانُ هابيل بأن نزلت نارٌ فأكلته فازداد قابيل حسداً وسخطاً وتوعّده بالقتل {قَالَ لأَقْتُلَنَّكَ} أي قال قابيل لأخيه هابيل لأقتلنك قال: لمَ؟ قال لأنه تقبل قربانك ولم يتقبل قرباني قال: وما ذنبي؟ {قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنْ الْمُتَّقِينَ} أي إِنما يتقبل ممن اتقى ربه وأخلص نيته، قال البيضاوي: توعّده بالقتل لفرط الحسد له على تقبل قربانه فأجابه بأنك أُتيت من قِبَل نفسك بترك التقوى لا من قِبَلي وفيه إِشارة إِلى أن الطاعة لا تُقبل إِلا من مؤمن متّقٍ لله .

{لَئِنْ بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لأَقْتُلَكَ} أي لئن مددتَ إِليَّ يدك ظلماً لأجل قتلي ما كنتُ لأقابلك بالمثل، قال ابن عباس: المعنى ما أنا بمنتصر لنفسي {إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ} أي لا أمدُّ يدي إِليك لأني أخاف ربَّ العالمين، قال الزمخشري: قيل: كان هابيل أقوى من القاتل ولكنه تحرّج عن قتل أخيه خوفاً من الله {إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ} أي إِن قتلتني فذاك أحبُّ إِليَّ من أن أقتلك، قال أبو حيان: المعنى إِن سبق بذلك قَدَرٌ فاختياري أن أكون مظلوماً ينتصر الله لي لا ظالماً، وقال ابن عباس: المعنى لا أبدؤك بالقتل لترجع بإِثم قتلي إِن قتلتني، وإِثمك الذي كان منك قبل قتلي فتصير من أهل النار {وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ} أي عقاب من تعدّى وعصى أمر الله.

{فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنْ الْخَاسِرِينَ} أي زيّنت له نفسه وسهّلت له قتل أخيه فقتله فخسر وشقي، قال ابن عباس: خوّفه بالنار فلم ينته ولم ينزجر {فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ} أي أرسل الله غراباً يحفر بمنقاره ورجله الأرض ليُري القاتل كيف يستر جسد أخيه، قال مجاهد: بعث الله غرابين فاقتتلا حتى قتل أحدهما صاحبه ثم حفر له فدفنه، وكان ابن آدم هذا أول من قُتِل، وروي أنه لما قتله تركه بالعراء ولم يدر كيف يدفنه حتى رأى الغراب يدفن صاحبه فلما رآه قال {قَالَ يَاوَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْأَةَ أَخِي} أي قال قابيل متحسراً يا ويلي ويا هلاكي أضعفتُ أن أكون مثل هذا الطير فاستر جسد أخي في التراب كما فعل هذا الغراب؟ {فَأَصْبَحَ مِنْ النَّادِمِينَ} أي صار نادماً على عدم الاهتداء إِلى دفن أخيه لا على قتله، قال ابن عباس: ولو كانت ندامته على قتله لكانت الندامة توبةً له .

{مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ} أي من أجل حادثة "قابيل وهابيل" وبسبب قتله لأخيه ظلماً فرضنا وحكمنا على بني إِسرائيل أن من قتل منهم نفساً ظلماً بغير أن يقتل نفساً فيستحق القصاص وبغير فسادٍ يوجب إِهدار الدم كالردّة وقطع الطريق { فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا} أي فكأنه قتل جميع الناس، قال البيضاوي: من حيث أنه هتك حرمة الدماء وسنَّ القتل وجرأ الناس عليه، والمقصود منه تعظيم قتل النفس وإِحيائها في القلوب ترهيباً على التعرض لها وترغيباً في المحاماة عليها {وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا} أي ومن تسبَّب لبقاء حياتها واستنقذها من الهَلَكة فكأنه أحيا جميع الناس قال ابن عباس في تفسير الآية: من قتل نفساً واحدةً حرّمها الله فهو مثلُ من قتل الناس جميعاً ومن امتنع عن قتل نفسٍ حرمها الله وصان حرمتها خوفاً من الله فهو كمن أحيا الناس جميعاً .

{وَلَقَدْ جَاءتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ} أي بعدما كتبنا على بني إِسرائيل هذا التشديد العظيم وجاءتهم رسلنا بالمعجزات الساطعات والآيات الواضحات {ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ} أي ثم إِنهم بعد تلك الزواجر كلها يسرفون في القتل ولا يبالون بعظمته، قال ابن كثير: هذا تقريعٌ لهم وتوبيخ على ارتكابهم المحارم بعد علمهم بها، وقال الرازي: إِن اليهود مع علمهم بهذه المبالغة العظيمة أقدموا على قتل الأنبياء والرسل وذلك يدل على غاية قساوة قلوبهم ونهاية بعدهم عن طاعة الله تعالى، ولما كان الغرض من ذكر هذه القصص تسلية الرسول صلى الله عليه وسلم لأنهم عزموا على الفتك به وبأصحابه كان تخصيص بني إِسرائيل بهذه المبالغة العظيمة مناسباً للكلام ومؤكداً للمقصود.

سبب النزول:

عن أنسٍ أن رهطاً من عُرينة قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فاجتووا المدينة استوخموها (لم يناسبهم مناخها فمرضوا) - فبعثهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إِلى إِبل الصدقة وأمرهم أن يشربوا من ألبانها وأبوالها، فلما صحُّوا قتلوا راعي النبي صلى الله عليه وسلم واستاقوا النَّعَم فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم في آثارهم فجيء بهم فأمر بهم فقطعت أيديهم وأرجلهم وسُمِرت أعينهم وألقوا في الحرة حتى ماتوا فنزلت {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ..} الآية.



عقوبة قُطَّاع الطُّرق

{إِنَّما جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْا مِنْ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ(33)إِلا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ(34)}



ثم ذكر تعالى عقوبة قُطَّاع الطريق فقال {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} أي يحاربون شريعة الله ودينه وأولياءه ويحاربون رسوله {وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا} أي يفسدون في الأرض بالمعاصي وسفك الدماء {أَنْ يُقَتَّلُوا} أي يُقتلوا جزاء بغيهم {أَوْ يُصَلَّبُوا} أي يُقتلوا ويُصلبوا زجراً لغيرهم، والصيغةُ للتكثير {أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْا مِنَ الأَرْضِ} أي يُطردوا ويُبعدوا من بلدٍ إِلى آخر {ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنيَا} أي ذلك الجزاء المذكور ذلٌ لهم وفضيحة في الدنيا {وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} هو عذاب النار، قال بعض العلماء: الإِمام بالخيار إِن شاء قتل، وإِن شاء صلب، وإِن شاء قطع الأيدي والأرجل، وإِن شاء نفى وهو مذهب مالك. وقال ابن عباس: لكلّ رتبةٍ من الحِرَابة رتبةٌ من العقاب فمن قَتَل قُتل، ومن قتل وأخذ المال قُتل وصُلب، ومن اقتصر على أخذ المال قطعت يده ورجله من خلاف، ومن أخاف فقط نُفي من الأرض، وهذا قول الجمهور .

{إِلا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ} أي لكن الذين تابوا من المحاربين وقُطّاع الطريق قبل القدرة على أخذهم وعقوبتهم {فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} أي واسع المغفرة والرحمة لمن تاب وأناب يقبل توبته ويغفر زلّته.



أَمَرَ الله المؤمنين بالتقوى والجهاد وبيَّن حال الكافرين في الآخرة



{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ(35)إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ(36)يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ(37)}



ثم أمر تعالى المؤمنين بالتقوى والعمل الصالح فقال {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ} أي خافوا عقابه واطلبوا ما يقربكم إِليه من طاعته وعبادته، قال قتادة: تقربوا إِليه بطاعته والعمل بما يرضيه {وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} أي جاهدوا لإِعلاء دينه لتفوز بنعيم الأبد.

{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ} أي لو كان لكل كافر جميع ما في الأرض من خيرات وأموال ومثله معه {لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} أي وأراد أن يفتدي بها نفسه من عذاب الله ما نفعه ذلك وله عذاب مؤلم موجع {يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ} أي دائم لا ينقطع وفي الحديث (يُجاء بالكافر يوم القيامة فيقال له: أرأيتَ لو كان لك ملء الأرض ذهباً أكنتَ تفتدي به؟ فيقول نعم فيقال له: قد كنتَ سُئلتَ ما هو أيسرُ من ذلك ألاّ تشرك بي فأبيت فيؤمر به إِلى النار).



حد السرقة



{وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ(38)فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ(39)أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ(40)}



ثم ذكر تعالى عقوبة السارق فقال {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} أي كل من سرق رجلاً كان أو امرأة فاقطعوا يده {جَزَاءً بِمَا كَسَبَا} أي مجازاة لهما على فعلهما القبيح {نَكَالاً مِنَ اللَّهِ} أي عقوبة من الله {وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} أي حكيم في شرعه فلا يأمر بقطع اليد ظلماً {فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ} أي رجع عن السرقة {وَأَصْلَحَ} أي أصلح سيرته وعمله {فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ} أي يقبل توبته فلا يعذبه في الآخرة {إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} أي مبالغ في المغفرة والرحمة.

ثم نبّه تعالى على واسع ملكه فقال {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} أي ألم تعلم أيها المخاطب أن الله تعالى له السلطان القاهر والملك الباهر وبيده ملكوت السماوات والأرض والاستفهام للتقرير {يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} أي يعذّب من يشاء تعذيبه ويغفر لمن يشاء غفران ذنبه وهو القادر على كل شيء الذي لا يعجزه شيء.



"كلمة وجيزة حول قطع يد السارق"



يعيب بعض الغربيين على الشريعة الإِسلامية قطع يد السارق ويزعمون أن هذه العقوبة صارمة لا تليق بمجتمع متحضر ويقولون: يكفي في عقوبته السجن ردعاً له، وكان من أثر هذه الفلسفة التي لا تستند على منطقٍ سليم أن زادت الجرائم وكثرت العصابات وأصبحت السجون ممتلئة بالمجرمين وقطاع الطريق الذي يهدّدون الأمن والاستقرار، يسرق السارق وهو آمن مطمئن لا يخشى شيئاً اللهم إِلا ذلك السجن الذي يُطعم ويُكسى فيه فيقضي مدة العقوبة التي فرضها عليه القانون الوضعي ثم يخرج منه وهو إِلى الإِجرام أميل وعلى الشر أقدر، يؤكد هذا ما نقرؤه ونسمعه عن تعداد الجرائم وزيادتها يوماً بعد يوم، وذلك لقصور العقل البشري عن الوصول إلى الدواء الناجع والشفاء النافع لمعالجة مثل هذه الأمراض الخطيرة، أما الإِسلام فقد استطاع أن يقتلع الشر من جذوره ويدٌ واحدة تقطع كافية لردع المجرمين فيا له من تشريع حكيم!!





مسارعة المنافقين واليهود إلى الكفر وموقف اليهود من أحكام التوراة



{يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا ءامَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ ءاخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ(41)سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ(42)وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ(43)}



المنَــاسَــبَة:

لما ذكر تعالى قصة ابني آدم وإِقدام الأخ على قتل أخيه بسبب البغي والحسد وذكر أحكام الحرابة والسرقة، أعقبه بذكر أمر المنافقين وأمر اليهود في حسدهم للنبي صلى الله عليه وسلم وتربصهم به وبأصحابه الدوائر، وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم ألا يحزن لما يناله من أذى من أعداء الإِنسانية فالله سيعصمه من شرهم، وينجيه من مكرهم، ثم ذكر ما أنزل الله من أحكام نورانية في شريعة التوراة.



سبب النزول:

عن البراء بن عازب قال: مُرَّ على النبي صلى الله عليه وسلم بيهودي محمّماً مجلوداً فدعاهم فقال: هكذا تجدون حد الزاني في كتابكم؟ قالوا نعم فدعا رجلاً من علمائهم فقال: أنشدك بالله الذي أنزل التوراة على موسى أهكذا تجدون حد الزاني في كتابكم؟ قال: لا، ولولا أنك نشدتني بهذا لم أخبرك، نجده الرجم ولكنه كثير في أشرافنا فكنا إِذا أخذنا الشريف تركناه، وإِذا أخذنا الضعيف أقمنا عليه الحد فقلنا: تعالوا فلنجتمعْ على شيء نقيمه على الشريف والوضيع فاجتمعنا على التحميم والجلد مكان الرجم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللهم إِني أول من أحيا أمرك إِذ أماتوه فأمر به فرجم فأنزل الله {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ} إِلى قوله {إِن أوتيتم هذا فخذوه} يقولون: ائتوا محمداً فإِن أمركم بالتحميم والجلد فخذوه وإِن أفتاكم بالرجم فاحذروا.



{يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ} الخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم على وجه التسلية لا تتأثر يا محمد ولا تحزن لصنيع الذين يتسابقون نحو الكفر ويقعون فيه بسرعة {مِنَ الَّذِينَ قَالُوا ءامَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ} أي من المنافقين الذين لم يُجاوز الإِيمان أفواههم ويقولون بألسنتهم آمنا وقلوبهم كافرة {وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا} أي ومن اليهود {سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ} أي هم مبالغون في سماع الأكاذيب والأباطيل وفي قبول ما يفتريه أحبارهم من الكذب على الله وتحريف كتابه {سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ ءاخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ} أي مبالغون في قبول كلام قومٍ آخرين لم يحضروا مجلسك تكبراً وإِفراطاً في العداوة والبغضاء وهم يهود خيبر، والسماعون للكذب هم بنو قريظة.

{يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ} أي يُزيلونه ويُميلونه عن مواضعه بعد أن وضعه الله تعالى فيها والمراد تحريف أحكام الله وتغييرها بأحكام أخرى، قال ابن عباس: هي حدود الله في التوراة غيروا الرجم بالجلد والتحميم - يعني تسويد الوجه - {يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا} أي إِن أمركم محمد بالجلد فاقبلوا وإِن أمركم بالرجم فلا تقبلوا قال تعالى ردّاً عليهم {وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا} أي ومن يرد الله كفره وضلالته فلن يقدر أحدٌ على دفع ذلك عنه {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ} أي لم يرد الله أن يطهّر قلوبهم من رجس الكفر وخبث الضلالة لقبح صنيعهم وسواء اختيارهم {لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ} أي ذلٌ وفضيحة {وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} هو الخلود في نار جهنم، قال أبو حيان: والآية جاءت تسلية للرسول صلى الله عليه وسلم وتخفيفاً عنه من ثقل حزنه على مسارعتهم في الكفر وقطعاً لرجائه من فلاحهم.

{سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ} أي الباطل كرره تأكيداً وتفخيماً {أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ} أي الحرام من الرشوة والربا وشبه ذلك {فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ} أي إِن تحاكموا إِليك يا محمد فيما شجر بينهم من الخصومات فأنت مخير بين أن تحكم بينهم وبين أن تُعرض عنهم، قال ابن كثير: أي إِن جاءوك يتحاكمون إِليك فلا عليك ألا تحكم بينهم لأنهم لا يقصدون بتحاكمهم إِليك اتباع الحق بل ما يوافق أهواءهم .

{وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا} أي لأن الله عاصمك وحافظك من الناس {وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} أي فاحكم بينهم بالعدل والحق وإِن كانوا ظلمةً خارجين عن طريق العدل لأن الله يحب العادلين، ثم قال تعالى منكراً عليهم مخالفتهم لأحكام التوراة {وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمْ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ} أي كيف يحكّمك يا محمد هؤلاء اليهود ويرضون بحكمك وعندهم التوراة فيها حكم الله يرونه ولا يعملون به؟ قال الرازي: هذا تعجيبٌ من الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم بتحكيم اليهود إِيّاه بعد علمهم بما في التوراة من حد الزاني ثم تركهم قبول ذلك الحكم، فعدلوا عما يعتقدونه حكماً حقاً إِلى ما يعتقدونه باطلاً طلباً للرخصة فظهر بذلك جهلهم وعنادهم {ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ} أي يعرضون عن حكمك الموافق لكتابهم بعد أن وضح لهم الحق وبان {وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ} أي ليسوا بمؤمنين لأنهم لا يؤمنون بكتابهم"التوراة" لإِعراضهم عنه وعن حكمك الموافق لما فيه، قال في التسهيل: وهذا إِلزامٌ لهم لأن من خالف كتاب الله وبدّله فدعواه الإِيمان باطلة.



التوراة هدى ونور شُرِعَ القصاص فيها، وإلزام النصارى بالحكم بما فيها



{إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلاً وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ(44)وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنفَ بِالأَنفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ(45)وَقَفَّيْنَا عَلَى ءاثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَءاتَيْنَاهُ الإِنجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ(46)وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الإِنجِيلِ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ(47)}



ثم مدح تعالى التوراة بأنها نور وضياء فقال {إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ} أي أنزلنا التوراة على موسى فيها بيانٌ واضح ونور ساطع يكشف ما اشتبه من الأحكام {يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا} أي يحكم بالتوراة أنبياء بني إِسرائيل الذين انقادوا لحكم الله {لِلَّذِينَ هَادُوا} أي يحكمون بالتوراة لليهود لا يخرجون عن حكمها ولا يُبدّلونها ولا يُحرّفونها {وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ} أي العلماء منهم والفقهاء {بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ} أي بسبب أمر الله إِياهم بحفظ كتابه من التحريف والتضييع {وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ} أي رقباء لئلا يُبدّل ويُغيّر .

{ فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ} أي لا تخافوا يا علماء اليهود الناس في إِظهار ما عندكم من نعت محمد صلى الله عليه وسلم والرجم بل خافوا مني في كتمان ذلك {وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلاً} أي ولا تستبدلوا بآياتي حطام الدنيا الفاني من الرشوة والجاه والعَرَض الخسيس {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} أي من لم يحكم بشرع الله كائناً من كان فقد كفر، وقال الزمخشري: ومن لم يحكم بما أنزل الله مستهيناً به فأولئك هم الكافرون والظالمون والفاسقون وصفٌ لهم بالعتوّ في كفرهم حين ظلموا بآيات الله بالاستهزاء والاستهانة وتمرّدوا بأن حكموا بغيرها، قال أبو حيان: والآية وإِن كان الظاهر من سياقها أن الخطاب فيها لليهود إِلا أنها عامة في اليهود وغيرهم .. وكل آية وردت في الكفار تجرُّ بذيلها على عصاة المؤمنين .

{وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} أي فرضنا على اليهود في التوراة أن النفس تُقتل بالنفس {وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ} أي تُفقأ بالعين إِذا فقئت بدون حق {وَالأَنفَ بِالأَنفِ} أي يُجدع بالأنف إِذا قطع ظلماً {وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ} أي تقطع بالأذن {وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ} أي يقلع بالسنِّ {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} أي يُقتص من جانيها بأن يُفعل به مثل ما فعله بالمجني عليه وهذا في الجارح التي يمكن فيها المماثلة ولا يُخاف على النفس منها { فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ} قال ابن عباس: أي فمن عفا عن الجاني وتصدَّق عليه فهو كفارةٌ للمطلوب وأجرٌ للطالب، وقال الطبري: من تصدَّق من أصحاب الحق وعفا فهو كفارة له أي للمتصدِّق ويكفّر الله ذنوبه لعفوه وإِسقاطه حقه {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} أي المبالغون في الظلم لمخالة شرع الله .

{وَقَفَّيْنَا عَلَى ءاثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ} أي أتبعنا على آثار النبيّين بعيسى ابن مريم وأرسلناه عقيبهم مصدقاً لما تقدّمه من التوراة {وَءاتَيْنَاهُ الإِنجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ} أي أنزلنا عليه الإِنجيل فيه هدى إِلى الحق ونور يُستضاء به في إِزالة الشبهات {وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ} أي مُعترفاً بأنها من عند الله، والتكرير لزيادة التقرير {وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ} أي وهادياً وواعظاً للمتقين {وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الإِنجِيلِ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فِيهِ} أي وآتينا عيسى بن مريم الإِنجيل وأمرناه وأتباعه بالحكم به {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} أي المتمردون الخارجون عن الإِيمان وطاعة الله.



الحكم بشريعة القرآن



{وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا ءاتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ(48)وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ(49)أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ(50)}





{وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ} أي وأنزلنا إِليك يا محمد القرآن بالعدل والصدق الذي لا ريب فيه {مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ} أي مصدّقاً للكتب السماوية التي سبقته {وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ} أي مؤتمناً عليه وحاكماً على ما قبله من الكتب، قال الزمخشري: أي رقيباً على سائر الكتب لأنه يشهد لها بالصحة والثبات، قال ابن كثير: اسم المهيمن يتضمن ذلك فهو أمينٌ وشاهد وحاكم على كل كتابٍ قبله جمع الله فيه محاسن ما قبله وزاده من الكمالات ما ليس في غيره {فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ} أي فاحكم يا محمد بين الناس بما أنزل الله إِليك في هذا الكتاب العظيم .

{وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ} أي لا توافقهم على أغراضهم الفاسدة عادلاً عمّا جاءك في هذا القرآن، قال ابن كثير: أي لا تنصرفْ عن الحق الذي أمرك الله به إِلى أهواء هؤلاء من الجهلة الأشقياء {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} أي لكل أمةٍ جعلنا شريعة وطريقاً بيناً واضحاً خاصاً بتلك الأمة قال أبو حيان: لليهود شرعةٌ ومنهاج وللنصارى كذلك والمراد في الأحكام وأما المعتقد فواحدٌ لجميع الناس توحيدٌ وإِيمان بالرسل وجميع الكتب وما تضمنته من المعاد والجزاء { وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} أي لو أراد الله لجمع الناس كلهم على دين واحد وشريعة واحدة لا ينسخ شيءٌ منها الآخر {وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا ءاتَاكُمْ} أي شرع الشرائع مختلفة ليختبر العباد هل يذعنون لحكم الله أم يُعرضون، فخالف بين الشرائع لينظر المطيع إلى العاصي {فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ} أي فسارعوا إِلى ما هو خيرٌ لكم من طاعة الله واتباع شرعه {إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} أي معادكم ومصيركم أيها الناس إِلى الله يوم القيامة فيخبركم بما اختلفتم فيه من أمر الدين ويجازيكم بأعمالكم .

{وَأَنْ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ} أي أُحكم بين أهل الكتاب بهذا القرآن ولا تتّبع أهواءهم الزائفة {وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ} أي احذر هؤلاء الأعداء أن يصرفوك عن شريعة الله فإِنهم كذَبةٌ كفرةٌ خونة {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ} أي فإِن أعرضوا عن الحكم بما أنزل الله وأرادوا غيره فاعلم يا محمد أنما يريد الله أن يعاقبهم ببعض إِجرامهم {وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ} أي أكثر الناس خارجون عن طاعة ربهم مخالفون للحق منهمكون في المعاصي.

{أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ} الاستفهام للإِنكار والتوبيخ والمعنى أيتولون عن حكمك ويبتغون غير حكم الله وهو حكم الجاهلية؟ {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنْ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} أي ومن أعدل من الله في حكمه، وأصدقُ في بيانه، وأحكم في تشريعه لقومٍ يصدّقون بالعليّ الحكيم!!.



النهي عن موالاة اليهود والنصارى

{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ(51)فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِم يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنفُسِهِمْ نَادِمِينَ(52)وَيَقُولُ الَّذِينَ ءامَنُوا أَهَؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ(53)}



{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ} نهى تعالى المؤمنين عن موالاة اليهود والنصارى ينصرونهم ويستنصرون بهم ويصافونهم ويعاشرونهم معاشرة المؤمنين {بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} أي هم يدٌ واحدة على المسلمين لاتحادهم في الكفر والضلال، وملةُ الكفر واحدةٌ {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} أي من جملتهم وحكمُه، قال الزمخشري: وهذا تغليظٌ من الله وتشديدٌ في مجانبة المخالف في الدين واعتزاله كما قال صلى الله عليه وسلم (لا تراءى نارهما) { إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} أي لا يهديهم إِلى الإِيمان.

{فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِم} أي شك ونفاق كعبد الله بن أُبيّ وأصحابه يسارعون من مُوالاتهم ومُعاونتهم { يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ} أي يقولون معتذرين عن موالاة الكافرين نخاف حوادث الدهر وشروره أن يظفر اليهود بالمسلمين فلا يتم الأمر لمحمد قال تعالى رداً على مزاعمهم الفاسدة {فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ} يعني فتح مكة وهذه بشراة للنبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين بوعده تعالى بالفتح والنصر {أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ} أي يُهلكهم بأمرٍ من عنده لا يكون فيه تسبّبٌ لمخلوق كإِلقاء الرعب في قُلوبهم كما فعل ببني النضير {فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنفُسِهِمْ نَادِمِينَ} أي يصير المنافقون نادمين على ما كان منهم من موالاة أعداء الله من اليهود والنصارى {وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا} أي يقول المؤمنون تعجباً من حال المنافقين إِذا هتك الله سترهم {أَهَؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ} أي حلفوا لكم يا معشر اليهود بأغلظ الإِيمان إِنهم لمعكم بالنصرة والمعونة كما حكى تعالى عنهم {وإِن قوتلتم لننصرنكم} {حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ} أي بطلت أعمالهم بنفاقهم فصاروا خاسرين في الدنيا والآخرة.

yacine414
2011-03-26, 10:58
المرتدُّون ومعاداتهم للمسلمين



{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ(54)إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ ءامَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ(55)وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ(56)}



{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ} خطابٌ على وجه التحذير والوعيد والمعنى: يا معشر المؤمنين من يرجع منكم عن دينه الحق ويبدّله بدينٍ آخر ويرجع عن الإِيمان إِلى الكفر {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} أي فسوف يأتي الله مكانهم بأناسٍ مؤمنين يحبّهم الله ويحبّون الله {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ} أي رحماء متواضعين للمؤمنين أشداء متعززين على الكافرين، قال ابن كثير: وهذه صفاتُ المؤمنين الكُمَّل أن يكون أحدهم متواضعاً لأخيه متعززاً على عدوه كقوله تعالى {أشداء على الكفّار رحماء بينهم} ومن علامة حب الله تعالى للمؤمن أن يكون ليّن الجانب متواضعاً لإِخوانه المؤمنين متسربلاً بالعزّة حيال الكافرين والمنافقين {يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ} أي يجاهدون لإِعلاء كلمة الله ولا يبالون بمن لامهم فهم صلاب في دين الله لا يخافون في ذات الله أحداً {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ} أي من اتصف بهذه الأوصاف الحميدة إِنما هو من فضل الله عليه وتوفيقه له {وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} أي واسع الإِفضال والإِحسان عليمٌ بمن يستحق ذلك.

ثمّ لما نهاهم تعالى عن موالاة الكفرة ذكر هنا من هم حقيقون بالموالاة فقال {إِنَّمَا وَلِيُّكُمْ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ ءامَنُوا} أي ليس اليهود والنصارى بأوليائكم إِنما أولياؤكم الله ورسوله والمؤمنون {الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ} أي المؤمنون المتصفون بهذه الأوصاف الجليلة من إِقام الصلاة وإِيتاء الزكاة وهم خاشعون متواضعون لله عز وجل، قال في التسهيل: ذكر تعالى الوليَّ بلفظ المفرد إِفراداً لله تعالى بهما، ثم عطف على اسمه تعالى الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين على سبيل التّبع، ولو قال "إِنما أولياؤكم" لم يكن في الكلام أصلٌ وتبع {وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ ءامَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمْ الْغَالِبُونَ} أي من يتولّ الله ورسوله والمؤمنين فإِنه من حزب الله وهم الغالبون القاهرون لأعدائهم.



سبب النزول:

أ- عن ابن عباس قال: جاء نفرٌ من اليهود إِلى النبي صلى الله عليه وسلم فسألوه عمن يؤمن به من الرسل عليهم السلام، فقال: أومن بالله وما أُنزل إِلينا وما أُنزل إِلى إِبراهيم وإِسماعيل إِلى قوله "ونحن له مسلمون" فلما ذكر عيسى جحدوا نبوته وقالوا: والله ما نعلم أهل دينٍ أقلَّ حظاً في الدنيا والآخرة منكم، ولا ديناً شراً من دينكم فأنزل الله {قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ} الآية.



أسباب النهي عن موالاة الكفار



{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ(57)وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ(58)قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنقِمُونَ مِنَّا إِلا أَنْ ءامَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ(59)قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُوْلَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ(60)وَإِذَا جَاءُوكُمْ قَالُوا ءامَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا يَكْتُمُونَ(61)وَتَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ(62)لَوْلا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ(63)}



{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا} أي لا تتخذوا أعداء الدين الذين يسخرون من دينكم ويهزؤون {مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ} أي من هؤلاء المستهزئين اليهود والنصارى وسائر الكفرة أولياء لكم تودّونهم وتحبونهم وهم أعداء لكم، فمن اتخذ دينكم سخرية لا يصح لكم أن تصادقوه أو توالوه بل يجب أن تبغضوه وتعادوه {وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ} أي اتقوا الله في موالاة الكفار والفجار إِن كنتم مؤمنين حقاً .

ثمَّ بيَن تعالى جانباً من استهزائهم فقال {وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا} أي وإِذا أذنتم إِلى الصلاة ودعوتم إِليها سخروا منكم ومن صلاتكم، قال في البحر: حسد اليهود الرسول صلى الله عليه وسلم حين سمعوا الأذان وقالوا: ابتدعتَ شيئاً لم يكن للأنبياء فمن أين لك الصياح كصياح العير فما أقبحه من صوت فأنزل الله هذه الآية نبّه تعالى على أنَّ من استهزاء بالصلاة ينبغي أن لا يُتّخذ ولياً بل يُهجر ويطرد، وهذه الآية جاءت كالتوكيد للآية قبلها {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ} أي ذلك الفعل منهم بسبب أنهم فجرة لا يعقلون حكمة الصلاة ولا يدركون غايتها في تطهير النفوس، ونفى العقل عنهم لكونهم لم ينتفعوا به في أمر الدين وإِن كان لهم عقول يدركون بها مصالح الدنيا .

{قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنقِمُونَ مِنَّا} أي قل يا محمد: يا معشر اليهود والنصارى هل تعيبون علينا وتنكرون منا {إِلا أَنْ ءامَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ} أي إِلا إِيماننا بالله وبما جاء به رسل الله، قال ابن كثير: أي هل لكم علينا مطعنٌ أو عيبٌ إِلا هذا؟ وهذا ليس بعيبٍ ولا مذمة فيكون الاستثناء منقطعاً {وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ} أي خارجون عن الطريق المستقيم {قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ} أي هل أخبركم بما هو شرٌّ من هذا الذي تعيبونه علينا؟ {مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ} أي ثواباً وجزاءً ثابتاً عند الله، قال في التسهيل: ووضع الثوابَ موضع العقاب تهكماً بهم نحو قوله {فبشرهم بعذابٍ أليم} {مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ} أي طرده من رحمته {وَغَضِبَ عَلَيْهِ} أي سخط عليه بكفره وانهماكه في المعاصي بعد وضوح الآيات {وَجَعَلَ مِنْهُمْ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ} أي ومسخ بعضَهم قردةً وخنازير {وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ} أي وجعل منهم من عَبَد الشيطان بطاعته {أُوْلَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ} أي هؤلاء الملعونون الموصوفون بتلك القبائح والفضائح شرٌّ مكاناً في الآخرة وأكثر ضلالاً عن الطريق المستقيم، قال ابن كثير: والمعنى يا أهل الكتاب الطاعنين في ديننا الذي هو توحيد الله وإِفراده بالعبادة دون ما سواه كيف يصدر منكم هذا وأنتم قد وجد منكم جميع ما ذكر؟ قال القرطبي: ولما نزلت هذه الآية قال المسلمون لهم: يا إِخوة القردة والخنازير فنكّسوا رءوسهم افتضاحاً وفيهم يقول الشاعر:

فلعــنة اللـــه على اليــهود إِن اليهـــود إِخـــوةُ القـــرود

{وَإِذَا جَاءُوكُمْ قَالُوا ءامَنَّا} الضمير يعود إِلى المنافقين من اليهود أي إِذا جاءوكم أظهروا الإِسلام {وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ} أي والحال قد دخلوا إِليك كفاراً وخرجوا كفاراً لم ينتفعوا بما سمعوا منك يا محمد من العلم، ولا نجعت فيهم المواعظ والزواجر {وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا يَكْتُمُونَ} أي من كفرهم ونفاقهم وفيه وعيد شديدٌ لهم.

{وَتَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} أي وترى كثيراً من اليهود يسابقون في المعاصي والظلم {وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ} أي أكلهم الحرام {لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} أي بئس أعمالهم القبيحة تلك الأخلاق الشنيعة {لَوْلا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ} أي هلاّ يزجرهم علماؤهم وأحبارهم {عَنْ قَوْلِهِمُ الإِثْمَ وَأَكْلِهِمْ السُّحْتَ} أي عن المعاصي والآثام وأكل الحرام { لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} أي بئس صنيعهم ذلك تركهم النهي عن ارتكاب محارم الله، قال ابن عباس: ما في القرآن آية أشد توبيخاً من هذه الآية -يعني على العلماء- وقال أبو حيان: تضمنت هذه الآية توبيخ العلماء والعبَّاد على سكوتهم عن النهي عن معاصي الله وأنشد ابن المبارك:

وهــلْ أفسَــد الــدِّيــنَ إِلا الملو كُ وأحبــارُ سَوْءٍ ورهبـانــها



من أقبح أقوال اليهود ، وإلقاء العداوة والبغضاء بينهم ، وجزاء إيمان أهل الكتاب



{وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ(64)وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ ءامَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ(65)وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لأكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ(66)}



{وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ} أي قال اليهود اللعناء إِن الله بخيلٌ يقتّر الرزق على العباد، قال ابن عباس: مغلولة أي بخيلة أمسك ما عنده بخلاً ليس يعنون أن يد الله موثقة ولكنهم يقولون إِنه بخيل {غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ} دعاءٌ عليهم بالبخل المذموم والفقر والنكد {وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا} أي أبعدهم الله من رحمته بسبب تلك المقالة الشنيعة {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ} أي بل هو جواد كريم سابغٍ الإِنعام يرزق ويعطي كما يشاء، قال أبو السعود: وتضييق الرزق ليس لقصورٍ في فيضه بل لأن إِنفاقه تابع لمشيئته المبنيّة على الحِكَم وقد اقتضت الحكمة بسبب ما فيهم من شؤم المعاصي أن يضيّق عليهم {وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا} أي وليزيدنَّهم هذا القرآن الذي أُنزل عليك يا محمد كفراً فوق كفرهم وطغياناً فوق طغيانهم إِذ كلّما نزلت آية كفروا بها فيزداد طغيانهم وكفرهم كما أن الطعام نافع للأصحاء ويزيد المرضى مرضاً قال الطبري: أعلم تعالى نبيّه أنهم أهل عتو وتمرّد على ربهم وأنهم لا يذعنون لحقٍّ وإِن علموا صحته ولكنهم يعاندونه يسلِّي بذلك نبيَّه صلى الله عليه وسلم في ذهابهم عن دين الله وتكذيبهم إِيّاه .

{وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} أي ألقينا بين اليهود العداوة والبغضاء فكلمتهم مختلفة وقلوبهم شتّى لا يزالون متباغضين متعادين إِلى قيام الساعة {كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ} أي كلما أرادوا إِشعال حربٍ على رسول الله صلى الله عليه وسلم أطفأها الله {وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا} أي يجتهدون في الكيد للإِسلام وأهله يسعون لإِثارة الفتن بين المسلمين، قال ابن كثير: أي من سجيتهم أنهم دائماً يسعون في الإِفساد في الأرض {وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} أي لا يحب من كانت هذه صفته .

{وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ ءامَنُوا وَاتَّقَوْا} أي لو أن اليهود والنصارى آمنوا بالله وبرسوله حق الإِيمان واتقوا محارم الله فاجتنبوها {لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ} أي محونا عنهم ذنوبهم التي اقترفوها {وَلأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ} أي ولأدخلناهم مع ذلك في جنان النعيم {وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ} أي ولو أنهم استقاموا على أمر الله وعملوا بما في التوراة والإِنجيل وبما أُنزل إِليهم في هذا الكتاب الجليل الذي نزل على خاتم الرسل صلى الله عليه وسلم {لأكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ} أي لوسّع الله عليهم الأرزاق وأغدق عليهم الخيرات بإِفاضة بركات السماء والأرض عليهم {مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ} أي منهم جماعة معتدلة مستقيمة غير غالية ولا مقصّرة، وهم الذين آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم كعبد الله بن سلام والنجاشي وسلمان {وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ} أي وكثير منهم أشرار بئس ما يعملون من قبيح الأقوال وسوء الأفعال.





أَمْرُ الرسول صلى الله عليه وسلم بتبليغ الوحي ، وعصمته من الناس، ودعوة أهل الكتاب للإِيمان برسالة النبي صلى الله عليه وسلم

{يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ(67)قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ(68)إِنَّ الَّذِينَ ءامَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ ءامَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ(69)}



المنَــاسَــبَة:

لمّا حذر تعالى المؤمنين من موالاة الكافرين، وكانت رسالته صلى الله عليه وسلم تتضمن الطعن في أحوال الكفرة والمخالفين، وهذا يستدعي مناصبتهم العداء له ولأتباعه أمره تعالى في هذه الآيات بتبليغ الدعوة، ووعده بالحفظ والنصرة، ثم ذكر تعالى طرفاً من عقائد أهل الكتاب الفاسدة وبخاصة النصارى الذين يعتقدون بألوهية عيسى وأنه ثالث ثلاثة، وردّ عليهم بالدليل القاطع والبرهان الساطع.



{يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} هذا نداءُ تشريفٍ وتعظيمٍ ناداه تعالى بأشرف الأوصاف بالرسالة الربانية أي بلّغْ رسالة ربك غير مراقب أحداً ولا خائف أن ينالك مكروه {وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ}.

قال ابن عباس: المعنى بلّغْ جميع ما أُنزل إِليك من ربك فإِن كتمتَ شيئاً منه فما بلّغت رسالته، وهذا تأديب لحملة العلم من أمته ألا يكتموا شيئاً من أمر شريعته {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} أي يمنعك من أن ينالوك بسوء، قال الزمخشري: هذا وعدٌ من الله بالحفظ والكلاءة والمعنى: والله يضمن لك العصمة من أعدائك فما عذرك في مراقبتهم؟ روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يُحرس حتى نزلت فأخرج رأسه من قبة أدَم وقال: انصرفوا أيها الناس فقد عصمني الله عز وجل {إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} أي إِنما عليك البلاغ والله هو الذي يهدي من يشاء فمن قُضي له بالكفر لا يهتدي أبداً.

{قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ} أي قل يا محمد لهؤلاء اليهود والنصارى لستم على شيء من الدين أصلاً حتى تعملوا بما في التوراة والإِنجيل وتقيموا أحكامها على الوجه الأكمل، ومن إِقامتها الإِيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم {وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ} قال ابن عباس: يعني القرآن العظيم {وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا} اللام للقسم أي وأقسم ليزيدنَّ هذا القرآن المنزل عليك يا محمد الكثير منهم غلواً في التكذيب وجحوداً لنبوتك وإِصراراً على الكفر والضلال {فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} أي لا تحزن عليهم فإِن تكذيب الأنبياء عادتُهم ودأبهم، وهذه تسليةٌ للنبي صلى الله عليه وسلم وليس بنهي عن الحزن .

ثم قال تعالى {إِنَّ الَّذِينَ ءامَنُوا} أي صدّقوا الله ورسوله وهم المسلمون {وَالَّذِينَ هَادُوا} وهم أتباع موسى {وَالصَّابِئُونَ} وهم طائفة من أتباع الأنبياء قيل من أتباع إبراهيم {وَالنَّصَارَى} وهم أتباع عيسى {مَنْ ءامَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا} أي مَنْ آمن من هؤلاء المذكورين إِيماناً صحيحاً خالصاً لا يشوبه ارتيابٌ بالله وباليوم الآخر وعمل صالحاً يقربه من الله {فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} أي فلا خوفٌ عليهم فيما قدموا عليه من أهوال يوم القيامة ولا هم يحزنون على ما خلّفوا وراءهم من الدنيا بعد معاينتهم جزيل ثواب الله، قال ابن كثير: والمقصود أن كلَّ فرقةٍ آمنت بالله واليوم الآخر إِلى جميع الثقلين - فمن اتصف بذلك فلا خوفٌ عليهم فيما يستقبلونه ولا هم يحزنون على ما تركوه وراء ظهورهم، وتفهم الآية أن من لم يؤمن بالله واليوم الآخر الإيمان الصحيح المطلوب لم ينفعه انتسابه إلى أحد من الرسل إن ادعاه.



تكذيب اليهود رسلَهم وقتلهم إياهم



{لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلاً كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لا تَهْوَى أَنفُسُهُمْ فَرِيقًا كَذَّبُوا وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ(70)وَحَسِبُوا أَلا تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُوا وَصَمُّوا ثُمَّ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ(71)}



{لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ} أي أولاد يعقوب وأحفادهم أخذنا منهم العهد المؤكد على الإِيمان بالله ورسله، قال في البحر: هذا إِخبار بما صدر من أسلاف اليهود من نقض الميثاق الذي أخذه تعالى عليهم وما اجترحوه من الجرائم العظام من تكذيب الأنبياء وقتل بعضهم، وهؤلاء أخلاف أولئك فغير بدعٍ ما يصدر منهم للرسول من الأذى والعصيان إِذ ذاك شِنْشِنةٌ من أسلافهم {وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلاً} أي أرسلنا لهم الرسل ليرشدوهم ويبينوا لهم أمر الدين {كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لا تَهْوَى أَنفُسُهُمْ} أي كلما جاءهم رسول من أولئك الرسل بما يخالف أهواءهم وشهواتهم {فَرِيقًا كَذَّبُوا وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ} أي كذبوا طائفةً من الرسل ويقتلون طائفة أخرى منهم، قال البيضاوي: وإِنما جيء بـ "يقتلون" موضع "قتلوا" على حكاية الحال الماضية استحضاراً لها واستفظاعاً للقتل وتنبيهاً على أن ذلك من ديدنهم ماضياً ومستقبلاً ومحافظةً على رؤوس الآي.

{وَحَسِبُوا أَلا تَكُونَ فِتْنَةٌ} أي وظنَّ بنو إِسرائيل أن لا يصيبهم بلاءٌ وعذاب بقتل الأنبياء وتكذيب الرسل اغتراراً بإِمهال الله عزّ وجلّ لهم {فَعَمُوا وَصَمُّوا} أي تمادوا في الغيّ والفساد فعَمُوا عن الهدى وصمّوا عن سماع الحق وهذا على التشبيه بالأعمى والأصمّ لأنه لا يهتدي إِلى طريق الرشد في الدين لإِعراضه عن النظر {ثُمَّ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} قال القرطبي: في الكلام إِضمارٌ أي أُوقعت بهم الفتنةُ فتابوا فتاب الله عليهم { ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ} أي عميَ كثير منهم وصمَّ بعد تبيّن الحق له {وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ} أي عليم بما عملوا وهذا وعيدٌ لهم وتهديد.



كفر النصارى بتأليههم المسيح، وما هو إلا بَشَرٌ رسول



{لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ(72)لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ(73)أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ(74)مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ انظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الآيَاتِ ثُمَّ انظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ(75)}



ثم ذكر تعالى عقائد النصارى الضالة في المسيح فقال {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ} قال أبو السعود: هذا شروعٌ في تفصيل قبائح النصارى وإِبطال أقوالهم الفاسدة بعد تفصيل قبائح اليهود وهؤلاء الذين قالوا إِن مريم ولدت إِلهاً وهم "اليعقوبية" زعموا أن الله تعالى حلَّ في ذات عيسى واتحد به، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً {وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ} أي أنا عبدٌ مثلكم فاعبدوا خالقي وخالقكم الذي يذلّ له كل شيء ويخضع له كل موجود.

قال ابن كثير: كان أول كلمة نطق بها وهو صغير أن قال {إِني عبد الله} ولم يقل: إِني أنا الله، ولا ابن الله بل قال {إِني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبياً} وقال القرطبي: ردَّ الله عليهم ذلك بحجةٍ قاطعةٍ مما يُقرّون به فقال {وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ} فإِذا كان المسيح يقول: يا رب، ويا الله فكيف يدعو نفسه أم كيف يسألها؟ هذا محال .

{إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ} أي من يعتقد بألوهية غير الله فلن يدخل الجنة أبداً لأنها دار الموحّدين {وَمَأْوَاهُ النَّارُ} أي مصيره نار جهنم {وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ} أي فلا ناصر ولا منقذ له من عذاب الله.

{لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ} أي أحد ثلاثة آلهة وهذا قول فرقةٍ من النصارى يسمون "النُّسطورية والملكانية" القائلين بالتثليث وهم يقولون: إِن الإِلهيّة مشتركة بين الله، وعيسى، ومريم وكل واحدٍ من هؤلاء إِله ولهذا اشتهر قولهم "الأب والإِبن وروح القدس" {وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلا إِلَهٌ وَاحِدٌ} أي والحال أنه ليس في الوجود إِلا إِله واحدٌ موصوفٌ بالوحدانية متعالٍ عن المثيل والنظير {وَإِنْ لَمْ يَنتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ} أي وإِن لم يكفّوا عن القول بالتثليث {لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} أي ليمسنهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة {أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ} الأستفهام للتوبيخ أي أفلا ينتهون عن تلك العقائد الزائفة والأقاويل الباطلة ويستغفرون الله مما نسبوه إِليه من الاتحاد والحلول؟ {وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} أي يغفر لهم ويرحمهم إِن تابوا، قال البيضاوي: وفي هذا الاستفهام {أفلا يتوبون} تعجيبٌ من إِصرارهم على الكفر .

{مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ} أي ما المسيح إِلا رسولٌ كالرسل الخالية الذين تقدموه خصّه الله تعالى ببعض الآيات الباهرات إِظهاراً لصدقه كما خصّ بعض الرسل، فإِن أحيا الموتى على يده فقد أحيا العصا في يد موسى. وجعلت حية تسعى وهو أعجب، وإِن خُلق من غير أب فقد خلق آدم من غير أبٍ ولا أم وهو أغرب، وكلُّ ذلك من جنابه عز وجلّ وإِنما موسى وعيسى مظاهر شؤونه وأفعاله {وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ} أي مبالغة في الصّدق {كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ} أي أنه مخلوق كسائر المخلوقين مركبٌ من عظمٍ ولحمٍ وعروقٍ وأعصاب وفيه إِشارة لطيفة إِلى أن من يأكل الطعام لا بدّ أن يكون في حاجة إِلى إِخراجه ومن يكن هذا حاله فكيف يُعبْد، أو كيف يُتوهم أنه إِله؟ {انظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لهُمُ الآيَاتِ} تعجيبٌ من حال الذين يدَّعون ألوهيّته هو وأمه أي أنظر كيف نوضّح لهم الآيات الباهرة على بطلان ما اعتقدوه {ثُمَّ انظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} أي كيف يُصرفون عن استماع الحق وتأمله بعد هذا البيان مع أنه أوضح من الشمس في رابعة النّهار.



مناقشة النصارى في تأليه عيسى عليه السلام، ومطالبة أهل الكتاب بعدم الغلوّ في الدين،

ولعنة بني إسرائيل لعدم نهيهم عن المنكر



{قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعًا وَاللَّه هُوَ السَّمِيعُ لْعَلِيمُ(76)قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ(77)لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ(78)كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ(79)تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ(80)وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ(81)}



{قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعًا} أي قل يا محمد أتوجهون عبادتكم إلى من لا يقدر أن يجلب لكم النفع أوالضر؟ {وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} أي السميع لأقوالكم العليم بأحوالكم وتضمنت الآية الإِنكار عليهم حيث عبدوا من هو متصفٌ بالعجز عن دفع ضرّ أو جلب نفع.

{قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ} أي يا معشر اليهود والنصارى لا تتجاوزوا الحد في دينكم وتُفرطوا كما أفرط أسلافكم فتقولوا عن عيسى إِنه إِلهٌ وابن إِله، قال القرطبي: وغلو اليهود قولهم في عيسى إِنه ليس ولد رِشْدة - أي هو ابن زنا - وغلوُّ النصارى قولهم إِنه إِله {وَلا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ} أي لا تتبعوا أسلافكم وأئمتكم الذين كانوا على الضلال قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم {وَأَضَلُّوا كَثِيرًا} أي أضلوا كثيراً من الخلق بإِغوائهم لهم {وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ} أي ضلوا عن الطريق الواضح المستقيم، قال القرطبي: وتكرير ضلوا للإِشارة إِلى أنهم ضلوا من قبل وضلوا من بعد، والمرادُ الأسلافُ الذين سنُّوا الضلالة وعملوا بها من رؤساء اليهود والنصارى .

{لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ} أي لعنهم الله عز وجل في الزبور، والإِنجيل، قال ابن عباس: لُعنوا بكللسان، لعنوا على عهد موسى في التوراة، وعلى عهد داود في الزبور، وعلى عهد عيسى في الإِنجيل وعلى عهد محمد في القرآن، قال المفسرون: إِن اليهود لمّا اعتدوا في السبت دعا عليهم داود فمسخهم الله قردة، وأصحاب المائدة لمّا كفروا بعيسى دعا عليهم عيسى فمُسخوا خنازير {ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ} أي ذلك اللعن بسبب عصيانهم واعتدائهم، ثمَّ بيَّن تعالى حالهم الشنيع فقال {كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ} أي لا ينهى بعضُهم بعضاً عن قبيحٍ فعلوه {لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ}، قال الزمخشري: تعجيب من سوء فعلهم مؤكد بالقسم فيا حسرتا على المسلمين في إِعراضهم عن التناهي عن المنكر كأنه ليس من الإِسلام في شيء مع ما يتلون من كتاب الله من المبالغات في هذا الباب، وقال في البحر: وذلك أنهم جمعوا بين فعل المنكر، والتجاهر به، وعدم النهي عنه، والمعصيةُ إذا فُعلت ينبغي أن يُستتر بها لحديث (من ابتلي منكم بشيء من هذه القاذورات فليستتر) فإِذا فُعلت جهاراً وتواطأ الناس على عدم الإِنكار كان ذلك تحريضاً على فعلها وسبباً مثيراً لإِفشائها وكثرتها .

{تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا} أي ترى كثيراً من اليهود يوالون المشركين بغضاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين والمراد "كعب بن الأشرف" وأصحابه {لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ} أي بئس ما قدموا من العمل لمعادهم في الآخرة { أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} وهذا هو المخصوص بالذم أي بئس ما قدموه لآخرتهم سخطُ الله وغضبُه عليهم {وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ} أي وفي عذاب جهنم مخلّدون أبد الآبدين {وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ} أي لو كان هؤلاء اليهود يصدّقون بالله ونبيّهم وما جاءهم من الكتاب ما اتخذوا المشركين أولياء {وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} أي ولكنَّ أكثرهم خارجون عن الإِيمان وطاعة الله عز وجل.



اليهود والنصارى في الميزان



{لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ ءامَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ ءامَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ(82)وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا ءامَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ(83)وَمَا لَنَا لا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ(84)فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ(85)وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ(86)}



{لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ ءامَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا} اللام للقسم أي قسماً لتجدنَّ يا محمد اليهود والمشركين أشدَّ الناس عداوة للمؤمنين {وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ ءامَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى} نزلت في النجاشي ملك الحبشة وأصحابه، قال الزمخشري: وصف الله شدة شكيمة اليهود وصعوبة إِجابتهم إِلى الحق، ولين عريكة النصارى وسهولة ميلهم إِلى الإِسلام، وجعل اليهود قرناء المشركين في شدة العداوة للمؤمنين بل نبّه على زيادة عداوتهم بتقديمهم على الذين أشركوا {ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا} تعليلٌ لقرب مودة النصارى أي كونهم أقرب مودة بسبب أن منهم علماء وعُباداً {وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ} أي يتواضعون لوداعتهم ولا يتكبرون كاليهود، قال البيضاوي: وفيه دليلٌ على أن التواضعَ والإِقبال على العلم والعمل والإِعراض عن الشهوات، محمودٌ وإِن كان من كافر.

{وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ} أي إِذا سمعوا القرآن المُنْزَل على محمد رسول الله {تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ} أي فاضت أعينهم بالدمع من خشية الله لرقة قلوبهم وتأثرهم بكلام الله الجليل {مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ} أي من أجل معرفتهم أنه كلام الله وأنه حق {يَقُولُونَ رَبَّنَا ءامَنَّا} أي يقولون يا ربنا صدقنا بنبيّك وكتابك {فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ} أي مع أمة محمد عليه السلام الذين يشهدون على الأمم يوم القيامة، قال ابن عباس: نزلت هذه الآيات في النجاشي وأصحابه الذين تلا عليهم "جعفر بن أبي طالب" بالحبشة القرآن بكوا حتى أخضلوا لحاهم {وَمَا لَنَا لا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ} أي ما الذي يمنعنا عن الإِيمان ويصدنا عن اتّباع الحق وقد لاح لنا الصواب وظهر الحق المنير؟ قالوا ذلك في جواب من عيّرهم بالإِسلام من اليهود، قال في البحر: هذا إِنكارٌ واستبعادٌ لانتفاء الإِيمان منهم مع قيام موجبه وهو عرفان الحق {وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ} أي والحال أننا نطمع أن يدخلنا ربنا الجنة بصحبة الصالحين من عباده الأبرار {فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُوا} أي جازاهم على إِيمانهم وتصديقهم واعترافهم بالحق {جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا} أي ماكثين فيها أبداً لا يحولون عنها ولا يزولون {وَذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ} أي ذلك الأجر والثواب جزاء من أحسن عمله وأصلح نيّته.

ثم أخبر تعالى عن حال الأشقياء فقال {وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} أي جحدوا بآيات الله وأنكروا نبوة محمد صلى الله عليه وسلم فهم أهل الجحيم المعذّبون فيها، قال أبو السعود: وذكَرهم بمقابلة المصدِّقين بآيات الله جمعاً بين الترغيب والترهيب.



النهي عن تحريم الطيِّبات



{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ(87)وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالاً طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ(88)}



{يَا أَيُّها الَّذِينَ ءامَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ} روى الطبري عن عكرمة قال: كان أناسٌ من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم همّوا بالخِصاء وترك اللحم والنساء فنزلت هذه الآية أي لا تمنعوا أنفسكم تلك اللذائذ وتقولوا حرّمناها على أنفسنا مبالغة في تركها وتقشفاً وتزّهُّداً {وَلا تَعْتَدُوا} أي ولا تتعدّوا حدود ما أحل الله لكم بتجاوز الحلال إِلى الحرام {إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} أي يبغض المتجاوزين الحد، والإِسلام يدعو إِلى القصد بدون إِفراط أو تفريط ولهذا قال {وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالاً طَيِّبًا} أي كلوا ما حلَّ لكم وطاب مما رزقكم الله قال في التسهيل: أي تمتعوا بالمآكل الحلال وبالنساء وغير ذلك، وإِنما خصّ الأكل بالذكر لأنه أعظم حاجات الإِنسان {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ} هذا استدعاء إِلى التقوى بألطف الوجوه كأنه يقول: لا تضيّعوا إِيمانكم بالتقصير في طاعة الله عز وجل فتكون عليكم الحسرة العظمى فإِن الإِيمان بالله تعالى يوجب المبالغة في تقوى الله.



أنواع الأيمان وكفَّاراتها



{ لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ ءايَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ(89)}



{لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ} أي لا يؤاخذكم بما يسبق إِليه اللسان من غير قصد الحلف كقولكم لا والله، وبلى والله {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الأَيْمَانَ} أي ولكن يؤاخذكم بما وثّقتم الأيمان عليه بالقصد والنية إِذا حنثتم {فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ} أي كفارة اليمين عند الحنث أن تُطعموا عشرة مساكين من الطعام الوسط الذي تُطعمون منه أهليكم، قال ابن عباس: أي من أعدل ما تُطعمون أهليكم، وقال ابن عمر: الأوسطُ الخبز والتمر، والخبز والزبيب، وخيرُ ما نُطعم أهلينا الخبز واللحم {أَوْ كِسْوَتُهُمْ} أي كسوة المساكين لكل مسكين ثوبٌ يستر البدن {أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} أي إِعتاق عبد مملوك لوجه الله، قال في البحر: وأجمع العلماء على أن الحانث مُخَيّر بين الإِطعام والكسوة والعتق {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ} أي فمن لم يجد شيئاً من الأمور المذكورة فكفارته صيام ثلاثة أيام {ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ} أي هذه كفارة اليمين الشرعية عند الحنث {وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ} أي احفظوها عن الابتذال ولا تحلفوا إِلا لضرورة، قال ابن عباس: أي لا تحلفوا، وقال ابن جرير: أي لا تتركوها بغير تكفير {كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ ءايَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} أي مثل ذلك التبيين يبيّن الله لكم الأحكام الشرعية ويوضحها لتشكروه على هدايته وتوفيقه لكم.



التحريم الصريح لعادات جاهلية



{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءامنوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ(90)إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنتَهُونَ(91)وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ(92)لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ ءامنوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَءامنوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَءامنوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ(93)}



{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءامنوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ} قال ابن عباس: الخمر جميع الأشربة التي تُسكر، والميسرُ القمار كانوا يتقامرون به في الجاهلية {وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ} أي الأصنام المنصوبة للعبادة والأقداح التي كانت عند سدنة البيت وخُدّام الأصنام، قال ابن عباس ومجاهد: الأنصاب حجارةٌ كانوا يذبحون قرابينهم عندها والأزلام: قداحٌ كانوا يستقسمون بها {رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ} أي قذر ونجسٌ تعافه العقول، وخبيثٌ مستقذر من تزيين الشيطان {فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} أي اتركوه وكونوا في جانب آخر بعيدين عن هذه القاذورات لتفوزوا بالثواب العظيم .

{إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمْ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ} أي ما يريد الشيطان بهذه الرذائل إِلا إِيقاع العداوة والبغضاء بين المؤمنين في شربهم الخمر ولعبهم القمار {وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ} أي ويمنعكم بالخمر والميسر عن ذكر الله الذي به صلاح دنياكم وآخرتكم وعن الصلاة التي هي عماد دينكم، قال أبو حيان: ذكر تعالى في الخمر والميسر مفسدتين: إِحداهما دنيوية، والأخرى دينية، فأما الدنيوية فإِن الخمر تثير الشرور والأحقاد وتؤول بشاربها إِلى التقاطع، وأما الميسر فإِن الرجل لا يزال يقامر حتى يبقى سليباً لا شيء له وينتهي إِلى أن يقامر حتى على أهله وولده، وأما الدينية فالخمر لغلبة السرور والطرب بها تُلهي عن ذكر الله وعن الصلاة، والميسر - سواء كان غالباً أو مغلوباً - يلهي عن ذكر الله {فَهَلْ أَنْتُمْ مُنتَهُونَ} الصيغة للاستفهام ومعناه الأمر أي انتهوا ولذلك قال عمر: انتهينا ربّنا انتهينا، قال في البحر: وهذا الاستفهام من أبلغ ما يُنهى به كأنه قيل: قد تُلي عليكم ما فيهما من المفاسد التي توجب الانتهاء فهل أنتم منتهون أم باقون على حالكم؟ {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا} أي أطيعوا أمر الله وأمر رسوله واحذروا مخالفتهما {فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ} أي أعرضتم ولم تعملوا بأمر الله ورسوله {فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ} أي ليس عليه هدايتكم وإِنما عليه تبليغكم الرسالة وجزاؤكم علينا، قال الطبري: وهذا من الله وعيدٌ لمن تولى عن أمره ونهيه يقول تعالى ذكره لهم: فإِن توليتم عن أمري ونهي فتوقعوا عقابي واحذروا سخطي، وقال أبو حيان: وفي هذا من الوعيد البالغ ما لا خفاء به إِذ تضمّن أن عقابكم إِنما يتولاه المرسِلُ لا الرسول.

{لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ ءامنوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا} قال ابن عباس: لما نزل تحريم الخمر قال قوم كيف بمن مات منا وهو يشربها ويأكل الميسر فنزلت فأخبر تعالى أن الإِثم والذمّ إِنما يتعلق بفعل المعاصي والذين ماتوا قبل التحريم ليسوا بعاصين {إِذَا مَا اتَّقَوْا وَءامنوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} أي ليس عليهم جُناحٌ فيما تناولوه من المأكول والمشروب إِذا اتقوا المحرَّم وثبتوا على الإِيمان والأعمال الصالحة { ثُمَّ اتَّقَوْا وَءامنوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا} أي اتقوا المحرّم وءامنوا بتحريمه بمعنى اجتنبوا ما حرمّه الله معتقدين حرمته {ثُمَّ اتَّقَوْا وَءامنوا} أي ثم استمروا على تقوى الله واجتناب المحارم وعملوا الأعمال الحسنة التي تقربهم من الله {وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} أي يحب المتقربين إِليه بالأعمال الصالحة، قال في التسهيل: كرّر التقوى مبالغةً وقيل: الرتبة الأولى: إِتقاء الشرك، والثانيةُ: اتقاء المعاصي، والثالثةُ: اتقاء ما لا بأس به حذراً مما به البأسُ.



قتل الصيد في الإحرام وما يترتب عليه من أحكام



{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءامنوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ(94)يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءامنوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عَادَ فَيَنتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انتِقَامٍ(95)أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ(96)}



{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءامنوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ} أي ليختبرنكم الله في حال إِحرامكم بالحج أو العمرة بشيء من الصيد تنال صغاره الأيدي وكباره الرماح، قال البيضاوي: نزل في عام الحديبية ابتلاهم الله سبحانه وتعالى: بالصيد وكانت الوحوش تغشاهم في رحالهم بحيث يتمكنون من صيدها أخذاً بأيديهم وطعناً برماحهم وهم محرمون، قال في البحر: وكان الصيد مما تعيش به العرب وتتلذذ باقتناصه ولهم فيه الأشعار والأوصاف الحسنة {لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ} أي ليتميز الخائف من الله بطريق الغيب لقوة إِيمانه ممن لا يخاف الله لضعف إِيمانه {فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ} أي فمن تعرّض للصيد بعد هذا الإِعلام والإِنذار فله عذابٌ مؤلم موجع .

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءامنوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} أي لا تقتلوا الصيد وأنتم محرمون بحجٍ أو عمرة {وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} أي من قتل الصيد في حالة الإِحرام فعليه جزاء يماثل ما قتل من النَّعم وهي الإِبل والبقر والغنم {يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ} أي يحكم بالمِثْل حكمان عادلان من المسلمين {هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ} أي حال كونه هدياً يُنحر ويُتصدَّق به على مساكين الحرم فإِن لم يكن للصيد مثلٌ من النَّعم كالعصفور والجراد فعليه قيمته {أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ} أي وإِذا لم يجد المحرم مثل ما قتل من النَّعم فَيُقوّم الصيدُ المقتول ثم يُشترى به طعامٌ فيصرف لكل مسكينٍ مدٌّ منه {أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ} أي عليه مثل ذلك الطعام صياماً يصومه عن كل مدٍّ يوماً ليذوق سوء عاقبة هتكه لحرمة الإِحرام، قال في التسهيل: عدَّد تعالى ما يجب في قتل المحرم للصيد، فذكر أولاً الجزاء من النَّعم، ثم الطعام، ثم الصيام ومذهب مالك والجمهور أنها على التخيير وهو الذي يقتضيه العطف بـ "أو" وعن ابن عباس أنها على الترتيب {عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ} أي من قتل الصيد قبل التحريم {وَمَنْ عَادَ فَيَنتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ} أي ومن عاد إِلى قتل الصيد وهو محرم فينتقم الله منه في الآخرة {وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انتِقَامٍ} أي غالب على أمره منتقم ممن عصاه.

{أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ} أي أُحلَّ لكم أيها الناس صيد البحر سواء كنتم محرمين أو غير محرمين {وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ} أي وما يُطعم من صيده كالسمك وغيره منفعةً وقوتاً لكم وزاداً للمسافرين يتزودونه في أسفارهم {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا} أي وحُرّم عليكم صيد البر ما دمتم محرمين {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} أي خافوا الله الذي تبعثون إِليه يوم القيامة فيجازيكم على أعمالكم وهو وعيد وتهديد.



تعظيم البيت الحرام وجعله حرماً آمناً



{جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ(97)}



{جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ} أي جعل الله الكعبة المشرّفة وهي البيت المحرّم صلاحاً ومعاشاً للناس لقيام أمر دينهم ودنياهم إذ هو سببٌ لانتعاشهم في أمور معاشهم ومعادهم، يلوذ به الخائف، ويأمن فيه الضعيف، ويربح فيه التجار، ويتوجه إليه الحُجَّاج والعمار {وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ} أي الأشهر الحُرُم "ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب" قياماً لهم لأمنهم القتال فيها {وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ} أي الهدي الذي يُهدى للحرم من الأنعام، والبُدن ذوات القلائد التي تُقلّد من شجر الحرم لتأمن هي وأصحابها جعلها الله أيضاً قياماً للناس {ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} أي جعل هذه الحرمة للبيت الحرام والشهر الحرام والهدي والقلائد لتعلموا أيها الناس أن الله يعلم تفاصيل أمور السموات والأرض ويعلم مصالحكم لذلك جعل الحرم آمناً يسكن فيه كل شيء، فانظروا لطفه بالعباد مع كفرهم وضلالهم.



نفي المساواة بين الخبيث والطيب



{اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ(98)مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلا الْبَلاغُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ(99)قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ(100)}





{اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} أي اعلموا أيها الناس أن الله شديد العقاب لمن عصاه وأنه غفور رحيم لمن تاب وأطاع وأناب، فلا تُيئسنكم نقمتُه ولا تُطْمعنَّكم رحمتُه {مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلا الْبَلاغُ} أي ليس على الرسول إلا أداء الرسالة وتبليغ الشريعة وقد بلّغ ما وجب عليه فلا عذر لأحدٍ في التفريط {وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ} أي لا يخفى عليه شيء من أحوالكم وأعمالكم وسيجازيكم عليها، قال أبو حيان: الجملة فيها تهديد إذ أخبر تعالى أنه مطّلع على حال العبد ظاهراً وباطناً فهو مجازيه على ذلك ثواباً أو عقاباً .

{قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ} أي قل يا محمد لا يتساوى الخبيث والطيّبُ ولو أعجبك أيها السامع كثرة الخبيث وهو مثلٌ ضربه الله للتمييز بين الحلال والحرام، والمطيع والعاصي، والرديء والجيد، قال القرطبي: اللفظ عامٌ في جميع الأمور يتصور في المكاسب، والأعمال، والناس، والمعارف من العلوم وغيرها، فالخبيث من هذا كلِّه لا يُفلح ولا يُنْجِب ولا تحَسن له عاقبةٌ وإن كثر، والطيّب - وإن قلَّ - نافعٌ حميدٌ جميل العاقبة، وقال أبو حيان: الظاهر أن الخبيث والطيّب عامّان فيندرج تحتهما المال وحرامه، وصالح العمل وفاسده، وجيّد الناس ورديئهم، وصحيح العقائد وفاسدها ونظير هذه الآية قوله تعالى {والبلد الطيّب يخرج نباتُه بإِذن ربه والذي خَبُثَ لا يخرج إلا نكداً} {فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} أي فاتقوا الله بامتثال أوامره واجتناب نواهيه يا ذوي العقول لتفلحوا وتفوزوا برضوان الله والنعيم المقيم.



النهي عن الأسئلة غير المفيدة



{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءامنوا لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْءانُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ(101)قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ(102)}



{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءامنوا لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} أي لا تسألوا الرسول عن أمور لا حاجة لكم بها إن ظهرت لكم ساءتكم، قال الزمخشري: أي لا تُكثروا مسألة رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى تسألوه عن تكاليف شاقة عليكم إن أفتاكم بها وكلّفكم إياها تغمكم وتشق عليكم وتندموا على السؤال عنها {وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْءانُ تُبْدَ لَكُمْ} أي وإِن تسألوا عن هذه التكاليف الصعبة في زمان نزول الوحي تظهر لكم تلك التكاليف التي تسؤكم فلا تسألوا عنها {عَفَا اللَّهُ عَنْهَا} أي عفا الله عن مسائلكم السالفة التي لا ضرورة لها وتجاوز عن عقوبتكم الأخروية فلا تعودوا إلى مثلها {وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ} أي واسع المغفرة عظيم الفضل والإِحسان ولذلك عفا عنكم ولم يعاجلكم بالعقوبة.

{قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ} أي سأل أمثال هذه المسائل قومٌ قبلكم فلما أعطوها وفُرضت عليهم كفروا بها ولهذا قال {ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ} أي صاروا بتركهم العمل بها كافرين وذلك أن بني إسرائيل كانوا يستفتون أنبياءهم عن أشياء فإذا أُمروا بها تركوها فهلكوا.



التحليل والتحريم لله وحده سبحانه وتعالى

{مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سَائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حَامٍ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ(103)وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ ءابَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ ءابَاؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلا يَهْتَدُونَ(104)}



{مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سَائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حَامٍ} كان أهل الجاهلية إذا أنتجت الناقة خمسة أبطن آخرها ذكر بحروا أذنها أي شقوها وحرموا ركوبها وهي البحيرة، وكان الرجل يقول: إذا قدمتُ من سفري أو برئتُ من مرضي فناقتي سائبة، وجعلها كالبحيرة في تحريم الانتفاع بها، وإِذا ولدت الشاة أنثى فهي لهم وإن ولدت ذكراً فهو لآلهتهم وإن ولدت ذكراً وأنثى قالوا وصلت أخاها وهي الوصيلة، وإذا أنتجت من صلب الفحل عشرة أبطن قالوا قد حمى ظهره وهو الحام، فلما جاء الإِسلام أبطل هذه العادات كلها فلا بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام، {وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ} أي ولكنَّ الذين كفروا بالله يختلقون الكذب على الله وينسبون التحريم إليه فيقولون الله أمرنا بهذا وأكثرهم لا يعقلون أن هذا افتراء لأنهم يقلّدون فيه الآباء ولهذا قال تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ} أي وإذا قيل لهؤلاء الضالين هلموا إلى حكم الله ورسوله فيما حلّلتم وحرّمتم {قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ ءابَاءَنَا} أي يكفينا دين آبائنا {أَوَلَوْ كَانَ ءابَاؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلا يَهْتَدُونَ} الهمزة للإِنكار والغرض والتوبيخ أي أيتبعون آباءهم فيما هم عليه من الضلال ولو كانوا لا يعلمون شيئاً من الدين ولا يهتدون إلى الحق؟



الهداية من الله والمرجع إليه



{يا أيُّهَا الَّذِينَ ءامنوا عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ(105)}



{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءامنوا عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ} أي احفظوها عن ملابسة المعاصي والإِصرار على الذنوب والزموا إصلاحها {لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} أي لا يضركم ضلال من ضلَّ من الناس إذا كنتم مهتدين، قال الزمخشري: كان المسلمون تذهب أنفسهم حسرة على الكفرة يتمنون دخولهم في الإِسلام فقيل لهم عليكم أنفسكم بإصلاحها والمشي بها في طرق الهدى لا يضركم الضلاَّل عن دينكم إذا كنتم مهتدين كما قال تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم {فلا تذهب نفسُك عليهم حسرات}.

وقال أبو السعود: ولا يتوهمنّ أحدٌ أنّ في الآية رخصة في ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فإن من جملة الاهتداء أن ينكر وقد روي أن الصدّيق قال يوماً على المنبر: أيها الناس إنكم تقرأون هذه الآية وتضعونها غير موضعها وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن الناس إذا رأوا المنكر فلم يغيرّوه عمّهم الله بعقابه {إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا} أي مصيركم ومصير جميع الخلائق إلى الله { فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} أي فيجازيكم بأعمالكم، قال البيضاوي: هذا وعدٌ ووعيد للفريقين، وتنبيه على أن أحداً لا يؤاخذ بذنب غيره.



الحض على الوصية والاهتمام بأمرها





{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءامنوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ ءاخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصلاةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذًا لَمِنَ الآثِمِينَ(106)فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الأَوْلَيَانِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا وَمَا اعْتَدَيْنَا إِنَّا إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ(107)ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا أَوْ يَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاسْمَعُوا وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ(108)}



{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءامنوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ} أي يا أيها المؤمنون إذا شارف أحدكم على الموتِ وظهرت علائمه فينبغي أن يُشهد على وصيته {اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ ءاخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ} أي يُشهد على الوصية شخصين عدلين من المسلمين أو أثنان من غير المسلمين إن لم تجدوا شاهدين منكم {إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ} أي إن أنتم سافرتم فقاربكم الأجل ونزل بكم الموت {تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصلاةِ} أي توقفونهما من بعد صلاة العصر لأنه وقت اجتماع الناس وكذا فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم استحلف عديّاً وتميماً بعد العصر على المنبر {فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ} أي يحلفان بالله إن شككتم وارتبتم في شهادتهما، قال أبو السعود: أي إن ارتاب بهما الوارث منكم بخيانةٍ وأخذ شيء من التركة فاحبسوهما وحلفوهما بالله {لا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى} أي يحلفان بالله قائلَين: لا نحابي بشهادتنا أحداً ولا نستبدل بالقسم بالله عرضاً من الدنيا أي لا نحلف بالله كاذبين من أجل المال ولو كان من نُقسم له قريباً لنا {وَلا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذًا لَمِنَ الآثِمِينَ} أي ولا نكتم الشهادة التي أمرنا الله تعالى بإقامتها إنّا إن فعلنا ذلك كنا من الآثمين .

{فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا} أي فإن اطُّلع بعد حلفهما على خيانتهما أو كذبهما في الشهادة { فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الأَوْلَيَانِ} أي فرجلان آخران من الورثة المستحقين للتركة يقومان مقام الشاهدين الخائنين وليكونا من أولى من يستحق الميراث {فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا} أي يحلفان بالله لشهادتنا أصدق وأولى بالسماع والاعتبار من شهادتهما لأنهما خانا {وَمَا اعْتَدَيْنَا إِنَّا إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ} أي وما اعتدينا فيما قلنا فيهما من الخيانة إنّا إذا كذبنا عليهم نكون من الظالمين .

{ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا}أي ذلك الحكم أقرب أن يأتوا بالشهادة على حقيقتها من غير تغيير ولا تبديل {أَوْ يَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ} أي يخافوا أن يحلف غيرهم بعدهم فيفتضحوا {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاسْمَعُوا} أي خافوا ربكم وأطيعوا أمره {وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} أي والله لا يهدي الخارجين عن طاعته إلى جنته ورحمته.



تذكيرٌ باليوم الآخر

{يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُوا لا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلاّمُ الْغُيُوبِ(109)}



{يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ} أي اذكروا أيها الناس ذلك اليوم الرهيب يوم القيامة حين يجمع الله الرسل والخلائق للحساب والجزاء {فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ} أي ما الذي أجابتكم به أممكم؟ وما الذي ردّ عليكم قومكم حين دعوتموهم إِلى الإِيمان والتوحيد؟ {قَالُوا لا عِلْمَ لَنَا} أي لا علم لنا إِلى جنب علمك، قال ابن عباس: أي لا علم لنا إِلا علم أنت أعلم به منا {إِنَّكَ أَنْتَ عَلامُ الْغُيُوبِ} أي تعلم ما لا نعلم ممّا ظهر وبطن، قال أبو السعود: وفيه إِظهارٌ للشكوى وردٌ للأمر إِلى علمه تعالى بما لقوا من قومهم من الخطوب وكابدوا من الكروب والتجاءٌ إِلى ربهم في الانتقام منهم.



معجزات عيسى عليه السلام



{إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلا وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلا سِحْرٌ مُبِينٌ(110)وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ ءامنوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا ءامَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ(111)}



{إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى وَالِدَتِكَ} قال ابن كثير: يذكر تعالى ما منَّ به على عبده ورسوله عيسى بن مريم عليه السلام بما أجراه على يديه من المعجزات وخوارق العادات أي اذكر نعمتي عليك في خلقي إِياك من أمّ بلا ذكر وجعلي إِيّاك آية قاطعة على كمال قدرتي، وعلى والدتك حيث جعلتك برهاناً على براءتها ممّا اتهمها به الظالمون من الفاحشة، وقال القرطبي: هذا من صفة يوم القيامة كأنه قال: اذكر يوم يجمع الله الرسل وإِذا يقول لعيسى كذا وذكر بلفظ الماضي {إِذْ قَال} تقريباً للقيامة لأن ما هو آتٍ قريب.

{إِذْ أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ} أي حين قوّيتك بالروح الطاهرة المقدسة "جبريل" عليه السلام {تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلا} أي تكلّم الناس في المهد صبيّاً وفي الكهولة نبياً {وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ} أي واذكر نعمتي عليك حين علمتك الكتابة والحكمة وهي العلم النافع مع التوراة والإِنجيل {وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي} أي واذكر أيضاً حين كنت تصوّر الطين كصورة الطير بتيسيري وأمري {فَتَنفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي} أي فتنفخ في تلك الصورة والهيئة فتصبح طيراً بأمر الله ومشيئته {وَتُبْرِئُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ بِإِذْنِي} أي تشفي الأعمى الذي لا يبصر والأبرص الذي استعصى شفاؤه بأمري ومشيئتي.

{وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي} أي تحيي الموتى بأمري ومشيئتي، وكرر لفظ {بِإِذْنِي} مع كل معجزة رداً على من نسب الربوبية إِلى عيسى ولبيان أن تلك الخوارق من جهته سبحانه أظهرها على يديه معجزة له {وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ} أي واذكر حين منعتُ اليهود من قتلك لمّا همّوا وعزموا على الفتك بك حين جئتهم بالحجج والمعجزات {فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلا سِحْرٌ مُبِينٌ} أي قال الذين جحدوا نبوتك ولم يؤمنوا بك ما هذه الخوارق إِلا سحرٌ ظاهر واضح.

{وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ ءامنوا بِي وَبِرَسُولِي} وهذا أيضاً من الامتنان على عيسى أي واذكر حين أمرتُ الحواريين وقذفت في قلوبهم أن صدّقوا بي وبرسولي عيسى بن مريم {قَالُوا ءامَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ} أي قال الحواريون صدّقنا يا رب بما أمرتنا واشهد بأننا مخلصون في هذا الإِيمان خاضعون لأمر الرحمن.



قصة المائدة



{إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ قَالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ(112)قَالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ(113)قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنْ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا لأَوَّلِنَا وَءاخِرِنَا وَءايَةً مِنْكَ وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيرُ الرَّازِقِينَ(114)قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ(115)}



{إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ} أي واذكر حين قال الحواريون يا عيسى هل يقدر ربك على إِنزال مائدة من السماء علينا؟ قال القرطبي: وكان هذا السؤال في ابتداء أمرهم قبل استحكام معرفتهم بالله عز وجل ويجوز أن يكون ذلك صدر ممن كان معهم من الجهال كما قال بعض قوم موسى {اجعل لنا إِلهاً كما لهم آلهة} وقال أبو حيان: وهذا اللفظ يقتضي ظاهره الشك في قدرة الله تعالى على أن ينزّل مائدة من السماء وهذا ما ذهب إِليه الزمخشري وأما غيره من أهل التفسير فأطبقوا على أن الحواريين كانوا مؤمنين وهم خواص عيسى وأنهم لم يشكّوا في ذلك حتى قال الحسن: لم يشكوا في قدرة الله وإِنما سألوه سؤال مستخبر هل ينزّل أم لا؟ فإِن كان ينزّل فاسأله لنا فسؤالهم كان للاطمئنان والتثبت {قَالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ} أي اتقوا الله في أمثال هذه الأسئلة إِن كنتم مصدقين بكمال قدرته تعالى.

{قَالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا} أي قال الحواريون نريد بسؤالنا المائدة أن نأكل منها تبركاً وتسكن نفوسنا بزيادة اليقين {وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا} أي ونعلم علماً يقيناً لا يحوم حوله شائبة من الشك بصدقك في دعوى النبوة {وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ} أي نشهد بها عند من لم يحضرها من الناس.

{قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ} أجابهم عيسى إِلى سؤال المائدة لإِلزامهم بالحجة الدامغة وروي أنه لما أراد الدعاء لبس جبة شعر ورداء وقام يصلي ويدعو ربه ويبكي، قال أبو السعود: نادى عيسى ربه مرتين: مرة بوصف الألوهية الجامعة لجميع الكمالات، ومرة بوصف الربوبية المنبئة عن التربية إِظهاراً لغاية التضرع { تَكُونُ لَنَا عِيدًا لأَوَّلِنَا وَءاخِرِنَا} أي يكون يوم فرح وسرور لنا ولمن يأتي بعدنا {وَءايَةً مِنْكَ وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيرُ الرَّازِقِينَ} أي ودلالة وحجة شاهدة على صدق رسولك وارزقنا يا ألله فإِنك خير من يعطي ويرزق الغني الحميد {قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ} أي أجاب الله دعاءه فقال إِني سأنزل عليكم هذه المائدة من السماء {فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ} أي من كفر بعد تلك الآية الباهرة فسوف أعذبه عذاباً شديداً لا أُعذّب مثل ذلك التعذيب أحداً من البشر وفي الحديث (أُنزلت المائدة من السماء خبزاً ولحماً وأُمروا ألا يدّخروا لغدٍ ولا يخونوا فخافوا وادخروا ورفعوا لغدٍ فمسخوا قردة وخنازير) قال في التسهيل: جرت عادة الله عز وجل بعقاب من كفر بعد أن يقترح آية ثم يعطاها، ولما كفر بعض هؤلاء مسخهم الله خنازير.



عيسى عليه السلام ينفي عن نفسه مزاعم النصارى



{ وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ ءأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلاّمُ الْغُيُوبِ(116)مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنْ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ(117)إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ(118)قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ(119)لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ(120)}



{وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ ءَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ} هذا عطف قصة على قصة {إِذ قال الحواريون} {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى} قال ابن عباس: هذا القول يكون من الله يوم القيامة على رؤوس الخلائق ليعلم الكفار أنهم كانوا على باطل والمعنى: اذكر للناس يوم يخاطب الله عبده ورسوله عيسى بن مريم في الآخرة توبيخاً للكفرة وتبكيتاً لهم قائلاً: يا عيسى أأنت دعوت الناس إِلى عبادتك والاعتقاد بألوهيتك وألوهية أمك؟! قال القرطبي: إِنما سأله عن ذلك توبيخاً لمن ادّعى ذلك عليه ليكون إِنكاره بعد السؤال أبلغ في التكذيب وأشد في التوبيخ والتقريع.

{قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ} أي أنزهك عما لا يليق بك يا رب فما ينبغي لي أن أقول وأنت العالم بأني لم أقله، وهذا اعتذارٌ وبراءة من ذلك القول ومبالغةٌ في الأدب وإِظهار الذلّة والمسكنة في حضرة ذي الجلال {إِنْ كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلامُ الْغُيُوبِ} أي تعلم حقيقة ذاتي وما انطوت عليه ولا أعلم حقيقة ذاتك وما احتوت عليه من صفات الكمال إِنك أنت العالم بالخفايا والنوايا وعلمك محيط بما كان وما يكون {مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ} أي ما أمرتهم إِلا بما أمرتني به، قال الرازي: وضع القول موضع الأمر نزولاً على موجب الأدب لئلا يجعل نفسه وربه آمرين معاً {أَنْ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ} أي قلت لهم اعبدوا الله خالقي وخالقكم فأنا عبد مثلكم {وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ} أي كنت شاهداً على أعمالهم حين كنتُ بين أظهرهم {فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ} أي فلما قبضتني إِليك بالرفع إِلى السماء كنت يا ألله الحافظ لأعمالهم، والشاهد على أفعالهم {وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} أي وأنت المطّلع على كل شيء لا يخفى عليك شيء .

{إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ} أي إِن تعذبهم فأنت مالكهم تتصرف فيهم كيف شئت لا اعتراض عليك {وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} أي وإِن تغفر لمن تاب منهم فإِنك أنت الغالب على أمره الحكيم في صنعه {قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ} أي يوم القيامة ينفع الصادقين في الدنيا صدقُهم لأنه يوم الجزاء { لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا} أي لهم جنات تجري من تحت غرفها وأشجارها الأنهار ماكثين فيها لا يخرجون منها أبداً {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} أي نالوا رضوان الله لصدقهم ورضوا عن الله فيما أثابهم وجازاهم ذلك هو الظفر والفوز الكبير بجنات النعيم {لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} أي الجميع ملكه وتحت قهره ومشيئته وهو القادر على كل شيء.

yacine414
2011-03-26, 11:07
سورة الأنعام



انفراد الله بالألوهية والوحدانية

موقف الكفار من دعوات الأنبياء

مطالب الكفار والردّ عليها

الدعوة إلى العظة والاعتبار بآثار من خلا من الأمم

أدلة للاحتجاج على المشركين المنكرين

إيجاب التوحيد والبراءة من الشرك

تبرؤ المشركين من الشرك يوم القيامة

حال المشركين حين استماع القرآن

أمنية لن تتحقق

الدنيا والآخرة في الميزان

حزن النبي صلى الله عليه وسلم على تكذيب قومه وإعراضهم

صورة أخرى من الإعراض والعناد

إحاطة علم الله بجميع أحوال مخلوقاته

تصوير حال المشركين في الشدائد

عجز المخلوقات ومهمة الرسل المبشرين

إشارات تؤكد بشرية النبي صلى الله عليه وسلم

دعوة إلى عدم القنوت من رحمة الله

تبرُّؤ النبي صلى الله عليه وسلم من المشركين وما يعبدون

علم الله التام بالكليات والجزئيات

إنجاء الله المضطرين من ظلمات البر والبحر

ألوان مختلفة من العذاب

النهي عن مجالسة المستهزئين بالقرآن وأهل الكبائر

الثبات على الحق والهداية، والبعد عن الضلال والشرك

استعمال الحجج العقلية في إبطال مزاعم المشركين

أثر الإيمان الخالص في جلب الأمن والاستقرار

مهام الأنبياء وتفضيلهم على العالمين

علاقة القرآن بالكتب السماوية السابقة

عاقبة المفترين والمشركين

الأدلة الدامغة التي تثبت وجود الله وعلمه وإرادته

نفي المزاعم التي ينسبها المشركون إلى الله سبحانه وتعالى

الأمر بتبليغ الرسالة والإعراض عن المشركين

النهي عن مبادلة الكفار السباب والشتم والقبائح

عداوة الشياطين للأنبياء ومقاومتهم لدعوة الله وهدايته

تأييد الله نبيَّه صلى الله عليه وسلم بالقرآن الكريم

الدعوة إلى عدم الالتفات إلى ضلالات المشركين

موازنة بين أهل الإيمان وأهل الكفر

عاقبة المعرضين عن الحق

الكلمة الحاسمة في الردِّ على تَعنُّت المشركين

تقريع الظالمين وتهديد كافري الجن والأنس

غنى الله المطلق عن خلقه وإنذاره الكافرين بالهلاك في الدنيا والآخرة

شرائع العرب في جاهليتهم

إقامة الدلائل على إثبات الألوهية والربوبية لله تعالى

المحرَّمات من الأطعمة على المسلمين واليهود

دحض شبهة الجبرية وإقامة الحجة على المشركين

بيان أصول المحرَّمات قولاً وفعلاً

الغاية من إنزال التوراة ومكانة القرآن

وعيد الكفار وتهديدهم

التحذير من التفرق في الدين

الجزاء على العمل

تبيين الدين القيِّم والصراط المستقيم

تفاوت درجات الناس مع كونهم مستخلفين في الأرض



بَين يَدَيْ السُّورَة



سورة الأنعام إِحدى السور المكية الطويلة التي يدور محورها حول "العقيدة وأصول الإِيمان" وهي تختلف في أهدافها ومقاصدها عن السور المدنية التي سبق الحديث عنها كالبقرة، آل عمران، والنساء، والمائدة، فهي لم تعرض لشيءٍ من الأحكام التنظيمية لجماعة المسلمين، كالصوم والحج والعقوبات وأحكام الأسرة، ولم تذكر أمور القتال ومحاربة الخارجين على دعوة الإِسلام، كما لم تتحدث عن أهل الكتاب من اليهود والنصارى ولا على المنافقين، وإِنما تناولت القضايا الكبرى الأساسية لأصول العقيدة والإِيمان، وهذه القضايا يمكن تلخيصها فيما يلي:

1- قضية الألوهية 2- قضية الوحي والرسالة 3- قضية البعث والجزاء.



* نجد الحديث في هذه السورة مستفيضاً يدور حول هذه الأصول الأساسية للدعوة الإِسلامية، ونجد سلاحها في ذلك الحجة الدامغة، والدلائل الباهرة، والبرهان القاطع في طريق الإِلزام والإِقناع لأن السورة نزلت في مكة على قوم مشركين. ومما يلفت النظر في السورة الكريمة أنها عرضت لأسلوبين بارزين لا نكاد نجدهما بهذه الكثرة في غيرها من السور هما: 1- أسلوب التقرير 2- أسلوب التلقين.



* أما الأول: "أسلوب التقرير" فإِن القرآن يعرض الأدلة المتعلقة بتوحيد الله والدلائل المنصوبة على وجوده وقدرته، وسلطانه وقهره، في صورة الشأن المسلَّم، ويضع لذلك ضمير الغائب عن الحسّ الحاضر في القلب الذي لا يماري فيه قلب سليم ولا عقل راشد في أنه تعالى المبدع للكائنات صاحب الفضل والإِنعام فيأتي بعبارة "هو" الدالة على الخالق المدبر الحكيم، استمع قوله تعالى {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ } .. {وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الأَرْضِ } .. {وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ} .. {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ } .. {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ....} إلخ.



* أما الثاني: "أسلوب التلقين" فإِنه يظهر جليا في تعليم الرسول صلى الله عليه وسلم تلقين الحجة ليقذف بها في وجه الخصم بحيث تأخذ عليه سمعه، وتملك عليه قلبه فلا يستطيع التخلص أو التفلت منها، ويأتي هذا الأسلوب بطريق السؤال والجواب يسألهم ثم يجيب استمع إِلى الآيات الكريمة {قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} .. {قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلْ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ }.. {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ} .. {وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ آية مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنَزِّلَ آية وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} وهكذا تعرض السورة الكريمة لمناقشة المشركين وإِفحامهم بالحجج الساطعة والبراهين القاطعة التي تقصم ظهر الباطل. ومن هنا كانت سورة الأنعام بين السور المكية ذات شأن في تركيز الدعوة الإِسلامية، تقرر حقائقها، وتثبّت دعائمها، وتفنّد شبه المعارضين لها بطريق التنويع العجيب في المناظرة والمجادلة، فهي تذكر توحيد الله جلَّ وعلا في الخلق والإِيجاد، وفي التشريع والعبادة، وتذكر موقف المكذبين للرسل وتقص عليهم ما حاق بأمثالهم السابقين، وتذكر شبههم في الوحي والرسالة، وتذكر يوم البعث والجزاء، وتبسط كل هذا بالتنبيه إِلى الدلائل في الأنفس والآفاق، وفي الطبائع البشرية وقت الشدة والرخاء .. وتذكر أبا الأنبياء إِبراهيم وجملة من أبنائه الرسل وترشد الرسول صلى الله عليه وسلم إِلى اتباع هداهم وسلوك طريقهم في احتمال المشاق وفي الصبر عليها، وتعرض لتصوير حال المكذبين يوم الحشر، وتفيض في هذا بألوان مختلفة ثم تعرض لكثير من تصرفات الجاهلية التي دفعهم إِليها شركهم فيما يختص بالتحليل والتحريم وتقضي عليه بالتفنيد والإِبطال، ثم تختم السورة بعد ذلك - في ربع كامل - بالوصايا العشر التي نزل في كل الكتب السابقة، ودعا إِليها جميع الأنبياء السابقين {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ..} الآية وتنتهي بآية فذة تكشف للإِنسان عن مركزه عند ربه في هذه الحياة. وهو أنه خليفةٌ في الأرض، وأن الله سبحانه جعل عمارة الكون تحت يد الإِنسان تتعاقب عليها أجياله، ويقوم اللاحق منها مقام السابق، وأن الله سبحانه قد فاوت في المواهب بين أفراد الإِنسان لغاية سامية وحكمة عظيمة وهي "الابتلاء والاختبار" في القيام بتبعات هذه الحياة، وذلك شأن يرجع إِليه كمال المقصود من هذا الخلق وذلك النظام {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا ءاتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ}.



التسميَة:

سميت بـ "سورة الأنعام" لورود ذكر الأنعام فيها {وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالأَنْعَامِ نَصِيبًا ..} ولأن أكثر أحكامها الموضحة لجهالات المشركين تقرباً بها إلى أصنامهم مذكورة فيها، ومن خصائصها ما روي عن ابن عباس أنه قال: نزلت سورة الأنعام بمكة ليلاً جملةً واحدة، حولها سبعون ألف ملك يجأرون بالتسبيح.





انفراد الله بالألوهية والوحدانية



{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ(1)هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ(2)وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ(3)}



{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ} بدأ تعالى هذه السورة بالحمد لنفسه تعليماً لعباده أن يحمدوه بهذه الصيغة الجامعة لصنوف التعظيم والتبجيل والكمال وإعلاماً بأنه المستحق لجميع المحامد فلا نِدَّ له ولا شريك، ولا نظير ولا مثيل ومعنى الآية: احمدوا الله ربكم المتفضل عليكم بصنوف الإِنعام والإِكرام الذي أوجد وأنشأ وابتدع خلق السماوات والأرض بما فيهما من أنواع البدائع وأصناف الروائع، وبما اشتملا عليه من عجائب الصنعة وبدائع الحكمة، بما يدهش العقول والأفكار تبصرة وذكرى لأولي الأبصار {وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ} أي وأنشأ الظلمات والأنوار وخلق الليل والنهار يتعاقبان في الوجود لفائدة العوالم بما لا يدخل تحت حصر أو فكر، وجمع الظلمات لأن شعب الضلال متعددة، ومسالكه متنوعة، وأفرد النور لأن مصدره واحد هو الرحمن منوّر الأكوان قال في التسهيل: وفي الآية ردٌّ على المجوس في عبادتهم للنار وغيرها من الأنوار، وقولهم إِن الخير من النور والشر من الظلمة، فإِن المخلوق لا يكون إِلهاً ولا فاعلاً لشيء من الحوادث {ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُون} أي ثم بعد تلك الدلائل الباهرة والبراهين القاطعة على وجود الله ووحدانيته يشرك الكافرون بربهم فيساوون به أصناماً نحتوها بأيديهم، وأوهاماً ولّدوها بخيالهم، ففي ذلك تعجيب من فعلهم وتوبيخ لهم قال ابن عطية: الآية دالة على قبح فعل الكافرين لأن المعنى أن خلقه السموات والأرض وغيرها قد تقرر، وءاياته قد سطعت، وإِنعامه بذلك قد تبين، ثم بعد هذا كله قد عدلوا بربهم فهذا كما تقول: يا فلان أعطيتُك وأكرمتُك وأحسنتُ إِليك ثم تشتمني؟ أي بعد وضوح هذا كله {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ} أي خلق أباكم آدم من طين {ثُمَّ قَضَى أَجَلاً} أي حكم وقدَّر لكم أجلاً من الزمن تموتون عند انتهائه {وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ} أي وأجلٌ مسمّى عنده لبعثكم جميعاً، فالأجل الأول الموتُ والثاني البعثُ والنشور {ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ} أي ثم أنتم أيها الكفار تشكّون في البعث وتنكرونه بعد ظهور تلك الآيات العظيمة {وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الأَرْضِ} أي هو الله المعظّم المعبود في السماوات والأرض قال ابن كثير: أي يعبده ويوحده ويقر له بالألوهية من في السماوات والأرض ويدعونه رغباً ورهباً ويسمونه الله {يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ} أي يعلم سركم وعَلَنكم {وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ} أي من خير أو شر وسيجازيكم عليه.



موقف الكفار من دعوات الأنبياء



{وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ ءاية مِنْ ءايات رَبِّهِمْ إِلا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ(4)فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُون(5)أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَارًا وَجَعَلْنَا الأَنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا ءاخَرِينَ(6)}



ثم أخبر تعالى عن عنادهم وإِعراضهم فقال {وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ ءاية مِنْ ءايات رَبِّهِمْ} أي ما يظهر لهم دليل من الأدلة أو معجزة من المعجزات أو ءاية من ءايات القرآن {إِلا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ} أي إلاّ تركوا النظر فيها ولم يلتفتوا إليها قال القرطبي: والمراد تركهم النظر في الآيات التي يجب أن يستدلوا بها على توحيد الله عز وجل، والمعجزات التي أقامها لنبيه صلى الله عليه وسلم التي يستدل بها على صدقه في جميع ما أتى به عن ربه {فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءهُمْ} أي كذبوا بالقرآن الذي جاءهم من عند الله{فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُون} أي سوف يحل بهم العقاب إن عاجلاً أم آجلاً ويظهر لهم خبر ما كانوا به يستهزئون، وهذا وعيدٌ بالعذاب والعقاب على استهزائهم، ثم حضهم تعالى على الاعتبار بمن سبقهم من الأمم فقال {أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ} أي ألا يعتبرون بمن أهلكنا من الأمم من قبلهم لتكذيبهم الأنبياء ألا يعرفوا ذلك؟ {مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ} أي منحناهم من أسباب السعة والعيش والتمكين في الأرض ما لم نعطكم يا أهل مكة {وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَارًا} أي أنزلنا المطر غزيراً متتابعاً يدرُ عليهم درّاً {وَجَعَلْنَا الأَنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ} أي من تحت أشجارهم ومنازلهم حتى عاشوا في الخِصب والريف بين الأنهار والثمار{فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ} أي فكفروا وعصوا فأهلكناهم بسبب ذنوبهم، وهذا تهديد للكفار أن يصيبهم مثل ما أصاب هؤلاء على حال قوتهم وتمكينهم في الأرض {وَأَنشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ} أي أحدثنا من بعد إِهلاك المكذبين قوماً آخرين غيرهم قال أبو حيان: وفيه تعريض للمخاطبين بإِهلاكهم إِذا عصوا كما أهلك من قبلهم.



مطالب الكفار والردّ عليها



{وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلا سِحْرٌ مُبِينٌ(7)وَقَالُوا لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الأَمْرُ ثُمَّ لا يُنظَرُونَ(8)وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ(9)}



{وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ} أي لو نزّلنا عليك يا محمد كتاباً مكتوباً على ورقٍ كما اقترحوا {فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ} أي فعاينوا ذلك ومسّوه باليد ليرتفع عنهم كل إِشكال ويزول كل ارتياب {لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلا سِحْرٌ مُبِينٌ} أي لقال الكافرون عند رؤية تلك الآية الباهرة تعنتاً وعناداً ما هذا إِلا سحرٌ واضح، والغرضُ أنهم لا يؤمنون ولو جاءتهم أوضح الآيات وأظهر الدلائل {وَقَالُوا لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ} أي هلاّ أنزل على محمد ملك يشهد بنبوته وصدقه و {لَوْلا} بمعنى هلاّ للتحضيض قال أبو السعود: أي هلاّ أُنزل عليه ملك بحيث نراه ويكلمنا أنه نبيّ وهذا من أباطيلهم المحقّقة وخرافاتهم الملفّقة التي يتعللون بها كلما ضاقت عليهم الحِيَل وعييت بهم العلل {وَلَوْ أَنزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الأَمْرُ} أي لو أزلنا الملك كما اقترحوا وعاينوه ثم كفروا لحقَّ إِهلاكهم كما جرت عادة الله بأن من طلب ءاية ثم لم يؤمن أهلكه الله حالاً { ثُمَّ لا يُنظَرُون} أي ثم لا يمهلون ولا يؤُخرون، والآية كالتعليل لعدم إِجابة طلبهم، فإِنهم - في ذلك الإِقتراح - كالباحث عن حتفه بظِلْفه {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلاً} أي لو جعلنا الرسول ملكاً لكان في صورة رجل لأنهم لا طاقة لهم على رؤية الملك في صورته {وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ} أي لخلطنا عليهم ما يخلطون عن أنفسهم وعلى ضعفائهم، فإنهم لو رأوا الملك في صورة إِنسان قالوا هذا إِنسانٌ وليسب بملك قال أبو عباس: لو أتاهم ملكٌ ما أتاهم إلا في صورة رجل لأنهم لا يستطيعون النظر إلى الملائكة من النور.



الدعوة إلى العظة والاعتبار بآثار من خلا من الأمم



{وَلَقَدْ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون(10)قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ ثُمَّ انظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ(11)}.



ثم قال تعالى تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم {وَلَقَدْ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ} أي والله لقد استهزأ الكافرون من كل الأمم بأنبيائهم الذين بعثوا إِليهم {فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُون} أي أحاط ونزل بهؤلاء المستهزئين بالرسل عاقبة استهزائهم، وفي هذا الإِخبار تهديد للكفار {قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ ثُمَّ انظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} أي قل يا محمد لهؤلاء المستهزئين الساخرين: سافروا في الأرض فانظروا وتأملوا ماذا حلّ بالكفرة قبلكم من العقاب وأليم العذاب لتعتبروا بآثار من خلا من الأمم كيف أهلكهم الله وأصبحوا عبرةً للمعتبرين.



أدلة للاحتجاج على المشركين المنكرين



{ قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ(12)وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ(13)قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلا تَكُونَنَّ مِنْ الْمُشْرِكِينَ(14)قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ(15)مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ(16)}



{قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} أي قل يا محمد لمن الكائنات جميعاً خلقاً وملكاً وتصرفاً؟ والسؤال لإِقامة الحجة على الكفار فهو سؤال تبكيت {قُلْ لِلَّهِ} أي قل لهم تقريراً وتنبيهاً هي لله لأن الكفار يوافقون على ذلك بالضرورة لأنه خالق الكل إِما باعترافهم أو بقيام الحجة عليهم {كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} أي ألزم نفسه الرحمة تفضلاً وإِحساناً والغرضُ التلطف في دعائهم إِلى الإِيمان وإِنابتهم إِلى الرحمن {لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ} أي ليحشرنكم من قبوركم مبعوثين إِلى يوم القيامة الذي لا شك فيه ليجازيكم بأعمالكم {الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} أي أضاعوها بكفرهم وأعمالهم السيئة في الدنيا فهم لا يؤمنون ولهذا لايقام لهم وزن في الآخرة وليس لهم نصيب فيها سوى الجحيم والعذاب الأليم {وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} أي لله عز وجل ما حلّ واستقر في الليل والنهار الجميع عباده وخلقه وتحت قهره وتصرفه، والمراد عموم ملكه تعالى لكل شيء {وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} أي السميع لأقوال العباد العليم بأحوالهم {قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا} الاستفهام للتوبيخ أي قل يا محمد لهؤلاء المشركين أغير الله أتخذ معبوداً {فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} أي خالقهما ومبدعهما على غير مثال سابق {وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ} أي هو جل وعلا يرْزق ولا يُرْزَق قال ابن كثير: أي هو الرازق لخلقه من غير احتياج إليهم {قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ} أي قل لهم يا محمد إِن ربي أمرني أن أكون أول من أسلم لله من هذه الأمة {وَلا تَكُونَنَّ مِنْ الْمُشْرِكِينَ} أي وقيل لي: لا تكوننَّ من المشركين قال الزمخشري ومعناه: أُمرتُ بالإِسلام ونُهيت عن الشرك {قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} أي قل لهم أيضاً إِنني أخاف إِن عبدتُ غير ربي عذاب يوم عظيم هو يوم القيامة {مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ} أي من يصرف عنه العذاب فقد رحمه الله{وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ}أي النجاة الظاهرة.



إيجاب التوحيد والبراءة من الشرك



{وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ(17)وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ(18)قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْءانُ لأُنذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى قُلْ لا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ(19)}..



{وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلا هُوَ} أي إِن تنزل بك يا محمد شدةٌ من فقرٍ أو مرضٍ فلا رافع ولا صارف له إِلا هو ولا يملك كشفه سواه {وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} أي وإِن يصبك بخيرٍ من صحةٍ ونعمة لا رادّ له لأنه وحده القادر على إِيصال الخير والضر، قال في التسهيل: والآية برهان على الوحدانية لانفراد الله تعالى بالضر والخير وكذلك ما بعد هذا من الأوصاف براهين ورد على المشركين {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ} قال ابن كثير: أي هو الذي خضعت له الرقاب وذلّت له الجبابرة وعنت له الوجوه وقهر كل شيء وهو الحكيم في جميع أفعاله الخبير بمواضع الأشياء.

{قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً} أي قل لهم يا محمد أي شيء أعظم شهادة حتى يشهد لي بأني صادقٌ في دعوى النبوة؟ {قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ} أي أجبهم أنت وقل لهم الله يشهد لي بالرسالة والنبوة وكفى بشهادة الله لي شهادة قال ابن عباس: قال الله لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم قل لهم أي شيء أكبر شهادة فإِن أجابوك وإِلاّ فقل لهم الله شهيد بيني وبينكم {وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْءانُ لأُنذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} أي وأوحي إِليَّ هذا القرآن لأنذركم به يا أهل مكة وأنذر كل من بلغه القرآن من العرب والعجم إِلى يوم القيامة قال ابن جزيّ: والمقصودُ بالآية الاستشهاد بالله - الذي هو أكبر شهادة - على صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم وشهادة الله بهذا هي علمه بصحة نبوة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وإِظهار معجزته الدالة على صدقه{أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ ءالِهَةً أُخْرَى} استفهام توبيخ أي أئنكم أيها المشركون لتقرون بوجود آلهة مع الله؟ فكيف تشهدون أن مع الله آلهة أخرى بعد وضوح الأدلة وقيام الحجة على وحدانية الله؟ {قُلْ لا أَشْهَدُ} أي قل لهم لا أشهد بذلك {قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ} أي قل يا محمد إِنما أشهد بأن الله واحد أحدٌ، فرد صمد {وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ} أي وأنا بريء من هذه الأصنام.



تبرؤ المشركين من الشرك يوم القيامة



{ الَّذِينَ ءاتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ(20)وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآياتهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ(21)وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ(22)ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ(23)انظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ(24)}.



ثم ذكر تعالى أن الكفار بين جاهل ومعاند فقال {الَّذِينَ ءاتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءهُمْ} يعني اليهود والنصارى الذين عرفوا وعاندوا يعرفون النبي صلى الله عليه وسلم بحليته ونعته على ما هو مذكور في التوراة والإِنجيل كما يعرف الواحد منهم ولده لا يشك في ذلك أصلاً قال الزمخشري: وهذا استشهادٌ لأهل مكة بمعرفة أهل الكتاب وبصحة نبوته {الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} أي أولئك هم الخاسرون لأنهم لم يؤمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم بعد وضوح الآيات {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآياتهِ} الاستفهام إِنكاري ومعناه النفي أي لا أحد أظلم ممن اختلق على الله الكذب أو كذّب بالقرآن والمعجزات الباهرة وسمّاها سحراً قال أبو السعود: وكلمة {أو} للإِيذان بأن كلاً من الافتراء والتكذيب وحده بالغٌ غاية الإِفراط في الظلم، فكيف وهم قد جمعوا بينهما فأثبتوا ما نفاه الله ونفوا ما أثبته! قاتلهم الله أنّى يؤفكون {إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} أي لا يفلح المفتري ولا المكذّب وفيه إِشارة إِلى أن مدّعي الرسالة لو كان كاذباً لكان مفترياً على الله فلا يكون محلاً لظهور المعجزات {وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا} أي اذكر يوم نحشرهم جميعاً للحساب ونقول لهم على رؤوس الأشهاد {أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ} أي أين آلهتكم التي جعلتموها شركاء لله؟ قال البيضاوي: والمراد من الاستفهام التوبيخ و {تَزعُمون} أي تزعمونهم آلهة وشركاء مع الله فحذف المفعولان ولعله يحال بينهم وبين آلهتهم حينئذٍ ليفقدوها في الساعة التي علقوا بها الرجاء فيها قال ابن عباس: كل زعم في القرآن فهو كذب {ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ} أي لم يكن جوابهم حين اختبروا بهذا السؤال ورأوا الحقائق {إِلا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} أي أقسموا كاذبين بقولهم والله يا ربنا ما كنا مشركين قال القرطبي: تبرؤوا من الشرك وانتفوا منه لما رأوا من تجاوزه ومغفرته للمؤمنين قال ابن عباس: يغفر الله لأهل الإِخلاص ذنوبهم فإِذا رأى المشركون ذلك قالوا تعالوا نقول: إِنّا كنا أهل ذنوب ولم نكن مشركين، فيختم على أفواههم وتنطق أيديهم وتشهد أرجلهم بما كانوا يكسبون {انظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ} أي انظر يا محمد كيف كذبوا على أنفسهم بنفي الإِشراك عنها أمام علاّم الغيوب، وهذا للتعجيب من كذبهم الصريح {وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} أي تلاشى وبطل ما كانوا يظنونه من شفاعة آلهتهم وغاب عنهم ما كانوا يفترونه على الله من الشركاء.



حال المشركين حين استماع القرآن







{ وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي ءاذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ ءاية لا يُؤْمِنُوا بِهَا حَتَّى إِذَا جَاءُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ(25)وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلا أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ(26)}



ثم وصف تعالى حال المشركين حين استماع القرآن فقال {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ} أي ومن هؤلاء المشركين من يصغي إِليك يا محمد حين تتلو القرآن {وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ} أي جعلنا على قلوبهم أغطية لئلا يفقهوا القرآن {وَفِي ءاذَانِهِمْ وَقْرًا} أي ثقلاً وصمماً يمنع من السمع قال ابن جزي: والمعنى أن الله حال بينهم وبين فهم القرآن إِذا استمعوه وعبّر بالأكنَّة والوقر مبالغة {وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ ءاية لا يُؤْمِنُوا بِهَا} أي مهما رأوا من الآيات والحجج البيّنات لا يؤمنوا بها لفرط العناد {حَتَّى إِذَا جَاءُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ} أي بلغوا من التكذيب والمكابرة إِلى أنهم إِذا جاءوك مجادلين يقولون عن القرآن ما هذا إلا خرافات وأباطيل الأولين {وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ} أي هؤلاء المشركون المكذبون ينهون الناس عن القرآن وعن اتباع محمد عليه السلام ويُبعدونهم عنه ولا يدعون أحداً ينتفع {وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلا أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} أي وما يهلكون ولا يعود وباله إِلا عليهم ولا يشعرون.



أمنية لن تتحقق



{وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآيات رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ(27)بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ(28)وَقَالُوا إِنْ هِيَ إِلا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ(29)}



{وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ} أي لو ترى يا محمد هؤلاء المشركين إِذ عرضوا على النار لرأيت أمراً عظيماً تشيب لهوله الرؤوس قال البيضاوي: وجواب {لَوْ} محذوف تقديره لرأيت أمراً شنيعاً وإِنما حذف ليكون أبلغ ما يقدره السامع {فَقَالُوا يَالَيْتَنَا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآيات رَبِّنَا} أي تمنّوا الرجوع إِلى الدنيا ليعلموا عملاً صالحاً ولا يكذبوا بآيات الله {وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} أي إِذا رجعنا إِلى الدنيا نصدّق ونؤمن بالله إيماناً صادقاً فتمنوا العودة ليصلحوا العمل ويتداركوا الزلل قال تعالى ردّاً لذلك التمني {بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ} أي ظهر لهم يوم القيامة ما كانوا يخفون في الدنيا من عيوبهم وقبائحهم فتمنوا ذلك {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} أي لو ردّوا - على سبيل الفرض لأنه لا رجعة إِلى الدنيا بعد الموت - لعادوا إلى الكفر والضلال وإِنهم لكاذبون في وعدهم بالإِيمان {وَقَالُوا إِنْ هِيَ إِلا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ} أي قال أولئك الكفار الفجار ما هي إِلا هذه الحياة الدنيا ولا بعث ولا نشور.



الدنيا والآخرة في الميزان



{وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ قَالَ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ(30)قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ حَتَّى إِذَا جَاءتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُوا يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ أَلا سَاءَ مَا يَزِرُونَ(31)وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ(32)}.



{وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ} أي لو ترى حالهم إِذ حُبسوا للحساب أمام رب الأرباب كما يوقف العبد الجاني بين يدي سيده للعقاب، وجواب {لَوْ} محذوف للتهويل من فظاعة الموقف {قَالَ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ} أي أليس هذا المعاد بحق؟ والهمزة للتقريع على التكذيب {قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا} أي قالوا بلى والله إِنه لحق {قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ} أي ذوقوا العذاب بسب كفرهم في الدنيا وتكذيبهم رسل الله، ثم أخبر تعالى عن هؤلاء الكفار فقال {قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ} أي لقد خسر هؤلاء المكذبون بالبعث {حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً} أي حتى إِذا جاءتهم القيامة فجأةً من غير أن يعرفوا وقتها قال القرطبي: سميت القيامة بالساعة لسرعة الحساب فيها {قَالُوا يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا} أي قالوا يا ندامتنا على ما قصَّرنا وضيّعنا في الدنيا من صالح الأعمال {وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ} أي والحال أنهم يحملون أثقال ذنوبهم على ظهورهم قال البيضاوي: وهذا تمثيلٌ لاستحقاقهم آصار الآثام وقال {عَلَى ظُهُورِهِمْ} لأن العادة حمل الأثقال على الظهور، قال ابن جزي: وهذا كناية عن تحمل الذنوب، وقيل إِنهم يحملونها على ظهورهم حقيقة فقد رُوي أن الكافر يركبه عمله بعد أن يتمثل له في أقبح صورة، وأن المؤمن يركب عمله بعد أن يتمثل في أحسن صورة {أَلا سَاءَ مَا يَزِرُونَ} أي بئس ما يحملونه من الأوزار {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلا لَعِبٌ وَلَهْوٌ} أي باطل وغرور لقصر مدتها وفناء لذتها {وَلَلدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ} أي الآخرة وما فيها من أنواع النعيم خير لعباد الله المتقين من دار الفناء لأنها دائمة لا يزول عنهم نعيمها ولا يذهب عنهم سرورها {أَفَلا تَعْقِلُونَ} أي أفلا تعقلون أن الآخرة خير من الدنيا.



حزن النبي صلى الله عليه وسلم على تكذيب قومه وإعراضهم



{قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيات اللَّهِ يَجْحَدُونَ(33)وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ(34)وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآية وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ(35)}.



ثم سلَّى تعالى نبيه لتكذيب قومه له فقال {قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ} أي قد أحطنا علماً بتكذيبهم لك وحزنك وتأسفك عليهم قال الحسن: كانوا يقولون إِنه ساحر وشاعر وكاهن ومجنون {فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيات اللَّهِ يَجْحَدُونَ} أي فإِنهم في دخيلة نفوسهم لا يكذبونك بل يعتقدون صدقك ولكنهم يجحدون عن عناد فلا تحزن لتكذيبهم قال ابن عباس: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسمى الأمين فعرفوا أنه لا يكذب في شيء ولكنهم كانوا يجحدون فكان أبو جهل يقول: ما نكذبك يا محمد وإِنك عندنا لمصدّق وإِنما نكذّب ما جئتنا به {وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا} أي صبروا على ما نالهم من قومهم من التكذيب والاستهزاء {وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا} أي وأوذوا في الله حتى نصرهم الله، وفي الآية إرشادٌ إِلى الصبر، ووعدٌ له بالنصر {وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ} أي ولقد جاءك بعض أخبار المرسلين الذين كُذّبوا وأُوذوا كيف أنجيناهم ونصرناهم على قومهم فتسلَّ ولا تحزن فإِن الله ناصرك كما نصرهم {وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ} أي إِن كان إِعراضهم عن الإِسلام قد عظم وشقّ عليك يا محمد {فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الأَرْضِ} أي إِن قدرت أن تطلب سرَباً ومسكناً في جوف الأرض {أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآية} أي مصعداً تصعد به إِلى السماء فتأتيهم بآية ممّا اقترحوه فافعل {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ} أي لو أراد الله لهداهم إِلى الإِيمان فلا تكوننَّ يا محمد من الذين يجهلون حكمة الله ومشيئته الأزلية.



صورة أخرى من الإعراض والعناد



{ إنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ(36)وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ ءاية مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنَزِّلَ ءاية وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ(37)}.



{إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ} أي إِنما يستجيب للإِيمان الذين يسمعون سماع قبول وإصغاء، وهنا تمَّ الكلام ثم ابتدأ فقال{وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمْ اللَّهُ} قال ابن كثير: يعني بذلك الكفار لأنهم موتى القلوب فشبههم الله بأموات الأجساد، وهذا من باب التهكم بهم والإِزراء عليهم قال الطبري: يعني الكفار يبعثهم الله مع الموتى، فجعلهم تعالى ذكره في عداد الموتى الذين لا يسمعون صوتاً، ولا يعقلون دعاءً، ولا يفقهون قولاً، إذ كانوا لا يتدبرون حجج الله ولا يعتبرون بآياته ولا يتذكرون فينزجرون عن تكذيب رسل الله {ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ} أي ثم مرجعهم إلى الله فيجازيهم بأعمالهم {وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ ءاية مِنْ رَبِّهِ} أي قال كفار مكة هلاّ نُزّل على محمد معجزة تدل على صدقه كالناقة والعصا والمائدة قال القرطبي وكان هذا منهم تعنتاً بعد ظهور البراهين وإقامة الحجة بالقرآن الذي عجزوا أن يأتوا بسورة من مثله {قُلْ إِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنَزِّلَ ءاية} أي هو تعالى قادرٌ على أن يأتيهم بما اقترحوا {وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} أي لا يعلمون أن إنزالها يستجلب لهم البلاء لأنه لو أنزلها وَفْق ما طلبوا ثم لم يؤمنوا لعاجلهم بالعقوبة كما فعل الأمم السابقة.



إحاطة علم الله بجميع أحوال مخلوقاته



{وَمَا مِنْ دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلا طَآئِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ(38)وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ مَنْ يَشَإِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ(39)}.



{وَمَا مِنْ دآبَّةٍ فِي الأَرْضِ} أي ما من حيوان يمشي على وجه الأرض {وَلا طَآئِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ} أي ولا من طائر يطير في الجو بجناحيه {إِلا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ} أي إلا طوائف مخلوقة مثلكم خلقها الله وقدَّر أحوالها وأرزاقها وآجالها قال البيضاوي: والمقصود من ذلك الدلالة على كمال قدرته وشمول علمه وسعة تدبيره ليكون كالدليل على أنه قادر على أن ينزّل ءاية {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} أي ما تركنا وما أغفلنا في القرآن شيئاً من أمر الدين يحتاج الناس إليه في أمورهم إلا بيّناه وقيل: إن المراد بالكتاب اللوح المحفوظ ويكون المعنى: ما تركنا في اللوح المحفوظ شيئاً لم نكتبه {ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ} أي يجمعون فيقضي بينهم قال الزمخشري: يعني الأمم كلها من الدواب والطير فيعوضها وينصف بعضها من بعض كما روي أنه يأخذ للجماء من القرناء {وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ} أي والذين كذبوا بالقرآن صمٌ لا يسمعون كلام الله سماع قبول بكمٌ لا ينطقون بالحق خابطون في ظلمات الكفر قال ابن كثير: وهذا مثل أي مثلهم في جهلهم وقلة علمهم وعدم فهمهم كمثل أصم وهو الذي لا يسمع، أبكم وهو الذي لا يتكلم، وهو مع هذا في ظلمات لا يبصر، فكيف يهتدى مثل هذا إلى الطريق أو يخرج مما هو فيه! {مَنْ يَشَإِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} أي من يشأ الله إضلاله يضلله ومن يشأ هدايته يرشده إلى الهدى ويوفقه لدين الإِسلام.



تصوير حال المشركين في الشدائد



{ قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ(40)بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ وَتَنسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ(41)وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ(42)فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ(43)فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ(44)فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ(45)}.



{قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ} استفهام تعجيب أي أخبروني إن أتاكم عذاب الله كما أتى من قبلكم أو أتتكم القيامة بغتة من تدعون؟ {أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} أي أتدعون غير الله لكشف الضر عنكم؟ إن كنتم صادقين في أن الأصنام تنفعكم {بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ} أي بل تخصونه تعالى بدعائكم في الشدائد فيكشف الضر الذي تدعونه إلى كشفه إن شاء كشفه {وَتَنسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ} أي تتركون الآلهة فلا تدعونها لاعتقادكم أن الله تعالى هو القادر على كشف الضر وحده دون سواه {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ} هذه تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم أي والله لقد أرسلنا رسلاً إلى أمم كثيرين من قبلك فكذبوهم {فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ} أي بالفقر والبؤس والأسقام والأوجاع {لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ} أي لكي يتضرعوا إِلى الله بالتذلل والإِنابة {فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا}.

لولا للتحضيض أي فهلا تضرعوا حين جاءهم العذاب، وهذا عتاب على ترك الدعاء وإِخبارٌ عنهم أنهم لم يتضرعوا مع قيام ما يدعوهم إلى التضرع {وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ} أي ولكن ظهر منهم النقيض حيث قست قلوبهم فلم تلن للإِيمان {وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} أي زين لهم المعاصي والإِصرار على الضلال {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ} أي لما تركوا ما وُعظوا به {فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ} أي من النعم والخيرات استدراجاً لهم {حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا} أي فرحوا بذلك النعيم وازدادوا بطراً {أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ} أي أخذناهم بعذابنا فجأة فإذا هم يائسون قانطون من كل خير {فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا} أي استؤصلوا وهلكوا عن آخرهم {وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} أي على نصر الرسل وإهلاك الكافرين قال الحسن: مُكر بالقوم وربّ الكعبة، أُعطوا حاجتهم ثم أخذوا وفي الحديث إذا رأيتَ الله يعطي العبد من الدنيا على معاصيه ما يحب فإنما هو استدراج ثم قرأ {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ}.



عجز المخلوقات ومهمة الرسل المبشرين



{قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ انظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيات ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ(46)قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ(47)وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلا مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ فَمَنْ ءامَنَ وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ(48)وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتنَا يَمَسُّهُمُ الْعَذَابُ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ(49)}.



{قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ} أي قل يا محمد لهؤلاء المكذبين المعاندين من أهل مكة أخبروني لو أذهب الله حواسكم فأصمكم وأعماكم {وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُمْ} أي طبع على قلوبكم حتى زال عنها العقل والفهم {مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ} أي هل أحد غير الله يقدر على ردّ ذلك إليكم إِذا سلبه الله منكم؟ {انظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيات ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ} أي انظر كيف نبيّن ونوضح الآيات الدالة على وحدانيتنا ثم هم بعد ذلك يعرضون عنها فلا يعتبرون {قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً} أي قل لهؤلاء المكذبين أخبروني إن أتاكم عذاب الله العاجل فجأة أو عياناً بالليل أو بالنهار {هَلْ يُهْلَكُ إِلا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ} الاستفهام إنكاري بمعنى النفي أي ما يهلك بالعذاب إلا أنتم لأنكم كفرتم وعاندتم {وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلا مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ} أي ما نرسل إلا لتبشير المؤمنين بالثواب، وإِنذار الكافرين بالعقاب، وليس إِرسالهم ليأتوا بما يقترحه الكافرون من الآيات {فَمَنْ ءامَنَ وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} أي فمن آمن بهم وأصلح عمله فلا خوف عليهم في الآخرة ولا هم يحزنون والمراد أنهم لا يخافون ولا يحزنون لأن الآخرة دار الجزاء للمتقين {وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتنَا يَمَسُّهُمُ الْعَذَابُ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} أي وأما المكذبون بآيات الله فيمسهم العذاب الأليم بسبب فسقهم وخروجهم عن طاعة الله قال ابن عباس: يفسقون أي يكفرون.



إشارات تؤكد بشرية النبي صلى الله عليه وسلم



{قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلا مَا يُوحَى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ(50)وَأَنذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ(51)وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ(52)وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ(53)}.



{قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ} أي قل يا محمد لهؤلاء الكفرة الذين يقترحون عليك تنزيل الآيات وخوارق العادات لستُ أدعي أن خزائن الله مفوضةٌ إلىَّ حتى تقترحوا عليَّ تنزيل الآيات ولا أدعي أيضاً أني أعلم الغيب حتى تسألوني عن وقت نزول العذاب {وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ} أي ولست أدعي أني من الملائكة حتى تكلفوني الصعود إلى السماء وعدم المشي في الأسواق وعدم الأكل والشرب قال الصاوي: وهذه الآية نزلت حين قالوا له إن كنت رسولاً فاطلب من ربك أن يوسّع علينا ويغني فقرنا وأخبرنا بمصالحنا ومضارنا فأخبر أن ذلك بيد الله سبحانه لا بيده. والمعنى: إني لا أدعي شيئاً من هذه الأشياء الثلاثة حتى تجعلوا عدم إِجابتي إلى ذلك دليلاً على عدم صحة رسالتي {إِنْ أَتَّبِعُ إِلا مَا يُوحَى إِلَيَّ} أي ما أتّبع فيما أدعوكم إليه إلاّ وحي الله الذي يوحيه إليَّ {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ} أي هل يتساوى الكافر والمؤمن والضال والمهتدي؟ {أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ} تقريعٌ وتوبيخ أي أتسمعون فلا تتفكرون؟ {وَأَنذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ} أي خوِّف يا محمد بهذا القرآن المؤمنين المصدقين بوعد الله ووعيده الذين يتوقعون عذاب الحشر قال أبو حيان: وكأنه قيل: أنذر بالقرآن من يُرجى إيمانُه وأما الكفرة المعرضون فدعهم ورأيهم {لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ} أي ليس لهم غير الله وليٌّ ينصرهم ولا شفيع يشفع لهم {لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} أي أنذرهم لكي يتقوا الكفر والمعاصي {وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} ألا لا تطرد هؤلاء المؤمنين الضعفاء من مجلسك يا محمد الذين يعبدون ربَّهم دوماً في الصباح والمساء يلتمسون بذلك القرب من الله والدنوَّ من رضاه قال الطبري: نزلت الآية في سبب جماعة من ضعفاء المسلمين قال المشركون لرسول الله صلى الله عليه وسلم: لو طردت هؤلاء عنك لغشيناك وحضرنا مجلسك وأراد النبي صلى الله عليه وسلم ذلك طمعاً في إسلامهم {مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ} أي لا تؤاخذ بأعمالهم وذنوبهم كقول نوح قال الصاوي: هذا كالتعاليل لما قبله والمعنى لا تؤاخذ بذنوبهم ولا بما في قلوبهم إن أرادوا بصحبتك غير وجه الله، وهذا على فرض تسليم ما قاله المشركون وإلا فقد شهد الله لهم بالإِخلاص {وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ} وهذا التأكيد لمطابقة الكلام والمعنى لا تؤاخذ أنت بحسابهم ولا هم بحسابك فلم تطردهم؟ وقيل إن المراد بالحساب الرزق، والمعنى ليس رزقهم عليك ولا رزقك عليهم وإنما يرزقك وإياهم الله رب العالمين {فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ} أي لا تطردهم فإنك إن طردتهم تكون من الظالمين، وهذا لبيان الأحكام وحاشاه من وقوع ذلك منه عليه السلام قال القرطبي: وهذا كقوله تعالى {لئِن أَشركْتَ لَيَحْبَطَنَّ عملك} وقد علم الله منه أنه لا يشرك ولا يحبط عمله {وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ} أي ابتلينا الغنيّ بالفقير والشريف بالوضيع {لِيَقُولُوا أَهَؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا} أي ليقول الأشراف والأغنياء أهؤلاء الضعفاء والفقراء منَّ الله عليهم بالهداية والسبق إِلى الإِسلام من دوننا!! قالوا ذلك إِنكاراً واستهزاءً كقولهم {أهذا الذي بعث الله رسولاً} قال تعالى رداً عليهم؟ {أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ} أي الله أعلم بمن يشكر فيهديه ومن يكفر فيخزيه، والاستفهام للتقرير.



دعوة إلى عدم القنوت من رحمة الله



{ وَإِذَا جَآءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بآياتنا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ(54)وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيات وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ(55)}.



{وَإِذَا جَاءكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بآياتنا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ} قال القرطبي: نزلت في الذين نهى الله نبيه عليه الصلاة والسلام عن طردهم فكان إِذا رآهم بدأهم بالسلام وقال (الحمد لله الذي جعل في أمتي من أمرني أن أبدأهم بالسلام) وأُمر صلى الله عليه وسلم بأن يبدأهم بالسلام إِكراماً لهم وتطييباً لقلوبهم {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} أي ألزم نفسه الرحمة تفضلاً منه وإِحساناً {أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهَالَةٍ} أي خطيئة من غير قصد قال مجاهد: أي لا يعلم حلالاً من حرام ومن جهالته ركب الأمر {ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} أي ثم تاب من بعد ذلك الذنب وأصلح عمله فإن الله يغفر له، وهو وعدٌ بالمغفرة والرحمة لمن تاب وأصلح {وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيات} أي كما فصلنا في هذه السورة الدلائل والحجج على ضلالات المشركين كذلك نبيّن ونوضّح لكم أمور الدين {وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ} أي ولتتوضح وتظهر طريق المجرمين فينكشف أمرهم وتستبين سبلُهم.



تبرُّؤ النبي صلى الله عليه وسلم من المشركين وما يعبدون



{ قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قُلْ لا أَتَّبِعُ أَهْوَاءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ(56)قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ مَا عِندِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ(57)قُلْ لَوْ أَنَّ عِندِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ(58)}.



{قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} أي قل يا محمد لهؤلاء المشركين إني نُهيت أن أعبد هذه الأصنام التي زعمتموها آلهة وعبدتموها من دون الله {قُلْ لا أَتَّبِعُ أَهْوَاءكُمْ} أي في عبادة غير الله، وفيه تنبيه على سبب ضلالهم {قَدْ ضَلَلْتُ إِذًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ} أي قد ضللت إِن أتبعتُ أهواءكم ولا أكون في زمرة المهتدين {قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي} أي على بصيرة من شريعة الله التي أوحاها إِليّ {وَكَذَّبْتُمْ بِهِ} أي وكذبَّتم بالحق الذي جاءني من عند الله {مَا عِندِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ} أي ليس عندي ما أبادركم به من العذاب قال الزمخشري: يعني العذاب الذي استعجلوه في قولهم {فأمطر علينا حجارة من السماء} {إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ} أي ما الحكم في أمر العذاب وغيره إلا لله وحده {يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ} أي يخبر الخبر الحق ويبينه البيان الشافي وهو خير الحاكمين بين عباده {قُلْ لَوْ أَنَّ عِندِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ} أي لو أن بيدي أمر العذاب الذي تستعجلونه {لَقُضِيَ الأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ} أي لعجلته لكم لأستريح منكم ولكنه بيد الله قال ابن عباس: لم أهملكم ساعةً ولأهلكتكم {وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ} أي هو تعالى أعلم بهم إِن شاء عاجلهم وإِن شاء أخرّ عقوبتهم، وفيه وعيد وتهديد.



علم الله التام بالكليات والجزئيات



{وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ(59)وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ(60)وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ(61)ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ أَلا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ(62)}



{وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلا هُوَ} أي عند الله خزائن الغيب وهي الأمور المغيّبة الخفيّة لا يعلمها ولا يحيط بها إِلا هو {وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} أي ويعلم ما في البر والبحر من الحيوانات الجميلة وتفصيلاً وفي كلٍ عوالم وعجائب وسعها علمه وقدرته {وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلا يَعْلَمُهَا} مبالغةٌ في إِحاطة علمه بالجزئيات أي لا تسقط ورقة من الشجر إِلا يعلم وقت سقوطها والأرض التي تسقط عليها {وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ} أي ولا حبة صغيرة في باطن الأرض إِلا يعلم مكانها وهل تنبت أو لا وكم تنبتُ ومن يأكلها {وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} أي ولا شيءٍ فيه رطوبة أو جفاف إِلا وهو معلوم عند الله ومسجّل في اللوح المحفوظ قال أبو حيان: وانظر إِلى حسن ترتيب هذه المعلومات: بدأ أولاً بأمرٍ معقول لا ندركه نحن بالحسّ وهو{مَفَاتِحُ الْغَيْبِ} ثم ثانياً بأمرٍ ندرك كثيراً منه بالحسّ وهو {الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} ثم ثالثاً بجزأين لطيفين أحدهما علوي وهو سقوط الورقة من علوّ والثاني سفلي وهو اختفاء حبةٍ في بطن الأرض فدل ذلك على أنه تعالى عالمٌ بالكليّات والجزئيات {وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ} أي ينيمكم بالليل ويعلم ما كسبتم من العمل بالنهار قال القرطبي: وليس ذلك موتاً حقيقةً بل هو قبض الأرواح، قال ابن عباس: يقبض أرواحكم في منامكم، وفي هذا اعتبار واستدلالٌ على البعث الأخروي {ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُسَمًّى} أي ثم يوقظكم في النهار لتبلغوا الأجل المسمّى لانقطاع حياتكم، والضمير عائد على النهار لأن غالب اليقظة فيه وغالب النوم بالليل {ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ} أي ثم مرجعكم إِليه يوم القيامة {ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} أي يخبركم بأعمالكم ويجزيكم عليها إِن خيراً فخيرٌ، وإِن شراً فشرٌّ، ثم ذكر تعالى جلاله عظمته وكبريائه فقال {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ} أي هو الذي قهر كل شيء وخضع لجلاله وعظمته وكبريائه كل شيء {وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً} أي ملائكة تحفظ أعمالكم وهم الكرام الكاتبون قال أبو السعود: وفي ذلك حكمة جميلة ونعمة جليلة لأن المكلّف إِذا علم أن أعماله تُحفظ عليه وتعرض على رؤوس الأشهاد كان ذلك أزجر له عن تعاطي المعاصي والقبائح {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا} أي حتى إِذا انتهى أجل الإِنسان توفته الملائكة الموكلون بقبض الأرواح والمعنى أن حفظ الملائكة للأشخاص ينتهي عند نهاية الأجل فهم مأمورون بحفظ ابن آدم ما دام حياً فإِذا انتهى أجله فقد انتهى حفظهم له {وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ} أي لا يقصّرون في شيءٍ مما أُمروا به من الحفظ والتوفي {ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ} أي ثم يردُّ العباد بعد البعث إِلى الله خالقهم ومالكهم الذي له الحكم والتصرف والذي لا يقضي إِلا بالعدل {أَلا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ} أي له جل وعلا الحكم وحده يوم القيامة وله الفصل والقضاء لا يشغله حساب عن حساب ولا شأن عن شأن، يحاسب الخلائق كلهم في مقدار نصف يوم من أيام الدنيا كما ورد به الحديث وروي أنه يحاسب الناس في مقدار حلب شاة.



إنجاء الله المضطرين من ظلمات البر والبحر



{قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ(63)قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ(64)}.



{قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} أي قل يا محمد لهؤلاء الكفرة من ينقذكم ويخلصكم في أسفاركم من شدائد وأهوال البر والبحر؟ {تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً} أي تدعون ربكم عند معاينة هذه الأهوال مخلصين له الدعاء مظهرين الضراعة، تضرعاً بألسنتكم وخفية في أنفسكم قال ابن عباس المعنى: تدعون ربكم علانيةً وسراً قائلين {لَئِنْ أَنجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ} أي لئن خلّصتنا من هذه الظلمات والشدائد لنكوننَّ من المؤمنين الشاكرين والغرض: إِذا خفتم الهلاك دعوتموه فإِذا نجّاكم كفرتموه قال القرطبي: وبّخهم الله في دعائهم إِيّاه عند الشدائد وهم يدعون معه في حالة الرخاء غيره {قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ} أي الله وحده ينجّيكم من هذه الشدائد ومن كل كربٍ وغمّ {ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ} تقريعٌ وتوبيخ أي ثم أنتم بعد معرفتكم بهذا كله وتحققه تشركون به ولا تؤمنون.



ألوان مختلفة من العذاب



{ قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيات لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ(65)وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ(66)لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ(67)}.



{قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ} أي قل يا محمد لهؤلاء الكفرة إِنه تعالى قادر على إِهلاككم بإِرسال الصواعق من السماء وما تلقيه البراكين من الأحجار والحُمَم وكالرجم بالحجارة والطوفان والصيحة والريح كما فُعل بمن قبلكم {أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ} بالخسف والزلازل والرجفة كما فُعل بقارون وأصحاب مدين {أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ} أي يجعلكم فرقاً متحزبين يقاتل بعضكم بعضاً قال البيضاوي: أي يخلطكم فرقاً متحزبين على أهواء شتّى فينشب القتال بينكم وقال ابن عباس: أي يبث فيكم الأهواء المختلفة فتصيرون فرقاً، والكل متقارب والغرض منه الوعيد {انظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيات لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ} أي انظر كيف نبيّن ونوضّح لهم الآيات بوجوه العِبَر والعظات ليفهموا ويتدبروا عن الله ءاياته وبراهينه وحججه، عن جابر بن عبد الله قال: لما نزلت هذه الآية {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ} قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أعوذ بوجهك {أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ} قال: أعوذ بوجهك {أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ} قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هذه أهون وأيسر {وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ} أي وكذَّب بهذا القرآن قومك يا محمد - وهم قريش - وهو الكتاب المنزّل بالحق {قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ} أي لستُ عليكم بحفيظ ومتسلّط إِنما أنا منذر {لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ} أي لكل خبرٍ من أخبار الله عز وجل وقتٌ يقع فيه من غير خُلْفٍ ولا تأخير {وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} مبالغة في الوعيد والتهديد أي سوف تعلمون ما يحل بكم من العذاب.



النهي عن مجالسة المستهزئين بالقرآن وأهل الكبائر



{ وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي ءاياتنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ(68)وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَلَكِنْ ذِكْرَى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ(69)وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لا يُؤْخَذْ مِنْهَا أُوْلَئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِمَا كَسَبُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ(70)}.



{وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي ءاياتنَا} أي إِذا رأيت هؤلاء الكفار يخوضون في القرآن بالطعن والتكذيب والاستهزاء {فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ} أي لا تجالسهم وقم عنهم حتى يأخذوا في كلامٍ آخر ويدعوا الخوض والاستهزاء بالقرآن قال السدي: كان المشركون إِذا جالسوا المؤمنين وقعوا في النبي صلى الله عليه وسلم والقرآن فسبّوه واستهزؤوا به فأمرهم الله ألاّ يقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره {وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ} أي إِن أنساك الشيطان النهي عن مجالستهم فجالستهم ثم تذكرت {فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} أي لا تجلس بعد تذكر النهي مع الكفرة والفسّاق الذين يهزؤون بالقرآن والدين قال ابن عباس: أي قم إِذا ذكرت النهي ولا تقعد مع المشركين {وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ} أي ليس على المؤمنين شيء من حساب الكفار على استهزائهم وإِضلالهم إِذا تجنبوهم فلم يجلسوا معهم {وَلَكِنْ ذِكْرَى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} أي ولكنْ عليهم أن يذكّروهم ويمنعوهم عمّا هم عليه من القبائح بما أمكن من العظة والتذكير، ويُظهروا لهم الكراهة لعلهم يجتنبون الخوض في القرآن حياءً من المؤمنين إِذا رأوهم قد تركوا مجالستهم قال ابن عطية: ينبغي للمؤمن أن يتمثل حكم هذه الآية مع الملحدين وأهل الجدل والخوض فيه {وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا} أي اترك هؤلاء الفجرة الذين اتخذوا الدين الذي كان ينبغي احترامه وتعظيمه لعباً ولهواً باستهزائهم به {وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا} أي خدعتهم هذه الحياة الفانية حتى زعموا أن لا حياة بعدها أبداً {وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ} أي وذكّر بالقرآن الناس مخافة أن تُسْلم نفسٌ للهلاك وتُرهن بسوء عملها {لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ} أي ليس لها ناصرٌ ينجيها من العذاب ولا شفيع يشفع لها عند الله{وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لا يُؤْخَذْ مِنْهَا} أي وإِن تُعْط تلك النفس كل فدية لا يقبل منها قال قتادة: لو جاءت بملء الأرض ذهباً لم يُقبل منها {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِمَا كَسَبُوا} أي أُسلموا لعذاب الله بسبب أعمالهم القبيحة وعقائدهم الشنيعة {لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ} أي لهؤلاء الضالين شرابٌ من ماء مغليّ يتجرجر في بطونهم وتتقطع به أمعاؤهم، ونارٌ تشتعل بأبدانهم بسبب كفرهم المستمر فلهم مع الشراب الحميم العذاب الأليم والهوان المقيم.



الثبات على الحق والهداية، والبعد عن الضلال والشرك



{قُلْ أَنَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنفَعُنَا وَلا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ(71)وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَاتَّقُوهُ وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ(72) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ(73)}.



{قُلْ أَنَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنفَعُنَا وَلا يَضُرُّنَا} الاستفهام للإِنكار والتوبيخ أي قل لهم يا محمد أنعبد ما لا ينفعنا إِن دعوناه ولا يضرنا إِن تركناه؟ والمراد به الأصنام {وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا} أي نرجع إِلى الضلالة بعد الهدي {بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ} أي بعد أن هدانا الله للإِسلام {كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الأَرْضِ} أي فيكون مثلنا كمثل الذي اختطفته الشياطين وأضلته وسارت به في المفاوز والمهالك فألقته في هوّة سحيقة {حَيْرَانَ} أي متحيراً لا يدري {لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا} أي إِلى الطريق الواضح يقولون أئتنا فلا يقبل منهم ولا يستجيب لهم {قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى} أي قل لهؤلاء الكفار إِنَّ ما نحن عليه من الإِسلام هو الهدى وحده وما عداه ضلال {وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} أي أُمرنا بأن نستسلم لله عز وجل ونخلص له العبادة في جميع أمورنا وأحوالنا، وهذا تمثيلٌ لمن ضلّ عن الهدى وهو يُدْعى إِلى الإِسلام فلا يُجيب قال ابن عباس: هذا مثلٌ ضربه الله للآلهة ومن يدعو إِليها وللدعاة الذين يدعون إِلى الله، كمثل رجلٍ ضلّ عن الطريق تائهاً ضالاً إِذ ناداه منادٍ يا فلان بن فلان هلُمَّ إِلى الطريق وله أصحاب يدعونه يا فلان هلُمَّ إِلى الطريق، فإِن اتبع الداعي الأول انطلق به حتى يلقيه في الهلكة وإِن أجاب من يدعوه إِلى الهدى اهتدى إلى الطريق يقول: مثل من يعبد هؤلاء الآلهة من دون الله فإِنه يرى أنه في شيء حتى يأتيه الموت فيستقبل الهَلَكة والندامة {وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَاتَّقُوهُ} أي وأُمرنا بإِقامة الصلاة وبتقوى الله في جميع الأحوال {وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} أي تجمعون إِليه يوم القيامة فيجازي كل عاملٍ بعمله {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ} أي هو سبحانه الخالق المالك المدبر للسماوات والأرض ومن فيهما خلقهما بالحق ولم يخلقهما باطلاً ولا عبثاً {وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ} أي واتقوه واتقوا عقابه والشدائد يوم يقول كن فيكون قال أبو حيان: وهذا تمثيلٌ لإِخراج الشيء من العدم إِلى الوجود وسرعته لا أنَّ ثَمَّ شيئاً يؤمر {قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ} أي قوله الصدق الواقع لا محالة وله الملك يوم القيامة {يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ} أي يوم ينفخ إِسرافيل في الصور النفخة الثانية وهي نفخة الإِحياء {عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ} أي يعلم ما خفي وما ظهر وما يغيب عن الحواس والأبصار وما تشاهدونه بالليل والنهار {وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ} أي الحكيم في أفعاله الخبير بشؤون عباده.



استعمال الحجج العقلية في إبطال مزاعم المشركين



{ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ ءازَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا ءالِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ(74)وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ(75)فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ(76)فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ(77)فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ(78)إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ(79)}.



{وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ ءازَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً} أي واذكر يا محمد لقومك عبدة الأوثان وقت قول إِبراهيم - الذي يدّعون أنهم على ملّته - لأبيه آزر منكراً عليه أتتخذ أصناماً آلهة تعبدها وتجعلها رباً دون الله الذي خلقك فسوّاك ورزقك؟ {إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} أي فأنت وقومك في ضلال عن الحق مبين واضح لا شك فيه {وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} أي نُري إِبراهيم المُلْك العظيم والسلطان الباهر {وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ} أي وليكون من الراسخين في اليقين أريناه تلك الآيات الباهرة قال مجاهد: فُرجت له السماوات والأرض فرأى ببصره الملكوت الأعلى والملكوت الأسفل {فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا} أي فلما ستر الليلُ بظلمته كل ضياء رأى كوكباً مضيئاً في السماء هو الزهرة أو المشتري {قَالَ هَذَا رَبِّي} أي على زعمكم قاله على سبيل الرد عليهم والتوبيخ لهم واستدراجاً لهم لأجل أن يعرّفهم جهلهم وخطأهم في عبادة غير الله قال الزمخشري: كان أبوه وقومه يعبدون الأصنام والكواكب فأراد أن ينبههم على ضلالتهم ويرشدهم إِلى الحق من طريق النظر والاستدلال، ويعرّفهم أن النظر الصحيح مؤدٍّ إِلى ألا يكون شيء منها إِلهاً وأن وراءها محدثاً أحدثها، ومدبراً دبّر طلوعها وأفولها وانتقالها ومسيرها وقوله {هَذَا رَبِّي} قول من ينصف خصمه مع علمه بأنه مبطلٌ، فيحكي قوله كما هو غير متعصب لمذهبه لأن ذلك أدعى إِلى الحق ثم يكرُّ عليه فيبطله بالحجة {فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ} أي فلما غاب الكوكب قال لا أحب عبادة من كان كذلك، لأن الرب لا يجوز عليه التغيّر والانتقال لأن ذلك من صفات الأجرام {فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي} أي فلما رأى القمر طالعاً منتشر الضوء قال هذا ربي على الأسلوب المتقدم لفتاً لأنظار قومه إِلى فساد ما يعبدونه وتسفيهاً لأحلامهم {فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ} أي فلما غاب القمر قال إِبراهيم لئن لم يثبتني ربي على الهدى لأكوننَّ من القوم الضالين، وفيه تعريضٌ لقومه بانهم على ضلا ل {فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ} أي هذا أكبر من الكوكب والقمر {فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ}أي فلما غابت الشمس قال أنا بريء من إشراككم وأصنامكم قال أبو حيان: لمّا أوضح لهم أن هذا الكوكب الذي رآه لا يصلح أن يكون رباً ارتقب ما هو أنور منه وأضوأ فرأى القمر أول طلوعه، ثم لما غاب ارتقب الشمس إِذ كانت أنور من القمر وأضوأ، وأكبر جرماً وأعمّ نفعاً، فقال ذلك على سبيل الاحتجاج عليهم وبيّن أنها مساوية للنجم في صفة الحدوث وقال ابن كثير: والحق أن إبراهيم عليه السلام كان في هذا المقام مناظراً لقومه مبيناً لهم بطلان ما كانوا عليه من عبادة الأصنام والكواكب السيارة وأشدهن إضاءة الشمس ثم القمر ثم الزهرة فلما انتفت الإِلهية عن هذه الأجرام الثلاثة التي هي أنور ما تقع عليه الأبصار وتحقق ذلك بالدليل القاطع {قال يا قوم إني بريء مما تشركون} {إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ} أي قصدت بعبادتي وتوحيدي {لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ} أي الله الذي ابتدع العالم وخلق السماوات والأرض {حَنِيفاً} أي مائلاً عن الأديان الباطلة إِلى الدين الحق {وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} أي لست ممن يعبد مع الله غيره.



أثر الإيمان الخالص في جلب الأمن والاستقرار



{وَحَآجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَآجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ(80)وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ(81)الَّذِينَ ءامنوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ(82)وَتِلْكَ حُجَّتُنَاءاتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ(83)}.



{وَحَآجَّهُ قَوْمُهُ} أي جادلوه وناظروه في شأن التوحيد قال ابن عباس: جادلوه في آلهتهم وخوّفوه بها فأجابهم منكراً عليهم {قَالَ أَتُحَآجُّونِي فِي اللَّهِ} أي أتجادلوني في وجود الله ووحدانيته {وَقَدْ هَدَان} أي وقد بصّرني وهداني إِلى الحق {وَلا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ} أي لا أخاف هذه الآلهة المزعومة التي تعبدونها من دون الله لأنها لا تضر ولا تنفع، ولا تُبصر ولا تسمع وليست قادرة على شيء مما تزعمون {إِلا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا} أي إِلا إذا أراد ربي أن يصيبني شيءٌ من المكروه فيكون {وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا} أي أحاط علمه بجميع الأشياء {أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ} استفهام للتوبيخ أي أفلا تعتبرون وتتعظون؟ وفي هذا تنبيهٌ لهم على غفلتهم التامة حيث عبدوا ما لا يضر ولا ينفع وأشركوا مع ظهور الدلائل الساطعة على وحدانيته سبحانه {وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ} أي كيف أخاف آلهتكم التي أشركتموها مع الله في العبادة! {وَلا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا} أي وأنتم لا تخافون الله القادر على كل شيء الذي أشركتم به بدون حجة ولا برهان {فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} أي أيّنا أحقُّ بالأمن أنحن وقد عرفنا الله بأدلة وخصصناه بالعبادة أم أنتم وقد أشركتم معه الأصنام وكفرتم بالواحد الديان؟ {الَّذِينَ ءامنوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} أي لم يخلطوا إِيمانهم بشرك {أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} أي لهم الأمن من العذاب وهم على هداية ورشاد، روي أن هذه الآية لما نزلت أشفق منها أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: وأيُّنا لم يظلم نفسه؟ فقال صلى الله عليه وسلم: ليس كما تظنون وإِنما هو كما قال لقمان لأبنه {يا بُنيَّ لا تشرك بالله إِن الشرك لظلمٌ عظيم} {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا ءاَتيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ} الإِشارة إِلى ما تقدم من الحجج الباهرة التي أيّد الله بها خليله عليه السلام أي هذا الذي احتج به إِبراهيم على وحدانية الله من أفول الكواكب والشمس والقمر من أدلتنا التي أرشدناه لها لتكون له الحجة الدامغة على قومه {نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ} أي بالعلم والفهم والنبوّة {إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ} أي حكيم يضع الشيء في محله عليم لا يخفى عليه شيء.

yacine414
2011-03-26, 11:08
مهام الأنبياء وتفضيلهم على العالمين



{وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلاً هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ(84)وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ(85)وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلاً فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ(86)وَمِنْ ءابَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ(87)ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ(88)أُوْلَئِكَ الَّذِينَ ءاتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ(89)أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ(90)}



{وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ} أي وهبنا لإِبراهيم ولداً وولد ولد لتقر عينه ببقاء العقب {كُلاً هَدَيْنَا} أي كلاً منهما أرشدناه إِلى سبيل السعادة وآتيناه النبوة والحكمة، قال ابن كثير: يذكر تعالى أنه وهب لإِبراهيم إِسحاق بعد أن طعن في السنّ وأيس من الولد، وبُشّر بنبوته وبأن له نسلاً وعقباً وهذا أكمل في البشارة وأعظم في النعمة، وكان هذ مجازاةً لإِبراهيم حين اعتزل قومه وهاجر من بلادهم لعبادة الله، فعوّضه الله عن قومه وعشيرته بأولاد صالحين من صلبه لتقرَّ بهم عينه {وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ} أي من قبل إِبراهيم، وذكر تعالى نوحاً لأنه أب البشر الثاني فذكر شرف أبناء إِبراهيم ثم ذكر شرف آبائه {وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ} أي ومن ذرية إِبراهيم هؤلاء الأنبياء الكرام، وبدأ تعالى بذكر داود وسليمان لأنهما جمعا الملك مع النبوة وسليمان بن داود فذكر الأب والاِبن {وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ} قرنهما لاشتراكهما في الإِمتحان والبلاء {وَمُوسَى وَهَارُونَ} قرنهما لاشتركهما في الأخوّة وقدَّم موسى لأنه كليم الله {وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} أي مثل ذلك الجزاء الكريم لإِبراهيم نجزي من كان محسناً في عمله صادقاً في إِيمانه {وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ} قرن بينهم لاشتراكهم في الزهد الشديد والإِعراض عن الدنيا {كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ} أي الكاملين في الصلاح {وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا} اسماعيل هو ابن إِبراهيم، ويونس بن متّى، ولوط بن هاران وهو ابن أخ إِبراهيم {وَكُلاًّ فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِين} أي كلاً من هؤلاء المذكورين في هذه الآية فضلناه بالنبوة على عالمي عصرهم {وَمِنْ ءابَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ} أي وهدينا من آبائهم وذرياتهم وإِخوانهم جماعاتٍ كثيرة {وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} أي اصطفيناهم وهديناهم إِلى الطريق الحق المستقيم الذي لا عوج فيه قال ابن عباس: هؤلاء الأنبياء كلهم مضافون إِلى ذرية إِبراهيم وإِن كان فيهم من لا يلحقه بولادةٍ من قبل أمٍ ولا أب {ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} أي ذلك الهدى إِلى الطريق المستقيم هو هدى الله يهدي به من أراد من خلقه {وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} أي لو أشرك هؤلاء الأنبياء مع فضلهم وعلو قدرهم لبطل عملهم فكيف بغيرهم؟ {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ ءاتَيْنَاهُمْ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ} أي أنعمنا عليهم بإِنزال الكتب السماوية والحكمة الربانية والنبوة والرسالة {فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ} أي فإِن يكفر بآياتنا كفار عصرك يا محمد فقد استحفظناها واسترعيناها رسلنا وأنبياءنا {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ} أي هؤلاء الرسل المتقدم ذكرهم هم الهداة المهديّون فتأس واقتد بسيرتهم العطرة {قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا} أي قل يا محمد لقومك لا أسألكم على تبليغ القرآن شيئاً من الأجر والمال {إِنْ هُوَ إِلا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ} أي ما هذا القرآن إِلا عظةٌ وتذكير لجميع الخلق.



علاقة القرآن بالكتب السماوية السابقة



{وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا ءاباؤكم قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ(91)وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ يُحَافِظُونَ(92)}.



{وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} أي ما عرفوا الله حق معرفته ولا عظّموه حقَّ تعظيمه {إِذْ قَالُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ} أي حين أنكروا الوحي وبعثة الرسل، والقائلون هم اليهود اللعناء تفوهوا بهذه العظيمة الشنْعاء مبالغة في إِنكار نزول القرآن على محمد عليه السلام {قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ} أي قل يا محمد لهؤلاء المعاندين من أنزل التوراة على موسى نوراً يستضاء به وهداية لبني إِسرائيل؟ {تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا} أي تكتبونه في قراطيس مقطعة وورقات مفرقة تبدون منها ما تشاءون وتخفون ما تشاءون قال الطبري: ومما كانوا يكتمونه إِياهم ما فيها من أمر محمد صلى الله عليه وسلم ونبوته {وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا ءاباؤكم} أي عُلّمتم يا معشر اليهود من دين الله وهدايته في هذا القرآن ما لم تعلموا به من قبل لا أنتم ولا ءاباؤكم {قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ} أي قل لهم في الجواب: الله أنزل هذا القرآن ثم اتركهم في باطلهم الذي يخوضون فيه يهزؤون ويلعبون، وهذا وعيدٌ لهم وتهديد على إِجرامهم {وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ} أي وهذا القرآن الذي أُنزل على محمد صلى الله عليه وسلم مبارك كثير النفع والفائدة {مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ} أي يصدّق كتب الله المنزّلة كالتوراة والإِنجيل {وَلِتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا} أي لتنذر به يا محمد أهل مكة ومن حولها وهم سائر أهل الأرض قاله ابن عباس {وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ} أي والذين يصدّقون بالحشر والنشر يؤمنون بهذا الكتاب لما انطوى عليه من ذكر الوعد والوعيد والتبشير والتهديد {وَهُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ يُحَافِظُونَ} أي يؤدون الصلاة على الوجه الأكمل في أوقاتها قال الصاوي: خصّ الصلاة بالذكر لأنها أشرف العبادات.



عاقبة المفترين والمشركين



{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قَالَ سَأُنزِلُ مِثْلَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ بَاسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنتُمْ عَنْ ءاياتهِ تَسْتَكْبِرُونَ(93)وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنكُمْ مَا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ(94)}



{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} استفهام معناه النفي أي لا أحد أظلم ممن كذب على الله فجعل له شركاء وأنداداً {أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ} أي زعم أن الله بعثه نبياً كمسيلمة الكذاب والأسود العنسي مع أن الله لم يرسله {وَمَنْ قَالَ سَأُنزِلُ مِثْلَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ} أي ومن ادعى أنه سينظم كلاماً يماثل ما أنزله الله كقول الفجار {لو نشاء لقلنا مثل هذا} قال أبو حيان: نزلت في النضر بن الحارث ومن معه من المستهزئين لأنه عارض القرآن بكلام سخيف لا يُذكر لسخفه {وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ} أي ولو ترى يا محمد هؤلاء الظلمة وهم في سكرات الموت وشدائده، وجواب {لَوْ} محذوف للتهويل أي لرأيت أمراً عظيماً {وَالْمَلائِكَةُ بَاسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنفُسَكُمُ} أي وملائكة العذاب يضربون وجوههم وأدبارهم لتخرج أرواحهم من أجسادهم قائلين لهم: خلّصوا أنفسكم من العذاب قال الزمخشري: المعنى يقولون هاتوا أرواحكم أخرجوها إِلينا من أجسادكم، وهذه عبارة عن العنف في السياق والإِلحاح الشديد في الإِزهاق من غير تنفيس وإِمهال {الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ} أي تُجزون العذاب الذي يقع به الهوان الشديد مع الخزي الأكيد {بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ} أي بافترائكم على الله ونسبتكم إِليه الشريك والولد {وَكُنتُمْ عَنْ ءاياتهِ تَسْتَكْبِرُونَ} أي تتكبرون عن الإِيمان بآيات الله فلا تتأملون فيها ولا تؤمنون {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} أي جئتمونا للحساب منفردين عن الأهل والمال والولد حفاةً عراة غرلاً كما ورد في الحديث (أيها الناس إِنكم محشورون إِلى الله حفاةً عُراةً غرلاً كما بدأنا أول خلق نعيده ..) {وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ} أي تركتم ما أعطيناكم من الأموال في الدنيا فلم تنفعكم في هذا اليوم العصيب {وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ} أي وما نرى معكم آلهتكم الذين زعمتم أنهم يشفعون لكم والذين اعتقدتم أنهم شركاء لله في استحقاق العبادة {لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ} أي تقطّع وصلكم وتشتّت جمعكم {وَضَلَّ عَنكُمْ مَا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ} أي ضاع وتلاشى ما زعمتوه من الشفعاء والشركاء.



الأدلة الدامغة التي تثبت وجود الله وعلمه وإرادته



{إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذَلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ(95)فَالِقُ الإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ(96)وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الآيات لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ(97)وَهُوَ الَّذِي أَنشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الآيات لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ(98)وَهُوَ الَّذِي أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَرَاكِبًا وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لآيات لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ(99)}.



عاد الكلام إلى الاحتجاج على المشركين بعجائب الصنع ولطائف التدبير فقال سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى} أي يفلق الحبَّ تحت الأرض لخروج النبات منها ويفلق النوى لخروج الشجر منها قال القرطبي: أي يشق النواة الميتة فيُخرج منها ورقاً أخضر وكذلك الحبة {يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنْ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ} أي يخرج النبات الغضَّ الطريّ من الحبّ اليابس، ويخرج الحبَّ اليابس من النبات الحيّ النامي وعن ابن عباس: يخرج المؤمن من الكافر، والكافر من المؤمن، وعلى هذا فالحي والميت استعارة عن المؤمن الكافر {ذَلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ} أي ذلكم الله الخالق المدبر فكيف تُصرفون عن الحق بعد هذا البيان! {فَالِقُ الإِصْبَاحِ} أي شاقُّ الضياء عن الظلام وكاشفه قال الطبري: شقَّ عمود الصبح عن ظلمة الليل وسواده {وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا} أي يسكن الناس فيه عن الحركات ويستريحون {وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا} أي بحساب دقيق يتعلق به مصالح العباد، ويُعرف بهما حساب الأزمان والليل والنهار {ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} أي ذلك التسيير بالحساب المعلوم تقدير الغالب القاهر الذي لا يستعصي عليه شيء العليم بمصالح خلقه وتدبيرهم {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} أي خلق لكم النجوم لتهتدوا بها في أسفاركم في ظلمات الليل لمقاصدهم بها {قَدْ فَصَّلْنَا الآيات لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} أي بيّنا الدلائل على قدرتنا لقوم يتدبرون عظمة الخالق {وَهُوَ الَّذِي أَنشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ} أي خلقكم وأبدعكم من نفسٍ واحدة هي آدم عليه السلام {فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ} قال ابن عباس:المستقرُّ في الأرحام والمستودع في الأصلاب، أي لكم استقرار في أرحام أمهاتكم وأصلاب آبائكم، وقال ابن مسعود: مستقر في الرحم ومستودع في الأرض التي تموت فيها {قَدْ فَصَّلْنَا الآيات لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ} أي بينا الحجج لقوم يفقهون الأسرار والدقائق قال الصاوي: عبّر هنا بـ {يَفْقَهُونَ} إشارة إلى أن أطوار الإِنسان وما احتوى عليه أمرٌ خفيٌّ تتحير في الألباب، بخلاف النجوم فأمرها ظاهر مشاهد، ولذا عبّر فيها بـ {يَعْلَمُونَ} {وَهُوَ الَّذِي أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ} أي أنزل من السحاب المطر فأخرج به كل ما ينبتُ من الحبوب والفواكه والثمار والبقول والحشائش والشجرَ قال القرطبي: أي أخرجنا به ما ينبتُ به كل شيء وينمو عليه ويصلح {فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا} أي أخرجنا من النبات شيئاً غضّاً أخضر {نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَرَاكِبًا} أي نُخرج من الخضر حباً متراكماً بعضُه فوق بعض كسنابل الحنطة والشعير قال ابن عباس: يريد القمح والشعير والذرة والأرز {وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ} أي وأخرجنا من طلع النخل - والطلعُ أول ما يخرج من التمر في أكمامه - عناقيد قريبة سهلة التناول قال ابن عباس: يريد العراجين التي قد تدلّت من الطلع دانيةً ممن يجتنيها {وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ} أي وأخرجنا بالماء بساتين وحدائق من أعناب {وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ} أي وأخرجنا به أيضاً شجر الزيتون وشجر الرمان مشتبهاً في المنظر وغير متشابه في الطعم قال قتادة: مشتبهاً ورقُه مختلفاً ثمرُه، وفي ذلك دليل قاطع على الصانع المختار العليم القدير {انظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ} أي انظروا أيها الناس نظر اعتبار واستبصار إلى خروج هذه الثمار من ابتداء خروجها إلى انتهاء ظهورها ونضجها كيف تنتقل من حال إِلى حال في اللون والرائحة والصغر والكبر، وتأملوا ابتداء الثمر حيث يكون بعضه مراً وبعضه مالحاً لا يُنتفع بشيء منه، ثم إذا انتهى ونضج فإنه يعود حلواً طيباً نافعاً مستساغ المذاق! فسبحان القدير الخلاّق!! {إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لآيات لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} أي إن في خلق هذه الثمار والزروع مع اختلاف الأجناس والأشكال والألوان لدلائل باهرة على قدرة الله ووحدانيته لقوم يصدّقون بوجود الله قال ابن عباس: يصدّقون أن الذي أخرج هذا النبات قادرٌ على أن يحيي الموتى.



نفي المزاعم التي ينسبها المشركون إلى الله سبحانه وتعالى



{وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ(100)بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ(101)ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لا إِلَهَ إِلا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ(102)لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ(103)}.



{وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ} أي وجعلوا الجنَّ شركاء لله حيث أطاعوهم في عبادة الأوثان {وَخَلَقَهُمْ} أي وقد علموا أنه تعالى هو الذي خلقهم وانفرد بإِيجادهم فكيف يجعلونهم شركاء له؟ وهذه الآية الجهالة {وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ} أي واختلفوا ونسبوا إليه تعالى البنين والبنات حيث قالوا: عزيرٌ ابن الله والملائكة بناتُ الله سفهاً وجهالة {سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ} أي تنزّه الله وتقدس عن هذه الصفات التي نسبها إليه الظالمون وتعالى علواً كبيراً {بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} أي مبدعهما من غير مثالٍ سبق {أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ} أي كيف يكون له ولد وليس له زوجة؟ والولد لا يكون إلا من زوجة {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} أي وما من شيء إلا هو خالقه والعالم به ومن كان كذلك كان غنياً عن كل شيء قال في التسهيل: والغرض الرد على من نسب لله الولد من وجهين: أحدهما أن الولد لا يكون إلا من جنس والده والله تعالى متعالٍ عن الأجناس لأنه مبدعها فلا يصح أن يكون له ولد، والثاني: أن الله خلق السموات والأرض ومن كان هكذا فهو غني عن الولد وعن كل شيء ثم أكّد تعالى على وحدانيته وتفرده بالخلق والإِيجاد فقال {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لا إِلَهَ إِلا هُوَ} أي ذلكم الله خالقكم ومالككم ومدبّر أموركم لا معبود بحق سواه {خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ} أي هو الخالق لجميع الموجودات ومن كان هكذا فهو المستحق للعبادة وحده {وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ} أي وهو الحافظ والمدبر لكل شيء ففوّضوا أموركم إليه وتوسلوا إليه بعبادته {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ} أي لا تصل إليه الأبصار ولا تحيط به وهو يراها ويحيط بها لشمول علمه تعالى للخفيات {وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} أي اللطيف بعباده الخبير بمصالحهم قال ابن كثير: ونفيُ الإِدراك الخاص لا ينفي الرؤية يوم القيامة إذ يتجلى لعباده المؤمنين كما يشاء، فأما جلاله وعظمته على ما هو عليه تعالى وتقدس فلا تدركه الأبصار ولهذا كانت عائشة تثبت الرؤية في الآخرة وتنفيها في الدنيا وتحتج بهذه الآية.



الأمر بتبليغ الرسالة والإعراض عن المشركين



{ قَدْ جَاءكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ(104)وَكَذَلِكَ نُصَرِّفُ الآيات وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ(105) اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لا إِلَهَ إِلا هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ(106)وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ(107)}.



{قَدْ جَاءكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ} أي قد جاءكم البينات والحجج التي تُبصرون بها الهدى من الضلال وتميزون بها بين الحق والباطل قال الزجاج: المعنى قد جاءكم القرآن، الذي فيه البيان والبصائر {فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا} قال الزمخشري: المعنى من أبصر الحق وآمن فلنفسه أبصر وإيّاها نفع ومن عمي عنه فعلى نفسه عمي وإيّاها ضرَّ بالعمى {وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ} أي لست عليكم بحافظ ولا رقيب وإنما أنا منذر والله هو الحفيظ عليكم {وَكَذَلِكَ نُصَرِّفُ الآيات} أي وكما بينا ما ذُكر نبيّن الآيات ليعتبروا {وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ} أي وليقول المشركون درست يا محمد في الكتب وقرأت فيها وجئت بهذا القرآن، واللامُ لامُ العاقبة {وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} أي ولنوضحه لقوم يعلمون الحق فيتبعونه {اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} أي اتبع يا محمد القرآن الذي أوحاه الله إليك قال القرطبي: أي لا تشغل قلبك وخاطرك بهم بل اشتغل بعبادة الله {لا إِلَهَ إِلا هُوَ} أي لا معبود بحقٍ إلا هو {وَأَعْرِضِ عَنْ الْمُشْرِكِينَ} أي لا تحتفل بهم ولا تلتفت إلى آرائهم {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا} أي لو شاء الله هدايتهم لهداهم فلم يشركوا ولكنه سبحانه يفعل ما يشاء {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وهُم يُسألون} {وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا} أي وما جعلناك رقيباً على أعمالهم تجازيهم عليها {وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ} أي ولستَ بموكل على أرزاقهم وأمورهم قال الصاوي: هذا تأكيد لما قبله أي لستَ حفيظاً مراقباً لهم فتجبرهم على الإِيمان وهذا كان قبل الأمر بالقتال.



النهي عن مبادلة الكفار السباب والشتم والقبائح



{وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ(108)وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءتْهُمْ ءاية لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الآيات عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءتْ لا يُؤْمِنُونَ(109)وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ(110)}.



{وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} أي لا تسبوا آلهة المشركين وأصنامهم {فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} أي فيسبوا الله جهلاً واعتداءً لعدم معرفتهم بعظمة الله قال ابن عباس: قال المشركون: لتنتهينَّ عن سبك آلهتنا أو لنهجونَّ ربك فنهاهم الله أن يسبّوا أوثانهم {كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ} أي كما زينّا لهؤلاء أعمالهم كذلك زينّا لكل أمةٍ عملهم قال ابن عباس: زينّا لأهل الطاعة الطاعة ولأهل الكفر الكفرَ {ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} أي ثم معادهم ومصيرهم إلى الله فيجازيهم بأعمالهم، وهو وعيدٌ بالجزاء والعذاب {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ} أي حلف كفار مكة بأغلظ الأيمان وأشدها{لَئِنْ جَاءَتْهُمْ ءاية لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا} أي لئن جاءتهم معجزة أو أمر خارقٌ مما اقترحوه ليؤمننَّ بها {قُلْ إِنَّمَا الآيات عِنْدَ اللَّهِ} أي قل لهم يا محمد أمر هذه الآيات عند الله لا عندي هو القادر على الإِتيان بها دوني {وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ} أي وما يدريكم أيها المؤمنون لعلها إذا جاءتهم لا يصدقون بها!! {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ} أي ونحوّل قلوبهم عن الإِيمان كما لم يؤمنوا بما أُنزل من القرآن أول مرة قال الصاوي: وهو استئناف مسوقٌ لبيان أن خالق الهدى والضلال هو الله لا غيره فمن أراد له الهدى حوّل قلبه له، ومن أراد الله شقاوته حوّل قلبه لها {وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} أي ونتركهم في ضلالهم يتخبطون ويتردّدون متحيرين.





عداوة الشياطين للأنبياء ومقاومتهم لدعوة الله وهدايته



{وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ(111)وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ(112)وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ(113)}.



{وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى} هذا بيانٌ لكذب المشركين في أيمانهم الفاجرة حين أقسموا {لئن جاءتهم ءاية ليؤمننَّ بها} والمعنى: ولو أننا لم نقتصر على إِيتاء ما اقترحوه من ءاية واحدة من الآيات بل نزلنا إِليهم الملائكة وأحيينا لهم الموتى فكلموهم وأخبروهم بصدق محمد صلى الله عليه وسلم كما اقترحوا {وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً} أي وجمعنا لهم كل شيء من الخلائق عياناً ومشاهدة {مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} أي لو أعطيناهم هذه الآيات التي اقترحوها وكل ءاية لم يؤمنوا إِلا أن يشاء الله، والغرضُ التيئيسُ من إِيمانهم {وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ} أي ولكنَّ أكثر هؤلاء المشركين يجهلون ذلك قال القرطبي: أي يجهلون أن الأمر بمشيئة الله، يحسبون أن الإِيمان إِليهم والكفر بأيديهم متى شاءوا ءامنوا، ومتى شاءوا كفروا، وليس الأمر كذلك، ذلك بيد الله لا يؤمن منهم إِلا من هداه له فوفقه، ولا يكفر إِلا من خذله تعالى فأضلُّه {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ} أي كما جعلنا هؤلاء المشركين أعداءك يعادونك ويخالفونك كذلك جعلنا لمن قبلك من الأنبياء أعداء من شياطين الإِنس والجن، فاصبر على الأذى كما صبروا قال ابن الجوزي: أي كما ابتليناك بالأعداء ابتلينا من قبلك من الأنبياء ليعظم الثواب عند الصبر على الأذى {يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ} أي يوسوس بعضهم إِلى بعض بالضلال والشر {زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا} أي يوسوسون بالكلام المزيّن والأباطيل المموّهة ليغروا الناس ويخدعوهم قال مقاتل: وكَلَ إِبليسُ بالإِنس شياطينَ يُضلونهم فإِذا التقى شيطان الإِنس بشيطان الجن قال أحدهما لصاحبه: إِني أضللتُ صاحبي بكذا وكذا فأضللْ أنتَ صاحبك بكذا وكذا، فذلك وحيُ بعضهم إِلى بعض {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ} أي بقدر الله وقضائه وإِرادته ومشيئته أن يكون لكل نبي عدوٌ من هؤلاء {فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ} أي اتركهم وما يدبرونه من المكائد فإِن الله كافيك وناصرُك عليهم {وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ} أي ولتميل إِلى هذا القول المزخرف قلوبُ الكفرة الذين لا يصدّقون بالآخرة {وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ} أي وليرضوا بهذا الباطل وليكتسبوا ما هم مكتسبون من الآثام.



تأييد الله نبيَّه صلى الله عليه وسلم بالقرآن الكريم



{ أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلاً وَالَّذِينَ ءاتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ(114)وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلاً لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ(115)}.



{أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا} أي قل لهم يا محمد أفغير الله أطلب قاضياً بيني وبينكم؟ قال أبو حيان: قال مشركو قريش لرسول الله صلى الله عليه وسلم: اجعلْ بيننا وبينك حكماً إِن شئتَ من أحبار اليهود أو النصارى ليخبرنا عنك بما في كتابهم من أمرك فنزلت {أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلاً} أي أنزل إِليكم القرآن بأوضح بيان، مفصَّلاً فيه الحق والباطل موضّحاً الهدى من الضلال {وَالَّذِينَ ءاتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ} أي وعلماء اليهود والنصارى يعلمون حق العلم أن القرآن حقٌ لتصديقه ما عندهم {فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} أي فلا تكوننَّ من الشاكين قال أبو السعود: وهذا من باب التهييج والإِلهاب وقيل: الخطاب للرسول والمراد به الأمة {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلاً} أي تمَّ كلام الله المنزّل صدقاً فيما أخبر، وعدلاً فيما قضى وقدَّر {لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ} أي لا مغيّر لحكمه ولا رادَّ لقضائه {وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} أي السميع لأقوال العباد العليم بأحوالهم.



الدعوة إلى عدم الالتفات إلى ضلالات المشركين



{وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلا يَخْرُصُونَ(116)إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ(117)فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنتُمْ بِآياتهِ مُؤْمِنِينَ(118) وَمَا لَكُمْ أَلا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيرًا لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ(119)وَذَرُوا ظَاهِرَ الإِثْمِ وَبَاطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُوا يَقْتَرِفُونَ(120)وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ(121)}.



{وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} أي إِن تطع هؤلاء الكفار وهم أكثر أهل الأرض يضلّوك عن سبيل الهدى قال الطبري: وإِنما قال {أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ } لأنهم كانوا حينئذٍ كفاراً ضُلاّلاً والمعنى: لا تطعهم فيما دعوك إِليه فإِنك إِن أطعتهم ضللتَ ضلالهم وكنت مثلهم لأنهم لا يدعونك إِلى الهدى وقد أخطأوه {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلا يَخْرُصُونَ} أي ما يتبعون في أمر الدين إِلا الظنون والأوهام يقلّدون آباءهم ظناً منهم أنهم كانوا على الحق وما هم إلا قومٌ يكذبون {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} أي إِن ربك يا محمد أعلم بالفريقين بمن ضلّ عن سبيل الرشاد وبمن اهتدى إِلى طريق الهدى والسداد قال في البحر: وهذه الجملة خبيريةٌ تتضمن الوعيد والوعد لأن كونه تعالى عالماً بالضال والمهتدي كناية عن مجازاتهما {فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنتُمْ بِآياتهِ مُؤْمِنِينَ} أي كلوا مما ذبحتم وذكرتم اسم الله عليه إِن كنتم حقاً مؤمنين قال ابن عباس: قال المشركون للمؤمنين إِنكم تزعمون أنكم تعبدون الله فما قتله الله - يريدون الميتة - أحق أن تأكلوه مما قتلتم أنتم فنزلت الآية {وَمَا لَكُمْ أَلا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} أي وما المانع لكم من أكل ما ذبحتموه بأيديكم بعد أن ذكرتم اسم ربكم عليه عند ذبحه؟ {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} أي وقد بيَّن لكم ربكم الحلال والحرام ووضّح لكم ما يحرم عليكم من الميتة والدم وغيره في ءاية المحرمات إلا في حالة الاضطرار فقد أحلّ لكم ما حرّم أيضاً فما لكم تستمعون إِلى الشبهات التي يثيرها أعداؤكم الكافر؟ {وَإِنَّ كَثِيرًا لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ} أي وإِن كثيراً من الكفار المجادلين ليُضلون الناس بتحريم الحلال وتحليل الحرام بغير شرعٍ من الله بل بمجرد الأهواء والشهوات {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ} أي المجاوزين الحدَّ في الاعتداء فيحلّلون ويحرمون بدون دليل شرعي من كتاب أو سنّة، وفيه وعيد شديد وتهديد أكيد لمن اعتدى حدود الله {وَذَرُوا ظَاهِرَ الإِثْمِ وَبَاطِنَهُ} أي اتركوا المعاصي ظاهرها وباطنها وسرَّها وعلانيتها قال مجاهد: هي المعصية في السر والعلانية وقال السدي: ظاهره الزنى مع البغايا وباطنه الزنى مع الصدائق والأخدان {إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُوا يَقْتَرِفُونَ} أي يكسبون الإِثم والمعاصي ويأتون ما حرّم الله سيلقون في الآخرة جزاء ما كانوا يكتسبون {وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} أي لا تأكلوا أيها المؤمنون ممَّا ذُبح لغير الله أو ذكر اسم غير الله عليه كالذي يذبح للأوثان {وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} أي وإِن الأكل منه لمعصيةٌ وخروجٌ عن طاعة الله {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ} أي وإِن الشياطين ليوسوسون إِلى المشركين أوليائهم في الضلال لمجادلة المؤمنين بالباطل في قولهم: أتأكلون ممّا قتلتهم ولا تأكلون مما قتل الله؟ يعني الميتة {وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} أي وإِن أطعتم هؤلاء المشركين في استحلال الحرام وساعدتموهم على أباطيلهم إِنكم إِذاً مثلهم قال الزمخشري: لأن من اتبع غير الله تعالى في دينه فقد أشرك به، ومن حق ذي البصيرة في دينه ألا يأكل مما لم يذكر اسم الله عليه كيفما كان للتشديد العظيم.



موازنة بين أهل الإيمان وأهل الكفر



{ أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ(122)وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلا بِأَنفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ(123)}.



{أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ} قال أبو حيان: لما تقدم ذكر المؤمنين والكافرين مثَّل تعالى بأن شبّه المؤمن بالحيّ الذي له نور يتصرف به كيفما سلك، والكافر بالمتخبط في الظلمات المستقر فيها ليظهر الفرق بين الفريقين والمعنى: أو من كان بمنزلة الميت أعمى البصيرة كافراً ضالاً، فأحيا الله قلبه بالإِيمان، وأنقذه من الضلالة بالقرآن {وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ} أي وجعلنا مع تلك الهداية النور العظيم الوضاء الذي يتأمل به الأشياء فيميز به بين الحق والباطل {كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا} أي كمن هو يتخبط في ظلمات الكفر والضلالة لا يعرف المّنْفذ ولا المخْلص؟ قال البيضاوي: وهل مَثلٌ لمن بقي في الضلالة لا يفارقها بحال {كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} أي وكما بقي هذا في الظلمات يتخبّط فيها كذلك حسنا للكافرين وزينا لهم ما كانوا يعملون من الشرك والمعاصي {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا} أي وكما جعلنا في مكة صناديدها ليمكروا فيها كذلك جعلنا في كل بلدةٍ مجرميها من الأكابر والعظماء ليفسدوا فيها قال ابن الجوزي: وإِنما جعل الأكابر فُسَّاق كل قرية لأنهم أقربُ إِلى الكفر بما أُعطوا من الرياسة والسعة {وَمَا يَمْكُرُونَ إِلا بِأَنفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} أي وما يدرون أن وبال هذا المكر يحيق بهم.



عاقبة المعرضين عن الحق



{وَإِذَا جَاءتْهُمْ ءاية قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغَارٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُوا يَمْكُرُونَ(124)}.



{وَإِذَا جَاءتْهُمْ ءاية قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ} أي وإِذا جاءت هؤلاء المشركين حجةٌ قاطعة وبرهانٌ ساطع على صدق محمد صلى الله عليه وسلم قالوا لن نصدّق برسالته حتى نُعطى من المعجزات مثل ما أُعطي رسُل الله، قال في البحر: وإِنما قالوا ذلك على سبيل التهكم والاستهزاء ولو كانوا موقنين غير معاندين لاتبعوا رسل الله تعالى، وروي أن أبا جهل قال: زاحمنا بني عبد منافٍ في الشرف حتى إِذا صرنا كفَرَسيْ رهان قالوا: منّا نبيٌ يُوحى إِليه! والله لا نرضى به ولا نتبعه أبداً إِلا أن يأتينا وحيٌ كما يأتيه فنزلت الآية {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} أي الله أعلم من هو أهلٌ للرسالة فيضعها فيه وهو وضعها فيمن اختاره لها وهو محمد صلى الله عليه وسلم دون أكابر مكة كأبي جهل والوليد بْن المغيرة {سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغَارٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُوا يَمْكُرُونَ} أي سيصيب هؤلاء المجرمين الذل والهوان، والعذاب الشديد يوم القيامة بسبب استكبارهم ومكرهم المستمر قال في البحر: وقدَّم الصغار على العذاب لأنهم تمردوا عن اتباع الرسول وتكبّروا طلباً للعزّ والكرامة فقوبلوا بالهوان والذل أولاً ثم بالعقاب الشديد ثانياً.



الكلمة الحاسمة في الردِّ على تَعنُّت المشركين



{فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ(125)وَهَذَا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيمًا قَدْ فَصَّلْنَا الآيات لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ(126)لَهُمْ دَارُ السَّلامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ(127) وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الإِنسِ وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الإِنسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ(128)}.



{فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ} أي من شاء الله هدايته قذف في قلبه نوراً فينفسح له وينشرح وذاك علامة الهداية للإِسلام قال ابن عباس: معناه يوسّع قلبه للتوحيد والإِيمان، وحين سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية قال: إِذا دخل النور القلب انفسح وانشرح قالوا: فهل لذلك من أمارة يُعرف بها؟ قال: الإِنابة إِلى دار الخلود، والتجافي عن دار الغرور، والاستعداد للموت قبل نزوله {وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ} أي ومن يرد شقاوته وإِضلاله {يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا} أي يجعل صدره ضيّقاً شديد الضيق لا يتسع لشيء من الهدى، ولا يخلص إِليه شيء من الإِيمان قال عطاء: ليس للخير فيه منفذ {كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ} أي كأنما يحاول الصعود إِلى السماء ويزاول أمراً غير ممكن قال ابن جرير: وهذا مثلٌ ضربه الله لقلب هذا الكافر في شدة ضيقه عن وصول الإِيمان إِليه، مثلُ امتناعه من الصعود إِلى السماء وعجزه عنه لأنه ليس في وسعه، وفي الآية أيضاً إعجاز علمي حيث أنها شبهت ضيق الصدر بمن يصعد في السماء وقد ثبت علمياً أن الإنسان إذا كان آخذاً في الصعود والإرتفاع ضاق صدره بسبب نقص الأكسجين وتغيير الضغط الجوي {كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ} أي مثل جعل صدر الكافر شديد الضيق كذلك يلقي الله العذاب والخذلان على الذين لا يؤمنون بآياته قال مجاهد: الرجسُ كل ما لا خير فيه وقال الزجاج: الرجس اللعنةُ في الدنيا والعذاب في الآخرة {وَهَذَا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيمًا} أي وهذا الدين الذي أنت عليه يا محمد هو الطريق المستقيم الذي لا عوج فيه فاسْتمسك به {قَدْ فَصَّلْنَا الآيات لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ} أي بينا ووضحنا الآيات والبراهين لقوم يتدبرون بعقولهم {لَهُمْ دَارُ السَّلامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ} أي لهؤلاء الذين يؤمنون ويعتبرون وينتفعون بالآيات دار السلام أي السلامة من المكاره وهي الجنة في نُزل الله وضيافته {وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} أي هو تعالى حافظهم وناصرهم ومؤيدهم جزاءً لأعمالهم الصالحة قال ابن كثير: وإِنما وصف تعالى الجنة هنا بدار السلام لسلامتهم فيما سلكوه من الصراط المستقيم، المقتفي أثر الأنبياء وطرائقهم، فكما سلموا من آفات الاعوجاج أفضوا إِلى دار السلام.

{وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا} أي اذكر يوم يجمع الله الثقلَين: الإِنس والجن جميعاً للحساب قائلاً {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الإِنسِ} أي استكثرتم من إِضلالهم وإِغوائهم قال ابن عباس: أضللتم منهم كثيراً، وهذا بطريق التوبيخ والتقريع {وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الإِنسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ} أي وقال الذين أطاعوهم من الإِنس ربنا انتفع بعضنا ببعض، قال البيضاوي: انتفع الإِنس بالجن بأن دلوهم على الشهوات وما يتوصل به إِليها، وانتفع الجنُّ بالإِنس بان أطاعوهم وحصّلوا مرادهم {وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا} أي وصلنا إِلى الموت والقبر ووافينا الحساب، وهذا منهم اعتذارٌ واعترافٌ بما كان منهم من طاعة الشياطين واتباع الهوى وتحسر على حالهم {قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ} أي قال تعالى رداً عليهم النارُ موضع مقامكم وهي منزلكم {خَالِدِينَ فِيهَا إِلا مَا شَاءَ اللَّهُ} أي ماكثين في النار في حال خلودٍ دائم إِلا الزمان الذي شاء الله أن لا يخلدوا فيها، قال الطبري: هي المدة التي بين حشرهم إلى دخولهم النار، وقال الزمخشري: يُخلدون في عذاب النار الأبد كلَّه إلا ماشاء الله أي إلا الأوقات التي يُنقلون فيها من عذاب النار إِلى عذاب الزمهرير فقد رُوي أنهم يدخلون وادياً من الزمهرير فيتعَاوَوْن ويطلبون الرد إِلى الجحيم {إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ} أي حكيم في أفعاله عليم بأعمال عباده.



تقريع الظالمين وتهديد كافري الجن والأنس



{ وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ(129)يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ ءاياتي وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ(130)ذَلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ(131)وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ(132)}.



{وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} أي كما متعنا الإِنس والجن بعضهم ببعض نسلّط بعض الظالمين على بعض بسبب كسبهم للمعاصي والذنوب قال القرطبي: وهذا تهديد للظالم إِن لم يمتنع من ظلمه سلّط الله عليه ظالماً آخر قال ابن عباس: إِذا رضي الله عن قوم ولّى أمرهم خيارهم، وإِذا سخط الله على قوم ولّى أمره شرارهم وعن مالك بن دينار قال: قرأتُ في بعض كتب الحكمة إِن الله تعالى يقول: "إِني أنا الله مالك الملوك، قلوب بن دينار قال: قرأتُ في بعض كتب الحكمة إِن رحمة، ومن عصاني جعلتهم عليه نقمة، فلا تشْغلوا أنفسكم بسبّ الملوك ولكن توبوا إِليَّ أعطّفْهم عليكم" {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ ءاياتي} هذا النداء أيضاً يوم القيامة والاستفهام للتوبيخ والتقريع أي ألم تأتكم الرسل يتْلون عليكم آيات ربكم؟ {وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا} أي يخوفونكم عذاب هذا اليوم الشديد؟ {قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنفُسِنَا} أي لم يجدوا إِلا الإِعتراف فقالوا: بلى شهدنا على أنفسنا بأن رسلك قد أتتنا وأنذرتنا لقاء يومنا هذا قال ابن عطية: وهذا إِقرارٌ منهم بالكفر واعتراف على أنفسهم بالتقصير كقولهم {قالوا بلى قد جاءنا نذيرٌ فكذبنا} {وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا} أي خدعتهم الدنيا بنعيمها وبَهَرْجِها الكاذب {وَشَهِدُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ} أي اعترفوا بكفرهم قال البيضاوي: وهذا ذمٌ لهم على سوء نظرهم وخطأ رأيهم، فإِنهم اغتروا بالحياة الدنيا ولذاتها الفانية، وأعرضوا عن الآخرة بالكلية حتى كان عاقبة أمرهم أن اضطروا بالشهادة على أنفسهم بالكف والاستسلام للعذاب المخلّد تحذيراً للسامعين من مثل حالهم {ذَلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ} أي إِنما فعلنا هذا بهم من إِرسال الرسل إِليهم لإِنذارهم سوء العاقبة لأن ربك عادل لم يكن ليهلك قوماً حتى يبعث إِليهم رسولاً قال الطبري: أي إِنما أرسلنا الرسل يا محمد يقصون عليهم ءاياتي وينذرونهم لقاء معادهم من أجل أن ربك لم يكن ليهلكهم دون التنبيه والتذكير بالرسل والآيات والعِبر {وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا} أي ولكل عاملٍ بطاعة الله أو معصيته، منازل ومراتب من عمله يلقاها في آخرته إِن كان خيراً فخير، وإِن كان شراً فشر، قال ابن الجوزي: وإِنما سميت درجات لتفاضلها في الارتفاع والانحطاط كتفاضل الدرج {وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ} أي ليس الله بلاهٍ أو ساهٍ عن أعمال عباده، وفي ذلك تهديد ووعيد.



غنى الله المطلق عن خلقه وإنذاره الكافرين بالهلاك في الدنيا والآخرة



{وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ مَا يَشَاءُ كَمَا أَنشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ ءاخَرِينَ(133)إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لآتٍ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ(134)قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ(135)}.



{وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ} أي هو جل وعلا المستغني عن الخلق وعبادتهم، لا تنفعه الطاعة ولا تضره المعصية {ذُو الرَّحْمَةِ} أي ذو التفضل التام قال ابن عباس: ذو الرحمة بأوليائه وأهل طاعته، وقال غيره: بجميع الخلق ومن رحمته تأخير الانتقام من المخالفين قال أبو السعود: وفيه تنبيهٌ على أنَّ ما سلف ذكره من الإِرسال ليس لنفعه بل لترحمه على العباد {إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ} أي لو شاء لأهلككم أيها العصاة بعذاب الاستئصال {وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ مَا يَشَاءُ} أي وأتى بخلقٍ آخر أمثلَ منكم وأطوع {كَمَا أَنشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ ءاخَرِينَ} أي كما خلقكم وابتدأكم من بعد خلق آخرين كانوا قبلكم قال أبو حيان: وتضمنت الآية التحذير من بطش الله في التعجيل بالإِهلاك {إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لآتٍ} أي ما توعدونه من مجيء الساعة والحشر لواقعٌ لا محالة {وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ} أي لا تخرجون عن قدرتنا وعقابنا وإِن ركبتم في الهرب متن كل صعبٍ وذَلول {قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ} أي قل لهم يا محمد يا قوم اثبتوا على كفركم ومعاداتكم لي واعلموا ما أنتم عاملون، والأمر هنا للتهديد كقوله {اعملوا ما شئتم} {إِنِّي عَامِلٌ} أي عاملٌ ما أمرني به ربي من الثبات على دينه {فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ} أي فسوف تعلمون أينا تكون له العاقبة المحمودة في الدار الآخرة أنحن أم أنتم؟ {إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} أي لا ينجح ولا يفوز بمطلوبه من كان ظالماً قال الزمخشري: في الآية طريقٌ من الإِنذار لطيف المسلك، فيه إِنصاف في المقال وأدبٌ حسن، مع تضمن شدة الوعيد، والوثوق بأن المُنْذر محِقٌ، والمنْذَر مبطل.



شرائع العرب في جاهليتهم



{وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ(136)وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنْ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ(137) وَقَالُوا هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لا يَطْعَمُهَا إِلا مَنْ نَشَاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا وَأَنْعَامٌ لا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا افْتِرَاءً عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِمْ بِمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ(138)وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاءُ سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ(139)قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ(140)}.



{وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالأَنْعَامِ نَصِيبًا} أي جعل مشركو قريش لله ممّا خلق من الزرع والأنعام نصيباً ينفقونه على الفقراء ولشركائهم نصيباً يصرفونه إِلى سدنتها قال ابن كثير: هذا ذمٌ وتوبيخٌ من الله للمشركين الذين ابتدعوا بدعاً وكفراً وشركاً، وجعلوا لله شركاء وهو خالق كل شيء سبحانه {وجعلوا لله مما ذرأ} أي خلق وبرأ من الزرع والثمار والأنعام جزءاً وقسماً {فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ} أي قالوا: هذا نصيب الله بزعمهم أي بدعواهم وقولهم من غير دليل ولا شرع قال في التسهيل: وأكثرُ ما يقال الزعم في الكذب {وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا} أي وهذا النصيب لآلهتنا وأصنامنا قال ابن عباس: إِنَّ أعداء الله كانوا إِذا حرثوا حرثاً أو كانت لهم ثمرة جعلوا لله منه جزءاً وللوثن جزءاً، فما كان من حرثٍ أو ثمرةٍ أو شيء من نصيب الأوثان حفظوه وأحصوه، وإِن سقط منه شيء فيما سُمي لله ردّوه إِلى ما جعلوه للوثن وقالوا إن الله غنيٌّ والأصنام أحوج ولهذا قال: {فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ} أي ما كان للأصنام فلا يصل إِلى الله منه شيء {وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ} وما كان من نصيب الله فهو يصل إِلى أصنامهم قال مجاهد: كانوا يسمُّون جزءاً من الحرث لله وجزءاً لشركائهم وأوثانهم فما ذهبت به الريح من نصيب الله إلى أوثانهم تركوه وما ذهب من نصيب أوثانهم إِلى نصيب الله ردوه، وكانوا إِذا أصابتهم سَنَةٌ "قحط" أكلوا نصيب الله وتحاموا نصيب شركائهم {سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} أي بئس هذا الحكم الجائر حكمهم {وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ} أي مثل ذلك التزيين في قسمة القربان بين الله وبين آلهتهم زيَّن شياطينُهم لهم قتل أولادهم بالوأد أو بنحرهم لآلهتهم قال الزمخشري: كان الرجل في الجاهلية يحلف لئن ولد له كذا غلاماً لينحرنَّ أحدهم كما حلف عبد المطلب {لِيُرْدُوهُمْ} أي ليهلكوا بالإِغواء {وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ} أي وليخلطوا عليهم ما كانوا عليه من دين إسماعيل عليه السلام {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا فَعَلُوهُ} أي لو شاء الله ما فعلوا ذلك القبيح {فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ} أي دعْهم وما يختلقونه من الإِفك على الله، وهو تهديد ووعيد {وَقَالُوا هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ} هذه حكاية عن بعض قبائحهم وجرائمهم أيضاً أي قال المشركون هذه أنعام وزروع أفردناها لآلهتنا حرام ممنوعة على غيرهم {لا يَطْعَمُهَا إِلا مَنْ نَشَاءُ} أي من خَدمة الأوثان وغيرهم {بِزَعْمِهِمْ} أي بزعمهم الباطل من غير حجة ولا برهان {وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا وَأَنْعَامٌ لا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا} أي عند الذبح وإنما يذكرون عليها أسماء الأصنام {افْتِرَاءً عَلَيْهِ} أي كذباً واختلاقاً على الله {سَيَجْزِيهِمْ بِمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} أي سيجزيهم على ذلك الافتراء، وهو تهديد شديد ووعيد {وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا} هذا إِشارة إِلى نوع آخر من أنواع قبائحهم أي قالوا ما في بطون هذه البحائر والسوائب حلال لذكورنا خاصة {وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا} أي لا تأكل منه الإِناث {وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاءُ} أي وإِن كان هذا المولود منها ميتةً اشترك فيه الذكور والإِناث {سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ} أي سيجزيهم جزاء وصفهم الكذب على الله في التحليل والتحريم {إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ} أي حكيمٌ في صنعه عليمٌ بخلقه {قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ} أي والله لقد خسر هؤلاء السفهاء الذين قتلوا أولادهم قال الزمخشري: نزلت في ربيعة ومضر والعرب الذين كانوا يئدون بناتهم مخافة السبي والفقر {سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} أي جهالة وسفاهة لخفة عقلهم وجهلهم بأن الله هو الرازق لهم ولأولادهم {وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ} أي حرموا على أنفسهم البحيرة والسائبة وشبهها {افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ} أي كذباً واختلافاً على الله {قَدْ ضَلُّوا وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ} أي لقد ضلوا عن الطريق المستقيم بصنيعهم القبيح وما كانوا من الأصل مهتدين لسوء سيرتهم، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: إِذا سرَّك أن تعلم جهل العرب فاقرأ ما فوق الثلاثين والمائة من سورة الأنعام {قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمْ اللَّهُ افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ}.



إقامة الدلائل على إثبات الألوهية والربوبية لله تعالى



{وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَءاتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ(141)وَمِنَ الأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشًا كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ(142)ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ أَالذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الأُنثَيَيْنِ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ(143)وَمِنَ الإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ أَالذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الأُنثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الأُنثَيَيْنِ أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهَذَا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ(144)}.



{وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ } أي هو الذي أنعم عليكم بأنواع النعم لتعبدوه وحده، فخلق لكم بساتين من الكروم منها مرفوعات على عيدان، ومنها متروكات على وجه الأرض لم تعرش{وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ} أي وأنشأ لكم شجر النخيل المثمر بما هو فاكهة وقوت، وأنواع الزرع المحصّل لأنواع القوت مختلفاً ثمره وحبُّه في اللون والطعم والحجم والرائحة {وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ} أي متشابهاً في اللون والشكل وغير متشابه في الطعم {كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ} أي كلوا أيها الناس من ثمر كل واحد مما ذكر إِذا أدرك من رطبه وعنبه {وَءاتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} أي أعطوا الفقير والمسكين من ثمره يوم الحصاد ما تجود به نفوسكم وقال ابن عباس: يعني الزكاة المفروضة يوم يكال ويعلم كيلُه {وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} أي ولا تسرفوا في الأكل لما فيه من مضرة العقل والبدن قال الطبري: المختار قول عطاء أنه نهيٌ عن الإِسراف في كل شيء {وَمِنَ الأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشًا} أي وخلق لكم من الأنعام ما يحمل الأثقالَ وما يُفرش للذبح "أي يضجع" قال ابن أسلم: الحمُولةُ ما تركبون، والفَرْشُ ما تأكلون وتحلبون {كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ} أي كلوا من الثمار والزروع والأنعام فقد جعلها الله لكم رزقاً {وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ} أي طريقه وأوامره في التحليل والتحريم كفعل أهل الجاهلية {إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} أي إِن الشيطان ظاهر العداوة للإِنسان فاحذروا كيده {ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ} أي وأنشأ لكم من الأنعام ثمانية أنواع أحلّ لكم أكلها، من الضأن ذكراً وأنثى، ومن المعز ذكراً وأنثى قال القرطبي: يعني ثمانية أفراداً، وكلُّ فردٍ عند العرب يحتاج إِلى آخر يُسمَّى زوجاً فيقال للذكر: زوجٌ وللأنثى زوجٌ ويراد بالزوجين من الضأن: الكبشُ والنعجة، ومن المعز: التيسُ والعنز {قُلْ أَالذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الأُنْثَيَيْنِ}؟ هذا إِنكارٌ لما كانوا يفعلونه من تحريم ما أحلَّ الله أي قل لهم يا محمد على وجه التوبيخ والزجر: الذكرين من الضأن والمعز حرّم الله عليكم أيها المشركون أم الانثيين منهما؟ {أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الأُنثَيَيْنِ} أي أو ما حملت إِناث الجنسين ذكراً كان أو أنثى؟ {نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} تعجيزٌ وتوبيخ أي أخبروني عن الله بأمرٍ معلوم لا بافتراءٍ ولا بتخرص إِن كنتم صادقين في نسبة ذلك التحريم إِلى الله {وَمِنَ الإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ} أي وأنشأ لكم من الإِبل اثنين هما الجمل والناقة ومن البقر اثنين هما الجاموس والبقرة {قُلْ أَالذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الأُنثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الأُنثَيَيْنِ}؟ كرره هنا مبالغة في التقريع والتوبيخ قال أبو السعود: والمقصود إِنكار أن الله سبحانه حرّم عليهم شيئاً من الأنواع الأربعة وإِظهار كذبهم في ذلك فإِنهم كانوا يحرمون ذكور الأنعام تارةً، وإِناثها تارةً، وأولادها تارة أخرى {أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهَذَا} زيادة في التوبيخ أي هل كنتم حاضرين حين وصاكم الله بهذا التحريم؟ وهذا من باب التهكم {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ} أي لا أحد أظلم ممن كذب على الله فنسب إِليه تحريم ما لم يحرّم بغير دليلٍ ولا برهان {إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} عمومٌ في كل ظالم.



المحرَّمات من الأطعمة على المسلمين واليهود



{قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ(145)وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ(146)فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ وَلا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ(147)}.



ثم أمر تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم بأن يبيّن لهم ما حرمه الله عليهم فقال {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ} أي قل يا محمد لكفار مكة لا أجد فيما أوحاه الله إِليَّ من القرآن شيئاً محرماً على أيّ إِنسان إِلا أن يكون ذلك الطعام ميتةً أو دماً سائلاً مصبوباً أو يكون لحم خنزير فإِنه قذرٌ ونجس لتعوده أكل النجاسات {أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} أي أو يكون المذبوح فسقاً ذبح على اسم غير الله كالمذبوح على النُّصب، سُمّي فسقاً مبالغةً كأنه نفس الفسق لأنه ذبح على اسم الأصنام {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} أي من أصابته الضرورة واضطرته إِلى أكل شيء من المحرمات فلا إِثم عليه إِن كان غير باغٍ أي غير قاصد التلذذ بأكلها بدون ضرورة ولا عادٍ أي مجاوزٍ قدر الضرورة التي تدفع عنه الهلاك فالله غفور رحيم بالعباد، ثم بيّن تعالى أن ما حرّمه على اليهود إِنما كان بسبب بغيهم وعصيانهم فقال {وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ} أي وعلى اليهود خاصةً حرمنا عليهم كل ذي ظُفر قال ابن عباس: هي ذوات الظِّلْفِ كالإِبل والنعام وما ليس بذي أصابع منفرجة كالبط والأوز {وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا} أي وحرّمنا عليهم أكل شحوم البقر وشحوم الغنم {إِلا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا} أي إِلا الشحم الذي علق بالظهر منهما {أَوِ الْحَوَايَا} أي الأمعاء والمصارين {أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ} كشحم الألية والمعنى أن الشحم الذي تعلَّق بالظهور أو احتوت عليه المصارين أو اختلط بعظم كشحم الألية جائز لهم {ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ} أي ذلك التحريم بسبب ظلمهم وعدوانهم الذي سبق من قتل الأنبياء وأكل الربا واستحلال أموال الناس بالباطل وإِنّا لصادقون فيما قصصنا عليك يا محمد، وفي ذلك تعريضٌ بكذب من حرّم ما لم يحرّم الله والتعريض بكذب اليهود {فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ} أي فإِن كذبك يا محمد هؤلاء اليهود فيما جئت به من بيان التحريم فقل متعجباً من حالهم ربكم ذو رحمةٍ واسعة حيث لم يعاجلكم بالعقوبة مع شدة إِجرامكم قال في البحر: وهذا كما تقول عند رؤية معصيةٍ عظيمة: ما أحلم الله تعالى! وأنت تريد ما أحلمه لإِمهاله العاصي، ثم أعقب وصفه بالرحمة الواسعة بالوعيد الشديد فقال {وَلا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ} أي لا تغتروا بسعة رحمته فإِنه لا يُردُّ عذابه وسطوتُه عمن اكتسبوا الذنوب واجترحوا السيئات فهو مع رحمته ذو بأس شديد، وقد جمعت الآية بين الترغيب الترهيب حتى لا يقنط المذنب من الرحمة ولا يغترَّ العاصي بحلم الله.



دحض شبهة الجبرية وإقامة الحجة على المشركين



{سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا ءابَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلا تَخْرُصُونَ(148)قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ(149)قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هَذَا فَإِنْ شَهِدُوا فَلا تَشْهَدْ مَعَهُمْ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتنَا وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ(150)}.



{سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ} أي سيقول مشركو العرب لو أراد الله ما كفرنا ولا أشركنا لا نحن ولا آباؤنا يريدون أن شركهم وتحريمهم لما حرّموا كان بمشيئة الله ولو شاء ألا يفعلوا ذلك ما فعلوه، فاحتجوا على ذلك بإِرادة الله كما يقول الواقع في معصية إِذا طلب منه الإِقلاع عنها: هذا قدرُ الله لا مهربَ ولا مفرَّ منه، ولا حجة في هذا لأنهم مكلفون مأمورون بفعل الخير وترك القبيح ولكنها نزعةٌ جبرية يحتج بها السفهاء عندما تدمغهم الحجة قال تعالى في الرد عليهم {كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا} أي كذلك كذَّب من سبقهم من الأمم حتى أنزلنا عليهم العذاب {قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا} استفهام إِنكاري يقصد به التهكم أي قل لهم عندكم حجة أو برهان على صدق قولكم فتظهروه لنا {إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلا تَخْرُصُونَ} أي ما تتبعون في ذلك إِلا الظنون والأوهام وما أنتم في الحقيقة إِلا تكذبون على الله عز وجل {قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} أي قل لهم إِن لم تكن لكم حجة فلله الحجة البينة الواضحة التي بلغت الآية الظهور والإِقناع، فلو شاء لهداكم إِلى الإِيمان أجمعين ولكنه تعالى ترك للخلق أمر الاختيار في الإِيمان والكفر ليتم التكليف {قل الحقُّ من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر} {قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هَذَا} أي قل لهم يا محمد احضروا لي من يشهد لكم على صحة ما تزعمون أن الله تعالى حرَّم هذه الأشياء التي تدَّعونها من البحيرة والسائبة وغيرهما {فَإِنْ شَهِدُوا فَلا تَشْهَدْ مَعَهُمْ} أي فإِن حضروا وكذبوا في شهادتهم وزوَّروا فلا تشهد بمثل شهادتهم ولا تصدّقهم فإِنه كذبٌ بحتٌ {وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتنَا وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ} أي ولا تتبع أهواء المكذبين بآيات الرحمن الذين لا يصدقون بالآخرة {وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} أي وهم يشركون بالله غيره فيعبدون الأوثان.



بيان أصول المحرَّمات قولاً وفعلاً



{قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ(151)وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ(152)وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ(153)}



{قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ} أي قل يا محمد تعالوا أقرأ الذي حرّمه ربكم عليكم باليقين لا بالظن والتخمين {أَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} أي لا تعبدوا معه غيره {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} أي وأحسنوا إِلى الوالدين إِحساناً، وذُكر ضمن المحرمات لأن الأمر بالشيء نهيٌ عن ضده فكأنه قال: ولا تسيئوا إِلى الوالدين قال أبو السعود: والسرُّ في ذلك المبالغةُ والدلالة على أن ترك الإِساءة إِليهما غير كافٍ في قضاء حقوقهما {وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ} أي ولا تقتلوا أولادكم خشية الفقر قال ابن الجوزي: المراد دفن البنات أحياء من خوف الفقر {نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ} أي رزقكم ورزقهم علينا فإِن الله هو الرازق للعباد {وَلا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} أي لا تقربوا المنكرات الكبائر علانيتها وسرّها قال ابن عباس: كانوا في الجاهلية لا يرون بالزنى بأساً في السرّ ويستقبحونه في العلانية فحرمه الله في السر والعلانية {وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ} أي لا تقتلوا النفس البريئة التي حرّم الله قتلها إِلا بموجب وقد فسّره قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يحل دم امرئ مسلم إِلا بإِحدى ثلاث: الثيبُ الزاني، والنفسُ بالنفس، والتاركُ لدينه المفارق للجماعة) {ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} أي ذلكم المذكور هو ما أوصاكم تعالى بحفظه وأمركم به أمراً مؤكداً لعلكم تسترشدون بعقولكم إِلى فوائد هذه التكاليف ومنافعها في الدين والدنيا قال أبو حيان: وفي لفظ وصّاكم من اللطف والرأفة وجعلهم وصية منه تعالى ما لا يخفى من الإِحسان {وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ} أي لا تقربوا مال اليتيم بوجه من الوجوه إِلا بالخصلة التي هي أنفع له حتى يصير بالغاً رشيداً، والنهي عن القرب يعمُّ وجوه التصرف لأنه إِذا نُهي عن أن يقرب المال فالنهيُ عن أكله أولى وأحرى والتي هي أحسن منفعةُ اليتيم وتثمير ماله قال ابن عباس: هو أن يعمل له عملاً مصلحاً فيأكل منه بالمعروف {وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ} أي بالعدل والتسوية في الأخذ والعطاء {لا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا} أي لا نكلّف أحداً إلا بمقدار طاقته بما لا يعجز عنه قال البيضاوي: أي إِلا ما يسعها ولا يعسرُ عليها، وذكره بعد وفاء الكيل لأن إِيفاء الحق عسرٌ فعليكم بما في وسعكم وما وراءه معفوٌّ عنكم {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى} أي اعدلوا في حكومتكم وشهادتكم ولو كان المشهود عليه من ذوى قرابتكم {وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا} أي أوفوا بالعهد إِذا عاهدتم قال القرطبي: وهذا عام في جميع ما عهده الله إِلى عباده ويحتمل أن يراد به ما انعقد بين الناس وأضيف إِلى الله من حيث أمر بحفظه والوفاء به {ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} أي لعلكم تتعظون {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} أي وبأن هذا ديني المستقيم شرعته لكم فتمسكوا به ولا تتبعوا الأديان المختلفة والطرق الملتوية فتفرقكم وتزيلكم عن سبيل الهدى عن ابن مسعود قال: خطّ لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً خطاً ثم قال هذا سبيل الله، ثم خطَّ خطوطاً عن يمينه ويساره ثم قال: هذه سُبُل على كل سبيل منها شيطانٌ يدعو إِليها ثم قرأ {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ..} الآية {ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} كرر الوصية على سبيل التوكيد أي لعلكم تتقون النار بامتثال أوامر الله واجتناب نواهيه قال ابن عطية: لما كانت المحرمات الأولى لا يقع فيها عاقل جاءت العبارة {لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} والمحرمات الأخر شهوات وقد يقع فيها من لم يتذكر جاءت العبارة {لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} والسير في الجادة المستقيمة يتضمن فعل الفضائل ولا بد لها من تقوى الله جاءت العبارة {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}.



الغاية من إنزال التوراة ومكانة القرآن



{ثُمَّ ءاتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ(154)وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ(155)أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ(156)أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ فَقَدْ جآءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآيات اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْهَا سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ ءاياتنَا سُوءَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يَصْدِفُونَ(157)}



{ثُمَّ ءاتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ} أي أعطينا موسى التوراة تماماً للكرامة والنعمة على من كان محسناً وصالحاً قال الطبري: أي آتينا موسى الكتاب تماماً لنعمتنا عليه في قيامه بأمرنا ونهينا فإِن إِيتاء موسى الكتاب نعمةٌ من الله عليه ومنَّةٌ عظيمة لما سلف منه من صالح العمل وحسن الطاعة {وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ} أي وبياناً مفصلاً لكل ما يحتاج إِليه بنو إِسرائيل في الدين {وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ} أي وهدى لبني إِسرائيل ورحمة عليهم ليصدّقوا بلقاء الله قال ابن عباس: كي يؤمنوا بالبعث ويصدّقوا بالثواب والعذاب {وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ} أي وهذا القرآن الذي أنزلناه على محمد كتابٌ عظيم الشأن كثير المنافع مشتملٌ على أنواع الفوائد الدينية والدنيوية {فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} أي تمسكوا به واجعلوه إِماماً واحذروا أن تخالفوه لتكونوا راجين للرحمة {أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا} أي أنزلناه بهذا الوصف العظيم الجامع لخيرات الدنيا والآخرة كراهة أن تقولوا يوم القيامة ما جاءنا كتاب فنتّبعه وإِنما نزلت الكتب المقدسة على اليهود والنصارى قال ابن جرير: فقطع الله بإِنزاله القرآن على محمد صلى الله عله وسلم حجتهم تلك {وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ} أي وإِنه الحال والشأن كنا عن معرفة ما في كتبهم ودراستهم غافلين لا نعلم ما فيها لأنها لم تكن بلغتنا {أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ} أو تقولوا لو أننا أُنزل علينا الكتاب كما أُنزل على هاتين الطائفتين لكنَّا أهدى منهم إِلى الحق وأسرع إِجابة لأمر الرسول لمزيد ذكائنا وحدّنا في العمل {فَقَدْ جَاءكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ} أي فقد جاءكم من الله على لسان محمد صلى الله عليه وسلم قرآن عظيم، فيه بيانٌ للحلال والحرام وهدى لما في القلوب ورحمة من الله لعباده قال القرطبي: أي قد زال العذر بمجيء محمد صلى الله عليه وسلم قال ابن عباس: بيّنة أي حجة وهو النبي صلى الله عليه وسلم والقرآن {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآيات اللَّهِ} أي من أكفر ممن كذّب بالقرآن ولم يؤمن به {وَصَدَفَ عَنْهَا} أي أعرض عن آيات الله قال أبو السعود: أي صرف الناس عنها فجمع بين الضلال والإِضلال {سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ ءاياتنَا سُوءَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يَصْدِفُونَ} وعيدٌ لهم أي سنثيب هؤلاء المعرضين عن آيات الله وحججه الساطعة شديد العقاب بسبب إِعراضهم عن آيات الله وتكذيبهم لرسله.



وعيد الكفار وتهديدهم





{هَلْ يَنظُرُونَ إِلا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيات رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيات رَبِّكَ لا يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ ءامَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا قُلِ انتَظِرُوا إِنَّا مُنتَظِرُونَ(158)}.



{هَلْ يَنظُرُونَ إِلا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ} أي ما ينتظر هؤلاء المشركون إِلا أن تأتيهم الملائكة لقبض أرواحهم وتعذيبها وهو وقتٌ لا تنفع فيه توبتُهم {أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيات رَبِّكَ} قال ابن عباس: أي يأتي أمر ربك فيهم بالقتل أو غيره وقال الطبري: المراد أن يجمعهم الله وتأتيهم الملائكة في موقف القيامة للفصل بين الخلائق أو يأتيهم بعض آيات ربك وهو طلوع الشمس من مغربها {يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيات رَبِّكَ لا يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ ءامَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا} أي يوم يأتي بعض أشراط الساعة وحينئذٍ لا ينفع الإِيمان نفساً كافرة آمنت في ذلك الحين ولا نفساً عاصيةً لم تعمل خيراً قال الطبري: أي لا ينفع من كان قبل ذلك مشركاً بالله أن يؤمن بعد مجيء تلك الآية لعظيم الهول الوارد عليهم من أمر الله، فحكم إِيمانهم كحكم إِيمانهم عند قيام الساعة وفي الحديث (لا تقوم الساعة حتى تطلع الشمس من مغربها فإِذا طلعت ورآها الناس ءامنوا أجمعون، وذلك حين لا ينفع نفساً إِيمانها لم تكن آمنت من قبل) {قُلِ انتَظِرُوا إِنَّا مُنتَظِرُونَ} أي انتظروا ما يحلُّ بكم وهو أمر تهديد ووعيد.



التحذير من التفرق في الدين



{إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ(159)}.



{إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا} أي فرّقوا الدين فأصبحوا شيعاً وأحزاباً قال ابن عباس: هم اليهود والنصارى فرّقوا دين إِبراهيم الحنيف {لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} أي أنت يا محمد بريء منهم {إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ} أي جزاؤهم وعقابهم على الله هو يتولى جزاءهم{ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} أي يخبرهم بشنيع فعالهم قال الطبري: أي أخبرهم في الآخرة بما كانوا يفعلون وأجازي كلاً منهم بما كان يفعل.



الجزاء على العمل



{مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى إِلا مِثْلَهَا وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ(160)}.



{مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} أي من جاء يوم القيامة بحسنةٍ واحدة جوزي عنها بعشر حسناتٍ أمثالها فضلاً من الله وكرماً وهو أقلُّ المضاعفة للحسنات فقد تنتهي إِلى سبعمائة أو أزيد {وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى إِلا مِثْلَهَا} أي ومن جاء بالسيئة عوقب بمثلها دون مضاعفة {وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} أي لا يُنقصون من جزائهم شيئاً وفي الحديث القدسي: "يقول الله عز وجل: من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها أو أزيدُ، ومن جاء بالسيئة فجزاء سيئة مثلها أو أغْفرُ" فالزيادة في الحسنات من باب الفضل، والمعاملة بالمثل في السيئات من باب العدل.



تبيين الدين القيِّم والصراط المستقيم



{قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ(161)قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ(162)لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ(163)قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلا عَلَيْهَا وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ(164)}.



{قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} أي قل يا محمد لهؤلاء المشركين المكذبين إن ربي هداني إِلى الطريق القويم وأرشدني إلى الدين الحق دين إِبراهيم {دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا} أي ديناً مستقيماً لا عوج فيه هو دين الحنيفية السمحة الذي جاء به إِمام الحنفاء إِبراهيم الخليل {وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} أي وما كان إِبراهيم مشركاً، وفيه تعريضٌ بإِشراك من خالف دين الإِسلام لخروجه عن دين إِبراهيم {قُلْ إِنَّ صَلاتِي} أي قل يا محمد إِنَّ صلاتي التي أعبد بها ربي {وَنُسُكِي} أي ذبحي {وَمَحْيَاي وَمَمَاتِي} أي حياتي ووفاتي وما أقدّمه في هذه الحياة من خيرات وطاعات {لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} أي ذلك كله لله خالصاً له دون ما أشركتم به {لا شَرِيكَ لَهُ} أي لا أعبد غير الله {وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ} أي بإِخلاص العبادة لله وحده أُمرتُ {وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} أي أولُّ من أقرَّ وأذعنَ وخضع لله جلّ وعلا {قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا} تقريرٌ وتوبيخ للكفار، وسببها أنهم دعوة إِلى عبادة آلهتهم والمعنى: قل يا محمد أأطلب رباً غير الله تعالى؟ {وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ} أي والحال هو خالق ومالك كل شيء فكيف يليق أن أتخذ إِلهاً غير الله؟ {وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلا عَلَيْهَا} أي لا تكون جناية نفسٍ من النفوس إِلا عليها {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} أي لا يحمل أحدٌ ذنب أحد، ولا يؤاخذ إِنسانٌ بجريرة غيره {ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} وهذا وعيدٌ وتهديدٌ أي مرجعكم إِليه يوم القيامة فيجازيكم على أعمالكم ويميز بين المحسن والمسيء.



تفاوت درجات الناس مع كونهم مستخلفين في الأرض



{وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا ءاتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ(165)}.





{وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الأَرْضِ} أي جعلكم خلفاً للأمم الماضية والقرون السالفة يخلف بعضكم بعضاً قال الطبري: أي استخلفكم بعد أن أهلك من كان قبلكم من القرون والأمم الخالية فجعلكم خلائف منهم في الأرض تخلفونهم فيها {وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ} أي خالف بين أحوالكم في الغنى والفقر، والعلم والجهل، والقوة والضعف وغير ذلك مما وقع فيه التفضيل بين العباد {لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا ءاتَاكُمْ} أي ليختبر شكركم على ما أعطاكم قال ابن الجوزي: أي ليختبركم فيظهر منكم ما يكون به الثواب والعقاب {إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} أي إِن ربك سريع العقاب لمن عصاه وغفور رحيم لمن أطاعه، قال في التسهيل: جمع بين الخوف والرجاء، وسرعة العقاب إِما في الدنيا بتعجيل الأخذ أو في الآخرة لأن كل ما هو آتٍ قريب.

yacine414
2011-03-26, 11:10
سورة الأعراف



وجوب اتباع القرآن الكريم

عاقبة مخالفة الرسل وتكذيبهم

وزن أفعال العباد يوم القيامة

التذكير بنعم الله سبحانه وتعالى

التنبيه على تكريم آدم وبيان عداوة إبليس لذريته

هبوط آدم من الجنة والأسباب الكامنة وراء ذلك

وجوب ستر العورة والتحذير من وساوس الشيطان

الدعوة إلى ترك ضلالات الآباء والتمسك بهداية الله تعالى

إباحة الطيبات والإنكار على الذين يحرِّمون ما أحل الله

أنواع المحرَّمات وأصولها

توفية الأمم والأفراد آجالهم

أحوال بني آدم بعد الموت

خلود الكافرين في النار

حال المؤمنين الطائعين يوم القيامة

مناظرة بين أهل الجنة وأهل النار

الإخبار عن تقريع أهل الأعراف لرجال من قادة المشركين

عاقبة الجاحدين بآيات الله تعالى

حجية القرآن على البشر وحال المكذبين يوم القيامة

دلائل القدرة والوحدانية

الحث على الدعاءِ والبعدِ عن الإفساد

أمثال ومقارنات تدل على قدرة الله الباهرة

دعوة نوح لقومه وعاقبة تكذيبهم إيَّاه

معاناة هود في دعوة قومه ونتيجة التمرد والعتو والطغيان

قصة صالح عليه السلام مع قومه

فاحشة مبتكرة عند قوم لوط

شعيب عليه السلام يدعو قومه إلى توحيد الله وترك كل أنواع الإيذاء

سنة الله في التضييق على الأمم قبل إهلاكها

الترغيب بالإيمان والترهيب من الكفر

العبرة من قصص الماضين

قصة موسى عليه السلام مع فرعون

إبطال سحر السحرة، وإيمانهم برب العالمين

تهديد فرعون السحرة، وعدم مبالاتهم به

تحريض لفرعون من قومه على موسى، ونصيحته لقومه

أنواع العذاب لآل فرعون

الرجوع إلى موسى عليه السلام عند وقوع العذاب، وإغراق فرعون وقومه

وراثة الأرض لبني إسرائيل

جحود بني إسرائيل النعم الكثيرة

مناجاة موسى ربه، وطلبه رؤية الله تعالى، وتنزيل التوراة عليه

عقوبة المتكبرين بصرفهم عن فهم أدلة العظمة الإلهية

اتخاذ السامري العجل

غضب موسى على أخيه هارون وتعنيفه له

عقاب الظالمين المتخذين العجل إلهاً، وقبول توبة التائبين

سكون غضب موسى وأخذه الألواح

اختيار موسى سبعين رجلاً لملاقاة الله

دعاء موسى عند الرجفة، وربط الإيمان برسالته والإيمان برسالة النبي محمد صلى الله عليه وسلم

عموم رسالة الإسلام للناس كافة

أتباع الحق من قوم موسى، ونعم الله تعالى على بني إسرائيل في صحراء التيه

أمر بني إسرائيل بسكنى بيت المقدس

احتيال اليهود لاصطياد الأسماك يوم السبت

رفع الجبل فوق اليهود وذلهم إلى يوم القيامة، وتشتيتهم في الأرض باستثناء الصالحين

أخذ الميثاق العام على بني آدم

قصة بلعم بن باعوراء

الهداية والضلالة وأسبابهما

أسماء الله الحسنى

المهتدون والمكذبون بدعوة الإسلام، وعقاب المكذبين

هل التّفكُر أفضل أو الصّلاة؟

علم الساعة غيبي لا يعلمه إلا الله

الأمر كله لله وحده، والرسول صلى الله عليه وسلم لا يعلم الغيب

التذكير بالنشأة الأولى، والأمر بالتوحيد واتباع القرآن والنهي عن الشرك

عجز المعبودات من دون الله عن فعل شيء

أمره صلى الله عليه وسلم بمكارم الأخلاق، ومقاومة الشيطان

اتباع النبي صلى الله عليه وسلم الوحي الإلهي، وخصائص القرآن

تعظيم القرآن باستماعه، وطرق ذكر الله



بَين يَدَيْ السُّورَة



سورة الأعراف من أطول السور المكية، وهي أول سورة عرضت للتفصيل في قصص الأنبياء، ومهمتها كمهمة السور المكية تقرير أصول الدعوة الإِسلامية من توحيد الله جل وعلا، وتقرير البعث والجزاء، وتقرير الوحي والرسالة.



* تعرضت السورة الكريمة في بدء آياتها للقرآن العظيم معجزة محمد الخالدة، وقررت أن هذا القرآن نعمة من الرحمن على الإِنسانية جمعاء، فعليهم أن يستمسكوا بتوجيهاته وإِرشاداته ليفوزوا بسعادة الدارين.



* ولفتت الأنظار إِلى نعمة خلقهم من أبٍ واحد، وإِلى تكريم الله لهذا النوع الإِنساني ممثلاً في أب البشر آدم عليه السلام الذي أمر الله الملائكة بالسجود له، ثم حذّرت من كيد الشيطان ذلك العدو المتربص الذي قعد على طريق الناس ليصدهم عن الهدى ويبعدهم عن خالقهم.



* وقد ذكر تعالى قصة آدم مع إِبليس وخروجه من الجنة، وهبوطه إِلى الأرض كنموذج للصراع بين الخير والشر، والحق والباطل، وبيانٍ لكيد إِبليس لآدم وذريته، ولهذا وجه الله إِلى أبناء آدم - بعد أن بيَّن لهم عداوة إِبليس لأبيهم - أربعة نداءات متتالية بوصف البُنوَّة لآدم {يَابَنِي آدَمَ } وهو نداء خاص بهذه السورة يحذّرهم بها من عدوهم الذي نشأ على عداوتهم من قديم الزمن حين وسوس لأبيهم آدم حتى أوقعه في الزّلة والمخالفة لأمر الله {يَابَنِي ءادَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمْ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنْ الْجَنَّةِ يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَاَ..}.



* كما تعرضت السورة الكريمة لمشهدٍ من المشاهد الواقعة يوم القيامة، مشهد الفرق الثلاثة وما يدور بينهم من محاورة ومناظرة: فرقة المؤمنين أصحاب الجنة، وفرقة الكافرين أصحاب النار، وفرقةٍ ثالثة لم يتحدث عنها القرآن إِلا في هذه السورة، وهي الفرقة التي سميت بأصحاب الأعراف وسميت باسمها السورة "سورة الاعراف" مشهدٌ سوف يشهده العالم يوم البعث والجزاء على الحقيقة دون تمثيل ولا تخيّل، تبيّن ما يكون فيه من شماتة أهل الحق "أصحاب الجنة" بالمبطلين أصحاب النار، وينطلق صوت علوي يسجّل عليهم اللعنة والطرد والحرمان، وقد ضرب بين الفريقين بحجاب ووقف عليه رجال يعرفون كلاً بسيماهم، يعرفون أهل الجنة ببياض الوجوه ونضرتها، ويعرفون أهل النار بسواد الوجوه وقترتها.



* وتناولت السورة قصص الأنبياء بإِسهاب "نوح، هود، صالح، لوط، شعيب، موسى" وقد ابتدأت بشيخ الأنبياء "نوح" عليه السلام وما لاقاه من قومه من جحودٍ وعناد، وتكذيب وإِعراض، وقد ذكرت بالتفصيل قصة الكليم موسى عليه السلام مع فرعون الطاغية، وتحدثت عما نال بني إِسرائيل من بلاء وشدة ثم من أمنٍ ورخاء وكيف لمّا بدلوا نعمة الله وخالفوا أمره عاقبهم الله تعالى بالمسخ إِلى قردة وخنازير.



* وتناولت السورة كذلك المثل المخزي لعلماء السوء، وصوَّرتهم بأشنع وأقبح ما يمكن للخيال أن يتصوره، صورة الكلب اللاهث الذي لا يكف عن اللهث، ولا ينفك عن التمرغ في الطين والأوحال {وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ} وتلك لعمر الحق أقبح صورة مزرية لمن رزقه الله العلم النافع فاستعمله لجمع الحطام الفاني وكان خزياً وبالاً عليه، لأنه لم ينتفع بهذا العلم، ولم يستقم على طريق الإِيمان وانسلخ من النعمة، وأَتبعه الشيطان فكان من الغاوين.



* وقد ختمت السورة الكريمة بإِثبات التوحيد، والتهكم بمن عبدوا ما لا يضر ولا ينفع، ولا يبصر ولا يسمع، من أحجار وأصنام اتخذوهما شركاء مع الله، وهو جل وعلا وحده الذي خلقهم وصوّرهم ويعلم متقلبهم ومثواهم، وهكذا ختمت السورة الكريمة بالتوحيد كما بدأت بالتوحيد، فكانت الدعوة إِلى الإِيمان بوحدانية الرب المعبود في البدء والختام.



وجوب اتباع القرآن الكريم



{المص(1)كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ(2)اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ(3)}



{المص} تقدم في أول سورة البقرة الكلام عن الحروف المقطّعة وأن الحكمة في ذكرها بيان _"إِعجاز القرآن" بالإِشارة إِلى أنه مركب من أمثال هذه الحروف ومع ذلك فقد عجز بلغاؤهم وفصحاؤهم وعباقرتهم عن الإِتيان بمثله وروي عن ابن عباس معناه: أن الله أعلم وأَفْصِل، وقال أبو العالية: الألف مفاتح اسمه الله واللام مفتاح اسمه لطيف والميم مفتاح اسمه مجيد والصاد مفتاح اسمه صداق والله أعلم {كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ} أي هذا كتاب أنزله الله إِليك يا محمد وهو القرآن { فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ} أي لا يضقْ صدرك من تبليغه خوفاً من تكذيب قومك {لِتُنذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} أي لتنذر بالقرآن من يخاف الرحمن، ولتذكّر وتعظ المؤمنين لأنهم المنتفعون به {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ} أي اتبعوا أيها الناس القرآن الذي فيه الهدى والنور والبيان المنزّل إِليكم من ربكم {وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ} أي ولا تتخذوا أولياء من دون الله كالأوثان والرهبان والكُهّان تولونهم أموركم وتطيعونهم فيما يشرعون لكم {قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ} أي تتذكّرون تذكراً قليلاً. قال الخازن: أي ما تتعظون إِلا قليلاً.



عاقبة مخالفة الرسل وتكذيبهم



{وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَائِلُونَ(4)فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَاءهُمْ بَأْسُنَا إِلا أَنْ قَالُوا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ(5)}



{وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا} أي وكثير من القرى أهلكناها والمراد بالقرية أهلُها {فَجَاءهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا} أي جاءها عذابنا ليلاً {أَوْ هُمْ قَائِلُونَ} أي جاءهم العذاب في وقت القيلولة وهي النوم في وسط النهار. قال أبو حيان: وخصّ مجيء البأس بهذين الوقتين لأنهما وقتان للسكون والدعة والاستراحة فمجيء العذاب فيهما أشق وأفظع لأنه يكون على غفلةٍ من المهلكين {فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَاءهُمْ بَأْسُنَا} أي ما كان دعاؤهم واستغاثتهم حين شاهدوا العذاب ورأوا أماراته {إِلا أَنْ قَالُوا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ} أي إِلا اعترافهم بظلمهم تحسراً وندامة، وهيهات أن ينفع الندم.



وزن أفعال العباد يوم القيامة



{فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ(6)فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ(7)وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ(8)وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَظْلِمُونَ(9)}



{فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ} أي لنسألن الأمم قاطبة هل بلّغكم الرسل وماذا أجبتم؟ والمقصودُ من هذا السؤال التقريع والتوبيخ للكفار {وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ} أي ولنسألنَّ الرسل أيضاً هل بلّغوا الرسالة وأدوا الأمانة ؟ قال في البحر: وسؤال الأمم تقريرٌ وتوبيخ يعقب الكفار والعصاة نكالاً وعذاباً، وسؤال الرسل تأنيسٌ يعقب الأنبياء كرامة وثواباً {فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ} أي فلنخبرهم بما فعلوا عن علمٍ منا. قال ابن عباس: يوضع الكتاب يوم القيامة فيتكلم بما كانوا يعملون {وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ} أي ما كنا غائبين عنهم حتى يخفى علينا شيء من أحوالهم. قال ابن كثير: يخبر تعالى عباده يوم القيامة بما قالوا وبما عملوا من قليل وكثير، وجليل وحقير، لأنه تعالى الشهيد على كل شيء، لا يغيب عنه شيء بل هو العالم بخائنة الأعين وما تخفي الصدور {وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ} أي والوزن للأعمال يوم القيامة كائن بالعدل ولا يظلم ربك أحداً {فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ} أي فمن رجحت موازين أعماله بالإِيمان وكثرة الحسنات {فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ} أي الناجون غداً من العذاب الفائزون بجزيل الثواب {وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ} أي ومن خفت موازين أعماله بسبب الكفر واجتراح السيئات {فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ} أي خسروا أنفسهم وسعادتهم {بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَظْلِمُونَ} أي بسبب كفرهم وجحودهم بآيات الله، قال ابن كثير: والذي يوضع في الميزان يوم القيامة قيل: الأعمال وإِن كانت أعراضاً إِلا أن الله تعالى يقلبها يوم القيامة أجساماً يروى هذا عن ابن عباس، وقيل: يوزن كتاب الأعمال كما جاء في حديث البطاقة، وقيل: يوزن صاحب العمل كما في الحديث (يؤتى يوم القيامة بالرجل السمين فلا يزن عند الله جناح بعوضة) والكل صحيح فتارةً توزن الأعمال، وتارةً محالها، وتارة يوزن فاعلها والله أعلم. أقول: لا غرابة في وزن الأعمال ووزن الحسنات والسيئات بالذات، فإِذا كان العلم الحديث قد كشف لنا عن موازين للحر والبرد، واتجاه الرياح والأمطار، أفيعجز القادر على كل شيء عن وضع موازين لأعمال البشر؟



التذكير بنعم الله سبحانه وتعالى



{وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلاً مَا تَشْكُرُونَ(10)}



{وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الأَرْضِ} أي جعلنا لكم أيها الناس في الأرض مكاناً وقراراً، قال البيضاوي: أي مكناكم من سكناها وزرعها والتصرف فيها {وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ} أي ما تعيشون به وتحيون من المطاعم والمشارب وسائر ما تكون به الحياة {قَلِيلاً مَا تَشْكُرُونَ} أي ومع هذا الفضل الإِنعام قليل منكم من يشكر ربه كقوله {وقليلٌ من عبادي الشكور}.



التنبيه على تكريم آدم وبيان عداوة إبليس لذريته



{وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنْ السَّاجِدِينَ(11)قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ(12)قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنْ الصَّاغِرِينَ(13)قَالَ أَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ(14)قَالَ إِنَّكَ مِنْ الْمُنظَرِينَ(15)قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ(16)ثُمَّ لآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ(17)قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَدْحُورًا لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ(18)}



{وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ} أي خلقنا أباكم آدم طيناً مصوَّر ثم صورناه أبدع تصوير وأحسن تقويم، وإِنما ذكر بلفظ الجمع تعظيماً له لأنه أبو البشر {ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ} أي ثم أمرنا الملائكة بالسجود لآدم تكريماً له ولذريته {فَسَجَدُوا إِلا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنْ السَّاجِدِينَ} أي سجد الملائكة كلهم أجمعون إِلا إِبليس امتنع من السجود تكبراً وعناداً، والاستثناء منقطع لأنه استثناء من غير الجنس وقد تقدم قول الحسن البصري: لم يكن إِبليسُ من الملائكة طرفة عين {قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ} أي قال تعالى لإِبليس أيُّ شيء منعك أن تدع السجود لآدم؟ والاستفهام للتقريع والتوبيخ {قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ} أي قال إِبليس اللعين أنا أفضل من آدم وأشرف منه فكيف يسجد الفاضل للمفضول؟ ثم ذكر العلة في الامتناع فقال {خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} أي أنا أشرف منه لشرف عنصري على عنصره، لأنني مخلوق من نار والنار أشرف من الطين، ولم ينظر المسكين لأمر من أمره بالسجود وهو الله تعالى. قال ابن كثير: نظر اللعين إِلى أصل العنصر ولم ينظر إِلى التشريف والتعظيم وهو أن الله خلق آدم بيده، ونفخ فيه من روحه، وقاس قياساً فاسداً فأخطأ قبّحه الله في قياسه في دعواه أن النار أشرف في الطين، فإِن الطين من شأنه الرزانة والحلم، والنار من شأنها الإِحراق والطيش، والطين محل النبات والنمو والزيادة والإِصلاح والنار محل العذاب ولهذا خان إِبليس عنصره فأورثه الهلاك والشقاء والدمار. قال ابن سيرين: أول من قاس إِبليس فأخطأ فمن قاس الدين برأيه قرنه الله مع إِبليس {قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا} أي اهبط من الجنة فما يصح ولا يستقيم ولا ينبغي أن تستكبر عن طاعتي وأمري وتسكن دار قدسي {فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنْ الصَّاغِرِينَ} أي الذليلين الحقيرين. قال الزمخشري: وذلك أنه لما أظهر الاستكبار ألبسه الله الذل والصغار فمن تواضع لله رفعه ومن تكبّر على الله وضعه {قَالَ أَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} استدرك اللعين فطلب من الله الإِمهال إِلى يوم البعث لينجو من الموت لأن يوم البعث لا موت بعده فأجابه تعالى بقوله {قَالَ إِنَّكَ مِنْ الْمُنظَرِينَ} قال ابن عباس: أنظره إِلى النفخة الأولى حيث يموت الخلق كلهم وكان طلب الإِنظار إِلى النفخة الثانية حيث يقوم الناس لرب العالمين فأبى الله ذلك عليه ويؤيده الآية الأخرى { قَالَ فَإِنَّكَ مِنْ الْمُنْظَرِينَ* إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ } {قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ} أي فبسبب إِغوائك وإِضلالك لي لأقعدنَّ لآدم وذريته على طريق الحق وسبيل النجاة الموصل للجنة كما يقعد القُطّاع للسابلة {ثُمَّ لآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ} أي آتي عبادك من كل جهة من الجهات الأربع لأصدّهم عن دينك، قال الطبري: معناه لآتينهم من جميع وجوه الحق والباطل، فأصدهم عن الحق وأحسّن لهم الباطل. قال ابن عباس: ولا يستطيع أن يأتي من فوقهم لئلا يحول بين العبد وبين رحمة الله تعالى {وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ} أي مؤمنين مطيعين شاكرين لنعمك {قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَدْحُورًا} أي اخرج من الجنة مذموماً معيباً مطروداً من رحمتي {لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ} اللام موطئة للقسم أي لمن أطاعك من الإِنس والجن لأملأنَّ جهنم من الأتباع الغاوين أجمعين، وهو وعيد بالعذاب لكل من انقاد للشيطان وترك أمر الرحمن.



هبوط آدم من الجنة والأسباب الكامنة وراء ذلك



{وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلا مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنْ الظَّالِمِينَ(19)فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنْ الْخَالِدِينَ(20)وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنْ النَّاصِحِينَ(21)فَدَلاهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ(22)قَالا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنْ الْخَاسِرِينَ(23)قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ(24)قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ(25)}



{وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ} أي وقلنا يا آدم اسكن مع زوجك حواء الجنة بعد أن أُهبط منها إِبليس وأخرج وطرد {فَكُلا مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا} أي كلا من ثمارها من أي مكان شئتما {وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنْ الظَّالِمِينَ} أباح لهما الأكل من جميع ثمارها إِلا شجرة واحدة عيّنها لهما ونهاهما عن الأكل منها ابتلاءً وامتحاناً فعند ذلك حسدهما الشيطان وسعى في الوسوسة والمكر والخديعة {فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ} أي ألقى لهما بصوتٍ خفي لإِغرائهما بالأكل من الشجرة {لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا} أي ليظهر لهما ما كان مستوراً من العورات التي يقبح كشفها {وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنْ الْخَالِدِينَ} وهذا توضيح لوسوسة اللعين أي قال في وسوسته لهما: ما نهاكما ربكما عن الأكل من هذه الشجرة إِلا كراهية أن تكونا مَلكَين أو تصبحا من المخلّدين في الجنة {وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لمِنْ النَّاصِحِينَ} أي حلف لهما بالله على ذلك حتى خدعهما وقد يُخْدع المؤمن بالله، قال الألوسي: وإِنما عبّر بصيغة المفاعلة للمبالغة أن من يباري أحداً في فعلٍ يجدُّ فيه {فَدَلاهُمَا بِغُرُورٍ} أي خدعهما بما غرهما به من القسم بالله. قال ابن عباس: غرهما باليمين وكان آدم يظن أنه لا يحلف أحدٌ بالله كاذباً فغرهما بوسوسته وقسمه لهما { فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا} أي فلما أكلا من الشجرة ظهرت عوراتهما، قال الكلبي: تهافت عنهما لباسهما فأبصر كلٌ منهما عورة صاحبه فاستحيا {وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ} أي أخذا وشرعا يلصقان ورقة على ورقة ليستترا به بعد أن كانت كسوتهما من حلل الجنة. قال القرطبي: أي جعلا يقطعان الورق ويلزقانه ليستترا به ومنه خصف النعل وعن وهب ابن منبه قال: كان لباس آدم وحواء نوراً على فروجهما لا يرى هذا عورة هذه، ولا هذه عورة هذا فلما أصابا الخطيئة بدت لهما سوأتهما {وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ} أي ناداهما الله بطريق العتاب والتوبيخ قائلاً: أَلم أحذركما من الأكل من هذه الشجرة وأخبركما بعداوة الشيطان اللعين؟ روى أنه تعالى قال لآدم: ألم يكن لك فيما منحتك من شجر الجنة مندوحةٌ عن هذه الشجرة؟ فقال: بل وعزتك ولكنْ ما ظننتُ أن أحداً من خلقك يحلف بك كاذباً قال: فوعزتي لأهبطنَّك إِلى الأرض ثم لا تنال العيش إِلا كدّاً {قَالا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنْ الْخَاسِرِينَ} اعترفا بالخطيئة وتابا من الذنب وطلبا من الله المغفرة والرحمة، قال الطبري: وهذه الآية هي الكلمات التي تلقاها آدم من ربه {قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ} الخطاب لآدم وحواء وإِبليس ولهذا جاء بصيغة الجمع أي اهبطوا من سماء القدس إِلى الأرض حال كون بعضكم عدواً لبعض، فالشيطان عدوٌ للإِنسان، والإِنسان عدوٌ للشيطان كقوله {إِن الشيطان لكم عدوٌ فاتخذوه عدواً} {وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ} أي لكم في الأرض موضع استقرار وتمتع وانتفاع إِلى حين انقضاء آجالكم {قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ} أي في الأرض تعيشون وفيها تُقبرون ومنها تُخرجون للجزاء كقوله {مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى} [طه: 55].



وجوب ستر العورة والتحذير من وساوس الشيطان



{يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ(26)يَا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمْ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنْ الْجَنَّةِ يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ(27)}



ثم ذكر تعالى ما امتنَّ به على ذرية آدم من اللباس والرياش والمتاع فقال {يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا} أي أنزلنا عليكم لباسين: لباساً يستر عوراتكم، ولباساً يزينكم وتتجملون به، قال الزمخشري: الريش لباس الزينة استعير من ريش الطير لأنه لباسه وزينته {وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ} أي ولباس الورع والخشية من الله تعالى خير ما يتزين به المرء فإِن طهارة الباطن أهم من جمال الظاهر قال الشاعر:

وخـيرُ لـباس الـمرء طـاعةُ ربه ولا خير فيمن كان لله عاصياً

{ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ} أي إِنزال اللباس من الآيات العظيمة الدالة على فضل الله ورحمته على عباده {لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ} أي لعلهم يذكرون هذه النعم فيشكرون الله عليها {يَا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمْ الشَّيْطَانُ} أي لا يغوينكم الشيطان بإَضلاله وفتنته {كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنْ الْجَنَّةِ} أي كما أغوى أبويكم فأكلا من الشجرة حتى أخرجهما من الجنة {يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا} أي ينزع عنهما اللباس لتظهر العورات، ونسب النزع إِليه لأنه المتسبب، وهذا هدف اللعين أن يهتك الستر عن الإِنسان ويعريه من جميع الفضائل الحسّية والمعنوية {إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ} أي إن الشيطان يبصركم هو وجنوده من الجهة التي لا تبصرونه منها، فهو لكم بالمرصاد فاحذروا كيده ومكره لأن العدو إِذا أتى من حيث لا يُرى كان أشدَّ وأخوف {إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ} أي جعلنا الشياطين أعواناً وقرناء للكافرين.



الدعوة إلى ترك ضلالات الآباء والتمسك بهداية الله تعالى



{وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ(28)قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ(29)فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمْ الضَّلالَةُ إِنَّهُمْ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ(30)}



{وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً} أي وإِذا فعل المشركون فاحشة وهي الفعلة المتناهية في القبح كالطواف حول البيت عراة {قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا} أي اعتذروا عن ذلك الفعل القبيح بتقليد الآباء {وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا} أي أمرنا بالتجرد من الثياب إِذ كيف نطوف في ثيابٍ عصينا فيها الله! وهذا افتراء على ذي الجلال. قال البيضاوي: احتجوا بأمرين: تقليد الآباء، والافتراء على الله سبحانه، فأعرض عن الأول لظهور فساده، وردَّ الثاني بقوله {قُلْ إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ} أي قل لهم يا محمد: الله منَزّه عن النقص لا يأمر عباده بقبائح الأفعال ومساوئ الخصال {أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} الاستفهام للإِنكار والتوبيخ أي أتكذبون على الله وتنسبون إِليه القبيح دون علمٍ ونظرٍ صحيح؟ {قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ} أي بالعدل والاستقامة {وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} أي توجهوا بكليتكم إِليه عند كل سجود {وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} أي واعبدوه مخلصين له العبادة والطاعة. قال ابن كثير: أي أمركم بالاستقامة في عبادته وهي متابعة المرسلين المؤيدين بالمعجزات وبالإِخلاص لله في العبادة فإِن الله تعالى لا يتقبل العمل حتى يجمع هذين الركنين: أن يكون صواباً موافقاً للشريعة، وأن يكون خالصاً من الشرك {كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ} أي كما بدأكم من الأرض تعودون إِليها {فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمْ الضَّلالَةُ} أي هدى فريقاً منكم وأضلَّ فريقاً منكم وهو الفعال لما يريد لا يُسأل عما يفعل {إِنَّهُمْ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} هذا تعليل للفريق الذين حقت عليهم الضلالة أي اتخذوا الشياطين نصراء من دون الله {وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ} أي يظنون أنهم على بصيرة وهداية.



إباحة الطيبات والإنكار على الذين يحرِّمون ما أحل الله

{يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ(31)قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنْ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ(32)}



{يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} أي البسوا أفخر ثيابكم وأطهرها عند كل صلاة أو طواف {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا} أي لا تسرفوا في الزينة والأكل والشرب بما يضر بالنفس والمال {إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} أي المتعدين حدود الله فيما أحلَّ وحرّم {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنْ الرِّزْقِ} أي قل يا محمد لهؤلاء الجهلة من العرب الذين يطوفون بالبيت عراةً ويحرمون على أنفسهم ما أحللت لهم من الطيبات، من حرّم عليكم التجمل بالثياب التي خلقها الله لنفعكم من النبات، والمستلذات من المآكل والمشارب! والاستفهام للإِنكار والتوبيخ {قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ} أي هذه الزينة والطيبات في الدنيا مخلوقة للمؤمنين وإن شاركهم فيها الكفار، وستكون خالصة لهم يوم القيامة لا يشركهم فيها أحد لأن الله حرم الجنة على الكافرين {كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} أي نبيّن ونوضح الآيات التشريعية لقوم يتدبرون حكمة الله ويفقهون تشريعه.



أنواع المحرَّمات وأصولها



{قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّي الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ(33)}



{قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّي الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} أي قل لهم يا محمد ما حرّم الله إلا القبائح من الأشياء التي تفاحش قبحها وتناهى ضررها، سواء ما كان منها في السر أو في العلن {وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ} أي وحرّم المعاصي كلها والعدوان على الناس {وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا} أي تجعلوا له شركاء في عبادته بدون حجة أو برهان {وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُون} أي تفتروا على الله الكذب في التحليل والتحريم.



توفية الأمم والأفراد آجالهم

{وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ(34)}



{وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ} أي لكل أمة كذبت رسلها مدة مضروبة لهلاكها، قال في البحر: هذا وعيد للمشركين بالعذاب إذا خالفوا أمر ربهم {فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ} أي فإِذا جاء وقت هلاكهم المقدر لهم لا يتأخر عنهم برهة من الزمن ولا يتقدم كقوله {وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدًا} [الكهف: 59] والساعة مثلٌ في غاية القلة من الزمان.



أحوال بني آدم بعد الموت

{يَا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي فَمَنْ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ(35)وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ(36)}



{يَا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي} المراد ببني آدم جميع الأمم والمعنى إن يجئْكُم رسلي الذين أرسلتهم إليكم يبينون لكم الأحكام والشرائع {فَمَنْ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} أي فمن اتقى منكم ربه بفعل الطاعات وترك المحرمات فلا خوف عليهم في الآخرة ولا هم يحزنون {وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} أي وأما من كذب واستكبر عن الإِيمان بما جاء به الرسل فأولئك في نار جهنم ماكثون لا يخرجون منها أبداً.



شناعة افتراء الكذب على الله تعالى وعاقبة المفترين



{فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ أُوْلَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنْ الْكِتَابِ حَتَّى إِذَا جَاءتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قَالُوا أَيْنَ مَا كُنتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ(37)قَالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنْ الْجِنِّ وَالإِنسِ فِي النَّارِ كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لأُولاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنْ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لا تَعْلَمُونَ(38)وَقَالَتْ أُولاهُمْ لأُخْرَاهُمْ فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ(39)}



{فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ} الاستفهام للإِنكار أي من أقبح وأشنع ممن تعمْد الكذب على الله أو كذّب بآياته المنزلة {أُوْلَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنْ الْكِتَابِ} أي يصيبهم حظهم في الدنيا مما كُتب لهم وقُدر من الأرزاق والآجال، قال مجاهد: ما وُعدوا به من خير أو شر {حَتَّى إِذَا جَاءتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ} أي جاءت ملائكة الموت تقبض أرواحهم {قَالُوا أَيْنَ مَا كُنتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} أي أين الآلهة التي كنتم تعبدونها من دون الله أدعوهم ليخلصوكم من العذاب، والسؤال للتبكيت والتوبيخ {قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا} أي قال الأشقياء المكذبون لقد غابوا عنا فلا نرجوا نفعهم ولا خيرهم {وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ} أي أقروا واعترفوا على أنفسهم بالكفر والضلال، وإنما قالوا ذلك على سبيل التحسر والاعتراف بما هم عليه من الخيبة والخسران {قَالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنْ الْجِنِّ وَالإِنسِ فِي النَّارِ} أي يقول الله تعالى يوم القيامة لهؤلاء المكذبين بآياته: ادخلوا مع أمم أمثالكم من الفجرة في نار جهنم من كفار الأمم الماضية من الإِنس والجن {كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا} أي كلما دخلت طائفة النار لعنت التي قبلها لضلالها بها. قال الألوسي: يلعن الأتباع القادة يقولون: أنتم أوردتمونا هذه الموارد فلعنكم الله تعالى، والمراد أن أهل النار يعلن بعضهم بعضاً كقوله تعالى {ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا} {حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا} أي تلاحقوا واجتمعوا في النار كلهم {قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لأُولاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلاءِ أَضَلُّونَا} أي قال الأتباع للقادة والرؤساء الذين أضلوهم يا ربنا هؤلاء هم الذين أضلونا عن سبيلك وزينوا لنا طاعة الشيطان {فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنْ النَّارِ} أي أذقهم العذاب مضاعفاً لأنهم تسببوا في كفرنا ونظير هذه الآية {ربنا إن أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيلا، ربنا آتهم ضعفين من العذاب} {قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ} أي لكلٍ من القادة والأتباع عذاب مضاعف أما القادة فلضلالهم وإضلالهم، وأما الأتباع فلكفرهم وتقليدهم {وَلَكِنْ لا تَعْلَمُونَ} أي لا تعلمون هوله ولهذا تسألون لهم مضاعفة العذاب {وَقَالَتْ أُولاهُمْ لأُخْرَاهُمْ فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ} أي قال القادة للأتباع: لا فضل لكم علينا في تخفيف العذاب فنحن متساوون في الضلال وفي استحقاق العذاب الأليم { فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ} أي فذوقوا عذاب جهنم بسبب إجرامكم، قالوه لهم على سبيل التشفي لأنهم دعوا عليهم بمضاعفة العذاب.



خلود الكافرين في النار



{إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ(40)لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ(41)}



{إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا} أي كذبوا بآياتنا مع وضوحها واستكبروا عن الإِيمان بها والعمل بمقتضاها {لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ} أي لا يصعد لهم عمل صالح كقوله تعالى {إليه يصعد الكلم الطيّب} قال ابن عباس: لا يرفع لهم منها عمل صالح ولا دعاء، وقيل: لا تُفتَّح لأرواحهم أبواب السماء إذا قبضت أرواحهم ويؤيده حديث (إن العبد الكافر إذا كان في انقطاعٍ من الدنيا يجيئه ملك الموت حتى يجلس عند رأسه فيقول: أيتها النفس الخبيثة أخرجي إلى سخطٍ من الله وغضب، ويخرج منها كأنتن ريح جيفة فلا يمر على ملأٍ من الملائكة إلا قالوا ما هذه الروح الخبيثة؟ حتى ينتهي بها إلى السماء الدنيا فيستفتح فلا يفتح له ..) الحديث {وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ} أي لا يدخلون يوم القيامة الجنة حتى يدخل الجمل في ثقب الإِبرة، وهذا تمثيل لاستحالة دخول الكفار الجنة كاستحال دخول الجمل على ضخامته في ثقب الإِبرة على دقته مبالغة في التصوير {وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ} أي ومثل ذلك الجزاء الفظيع نجزي أهل العصيان والإِجرام {لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ} أي لهم فراش من النار من تحتهم {وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ} أي ومن فوقهم أغطية من النار {وَكَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ} أي ومثل ذلك الجزاء الشديد نجزي كل من ظلم وتعدّى حدود الله.



حال المؤمنين الطائعين يوم القيامة



{وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ(42)وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ الأَنْهَارُ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ لَقَدْ جَاءتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ(43)}



ولما ذكر تعالى وعيد الكافرين وما أعده لهم في الآخرة أتبعه بذكر وعد المؤمنين وما أعدّ لهم فقال {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} أي والذين صدّقوا الله ورسوله وعملوا بما أمرهم به وأطاعوه {لا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا} أي لا نكلف أحداً بما هو فوق طاقته أو بما يعجز عنه بل بما هو في وسعه والجملة اعتراضية بين المبتدأ والخبر. قال في البحر: وفائدته التنبيه على أن ذلك العمل في وسعهم وغير خارج عن قدرتهم وفيه تنبيه للكفار على أن الجنة مع عظم ما فيها يوصل إليها بالعمل السهل من غير مشقة {أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} هذا هو الخبر أي هؤلاء المؤمنون السعداء هم المستحقون للخلود الأبدي في جنات النعيم لا يُخرجون منها أبداً {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ} أي طهرنا قلوبهم من الحسد والبغضاء حتى لا يكون بينهم إلا المحبة والتعاطف كما ورد في الحديث (يدخلون الجنة وليس في قلوب بعضهم على بعض غلٌ) وصيغة الماضي تفيد التحقق والتثبت {تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ الأَنْهَارُ} أي تجري أنهار الجنة من تحت قصورهم زيادة في نعيمهم {وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ} أي وفقنا لتحصيل هذا النعيم العظيم ولولا هداية الله تعالى وتوفيقه لما وصلنا إلى هذه السعادة { لَقَدْ جَاءتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ} أي والله لقد صدقنا الرسل فيما أخبرونا به عن الله عز وجل {وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} أي وتناديهم الملائكة أن هذه هي الجنة التي أعطيتموها بسبب أعمالكم الصالحة في الدنيا، قال القرطبي: ورثتم منازلها بعملكم، ودخولكم إِياها برحمة الله وفضله وفي الحديث (لن يُدخل أحداً منكم عملهُ الجنة ..) الحديث.



مناظرة بين أهل الجنة وأهل النار

{وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ(44)الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ بِالآخِرَةِ كَافِرُونَ(45)وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ وَعَلَى الأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلا بِسِيمَاهُمْ وَنَادَوْا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ(46)وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَاءَ أَصْحَابِ النَّارِ قَالُوا رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ(47)}



{وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُوا نَعَمْ} هذا النداء إنما يكون بعد استقرار أهل الجنة في الجنة وأهل النار في النار، وعبَّر بالماضي عن المستقبل لتحقق وقوعه أي ينادي أهلُ الجنة أهلَ النار يقولون: إنا قد وجدنا ما وعدنا ربنا على ألسنة رسله من النعيم والكرامة حقاً، فهل وجدتم ما وعدكم ربكم من الخزي والهوان والعذاب حقاً؟ قال أهل النار مجيبين: نعم وجدناه حقاً. قال الزمخشري: وإِنما قالوا لهم ذلك اغتباطاً بحالهم، وشماتةً بأهل النار، وزيادة في غمهم لمجرد الإِخبار والاستخبار {فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} أي أعلن معلنٌ ونادى منادٍ بين الفريقين بأن لعنة الله على كل ظالم بالله ثم وصفه بقوله {الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا} أي الذين كانوا في الدنيا يمنعون الناس عن اتباع دين الله ويبغون أن تكون السبيل معوجة غير مستقيمة حتى لا يتبعها أحد {وَهُمْ بِالآخِرَةِ كَافِرُونَ} أي وهم بلقاء الله في الدار الآخرة مكذبون جاحدون {وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ وَعَلَى الأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلا بِسِيمَاهُمْ} أي بين الفريقين حجاب وهو السور الذي ذكره بقوله {فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ} يمنع من وصول أهل النار للجنة، وعلى هذا السور رجال يعرفون كلاً من أهل الجنة وأهل النار بسيماهم أي بعلامتهم التي ميّزهم الله بها. قال قتادة: يعرفون أهل النار بسواد وجوههم وأهل الجنة ببياض وجوههم {وَنَادَوْا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ} أي ونادى أصحاب الأعراف أهل الجنة حين رأوهم أن سلامٌ عليكم أي قالوا لهم: سلام عليكم قال تعالى {لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ} أي لم يدخل أصحاب الأعراف الجنة وهم يطمعون في دخلوها {وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَاءَ أَصْحَابِ النَّارِ قَالُوا رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} قال المفسرون: أصحاب الأعراف قوم استوت حسناتهم وسيئاتهم فليسوا من أهل الجنة ولا من أهل النار، يحبسون هناك على السور حتى يقضي الله فيهم فإذا نظروا إلى أهل الجنة سلّموا عليهم، وإذا نظروا إلى أهل النار قالوا ربنا لا تجعلنا مع القوم الظالمين، سألوا الله ألاّ يجعلهم معهم. قال أبو حيان: وفي التعبير بقوله {صُرِفَتْ} دليل على أن أكثر أحوالهم النظر إلى أهل الجنة وأن نظرهم إلى أصحاب النار ليس من قِبَلهم بل هم محمولون عليه والمعنى أنهم إذا حمُلوا على صرف أبصارهم ورأوا ما عليه أهل النار من العذاب استغاثوا بربهم من أن يجعلهم معهم.



الإخبار عن تقريع أهل الأعراف لرجال من قادة المشركين



{وَنَادَى أَصْحَابُ الأَعْرَافِ رِجَالاً يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ قَالُوا مَا أَغْنَى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ(48)أَهَؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لا يَنَالُهُمْ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ(49)}



{وَنَادَى أَصْحَابُ الأَعْرَافِ رِجَالاً يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ} أي من أهل النار وهم رؤساء الكفرة {قَالُوا مَا أَغْنَى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ} أي أيُّ شيء نفعكم جمعكم للمال واستكباركم عن الإِيمان؟ والاستفهام للتوبيخ {أَهَؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لا يَنَالُهُمْ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ} أي أهؤلاء المؤمنون الضعفاء الذين كنتم في الدنيا تسخرون منهم وتحلفون أن الله لا يدخلهم الجنة، والاستفهام استفهام تقرير وتوبيخ وشماتة يوبخونهم بذلك {ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ} أي يقولون للمؤمنين ادخلوا الجنة رغم أنوف الكافرين. قال الألوسي: هذا من كلام أصحاب الأعراف يقولون لأهل الجنة المشار إليهم: دوموا في الجنة غير خائفين ولا محزونين على أكمل سرور وأتم كرامة.



عاقبة الجاحدين بآيات الله تعالى



{وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنْ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمْ اللَّهُ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ(50)الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا وَغَرَّتْهُمْ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ نَنسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا وَمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ(51)}



{وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنْ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمْ اللَّهُ} يخبر تعالى عن المحاورة بين أهل النار وأهل الجنة بعد أن استقر بكلٍ من الفريقين القرار واطمأنت به الدار، وعن استغاثتهم بهم عند نزول عظيم البلاء من شدة العطش والجوع والمعنى ينادونهم يوم القيامة أغيثونا بشيء من الماء لنسكن به حرارة النار والعطش أو مما رزقكم الله من غيره من الأشربة فقد قتلنا العطش {قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ} أي منع الكافرين شراب الجنة وطعامها، قال ابن عباس: ينادي الرجل أخاه وأباه فيقول: قد احترقت فأفض عليَّ من الماء! فيقال لهم أجيبوهم فيقولون: إن الله حرمهما على الكافرين، ثم وصف تعالى الكافرين بقوله {الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا} أي هزءوا من دين الله وجعلوا الدين سخرية ولعباً {وَغَرَّتْهُمْ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا} أي خدعتهم بزخارفها العاجلة وشهواتها القاتلة وهذا شأنها مع أهلها تغرُّ وتضر، وتخدع ثم تصرع {فَالْيَوْمَ نَنسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا} أي ففي هذا اليوم نتركهم في العذاب كما تركوا العمل للقاء يومهم هذا فلم يخطر ببالهم ولم يهتموا به. قال الألوسي: الكلام خارجٌ مخرج التمثيل أي نتركهم في النار وننساهم مثل نسيانهم لقاء هذا اليوم العظيم الذي لا ينبغي ألا يُنسى. وقال ابن كثير: أي يعاملهم معاملة من نسيهم لأنه تعالى لا يشذّ عن علمه شيءٌ ولا ينساه {وَمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ} أي وكما كانوا منكرين لآيات الله في الدنيا، يكذبون بها ويستهزؤون، ننساهم في العذاب ويتركون.



حجية القرآن على البشر وحال المكذبين يوم القيامة



{ولَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ(52)هَلْ يَنظُرُونَ إِلا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ(53)}



{ولقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ} أي ولقد جئنا أهل مكة بكتاب هو القرآن العظيم {فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ} أي بيّنا معانيه ووضحنا أحكامه على علم منا حتى جاء قيّماً غير ذي عوج {هُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} أي هداية ورحمة وسعادة لمن آمن به {هَلْ يَنظُرُونَ إِلا تَأْوِيلَهُ} أي ما ينتظر أهل مكة إلا عاقبة ما وُعدوا به من العذاب والنكال. قال قتادة: تأويله عاقبتُه {يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ} هو يوم القيامة {يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ} أي يقول الذين ضيّعوا وتركوا العمل بهفي الدنيا {قَدْ جَاءتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ} أي جاءتنا الرسل بالأخبار الصادقة وتحقق لنا صدقهم فلم نؤمن بهم ولم نتبعهم، قال الطبري: أقسم المساكين حين حلّ بهم العقاب أن رسل الله قد بلّغتهم الرسالة ونصحتْ لهم وصدّقَتْهم حين لا ينفعهم ولا ينجيهم من سخط الله كثرةُ القيل والقال {فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا} أي هل لنا اليوم شفيع يخلصنا من هذا العذاب؟ استفهام فيه معنى التمني {أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ} أي هل لنا من عودة إلى الدنيا لنعمل صالحاً غير ما كنا نعمله من المعاصي وقبيح الأعمال؟ قال تعالى ردّاً عليهم {قَدْ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} أي خسروا أنفسهم حيث ابتاعوا الخسيس الفاني من الدنيا بالنفيس الباقي من الآخرة، وبطل عنهم ما كانوا يزعمونه من شفاعة الآلهة والأصنام.



دلائل القدرة والوحدانية



{إِنَّ رَبَّكُمْ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ(54)}



ثم ذكر تعالى دلائل القدرة والوحدانية فقال {إِنَّ رَبَّكُمْ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ} أي إن معبودكم وخالقكم الذي تعبدونه هو المنفرد بقدرة الإِيجاد الذي خلق السماوات والأرض في مقدار ستة أيام من أيام الدنيا، قال القرطبي: لو أراد خلقها في لحظة ولكنه أراد أن يعلِّم العبادَ التثبت في الأمور {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} أي استواءً يليق بجلاله من غير تشبيه ولا تمثيل ولا تعطيلٍ ولا تحريف كما هو مذهب السلف وكما قال الإِمام مالك رحمه الله: الاستواء معلوم، والكَيْفُ مرفوع، والإِيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة وقال الإِمام أحمد رحمه الله: أخبارُ الصفات تُمرُّ كما جاءت بلا تشبيه ولا تعطيل فلا يقال: كيف؟ ولِمَ؟ نؤمن بأن الله على العرش بلا حدٍّ ولا صفةٍ يبلغها واصف أو يحدها حادُّ، نقرأ الآية والخبر ونؤمن بما فيهما ونَكِلُ المعنى في الصفات إلى علم الله عز وجل. {يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا} أي يغطي الليل على النهار فيذهب بضوئه ويطلبه سريعاً حتى يدركه {وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ} أي الجميع تحت قهره ومشيئته وتسخيره {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ} أي له الملك والتصرف التام في الكائنات {تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} أي تعظّم وتمجّد الخالق المبدع رب العالمين.



الحث على الدعاءِ والبعدِ عن الإفساد



{ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ(55)وَلا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنْ الْمُحْسِنِينَ(56)}



{ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً} أي ادعوا الله تذللاً وسراً بخشوع وخضوع {إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} أي لا يحب المعتدين في الدعاء بالتشدق ورفع الصوت وفي الحديث (إنكم لا تدعون أصمَّ ولا غائباً) {وَلا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا} أي لا تفسدوا في الأرض بالشرك والمعاصي بعد أن أصلحها الله ببعثة المرسلين {وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا} أي خوفاً من عذابه وطمعاً في رحمته {إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنْ الْمُحْسِنِينَ} أي رحمته تعالى قريبة من المطيعين الذين يمتثلون أوامره ويتركون زواجره.



أمثال ومقارنات تدل على قدرة الله الباهرة



{وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ(57)وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلا نَكِدًا كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ(58)}



{وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ} أي يرسل الرياح مبشرة بالمطر، قال في البحر: ومعنى بين يدي رحمته أي أمام نعمته وهو المطر الذي هو من أجلٌ النعم وأحسنها أثراً على الإِنسان {حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالا} أي حتى إذا حملت الرياح سحاباً مثقلاً بالماء {سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ} أي سقنا السحاب إلى أرض ميتة مجدبة لا نبات فيها {فَأَنزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ} أي أنزلنا في ذلك البلد الميت الماء فأخرجنا بذلك الماء من كل أنواع الثمرات {كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} أي مثل هذا الإِخراج نُخرج الموتى من قبورهم لعلكم تعتبرون وتؤمنون. قال ابن كثير: وهذا المعنى كثير في القرآن يضرب الله المثل ليوم القيامة بإحياء الأرض بعد موتها ولهذا قال لعلكم تذكرون {وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ} أي الأرضُ الكريمةُ التربة يَخْرج النبات فيها وافياً حسناً غزير النفع بمشيئة الله وتيسيره، وهذا مثل للمؤمن يسمع الموعظة فينتفع بها {وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلا نَكِدًا} أي والأرض إذا كانت خبيثة التربة كالحرّة أو السبخة لا يخرج النبات فيها إلا بعسر ومشقة وقليلاً لا خير فيه، وهذا مثلٌ للكافر الذي لا ينتفع بالموعظة، قال ابن عباس: هذا مثلٌ ضربه الله للمؤمن والكافر، فالمؤمن طيّب وعمله طيب كالأرض الطيبة ثمرها طيب، والكافر خبيثٌ وعملهُ خبيث كالأرض السبخة المالحة لا ينتفع بها {كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ} أي كما ضربنا هذا المثل كذلك نبيّن وجوه الحجج ونكررها آية بعد آية، وحجة بعد حجة لقوم يشكرون الله على نعمه، وإنما خصّ الشاكرين بالذكر لأنهم المنتفعون بسماع القرآن. قال الألوسي: أي مِثلَ هذا التصريف البديع نردِّد الآيات الدالة على القدرة الباهرة ونكررها لقومٍ يشكرون نعم الله تعالى، وشكرُها بالتفكر والاعتبار بها.



دعوة نوح لقومه وعاقبة تكذيبهم إيَّاه



{لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ(59)قَالَ الْمَلأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ(60)قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلالَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ(61)أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي وَأَنصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ(62)أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُوا وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ(63)فَكَذَّبُوهُ فَأَنجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا عَمِينَ(64)}



{لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ} اللام جواب قسمٍ محذوف أي والله لقد أرسلنا نوحاً، ونوحٌ شيخ الأنبياء لأنه أطولهم عمراً وهو أول نبيّ بعثه الله بعد إدريس، ولم يلق نبيٌّ من الأذى مثل نوح {فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} أي وحّدوا الله ولا تشركوا به فما لكم إلهٌ مستحقٌ للعبادة غيره {إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} أي إِن أشركتم به ولم تؤمنوا فأنا أخاف عليكم عذاب يومٍ عظيم هو يوم القيامة {قَالَ الْمَلأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} أي قال الأشراف والسادة من قومه إنا لنراك يا نوح في ذهابٍ عن طريق الحق والصواب واضح جلي، قال أبو حيان: ولم يجبه من قومه إلا أشرافُهم وسادتهم وهم الذين ينكرون على الرسل لانغماس عقولهم بالدنيا وطلب الرياسة، وهكذا حال الفجار إنما يرون الأبرار في ضلالة {قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلالَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} أي ما أنا بضال ولكنْ أنا مرسل إليكم من عند ربكم المالك لأموركم الناظر لكم بالمصلحة {أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي وَأَنصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنْ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} أي أنا أبلغكم ما أرسلني الله به إليكم وأقصد صلاحكم وخيركم وأعلم من الأمور الغيبية أشياء لا علم لكم بها. قال ابن كثير: وهذا شأن الرسول أن يكون مبلغاً فصيحاً ناصحاً عالماً بالله لا يدركه أحد من خلق الله في هذه الصفات {أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ} أي لا تعجبوا من هذا فإِن هذا ليس بعجيب أن يوحي الله إلى رجل منكم رحمة بكم ولطفاً وإِحساناً إليكم {لِيُنذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُوا وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} أي ليخوفكم هذا الرسول من العذاب إن لم تؤمنوا ولتتقوا ربكم وتنالكم الرحمة بتقواه {فَكَذَّبُوهُ فَأَنجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ} أي كذبوا نوحاً مع طول مدة إقامته فيهم فأنجاه الله والمؤمنين معه في السفينة {وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا} أي أهلكنا المكذبين منهم بالغرق {إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا عَمِينَ} أي عميت قلوبهم عن الحق فهم لا يبصرونه ولا يهتدون له. قال ابن عباس: عميتْ قلوبهم عن معرفة التوحيد والنبوة والمعاد.



معاناة هود في دعوة قومه ونتيجة التمرد والعتو والطغيان



{وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ(65)قَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ(66)قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ(67)أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ(68) أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنذِرَكُمْ وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَصْطَةً فَاذْكُرُوا ءالاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ(69)قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ ءابَاؤُنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ(70)قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وءابَاؤُكُمْ مَا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ فَانتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنتَظِرِينَ(71)فَأَنجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَمَا كَانُوا مُؤْمِنِينَ(72)}



{وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا} أي وأرسلنا إلى قوم عاد أخاهم هوداً وكانت مساكنهم بالأحقاف باليمن {قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} أي قال لهم رسولهم وحّدوا الله فليس لكم إله غيره {أَفَلا تَتَّقُونَ} أي أفلا تخافون عذابه؟ {قَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ} أي قال السادة والقادة منهم {إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ} أي نراك في خفة حلم وسخافة عقل وإننا لنظنك من الكاذبين في ادعائك الرسالة {قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} أي ليس بي كما تزعمون نقص في العقل ولكني مرسل إليكم بالهداية من رب العالمين {أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ} أي أبلغكم أوامر الله وأنا ناصح لكم فيما أدعوكم إليه، أمينٌ على ما أقول لا أكذب فيه. قال الزمخشري: وفي إجابة الأنبياء عليهم السلام ممَّنْ نسبَهم إلى السفاهة والضلالة - بما أجابوهم به من الكلام الصادر عن الحلم وترك المقابلة - أدبٌ حسنٌ وخُلُق عظيم، وتعليم للعباد كيف يخاطبون السفهاء ويسبلون أذيالهم على ما يكون منهم {أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنذِرَكُمْ} أي لا تعجبوا أن بعث الله إليكم رسولاً من أنفسكم لينذركم لقاء الله ويخوفكم عذابه {وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ} أي اذكروا نعمة الله حين استخلفكم في الأرض بعد إهلاك قوم نوح {وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَصْطَةً} أي زاد في أجسامكم قوةً وضخامة {فَاذْكُرُوا ءالاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} أي اذكروا نعم الله عليكم كي تفلحوا وتفوزوا بالسعادة {قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ ءابَاؤُنَا} أي أجئتنا يا هود تتوعدنا بالعذاب كي نعبد الله وحده ونهجر عبادة الآلهة والأصنام ونتبرأ منها؟ {فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} أي فأتنا بما تعدنا من العذاب فلن نؤمن لك إن كنت من الصادقين في قولك {قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ} أي قد حلّ بكم عذاب وغضب من الله {أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَءابَاؤُكُمْ مَا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِنَ سُلْطَانٍ} أي أتخاصمونني في أصنام لا تضر ولا تنفع ما أنزل الله بعبادتها من حجة أو برهان {فَانتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنْ الْمُنتَظِرِينَ} أي فانتظروا نزول العذاب إني من المنتظرين لما يحل بكم وهذا غاية الوعيد والتهديد {فَأَنجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا} أي أنجينا هوداً والذين معه من المؤمنين رحمة منا لهم {وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا} أي استأصلناهم بالكلية ودمرناهم عن آخرهم {وَمَا كَانُوا مُؤْمِنِينَ} أي كذبوا ولم يؤمنوا فاستحقوا العذاب. قال أبو السعود: أي أصروا على الكفر والتكذيب ولم يرعووا عن ذلك أبداً فأهلكهم الله بالريح العقيم.



قصة صالح عليه السلام مع قومه



{وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ ءايَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ(73)وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا فَاذْكُرُوا ءالاءَ اللَّهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ(74)قَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ ءامَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحًا مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ(75)قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي ءامَنتُمْ بِهِ كَافِرُونَ(76)فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقَالُوا يَاصَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ(77)فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ(78)فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَاقَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِنْ لا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ(79)}



{وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} أي وحّدوا الله ولا تشركوا به {قَدْ جَاءتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ} أي معجزة ظاهرة جلية تدل على صحة نبوتي {هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ ءايَةً} هذا بيانٌ للمعجزة أي هذه الناقة معجزتي إليكم وإضافتها إلى الله للتشريف والتعظيم لأنها خلقت بغير واسطة. قال القرطبي: أخرج لهم الناقة حين سألوه من حجر صلد {فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ} أي اتركوها تأكل من رزق ربها {وَلا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} أي لا تتعرضوا لها بشيءٍ من السوء أصلاً إكراماً لها لأنها آية الله، والعذاب الأليم هو ما حلَّ بهم حين عقروها {وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ} أي خلفاء في الأرض، قال الشهاب: لم يقل خلفاء عاد إشارة إلى أن بينهما زماناً طويلاً { وَبَوَّأَكُمْ فِي الأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُورًا} أي أسكنكم في أرض الحِجْر تبنون في سهولها قصوراً رفيعة {وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا} أي تنحتون الجبال لسكناكم، قال القرطبي: اتخذوا البيوت في الجبال لطول أعمارهم فإن الأبنية كانت تبلى قبل فناء أعمارهم {فَاذْكُرُوا ءالاءَ اللَّهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ} أي اذكروا نعم الله عليكم واشكروه على ما تفضل به ولا تعيثوا في الأرض فساداً {قَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ ءامَنَ مِنْهُمْ} أي قال الأشراف المستكبرون من قوم صالح للمؤمنين المستضعفين من أتباع صالح عليه السلام {أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحًا مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ} أي أن الله أرسله إلينا وإِليكم، وهذا قالوه على سبيل السخرية والاستهزاء {قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ} أي أجابوهم بالأسلوب الحكيم بالإِيمان برسالته. قال أبو حيان: وعدولهم عن قولهم هو مرسل إلى قولهم {إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ} في غاية الحسن إذْ أمر رسالته معلوم واضح مسلَّم لا يدخله ريب لما أتى به من هذا المعجز الخارق العظيم فلا يحتاج أن يسأل عن رسالته {قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي ءامَنتُمْ بِهِ كَافِرُونَ} أي قال المستكبرون نحن كافرون بما صدَّقتم به من نبوة صالح وإنما لم يقولوا إنا بما أرسل به كافرون إظهاراً لمخالفتهم إياهم ورداً لمقالتهم {فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ} أي نحروا الناقة واستكبروا عن امتثال أمر الله {وَقَالُوا يَاصَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ} أي جئنا يا صالح بما تعدنا من العذاب الذي تخوفنا به إن كنت يا صالح حقاً رسولاً، قالوا ذلك استهزاء به وتعجيزاً {فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ} أخذتهم الزلزلة الشديدة فصاروا في منازلهم هامدين موتى لا حِراك بهم. قال في البحر: أخذتهم صيحة من السماء فيها صوت كل صاعقة وصوتُ كل شيء له صوتٌ في الأرض فقطعت قلوبهم وهلكوا {فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَاقَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ} أي أدبر عنهم صالح بعد هلاكهم ومشاهدة ما جرى عليهم وقال على سبيل التفجع والتحسر عليهم: لقد بلّغتكم الرسالة وحذرتكم عذاب الله وبذلت وسعي في نصيحتكم ولكن شأنكم الاستمرار على بغض الناصحين وعداوتهم {وَلَكِنْ لا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ} قال الزمخشري حكاية حال ماضية قد يقول الرجل لصاحبه وهو ميت -وكان قد نصحه حياً فلم يسمع منه حتى ألقى بنفسه في التهلكة-: يا أخي كم نصحتك وكم قلت لك فلم تقبل مني؟



فاحشة مبتكرة عند قوم لوط



{وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ(80)إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ(81)وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ(82)فَأَنجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ(83)وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ(84)}



{وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ} أي واذكر وقت أن قال لوط لقومه أهل سدوم على سبيل الإِنكار والتوبيخ: أتفعلون تلك الفعلة الشنيعة المتناهية في القبح التي ما عملها أحد قبلكم في زمنٍ من الأزمان! والفاحشة هي إتيان الذكور في الأدبار، أنكر عليهم أولاً فعلها ثم وبخهم بأنهم أول من فعلها. قال أبو حيان: ولما كان هذا الفعل معهوداً قبحه، ومركوزاً في العقول فحشه أتى به معرفاً بالألف واللام {الْفَاحِشَةَ} بخلاف الزنى فإنه قال فيه {إنه كان فاحشة} فأتى به منكراً، والجملة المنفية {مَا سَبَقَكُمْ} تدل على أنهم أول من فعل هذه الفعلة القبيحة وأنهم مبتكروها، والمبالغة في {مِنْ أَحَدٍ} حيث زيدت مِنْ لتأكيد نفي الجنس، وفي الإِتيان بعموم {الْعَالَمِينَ} جمعاً قال عمرو بن دينار: ما رؤي ذكرٌ على ذكر قبل قوم لوط {إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ} هذا بيانٌ للفاحشة وهو توبيخٌ آخر أشنع مما سبق لتأكيده بإنَّ وباللام أي إنكم أيها القوم لتأتون الرجال في أدبارهم شهوة منكم لذلك الفعل الخبيث المكروه دون ما أحله الله لكم من النساء ثم أضرب عن الإِنكار إلى الإِخبار عنهم بالحال التي توجب ارتكاب القبائح واتباع الشهوات فقال {بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ} أي لا عذر لكم بل أنتم عادتكم الإسراف وتجاوز الحدود في كل شيء. قال أبو السعود: وفي التقييد بقوله {شَهْوَةً} وصفٌ لهم بالبهيمية الصِّرفة وتنبيهٌ على أن العاقل ينبغي أن يكون الداعي له إلى المباشرة طلب الولد وبقاء النسل لاقضاء الشهوة {وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ} أي ما كان جوابهم للوطٍ إذ وبخهم على فعلهم القبيح إلا أن قال بعضهم لبعض: أخرجوا لوطاً وأتباعه المؤمنين من بلدتكم لأنهم أناس يتنزهون عما نفعله نحن من إتيان الرجال في الأدبار، قال ابن عباس ومجاهد: {إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ} أي يتقذرون عن إتيان أدبار الرجال والنساء، قالوا ذلك سخرية واستهزاءً بلوط وقومه وعابوهم بما يمدح به الإِنسان {فَأَنجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ} أي أنجيناه من العذاب الذي حلّ بقومه وأهله المؤمنين إلا امرأته فلم تنج وكانت من الباقين في ديارهم الهالكين. قال الطبري: أي أنجينا لوطاً وأهله المؤمنين به إلا امرأته فإنها كانت للوطٍ خائنة وبالله كافرة فهلكت مع من هلك من قوم لوط حين جاءهم العذاب {وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا} أي أرسلنا عليهم نوعاً من المطر عجيباً هو حجارة من سجيل كما في الآية الأخرى { وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ} وشبه العذاب بالمطر المدرار لكثرته حيث أرسل إرسال المطر {فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ} أي انظر أيها السامع إلى عاقبة هؤلاء المجرمين كيف كانت؟ وإلى أي شيءٍ صارت؟ هل كانت إلا البوار والهلاك؟!



شعيب عليه السلام يدعو قومه إلى توحيد الله وترك كل أنواع الإيذاء



{وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ(85)وَلا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ ءامَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا وَاذْكُرُوا إِذْ كُنتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ وَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ(86)وَإِنْ كَانَ طَائِفَةٌ مِنْكُمْ ءامَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطَائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنَا وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ(87)}



{وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} أي وأرسلنا إلى أهل مدين شعيباً داعياً لهم إلى توحيد الله وعبادته. قال ابن كثير: ومدين تطلق على القبيلة وعلى المدينة وهي التي بقرب "معان" من طريق الحجاز وهم أصحاب الأيكة كما سنذكره {قَدْ جَاءتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ} أي معجزة تدل على صدقي {فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ} أي أتموا للناس حقوقهم بالكيل الذي تكيلون به والوزن الذي تزنون به {وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ} أي لا تظلموا الناس حقوقهم ولا تُنْقصوهم إياها {وَلا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا} أي لا تعملوا بالمعاصي بعد إصلاحها ببعثة الرسل {ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ} أي ما أمرتكم به من إخلاص العبادة لله وإيفاء الناس حقوقهم وترك الفساد في الأرض خير لكم إن كنتم مصدقين لي في قولي {وَلا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ ءامَنَ بِهِ} أي لا تجلسوا بكل طريق تخوّفون من آمن بالقتل. قال ابن عباس: كانوا يقعدون على الطرقات المفضية إلى شعيب فيتوعدون من أراد المجيء إليه ويصدونه ويقولون: إنه كذاب فلا تذهب إليه على نحو ما كانت تفعله قريش مع رسول الله صلى الله عليه وسلم {وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا} أي تريدون أن تكون السبيل معوجة غير مستقيمة بمعنى تصويرهم أن دين الله غير مستقيم كما يقول الضالون في هذا الزمان: "هذا الدين لا ينطبق مع العقل" لأنه لا يتمشى مع أهوائهم الفاجرة {وَاذْكُرُوا إِذْ كُنتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ} أي كنتم قلة مستضعفين فأصبحتم كثرة أعزة فاشكروا الله على نعمته {وَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ} هذا تهديد لهم أي انظروا ما حلّ بالأمم السابقة حين عصوا الرسل كيف انتقم الله منهم واعتبروا بهم {وَإِنْ كَانَ طَائِفَةٌ مِنْكُمْ ءامَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطَائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنَا وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ} أي إذا كان فريق صدقوني فيما جئتهم به وفريق لم يصدقوني فاصبروا حتى يفصل الله بحكمه العادل بيننا وهو خير الفاصلين. قال أبو حيان: هذا الكلام من أحسن ما تلطّف به في المحاورة إذا برز المتحقق في صورة المشكوك وهو من بارع التقسيم فيكون وعداً للمؤمنين بالنصر ووعيداً للكافرين بالعقوبة والخسارة.



{قَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَاشُعَيْبُ وَالَّذِينَ ءامَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ(88)قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ(89)وَقَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْبًا إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ(90)فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ(91)الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَانُوا هُمُ الْخَاسِرِينَ(92)فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَاقَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ ءاسَى عَلَى قَوْمٍ كَافِرِينَ(93)}



{قَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ} أي قال أشراف قومه المستكبرين عن الإِيمان بالله ورسله { لَنُخْرِجَنَّكَ يَاشُعَيْبُ وَالَّذِينَ ءامَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا} أقسموا على أحد الأمرين: إما إخراج شعيب وأتباعه وإما العودة إلى ملتهم أي إلى الكفر والمعنى لنخرجنك يا شعيب ومن آمن بك من بين أظهرنا أو لترجعن أنت وهم إلى ديننا قال شعيب مجيباً لهم {أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ} أي أتجبروننا على الخروج من الوطن أو العودة في ملتكم ولو كنّا كارهين لذلك؟ والاستفهام للإِنكار{قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا} أي إِن عدنا إِلى دينكم بعد أن أنقذنا الله منه بالإِيمان وبصّرنا بالهدى نكون مختلقين على الله أعظم أنواع الكذب، وهذا تيئيسٌ للكفار من العودة إلى دينهم {وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا} أي لا ينبغي ولا يصح لنا أن نعود إلى ملتكم ودينكم إلا إذا شاء الله لنا الانتكاس والخذلان فيمضي فينا قضاؤه {وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا} أي وسع علمه كل الأشياء {عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا} أي اعتمادنا على الله وهو الكافي لمن توكل عليه {رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ} أي احكم بيننا وبينهم بحكمك الحق الذي لا جور فيه ولا ظلم وأنت خير الحاكمين {وَقَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْبًا إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ} أي قال الأشراف من قومه الفجرة الكفرة: إذا اتبعتم شعيباً وأجبتموه إلى ما يدعوكم إليه إنكم إذاً لخاسرون لاستبدالكم الضلالة بالهدى قال تعالى {فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ} أي فأخذتهم الزلزلة العظيمة فأصبحوا ميّتين جاثمين على الركب {الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا} أي أهلك الله المكذبين كأنهم لم يقيموا في ديارهم منعَّمين {الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَانُوا هُمُ الْخَاسِرِينَ} إخبارٌ عنهم بالخسار بعد الهلاك والدمار {فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَاقَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ} قاله تأسفاً لشدة حزنه عليهم لأنهم لم يتبعوا نصحه {فَكَيْفَ ءاسَى عَلَى قَوْمٍ كَافِرِينَ} أي كيف أحزن على من لا يستحق أن يُحزن عليه، قال الطبري: أي كيف أحزن على قوم جحدوا وحدانية الله وكذبوا رسوله وأتوجع لهلاكهم؟



سنة الله في التضييق على الأمم قبل إهلاكها



{وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلاَّ أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ(94)ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا وَقَالُوا قَدْ مَسَّ ءابَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ(95)}



{وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ} في الكلام حذفٌ أي وما أرسلنا في قرية من نبي فكذبه أهلها {إِلاَّ أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ} أي عاقبناهم بالبؤس والفقر، والمرض وسوء الحال {لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ} أي كي يتضرعوا ويخضعوا ويتوبوا من ذنوبهم {ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ} أي ثم أبدلناهم بالفقر والمرض، الغنى والصحة {حَتَّى عَفَوا} أي حتى كثروا ونموا {وَقَالُوا قَدْ مَسَّ ءابَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ} أي أبطرتهم النعمة وأشروا فقالوا كفراناً لها: هذه عادة الدهر وقد مسّ آباءنا مثل ذلك من المصائب ومن الرخاء وليست بعقوبة من الله فلنبق على ديننا، والغرضُ أن الله ابتلاهم بالسيئة لينيبوا إليه فما فعلوا، ثم بالحسنة ليشكروا فما فعلوا، فلم يبق إلا أن يأخذهم بالعذاب ولهذا قال تعالى {فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} أي أخذناهم بالهلاك والعذاب فجأةً من حيث لا يدرون.



الترغيب بالإيمان والترهيب من الكفر



{وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى ءامَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ(96)أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ(97)أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ(98)أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ(99)أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِهَا أَنْ لَوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ(100)}



{وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى ءامَنُوا وَاتَّقَوْا} أي ولو أن أهل تلك القرى الذين كَذَّبوا وأُهلكواآمنوا بالله ورسله واتقوا الكفر والمعاصي {لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ} أي لوسّعنا عليهم الخير من كل جانب وقيل: بركاتُ السماء المطرُ، وبركات الأرض الثمارُ، قال السدي: فتحنا عليهم أبواب السماء والأرض بالرزق {وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} أي ولكنْ كذّبوا الرسل فعاقبناهم بالهلاك بسوء كسبهم {أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ} الهمزة للإِنكار أي هل أمن هؤلاء المكذبون أن يأتيهم عذابنا ليلاً وهم نائمون غافلون عنه؟ {أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ}؟ أم هل أمنوا أن يأتيهم عذابنا ونكالنا نهاراً جهاراً وهم يلهون ويشتغلون بما لا يُجدي كأنهم يلعبون؟ {أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} أي أفأمنوا استدراجه إياهم بالنعمة حتى يهلكوا في غفلتهم؟ فإنه لا يأمن ذلك إلا القوم الذين خسروا عقولهم وإنسانيتهم فصاروا أخسَّ من البهائم. قال الحسن البصري: المؤمن يعمل بالطاعات وهو مشفقٌ خائفٌ وجلٌ، والفاجر يعمل بالمعاصي وهو مطمئن آمن {أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِهَا} أي أولم يتضح ويتبيّن للذين يخلفون الأرض بعد هلاك أهلها الذين كانوا يعمرونها قبلهم، والمراد بها كفار مكة ومن حولهم {أَنْ لَوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ} أي لو أردنا لأهلكناهم بسبب ذنوبهم كما أهلكنا من قبلهم. قال في البحر: أي قد علمتم ما حلّ بهم أفما تحذرون أن يحل بكم ما حلّ بهم فذلك ليس بممتنع علينا لو شئنا {وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ} أي ونختم على قلوبهم فلا يقبلون موعظةً ولا تذكيراً ولا ينتفعون بسماعهما.



العبرة من قصص الماضين



{تِلْكَ الْقُرَى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَائِهَا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الْكَافِرِينَ(101)وَمَا وَجَدْنَا لأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ(102)}



{تِلْكَ الْقُرَى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَائِهَا} أي تلك القرى المذكورة نقصُّ عليك يا محمد بعض أخبارها وما حصل لأهلها من الخسف والرجفة والرجم بالحجارة ليعتبر بذلك من يسمع وما حدث أهولُ وأفظع {وَلَقَدْ جَاءتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ} أي جاءتهم بالمعجزات والحجج القاطعات {فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ} أي ما كانوا ليؤمنوا بما جاءتهم به لرسل لتكذيبهم إياهم قبل مجيئهم بالمعجزات وبعد مجيئهم بها فحالهم واحد في العتو والضلال. قال الزمخشري: أي استمروا على التكذيب من لدنْ مجيء الرسل إليهم إلى أن ماتوا مصرّين لا يرعوون مع تكرر المواعظ عليهم وتتابع الآيات {كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الْكَافِرِينَ} أي مثل ذلك الطبع الشديد المحكم نطبع على قلوب الكافرين فلا يكاد يؤثر فيهم النُّذر والآيات، وفيه تحذير للسامعين {وَمَا وَجَدْنَا لأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ} أي ما وجدنا لأكثر الناس من وفاء للعهد بل وجدناهم خارجين عن الطاعة والامتثال، قال ابن كثير: والعهد الذي أخذه هو ما فطرهم عليه وأخذه عليهم في الأصلاب أنه ربهم ومليكهم فخالفوه وعبدوا مع الله غيره بلا دليل ولا حجة من عقل ولا شرع.



قصة موسى عليه السلام مع فرعون



{ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلإِيْهِ فَظَلَمُوا بِهَا فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ(103)وَقَالَ مُوسَى يَافِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ(104)حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرَائِيلَ(105)قَالَ إِنْ كُنتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِهَا إِنْ كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ(106)فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ(107)وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ(108)قَالَ الْمَلأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ(109)يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ(110)قَالُوا أَرْجِهِ وَأَخَاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ(111)يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ(112)وَجَاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قَالُوا إِنَّ لَنَا لأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ(113)قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ(114)قَالُوا يَامُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ(115)قَالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ(116)}.



{ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى بِآيَاتِنَا} أي ثم بعثنا من بعد الرسل المتقدم ذكرهم موسى بن عمران بالمعجزات الباهرات والحجج الساطعات {إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلإِيْهِ} أي أرسلناه إلى فرعون - ملك مصر في زمن موسى - وقومه {فَظَلَمُوا بِهَا} أي كفروا وجحدوا بها ظلماً وعناداً {فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ} أي انظر أيها السامع ما آل إليه أمر المفسدين الظالمين كيف أغرقناهم عن آخرهم بمرأى من موسى وقومه، وهذا أبلغُ في النكال لأعداء الله، وأشفى لقلوب أولياء الله {وَقَالَ مُوسَى يَافِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} أي إني رسولٌ إليك من الخالق العظيم رب كل شيء وخالقه ومليكه {حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلا الْحَقَّ} أي جديرٌ بي وحقٌ عليَّ أن لا أخبر عن الله إلا بما هو حقٌ وصدق لما أعلم من جلاله وعظيم شأنه {قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرَائِيلَ} أي جئتكم بحجة قاطعة من الله تشهد على صدقي فخلِّ واترك سبيل بني إسرائيل حتى يذهبوا معي إلى الأرض المقدسة التي هي وطنُ آبائهم. قال أبو حيان: ولما كان فرعون قد ادعى الربوبية فاتحه موسى بقوله {إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} لينبهه على الوصف الذي ادعاه وأنه فيه مبطلٌ لا محقٌ، ولما كان قوله {حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلا الْحَقَّ} أردفها بما يدل على صحتها وهو قوله {قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ} ولما قرّر رسالته فرَّع عليها تبليغ الحكم وهو قوله {فَأَرْسِلْ مَعِي بَنِي إِسْرَائِيلَ} {قَالَ إِنْ كُنتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِهَا إِنْ كُنتَ مِنْ الصَّادِقِينَ} أي قال فرعون لموسى: إن كنت جئت بآية من ربك كما تدّعي فأحضرها عندي ليثبت بها صدقك في دعواك، قال ذلك على سبيل التعجيز لموسى {فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ} أي فإذا بها حية ضخمة طويلة. قال ابن عباس: تحولت إلى حية عظيمة فاغرة فاها مسرعةً نحو فرعون و {مُبِينٌ} أي ظاهر لا متخيَّل {وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ} أي أخرجها من جيبه فإذا هي بيضاء بياضاً نورانياً عجيباً يغلب نورها نور الشمس. قال ابن عباس: كان ليده نور ساطع يضيء ما بين السماء والأرض {قَالَ الْمَلأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ} أي قال الأشراف منهم وهم أصحاب مشورته إن هذا عالمٌ بالسحر ماهرٌ فيه، وقولهم {عَلِيمٌ} أي بالغٌ الغاية في علم السحر وخدعه وفنونه {يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ} أي يخرجكم من أرض مصر بسحره {فَمَاذَا تَأْمُرُونَ} أي بأي شيء تأمرون أن نفعل في أمره؟ وبأي شيء تشيرون فيه؟ قال القرطبي: قال فرعون: فماذا تأمرون وقيل: هو من قول الملأ أي قالوا لفرعون وحده {فَمَاذَا تَأْمُرُونَ} كما يُخاطب الجبارون والرؤساء: ما ترون في كذا، {قَالُوا أَرْجِهِ وَأَخَاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ} أي أخِّر أمرهما حتى ترى رأيك فيهما وأرسل في أنحاء البلاد من يجمع لك السحرة {يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ} أي يأتوك بكل ساحرٍ مثله ماهر في السحر، وكان رؤساء السحرة بأقصى صعيد مصر {وَجَاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قَالُوا إِنَّ لَنَا لأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ} في الكلام محذوفٌ يدل عليه السياق وهو أنه بعث إلى السحرة وطلب أن يُجمعوا له فلما جاءوا فرعون قالوا: إنَّ لنا لأجراً عظيماً إن نحن غلبنا موسى وهزمناه وأبطلنا سحره؟ {قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنْ الْمُقَرَّبِينَ} أي قال فرعون: نعم لكم الأجر وأزيدكم على ذلك بأن أجعلكم من المقربين أي من أعزّ خاصتي وأهل مشورتي. قال القرطبي: زادهم على ما طلبوا {قَالُوا يَامُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ} أي قال السحرة لموسى: اختر إمّا أن تُلقي عصاك أو نلقي نحن عصيّنا. قال الزمخشري: تخييرهم إيّاه أدبٌ حسن كما يفعل أهل الصناعات إذا التقوا كالمتناظرين قبل أن يخوضوا في الجدال هذا ما قاله الزمخشري، والأظهر أنهم قالوا ذلك من باب الاعتزاز بالنفس وتوهم الغلبة وعدم الاكتراث بأمر موسى كما يقول المعتد بنفسه: أبدأ أو تبدأ {قَالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ} أي قال لهم موسى ألقوا ما أنتم ملقون فلما ألقوا العصيّ والحبال سحروا أعين الناس أي خيلوا إليهم ما لا حقيقة له كما قال تعالى { يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى} {وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ} أي أفزعوهم وأرهبوهم إرهاباً شديداً حيث خيلوها حياتٍ تسعى وجاءوا بسحر عظيم يهابه من رآه قال ابن اسحق: صُفَّ خمسة عشر ألف ساحر مع كل ساحرٍ حبالُه وعصيُّه وفرعون في مجلسه مع أشراف مملكته فكان أول ما اختطفوا بسحرهم بصر موسى وبصر فرعون، ثم أبصار الناس بعد ثم ألقى رجل منهم ما في يده من العصيّ والحبال فإِذا هي حيات كأمثال الجبال قد ملأت الوادي يركب بعضها بعضاً.



إبطال سحر السحرة، وإيمانهم برب العالمين



{وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ(117)فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ(118)فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانقَلَبُوا صَاغِرِينَ(119)وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ(120)قَالُوا ءامَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ(121)رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ(122)}



{وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ} أي أوحينا إليه بأن ألق عصاك فألقاها فإِذا هي تبتلع بسرعة ما يزوّرونه من الكذب، قال ابن عباس: {تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ} لا تمر بشيء من حبالهم وخشبهم التي ألقوها إلا التقمته {فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} أي ثبت وظهر الحق لمن شهده وحضره، وبطل إفك السحر وكذبه ومخايله {فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانقَلَبُوا صَاغِرِينَ} أي غُلب فرعونُ وقومهُ في ذلك المجمع العظيم وصاروا ذليلين {وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ قَالُوا ءامَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ} أي خرّوا ساجدين معلنين إيمانهم بربّ العالمين لأن الحق بهرهم قال قتادة: كانوا أول النهار كفاراً سحرة وفي آخره شهداء بررة.

yacine414
2011-03-26, 11:11
تهديد فرعون السحرة، وعدم مبالاتهم به



{قَالَ فِرْعَوْنُ ءامَنتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ ءاذَنَ لَكُمْ إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ(123)لأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ ثُمَّ لأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ(124)قَالُوا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنقَلِبُونَ(125)وَمَا تَنقِمُ مِنَّا إِلا أَنْ ءامَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءَتْنَا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ(126)}



{قَالَ فِرْعَوْنُ ءامَنتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ ءاذَنَ لَكُمْ} أي قال فرعون الجبار للسحرة آمنتم بموسى قبل أن تستأذنوني؟ والمقصود بالجملة التوبيخ {إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا} أي صنيعكم هذا حيلةٌ احتلتموها أنتم وموسى في مصر قبل أن تخرجوا إلى الميعاد لتخرجوا منها القبط وتسكنوا بني إسرائيل، قال هذا تمويهاً على الناس لئلا يتبعوا السحرة في الإِيمان {فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} أي فسوف تعلمون ما يحلُّ بكم، وهذا وعيد وتهديد ساقه بطريق الإِجمال للتهويل ثم عقّبه بالتفصيل فقال {لأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ} أي لأقطعنَّ من كل واحد منكم يده ورجله من خلاف. قال الطبري: ومعنى {مِنْ خِلافٍ} هو أن يقطع من أحدهم يده اليمنى ورجله اليسرى، أو يقطع يده اليسرى ورجله اليمنى فيخالف بين العضوين في القطع {ثُمَّ لأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ} أي ثم أصلبكم جميعاً تنكيلاً لكم ولأمثالكم، والصلب التعليق على الخشب حتى الموت {قَالُوا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنقَلِبُونَ} إنّا راجعون إلى الله بالموت لا محالة فلا نخاف مما تتوعدنا به ولا نبالي بالموت وحبذا الموت في سبيل الله {وَمَا تَنقِمُ مِنَّا إِلا أَنْ ءامَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءَتْنَا} أي ما تكره منا ولا تعيب علينا إلا إيماننا بالله وآياته كقوله {وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} قال الزمخشري: أرادوا وما تعيب منا إلا ما هو أصل المناقب والمفاخر كلها وهو الإِيمان {رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ} أي أفضْ علينا صبراً يغمرنا عند تعذيب فرعون إيانا وتوفنا على ملة الإِسلام غير مفتونين.



تحريض فرعون من قومه على موسى، ونصيحته لقومه



{وَقَالَ الْمَلأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَءالِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءهُمْ وَنَسْتَحْيِ نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ(127)قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ(128)قَالُوا أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الأَرْضِ فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ(129)}



{وَقَالَ الْمَلأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَيَذَرَكَ وءالِهَتَكَ} أي قال الأشراف لفرعون: أتترك موسى وجماعته ليفسدوا في الأرض بالخروج عن دينك وترك عبادة آلهتك وفي هذا إغراءٌ لفرعون بموسى وقومه وتحريضٌ له على قتلهم وتعذيبهم {قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِ نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ} أي قال فرعون مجيباً لهم: سنقتل أبناءهم الذكور ونستبقي نساءهم للاستخدام كما كنا نفعل بهم ذلك وإنّا عالون فوقهم بالقهر والسلطان {قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا} أي قال موسى لقومه تسليةً لهم حين تضجروا مما سمعوا: استعينوا بالله على فرعون وقومه فيما ينالكم من أذاهم واصبروا على حكم الله {إِنَّ الأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} أي الأرض كلها لله يعطيها من أراد من عباده، أطمعهم في أن يورثهم الله أرض مصر {وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} أي النتيجة المحمودة لمن اتقى الله {قَالُوا أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا} أي أوذينا من قبل أن تأتينا بالرسالة ومن بعدما جئتنا بها يعنون أن المحنة لم تفارقهم فهم في العذاب والبلاء قبل بعثة موسى وبعد بعثته {قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الأَرْضِ فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ} أي لعل ربكم أن يهلك فرعون وقومه ويجعلكم تخلفونهم في أرضهم بعد هلاكهم وينظر كيف تعملون بعد استخلافكم من الإِصلاح والإِفساد، والغرضُ تحريضهم على طاعة الله، وقد حقق الله رجاء موسى فأغرق فرعون وملّك بني إسرائيل أرض مصر، قال في البحر: سلك موسى طريق الأدب مع الله وساق الكلام مساق الرجاء.



أنواع العذاب لآل فرعون



{وَلَقَدْ أَخَذْنَا ءالَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ(130)فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَلا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ(131)وَقَالُوا مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ ءايَةٍ لِتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ(132)فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ ءايَاتٍ مُفَصَّلاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ(133)}



{وَلَقَدْ أَخَذْنَا ءالَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ} اللام موطئة لقسم محذوف أي والله لقد ابتلينا واختبرنا فرعون وأتباعه بالجدب والقحط {وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ} أي وابتليناهم بإِذهاب الثمار من كثرة الآفات، قال المفسرون: كانت النخلة لا تحمل إلا ثمرة واحدة {لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ} أي لعلهم يتعظون وترقُّ قلوبهم فإِن الشدة تجلب الإِنابة والخشية ورقة القلب، ثم بيّن تعالى أنهم مع تلك المحن والشدائد لم يزدادوا إِلا تمرداً وكفراً فقال {فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ} أي إذا جاءهم الخِصْب والرّخاء قالوا هذه لنا وبسعدنا ونحن مستحقون لذلك {وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ} أي وإِذا جاءهم الجدب والشدة تشاءموا بموسى ومن معهمن المؤمنين أي قالوا: بشؤمهم قال تعالى رداً عليهم {أَلا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ} أي إِن ما يصيبهم من خير أو شر بتقدير الله وليس بشؤم موسى، قال ابن عباس: الأمر من قِبَل الله ليس شؤمهم إِلاّ من قِبَله وحكمه {وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} أي لا يعلمون أن ما لحقهم من القحط والشدائد من عند الله بسبب معاصيهم لا من عند موسى {وَقَالُوا مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ} أي قال قوم فرعون لموسى: أي شيء تأتينا به يا موسى من المعجزات لتصرفنا عما نحن عليه فلن نؤمن لك، قال الزمخشري: فإِن قلت كيف سموها آية ثم قالوا {لِتَسْحَرَنَا بِهَا}؟ قلت: ما سموها آية لاعتقادهم أنها آية وإِنما قصدوا بذلك الاستهزاء والتلهي قال تعالى {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ} أي أرسلنا عليهم المطر الشديد حتى عاموا فيه وكادوا يهلكون، قال ابن عباس: الطوفان كثرة الأمطار المغرقة المتلفة للزروع والثمار {وَالْجَرَادَ} أي وأرسلنا عليهم كذلك الجراد فأكل زروعهم وثمارهم حتى أكل ثيابهم {وَالْقُمَّلَ} وهو السوس حتى نخر حبوبهم وتتّبع ما تركه الجراد وقيل: هو القمل المشهور كان يدخل بين ثوب أحدهم وجلده فيمصه {وَالضَّفَادِعَ} جمع ضفدع حتى ملأت بيوتهم وطعامهم وإِذا تكلم أحدهم وثبت الضفدع إِلى فمه {وَالدَّمَ} أي صارت مياههم دماً فما يستقون من بئر ولا نهر إِلا وجدوه دماً {ءايَاتٍ مُفَصَّلاتٍ} أي علامات ظاهرات فيها عبرٌ وعظاتٌ ومع ذلك استكبروا عن الإِيمان {فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ} أي استكبروا عن الإِيمان بها لغلوهم في الإِجرام.





الرجوع إلى موسى عليه السلام عند وقوع العذاب، وإغراق فرعون وقومه



{وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قَالُوا يَامُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ(134)فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُمْ بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ(135)فَانتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ(136)}



{وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ} أي وحين نزل بهم العذاب المذكور {قَالُوا يَامُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ} أي ادع لنا ربك ليكشف عنا البلاء بحق ما أكرمك به من النبوة، قال الزمخشري: أي أسعفنا إِلى ما نطلب إِليك من الدعاء لنا بحق ما عندك من عهد الله وكرامته بالنبوة {لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ} اللام لام القسم أي والله لئن رفعت عنا العذاب الذي نحن فيه يا موسى لنصدقنَّ بما جئت به ولنطلقنَّ سراح بني إسرائيل، وقد كانوا يستخدمونهم في أرذل الأعمال {فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُمْ بَالِغُوهُ} أي فلما كشفنا بدعاء موسى عنهم العذاب إِلى حدٍّ من الزمان هم واصلون إِليه ولا بدَّ. قال ابن عباس: هو وقت الغَرق {إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ} أي إِذا هم ينقضون عهودهم ويصرّون على الكفر {فَانتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ} أي فانتقمنا منهم بالإِغراق في البحر {بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ} أي بسبب تكذيبهم بآيات الله وإِعراضهم عنها وعدم مبالاتهم بها.



وراثة الأرض لبني إسرائيل



{وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ(137)}.



{وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا} أي وأورثنا بني إِسرائيل الذين كانوا يُستذلون بالخدمة أرض الشام وملّكناهم جميع جهاتها ونواحيها: مشارقها ومغاربها {الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا} بالخيرات وكثرة الثمرات {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ} أي تمَّ وعد الله الصادق بالتمكين لبني إِسرائيل في الأرض ونصره إِياهم على عدوهم، قال الطبري: وكلمتُه الحسنى هي قوله جل ثناؤه {ونريد أن نُمنَّ على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ..} الآية {بِمَا صَبَرُوا} أي بسبب صبرهم على الأذى {وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ} أي خرّبنا ودمّرنا القصور والعمارات التي كان يشيدها فرعون وجماعته وما كانوا يعرشون من الجنّات والمزارع.



جحود بني إسرائيل النعم الكثيرة



{وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ قَالُوا يَامُوسَى اجْعَل لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ ءالِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ(138)إِنَّ هَؤُلاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ(139)قَالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهًا وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ(140)وَإِذْ أَنجَيْنَاكُمْ مِنْ ءالِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُقَتِّلُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ(141)}



وإِلى هنا تنتهي قصة فرعون وقومه ويبتدئ الحديث عن بني إِسرائيل وما أغدق الله عليهم من النعم الجسام، وأراهم من الآيات العظام، تسليةً لرسوله عليه الصلاة والسلام مما رآه منهم قال تعالى {وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ} أي عبرنا ببني إِسرائيل البحر وهو بحر القُلْزم عند خليج السويس الآن {فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ} أي مروا على قوم يلازمون على عبادة أصنام لهم {قَالُوا يَامُوسَى اجْعَل لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ ءالِهَةٌ} أي اجعل لنا صنماً نعبده كما لهم أصنام يعبدونها، قال ابن عطية: الظاهر أنهم استحسنوا ما رأوا فأرادوا ان يكون ذلك في شرع موسى وفي جملة ما يتقربُ به إلى الله إلا فبعيدٌ أن يقولوا لموسى اجعل لنا إلهاً نُفرده بالعبادة {قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} أي إِنكم قوم تجهلون عظمة الله وما يجب أن ينزّه عنه من الشريك والنظير، قال الزمخشري: تعجَّبَ من قولهم على أثر ما رأوا من الآية العظمى، والمعجزة الكبرى فوصفهم بالجهل المطلق وأكّده، لأنه لا جهل أعظم مما رأى منهم ولا أشنع {إِنَّ هَؤُلاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ} أي هالك مدمَّر ما هم فيه من الدين الباطل وهو عبادة الأصنام {وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} أي باطل عملهم مضمحلٌ بالكلية لأنهم عبدوا ما لا يستحق العبادة {قَالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهًا وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ} أي أأطلب لكم معبوداً غير الله المستحق للعبادة والحال أنَّ الله فضَّلكم على غيركم بالنعم الجليلة‍‍، قال الطبري: فضَّلكم على عالمي دهركم وزمانكم {وَإِذْ أَنجَيْنَاكُمْ مِنْ ءالِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ} أي واذكروا يا بني إِسرائيل النعم التي سلفت مني إِليكم حين أنجيتكم من قوم فرعون يذيقونكم أفظع أنواع العذاب وأسوأه ثم فسره بقوله {يُقَتِّلُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ} أي يذبحون الذكور ويستبقون الإِناث لامتهانهن في الخدمة {وَفِي ذَلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ} أي وفي هذا العذاب اختبار وابتلاء من الله لكم عظيم فنجاكم منه أفلا تشكرونه؟



مناجاة موسى ربه، وطلبه رؤيته تعالى، وتنزيل التوراة عليه



{وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقَالَ مُوسَى لأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ(142)وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ(143)قَالَ يَامُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاتِي وَبِكَلامِي فَخُذْ مَا ءاتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ(144)وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا سَأوْرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ(145)}



{وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً} أي وعدنا موسى لمناجاتنا ثلاثين ليلة وأكملناها بعشر ليالٍ فتمت المناجاة أربعين ليلة. قال الزمخشري: روي أن موسى وعد بني إِسرائيل وهو بمصر إِن أهلك الله عدوهم أتاهم بكتابٍ من عند الله فيه بيانُ ما يأتون وما يذرون، فلما هلك فرعونُ سأل موسى ربه الكتاب فأمره بصوم ثلاثين يوماً وهو شهر ذي القعدة فلما أتمَّ الثلاثين أنكر خلوف فمه "تغير رائحته" فتسوّك فأوحى الله تعالى إِليه: أما علمت أن خلوف فم الصائم أطيب عندي من ريح المسك فأمره تعالى أن يزيد عليها عشرة أيام من ذي الحجة {وَقَالَ مُوسَى لأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي} أي كن خليفتي فيهم إِلى أن أرجع {وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ}أي وأصلحْ أمرهم ولا تسلك طريق الذين يفسدون في الأرض بمعصيتهملله {وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ} أي ولما جاء موسى للوقت الذي وعدناه فيه وناجاه ربه وكلمه من غير واسطة {قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ} أي أرني ذاتك المقدسة أنظر إليها، قال القرطبي: اشتاق إِلى رؤية ربه لمّا أسمعه كلامه فسأل النظر إِليه {قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي} أي أجابه ربه لن تستيطع رؤيتي في الدنيا فإِن هذه البنية البشرية لا طاقة لها بذلك ولكنْ سأتجلّى لما هو أقوى منك وهو الجبل فإِن ثبت الجبل مكانه ولم يتزلزل فسوف تراني أي تثبت لرؤيتي وإِلاّ فلا طاقة لك {فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا} أي فلما ظهر من نور الله وتجلّيه اندك الجبل وتفتّت وسقط موسى مغشياً عليه من هول ما رأى. وفي الحديث: فساخ الجبل {فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ} أي فلما صحا من غشيته قال تنزيهاً لك يا رب وتبرئة أن يراك أحدٌ في الدنيا تبتُ إِليك من سؤالي رؤيتك في الدنيا وأنا أول المؤمنين بعظمتك وجلالك { قَالَ يَامُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاتِي وَبِكَلامِي} أي اخترتك على أهل زمانك بالرسالة الإِلهية وبتكليمي إِياك بدون واسطة {فَخُذْ مَا ءاتَيْتُكَ} أي خذ ما أعطيتك من شرف النبوة والحكمة {وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ} واشكر ربك على ما أعطاك من جلائل النعم. قال أبوالسعود: والآية مسوقة لتسليته عليه السلام من عدم الإِجابة إِلى سؤال الرؤية كأنه قيل: إِن منعتك الرؤية فقد أعطيتك من النعم العظام ما لم اعط أحداً من العالمين فاغتنمها وثابرْ على شكرها {وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ} أي كتبنا له كل شيء كان بنو إِسرائيل محتاجين إِليه في دينهم من المواعظ وتفصيل الأحكام مبيّنة للحلال والحرام كلُّ ذلك في ألواح التوراة {مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ} أي ليتعظوا بها ويزد جروا وتفصيلاً لكل التكاليف الشرعية {فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ} أي خذ التوراة بجدٍّ واجتهادٍ شأن أولي العزم {وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا} أي وأمر بني إِسرائيل بالحث على اختيار الأفضل كالأخذ بالعزائم دون الرخص فالعفو أفضل من القصاص، والصبر أفضل من الانتصار كما قال تعالى {وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ} قال ابن عباس: أُمر موسى أن يأخذها بأشدّ مما أُمر به قومه {سَأُورِيْكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ} أي سترون منازل الفاسقين - فرعون وقومه - كيف أقفرت منهم ودُمِّروا لفسقهم لتعتبروا فلا تكونوا مثلهم، فإِن رؤيتها وهي خالية عن أهلها موجبة للاعتبار والانزجار.



عقوبة المتكبرين بصرفهم عن فهم أدلة العظمة الإلهية



{سَأَصْرِفُ عَنْ ءايَاتِي الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ ءايَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ(146)وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الآخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ(147)}



{سَأَصْرِفُ عَنْ ءايَاتِي الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} أي سأمنع المتكبرين عن فهم آياتي فلا يتفكرون، ولا يتدبرون بما فيها، وأطمس على قلوبهم عقوبةً لهم على تكبرهم قال الزمخشري: وفيه إِنذار للمخاطبين من عاقبة الذين يُصرفون عن آيات الله لتكبرهم وكفرهم بها لئلا يكونوا مثلهم فيسلك بهم سبيلهم {وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ ءايَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِهَا} أي وإِن يشاهدوا كل آية قرآنية من الآيات المنزلة عليهم أو يرَوْا كل معجزة ربانية لا يصدقوا بها {وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً} أي وإِن يروا طريق الهدى والفلاح لا يسلكوه {وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً} أي وإِن يروا طريق الضلال والفساد سلكوه كقوله {فهديناهم فاستحبوا العمى على الهُدى} {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا} أي ذلك الانحراف عن هَدْي الله وشرعه بسبب تكذيبهم بآيات الله {وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ} أي وغفلتهم عن الآيات التي بها سعادتهم حتى لا يتفكرون فيها ولا يعتبرون {وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا} أي جحدوا بما أنزل الله {وَلِقَاءِ الآخِرَةِ} أي وكذبوا بلقاء الله في الآخرة أي لم يؤمنوا بالبعث بعد الموت {حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ} أي بطلت أعمالهم الخيرية التي عملوها في الدنيا من إِحسانٍ وصلة رحم وصدقة وأمثالها وذهب ثوابها لعدم الإِيمان {هَلْ يُجْزَوْنَ إِلا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} أي هل يُثابون أو يعاقبون إِلا بما عملوا في الدنيا؟



اتخاذ السامري العجل



{وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ(148)وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قَالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ(149)}



{وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ} قال الحافظ ابن كثير: يخبر تعالى عن ضلال من ضلَّ من بني إِسرائيل في عبادتهم العجل الذي اتخذه لهم السامريُّ من الحليّ، فشكّل لهم منه عجلاً جسداً لا روح فيه وقد احتال بإِدخال الريح فيه حتى صار يسمع له خُوار أي صوتُ كصوت البقر ومعنى {مِنْ بَعْدِهِ} أي من بعد ذهاب موسى إِلى الطور لمناجاة ربه {أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً} الاستفهام للتقريع والتوبيخ أي كيف عبدوا العجل واتخذوه إِلهاً مع أنه ليس فيه شيء من صفات الخالق الرازق، فإِنه لا يملك قدرة الكلام ولا قدرة هدايتهم إِلى سبيل السعادة فكيف يتخذ إِلهاً؟ {اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ} أي عبدوا العجل واتخذوه إِلهاً فكانوا ظالمين لأنفسهم حيث وضعوا الأشياء في غير موضعها، وتكرير لفظ {اتَّخَذُوا} لمزيد التشنيع عليهم {وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ} أي ندموا على جنايتهم واشتد ندمهم وحسرتهم على عبادة العجل {وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا} أي تبينوا ضلالهم تبيناً جلياً كأنهم أبصروه بعيونهم {قَالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا} أي لئن لم يتداركنا الله برحمته ومغفرته {لَنَكُونَنَّ مِنْ الْخَاسِرِينَ} أي لنكوننَّ من الهالكين، قال ابن كثير: وهذا اعترافٌ منهم بذنبهم والتجاءٌ إِلى الله عز وجل.



غضب موسى على أخيه هارون وتعنيفه له



{وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلا تُشْمِتْ بِي الأَعْدَاءَ وَلا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ(150)قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ(151)}



{وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ} أي ولما رجع موسى من المناجاة {غَضْبَانَ} مما فعلوه من عبادة العجل {أَسِفًا} أي شديد الحزن {قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي} أي بئس ما فعلتموه بعد غيبتي حيث عبدتم العجل {أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ} أي أعجلتم عن أمر ربكم وهو انتظار موسى حتى يرجع من الطور؟ والاستفهام للإِنكار {وَأَلْقَى الأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ} أي طرح الألواح لما عراه من شدة الغم، وفرط الضجر غضباً لله من عبادة العجل، وأخذ بشعر رأس أخيه هارون يجره إليه ظناً منه أنه قصَّر في كفهم عن ذلك وكان عليه السلام شديد الغضب لله سبحانه، قال ابن عباس: لمّا عاين قومه وقد عكفوا على العجل ألقى الألواح فكسرها غضباً لله وأخذ برأس أخيه يجره إليه {قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي} أي قال هارون يا ابن أمي - وهو نداء استعطاف وترفق - إن القوم استذلوني وقهروني وقاربوا قتلي حين نهيتهم عن ذلك فأنا لم أقصّر في نصحهم {فَلا تُشْمِتْ بِي الأَعْدَاءَ وَلا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} أي لا تُسئْ إليَّ حتى يُسرَّ الأعداء بي ويشمتوا بإهانتك إليَّ ولا تجعلني في عداد الظالمين بالمؤاخذة أو النسبة إلى التقصير، قال مجاهد: {الظَّالِمِينَ} أي الذين عبدوا العجل {قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} لما تحقق لموسى براءة ساحة هارون عليه السلام من التقصير طلب عند ذلك المغفرة له ولأخيه فقال {اغْفِرْ لِي وَلأَخِي} الآية قال الزمخشري: استغفر لنفسه مما فرط منه إلى أخيه، ولأخيه مما عسى أن يكون فرط منه في حين الخلافة، وطلب ألاّ يتفرقا عن رحمته، ولا تزال منتظمة لهما في الدنيا والآخرة.



عقاب الظالمين المتخذين العجل إلهاً، وقبول توبة التائبين



{إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ(152)وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِهَا وَءامَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ(153)}



{إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} أي إن الذين عبدوا العجل - ذكر البقر - واتخذوه إلهاً سيصيبهم غضب شديد من الرحمن، وينالهم في الدنيا الذل والهوان، قال ابن كثير: أما الغضب الذي نال بني إسرائيل فهو أن الله تعالى لن يقبل لهم توبة حتى يقتل بعضُهم بعضاً، وأما الذلة فأعقبهم ذلك ذلاً وصَغَاراً في الحياة الدنيا {وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ} أي كما جازينا هؤلاء بإِحلال الغضب والإِذلال كذلك نجزي كل من افترى الكذب على الله قال سفيان بن عُيينة: كلُّ صاحب بدعة ذليل {وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِهَا وَءامَنُوا} أي عملوا القبائح والمعاصي ثم تابوا ورجعوا إلى الله من بعد اقترافها وداموا على إيمانهم وأخلصوا فيه {إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} أي إنَّ ربك يا محمد من بعد تلك التوبة لغفور لذنوبهم رحيم بهم قال الألوسي: وفي الآية إعلامٌ بأنَّ الذنوب وإن جلّتْ وعظمت فإن عفو الله تعالى وكرمه أعظم وأجلُّ، وما ألطف قول أبي نواس غفر الله تعالى له:

يا ربِّ إنْ عَظُمتْ ذنوبي كثــرةً فلقد علمتُ بأنَّ عفوكَ أعظمُ

إن كانَ لا يَرْجوكَ إلا محســنُ فبمنْ يلوذُ ويستجيرُ المــجرمُ؟



سكون غضب موسى وأخذه الألواح



{وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الأَلْوَاحَ وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ(154)}



{وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ} أي سكن غضب موسى على أخيه وقومه {أَخَذَ الأَلْوَاحَ} أي ألواح التوراة التي كان ألقاها {وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ} أي وفيما نُسخ فيها وكُتب هداية للحق ورحمة للخلق بإرشادهم إلى ما فيه سعادة الدارين {لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ} أي هذه الرحمة للذين يخافون الله ويخشون عقابه على معاصيه.



اختيار موسى سبعين رجلاً لملاقاة الله



{وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِمِيقَاتِنَا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ(155)}



{وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِمِيقَاتِنَا} أي اختار موسى من قومه سبعين رجلاً ممن لم يعبدوا العجل للوقت الذي وعده ربه الإِتيان فيه للاعتذار عن عبادة العجل {فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ} أي فلما رجف بهم الجبل وصعقوا {قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ} أي قال موسى على وجه التضرع والإِستسلام لأمر الله: لو شئت يا ربِّ أن تهلكنا قبل ذلك لفعلتَ فإِنّا عبيدك وتحت قهرك وأنت تفعل ما تشاء {أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا}؟ أي أتهلكنا وسائر بني إسرائيل بما فعل هؤلاء السفهاء السبعون في قولهم: {أرنا الله جهرة}؟ والاستفهام استفهام استعطاف وتذلل فكأنه يقوله: لا تعذبنا يا ألله بذنوب غيرنا قال الطبري في رواية السدي: إن الله أمر موسى عليه السلام أن يأتيه في ناسٍ من بني إسرائيل يعتذرون إليه من عبادة العجل، ووعدهم موعداً فاختار موسى من قومه سبعين رجلاً على عينه ثم ذهب بهم ليعتذروا فلما أتوا ذلك المكان قالوا: لن نؤمن لك يا موسى حتى نرى الله جهرة، فإِنك قد كلمته فأرناه فأخذتهم الصاعقة فماتوا، فقام موسى يبكي ويدعو الله ويقول: رب ماذا أقول لبني إسرائيل إذا أتيتهُم وقد أهلكتَ خيارهم لو شئت أهلكتَهم من قبل وإياي" أقول: إذا كان هذا قول الأخيار من بني إسرائيل فكيف حال الأشرار منهم؟ نعوذ بالله من خبث اليهود {إِنْ هِيَ إِلا فِتْنَتُكَ} أي ما هذه الفتنة التي حدثت لهم إلا محنتك وابتلاؤك تمتحن بها عبادك {تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ} أي تضل بهذه المحنة من تشاء إضلاله وتهدي من تشاء هدايته {أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا} أي أنت يا رب متولي أمورنا وناصرنا وحافظنا فاغفر لنا ما قارفناه من المعاصي وارحمنا برحمتك الواسعة الشاملة {وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ} أي أنت خير من صفح وستر، تغفر السيئة وتبدلها بالحسنة.



دعاء موسى عند الرجفة، وربط الإيمان برسالته وبالإيمان برسالة النبي محمد صلى الله عليه وسلم



{وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ(156)الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمْ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ ءامَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ(157)}



{وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ} هذا من جملة دعاء موسى عليه السلام أي حقّقْ وأثبتْ لنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة {إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ} أي تبنا ورجعنا إليك من جميع ذنوبنا {قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} أي قال تعالى أما عذابي فأصيب به من أشاء من عبادي وأما رحمتي فقد عمَّتْ خلقي كلهم. قال أبو السعود: وفي نسبة الإِصابة إلى العذاب بصيغة المضارع ونسبة السعة إلى الرحمة بصيغة الماضي إيذانٌ بأن الرحمة مقتضى الذات، وأما العذاب فمقتضى معاصي العباد {فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ} أي سأجعل هذه الرحمة خاصة في الآخرة بالذين يتقون الكفر والمعاصي ويعطون زكاة أموالهم ويصدّقون بجميع الكتب والأنبياء {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ} أي هؤلاء الذين تنالهم الرحمة هم الذين يتبعون محمداً صلى الله عليه وسلم النبيَّ العربي الأمي أي الذي لا يقرأ ولا يكتب، قال البيضاوي: وإنما سمّاه رسولاً بالإِضافة إلى الله تعالى، ونبياً بالإِضافة إلى العباد {الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ} أي الذي يجدون نعته وصفته في التوراة والإِنجيل. قال ابن كثير: هذه صفة محمد صلى الله عليه وسلم في كتب الأنبياء، بشروا أممهم ببعثته وأمروهم بمتابعته، ولم تزل صفاته موجودة في كتبهم يعرفها علماؤهم وأحبارهم {يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ} أي لا يأمر إلا بكل شيء مستحسن ولا ينهى إلا عن كل شيء قبيح {وَيُحِلُّ لَهُمْ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} أي يحل لهم ما حرّم عليهم من الأشياء الطيبة بشؤم ظلمهم ويُحرّم عليهم ما يستخبث من نحو الدم والميتة ولحم الخنزير {وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} أي يخفف عنهم ما كلفوه من التكاليف الشاقة التي تشبه الأغلال كقتل النفس في التوبة وقطع موضع النجاسة من الثوب والقصاص من القاتل عمداً كان القتل أو خطأً وشبه ذلك {فَالَّذِينَ ءامَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ} أي فالذين صدقوا بمحمد وعظّموه ووقّروه ونصروا دينه {وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ} أي واتبعوا قرآنه المنير وشرعه المجيد {أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} أي هم الفائزون بالسعادة السرمدية.



عموم رسالة الإسلام للناس كافة



{قُلْ يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لا إِلَهَ إِلا هُوَ يُحْيِ وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ(158)}



{قُلْ يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} هذا بيان لعموم رسالته صلى الله عليه وسلم لجميع الخلق أي قل يا محمد للناس إني رسولٌ من عند الله إلى جميع أهل الأرض {الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} أي المالك لجميع الكائنات {لا إِلَهَ إِلا هُوَ يُحْيِِ وَيُمِيتُ} أي لا ربَّ ولا معبود سواه فهو الإِله القادر على الإِحياء والإِفناء {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} أي صدّقوا بآيات الله وصدقوا برسوله المبعوث إلى جميع خلقه {النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ} أي آمنوا بالنبي الأمي صاحب المعجزات الذي لا يقرأ ولا يكتب المصدق بالكتب التي أنزلها الله عليه وعلى غيره من الأنبياء {وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} أي اسلكوا طريقه واقتفوا أثره رجاء اهتدائكم إلى المطلوب.



أَتباع الحق من قوم موسى، ونعم الله تعالى على بني إسرائيل في صحراء التيه



{وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ(159)وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطًا أُمَمًا وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى إِذ اسْتَسْقَاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِب بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ وَظَلَّلْنَا عَلَيْهِمُ الْغَمَامَ وَأَنزَلْنَا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ(160)}



{وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ} أي ومن بني اسرائيل جماعة مستقيمون على شريعة الله يهدون الناس بكلمة الحق لا يجورون. قال الزمخشري: لما ذكر تعالى الذين تزلزلوا منهم في الدين وارتابوا حتى أقدموا على العظيمتين: عبادة العجل، وطلب رؤية الله، ذكر أن منهم أمة موقنين ثابتين يهدون الناس بكلمة الحق ويدلونهم ويرشدونهم على الاستقامة {وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطًا أُمَمًا} أي وفرقنا بني إسرائيل فجعلناهم قبائل شتّى اثنتي عشرة قبيلة من اثني عشر ولداً من أولاد يعقوب. قال أبو حيان: أي فرقناهم وميزّناهم أسباطاً ليرجع أمر كل سبط أي "قبيلة" إلى رئيسه ليخفَّ أمرهم على موسى ولئلا يتحاسدوا فيقع الهرج، ولهذا فجّر لهم اثنتي عشرة عيناً لئلا يتنازعوا ويقتتلوا على الماء، وجعل لك سبطٍ نقيباً ليرجعوا في أمورهم إليه {وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى إِذِ اسْتَسْقَاهُ قَوْمُهُ} أي حين استولى عليهم العطش في التيه {أَنِ اضْرِب بِعَصَاكَ الْحَجَرَ} أي أوحينا إِليه أن يضرب الحجر بعصاه فضربه {فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا} أي انفجرت من الحجر اثنتا عشرة عيناً من الماء بعدد الأسباط {قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ} أي قد عرف كل سبطٍ وجماعة منهم عينهم الخاصة بهم، قال الطبري: لا يدخل سبطٌ على غيره في شربه {وَظَلَّلْنَا عَلَيْهِمُ الْغَمَامَ} أي جعلنا الغمام يكنّهم من حر الشمس ويقيهم من أذاها، قال الألوسي: وكان الظلُّ يسير بسيرهم ويسكن بإقامتهم {وَأَنزَلْنَا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى} أي وأكرمناهم بطعام شهي هو {الْمَنَّ} وهي شيء حلوٌ ينزل على الشجر يجمعونه ويأكلونه و{السَّلْوَى} وهو طائر لذيذ اللحم يسمى السُمَّاني، كلُّ ذلك من إفضال الله وإنعامه عليهم دون جهدٍ منهم {كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} أي وقلنا لهم كلوا من هذا الشيء الطيب اللذيذ الذي رزقناكم إياه {وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} في الكلام محذوف تقديره: فكفروا بهذه النعم الجليلة وما ظلمونا ولكنْ ظلموا أنفسهم حيث عرّضوها بالكفر لعذاب الله.



أمر بني إسرائيل بسكنى بيت المقدس



{وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئَاتِكُمْ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ(161)فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَظْلِمُونَ(162)}



{وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ} أي واذكر لهم حين قلنا لأسلافهم اسكنوا بيت المقدس وكلوا من مطاعمها وثمارها من أي جهة ومن أي مكان شئتم منها {وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا} أي وقولوا حين دخولكم: يا ألله حُطَّ عنا ذنوبنا {نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئَاتِكُمْ} أي نمح عنكم جميع الذنوب التي سلفت منكم{سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ} أي وسنزيد من أحسن عمله بامتثال أمر الله وطاعته فوقَ الغفران دخولَ الجنان {فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ} أي غيَّر الظالمون منهم أمر الله بقولهم كلاماً لا يليق حيث قالوا بدل {حِطَّةٌ} حنطة في شعيرة وبدل أن يدخلوا ساجدين خشوعاً لله دخلوا يزحفون على أستاههم "أدبارهم" سخرية واستهزاء بأوامر الله {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَظْلِمُونَ} أي فأرسلنا عليهم عذاباً من السماء بسبب ظلمهم وعدوانهم المستمر سابقاً ولاحقاً قال أبو السعود: والمراد بالعذاب "الطاعون" روي أنه مات منهم في ساعة واحدة أربعةٌ وعشرون ألفاً.



احتيال اليهود لاصطياد الأسماك يوم السبت



{وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ(163)وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ(164)فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ(165)فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ(166)}



{وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ} أي واسأل يا محمد اليهود عن أخبار أسلافهم وعن أمر القرية التي كانت بقرب البحر وعلى شاطئه ماذا حلَّ بهم لما عصوا أمر الله واصطادوا يوم السبت؟ ألم يمسخهم الله قردة وخنازير؟ قال ابن كثير: وهذه القرية هي (أيلة) وهي على شاطئ بحر القلزم {إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ} أي يتجاوزون حدّ الله فيه وهو اصطيادهم يوم السبت {إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا} أي حين كانت الحيتان "الأسماك" تأتيهم يوم السبت - وقد حُرّم عليهم الصيدُ فيه - كثيرةً ظاهرةً على وجه الماء {وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ} أي وفي غير يوم السبت وهي سائر الأيام لا تأتيهم بل تغيب عنهم وتختفي {كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} أي مثل ذلك البلاء العجيب نختبرهم ونمتحنهم بإظهار السمك لهم على وجه الماء في اليوم المحرَّم عليهم صيده وإخفائها عنهم في اليوم الحلال بسبب فسقهم وانتهاكهم حرمات لله. قال القرطبي: روي أنها كانت في زمن داود عليه السلام وأن إبليس أوحى إليهم فقال: إنما نُهيتُم عن أخذها يوم السبت فاتخذوا الحياض فكانوا يسوقون الحيتان إليها يوم الجمعة فتبقى فيها فلا يمكنها الخروج منها لقلة الماء فيأخذونها يوم الأحد ويحتالون في صيدها {وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا} قال ابن كثير: يخبر تعالى عن أهل هذه القرية أنهم صاروا إلى ثلاث فرق: فرقة ارتكبت المحظور واحتالوا على اصطياد السمك يوم السبت، وفرقة نهت عن ذلك واعتزلتهم، وفرقة سكتت فلم تفعل ولم تنه ولكنها قالت للمنكرة {لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ} أي لم تنهون هؤلاء وقد علمتم أنهم قد هلكوا واستحقوا العقوبة من الله فلا فائدة في نهيكم إياهم؟ {قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ} أي قال الناهون: إنما نعظهم لنعذر عند الله بقيامنا بواجب النصح والتذكير {وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} أي ينزعون عمَّا هم فيه من الإِجرام، قال الطبري: أي لعلهم أن يتقوا الله فينيبوا إلى طاعته ويتوبوا من معصيتهم إيّاه وتعدّيهم في السبت {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ} أي فلما تركوا ما ذكّرهم به صلحاؤهم ترك الناسي للشيء وأعرضوا عن قبول النصيحة إعراضاً كلياً {أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ} أي نجينا الناهين عن الفساد في الأرض {وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ} أي وأخذنا الظالمين والعصاة بعذابٍ شديد وهم الذين ارتكبوا المنكر {بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} أي بسبب فسقهم وعصيانهم لأمر الله {فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ} أي فلما استعصوا وتكبروا عن ترك ما نهو عنه {قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ} أي مسخناهم إلى قردة وخنازير، والمعنى أنهم عُذبوا أولاً بعذاب شديد فلما لم يرتدعوا وتمادوا في الطغيان مسخوا قردة وخنازير، والحاصل أن أصحاب القرية انقسموا ثلاث فرق: فرقةٌ عصتْ فحلَّ بها العذاب، وفرقة نهت ووعظت فنجاها الله من العذاب، وفرقة اعتزلت فلم تنه ولم تُقارف المعصية وقد سكت عنها القرآن، قال ابن عباس: ما أدري ما فعل بالفرقة الساكتة أنجوا أم هلكوا؟ قال عكرمة: فلم أزل به حتى عرّفته أنهم قد نجوا لأنهم كرهوا ما فعله أولئك، فكساني حلة.



رفع الجبل فوق اليهود وذلهم إلى يوم القيامة، وتشتيتهم في الأرض باستثناء الصالحين



{وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ(167)وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الأَرْضِ أُمَمًا مِنْهُمْ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ(168)فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلا الْحَقَّ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ وَالدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ(169)وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ(170) وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُوا مَا ءاتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ(171)}.



{وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ} أي واذكر يا محمد حين أعلم ربك ليسلطنَّ على اليهود إلى قيام الساعة من يذيقهم أسوأ العذاب بسبب عصيانهم ومخالفتهم أمر الله واحتيالهم على المحارم، وقد سلّط الله عليهم بختنصّر فقتلهم وسباهم، وسلّط عليهم النصارى فأذلوهم وضربوا عليهم الجزية، وسلَّط عليهم محمداً صلى الله عليه وسلم فطهّر الأرض من رجسهم وأجلاهم عن الجزيرة العربية، وسلّط عليهم أخيراً "هتلر" فاستباح حماهم وكاد أن يبيدهم ويفنيهم بالقتل والتشريد في الأرض، ولا يزال وعد الله بتسليط العذاب عليهم سارياً إلى أن يقتلهم المسلمون في المعركة الفاصلة إن شاء الله ويومئذٍ يفرح المؤمنون بنصر الله {إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} أي سريع العقاب لمن عصاه وغفورٌ رحيم لمن أطاعه {وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الأَرْضِ أُمَمًا} أي فرّقناهم في البلاد طوائف وفرقاً ففي كل بلدة فرقة منهم، وليس لهم إقليم يملكونه حتى لا تكون لهم شوكة، وما اجتمعوا في الأرض المقدسة في هذه الأيام إلا ليذبحوا بأيدي المؤمنين إن شاء الله كما وعد بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال: (لا تقوم الساعة حتى يقاتل المسلمون اليهود ..) الحديث أخرجه مسلم ثم بيّن تعالى أنهم ليسوا جميعاً فجاراً بل فيهم الأخيار وفيهم الأشرار فقال {مِنْهُمْ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ} أي منهم من آمن وهم قلة قليلة ومنهم من انحطّ عن درجة الصلاح بالكفر والفسوق وهم الكثرة الغالبة {وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} أي اختبرناهم بالنعم والنقم والشدة والرخاء لعلهم يرجعون عن الكفر والمعاصي {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ} قال ابن كثير: أي خلف من بعد ذلك الجيل الذي فيهم الصالح والطالح خلْفٌ آخر لا خير فيهم ورثوا الكتاب وهو التوراة عن آبائهم {يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا} أي يأخذون ذلك الشيء الدنيء من حطام الدنيا من حلال وحرامٍ ويقولون متبجحين: سيغفر الله لنا ما فعلناه، وهذا اغترار منهم وكذب على الله {وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ} أي يرجون المغفرة وهم مصرّون على الذنب كلما لاح لهم شيء من حطام الدنيا أخذوه لا يُبالون من حلالٍ كان أو حرام {أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلا الْحَقَّ} الاستفهام للتوبيخ والتقريع أي ألم يؤخذ عليهم العهد المؤكد في التوراة أن يقولوا الحق ولا يكذبوا على الله؟ فكيف يزعمون أنه سيغفر لهم مع إصرارهم على المعاصي وأكل الحرام؟ {وَدَرَسُوا مَا فِيهِ} في هذا أعظم التوبيخ لهم أي والحال أنهم درسوا ما في الكتاب وعرفوا ما فيه المعرفة التامة من الوعيد على قول الباطل والافتراء على الله {وَالدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ} أي والآخرة خير للذين يتقون الله بترك الحرام {أَفَلا تَعْقِلُونَ}؟ الاستفهام للإِنكار أي أفلا ينزجرون ويعقلون؟ والمراد أنهم لو كانوا عقلاء لما آثروا الفانية على الباقية {وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ} أي يتمسكون في أمور دينهم بما أنزله الله ويحافظون على أداء الصلاة في أوقاتها {إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ} أي لا نضيع أجرهم بل نجزيهم على تمسكهم وصلاحهم أفضل وأكرم الجزاء.

{وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ} أي اذكر حين اقتلعنا جبل الطور ورفعناه فوق رؤوس بني إسرائيل {كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ} أي كأنه سقيفة أو ظلة غمام {وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ} أي أيقنوا أنه ساقط عليهم إن لم يمتثلوا الأمر، قال المفسرون: روي أنهم أبوا أن يقبلوا أحكام التوراة لغلظها وثقلها فرفع الله الطور على رؤوسهم وقيل لهم: إن قبلتموها بما فيها وإلاّ ليقعنَّ عليكم فلما نظروا إلى الجبل خرَّ كل واحد منهم ساجداً خوفاً من سقوطه ثم قال تعالى {خُذُوا مَا ءاتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ} أي وقلنا لهم خذوا التوراة بجد وعزيمة {وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} أي اذكروا ما فيه بالعمل واعملوا به لتكونوا في سلك المتقين.



أخذ الميثاق العام على بني آدم



{وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي ءادَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ(172)أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ ءابَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ(173)وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ(174)}



{وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي ءادَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} قال الطبري: أي واذكر يا محمد إذْ استخرج ربك أولاد آدم من أصلاب آبائهم فقرّرهم بتوحيده وأشهد بعضَهم على بعض بذلك، قال ابن عباس: مسح الله ظهر آدم فاستخرج منه كلَّ نسمة هو خالقها إلى يوم القيامة. {وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا} أي وقرّرهم على ربوبيته ووحدانيته فأقروا بذلك والتزموه {أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ} أي لئلا تقولوا يوم الحساب إنا كنا عن هذا الميثاق والإِقرار بالربوبية غافلين لم ننبه عليه {أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ ءابَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ} أي ولكيلا تقولوا يوم القيامة أيضاً نحن ما أشركنا وإنما قلدنا آباءنا واتبعنا منهاجهم فنحن معذورون {أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ} أي أفتهلكنا بإشراك من أشرك من آبائنا المضلّين بعد اتباعنا منهاجهم على جهلٍ منا بالحق؟ {وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} أي وكما بينا الميثاق نبيّن الآيات ليتدبرها الناس وليرجعوا عما هم عليه من الإِصرار على الباطل وتقليد الآباء.



قصة بلعم بن باعوراء



{وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي ءاتَيْنَاهُ ءايَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ(175) وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ(176)سآءَ مَثَلاً الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَأَنفُسَهُمْ كَانُوا يَظْلِمُونَ(177)}



{وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي ءاتَيْنَاهُ ءايَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا} أي واتل يا محمد على اليهود خبر وقصة ذلك العالم الذي علمناه علم بعض كتب الله فانسلخ من الآيات كما تنسلخ الحية من جلدها بأن كفر بها وأعرض عنها {فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ} أي فلحقه الشيطان واستحوذ عليه حتى جعله في زمرة الضالين الراسخين في الغَواية بعد أن كان من المهتدين قال ابن عباس: هو "بلعم بن باعوراء" كان عنده اسم الله الأعظم. وقال ابن مسعود: هو رجل من بني إسرائيل بعثه موسى إلى ملك "مَدْيَنَ" داعياً إلى الله فرشاه الملك وأعطاه المُلْك على أن يترك دين موسى ويتابع الملك على دينه ففعل وأضل الناس بذلك {وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ} أي لو شئنا لرفعناه إلى منزلة العلماء الأبرار ولكنه مال إلى الدنيا وسكن إليها وآثر لذاتها وشهواتها على الآخرة واتبع ما تهواه نفسه فانحط أسفل سافلين {فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ} أي فمثله في الخسة والدناءة كمثل الكلب إن طردته وزجرته سعى فلَهَث، وإن تركته على حاله لَهَث، وهو تمثيل بادي الروعة ظاهر البلاغة {ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا} أي هذا المثل السيء هو مثلٌ لكل من كذّب بآيات الله، وفيه تعريضٌ باليهود فقد أوتوا التوراة وعرفوا صفة النبي عليه الصلاة والسلام فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به وانسلخوا من حكم التوراة {فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} أي اقصص على أمتك ما أوحينا إليك لعلهم يتدبرون فيها ويتعظون {سَاءَ مَثَلا الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا} أي بئس مثلاً مثلُ القوم المكذبين بآيات الله {وَأَنفُسَهُمْ كَانُوا يَظْلِمُونَ} أي وما ظلموا بالتكذيب إلا أنفسهم فإن وباله لا يتعداها.



الهداية والضلالة وأسبابهما



{مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ(178)وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ ءاذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمْ الْغَافِلُونَ(179)}



{مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُوْلَئِكَ هُمً الْخَاسِرُونَ} أي من هداه الله فهو السعيد الموفق، ومن أضله فهو الخائب الخاسر لا محالة، والغرضُ من الآية بيان أن الهداية والإِضلال بيد الله {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ} أي خلقنا لجهنم ليكونوا حطباً لها خلقاً كثيراً كائناً من الجن والإِنس، والمراد بهم الذين حقت عليهم الكلمة الأزلية بالشقاوة {لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا} أي لهم قلوب لا يفهمون بها الحق {وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا} أي لا يبصرون بها دلائل قدرة الله بصر اعتبار {وَلَهُمْ ءاذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا} أي لا يسمعون بها الآيات والمواعظ سماع تدبر واتعاظ، وليس المراد نفي السمع والبصر بالكلية وإنما المراد نفيها عما ينفعها في الدين {أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ} أي هم كالحيوانات في عدم الفقه والبصر والاستماع بل هم أسوأ حالاً من الحيوانات فإنها تدرك منافعها ومضارها وهؤلاء لا يميزون بين المنافع والمضار ولهذا يُقْدمون على النار {أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} أي الغارقون في الغفلة.



أسماء الله الحسنى



{وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ(180)}



{وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} أي لله الأسماء التي هي أحسن الأسماء وأجلها لإِنبائها عن أحسن المعاني وأشرفها فسمّوه بتلك الأسماء {وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ} أي اتركوا الذين يميلون في أسمائه تعالى عن الحق كما فعل المشركون حيث اشتقوا لآلهتهم أسماء منها كاللات من الله، والعُزَّى من العزيز، ومناة من المنّان {سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} أي سينالون جزاء ما عملوا في الآخرة.



المهتدون والمكذبون بدعوة الإسلام، وعقاب المكذبين



{وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ(181)وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ(182)وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ(183)أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلا نَذِيرٌ مُبِينٌ(184)أَوَلَمْ يَنظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ(185)مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلا هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ(186)}.



{وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ} أي ومن بعض الأمم التي خلقنا أمة مستمسكة بشرع الله قولاً وعملاً يدعون الناس إلى الحق وبه يعملون ويقضون، قال ابن كثير: والمراد في الآية هذه الأمة المحمدية لحديث (لا تزالُ طائفةٌ من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خَذَلَهم ولا من خَالَفهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك) وهذه الطائفة لا تختص بزمان دون زمان بل هم في كل زمان وفي كل مكان، فالإِسلام دائماً يعلو ولا يُعلى عليه وإن كثر الفُسَّاق وأهل الشر فلا عبرة فيهم ولا صَوْلة لهم، وفي الحديث بشارة عظيمة لهذه الأمة المحمدية بأن الإِسلام في علوّ شرف وأهله كذلك إلى قرب الساعة {وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ} أي والذين كذبوا بالقرآن من أهل مكة وغيرهم سنأخذهم قليلاً وندنيهم من الهلاك من حيث لا يشعرون، قال البيضاوي: وذلك بأن تتواتر عليهم النعم، فيظنوا أنها لطف من الله تعالى بهم فيزدادوا بطراً وانهماكاً في الغيِّ حتى تحق عليهم كلمة العذاب {وَأُمْلِي لَهُمْ} أي وأمهلهم ثم آخذهم أخذ عزيز مقتدر كما في الحديث الشريف (إن الله ليُملي للظالم حتى إذا أخذه لم يُفلته) {إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ} أي أخذي وعقابي قوي شديد وإنما سمّاه كيداً لأن ظاهره إحسانٌ وباطنه خذلان {أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ} أي أولم يتفكر هؤلاء المكذبون بآيات الله فيعلموا أنه ليس بمحمد صلى الله عليه وسلم جنون بل هو رسول الله حقاً أرسله الله لهدايتهم، وهذا نفيٌ لما نسبه له المشركون من الجنون في قولهم {يا أيها الذي نُزّل عليه الذكر إنك لمجنون} {إِنْ هُوَ إِلا نَذِيرٌ مُبِينٌ} أي ليس محمد إلا رسول منذر أمره بَيِّنٌ واضح لمن كان له لبُّ أو قلبٌ يعقل به ويعي {أَوَلَمْ يَنظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} أي أولم ينظروا نظر استدلال في ملك الله الواسع مما يدل على عظم الملك وكمال القدرة، والاستفهام للإِنكار والتعجب والتوبيخ {وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ} أي وفي جميع مخلوقات الله الجليل منها والدقيق فيستدلوا بذلك على كمال قدرة صانعها وعظم شأن مالكها ووحدة خالقها ومبدعها؟ {وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ} أي وأن يتفكروا لعلهم يموتون عن قريب فينبغي لهم أن يسارعوا إلى النظر والتدبر فيما يخلصهم عند الله قبل حلول الأجل {فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ} أي فبأي حديث بعد القرآن يؤمنون إذا لم يؤمنوا به وهو النهاية في الظهور والبيان {مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلا هَادِيَ لَهُ} أي من كتب الله عليه الضلالة فإنه لا يهديه أحد {وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} أي ويتركهم في كفرهم وتمردهم يترددون ويتحيرون.



علم الساعة غيبي لا يعلمه إلا الله



{يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلا هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لا تَأْتِيكُمْ إِلا بَغْتَةً يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ(187)}



{يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ} أي يسألونك يا محمد عن القيامة {أَيَّانَ مُرْسَاهَا} أي متى وقوعها وحدوثها؟ وسميت القيامة ساعة لسرعة ما فيها من الحساب كقوله {وما أمر الساعة إلا كلمح البصر أو هو أقرب} {قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي} أي قل لهم يا محمد لا يعلم الوقت الذي يحصل قيام القيامة فيه إلا الله سبحانه ثم أكَّد ذلك بقوله {لا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلا هُوَ} أي لا يكشف أمرها ولا يظهرها للناس إلا الرب سبحانه بالذات فهو العالم بوقتها {ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} أي عظُمت على أهل السموات والأرض حيث يشفقون منها ويخافون شدائدها وأهوالها {لا تَأْتِيكُمْ إِلا بَغْتَةً يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا} أي يسألونك يا محمد عن وقتها كأنك كثير السؤال عنها شديد الطلب لمعرفتها {قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ} أي لا يعلم وقتها إلا الله لأنها من الأمور الغيبية التي استأثر بها علاّم الغيوب {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} أي لا يعلمون السبب الذي لأجله أُخْفيتْ. قال الإِمام الفخر: والحكمة في إخفاء الساعة عن العباد أنهم إذا لم يعلموا متى تكون كانوا على حذرٍ منها فيكون ذلك أدعى إلى الطاعة وأزجر عن المعصية.



الأمر كله لله وحده، والرسول صلى الله عليه وسلم لا يعلم الغيب



{قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلا ضَرًّا إِلا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ(188)}



{قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلا ضَرًّا إِلا مَا شَاءَ اللَّهُ} أي لا أملك أن أجلب إلى نفسي خيراً ولا أدفع عنها شراً إلا بمشيئته تعالى فكيف أملك علم الساعة؟ {وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ} أي لو كنت أعرف أمور الغيب لحصّلت كثيراً من منافع الدنيا وخيراتها ودفعت عني آفاتها ومضراتها {وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ} أي لو كنت أعلم الغيب لاحترست من السوء ولكنْ لا أعلمه فلهذا يصيبني ما قُدَّر لي من الخير والشر {إِنْ أَنَا إِلا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ} أي ما أنا إلا عبد مرسل للإِنذار والبشارة {لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} أي لقوم يصدقون بما جئتهم به من عند الله.



التذكير بالنشأة الأولى، والأمر بالتوحيد واتباع القرآن والنهي عن الشرك



{هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ ءاتَيْتَنَا صَالِحًا لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ(189)فَلَمَّا ءاتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا ءاتَاهُمَا فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ(190)أَيُشْرِكُونَ مَا لا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ(191)وَلا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا وَلا أَنفُسَهُمْ يَنصُرُونَ(192)وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لا يَتَّبِعُوكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُونَ(193)}



{هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ} أي هو سبحانه ذلك العظيم الشأن الذي خلقكم جميعاً وحده من غير معين من نفسٍ واحدة هي آدم عليه السلام {وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا} أي وخلق منها حواء {لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا} أي ليطمئن إليها ويستأنس بها {فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفًا} أي فلما جامعها حملت بالجنين حملاً خفيفاً دون إزعاج لكونه نطفةً في بادئ الأمر، قال أبو السعود: فإنه عند كونه نطفة أو علقة أخف عليها بالنسبة إلى ما بعد ذلك من المراتب، والتعرضُ لذكر خفته للإِشارة إلى نعمته تعالى عليهم في إنشائه إياهم متدرجين في أطوار الخلق من العدم إلى الوجود، ومن الضعف إلى القوة {فَمَرَّتْ بِهِ} أي استمرت به إلى حين ميلاده {فَلَمَّا أَثْقَلَتْ} أي ثقل حملها وصارت به ثقيلة لكبر الحمل في بطنها {دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا} أي دعوا الله مربيهما ومالك أمرهما {لَئِنْ ءاتَيْتَنَا صَالِحًا لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ} أي لئن رزقتنا ولداً صالحاً سويَّ الخِلْقة لنشكرنَّك على نعمائك {فَلَمَّا ءاتَاهُمَا صَالِحًا} أي فلما وهبهما الولد الصالح السويّ {جَعَلا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا ءاتَاهُمَا} أي جعل هؤلاء الأهل شركاء مع الله فعبدوا الأوثان والأصنام {فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} أي تنزّه وتقدّس الله عما ينسبه إليه المشركون {أَيُشْرِكُونَ مَا لا يَخْلُقُ شَيْئًا} الاستفهام للتوبيخ أي أيشركون مع الله ما لا يقدر على خلق شيء أصلاً {وَهُمْ يُخْلَقُونَ} أي والحال أن تلك الأوثان والآلهة مخلوقة فكيف يعبدونها مع الله؟ قال القرطبي: وجمع الضمير بالواو والنون لأنهم اعتقدوا أن الأصنام تضر وتنفع فأجريت مجرى الناس {وَلا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا} أي لا تستطيع هذه الأصنام نصر عابديها {وَلا أَنفُسَهُمْ يَنصُرُونَ} أي ولا ينصرون أنفسهم ممن أرادهم بسوء، فهم في غاية العجز والذلة فكيف يكونون آلهة؟ {وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لا يَتَّبِعُوكُمْ} أي أن الأصنام لا تجيب إذا دعيت إلى خير أو رشاد لأنها جمادات {سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُونَ} أي يتساوى في عدم الإِفادة دعاؤكم لهم وسكوتكم، قال ابن كثير: يعني أن هذه الأصنام لا تسمع دعاء من دعاها، وسواء لديها من دعاها ومن دحاها كما قال إبراهيم {يَاأَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا} [مريم: 42].



عجز المعبودات من دون الله عن فعل شيء



{إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ(194)أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ ءاذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا قُلِ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلا تُنظِرُونِ(195)إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ(196)وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلا أَنفُسَهُمْ يَنصُرُونَ(197)وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لا يَسْمَعُوا وَتَرَاهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ(198)}



{إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ} أي إن الذين تعبدونهم من دونه تعالى من الأصنام وتسمونهم آلهة مخلوقون مثلكم بل الأناس أكمل منها لأنها تسمع وتبصر وتبطش وتلك لا تفعل شيئاً من ذلك فلهذا قال {فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} أمرٌ على جهة التعجيز والتبكيت أي أدعوهم في جلب نفع أو دفع ضرٍّ إن كنتم صادقين في دعوى أنها آلهة {أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا} توبيخ إثر توبيخ وكذلك ما بعده من الاستفهام للتقريع والتوبيخ أي هل لهذه الأصنام {أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا} أي أم هل لهم أيدٍ تفتك وتبطش بمن أرادها بسوء؟ {أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا} أي أم هل لهم أعينٌ تبصر بها الأشياء؟ {أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا} أي أم هل لهم آذان تسمع بها الأصوات؟ والغرض بيان جهلهم وتسفيه عقولهم في عبادة جمادات لا تسمع ولا تبصر ولا تغني عن عابدها شيئاً لأنها فقدت الحواس وفاقد الشيء لا يعطيه، والإِنسان أفضل بكثير من هذه الأصنام لوجود العقل والحواس فيه فكيف يليق بالأكمل الأشرف أن يشتغل بعبادة الأخسّ الأدون الذي لا يحسُّ منه فائدة أبداً لا في جلب منفعة ولا في دفع مضرّة؟‍ {قُلِ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ} أي قل لهم يا محمد ادعوا أصنامكم واستنصروا واستعينوا بها عليَّ {ثُمَّ كِيدُونِ فَلا تُنظِرُونِ} أي ابذلوا جهدكم أنتم وهم في الكيد لي وإلحاق الأذى والمضرة بي ولا تمهلون طرفة عين، فإني لا أبالي بكم لاعتمادي على الله قال الحسن: خوفوا الرسول صلى الله عليه وسلم بآلهتهم فأمره تعالى أن يجابههم بذلك {إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ} أي إنَّ الذي يتولى نصري وحفظي هو الله الذي نزَّل عليَّ القرآن {وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ} أي هو جل وعلا يتولى عباده الصالحين بالحفظ والتأييد، وهو وليهم في الدنيا والآخرة {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلا أَنفُسَهُمْ يَنصُرُونَ} كرّره ليبيّن أن ما يعبدونه لا ينفع ولا يضر {وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لا يَسْمَعُوا} أي وإِن تدعوا هذه الأصنام إلى الهداية والرشاد لا يسمعوا دعاءكم فضلاً عن المساعدة والإِمداد {وَتَرَاهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ} أي وتراهم يقابلونك بعيون مصورة كأنها ناظرة وهي جماد لا تبصر لأن لهم صورة الأعين وهم لا يرون بها شيئاً.



أمره صلى الله عليه وسلم بمكارم الأخلاق، ومقاومة الشيطان



{خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ(199)وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ(200)إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ(201)وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ(202)}



{خُذِ الْعَفْوَ} أمرٌ له عليه الصلاة والسلام بمكارم الأخلاق أي خذ بالسهل اليسير في معاملة الناس ومعاشرتهم، قال ابن كثير: وهذا أشهر الأقوال ويشهد له قول جبريل للرسول صلى الله عليه وسلم "إن الله يأمركَ أن تعفو عمن ظلمك، وتعطي من حرمك، وتصل من قطعك" {وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ} أي بالمعروف والجميل المستحسن من الأقوال والأفعال {وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} أي لا تقابل السفهاء بمثل سفههم بل احلم عليهم، قال القرطبي: وهذا وإن كان خطاباً لنبيه عليه الصلاة والسلام فهو تأديبٌ لجميع خلقه {وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ} أي وإمّا يصيبنَّك يا محمد طائف من الشيطان بالوسوسة والتشكيك في الحق {فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ} أي فاستجر بالله والجأ إليه في دفعه عنك {إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} أي سميعٌ لما تقول عليمٌ بما تفعل {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا} أي الذين اتصفوا بتقوى الله {إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ} أي إذا أصابهم الشيطان بوسوسته وحام حولهم بهواجسه {تَذَكَّرُوا} أي تذكروا عقاب الله وثوابه {فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ} أي يبصرون الحق بنور البصيرة ويتخلصون من وساوس الشيطان {وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ} أي إخوان الشياطين الذين لم يتقوا الله وهم الكفرة الفجرة فإن الشياطين تغويهم وتزين لهم سبل الضلال {ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ} أي لا يُمْسكون ولا يكفّون عن إغوائهم.



اتباع النبي صلى الله عليه وسلم الوحي الإلهي، وخصائص القرآن



{وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قَالُوا لَوْلا اجْتَبَيْتَهَا قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحَى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي هَذَا بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ(203)}



{وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ} أي وإذا لم تأتهم بمعجزةٍ كما اقترحوا {قَالُوا لَوْلا اجْتَبَيْتَهَا} أي هلاّ اختلقتها يا محمد واخترعتها من عند نفسك؟‍ وهو تهكمٌ منهم لعنهم الله {قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحَى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي} أي قل لهم يا محمد ليس الأمر إليَّ حتى آتي بشيءٍ من عند نفسي وإنما أنا عبدٌ امتثل ما يوحيه الله إليَّ {هَذَا بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ} أي هذا القرآن الجليل حججٌ بيّنة، وبراهين نيّرة يغني عن غيره من المعجزات فهو بمنزلة البصائر للقلوب به يُبْصر الحق ويُدرك {وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} أي وهداية ورحمة للمؤمنين لأنهم المتقبسون من أنواره والمنتفعون من أحكامه.



تعظيم القرآن باستماعه، وطرق ذكر الله



{وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْءانُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ(204)وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ وَلا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ(205)إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ(206)}



{وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْءانُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا} أي وإذا تليت آيات القرآن فاستمعوها بتدبر واسكتوا عند تلاوته إعظاماً للقرآن وإجلالاً {لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} أي لكي تفوز بالرحمة {وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ} أي واذكر ربك سراً مستحضراً لعظمته وجلاله {تَضَرُّعًا وَخِيفَةً} أي متضرعاً إليه وخائفاً منه {وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ} أي وسطاً بين الجهر والسرّ {بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ} أي في الصباح والعشيّ {وَلا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ} أي ولا تغفُل عن ذكر الله {إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ} أي الملائكة الأطهار {لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ} أي لا يتكبرون عن عبادة ربهم {وَيُسَبِّحُونَهُ} أي ينزهونه عما لا يليق به {وَلَهُ يَسْجُدُونَ} أي لا يسجدون إلا لله.

yacine414
2011-03-26, 11:19
سورة الانفال


السؤال عن حكم قسمة الغنائم، وبيان صفات المؤمنين

كراهية بعض المؤمنين قتال قريش في بدر

مدد الملائكة في معركة بدر، وإلقاء النعاس وإنزال المطر على المؤمنين

الأمر بالثبات في وجه العدو، والنصر من عند الله

الأمر بطاعة الله والرسول والتحذير من المخالفة

الاستجابة لله والرسول لأن في ذلك الحياة الأبدية

الأمر بعدم خيانة الله والرسول، وخيانة الأمانة

فضل تقوى الله عز وجل

كيد المشركين للنبي صلى الله عليه وسلم

استعجال المشركين العذاب، ومنع تعذيبهم إكراماً للنبي صلى الله عليه وسلم، وحال صلاتهم عند البيت

إنفاق الكافرين أموالهم للصد عن سبيل الله وتحسرهم على الأموال

قتال الكفار درء للفتنة وإذا أسلموا لهم المغفرة

تقسيم الغنائم

تكثير المؤمنين ببدر في أعين المشركين وتقليل المشركين في أعين المؤمنين

الأمر بالثبات أمام العدو، وعدم التنازع

تبرُّؤ الشيطان من الكفار وقت بدر

إهلاك الكفار المشركين لسوء أعمالهم

حال من نقض العهد مع الرسول صلى الله عليه وسلم

الأمر بالإعداد للجهاد قدر الاستطاعة

تفضيل السلام، والتحريض على القتال

قَبول الفداء من الأسرى

تصنيف المؤمنين حسب إيمانهم وهجرتهم



بَين يَدَيْ السُّورَة



* سورة الأنفال إحدى السور المدنية التي عُنيت بجانب التشريع، وبخاصة فيما يتعلق بالغزوات والجهاد في سبيل الله، فقد عالجت بعض النواحي الحربية التي ظهرت عقب بعض الغزوات، وتضمنت كثيراً من التشريعات الحربية، والإِرشادات الإِلهية التي يجب على المؤمنين اتباعها في قتالهم لأعداء الله، وتناولت جانب السلم والحرب، وأحكام الأسر والغنائم.



* نزلت هذه السورة الكريمة في أعقاب "غزوة بدر" التي كانت فاتحة الغزوات في تاريخ الإِسلام المجيد، وبداية النصر لجند الرحمن حتى سماها بعض الصحابة "سورة بدر" لأنها تناولت أحداث هذه الموقعة بإِسهاب، ورسمت الخطة التفصيلية للقتال، وبيّنت ما ينبغي أن يكون عليه المسلم من البطولة والشهامة، والوقوف في وجه الباطل بكل شجاعة وجرأة وحزم وصمود.



* ومن المعلوم من تاريخ الغزوات التي خاضها المسلمون أن غزوة بدر كانت في رمضان في السنة الثانية للهجرة، وكانت من الجولات الأول بين الحق والباطل، ورد البغي والطغيان، وإِنقاذ المستضعفين من الرجال والنساء والولدان، الذين قعد بهم الضعف في مكة، وأخذوا في الضراعة إِلى الله أن يخرجهم من القرية الظالم أهلها، وقد استجاب الله ضراعتهم فهيأ لهم ظروف تلك الغزوة، التي تمَّ فيها النصر للمؤمنين على قلة في عددهم، وضعف في عُدَدهم، وعلى عدم تهيؤهم للقتال، وبها عرف أنصار الباطل أنه مهما طال أمده، وقويت شوكته، وامتد سلطانه، فلا بدَّ له من يوم يخرّ فيه صريعاً أمام جلال الحق وقوة الإِيمان، وهكذا كانت غزوة بدر نصراً للمؤمنين، وهزيمة للمشركين.



* وفي ثنايا سرد أحداث بدر جاءت النداءات الإِلهية للمؤمنين ست مرات بوصف الإِيمان {يا أيها الذين ءامنوا} تحفيزاً لهم على الصبر والثبات في مجاهدتهم لأعداء الله، وتذكيراَ لهم بأن هذه التكاليف التي أُمروا بها من مقتضيات الإِيمان الذي تحلوا به، وأن النصر الذي حازوا عليه كان بسبب الإِيمان لا بكثرة السلاح والرجال.



* أما النداء الأول: فقد جاء فيه التحذير من الفرار من المعركة {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلا تُوَلُّوهُمُ الأَدْبَارَ} [الأنفال: 15] وقد توعدت الآيات المنهزمين أمام الأعداء بأشد العذاب.



* وأما النداء الثاني: فقد جاء فيه الأمر بالسمع والطاعة لأمر الله وأمر رسوله {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ} [الأنفال: 20] كما صوّرت الآيات الكافرين بالأنعام السارحة التي لا تسمع ولا تعي ولا تستجيب لدعوة الحق.



* وأما النداء الثالث: فقد بيّن فيه أن ما يدعوهم إِليه الرسول فيه حياتهم وعزتهم وسعادتهم في الدنيا والآخرة {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ ..} [الأنفال: 24].



* وأما النداء الرابع: فقد نبههم فيه إلى أنَّ إفشاء سر الأمة للأعداء خيانة للهِ ولرسوله وخيانة للأمة أيضاً {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [الأنفال: 27].



* وأما النداء الخامس: فقد لفت نظرهم فيه إِلى ثمرة التقوى، وذكرهم بأنها أساس الخير كله، وأن من أعظم ثمرات التقوى ذلك النور الرباني، الذي يقذفه الله في قلب المؤمن، وبه يفرق بين الرشد والغيّ، والهدى والضلال {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الأنفال: 29].





* وأما النداء السادس: وهو النداء الأخر فقد وضّح لهم فيه طريق العزة، وأسس النصر، وذلك بالثبات أمام الأعداء، والصبر عند اللقاء، واستحضار عظمة الله التي لا تحد، وقوته التي لا تقهر، والاعتصام بالمدد الروحي الذي يعينهم على الثبات ألا وهو ذكر الله كثيراً {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءامنوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الأنفال: 45].



* وقد ختمت السورة الكريمة ببيان الولاية الكاملة بين المؤمنين، وأنه مهما تناءت ديارهم، واختلفت أجناسهم، فهم أمة واحدة، وعليهم نصر الذين يستنصرونهم في الدين، كما أن ملة الكفر أيضاً واحدة، وبين الكافرين ولاية قائمة على أسس البغي والضلال، وأنه لا ولاية بين المؤمنين والكافرين {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ}.

* هذا خلاصة ما أشارت إِليه السورة الكريمة من أهداف، وما أرشدت إِليه من دروس وعبر، نسأله تعالى أن يجعلنا من أهل الفهم والبصر.





السؤال عن حكم قسمة الغنائم، وبيان صفات المؤمنين



{يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنْفَالِ قُلِ الأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ(1)إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ ءاياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانَا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ(2)الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ(3)أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ(4)}



سبب النزول:

أ- عن ابن عباس قال: لما كان يوم بدر قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من قتل قتيلاً فله كذا وكذا، ومن أسر أسيراً فله كذا وكذا، فأما المشيخة فثبتوا تحت الرايات، وأما الشبان فتسارعوا إلى القتل والغنائم فقال المشيخة للشبان: أشركونا معكم فإِننا كنا لكم رِدءاً ولو كان منكم شيء للجأتم إِلينا فأبوا واختصموا إِلى النبي صلى الله عليه وسلم فنزلت {يسألونك عن الأنفال} الآية فقسَّم صلى الله عليه وسلم الغنائم بينهم بالسوية.

ب- روي أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ قبضة من تراب يوم بدر فرمى بها في وجوه القوم وقال: شاهت الوجوه فما بقي أحد من المشركين إِلا أصاب عينيه ومنخريه تراب من تلك القبضة وولوا مدبرين فنزلت {وما رميت إِذ رميت ولكنَّ الله رمى ...} الآية.



{يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنْفَالِ} أي يسألك أصحابك يا محمد عن الغنائم التي غنمتها من بدر لمن هي؟ وكيف تقسم؟ {قُلِ الأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ} أي قل لهم: الحكم فيها لله والرسول لا لكم {فَاتَّقُوا اللَّهَ} أي اتقوا الله بطاعته واجتناب معاصيه {وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ} أي أصلحوا الحال التي بينكم بالائتلاف وعدم الاختلاف {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ} أي أطيعوا أمر الله وأمر رسوله في الحكم في الغنائم، قال عبادة بن الصامت: نزلت فينا أصحاب بدر حين اختلفنا وساءت أخلاقنا، فنزع الله الأنفال من أيدينا وجعلها لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقسمها على السواء فكان في ذلك تقوى الله، وطاعة رسوله، وإِصلاح ذات البين {إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ} شرط حذف جوابه أي إِن كنتم حقاً مؤمنين كاملين في الإِيمان فأطيعوا الله ورسوله .

{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ} أي إِنما الكاملون في الإِيمان المخلصون فيه {الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} أي إِذا ذكر اسم الله فزعت قلوبهم لمجرد ذكره، استعظاماً لشأنه، وتهيباً منه جلَّ وعلا {وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ ءاياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانَاً} أي إِذا تليت عليهم آيات القرآن ازداد تصديقهم ويقينهم بالله {وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} أي لا يرجون غير الله ولا يرهبون سواه، قال أبو حيّان: أخبر عنهم باسم الموصول (الذين) بثلاث مقامات عظيمة وهي: مقام الخوف، ومقام الزيادة في الإِيمان، ومقام التوكل على الرحمن {الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ} أي يؤدون الصلاة على الوجه الأكمل بخشوعها وفروضها وآدابها {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} أي وينفقون في طاعة الله مما أعطاهم الله، وهو عام في الزكاة ونوافل الصدقات.

{أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا} أي المتصفون بما ذكر من الصفات الحميدة هم المؤمنون إِيماناً حقاً لأنهم جمعوا بين الإِيمان وصالح الأعمال {لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ} أي لهم منازل رفيعة في الجنة {وَمَغْفِرَةٌ} أي تكفير لما فرط منهم من الذنوب {وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} أي رزق دائم مستمر مقرون بالإِكرام والتعظيم.



كراهية بعض المؤمنين قتال قريش في بدر



{كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ(5)يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنظُرُونَ(6)وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ(7)لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ(8)}



{كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ} الكاف تقتضي مشبّهاً، قال ابن عطية: شبهت هذه القصة التي هي إِخراجه من بيته بالقصة المتقدمة التي هي سؤالهم عن الأنفال وكراهتهم لما وقع فيها، والمعنى: حالهم في كراهة تنفيل الغنائم كحالهم في حالة خروجك للحرب، وقال الطبري: المعنى: كما أخرجك ربك بالحق على كرهٍ من فريقٍ من المؤمنين كذلك يجادلونك في الحق بعدما تَبيَّن، والحقُّ الذي كانوا يجادلون فيه النبي صلى الله عليه وسلم بعد ما تبيّنوه هو القتال {وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ} أي والحال أن فريقاً منهم كارهون للخروج لقتال العدو خوفاً من القتل أو لعدم الاستعداد.

{يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ} أي يجادلونك يا محمد في شأن الخروج للقتال بعد أن وضح لهم الحق وبان، وكان جدالهم هو قولهم: ما كان خروجنا إِلاّ للعير ولو عرفنا لاستعددنا للقتال {كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنظُرُونَ} قال البيضاوي: أي يكرهون القتال كراهة من ينساق إِلى الموت وهو يشاهد أسبابه، وذلك لقلة عددهم وعدم تأهبهم، وفيه إِيماء إِلى أن مجادلتهم إِنما كانت لفرط فزعهم ورعبهم.

{وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ} أي اذكروا حين وعدكم الله يا أصحاب محمد إِحدى الفرقتين أنها لكم غنيمة إِما العير أو النفير {وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ} أي وتحبون أن تلقوا الطائفة التي لا سلاح لها وهي العير لأنها كانت محمّلة بتجارة قريش، قال المفسرون: روي أن عير قريش أقبلت من الشام وفيها تجارة عظيمة برئاسة أبي سفيان، ونزل جبريل عليه السلام فقال يا محمد: إِن الله وعدكم إِحدى الطائفتين: إِما العير وإِما قريشا، فاستشار الرسول صلى الله عليه وسلم أصحابه فاختاروا العير لخفة الحرب وكثرة الغنيمة، فلما خرجوا بلغ الخبر أهل مكة فنادى أبو جهل: يا أهل مكة النجاء النجاءَ، عيركُم أموالكم إِن أصابها محمد فلن تفلحوا بعدها أبداً، فخرج المشركون على كل صعب وذلول ومعهم أبو جهل حتى وصلوا بدراً، ونجت القافلة فأخبر الرسول صلى الله عليه وسلم أصحابه وقال لهم: إِن العير قد مضت على ساحل البحر، وهذا أبو جهل قد أقبل، فقالوا يا رسول الله: عليك بالعير ودع العدو فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقام سعد بن عبادة فقال: امض بنا لما شئت فإنا متبعوك، وقام سعد بن معاذ فقال: والذي بعثك بالحق لو خضت بنا البحر لخضناه معك فسرْ بنا على بركة الله، فسُرَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال لأصحابه: سيروا على بركة الله وأبشروا فإِن الله قد وعدني إِحدى الطائفتين، والله لكأني أنظر إِلى مصارع القوم .

{وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ} أي يظهر الدين الحق وهو الإِسلام بقتل الكفار وإِهلاكهم يوم بدر {وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ} أي يستأصل الكافرين ويهلكهم جملة من أصلهم، قال أبو حيّان: المعنى أنكم ترغبون في الفائدة العاجلة، وسلامة الأحوال، وسفساف الأمور، والله تعالى يريد معالي الأمور، وإِعلاء الحق، والفوز في الدارين، وشتّان ما بين المرادين، ولذلك اختار لكم ذات الشوكة وأراكم عياناً خذلانهم، فنصركم وهزمهم، وأذلهم وأعزكم {لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ} متعلق بمحذوف تقديره: ليحق الحقَّ ويبطل الباطل فعل ما فعل والمراد إِظهار الإِسلام وإِبطال الكفر {وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ} أي لو كره المشركون ذلك أي إِظهار الإِسلام وإِبطال الشرك.



مدد الملائكة في معركة بدر، وإلقاء النعاس وإنزال المطر على المؤمنين



{إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ(9)وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ(10)إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الأَقْدَامَ(11)إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ ءامنوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ(12)ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ(13)ذَلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابَ النَّارِ(14)}



{إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ} أي اذكروا حين تطلبون من ربكم الغوث بالنصر على المشركين، روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نظر إِلى المشركين وهم ألف، وإِلى أصحابه وهم ثلاثمائة وبضعة عشر، فاستقبل القبلة ومدَّ يديه ويدعو: اللهم أنجز لي ما وعدتني، اللهم إِن تهلك هذه العصابة من أهل الإِسلام فلن تعبد في الأرض، فما زال كذلك حتى سقط رداؤه عن منكبيه، فأخذه أبو بكر فألقاه على منكبيه ثم التزمه من ورائه وقال: يا نبيَّ الله كفاكَ مناشدتك ربك فإِنه سينجز لك ما وعدك فنزلت هذه الآية {فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ} أي استجاب الله الدعاء بأني معينكم بألف من الملائكة {مُرْدِفِينَ} أي متتابعين يتبع بعضهم بعضاً، قال المفسرون: ورد أن جبريل نزل بخمسمائة وقاتل بها في يمين الجيش، ونزل ميكائيل بخمسمائة وقاتل بها في يسار الجيش، ولم يثبت ان الملائكة قاتلت في وقعة إِلا في بدر، وأما في غيرها فكانت تنزل الملائكة لتكثير عدد المسلمين ولا تقاتل {وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلا بُشْرَى} أي وما جعل إِمدادكم بالملائكة إِلا بشارة لكم بالنصر {وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ} أي ولتسكن بهذا الإِمداد نفوسكم {وَمَا النَّصْرُ إِلا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} أي وما النصر في الحقيقة إِلا من عند الله العلي الكبير فثقوا بنصره ولا تتكلوا على قوتكم وعدّتكم {إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} أي غالب لا يُغلب يفعل ما تقضي به الحكمة.

{إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ} أي يلقي عليكم النوم أمناً من عنده سبحانه وتعالى، وهذه معجزة لرسول الله صلى الله عليه وسلم حيث غشي الجميعَ النومُ في وقت الخوف قال علي رضي الله عنه: "ما كان فينا فارس يوم بدر غير المقداد، ولقد رأيتنا وما فينا إِلا نائم إِلا رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي تحت شجرة ويبكي حتى أصبح" قال ابن كثير: وكأن ذلك كان للمؤمنين عند شدة البأس، لتكون قلوبهم آمنة مطمئنة بنصر الله {وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً} تعديد لنعمة أخرى، وذلك أنهم عدموا الماء في غزوة بدر فأنزل الله عليهم المطر حتى سالت الأودية، وكان منهم من أصابته جنابة فتطهر بماء المطر {لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ} أي من الأحداث والجنابات {وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ} أي يدفع عنكم وسوسته وتخويفه إِياكم من العطش، قال البيضاوي: روي أنهم نزلوا في كثيبٍ أعفر، تسوخ فيه الأقدام على غير ماء، وناموا فاحتلم أكثرهم فوسوس إِليهم الشيطان وقال: كيف تُنصرون وقد غُلبتم على الماء، وأنتم تصلون محدثين مجنبين وتزعمون أنكم أولياء الله وفيكم رسوله؟ فأنزل الله المطر حتى ثبتت عليه الأقدام وزالت الوسوسة {وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ} أي يقوّيها بالثقة بنصر الله {وَيُثَبِّتَ بِهِ الأَقْدَامَ} أي يُثبت بالمطر الأقدام حتى لا تسوخ في الرمل، قال الطبري: ثبّت بالمطر أقدامهم لأنهم كانوا التقوا مع عدوهم على رملةٍ ميثاء فلبّدها المطر حتى صارت الأقدام عليها ثابتة لا تسوخ فيها .

{إِذْ يوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ} تذكير بنعمةٍ أخرى أي يوحي إِلى الملائكة بأني معكم بالعون والنصر {فَثَبِّتُوا الَّذِينَ ءامنوا} أي ثبتوا المؤمنين وقوّوا أنفسهم على أعدائهم {سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ} أي سأقذف في قلوب الكافرين الخوف والفزع حتى ينهزموا {فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأَعْنَاقِ} أي اضربوهم على الأعناق كقوله {فَضَربَ الرِّقابِ} وقيل: المراد الرؤوس لأنها فوق الأعناق {وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ} أي اضربوهم على أطراف الأصابع، قال ابن جزي: وفائدة ذلك أن المقاتل إِذا ضربت أصابعه تعطَّل عن القتال فأمكن أسره وقتله .

{ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ} أي ذلك العذاب الفظيع واقع عليهم بسبب مخالفتهم وعصيانهم لأمر الله وأمر رسوله {وَمَنْ يُشَاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} أي ومن يخالف أمر الله وأمر رسوله بالكفر والعناد فإِن عذاب الله شديد له {ذَلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابَ النَّارِ}أي ذلكم العقاب فذوقوه يا معشر الكفار في الدنيا، مع أن لكم العقاب الآجل في الآخرة وهو عذاب النار.



الأمر بالثبات في وجه العدو، والنصر من عند الله



{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءامنوا إِذَا لَقِيتُمْ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلا تُوَلُّوهُمُ الأَدْبَارَ(15)وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ(16)فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَنًا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ(17)ذَلِكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ(18)إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءكُمْ الْفَتْحُ وَإِنْ تَنتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ وَلَنْ تُغْنِيَ عَنكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئًا وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ(19)}



{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءامنوا إِذَا لَقِيتُمْ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا} أي إِذا لقيتم أعداءكم الكفار مجتمعين كأنهم لكثرتهم يزحفون زحفاً {فَلا تُوَلُّوهُمُ الأَدْبَارَ} أي فلا تنهزموا أمامهم بل اثبتوا واصبروا {وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ} أي ومن يولهم يوم اللقاء ظهره منهزماً {إِلا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ} أي إِلا في حال التوجه إِلى قتال طائفة أخرى، أو بالفر للكرّ بأن يخيّل إِلى عدوه أنه منهزم ليغرّه مكيدة وهو من باب "الحرب خدعة" {أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ} أي منضماً إِلى جماعة المسلمين يستنجد بهم {فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ} أي فقد رجع بسخطٍ عظيم {وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ} أي مقره ومسكنه الذي يأوي إِليه نار جهنم {وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} أي بئس المصير والمآل .

{فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ} أي فلم تقتلوهم أيها المسلمون ببدر بقوتكم وقدرتكم، ولكنَّ الله قتلهم بنصركم عليهم وإِلقاء الرعب في قلوبهم {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ} أي وما رميت في الحقيقة أنت يا محمد أعين القوم بقبضةٍ من تراب لأن كفاً من تراب لا يملأ عيون الجيش الكبير، قال ابن عباس: أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم قبضة من التراب فرمى بها في وجه المشركين وقال: شاهت الوجوه، فلم يبق أحد منهم إِلا أصاب عينيه ومنخريه من تلك الرمية فولوا مدبرين {وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} أي بإِيصال ذلك إِليهم فالأمر في الحقيقة من الله {وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَنًا} أي فعل ذلك ليقهر الكافرين ويُنعم على المؤمنين بالأجر والنصر والغنيمة {إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} أي سميع لأقوالهم عليم بنياتهم وأحوالهم.

{ذَلِكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ} أي ذلك الذي حدث من قتل المشركين ونصر المؤمنين حق، والغرض منه إِضعاف وتوهين كيد الكافرين حتى لا تقوم لهم قائمة {إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءكُمْ الْفَتْحُ} هذا خطاب لكفار قريش أي إِن تطلبوا يا معشر الكفار الفتح والنصر على المؤمنين فقد جاءكم الفتح وهو الهزيمة والقهر، وهذا على سبيل التهكم بهم قال الطبري في رواية الزهري: قال أبو جهل يوم بدر: اللهم أينا كان أفجر، وأقطع للرحم، فأحِنْه اليوم - أي أهلكه - فأنزل الله {إِن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح} فكان أبو جهل هو المستفتح {وَإِنْ تَنتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} أي وإِن تكفّوا يا معشر قريش عن حرب الرسول ومعاداته، وعن الكفر بالله ورسوله فهو خير لكم في دنياكم وآخرتكم {وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ} أي وإِن تعودوا لحربه وقتاله نعد لنصره عليكم {وَلَنْ تُغْنِيَ عَنكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئًا وَلَوْ كَثُرَتْ} أي لن تدفع عنكم جماعتكم التي تستنجدون بها شيئاً من عذاب الدنيا مهما كثر الأعوان والأنصار {وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ} أي لأن الله سبحانه مع المؤمنين بالنصر والعون والتأييد.

الأمر بطاعة الله والرسول والتحذير من المخالفة



{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءامنوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ(20)وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ(21)إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ(22)وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوا وَهُمْ مُعْرِضُونَ(23)}



{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءامنوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ} أي دوموا على طاعة الله وطاعة رسوله يدم لكم العز الذي حصل ببدر{وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ} أي لا تعرضوا عنه بمخالفة أمره وأصله تتولوا حذفت منه إِحدى التاءين {وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ} أي تسمعون القرآن والمواعظ {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ} أي لا تكونوا كالكفار الذين سمعوا بآذانهم دون قلوبهم، فسماعهم كعدم السماع لأن الغرض من السماع التدبر والاتعاظ .

{إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ} أي شرَّ الخلق وشرَّ البهائم التي تدبُّ على وجه الأرض {الصُّمُّ الْبُكْمُ} أي الصمُّ الذين لا يسمعون الحق، البكم أي الخرس الذين لا ينطقون به {الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ} أي الذين فقدوا العقل الذي يميز به المرء بين الخير والشر، نزلت في جماعة من بني عبد الدار كانوا يقولون: نحن صمٌّ بكمٌّ عما جاء به محمد، وتوجهوا لقتال الرسول صلى الله عليه وسلم مع أبي جهل، وفي الآية غاية الذم للكافرين بأنهم أشرُّ من الكلب والخنزير والحمير، لأنهم لم يستفيدوا من حواسهم فصاروا أخسَّ من كل خسيس {وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لأَسْمَعَهُمْ} أي لو علم الله فيهم شيئاً من الخير لأسمعهم سماع تفهم وتدبر {وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوا وَهُمْ مُعْرِضُونَ} أي ولو فُرض أن الله أسمعهم - وقد علم أن لا خير فيهم - لتولوا وهم معرضون عنه جحوداً وعناداً، وفي هذا تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم على عدم إِيمان الكافرين.



الاستجابة لله والرسول لأن في ذلك الحياة الأبدية



{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءامنوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ(24)وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ(25)وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمْ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ(26)}



{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءامنوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} أي أجيبوا دعاء رسوله إِذا دعاكم للإِيمان الذي به تحيا النفوس، وبه تحيون الحياة الأبدية، قال قتادة: هو القرآن فيه الحياة، والثقة، والنجاة، والعصمة في الدنيا والآخرة {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ} أي أنه تعالى المتصرف في جميع الأشياء، يصرّف القلوب كيف يشاء بما لا يقدر عليه صاحبها، فيفسخ عزائمه، ويغيّر مقاصده، ويلهمه رشده، أو يُزيغ قلبه عن الصراط السوي، وفي الحديث: (يا مقلب القلوب ثبِّت قلبي على دينك) قال ابن عباس: يحول بين المؤمن والكفر، وبين الكافر والإِيمان، قال أبو حيان: وفي ذلك حضٌ على المراقبة، والخوف من الله تعالى والمبادرة إِلى الاستجابة له جلَّ وعلا {وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} أي وأنه سبحانه إِليه مرجعكم ومصيركم فيجازيكم بأعمالكم .

{وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} أي احذروا بطش الله وانتقامه إن عصيتم أمره واحذروا فتنة إن نزلت بكم لم تقتصر على الظالم خاصة بل تعم الجميع، وتصل إِلى الصالح والطالح، لأن الظالم يهلك بظلمه وعصيانه، وغير الظالم يهلك لعدم منعه وسكوته عليه وفي الحديث (إِن الناس إِذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه، أوشك أن يعمهم الله بعذابٍ من عنده) قال ابن عباس: أمر الله المؤمنين ألاّ يقروا المنكر بين أظهرهم فيعمهم الله بالعذاب، فيصيب الظالم وغير الظالم {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} وهذا وعيد شديد أي شديد العذاب لمن عصاه.

{وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ} أي اذكروا نعمة الله عليكم حينما كنتم قلة أذلة يستضعفكم الكفار في أرض مكة فيفتنونكم عن دينكم وينالونكم بالأذى والمكروه {تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ} أي تخافون المشركين أن يختطفوكم بالقتل والسلب، والخطف: الأخذ بسرعة {فَآوَاكُمْ} أي جعل لكم مأوى تتحصنون به من أعدائكم وهو المدينة المنورة {وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ} أي أعانكم وقواكم يوم بدر بنصره المؤزر حتى هزمتموهم {وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ} أي منحكم غنائمهم حلالاً طيبة ولم تكن تحل لأحد من قبل {لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} أي لتشكروا الله على هذه النعم الجليلة، والغرض التذكير بالنعمة فإِنهم كانوا قبل ظهور الرسول صلى الله عليه وسلم في غاية القلة والذلة، وبعد ظهوره صاروا في غاية العزة والرفعة، فعليهم أن يطيعوا الله ويشكروه على هذه النعمة.

yacine414
2011-03-26, 11:20
الأمر بعدم خيانة الله والرسول، وخيانة الأمانة



{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءامنوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ(27)وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ(28)}



{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءامنوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ} أي لا تخونوادينكم ورسولكم بإِطلاع المشركين على أسرار المؤمنين {وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ} أي ما ائتمنكم عليه من التكاليف الشرعية كقوله {إِنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال ...} الآية قال ابن عباس: خيانة الله سبحانه بترك فرائضه، والرسول صلى الله عليه وسلم بترك سنته وارتكاب معصيته، والأمانات: الأعمال التي ائتمن الله عليها العباد {وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} أي تعلمون أنه خيانة وتعرفون تبعة ذلك ووباله {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ} أي محنة من الله ليختبركم كيف تحافظون معها على حدوده، قال الإِمام الفخر الرازي: وإِنما كانت فتنة لأنها تشغل القلب بالدنيا، وتصير حجاباً عن خدمة المولى {وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} أي ثوابه وعطاؤه خير لكم من الأموال والأولاد فاحرصوا على طاعة الله.



فضل تقوى الله عز وجل



{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءامنوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ(29)}



{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءامنوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا} أي إِن أطعتم الله واجتنبتم معاصيه يجعل لكم هداية ونوراً في قلوبكم، تفرقون به بين الحق والباطل كقوله {ويجعل لكم نوراً تمشون به} وفي الآية دليل على أن التقوى تنور القلب، وتشرح الصدر، وتزيد في العلم والمعرفة {وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} أي يمحو عنكم ما سلف من ذنوبكم {وَيَغْفِرْ لَكُمْ} أي يسترها عليكم فلا يؤاخذكم بها {وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} أي واسع الفضل عظيم العطاء.



كيد المشركين للنبي صلى الله عليه وسلم



{وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ(30)وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ ءايَاتُنَا قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ(31)}



{وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا} هذا تذكير بنعمة خاصة على الرسول صلى الله عليه وسلم بعد تذكير المؤمنين بالنعمة العامة عليهم والمعنى: اذكر يا محمد حين تآمر عليك المشركون في دار الندوة {لِيُثْبِتُوكَ} أي يحبسوك {أَوْ يَقْتُلُوكَ} أي بالسيف ضربة رجل واحد ليتفرق دمه صلى الله عليه وسلم بين القبائل {أَوْ يُخْرِجُوكَ} أي من مكة {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ} أي يحتالون ويتآمرون عليك يا محمد ويدبر لك ربك ما يبطل مكرهم ويفضح أمرهم {وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} أي مكرُه تعالى أنفذُ من مكرهم وأبلغ تأثيراً.

قال الطبري في روايته عن ابن عباس: إِن نفراً من أشراف قريش اجتمعوا في دار الندوة فاعترضهم إِبليس في صورة شيخ جليل، فلما رأوه قالوا: من أنت؟ قال شيخ من العرب، سمعت باجتماعكم فأردت أن أحضركم ولن يعدمكم مني رأي ونصح قالوا: أجل فادخل، فقالوا انظروا في شأن هذا الرجل - يعني محمداً صلى الله عليه وسلم - فقال قائل: احبسوه في وثاق ثم تربصوا به ريب المنون حتى يهلك، فصرخ عدو الله وقال: والله ما هذا لكم برأي، فليوشكن أن يثب أصحابه عليه حتى يأخذوه من أيديكم فيمنعوه منكم، فقال قائل: أخرجوه من بين أظهركم تستريحوا منه فإِنه إِذا خرج فلن يضركم ما صنع وأين وقع، فقال الشيخ المذكور: والله ما هذا لكم برأي، ألم تروا حلاوة قوله، وطلاقة لسانه، وأخذه القلوب بحديثه؟ والله لئن فعلتم لتجتمعن عليكم العرب حتى يخرجوكم من بلادكم ويقتلوا أشرافكم، قالوا صدق فانظروا رأياً غير هذا.

فقال أبو جهل: والله لأشيرن عليكم برأي ما أرى غيره! قالوا: وما هو؟ قال نأخذ من كل قبيلة غلاماً شاباً جلداً، ونعطي كل واحد سيفاً صارماً، ثم يضربونه ضربة رجل واحد، ويتفرق دمه في القبائل كلها، ولا أظن بني هاشم يقدرون على حرب العرب كلها فيقبلون الدية ونستريح منه ونقطع عنا أذاه، فصرخ عدو الله إِبليس: هذا والله الرأي لا أرى غيره، فتفرقوا على ذلك فأتى جبريل النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره وأمره أن لا يبيت في مضجعه، وأذن له بالهجرة، وأنزل الله عليه بعد قدومه المدينة يذكره نعمته عليه {وإِذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك، أو يخرجوك..} الآية.

{وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ ءايَاتُنَا} أي وإِذا قرئت عليهم آيات القرآن المبين {قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا} أي قالوا مكابرة وعناداً: قد سمعنا هذا الكلام ولو أردنا لقلنا مثله {إِنْ هَذَا إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ} أي ما هذا القرآن الذي تتلوه علينا إِلا أكاذيب وأباطيل وحكايات الأمم السابقة سطروها وليس كلام الله تعالى، قال أبو السعود: وهذا غاية المكابرة ونهاية العناد، كيف لا، ولو استطاعوا لما تأخروا! فما الذي كان يمنعهم وقد تحداهم عشر سنين؟ وقرِّعوا على العجز، ثم قورعوا بالسيف فلم يعارضوه، مع أنفتهم، وفرط استنكافهم أن يغلبوا لا سيما في باب البيان؟!.



استعجال المشركين العذاب، ومنع تعذيبهم إكراماً للنبي صلى الله عليه وسلم،

وحال صلاتهم عند البيت



{وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ(32)وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ(33)وَمَا لَهُمْ أَلا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلا الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ(34)وَمَا كَانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ(35)}



{وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ} أي إِن كان هذا القرآن حقاً منزلاً من عندك {فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ} أي أنزل علينا حاصباً وحجارة من السماء كما أنزلتها على قوم لوط {أَوْ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} أي بعذاب مؤلم أهلكنا به، وهذا تهكم منهم واستهزاء، قال ابن كثير: وهذا من كثرة جهلهم وشدة تكذيبهم وعنادهم، وكان الأولى لهم أن يقولوا: اللهم إِن كان هو الحق من عندك فاهدنا له ووفقنا لاتباعه، ولكنهم استعجلوا العقوبة والعذاب لسفههم {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ} هذا جواب لكلمتهم الشنعاء وبيان للسبب الموجب لإِمهالهم أي إِنهم مستحقون للعذاب ولكنه لا يعذبهم وأنت فيهم إِكراماً لك يا محمد، فقد جرت سنة الله وحكمته ألا يعذب أمة ونبيها بين ظهرانَيْها قال ابن عباس: لم تعذب أمة قط ونبيها فيها، والمراد بالعذاب عذاب الاستئصال {وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} أي وما كان الله ليعذب هؤلاء الكفار وفيهم مؤمنون يستغفرون الله، وهو إِشارة إلى استغفار من بقي بين أظهرهم من المسلمين المستضعفين، قال ابن عباس: كان فيهم أمانان: نبي الله صلى الله عليه وسلم، والاستغفار، أما النبي فقد مضى، وأما الاستغفار فهو باق إِلى يوم القيامة .

{وَمَا لَهُمْ أَلا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ} أي شيء لهم في انتفاء العذاب عنهم؟ وكيف لا يعذبون وهم على ما هم عليه من العتو والضلال؟ {وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} أي وحالهم الصد عن المسجد الحرام كما صدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الحديبية، وكما اضطروه والمؤمنين إِلى الهجرة من مكة، {وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ} أي ما كانوا أهلاً لولاية المسجد الحرام مع إِشراكهم {إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلا الْمُتَّقُونَ} أي إِنما يستأهل ولايته من كان براً تقياً {وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} أي ولكن أكثرهم جهلة سفلة فقد كانوا يقولون: نحن ولاة البيت والحرم، نصد من نشاء، وندخل من نشاء .. والغرض من الآية بيان استحقاقهم لعذاب الاستئصال بسبب جرائمهم الشنيعة، ولكن الله رفعه عنهم إِكراماً لرسوله عليه السلام، ولاستغفار المسلمين المستضعفين.

{وَمَا كَانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً} هذا من جملة قبائحهم أي ما كانت عبادة المشركين وصلاتهم عند البيت الحرام إِلا تصفيراً وتصفيقاً، وكانوا يفعلونهما إِذا صلى المسلمون ليخلطوا عليهم صلاتهم، والمعنى أنهم وضعوا مكان الصلاة والتقرب إِلى الله التصفير والتصفيق، قال ابن عباس: كانت قريش يطوفون بالبيت وهم عراةٌ يصفرون ويصفقون {فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ} أي فذوقوا عذاب القتل والأسر بسبب كفركم وأفعالكم القبيحة، وهو إِشارة إِلى ما حصل لهم يوم بدر.



إنفاق الكافرين أموالهم للصد عن سبيل الله وتحسرهم على الأموال



{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ(36)لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ(37)}



{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} أي يصرفون أموالهم ويبذلونها لمنع الناس عن الدخول في دين الإِسلام، ولحرب محمد عليه السلام، قال الطبري: لما أصيب كفار قريش يوم بدر، ورجع فلُّهم إِلى مكة قالوا: يا معشر قريش إِن محمداً قد وتَرَكم وقتل خياركم، فأعينونا بهذا المال على حربه لعلنا ندرك منه ثأراً بمن أصيب منا فنزلت الآية {فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً} أيفسينفقون هذه الأموال ثم تصير ندامة عليهم، لأن أموالهم تذهب ولا يظفرون بما كانوا يطمعون من إِطفاء نور الله وإِعلاء كلمة الكفر {ثُمَّ يُغْلَبُونَ} إِخبار بالغيب أي ثم نهايتهم الهزيمة والاندحار {كتب الله لأغلبن أنا ورسلي} {وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ} أي والذين ماتوا على الكفر منهم يساقون إِلى جهنم، فأعظم بها حسرة وندامة لمن عاش منهم ومن هلك .

{لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ} أي ليفرق الله بين جند الرحمن وجند الشيطان، ويفصل بين المؤمنين الأبرار والكفرة الأشرار، والمراد بالخبيث والطيب الكافر والمؤمن {وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ} أي يجعل الكفار بعضهم فوق بعض {فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا} أي يجعلهم كالركام متراكماً بعضهم فوق بعض لشدة الازدحام {فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ} أي فيقذف بهم في نار جهنم {أُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} أي الكاملون في الخسران لأنهم خسروا أنفسهم وأموالهم.



قتال الكفار درء للفتنة وإذا أسلموا لهم المغفرة



{قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الأَوَّلِينَ(38)وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ(39)وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ(40)}



ثم دعاهم تعالى إِلى التوبة والإِنابة، وحذرهم من الإِصرار على الكفر والضلال فقال

سبحانه {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} أي قل يا محمد لهؤلاء المشركين من قومك، إِن ينتهوا عن الكفر ويؤمنوا بالله ويتركوا قتالك وقتال المؤمنين، يغفر لهم ما قد سلف من الذنوب والآثام {وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنتُ الأَوَّلِينَ} أي وإِن عادوا إِلى قتالك وتكذيبك فقد مضت سنتي في تدمير وإِهلاك المكذبين لأنبيائي، فكذلك نفعل بهم، وهذا وعيد شديد لهم بالدمار إِن لم يقلعوا عن المكابرة والعناد.

{وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ} أي قاتلوا يا معشر المؤمنين أعداءكم المشركين حتى لا يكون شرك ولا يعبد إلا الله وحده، قال ابن عباس: الفتنة: الشرك، أي حتى لا يبقى مشرك على وجه الأرض، وقال ابن جريج: حتى لا يفتن مؤمن عن دينه {وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} أي تضمحل الأديان الباطلة ولا يبقى إِلا دين الإِسلام، قال الألوسي: واضمحلالها إِما بهلاك أهلها جميعاً، أو برجوعهم عنها، لقوله عليه السلام (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إِله إِلا الله) {فَإِنِ انتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} أي فإِن انتهوا عن الكفر وأسلموا فإِن الله مطلع على قلوبهم، يثيبهم على توبتهم وإِسلامهم.

{وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلاكُمْ} أي وإِن لم ينتهوا عن كفرهم وأعرضوا عن الإِيمان فاعلموا يا معشر المؤمنين أن الله ناصركم ومعينكم عليهم، فثقوا بنصرته وولايته ولا تبالوا بمعاداتهم لكم {نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ} أي نعم الله أن يكون مولاكم فإِنه لا يضيع من تولاه، ونعم النصير لكم فإِنه لا يُغلب من نصره الله.



تقسيم الغنائم



{وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنتُمْ ءامَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ(41)}



{وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ} أي اعلموا أيها المؤمنون أنما غنمتموه من أموال المشركين في الحرب سواء كان قليلاً أو كثيراً {فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} قال الحسن: هذا مفتاح كلام، الدنيا والآخرة لله أي أن ذكر اسم الله على جهة التبرك والتعظيم كقوله {والله ورسوله أحق أن يرضوه} قال المفسرون: تقسم الغنيمة خمسة أقسام، فيعطى الخمس لمن ذكر الله تعالى في هذه الآية، والباقي يوزع على الغانمين {وَلِلرَّسُولِ} أي سهم من الخمس يعطى للرسول صلى الله عليه وسلم {وَلِذِي الْقُرْبَى} أي قرابة الرسول صلى الله عليه وسلم وهم بنو هاشم وبنو المطلب {وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} أي ولهؤلاء الأصناف من اليتامى الذين مات آباؤهم، والفقراء من ذوي الحاجة، والمنقطع في سفره من المسلمين {إِنْ كُنتُمْ ءامَنْتُمْ بِاللَّهِ} جواب الشرط محذوف تقديره: إِن كنتم آمنتم بالله فاعلموا أن هذا هو حكم الله في الغنائم فامتثلوا أمره بطاعته {وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا} أي وبما أنزلنا على محمد صلى الله عليه وسلم {يَوْمَ الْفُرْقَانِ} أي يوم بدر لأن الله فرق به بين الحق والباطل {يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ} أي جمع المؤمنين وجمع الكافرين، والتقى فيه جند الرحمن بجند الشيطان {وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} أي قادر لا يعجزه شيء، ومنه نصركم مع قلَّتكم وكثرتهم.



تكثير المؤمنين ببدر في أعين المشركين وتقليل المشركين في أعين المؤمنين



{إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَلَوْ تَوَاعَدتُّمْ لاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ وَلَكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولاً لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ(42)إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلاً وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَلَكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ(43)وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذْ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولا وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ(44)}



{إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا} هذا تصوير للمعركة أي وقت كنتم يا معشر المؤمنين بجانب الوادي القريب إلى المدينة {وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى} أي وأعداؤكم المشركون بجانب الوادي الأبعد عن المدينة {وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ} أي والعير التي فيها تجارة قريش في مكان أسفل من مكانكم فيما يلي ساحل البحر {وَلَوْ تَوَاعَدتُّمْ لاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ} أي ولو تواعدتم أنتم والمشركون على القتال لاختلفتم له ولكن الله بحكمته يسر وتمم ذلك، قال كعب بن مالك: إِنما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون يريدون عير قريش حتى جمع الله بينهم وبين عدوهم على غير ميعاد، قال الرازي: المعنى لو تواعدتم أنتم وأهل مكة على القتال لخالف بعضكم بعضاً لقلتكم وكثرتهم، {وَلَكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولا} أي ولكن جمع بينكم على غير ميعاد ليقضي الله ما أراد بقدرته، من إعزاز الإِسلام وأهله، وإذلال الشرك وأهله، فكان أمراً متحققاً واقعاً لا محالة، قال أبو السعود: والغرض من الآية أن يتحققوا أن ما اتفق لهم من الفتح، ليس إِلا صنعاً من الله عز وجل خارقاً للعادات، فيزدادوا إيماناً وشكراً، وتطمئن نفوسهم بفرض الخمس .

{لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ} أي فعل ذلك تعالى ليكفر من كفر عن وضوح وبيان {وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ} أي ويؤمن من آمن عن وضوح وبيان، فإِن وقعة بدر من الآيات الباهرات على نصر الله لأوليائه وخذلانه لأعدائه {وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ} أي سميع لأقوال العباد عليم بنياتهم .

{إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلاً} أي اذكر يا محمد حين أراك الله في المنام أعداءك قلة، فأخبرت بها أصحابك حتى قويت نفوسهم وتشجعوا على حربهم، قال مجاهد: أراه الله إِياهم في منامه قليلاً، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه بذلك فكان تثبيتاً لهم {وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لَفَشِلْتُمْ} أي ولو أراك ربك عدوك كثيراً لجبن أصحابك ولم يقدروا على حرب القوم، وانظر إِلى محاسن القرآن فإِنه لم يسند الفشل إِليه صلى الله عليه وسلم لأنه معصوم بل قال {لَفَشِلْتُم} إِشارة إِلى أصحابه {وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ} أي ولاختلفتم يا معشر الصحابة في أمر قتالهم {وَلَكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ} أي ولكن الله أنعم عليكم بالسلامة من الفشل والتنازع {إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} أي عليم بما في القلوب يعلم ما يغيّر أحوالها من الشجاعة والجبن، والصبر والجزع .

{وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذْ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ} هذه الرؤية باليقظة لا بالمنام أي واذكروا يا معشر المؤمنين حين التقيتم في المعركة فقلل الله عدوكم في أعينكم لتزداد جرأتكم عليهم، وقلَّلكم في أعينهم حتى لا يستعدوا ويتأهبوا لكم، قال ابن مسعود: لقد قُلِّلُوا في أعيننا يوم بدر حتى قلت لرجل: أتراهم يكونون مائة؟ وهذا قبل التحام الحرب فلما التحم القتال كثر الله المؤمنين في أعين الكفار فبُهتوا وهابوا، وفُلَّت شوكتهم، ورأوا ما لم يكن في الحسبان، وهذا من عظائم آيات الله في تلك الغزوة {لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولاً} أي فعل ذلك فجرَّأ المؤمنين على الكافرين، والكافرين على المؤمنين، لتقع الحرب ويلتحم القتال، وينصر الله جنده ويهزم الباطل وحزبه، وتكون كلمة الله هي العليا، وكلمة الذين كفروا السفلى {وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ} أي مصير الأمور كلها إِلى الله يصرّفها كيف يريد، لا معقب لحكمه وهو الحكيم المجيد.



الأمر بالثبات أمام العدو، وعدم التنازع



{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءامنوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ(45)وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ(46)وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ(47)}



{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءامنوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا} هذا إِرشاد إِلى سبيل النصر في مبارزة الأعداء أي إِذا لقيتم جماعة من الكفرة فاثبتوا لقتالهم ولا تنهزموا {وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} أي أكثروا من ذكر الله بألسنتكم لتستمطروا نصره وعونه وتفوزوا بالظفر عليهم {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ} أي في جميع أقوالكم وأفعالكم ولا تخالفوا أمر الله ورسوله في شيء {وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا} أي ولا تختلفوا فيما بينكم فتضعفوا وتجبنوا عن لقاء عدوكم {وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} أي تذهب قوتكم وبأسكم، ويدخلكم الوهن والخور {وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} أي واصبروا على شدائد الحرب وأهوالها، فإِن الله مع الصابرين بالنصر والعون.

{وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ} أي لا تكونوا ككفار قريش حين خرجوا لبدر عتواً وتكبراً، وطلباً للفخر والثناء، والآية إِشارة إِلى قول أبي جهل: والله لا نرجع حتى نَرد بدراً، فنشرب فيها الخمور وننحر الجزور، وتعزف علينا القيان -المغنيات - وتسمع بنا العرب، فلا يزالون يهابوننا أبداً، قال الطبري: فسقوا مكان الخمر كؤوس المنايا، وناحت عليهم النوائح مكان القيان {وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} أي ويمنعون الناس عن الدخول في الإِسلام {وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} أي وهو سبحانه عالم بجميع ذلك وسيجازيهم عليه.



تبرُّؤ الشيطان من الكفار وقت بدر



{وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لا غَالِبَ لَكُمْ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ(48)إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هَؤُلاءِ دِينُهُمْ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ(49)}



{وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ} أي واذكر وقت أن حسَّن لهم الشيطان أعمالهم القبيحة من الشرك وعبادة الأصنام، وخروجهم لحرب الرسول عليه السلام {وَقَالَ لا غَالِبَ لَكُمْ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ} أي لن يغلبكم محمد وأصحابه {وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ} أي مجير ومعين لكم.

{فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ} أي فلما تلاقى الفريقان ولى الشيطان هارباً مولياً الأدبار {وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ} أي بريء من عهد جواركم، وهذا مبالغة في الخذلان لهم {إِنِّي أَرَى مَا لا تَرَوْنَ} أي أرى الملائكة نازلين لنصرة المؤمنين وأنتم لا ترون ذلك وفي الحديث (ما رؤي الشيطان يوماً هو فيه أصغر، ولا أدحر، ولا أحقر، ولا أغيظ منه في يوم عرفة، إِلا ما رأى يوم بدر، فإِنه رأى جبريل يَزَعُ الملائكة) أي يصفها للحرب {إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ} أي إِني أخاف الله أن يعذبني لشدة عقابه.

قال ابن عباس: جاء إِبليس يوم بدر في جند من الشياطين معه رأيته في صورة "سراقة بن مالك" فقال الشيطان للمشركين: لا غالب لكم اليوم من الناس وإِني جار لكم، فلما اصطف الناس أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم قبضة من التراب فرمى بها وجوه المشركين، فولوا مدبرين، وأقبل جبريل عليه السلام إِلى إِبليس، فلما رآه - وكانت يده في يد رجلٍ من المشركين - انتزع يده ثم ولى مدبراً وشيعته، فقال الرجل: يا سراقة أتزعم أنك لنا جار؟ فقال: إِني أرى ما لا ترون إِني أخاف الله، وكذب عدو الله فإِنه علم أنه لا قوة له ولا منعة وذلك حين رأى الملائكة .

{إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} أي قال أهل النفاق الذين أظهروا الإِيمان وأبطنوا الكفر لضعف اعتقادهم بالله {غَرَّ هَؤُلاءِ دِينُهُمُ} أي اغتر المسلمون بدينهم فأدخلوا أنفسهم فيما لا طاقة لهم به قال تعالى في جوابهم {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} أي ومن يعتمد على الله ويثق به فإِن الله ناصره لأن الله عزيز أي غالب لا يخذل من استجار به، حكيم في أفعاله وصنعه.



إهلاك الكفار المشركين لسوء أعمالهم



{وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ(50)ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلامٍ لِلْعَبِيدِ(51)كَدَأْبِ ءالِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ(52)ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ(53)كَدَأْبِ ءالِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنَا ءالَ فِرْعَوْنَ وَكُلٌّ كَانُوا ظَالِمِينَ(54)}



{وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ} أي لو رأيت وشاهدت أيها المخاطب أو أيها السامع حالتهم ببدر حين تقبض ملائكة العذاب أرواح الكفرة المجرمين، وجواب {لَوْ} محذوف للتهويل أي لرأيت أمراً فظيعاً وشأناً هائلاً، قال أبو حيان: وحذف جواب لو جائز بليغ حذفه في مثل هذا لأنه يدل على التهويل والتعظيم أي لرأيت أمراً فظيعاً لا يكاد يوصف {يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ} أي تضربهم الملائكة من أمامهم وخلفهم، على وجوههم وظهورهم بمقامع من حديد {وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ} أي ويقولون لهم: ذوقوا يا معشر الفجرة عذاب النار المحرق، وهذا بشارة لهم بعذاب الآخرة وقيل: كانت معهم أسواط من نار يضربونهم بها فتشتعل جراحاتهم ناراً {ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ} أي ذلك العذاب بسبب ما كسبتم من الكفر والآثام {وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ} أي وأنه تعالى عادل ليس بذي ظلم لأحد من العباد حتى يعذبه بغير ذنب، وصيغة {ظَلاَّم} ليست للمبالغة وإِنما هي للنسبة أي ليس منسوباً إِلى الظلم فقد انتفى أصل الظلم عنه تعالى فتدبره .

{كَدَأْبِ ءالِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} أي دأب هؤلاء الكفرة في الإِجرام يعني عملهم وطريقهم الذي دأبوا فيه كعمل وطريق آل فرعون ومن تقدمهم من الأمم كقوم نوح وعاد وثمود في العناد والتكذيب والكفر والإِجرام {كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ} أي جحدوا ما جاءهم به الرسل من عند الله {فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ} أي أهلكهم بكفرهم وتكذيبهم {إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ} أي قوي البطش شديد العذاب، لا يغلبه غالب ولا يفوته هارب .

{ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ} أي ذلك الذي حل بهم من العذاب بسبب أن الله عادل في حكمه لا يغير نعمة أنعمها على أحدٍ إِلا بسبب ذنبٍ ارتكبه، وأنه لا يبدل النعمة بالنقمة {حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} أي حتى يبدلوا نعمة الله بالكفر والعصيان، كتبديل كفار قريش نعمة الله فقد أنعم الله على قريش بمحمد صلى الله عليه وسلم فكفروا به وكذبوه، فنقله الله إِلى المدينة وحل بالمشركين العقاب {وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} أي وأنه سبحانه سميع لما يقولون عليم بما يفعلون {كَدَأْبِ ءالِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ} كرره لزيادة التشنيع والتوبيخ على إِجرامهم أي شأن هؤلاء وحالهم كشأن وحال المكذبين السابقين حيث غيّروا حالهم فغيّر الله نعمته عليهم {فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ} أي أهلكناهم بسبب ذنوبهم بعضهم بالرجفة، وبعضهم بالخسف، وبعضهم بالحجارة، وبعضهم بالغرق ولهذا قال {وَأَغْرَقْنَا ءالَ فِرْعَوْنَ} أي أغرقنا فرعون وقومه معه {وَكُلٌّ كَانُوا ظَالِمِينَ} أي وكل من الفرق المكذبة كانوا ظالمين لأنفسهم بالكفر والمعاصي حيث عرَّضوها للعذاب.



حال من نقض العهد مع الرسول صلى الله عليه وسلم



{إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ(55)الَّذِينَ عَاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لا يَتَّقُونَ(56)فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ(57)وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ(58)وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لا يُعْجِزُونَ(59)}



{إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ} أي شر من يدب على وجه الأرض في علم الله وحكمه {الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} أي الذين أصروا على الكفر ورسخوا فيه فهم لا يتوقع منهم إِيمان لذلك، قال ابن عباس: نزلت في بني قريظة من اليهود، منهم كعب بن الأشرف وأصحابه عاهدهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا يحاربوه فنقضوا العهد.

{الَّذِينَ عَاهَدْتَ مِنْهُمْ} أي الذين عاهدتهم يا محمد على ألا يعينوا المشركين {ثُمَّ يَنقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ} أي يستمرون على النقض مرة بعد مرة {وَهُمْ لا يَتَّقُونَ} أي لا يتقون الله في نقض العهد قال المفسرون: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد عاهد يهود بني قريظة ألا يحاربوه ولا يعاونوا عليه المشركين، فنقضوا العهد وأعانوا عليه كفار مكة بالسلاح يوم بدر، ثم قالوا: نسينا وأخطأنا فعاهدهم مرة أخرى فنقضوا العهد ومالؤوا الكفار يوم الخندق {فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ} أي فإِن تظفر بهم في الحرب {فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ} أي فاقتلهم ونكِّل بهم تنكيلاً شديداً يشرد غيرهم من الكفرة المجرمين {لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ} أي لعلهم يتعظون بما شاهدوا فيرتدعوا والمعنى: اجعلهم عبرة لغيرهم حتى لا يبقى لهم قوة على محاربتك.

{وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً} أي وإِن أحسست يا محمد من قوم معاهدين خيانة للعهد ونكثاً بأمارات ظاهرة {فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ} أي اطرح إِليهم عهدهم على بينة ووضوح من الأمر، قال النحاس: هذا من معجز ما جاء في القرآن مما لا يوجد في الكلام مثله على اختصاره وكثرة معانيه والمعنى: وإِما تخافن من قوم - بينك وبينهم عهد - خيانة فانبذ إِليهم العهد أي قل لهم قد نبذت إِليكم عهدكم وأنا مقاتلكم، ليعلموا ذلك فيكونوا معك في العلم سواء، ولا تقاتلهم وبينك وبينهم عهد وهم يثقون بك فيكون ذلك خيانة وغدراً {إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ} وهذا كالتعليل للأمر بنبذ عهد أي لا يحب من ليس عنده وفاء ولا عهد .

{وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا} أي لا يظنن هؤلاء الكفار الذين أفلتوا يوم بدر من القتل أنهم فاتونا فلا نقدر عليهم، بل هم في قبضتنا وتحت مشيئتنا وقهرنا {إِنَّهُمْ لا يُعْجِزُونَ} كلام مستأنف أي إِنهم لا يُعجزون ربهم، بل هو قادر على الانتقام منهم في كل لحظة، لا يعجزه أحد في الأرض ولا في السماء.



الأمر بالإعداد للجهاد قدر الاستطاعة



{وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَءاخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ(60)}



{وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} أي أعدوا لقتال أعدائكم جميع أنواع القوة: المادية، والمعنوية، قال الشهاب: وإِنما ذكر القوة هنا لأنه لم يكن في بدر استعداد تام، فنُبهوا على أن النصر من غير استعداد لا يتأتى في كل زمان {وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ} أي الخيل التي تربط في سبيل الله {تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} أي تُخيفون بتلك القوة الكفار أعداء الله وأعداءكم {وَءاخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ} أي وترهبون به آخرين غيرهم، قال ابن زيد: هم المنافقون، وقال مجاهد: هم اليهود من بني قريظة والأول أصح لقوله {لا تَعْلَمُونهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ} أي لا تعلمون ما هم عليه من النفاق ولكن الله يعلمهم {وَمَا تُنفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} أي وما تنفقوا في الجهاد وفي سائر وجوه الخيرات {يُوَفَّ إِلَيْكُمْ} أي تُعْطون جزاءه وافياً كاملاً يوم القيامة {وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ} أي لا تنقصون من ذلك الأجر شيئاً.



تفضيل السلام، والتحريض على القتال



{وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ(61)وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ(62)وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ(63)يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنْ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ(64)يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ(65)الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ(66)}



{وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا} أي إِن مالوا إِلى الصلح فمل أنت إلى المهادنة وأجبهم إِلى ما طلبوا إِن كان فيه مصلحة {وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} أي فوض الأمر إِلى الله ليكون عوناً لك على السلامة {إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} أي هو سبحانه السميع لأقوالهم العليم بنياتهم.

{وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ} أي وإِن أرادوا بالصلح خداعك ليستعدوا لك {فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ} أي فإِن الله يكفيك وهو حسبك، ثم ذكره بنعمته عليه فقال {هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ} أي قواك وأعانك بنصره وشد أزرك بالمؤمنين، قال ابن عباس: يعني الأنصار {وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ} أي جمع بين قلوبهم على ما كان بينهم من العداوة والبغضاء، فأبدلهم بالعداوة حباً، وبالتباعد قرباً، قال القرطبي: وكان تأليف القلوب مع العصبيّة الشديدة في العرب من آيات النبي صلى الله عليه وسلم ومعجزاته، لأن أحدهم كان يُلطم اللطمة فيقاتل عليها، وكانوا أشد خلق الله حمية، فألف الله بينهم بالإِيمان، حتى قاتل الرجل أباه وأخاه بسبب الدين {لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ} أي لو أنفقت في إِصلاح ذات بينهم ما في الأرض من الأموال ما قدرت على تأليف قلوبهم واجتماعها على محبة بعضهم بعضاً {وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ} أي ولكنه سبحانه بقدرته البالغة جمع بينهم ووفق، فإِنه المالك للقلوب يقلبها كيف يشاء {إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} أي غالب على أمره لا يفعل شيئاً إِلا عن حكمة .

{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} أي الله وحده كافيك، وكافي أتباعك، فلا تحتاجون معه إِلى أحد، وقال الحسن البصري: المعنى حسبك أي كافيك الله والمؤمنون {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ} أي حض المؤمنين ورغبهم بكل جهدك على قتال المشركين {إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ} قال أبو السعود: هذا وعد كريم منه تعالى بغلبة كل جماعة من المؤمنين على عشرة أمثالهم والمعنى: إِن يوجد منكم يا معشر المؤمنين عشرون صابرون على شدائد الحرب يغلبوا مائتين من عدوهم، بعون الله وتأييده {وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا} أي وإِن يوجد منكم مائة - بشرط الصبر عند اللقاء - تغلب ألفاً من الكفار بمشيئة الله {بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ} الباء سببية أي سبب ذلك أنّ الكفار قوم جهلة لا يفقهون حكمة الله، ولا يعرفون طريق النصر وسببه، فهم يقاتلون على غير احتساب ولا طلب ثواب، فلذلك يُغلبون، قال ابن عباس: كان ثبات الواحد للعشرة فرضاً، ثم لما شق ذلك عليهم نسخ وأصبح ثبات الواحد للاثنين فرضاً .

{الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنكُمْ} أي رفع عنكم ما فيه مشقة عليكم {وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا} أي وعلم ضعفكم فرحمكم في أمر القتال {فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ} أي إِن يوجد منكم مائة صابرة على الشدائد يتغلبوا على مائتين من الكفرة {وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ} أي وإِن يوجد منكم ألف صابرون في ساحة اللقاء، يتغلبوا على ألفين من الأعداء {بِإِذْنِ اللَّهِ} أي بتيسيره وتسهيله {وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} هذا ترغيب في الثبات وتبشير بالنصر أي الله معهم بالحفظ والرعاية والنصرة، ومن كان الله معه فهو الغالب.



قَبول الفداء من الأسرى

{مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ(67)لَوْلا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ(68)فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالاً طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ(69)يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الأَسْرَى إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ(70)وَإِنْ يُرِيدُوا خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ(71)}



{مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ} عتاب للنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه على أخذ الفداء والمعنى: لا ينبغي لنبي من الأنبياء أن يأخذ الفداء من الأسرى إِلا بعد أن يكثر القتل ويبالغ فيه {تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا} أي تريدون أيها المؤمنون بأخذ الفداء حطام الدنيا ومتاعها الزائل؟ {وَاللَّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ} أي يريد لكم الباقي الدائم، وهو ثواب الآخرة، بإِعزاز دينه وقتل أعدائه {وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} أي عزيز في ملكه لا يقهر ولا يُغلب، حكيم في تدبير مصالح العباد .

{لَوْلا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ} أي لولا حكم في الأزل من الله سابق وهو ألا يعذب المخطئ في اجتهاده {لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} أي لأصابكم في أخذ الفداء من الأسرى عذاب عظيم، وروي أنها لما نزلت قال عليه السلام (لو نزل العذاب لما نجا منه غير عمر) وذلك لأن عمر بن الخطاب رضي الله عنه هو وحده الذي أشار على النبي صلى الله عليه وسلم بقتل الأسرى بخلاف رأي غيره من الصحابة فنزل الوحي مؤيداً لرأي عمر رضي الله عنه {فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالاً طَيِّبًا} أي كلوا يا معشر المجاهدين مما أصبتموه من أعدائكم من الغنائم في الحرب حال كونه حلالاً أي محللاً لكم {طَيِّبًا} أي من أطيب المكاسب لأنه ثمرة جهادكم، وفي الصحيح (وجعل رزقي تحت ظل رمحي) {وَاتَّقُوا اللَّهَ} أي خافوا الله في مخالفة أمره ونهيه {إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} أي مبالغ في المغفرة لمن تاب، رحيم بعباده حيث أباح لهم الغنائم .

{يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الأَسْرَى} أي قل لهؤلاء الذين وقعوا في الأسر من الأعداء، والمراد بهم أسرى بدر {إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ} أي يعطكم أفضل مما أخذ منكم من الفداء {وَيَغْفِرْ لَكُمْ} أي يمحو عنكم ما سلف من الذنوب {وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} أي واسع المغفرة، عظيم الرحمة لمن تاب وأناب، قال البيضاوي: نزلت في العباس رضي الله عنه حين كلفه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يفدي نفسه وابني أخويه "عقيل" و "نوفل" فقال يا محمد: تركتني أتكفف قريشاً ما بقيت، فقال: أين الذهب الذي دفعته إِلى أم الفضل وقت خروجك وقلت لها: إِني لا أدري ما يصيبني في جهتي هذه، فإِن حدث بي حدث فهو لك ولعيالك!! فقال العباس: ما يدريك؟ قال: أخبرني به ربي تعالى، قال: فأشهد أنك صادق، وأن لا إِله إِلا الله وأنك رسوله، والله لم يطلع عليه أحد، ولقد دفعته إِليها في سواد الليل!! قال العباس: فأبدلني الله خيراً من ذلك، وأعطاني زمزم ما أحب أن لي بها جميع أموال مكة، وأنا أنتظر المغفرة من ربي - يعني الموعود - بقوله تعالى {ويغفر لكم} .

{وَإِنْ يُرِيدُوا خِيَانَتَكَ} وإِن كان هؤلاء الأسرى يريدون خيانتك يا محمد بما أظهروا من القول ودعوى الإِيمان {فَقَدْ خَانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ} أي فقد خانوا الله تعالى قبل هذه الغزوة غزوة بدر {فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ} أي فقواك ونصرك الله عليهم وجعلك تتمكن من رقابهم، فإِن عادوا إِلى الخيانة فسيمكنك منهم أيضاً {وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} أي عالم بجميع ما يجري، يفعل ما تقضي به حكمته البالغة.



تصنيف المؤمنين حسب إيمانهم وهجرتهم



{إِنَّ الَّذِينَ ءامنوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ ءاوَوا وَنَصَرُوا أُوْلَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ ءامنوا وَلَمْ يُهَاجَرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمْ النَّصْرُ إِلا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ(72)وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ(73)وَالَّذِينَ ءامنوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ ءاوَوا وَنَصَرُوا أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ(74)وَالَّذِينَ ءامنوا مِنْ بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُوْلَئِكَ مِنْكُمْ وَأُوْلُوا الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ(75)}



{إِنَّ الَّذِينَ ءامنوا} أي صدقوا الله ورسوله {وَهَاجَرُوا} أي تركوا وهجروا الديار والأوطان حباً في الله ورسوله {وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} أي جاهدوا الأعداء بالأموال والأنفس لإِعزاز دين الله، وهم المهاجرون {وَالَّذِينَ ءاوَوا وَنَصَرُوا} أي آووا المهاجرين في ديارهم ونصروا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم الأنصار {أُوْلَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} أي أولئك الموصوفون بالصفات الفاضلة بعضهم أولياء بعض في النصرة والإِرث، ولهذا آخى صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار .

{وَالَّذِينَ ءامنوا وَلَمْ يُهَاجَرُوا} أي ءامنوا وأقاموا بمكة فلم يهاجروا إِلى المدينة {مَا لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا} أي لا إِرث بينكم وبينهم ولا ولاية حتى يهاجروا من بلد الكفر{وَإِنْ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ} أي وإِن طلبوا منكم النصرة لأجل إِعزاز الدين، فعليكم أن تنصروهم على أعدائهم لأنهم إِخوانكم {إِلا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ} أي إِلا إِذا استنصروكم على من بينكم وبينهم عهد ومهادنة فلا تعينوهم عليهم {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} أي رقيب على أعمالكم فلا تخالفوا أمره .. ذكر تعالى المؤمنين وقسمهم إِلى ثلاثة أقسام: المهاجرين، الأنصار، الذين لم يهاجروا، فبدأ بالمهاجرين لأنهم أصل الإِسلام وقد هجروا الديار والأوطان ابتغاء رضوان الله، وثنى بالأنصار لأنهم نصروا الله ورسوله وجاهدوا بالنفس والمال، وجعل بين المهاجرين والأنصار الولاية والنصرة، ثم ذكر حكم المؤمنين الذين لم يهاجروا وبيّن أنهم حرموا الولاية حتى يهاجروا في سبيل الله، وبعد ذكر هذه الأقسام الثلاثة ذكر حكم الكفار فقال .

{وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} أي هم في الكفر والضلال ملة واحدة فلا يتولاهم إِلا من كان منهم {إِلا تَفْعَلُوهُ} أي وإِن لم تفعلوا ما أمرتم به من تولي المؤمنين وقطع الكفار {تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ} أي تحصل في الأرض فتنة عظيمة ومفسدة كبيرة، لأنه يترتب على ذلك قوة الكفار وضعف المسلمين، ثم عاد بالذكر والثناء على المهاجرين والأنصار فقال {وَالَّذِينَ ءامنوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} وهم المهاجرون أصحاب السبق إِلى الإِسلام {وَالَّذِينَ ءاوَوا وَنَصَرُوا} وهم الأنصار أصحاب الإِيواء والإِيثار {أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا} أي هؤلاء هم الكاملون في الإِيمان، المتحققون في مراتب الإِحسان {لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} أي لهم مغفرة لذنوبهم، ورزق كريم في جنات النعيم، قال المفسرون: ليس في هذه الآيات تكرار، فالآيات السابقة تضمنت الولاية والنصرة بين المؤمنين، وهذه تضمنت الثناء والتشريف، ومآل حال أولئك الأبرار من المغفرة والرزق الكريم في دار النعيم.

{وَالَّذِينَ ءامنوا مِنْ بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُوْلَئِكَ مِنْكُمْ} هذا قسم رابع وهم المؤمنون الذين هاجروا بعد الهجرة الأولى فحكمهم حكم المؤمنين السابقين في الثواب والأجر {وَأُوْلُوا الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ} أي أصحاب القرابات بعضهم أحق بإِرث بعض من الأجانب في حكم الله وشرعه وقال العلماء: هذه ناسخة للإِرث بالحلف والإِخاء {إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} أي أحاط بكل شيء علماً، فكل ما شرعه الله حكمة وصواب وصلاح، لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد، وهو ختم للسورة في غاية البراعة.

yacine414
2011-03-26, 11:22
سورة التوبة



نقض عهد المشركين، وإِعلان الحرب عليهم والبراءة منهم

فريضة قتال مشركي العرب

مشروعية الأمان

الحكمة من البراءة من عهود المشركين

مصير المشركين إما التوبة وإما القتال

التحريض على قتال المشركين الناكثين للعهود

اختبار المسلمين واتخاذ البطانة

عمارة المساجد

فضل الإيمان بالله واليوم الآخر والجهاد في سبيل الله

ولاية الآباء والإخوان الكافرين، وتفضيل الإيمان والجهاد

نصر الله للمؤمنين على الأعداء في مواضع كثيرة

تحريم دخول المشركين إلى المسجد الحرام

الأمر بمقاتلة أهل الكتاب، وأخذ الجزية منهم

افتراء اليهود والنصارى على الله بنَسبتهم الولد له سبحانه

طريقة تعامل الرهبان والأحبار مع الناس

عدد الشهور عند الله، وقتال المشركين كافة وتحريم النسيء

التحريض على الجهاد وعذاب تاركيه، ومعجزة الغار

الأمر بالخروج للجهاد في سبيل الله

تخلف المنافقين عن غزوة تبوك ومسألة الإذن لهم في ذلك

الدليل على تخلف المنافقين بغير عذر

اختلاق المنافقين أعذاراً أخرى للتخلف، وفرحتهم بالسيئة التي تصيب المؤمنين وحزنهم بالحسنة

إحباط ثواب المنافقين على نفقاتهم وصلواتهم وتعذيبهم في الدنيا والآخرة

انتهاز المنافقين الفرصة للطعن بالرسول صلى الله عليه وسلم، وحَلِفُهُم الإيمان الكاذبة

مصارف الزكاة

إيذاء المنافقين للرسول صلى الله عليه وسلم

أحوال المنافقين المتخلفين عن غزوة تبوك وخوفهم أن يفضحهم القرآن

صفات المنافقين وجزاؤهم الأخروي

صفات المؤمنين وجزاؤهم الأخروي

أسباب جهاد الكفار والمنافقين

كذب المنافقين وخلفهم العهد والوعد

إعابة المنافقين على المؤمنين المنفقين

فرح المتخلفين من المنافقين عن غزوة تبوك

منع المنافقين من الجهاد، ومنع النبي صلى الله عليه وسلم من الصلاة عليهم، والتحذير من الاغترار بهم

قصة حديث الصلاة على عبد الله بن أُبَيّ

استئذان زعماء المنافقين في التخلف عن الجهاد، وإقدام المؤمنين عليه

معاتبة المنافقين بالتخلف عن الجهاد

عدم تصديق المنافقين في اعتذاراتهم وأيمانهم الكاذبة

أحوال الأعراب سكان البادية

منزلة السابقين الأولين وحال منافقي المدينة وما حولها

قَبول التوبة والصدقات والأعمال الصادرة عن خلوص النية والإثابة عليها

الانتظار الصعب

المقارنة بين أهل النفاق وأهل التقوى

حال المؤمنين الصادقين في جهادهم

وجوب قطع الموالاة مع الكفار حيِّهم وميِّتهم

قَبول توبة أهل تبوك ومجازاة المخلفين الثلاثة على صدقهم

النهي عن التخلف عن الجهاد وتبيين حسن جزاء المجاهدين

توزيع المسؤوليات بين المسلمين لنشر الدين

الدعوة إلى إظهار الغلظة مع الكفار

مدى تأثير التنزيل على المؤمنين والمنافقين

امتنان الله على المؤمنين بصفات رسوله الكريم



بَين يَدَيْ السُّورَة



* هذه السورة الكريمة من السور المدنية التي تُعنى بجانب التشريع، وهي من أواخر ما نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد روى البخاري عن البراء بن عازب أن آخر سورة نزلت براءة، وروى الحافظ ابن كثير: أن أول هذه السورة نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم عند مرجعه من غزوة تبوك، وبعث أبا بكر الصديق أميراً على الحج تلك السنة، ليقيم للناس مناسكهم، فلما قفل أتبعه بعلي بن أبي طالب ليكون مبلغاً عن رسول الله صلى الله ما فيها من الأحكام نزلت في السنة التاسعة من الهجرة، وهي السنة التي خرج فيها رسول الله عليه وسلم لغزو الروم، واشتهرت بين الغزوات النبوية بـ "غزوة تبوك" وكانت في حرٍّ شديد، وسفر بعيد، حين طابت الثمار، وأخلد الناس إلى نعيم الحياة، فكانت ابتلاء لإِيمان المؤمنين، وامتحاناً لصدقهم وإِخلاصهم لدين الله، وتمييزاً بينهم وبين المنافقين، ولهذه السورة الكريمة هدفان أساسيان - إلى جانب الأحكام الأخرى - هما:

أولاً: بيان القانون الإِسلامي في معاملة المشركين، وأهل الكتاب.

ثانياً: إِظهار ما كانت عليه النفوس حينما استنفرهم الرسول لغزو الروم.



* أما بالنسبة للهدف الأول فقد عرضت السورة إلى عهود المشركين فوضعت لها حداً، ومنعت حج المشركين لبيت الله الحرام، وقطعت الولاية بينهم وبين المسلمين، ووضعت الأساس في قبول بقاء أهل الكتاب في الجزيرة العربية، وإِباحة التعامل معهم، وقد كان بين النبي صلى الله عليه وسلم والمشركين عهود ومواثيق، كما كان بينه وبين أهل الكتاب عهود أيضاً، ولكن المشركين نقضوا العهود وتآمروا مع اليهود عدة مرات على حرب المسلمين، وخانت طوائف اليهود "بنو النضير" و "بنو قريظة" و "بنو قينقاع" ما عاهدوا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ونقضوا عهودهم مرات ومرات، فلم يعد من الحكمة أن يبقى المسلمون متمسكين بالعهود وقد نقضها أعداؤهم، فنزلت السورة الكريمة بإِلغاء تلك العهود ونبذها إليهم على وضوحٍ وبصيرة، لأن الناكثين لا يتورعون عن الخيانة كلما سنحت لهم الفرصة، وبذلك قطع الله تعالى ما بين المسلمين والمشركين من صلات، فلا عهد، ولا تعاهد، ولا سلم، ولا أمان بعد أن منحهم الله فرصة كافية هي السياحة في الأرض أربعة أشهر ينطلقون فيها آمنين، ليتمكنوا من النظر والتدبر في أمرهم، ويختاروا ما يرون فيه المصلحة لهم. وفي ذلك نزل صدر السورة الكريمة {بَرَاءةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدتُّمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ..} الآيات.



* ثم تلتها الآيات في قتال الناقضين للعهود من أهل الكتاب {قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ..} الآية، وقد تناول الحديث عنهم ما يقرب من عشرين آية، كشف الله سبحانه فيها القناع عن خفايا أهل الكتاب، وما انطوت عليه نفوسهم من خبثٍ ومكر، وحقدٍ على الإِسلام والمسلمين.



* وعرضت السورة للهدف الثاني، وهو شرح نفسيات المسلمين حين استنفرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم لغزو الروم، وقد تحدثت الآيات عن المتثاقلين منهم والمتخلفين، والمثبطين، وكشفت الغطاء عن فتن المنافقين، باعتبار خطرهم الدائم على الإِسلام والمسلمين، وفضحت أساليب نفاقهم، وألوان فتنتهم وتخذيلهم للمؤمنين، حتى لم تدع لهم ستراً إِلا هتكته، ولا دخيلة إِلا كشفتها، وتركتهم بعد هذا الكشف والإِيضاح تكاد تلمسهم أيدي المؤمنين، وقد استغرق الحديث عنهم معظم السورة بدءاً عن قوله تعالى {لو كان عرضاً قريباً وسفراً قاصداً لاتبعوك ..} إِلى قوله تعالى {لا يزال بنيانهم الذي بنوا ريبةً في قلوبهم إِلا أن تقطع قلوبهم والله عليم حكيم} ولهذا سماها بعض الصحابة "الفاضحة" لأنها فضحت المنافقين وكشفت أسرارهم، قال سعيد بن جبير: سألت ابن عباس عن سورة براءة فقال: تلك الفاضحة، ما زال ينزل: ومنهم، ومنهم، حتى خفنا ألا تدع منهم أحداً، وروي عن حذيفة بن اليمان أنه قال: إِنكم تسمونها سورة التوبة، وإِنما هي سورة العذاب، والله ما تركت أحداً من المنافقين إِلا نالت منه، وهذا هو السر في عدم وجود البسملة فيها قال ابن عباس: سألت علي بن أبي طلب لِم لمْ يُكتب في براءة {بسـمِ اللهِ الرَّحمَنِ الرَّحيِمِ}؟ قال: لأن {بسـمِ اللهِ الرَّحمَنِ الرَّحيِمِ} أمان، وبراءة نزلت بالسيف، ليس فيها أمان، وقال سفيان بن عيينة، إِنما لم تكتب في صدر هذه السورة البسملة لأن التسمية رحمة، والرحمة أمان، وهذه السورة نزلت بالمنافقين وبالسيف، ولا أمان للمنافقين.



* وبالجملة فإِن هذه السورة الكريمة قد تناولت "الطابور الخامس" المندس بين صفوف المسلمين ألا وهم "المنافقون" الذين هم أشد خطراً من المشركين، ففضحتهم وكشفت أسرارهم ومخازيهم، وظلت تقذفهم بالحمم حتى لم تُبق منهم دياراً، فقد وصل بهم الكيد في التآمر على الإِسلام، أن يتخذوا بيوت الله أوكاراً للتخريب والتدمير، وإِلقاء الفتنة بين صفوف المسلمين، في مسجدهم الذي عرف باسم "مسجد الضرار" وقد نزل في شأنه أربع آيات في هذه السورة {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ ..} الآيات ولم يكد النبي صلى الله عليه وسلم يتلقى الوحي حتى قال لأصحابه: (انطلقوا إلى هذا المسجد الظالم أهله فاهدموه وحرّقوه) فهدموه وكفى الله الإِسلام والمسلمين شرهم، وكيدهم، وخبثهم، وفضحهم إلى يوم الدين.



التَــســـميَــة:

تسمى هذه السورة بأسماء عديدة أوصلها بعض المفسرين إِلى أربعة عشر اسماً، قال العلامة الزمخشري: لهذه السورة عدة أسماء: (براءة، والتوبة، والمقشقشة، والمبعثرة، والمشردة، والمخزية، والفاضحة، والمثيرة، والحافرة، والمنكلة، والمدمدمة، وسورة العذاب) قال:لأن فيها التوبة على المؤمنين، وهي تقشقش من النفاق أيتبرئ منه، وتبعثر عن أسرار المنافقين، وتبحث عنها وتثيرها وتحفر عنها، وتفضحهم، وتنكل بهم، وتشردهم، وتخزيهم، وتدمدم عليهم.





نقض عهد المشركين، وإِعلان الحرب عليهم والبراءة منهم

{بَرَاءةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدتُّمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ(1)فَسِيحُوا فِي الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ(2)وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ(3)إِلا الَّذِينَ عَاهَدتُّمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ(4)}



سبب النزول:

روي أن جماعة من رؤساء قريش أُسِروا يوم بدر، وفيهم "العباس بن عبد المطلب" فأقبل عليهم نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فعيرّوهم بالشرك، وجعل علي بن أبي طالب يوبخ العباس بقتال رسول الله صلى الله عليه وسلم وقطيعة الرحم، فقال العباس: ما لكم تذكرون مساوئنا وتكتمون محاسننا؟ فقال: وهل لكم من محاسن؟ فقال: نعم، إِنا لنعمر المسجد الحرام، ونحجب الكعبة، ونسقي الحجيج، ونفك العاني - الأسير - فنزلت هذه الآية {ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله شاهدين على أنفسهم بالكفر ...} الآية.



{بَرَاءةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدتُّمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} أي إن الله ورسوله يتبرّآن من عهود المشركين، قال المفسرون: أخذت العرب تنقض عهوداً عقدتها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمره الله بإِلقاء عهودهم إِليهم، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر أميراً على الحج ليقيم للناس المناسك، ثم أتبعه علياً ليعلم الناس بالبراءة، فقام علي فنادى في الناس بأربع: ألاّ يقرب البيت الحرام بعد العام مشرك، وألا يطوف بالبيت عريان، وأنه لا يدخل الجنة إِلا مسلم، ومن كان بينه وبين رسول الله مدة فأجله إِلى مدته، والله بريء من المشركين ورسولُهُ.

{فَسِيحُوا فِي الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ} أي سيروا آمنين أيها المشركون مدة أربعة أشهر لا يقع بكم منا مكروه، وهو أمر إِباحة وفي ضمنه تهديد {وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ} أي لا تفوتونه تعالى وإِن أمهلكم هذه المدة {وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ} أي مذلهم في الدنيا بالأسر والقتل، وفي الآخرة بالعذاب الشديد .

{وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ} أي إِعلام إلى كافة الناس بتبرئ الله تعالى ورسوله من المشركين {يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَرِ} أي يوم النحر الذي هو أفضل أيام المناسك، قال الزمخشري: وصف الحج بالأكبر لأن العمرة تسمى الحج الأصغر {أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ} أي إِعلام لهم بأن الله بريء من المشركين وعهودهم، ورسوله بريء منهم أيضاً.

{فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} أي فإِن تبتم عن الكفر ورجعتم إِلى توحيد الله فهو خير لكم من التمادي في الضلال {وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ} أي وإِن أعرضتم عن الإِسلام وأبيتم إِلا الاستمرار على الغيّ والضلال، فاعلموا أنكم لا تفوتون الله طلباً، ولا تُعجزونه هرباً {وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} أي بشر الكافرين بعذاب مؤلم موجع يحل بهم، قال أبو حيان: جعل الإِنذار بشارة على سبيل الاستهزاء بهم، وفي هذا وعيد عظيم لهم.

{إِلا الَّذِينَ عَاهَدتُّمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} أي إِلا الذين عاهدتموهم ولم ينقضوا العهد فأتموا إِليهم عهدهم، قال في الكشاف: وهو استثناء بمعنى الاستدراك أي لكن من وفى ولم ينكث فأتموا عليهم عهدهم، ولا تُجروهم مجراهم، ولا تجعلوا الوفيَّ كالغادر {ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئًا} أي لم ينقضوا من شروط الميثاق شيئاً {وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا} أي لم يعينوا عليكم أحداً من أعدائكم {فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ} أي وفوا العهد كاملاً إِلى انقضاء مدته {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} أي يحب المتقين لربهم الموفين لعهودهم، قال البيضاوي: هذا تعليل وتنبيه على أن إِتمام عهدهم من باب التقوى، قال ابن عباس: كان قد بقي لحيٍّ من كنانة من عهدهم تسعة أشهر، فأتم صلى الله عليه وسلم إِليهم عهدهم.



فريضة قتال مشركي العرب



{فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَءاتَوْا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ(5)}



{فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ} أي مضت وخرجت الأشهر الأربعة التي حرم فيها قتالهم {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} أي اقتلوهم في أي مكانٍ أو زمان من حلٍّ أو حرم، قال ابن عباس: في الحلِّ والحرم وفي الأشهر الحرم {وَخُذُوهُمْ} أي بالأسر {وَاحْصُرُوهُمْ} أي احبسوهم وامنعوهم من التقلب في البلاد، قال ابن عباس: إِن تحصنوا فاحصروهم أي في القلاع والحصون حتى يُضطروا إِلى القتل أو الإِسلام {وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ} أي اقعدوا لهم في كل طريق يسلكونه، وارقبوهم في كل ممر يجتازون منه في أسفارهم، قال أبو حيّان: وهذا تنبيه على أن المقصود إِيصال الأذى إِليهم بكل وسيلة بطريق القتال أو بطريق الاغتيال {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَءاتَوْا الزَّكَاةَ} أي فإِن تابوا عن الشرك وأدوا ما فرض عليهم من الصلاة والزكاة {فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} أي كفوا عنهم ولا تتعرضوا لهم {إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} أي واسع المغفرة والرحمة لمن تاب وأناب.



مشروعية الأمان



{وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ(6)}



{وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ} أي إِن استأمنك مشرك وطلب منك جوارك {فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ} أي أمنه حتى يسمع القرآن ويتدبره، قال الزمخشري: المعنى إِن جاءك أحد من المشركين بعد انقضاء الأشهر، لا عهد بينك وبينه، واستأمنك ليسمع ما تدعو إِليه من التوحيد والقرآن، فأمنه حتى يسمع كلام الله ويتدبره ويطّلع على حقيقة الأمر وأقول: هذا غاية في حسن المعاملة وكرم الأخلاق، لأن المراد ليس النيل من الكافرين، بل إِقناعهم وهدايتهم حتى يعرفوا الحق فيتبعوه، ويتركوا ما هم عليه من الضلال {ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ} أي ثم إِن لم يُسلم فأوصله إِلى ديار قومه التي يأمن فيها على نفسه وماله من غير غدر ولا خيانة {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ} أي ذلك الأمر بالإِجارة للمشركين، بسبب أنهم لا يعلمون حقيقة دين الإِسلام، فلا بد من أمانهم حتى يسمعوا ويتدبروا.



الحكمة من البراءة من عهود المشركين



{كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ(7)كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلا وَلا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ(8)اشْتَرَوْا بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلاً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ(9)لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلا وَلا ذِمَّةً وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُعْتَدُونَ(10)}



بين تعالى الحكمة من البراءة من عهود المشركين فقال {كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ} استفهام بمعنى الإِنكار والاستبعاد أي كيف يكون لهم عهد معتدٌ به عند الله ورسوله، ثم استدرك فقال {إِلا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} أي لكن من عاهدتم من المشركين عند المسجد الحرام ولم ينقضوا العهد، قال ابن عباس: هم أهل مكة وقال ابن اسحاق: هم قبائل بني بكر كانوا دخلوا وقت الحديبية في المدة التي كانت بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين قريش، فأمر بإِتمام العهد لمن لم يكن نقض عهده منهم {فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ} أي فما داموا مستقيمين على عهدهم فاستقيموا لهم على العهد، قال الطبري: أي فما استقاموا لكم على العهد فاستقيموا لهم على الوفاء {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} أي يحب من اتقى ربه، ووفى عهده، وترك الغدر والخيانة.

{كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ} تكرار لاستبعاد ثباتهم على العهد أي كيف يكون لهم عهد وحالهم هذه أنهم إِن يظفروا بكم {لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلا وَلا ذِمَّةً} أي لا يراعوا فيكم عهداً ولا ذمة، لأنه لا عهد لهم ولا أمان، قال أبو حيان: وهذا كله تقرير واستبعاد لثبات قلوبهم على العهد {يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ} أي يرضونكم بالكلام الجميل إِن كان الظفر لكم عليهم {وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ} أي وتمتنع قلوبهم من الإِذعان والوفاء بما أظهروه، قال الطبري: المعنى يعطونكم بألسنتهم من القول خلاف ما يضمرونه لكم في نفوسهم من العداوة والبغضاء، وتأبى قلوبهم أن يذعنوا بتصديق ما يبدونه لكم بألسنتهم {وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ} أي وأكثرهم ناقضون للعهد خارجون عن طاعة الله.

{اشْتَرَوْا بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلا} أي استبدلوا بالقرآن عرضاً يسيراً من متاع الدنيا الخسيس {فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ} أي منعوا الناس عن اتباع دين الإِسلام {إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} أي بئس هذا العمل القبيح الذي عملوه {لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلا وَلا ذِمَّةً} أي لا يراعون في قتل مؤمن لو قدروا عليه عهداً ولا ذمة {وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُعْتَدُونَ} أي وأولئك الجامعون لتلك الأوصاف الذميمة هم المجاوزون الحد في الظلم والبغي.



مصير المشركين إما التوبة وإما القتال



{فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَءاتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ(11)وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ(12)}



{فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَءاتَوُا الزَّكَاةَ} أي فإِن تابوا عن الكفر وأقاموا الصلاة وأعطوا الزكاة {فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ} أي فهم إخوانكم في الدين، لهم ما لكم، وعليهم ما عليكم {وَنُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} أي ونبين الحجج والأدلة لأهل العلم والفهم، والجملة اعتراضية للحث على التدبر والتأمل {وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ} أي وإِن نقضوا عهودهم الموثقة بالأيمْان {وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ} أي عابوا الإِسلام بالقدح والذم {فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ} أي رؤساء وصناديد الكفر {إِنَّهُمْ لا أَيْمَانَ لَهُمْ} أي لا أيمان لهم ولا عهود يوفون بها {لَعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ} أي كي يكفوا عن الإِجرام، وينتهوا عن الطعن في الإِسلام، قال البيضاوي: وهو متعلق بـ "قاتلوا" أي ليكن غرضكم في المقاتلة الانتهاء عما هم عليه، لا إِيصال الأذية بهم كما هو طريقة المؤذين.



التحريض على قتال المشركين الناكثين للعهود



{أَلا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ(13)قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمْ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ(14)وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ(15)}



{أَلا تُقَاتلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ} تحريض على قتالهم أي ألا تقاتلون يا معشر المؤمنين قوماً نقضوا العهود وطعنوا في دينكم؟ {وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ} أي عزموا على تهجير الرسول صلى الله عليه وسلم من مكة حين تشاوروا بدار الندوة على إِخراجه من بين أظهركم {وَهُمْ بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} أي هم البادئون بالقتال حيث قاتلوا حلفاءكم خزاعة، والبادئ أظلم، فما يمنعكم أن تقاتلوهم؟ {أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ}؟ أي أتخافونهم فتتركون قتالهم خوفاً على أنفسكم منهم؟ فالله أحق أن تخافوا عقوبته إِن تركتم أمره {إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ} أي إِن كنتم مصدقين بعذابه وثوابه، قال الزمخشري: يعني أن قضية الإِيمان الصحيح ألا يخشى المؤمن إِلا ربه ولا يبالي بمن سواه.

ثم بعد الحض والحث أمرهم بقتالهم صراحة فقال {قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمْ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ} أي قاتلوهم يا معشر المؤمنين فقتالكم لهم عذاب بأيدي أولياء الله وجهاد لمن قاتلهم {وَيُخْزِهِمْ} أي يذلهم بالأسر والقهر {وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ} أي يمنحكم الظفر والغلبة عليهم {وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ} أي يشف قلوب المؤمنين بإِعلاء دين الله وتعذيب الكفار وخزيهم، قال ابن عباس: هم قوم من اليمن قدموا مكة فأسلموا فلقوا من أهلها أذى كثيراً فشكوا إِلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أبشروا فإِن الفرج قريب {وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ} أي يذهب ما بها من غيظ، وغمٍّ، وكرب، وهو كالتأكيد لشفاء الصدور وفائدته المبالغة في جعلهم مسرورين بما يمنّ الله عليهم من تعذيب أعدائهم، قال الرازي: أمر تعالى بقتالهم وذكر فيه خمسة أنواع من الفوائد، كل واحد منها يعظم موقعه إِذا انفرد، فكيف بها إِذا اجتمعت؟ {وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ} كلام مستأنف أي يمن الله على من يشاء منهم بالتوبة والدخول في الإِسلام كأبي سفيان {وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} أي عالم بالأسرار لا تخفى عليه خافية، حكيم لا يفعل إِلا ما فيه حكمة ومصلحة، قال أبو السعود: ولقد أنجز الله سبحانه جميع ما وعدهم به على أجمل ما يكون، فكان إِخباره عليه السلام بذلك قبل وقوعه معجزة عظيمة.



اختبار المسلمين واتخاذ البطانة



{أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلا رَسُولِهِ وَلا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ(16)}



{أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا} أم منقطعة بمعنى بل والهمزة أي بل أحسبتم يا معشر المؤمنين أن تتركوا بغير امتحان وابتلاء يعرف الصادق منكم في دينه من الكاذب فيه! {وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ} أي والحال أنه لم يتبيّن المجاهد منكم من غيره، والمراد بالعلم علم ظهور لا علم خفاء فإِنه تعالى يعلم ذلك غيباً فأراد إِظهار ما علم ليجازي على العمل {وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلا رَسُولِهِ وَلا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً} أي جاهدوا في سبيل الله ولم يتخذوا بطانة وأولياء من المشركين يفشون إِليهم أسرارهم ويوالونهم من دون المؤمنين، والغرض من الآية: أن الله تعالى لا يترك الناس دون تمحيص يظهر فيه الطيب من الخبيث {وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} أي يعلم جميع أعمالكم لا يخفى عليه شيء منها.



عمارة المساجد



{مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ(17)إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ ءامَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلا اللَّهَ فَعَسَى أُوْلَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ(18)}



{مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ} أي لا يصح ولا يستقيم ولا ينبغي ولا يليق بالمشركين أن يعمروا شيئاً من المساجد {شَاهِدِينَ عَلَى أَنفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ} أي حال كونهم مقرين بالكفر، ناطقين به بأقوالهم وأفعالهم حيث كانوا يقولون في تلبيتهم: "لبيك لا شريك لك، إِلا شريكاً هو لك، تملكه وما ملك" يعنون الأصنام، وكانوا قد نصبوا أصنامهم خارج البيت، وكانوا يطوفون عراة كلما طافوا طوفة سجدوا للأصنام والمعنى: ما استقام لهم أن يجمعوا بين أمرين متنافيين: عمارة مساجد الله، مع الكفر بالله وبعبادته {أُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ} أي بطلت أعمالهم بما قارنها من الشرك {وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ} أي ماكثون في نار جهنم أبداً .

{إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ ءامَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} أي إِنما تستقيم عمارة المساجد وتليق بالمؤمن المصدق بوحدانية الله، الموقن بالآخرة {وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَءاتَى الزَّكَاةَ} أي أقام الصلاة المكتوبة بحدودها، وأدى الزكاة المفروضة بشروطها {وَلَمْ يَخْشَ إِلا اللَّهَ} أي خاف الله ولم يرهب أحداً سواه {فَعَسَى أُوْلَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ} أي فعسى أن يكونوا في زمرة المهتدين يوم القيامة، قال ابن عباس: كل عسى في القرآن واجبة قال الله لنبيه {عسى أن يبعثك ربك مقاماً محموداً} يقول: إِن ربك سيبعثك مقاماً محموداً وهي الشفاعة، قال أبو حيّان: وعسى من الله تعالى واجبة حيثما وقعت في القرآن، وفي التعبير بعسى قطع لأطماع المشركين أن يكونوا مهتدين، إِذ من جمع هذه الخصال الأربعة جعل حاله حال من تُرجى له الهداية، فكيف بمن هو عارٍ منها؟ وفيه ترجيح الخشية على الرجاء، ورفض الاغترار بالأعمال الصالحة.



فضل الإيمان بالله واليوم الآخر والجهاد في سبيل الله



{أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ ءامَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ(19)الَّذِينَ ءامنوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَائِزُونَ(20)يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ(21)خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ(22)}



{أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ ءامَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} الخطاب للمشركين، والاستفهام للإِنكار والتوبيخ والمعنى: أجعلتم يا معشر المشركين سقاية الحجيج وسدانة البيت، كإِيمان من آمن بالله وجاهد في سبيله؟ وهو رد على العباس حين قال: لئن كنتم سبقتمونا بالإِسلام والهجرة، فلقد كنا نعمر المسجد الحرام، ونسقي الحاج، فنزلت قال الطبري: هذا توبيخ من الله تعالى لقوم افتخروا بالسقاية وسدانة البيت الحرام، فأعلمهم أن الفخر في الإِيمان بالله، واليوم الآخر، والجهاد في سبيله {لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ} أي لا يتساوى المشركون بالمؤمنين، ولا أعمال أولئك بأعمال هؤلاء ومنازلهم {وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} هذا كالتعليل أي لا يوفق الظالمين إِلى معرفة الحق، قال أبو حيّان: ومعنى الآية إِنكار أن يُشبه المشركون بالمؤمنين، وأعمالهم المحبطة بأعمالهم المثبتة، ولما نفى المساواة بينهم أوضحها بأن الكافرين بالله هم الظالمون، ظلموا أنفسهم بعدم الإِيمان، وظلموا المسجد الحرام إِذ جعلوه متعبداً لأوثانهم، وأثبت للمؤمنين الهداية في الآية السابقة، ونفاها عن المشركين هنا فقال {وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} .

ثم قال تعالى {الَّذِينَ ءامَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ} هذا زيادة توضيح وبيان لأهل الجهاد والإِيمان والمعنى: إِن الذين طهروا أنفسهم من دنس الشرك بالإِيمان، وطهروا أبدانهم بالهجرة من الأوطان، وبذلوا أنفسهم وأموالهم للجهاد في سبيل الرحمن، هؤلاء المتصفون بالأوصاف الجليلة أعظم أجراً، وأرفع ذكراً من سقاة الحاج، وعمار المسجد الحرام وهم بالله مشركون {وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَائِزُونَ} أي أولئك هم المختصون بالفوز العظيم في جنات النعيم {يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ} أي يبشرهم المولى برحمة عظيمة، ورضوان كبير من ربٍّ عظيم {وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ} أي وجنات عالية، قطوفها دانية، لهم في تلك الجنات نعيم دائم لا زوال له {خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا} أي ماكثين في الجنان إِلى ما لا نهاية {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} أي ثوابهم عند الله عظيم، تعجز العقول عن وصفه قال أبو حيان: لما وصف المؤمنين بثلاث صفات: الإيمان والهجرة والجهاد بالنفس والمال، قابلهم على ذلك بالتبشير بثلاثة: الرحمة، الرضوان، والجنان، فبدأ بالرحمة لأنها أعم النعم في مقابلة الإِيمان، وثنَّى بالرضوان الذي هو نهاية الإِحسان في مقابلة الجهاد، وثلَّث بالجنان في مقابلة الهجرة وترك الأوطان، وقال الألوسي: ولا يخفى أن وصف الجنات بأن لهم فيها نعيمٌ مقيم جاء في غاية اللطافة، لأن الهجرة فيها السفر، الذي هو قطعة من العذاب.



ولاية الآباء والإخوان الكافرين، وتفضيل الإيمان والجهاد



{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُوا لا تَتَّخِذُوا ءابَاءكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنْ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الإِيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ(23)قُلْ إِنْ كَانَ ءابَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ(24)}



{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُوا لا تَتَّخِذُوا ءابَاءكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ} النداء بلفظ الإِيمان للتكريم ولتحريك الهمة للمسارعة إِلى امتثال أوامر الله، قال ابن مسعود: "إِذا سمعت الله تعالى يقول: يا أيها الذين ءامنوا فأَرْعِها سمعك، فإِنه خير تؤمر به، أو شر تنهى عنه" والمعنى: لا تتخذوا آباءكم وإِخوانكم الكافرين أنصاراً وأعواناً تودونهم وتحبونهم {إِنْ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الإِيمَانِ} أي إِن فضلوا الكفر واختاروه على الإِيمان وأصروا عليه إِصراراً {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ} قال ابن عباس: هو مشرك مثلهم، لأن من رضي بالشرك فهو مشرك .

{قُلْ إِنْ كَانَ ءابَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ} أي إِن كان هؤلاء الأقارب من الآباء، والأبناء ، والإِخوان، والزوجات ومن سواهم {وَعَشِيرَتُكُمْ} أي جماعتكم التي تستنصرون بهم {وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا} أي وأموالكم التي اكتسبتموها {وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا} أي تخافون عدم نفاقها {وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا} أي منازل تعجبكم الإِقامة فيها {أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} هذا هو جواب كان أي إِن كانت هذه الأشياء المذكورة أحب إِليكم من الهجرة إِلى الله ورسوله {وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ} أي وأحب إِليكم من الجهاد لنصرة دين الله {فَتَرَبَّصُوا} أي انتظروا وهو وعيد شديد وتهديد {حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ} أي بعقوبته العاجلة أو الآجلة {وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} أي لا يهدي الخارجين عن طاعته إلى طريق السعادة، وهذا وعيد لمن آثر أهله أو ماله، أو وطنه، على الهجرة والجهاد.



نصر الله للمؤمنين على الأعداء في مواضع كثيرة



{لَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمْ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ(25)ثُمَّ أَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ(26)ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ(27)}



ذكرهم تعالى بالنصر على الأعداء في مواطن اللقاء فقال: {لَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ} أي نصركم في مشاهد كثيرة، وحروب عديدة {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ} أي ونصركم أيضاً يوم حنين بعد الهزيمة التي منيتم بها بسبب اغتراركم بالكثرة {إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا} أي حين أعجبكم كثرة عددكم فقلتم: لن نغلب اليوم من قلة، وكنتم اثني عشر ألفاً وأعداؤكم أربعة آلاف، فلم تنفعكم الكثرة ولم تدفع عنكم شيئاً {وَضَاقَتْ عَلَيْكُمْ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ} أي وضاقت الأرض على رحبها وكثرة اتساعها بكم من شدة الخوف {ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ} أي وليتم على أدباركم منهزمين قال الطبري: يخبرهم تبارك وتعالى أن النصر بيده ومن عنده، وأنه ليس بكثرة العدد، وأنه ينصر القليل على الكثير إِذا شاء، قيل للبراء بن عازب: أفررتم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين؟ فقال البراء: أشهد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يفر، ولقد رأيته على بغلته البيضاء - وأبو سفيان آخذ بلجامها يقودها - فلما غشيه المشركون نزل فجعل يقول:

أنـا النـبي لا كــذب أنـا ابـــن عـبد المطـلب

ثم أخذ قبضة من تراب فرمى بها في وجوه المشركين وقال: شاهت الوجوه ففروا، فما بقي أحد إِلا ويمسح القذى عن عينيه، وقال البراء: كنا والله إِذا حميَ البأس نتقي برسول الله صلى الله عليه وسلم وإِن الشجاع منا الذي يحاذيه.

{ثُمَّ أَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ} أي أنزل بعد الهزيمة الأمن والطمأنينة على المؤمنين حتى سكنت نفوسهم، قال أبو السعود: أي أنزل رحمته التي تسكن بها القلوب وتطمئن إِليها {وَأَنزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا} قال ابن عباس: يعني الملائكة {وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا} أي بالقتل والأسر وسبي النساء والذراري {وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ} أي وذلك عقوبة الكافرين بالله. {ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَنْ يَشَاءُ} أي يتوب على من يشاء فيوفقه للإِسلام، وهو إِشارة إِلى إِسلام هوازن {وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} أي عظيم المغفرة واسع الرحمة.



تحريم دخول المشركين إلى المسجد الحرام



{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ(28)}



{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} أي قذر لخبث باطنهم، قال ابن عباس: أعيانهم نجسة كالكلاب والخنازير، وقال الحسن: من صافح مشركاً فليتوضأ، والجمهور على أن هذا على التشبيه أي هم بمنزلة النجس أو كالنجس لخبث اعتقادهم وكفرهم بالله جعلوا كأنهم النجاسة بعينها مبالغة في الوصف على حد قولهم: عليٌّ أسدٌ أي كالأسد {فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} أي فلا يدخلوا الحرم، أطلق المسجد الحرام وقصد به الحرم كله قال أبو السعود: وقيل: المراد المنع عن الحج والعمرة أي لا يحجوا ولا يعتمروا بعد حج عامهم هذا وهو عام تسع من الهجرة ويؤيده حديث (وألاَّ يحج بعد هذا العام مشرك) وهو العام الذي نزلت فيه سورة براءة ونادى بها عليٌّ في المواسم .

{وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} أي وإِن خفتم أيها المؤمنون فقراً بسبب منعهم من دخول الحرم أو من الحج فإِن الله سبحانه يغنيكم عنهم بطريق آخر من فضله وعطائه، قال المفسرون: لما مُنع المسلمون من تمكين المشركين من دخول الحرم، وكان المشركون يجلبون الأطعمة والتجارات إليهم في المواسم، ألقى الشيطان في قلوبهم الحزن فقال لهم: من أين تأكلون؟ وكيف تعيشون وقد منعت عنكم الأرزاق والمكاسب؟ فأمنهم الله من الفقر والعيلة، ورزقهم الغنائم والجزية {إِنْ شَاءَ} أي يغنيكم بإِرادته ومشيئته {إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} قال ابن عباس عليم بما يصلحكم، حكيم فيما حكم في المشركين.



الأمر بمقاتلة أهل الكتاب، وأخذ الجزية منهم



{قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ(29)}



ولما ذكر حكم المشركينذكر حكم أهل الكتاب فقال {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ} أي قاتلوا الذين لا يؤمنون إِيماناً صحيحاً بالله واليوم الآخر وإِن زعموا الإِيمان، فإِن اليهود يقولون عُزَير ابن الله، والنصارى يعتقدون بألوهية المسيح ويقولون بالتثليث {وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ} أي لا يحرمون ما حرم الله في كتابه، ولا رسوله في سنته، بل يأخذون بما شرعه لهم الأحبار والرهبان ولهذا يستحلون الخمر والخنزير وما شابههما {وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ} أي لا يعتقدون بدين الإِسلام الذي هو دين الحق {مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} هذا بيان للمذكورين أي من هؤلاء المنحرفين من اليهود والنصارى الذين نزلت عليهم التوراة والإِنجيل {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ} أي حتى يدفعوا إِليكم الجزية منقادين مستسلمين {وَهُمْ صَاغِرُونَ} أي أذلاء حقيرون مقهورون بسلطان الإِسلام.



افتراء اليهود والنصارى على الله بنَسْبتهم الولد له سبحانه



{وَقَالَتْ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتْ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمْ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ(30)اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لا إِلَهَ إِلا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ(31)يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ(32)هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ(33)}



ذكر الله تعالى طرفاً من قبائحهم فقال {وَقَالَتْ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ} أي نسب اللعناء إلى الله الولد، وهو واحد أحد فرد صمد، قال البيضاوي: وإِنما قالوا ذلك لأنه لم يبق فيهم بعد بختنصر من يحفظ التوراة، فلما أحياه الله بعد مائة عام أملى عليهم التوراة حفظاً فتعجبوا من ذلك وقالوا: ما هذا إِلا لأنه ابن الله .

{وَقَالَتْ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ} أي وزعم النصارى - أعداء الله - أن المسيح ابن الله قالوا: لأن عيسى ولد بدون أب، ولا يمكن أن يكون ولد بدون أب، فلا بد أن يكون ابن الله، قال تعالى رداً عليهم {ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ} أي ذلك القول الشنيع هو مجرد دعوى باللسان من غير دليل ولا برهان، قال ابن جزي: يتضمن معنيين: أحدهما إِلزامهم هذه المقالة والتأكيد في ذلك، والثاني أنهم لا حجة لهم في ذلك، وإِنما هو مجرد دعوى كقولك لمن تكذبه: هذا قولك بلسانك {يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ} أي يشابهون بهذا القول الشنيع قول المشركين قبلهم: الملائكة بنات الله {تشابهت قلوبهم} {قَاتَلَهُمْ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} دعاء عليهم بالهلاك أي أهلكهم الله كيف يُصرفون عن الحق إلى الباطل بعد وضوح الدليل حتى يجعلوا لله ولداً، قال الرازي: الصيغة للتعجب وهو راجع إِلى الخلق على عادة العرب في مخاطباتهم، والله تعالى عجَّب نبيه من تركهم الحق وإِصرارهم على الباطل {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} أي أطاع اليهود أحبارهم والنصارى رهبانهم في التحليل والتحريم وتركوا أمر الله فكأنهم عبدوهم من دون الله والمعنى: أطاعوهم كما يطاع الرب وإِن كانوا لم يعبدوهم وهو التفسير المأثور عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال عدي بن حاتم: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي عنقي صليب من ذهب فقال: يا عدي إِطرح عنك هذا الوثن، قال وسمعته يقرأ سورة براءة {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} فقلت يا رسول الله: لم يكونوا يعبدونهم فقال عليه السلام: أليس يُحرمون ما أحل الله تعالى فيحرمونه، ويحلون ما حرم الله فيستحلّونه؟‍ فقلت: بلى، قال: فذلك عبادتهم {وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ} أي اتخذه النصارى رباً معبوداً {وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا} أي والحال أن أولئك الكفرة ما أمروا على لسان الأنبياء إِلا بعبادة إِله واحد هو الله رب العالمين {لا إِلَهَ إِلا هُوَ} لا معبود بحق سواه {سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} أي تنزه الله عما يقول المشركون وتعالى علواً كبيراً .

{يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ} أي يريد هؤلاء الكفار من المشركين وأهل الكتاب أن يطفئوا نور الإِسلام وشرع محمد عليه السلام بأفواههم الحقيرة، بمجرد جدالهم وافترائهم، وهو النور الذي جعله الله لخلقه ضياءً، فمثلهم في ذلك كمثل من يريد أن يطفئ شعاع الشمس أو نور القمر بنفخه بفمه ولا سبيل إِلى ذلك {وَيَأْبَى اللَّهُ إِلا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ} أي ويأبى الله إِلا أن يعليه ويرفع شأنه {وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} أي ولو كره الكافرون ذلك {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ} أي أرسل محمداً صلى الله عليه وسلم بالهداية التامة والدين الكامل وهو الإِسلام {لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} أي ليعليه على سائر الأديان {وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} جوابه محذوف أي ولو كره المشركون ظهوره فإنه ظاهر لا محالة.



طريقة تعامل الرهبان والأحبار مع الناس



{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ(34)يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لأَنفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ(35)}



{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ} أي يا أيها الذين صدقوا الله ورسوله إِن كثيراً من علماء اليهود "الأحبار" وعلماء النصارى "الرهبان" {لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} أي ليأخذون أموال الناس بالحرام، ويمنعونهم عن الدخول في دين الإِسلام، قال ابن كثير: والمقصود التحذير من علماء السوء، وعباد الضلال، قال ابن عيينة: من فسد من علمائنا كان فيه شبه من اليهود، ومن فسد من عُبَّادنا كان في شبه من النصارى .

{وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ} أي يجمعون الأموال ويدخرون الثروات {وَلا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} أي لا يؤدون زكاتها ولا يبذلون منها في وجوه الخير، قال ابن عمر: الكنز ما لم تُؤد زكاته، وما أديت زكاته فليس بكنز {فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} أسلوب تهكم أي أخبرهم بالعذاب الأليم في دار الجحيم، قال الزمخشري: وإِنما قرن بين الكانزين وبين اليهود والنصارى تغليظاً عليهم ودلالة على أن من يأخذ منهم السحت، ومن لا يعطي من المسلمين من طيب ماله، سواء في استحقاق البشارة بالعذاب الأليم.

{يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ} أي يوم يحمى عليها بالنار المستعرة حتى تصبح حامية كاوية {فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ} أي تحرق بها الجباه والجنوب والظهور بالكي عليها، قال ابن مسعود: والذي لا إِله غيره لا يكوى عبد بكنزٍ فيمس دينار ديناراً، ولا درهم درهماً، ولكن يوسع جلده فيوضع كل دينار ودرهم على حدته، وخصت هذه الأماكن بالكي لأن البخيل يرى الفقير قادماً فيقطب جبهته فإِذا جاءه أعرض بجانبه، فإِذا طالبه بإِحسان ولاه ظهره، قال القرطبي: الكي في الوجه أشهر وأشنع، وفي الظهر والجنب ألم وأوجع، فلذلك خصها بالذكر من بين سائر الأعضاء {هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لأَنفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ} أي يقال لهم تبكيتاً وتقريعاً: هذا ما كنزتموه لأنفسكم فذوقوا وبال ما كنتم تكنزونه وفي صحيح مسلم (ما من رجل لا يؤدي زكاة ماله إِلا جعل له يوم القيامة صفائح من نار، فيكوى بها جنبه وجبهته وظهره في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، حتى يقضى بين العباد، ثم يرى سبيله إِما إِلى الجنة وإِما إلى النار).

عدد الشهور عند الله، وقتال المشركين كافة وتحريم النسيء



{إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ(36)إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ(37)}



{إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا} أي إِن عدد الشهور المعتد بها عند الله في شرعه وحكمه هي اثنا عشر شهراً على منازل القمر، فالمعتبر به الشهور القمرية إِذ عليها يدور فلك الأحكام الشرعية {فِي كِتَابِ اللَّهِ} أي في اللوح المحفوظ {يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ} قال ابن عباس: كتبه يوم خلق السماوات والأرض في الكتاب الإِمام الذي عند الله {مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ} أي منها أربعة شهور محرمة هي: "ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، ورجب" وسميت حرماً لأنها معظمة محترمة تتضاعف فيها الطاعاتويحرم القتال فيها {ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ} أي ذلك الشرع المستقيم {فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ} أي لا تظلموا في هذه الأشهر المحرمة أنفسكم بهتك حرمتهن وارتكاب ما حرم الله من المعاصي والآثام {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً} أي قاتلوهم جميعاً مجتمعين غير متفرقين كما يقاتلكم المشركون جميعاً {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} أي معهم بالنصرة والتأييد، وهو بشارة وضمان لأهل التقوى.

{إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ} أي إِنما تأخير حرمة شهر لشهر آخر زيادة في الكفر لأنه تحريم ما أحله الله وتحليل ما حرمه فهو كفر آخر مضموم إِلى كفرهم قال المفسرون: كان العرب أهل حروب وغارات، وكان القتال محرماً عليهم في الأشهر الحرم، فإِذا جاء الشهر الحرام وهم محاربون شق عليهم ترك المحاربة، فيحلونه ويحرمون مكانه شهراً آخر، كأنهم يستقرضون حرمة شهر لشهر غيره، فربما أحلوا المحرم وحرموا صفر حتى يكمل في العام أربعة أشهر محرمة {يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا} أي يضل بسببه الكافرين ضلالاً على ضلالهم {يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا} أي يحلون المحرم عاماً والشهر الحلال عاماً فيجعلون هذا مكان هذا والعكس {لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ} أي ليوافقوا عدة الأشهر الحرم الأربعة {فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ} أي فيستحلوا بذلك ما حرمه الله، قال مجاهد: كان رجل من بني كنانة يأتي كل عام إِلى الموسم على حمار له، فيقول أيها الناس: إِني لا أعاب ولا أجاب، ولا مرد لما أقول، إِنا قد حرمنا المحرم، وأخرنا صفر، ثم يجيء العام المقبل ويقول: إِنا قد حرمنا صفر وأخرنا المحرم فذلك قوله تعالى {لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ} {زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ} أي زين الشيطان لهم أعمالهم القبيحة حتى حسبوها حسنة {وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} أي لا يرشدهم إِلى طريق السعادة.



التحريض على الجهاد وعذاب تاركيه، ومعجزة الغار



{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمْ انفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلا قَلِيلٌ(38)إِلا تَنفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ(39)إلا تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ(40)}



{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمْ انفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ} استفهام للتقريع والتوبيخ، وهو توبيخ على ترك الجهاد وعتاب لمن تخلف عن غزوة تبوك والمعنى: ما لكم أيها المؤمنون إِذا قيل لكم اخرجوا لجهاد أعداء الله تباطأتم وتثاقلتم، وملتم إِلى الدنيا وشهواتها وكرهتم مشاق السفر ومتاعبه؟‌‍ {أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ} أي أرضيتم بنعيم الدنيا ومتاعها الفاني بدل نعيم الآخرة وثوابها الباقي؟ {فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلا قَلِيلٌ} أي فما التمتع بلذائذ الدنيا في جنب الآخرة إِلا شيء مستحقر قليل لا قيمة له.

ثم توعَّدهم على ترك الجهاد فقال {إِلا تَنفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} أي إِن رفضتم الخروج إِلى الجهاد مع رسول الله يعذبكم الله عذاباً أليماً موجعاً، باستيلاء العدو عليكم في الدنيا، وبالنار المحرقة في الآخرة، وقال ابن عباس: هو حبس المطر عنهم {وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ} أي يهلككم ويستبدل قوماً آخرين خيراً منكم، يكونون أسرع استجابة لرسول الله وأطوع {وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئًا} ولا تضروا الله شيئاً بتثاقلكم عن الجهاد فإِنه سبحانه غني عن العالمين {وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} أي قادر على كل ما يشاء ومنه الانتصار على الأعداء بدونكم قال الرازي: وهو تنبيه على شدة الزجر من حيث إِنه تعالى قادر لا يجوز عليه العجز، فإِذا توعد بالعقاب فعل .

{إِلا تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ} أي إنْ لمْ تنصُروا رسوله فإِن الله ناصره وحافظه وجواب الشرط محذوف تقديره: فسينصره الله دل عليه قوله {فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ} والمعنى: إِن لم تنصروه أنتم فسينصره الله الذي نصره حين كان ثاني اثنين، حيث لم يكن معه أنصار ولا أعوان {إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا} أي حين خروجه من مكة مهاجراً إِلى المدينة، وأسند إِخراجه إِلى الكفار لأنهم ألجؤوه إِلى الخروج وتآمروا على قتله حتى اضطر إِلى الهجرة {ثَانِيَ اثْنَيْنِ} أي أحد اثنين هو وأبو بكر الصديق {إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ} أي حين كان هو والصديق مختبئين في النقب في جبل ثور {إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} أي حين يقول لصاحبه وهو أبو بكر الصديق تطميناً وتطييباً: لا تخف فالله معنا بالمعونة والنصر، روى الطبري عن أنس أن أبا بكر رضي الله عنه قال "بينا أنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في الغار، وأقدام المشركين فوق رؤوسنا فقلت يا رسول الله: لو أن أحدهم رفع قدمه لأبصرنا فقال يا أبا بكر: ما ظنك باثنين الله ثالثهما؟" وكان سبب حزن أبي بكر خوفه على رسول الله صلى الله عليه وسلم فنهاه الرسول تسكيناً لقلبه {فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ} أي أنزل الله السكون والطمأنينة على رسوله {وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا} أي قواه بجنود من عنده من الملائكة يحرسونه في الغار لم تروها أنتم {وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى} أي جعل كلمة الشرك سافلة دنيئة حقيرة، أذل بها الشرك والمشركين {وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا} أي وكلمة التوحيد "لا إِله إِلا الله" هي الغالبة الظاهرة، أعزَّ الله بها المسلمين، وأذل الشرك والمشركين {وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} أي قاهر غالب لا يُغلب، لا يفعل إِلا ما فيه الحكمة والمصلحة.



الأمر بالخروج للجهاد في سبيل الله



{انفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالاً وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ(41)}



{انفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالاً} أي اخرجوا للقتال يا معشر المؤمنين شيباً وشباناً، مُشاةً وركباناً، في جميع الظروف والأحوال، في اليسر والعسر، والمنشط والمكره {وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} أي جاهدوا بالأموال والأنفس لإِعلاء كلمة الله{ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} أي هذا النفير والجهاد خير من التثاقل إِلى الأرض والخلود إِليها والرضا بالقليل من متاع الحياة الدنيا إِن كنتم تعلمون ذلك، قال أبو حيّان: والخيرية في الدنيا بغلبة العدو ووراثة الأرض، وفي الآخرة بالثواب العظيم ورضوان الله.



تخلف المنافقين عن غزوة تبوك ومسألة الإذن لهم في ذلك



{لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لاتَّبَعُوكَ وَلَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ(42)عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ(43)لا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ(44)إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ(45)}



ثم ذكر تعالى أحوال المخلفين الذين تخلفوا عن غزوة تبوك، وموقف المثبطين المنافقين منهم فقال {لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا} أي لو كان ما دعوا إِليه غُنماً قريباً سهل المنال {وَسَفَرًا قَاصِدًا} أي وسفراً وسطاً ليس ببعيد {لاتَّبَعُوكَ} أي لخرجوا معك لا لوجه الله بل طمعاً في الغنيمة {وَلَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ} أي ولكن بعدت عليهم الطريق والمسافة الشاقة ولذلك اعتذروا عن الخروج لما في قلوبهم من النفاق {وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ} أي وسيحلفون لكم معتذرين بأعذار كاذبة لو قدرنا على الخروج معكم لما تأخرنا، ولو كان لنا سعة في المال أو قوة في الأبدان لخرجنا للجهاد معكم، قال تعالى رداً عليهم وتكذيباً لهم {يُهْلِكُونَ أَنفُسَهُمْ} أي يوقعون أنفسهم في الهلاك بأيمانهم الكاذبة {وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} أي لكاذبون في دعواهم حيث كانوا مستطيعين للخروج ولم يخرجوا .

{عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ} تلطف في عتاب الرسول صلى الله عليه وسلم حيث قدم العفو على العتاب إِكراماً له عليه السلام والمعنى سامحك الله يا محمد لم أذنت لهؤلاء المنافقين في التخلف عن الخروج معك بمجرد الاعتذار‍‍ {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ} أي وهلا تركتهم حتى يظهر لك الصادق منهم في عذره من الكاذب المنافق، قال مجاهد: نزلت في المنافقين قال أناس منهم استأذنوا رسول الله، فإِن أذن لكم فاقعدوا، وإِن لم يأذن لكم فاقعدوا، فقد كانوا مصرين على القعود عن الغزو وإِن لم يأذن لهم، ولهذا أخبر تعالى أنه لا يستأذنه أهل الإِيمان فقال {لا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} أي لا يستأذنك يا محمد عن الجهاد والغزو من يؤمن بالله واليوم الآخر {أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ} أي كراهية الجهاد بالمال والنفس لأنهم يعلمون ما أعده الله للمجاهدين الأبرار من الأجر الجزيل فكيف يتخلفون عنه؟ {وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ} أي عليم بهم لأنهم مخلصون في الإِيمان متقون للرحمن.

{إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} أي إِنما يستأذنك يا محمد المنافقون الذين لم يثبت الإِيمان في قلوبهم {وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ} أي شكَّت قلوبهم في الله وثوابه فهم يترددون حيارى لا يدرون ما يصنعون.



الدليل على تخلف المنافقين بغير عذر



{وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ(46)لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلا خَبَالاً وَلأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ(47)لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الأُمُورَ حَتَّى جَاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَارِهُونَ(48)}



سبب النزول:

لما أراد صلى الله عليه وسلم الخروج إِلى تبوك قال "للجد بن قيس" - وكان منافقاً - يا أبا وهب: هل لك في جلاد بني الأصفر - يعني الروم - تتخذ منهم سراري ووصفاء؟ فقال يا رسول الله: لقد عرف قومي أني مغرم بالنساء، وإِني أخشى إِن رأيت بني الأصفر ألا أصبر عنهن فلا تفتني وأذَنْ لي في القعود.



{وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً} أي ولو أراد هؤلاء المنافقون الخروج معك للجهاد أو كانت لهم نية في الغزو لاستعدوا له بالسلاح والزاد، فتركهم الاستعداد دليل على إِرادتهم التخلف {وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ} أي ولكن كره الله خروجهم معك {فَثَبَّطَهُمْ} أي كسر عزمهم وجعل في قلوبهم الكسل {وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ} أي اجلسوا مع المخالفين من النساء والصبيان وأهل الأعذار، وهو ذم لهم لإِيثارهم القعود على الخروج للجهاد، والآية تسلية له صلى الله عليه وسلم على عدم خروج المنافقين معه إِذ لا فائدة فيه ولا مصلحة بل فيه الأذى والمضرة ولهذا قال :

{لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلا خَبَالاً} أي لو خرجوا معكم ما زادوكم إِلا شراً وفساداً {وَلأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ} أي أسرعوا بينكم بالمشي بالنميمة {يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ} أي يطلبون لكم الفتنة بإِلقاء العداوة بينكم {وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ} أي وفيكم ضعفاء القلوب يصغون إِلى قولهم ويطيعونهم {وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ} أي عالم بالمنافقين علماً محيطاً بضمائرهم وظواهرهم {لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ} أي طلبوا لك الشر بتشتيت شملك وتفريق صحبك عنك من قبل غزوة تبوك كما فعل ابن سلول حين انصرف بأصحابه يوم أحد {وَقَلَّبُوا لَكَ الأُمُورَ} أي دبروا لك المكايد والحيل وأداروا الآراء في إِبطال دينك {حَتَّى جَاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ} {وَهُمْ كَارِهُونَ} أي والحال أنهم كارهون لذلك لنفاقهم.

yacine414
2011-03-26, 11:24
اختلاق المنافقين أعذاراً أخرى للتخلف، وفرحتهم بالسيئة التي تصيب المؤمنين وحزنهم بالحسنة



{وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ(49)إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوا وَهُمْ فَرِحُونَ(50)قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ(51)قُلْ هَلْ تَربَّصُونَ بِنَا إِلا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ(52)}



{وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي} أي ومن هؤلاء المنافقين من يقول لك يا محمد ائذن لي في القعود ولا تفتني بسبب الأمر بالخروج، قال ابن عباس: نزلت في "الجد بن قيس" حين دعاه الرسول صلى الله عليه وسلم إِلى جلاد بني الأصفر، فقال يا رسول الله: ائذن لي في الجهاد ولا تفتني بالنساء {أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا} أي ألا إِنهم قد سقطوا في عين الفتنة فيما أرادوا الفرار منه، بل فيما هو أعظم وهي فتنة التخلف عن الجهاد وظهور كفرهم ونفاقهم، قال أبو السعود: وفي التعبير عن الافتتان بالسقوط في الفتنة تنزيل لها منزلة المهواة المهلكة، المفصحة عن ترديهم في دركات الردى أسفل سافلين {وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ} أي لا مفر لهم منها لأنها محيطة بهم من كل جانب إِحاطة السوار بالمعصم، وفيه وعيد شديد .

{إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ} أي إِن تصبك في بعض الغزوات حسنة، سواء كانت ظفراً أو غنيمة، يسؤهم ذلك {وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ} أي وإِن تصبك مصيبة من نكبة وشدة، أو هزيمة ومكروه يفرحوا به ويقولوا: قد احتطنا لأنفسنا وأخذنا بالحذر والتيقظ فلم نخرج للقتال من قبل أن يحل بنا البلاء {وَيَتَوَلَّوا وَهُمْ فَرِحُونَ} أي وينصرفوا عن مجتمعهم وهم فرحون مسرورون.

{قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا} أي لن يصيبنا خير ولا شر، ولا خوف ولا رجاء، ولا شدة ولا رخاء، إِلا وهو مقدر علينا مكتوب عند الله {هُوَ مَوْلانَا} أي ناصرنا وحافظنا {وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلْ الْمُؤْمِنُونَ} أي ليفوض المؤمنون أمورهم إِلى الله، ولا يعتمدوا على أحد سواه {قُلْ هَل تربَّصُونَ بِنَا إِلا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ} أي قل لهم هل تنتظرون بنا يا معشر المنافقين إِلا إِحدى العاقبتين الحميدتين: إِما النصر، وإِما الشهادة، وكل واحدة منهما شيء حسن!! {وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا} أي ونحن ننتظر لكم أسوأ العاقبتين الوخيمتين: أن يهلككم الله بعذابٍ من عنده يستأصل به شأفتكم، أو يقتلكم بأيدينا {فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ} أي انتظروا ما يحل بنا ونحن ننتظر ما يحل بكم، وهو أمر يتضمن التهديد والوعيد.



إحباط ثواب المنافقين على نفقاتهم وصلواتهم وتعذيبهم في الدنيا والآخرة



{قُلْ أَنفِقُوا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنتُمْ قَوْمًا فَاسِقِينَ(53)وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلا وَهُمْ كُسَالَى وَلا يُنفِقُونَ إِلا وَهُمْ كَارِهُونَ(54)فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ(55)}



{قُلْ أَنفِقُوا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ} أي قل لهم أنفقوا يا معشر المنافقين طائعين أو مكرهين، فمهما أنفقتم الأموال فلن يتقبل الله منكم، قال الطبري: وهو أمر معناه الخبر كقوله {استغفر لهم أو لا تستغفر لهم} والمعنى لن يُتقبل منكم سواء أنفقتم طوعاً أو كرهاً {إِنَّكُمْ كُنتُمْ قَوْمًا فَاسِقِينَ} تعليل لرد إِنفاقهم أي لأنكم كنتم عتاة متمردين خارجين عن طاعة الله.

ثم أكد هذا المعنى بقوله {وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ} أي وما منع من قبول النفقات منهم إِلا كفرهم بالله ورسوله {وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلا وَهُمْ كُسَالَى} أي ولا يأتون إِلى الصلاة إِلا وهم متثاقلون {وَلا يُنفِقُونَ إِلا وَهُمْ كَارِهُونَ} أي ولا ينفقون أموالهم إِلا بالإكراه لأنهم يعدونها مغرماً، قال أبو حيّان: ذكر تعالى السبب المانع من قبول نفقاتهم وهو الكفر واتبعه بما هو مستلزم له وهو إِتيانهم الصلاة كسالى، وإِيتاء النفقة وهم كارهون، لأنهم لا يرجون بذلك ثواباً ولا يخافون عقاباً، وذكر من أعمال البر هذين العملين الجليلين وهما: الصلاة، والنفقة، لأن الصلاة أشرف الأعمال البدنية، والنفقة في سبيل الله أشرف الأعمال المالية .

{فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} أي لا تستحسن أيها السامع ولا تفتتن بما أوتوا من زينة الدنيا، وبما أنعمنا عليهم من الأموال والأولاد، فظاهرها نعمة وباطنها نقمة، إِنما يريد الله بذلك استدراجهم ليعذبهم بها في الدنيا، قال البيضاوي: وعذابهم بها بسبب ما يكذبون لجمعها وحفظها من المتاعب، وما يرون فيها من الشدائد والمصائب {وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ} أي ويموتوا كافرين مشتغلين بالتمتع بزينة الدنيا عن النظر في العاقبة فيشتد في الآخرة عذابهم.



انتهاز المنافقين الفرصة للطعن بالرسول صلى الله عليه وسلم، وحَلِفُهُم الإيمان الكاذبة





{وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ(56)لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلاً لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ(57)وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ(58)وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا ءاتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ(59)}



{وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ} أي ويقسمون بالله لكم إِنهم لمؤمنون مثلكم، وما هم بمؤمنين لكفر قلوبهم {وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ} أي ولكنهم يخافون منكم أن تقتلوهم كما تقتلون المشركين، فيظهرون الإِسلام تقية ويؤيدونه بالأيمان الفاجرة {لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً} أي حصناً يلجأون إِليه {أَوْ مَغَارَاتٍ} أي سراديب يختفون فيها {أَوْ مُدَّخَلاً} أي مكاناً يدخلون فيه ولو ضيقاً {لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ} أي لأقبلوا إليه يسرعون إسراعاً كالفرس الجموح، والمراد من الآية تنبيه المؤمنين إِلى أنَّ المنافقين لو قدروا على الهروب منهم ولو في شر الأمكنة وأخسها لفعلوا لشدة بغضهم لكم فلا تغتروا بأيمانهم الكاذبة أنهم معكم ومنكم .

{وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ} أي ومنهم من يعيبك يا محمد في قسمة الصدقات {فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا} أي فإِن أعطيتهم من تلك الصدقات استحسنوا فعلك {وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ} أي وإِن لم تعطهم منها ما يرضيهم سخطوا عليك وعابوك، قال المفسرون: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم غنائم حنين فجاء إِليه رجل من المنافقين يقال له: "ذو الخويصرة" فقال: اعدل يا محمد فإِنك لم تعدل فقال صلى الله عليه وسلم: (ويلك إِن لم أعدل فمن يعدل؟)، الحديث .

{وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا ءاتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ} أي ولو أن هؤلاء الذين عابوك يا محمد رضوا بما أعطيتهم من الصدقات وقنعوا بتلك القسمة وإِن قلَّت، قال أبو السعود: وذكرُ اللهِ عز وجل للتعظيم والتنبيه على أن ما فعله الرسول كان بأمره سبحانه {وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ} أي كفانا فضل الله وإِنعامه علينا {سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ} أي سيرزقنا الله صدقة أو غنيمة أخرى خيراً وأكثر مما آتانا {إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ} أي إِنا إِلى طاعة الله وإِفضاله وإِحسانه لراغبون، وجواب {لَوْ} محذوف تقديره لكان خيراً لهم، قال الرازي: وترك الجواب في هذا المعرض أدل على التعظيم والتهويل وهو كقولك للرجل: لو جئتنا .. ثم لم تذكر الجواب أي لو فعلت ذلك لرأيت أمراً عظيماً.



مصارف الزكاة



{إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ(60)}



ثم ذكر تعالى مصرف الصدقات فقال {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} قال الطبري: أي لا تنال الصدقات إِلا للفقراء والمساكين ومن سماهم الله جل ثناؤه والآية تقتضي حصر الصدقات وهي الزكاة في هذه الأصناف الثمانية فلا يجوز أن يعطى منها غيرهم، والفقير الذي له بُلْغة من العيش، والمسكين لا شيء له قال يونس: سألت أعرابياً: أفقيراً أنت فقال: لا بل مسكين وقيل: المسكين أحسن حالاً من الفقير، والمسألة خلافية {وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا} أي الجباة الذين يجمعون الصدقات {وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ} هم قوم من أشراف العرب أعطاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ليتألف قلوبهم على الإِسلام، وروى الطبري عن صفوان بن أمية قال: لقد أعطاني رسول الله صلى الله عليه وسلم وإِنه لأبغض الناس إِلي، فما زال يعطيني حتى إِنه لأحب الناس إِلي {وَفِي الرِّقَابِ} أي وفي فك الرقاب لتخليصهم من الرق {وَالْغَارِمِينَ} أي المديونين الذين أثقلهم الدين {وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ} أي المجاهدين والمرابطين وما تحتاج إِليه الحرب من السلاح والعتاد {وَاِبْنِ السَّبِيلِ} أي الغريب الذي انقطع في سفره {فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ} أي فرضها الله جل وعلا وحددها {وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} أي عليم بمصالح العباد، حكيم لا يفعل إِلا ما تقتضيه الحكمة قال ابن جزي: وإِنما حصر مصرف الزكاة في تلك الأصناف ليقطع طمع المنافقين فيها فاتصلت هذه في المعنى بآية اللمز في الصدقات.



إيذاء المنافقين للرسول صلى الله عليه وسلم



{وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ ءامَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ(61)}



سبب النزول:

كان جماعة من المنافقين يؤذون رسول الله ويقولون فيه ما لا ينبغي، فقال بعضهم: لا تفعلوا فإِنا نخاف أن يبلغه ما تقولون فيقع بنا، فقال "الجلاس بن سويد": نقول ما شئنا ثم نأتيه فيصدقنا بما نقول فإِنما محمد أذن سامعة فأنزل الله {وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ ..}.

قال مجاهد: كان المنافقون يعيبون رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما بينهم ثم يقولون عسى الله أن لا يفشي سرنا فأنزل الله {يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ ..} الآية.



{وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ} أي ومن المنافقين أناس يؤذون الرسول بأقوالهم وأفعالهم {وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ} أي يصدّق بكل خبرٍ يسمعه {قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ} أي هو أذن خير لا أذن شر، يسمع الخير فيعمل به، ولا يعمل بالشر إِذا سمعه {يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ} أي يصدِّق الله فيما يقول، ويصدِّق المؤمنين فيما يخبرونه به لعلمه بإِخلاصهم {وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ ءامَنُوا مِنْكُمْ} أي وهو رحمة للمؤمنين لأنه كان سبب إِيمانهم {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} أي والذين يعيبون الرسول ويقولون ما لا يليق بجنابه الشريف لهم عذاب موجع في الآخرة.





أحوال المنافقين المتخلفين عن غزوة تبوك وخوفهم أن يفضحهم القرآن



{يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ(62)أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحَادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدًا فِيهَا ذَلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ(63)يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِءُوا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ(64)وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَءايَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِءُونَ(65)لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ(66)}



{يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ} أي يحلفون لكم أنهم ما قالوا شيئاً فيه انتقاص للرسول ليرضوكم بتلك الأيمان {وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ} أي والحال أنه تعالى ورسوله أحق بالإِرضاء، ولا يكون ذلك إِلا بالطاعة، والمتابعة، وتعظيم أمره عليه السلام {إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ} أي إِن كانوا حقاً مؤمنين فليرضوا الله ورسوله .

{أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحَادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} أي ألم يعلم هؤلاء المنافقون أنه من يعادي ويخالف الله والرسول، والاستفهام للتوبيخ {فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدًا فِيهَا} أي فقد حق دخوله جهنم وخلوده فيها {ذَلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ} أي ذلك هو الذل العظيم، والشقاء الكبير، المقرون بالفضيحة حيث يفتضحون على رؤوس الأشهاد.

{يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ} أي يخشى المنافقون أن تنزل فيهم سورة تكشف عما في قلوبهم من النفاق {قُلِ اسْتَهْزِءُوا} أي استهزئوا بدين الله كما تشتهون وهو أمر للتهديد كقوله {إعملوا ما شئتم} {إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ} أي مظهر ما تخفونه وتحذرون ظهوره من النفاق، قال الزمخشري: كانوا يستهزئون بالإِسلام ويحذرون أن يفضحهم الله بالوحي، حتى قال بعضهم: والله لا أرانا إِلا شر خلق الله، ولوددت أني جلدت مائة جلدة ولا ينزل فينا شيء يفضحنا .

{وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ} أي ولئن سألت يا محمد هؤلاء المنافقين عما قالوه من الباطل والكذب في حقك وفي حق الإِسلام، ليقولون لك ما كنا جادين، وإِنما كنا نمزح ونلعب للترويح عن النفس، قال الطبري: بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يسير في غزوته إِلى تبوك وبين يديه ناس من المنافقين، فقالوا: انظروا إِلى هذا الرجل يريد أن يفتتح قصور الشام وحصونها هيهات هيهات!! فأطلع الله نبيه فأتاهم فقال: قلتم كذا وكذا فقالوا يا نبي الله: إِنما كنا نخوض ونلعب فنزلت {قُلْ أَبِاللَّهِ وَءايَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِءُونَ} أي قل لهؤلاء المنافقين: أتستهزئون بدين الله وشرعه، وكتابه ورسوله؟ والاستفهام للتوبيخ.

ثم كشف تعالى أمرهم وفضح حالهم فقال {لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} أي لا تعتذروا بتلك الأيمان الكاذبة فإِنها لا تنفعكم بعد ظهور أمركم، فقد أظهرتم الكفر بإِيذاء الرسول بعد إِظهاركم الإِيمان {إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ} أي إِن نعف عن فريقٍ منكم لتوبتهم وإِخلاصهم {نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ} أي نعذب فريقاً آخر لأنهم أصروا على النفاق والإِجرام.



صفات المنافقين وجزاؤهم الأخروي



{الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ(67)وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ(68)كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالاً وَأَوْلادًا فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا أُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ(69)أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ وَأَصْحَابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكَاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ(70)}



{الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ} أي المنافقون والمنافقات صنف واحد، وهم متشابهون في النفاق والبعد عن الإِيمان، كتشابه أجزاء الشيء الواحد قال الزمخشري: وأريد بقوله {بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ} نفي أن يكونوا من المؤمنين، وتكذيبهم فيما أخبر القرءان عن حلفهم {ويحلفون بالله إِنهم لمنكم} ثم وصفهم بما يدل على مخالفة حالهم لحال المؤمنين فقال {يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ} أي يأمرون بالكفر والمعاصي وينهون عن الإِيمان والطاعة {وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ} أي يمسكون أيديهم عن الانفاق في سبيل الله {نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ} أي تركوا طاعته فتركهم من رحمته وفضله وجعلهم كالمنسيين {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} أي الكاملون في التمرد والعصيان، والخروج عن طاعة الرحمن، وكفى به زجراً لأهل النفاق.

{وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ} أي وعد الله المنافقين والمجاهرين بالكفر بإِصلائهم نار جهنم {خَالِدِينَ فِيهَا} أي ماكثين فيها أبداً {هِيَ حَسْبُهُمْ} أي هي كفايتهم في العذاب، إِذ ليس هناك عذاب يعادلها {وَلَعَنَهُمْ اللَّهُ} أي أبعدهم من رحمته وأهانهم {وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ} أي دائم لا ينقطع .

{كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} أي حالكم يا معشر المنافقين كحال من سبقكم من المكذبين، وفيه التفات من الغيبة إِلى الخطاب {كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً} أي كانوا أقوى منكم أجساماً وأشد بطشاً {وَأَكْثَرَ أَمْوَالاً وَأَوْلادًا} أي وكانوا أوفر أموالاً، وأكثر أولاداً، ومع ذلك أهلكهم الله فاحذروا أن يحل بكم ما حل بهم {فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ} أي تمتعوا بنصيبهم وحظهم من ملاذ الدنيا {فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلاقِهِمْ} أي استمتعتم بملاذ الدنيا وشهواتها كما استمتع أولئك الذين سبقوكم بنصيبهم منها {وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا} أي وخضتم في الباطل والضلال كما خاضوا هم فيه، قال الطبري: المعنى سلكتم أيها المنافقون سبيلهم في الاستمتاع بالدنيا كما استمتع الأمم الذين كانوا من قبلكم، وخضتم في الكذب والباطل على الله كخوض تلك الأمم قبلكم، فاحذروا أن يحل بكم من عقوبة الله مثل الذي حل بهم {أُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ} أي أولئك الموصوفون بما ذكر من قبيح الفعال ذهبت أعمالهم باطلاً فلا ثواب لها إِلا النار {وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} أي وأولئك هم الكاملون في الخسران .

{أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} أي ألم يأت هؤلاء المنافقين خبر الأمم السابقين حين عصوا الرسل ماذا حلَّ بهم من العقوبة؟ {قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ} أي قوم نوح الذين أهلكوا بالطوفان وقوم هود "عاد" الذين أهلكوا بالريح، وقوم صالح "ثمود" الذين أهلكوا بالصيحة {وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ} الذين أهلكوا بسلب النعمة {وَأَصْحَابِ مَدْيَنَ} قوم شعيب الذين أهلكوا بعذاب يوم الظلة {وَالْمُؤْتَفِكَاتِ} قرى قوم لوط الذين انقلبت بهم فصار عاليها سافلها، وأمطروا حجارة من سجيل {أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالبَيِّنَاتِ} أي جاءتهم رسلهم بالمعجزات فكذبوهم {فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ} أي فما أهلكهم الله ظلماً إِنما أهلكهم بإِجرامهم {وَلَكِنْ كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} أي ولكن ظلموا أنفسهم بالكفر وارتكاب المعاصي، أفأمن هؤلاء المنافقون أن يُسلك بهم في الانتقام سبيل أسلافهم المكذِبين من أهل الإِجرام؟



صفات المؤمنين وجزاؤهم الأخروي



{وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ(71)وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ(72)}



ولما ذكر تعالى صفات المنافقين الذميمة أعقبها بذكر صفات المؤمنين الحميدة فقال {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} أي هم إخوة في الدين يتناصرون ويتعاضدون {يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ} أي يأمرون الناس بكل خيرٍ وجميلٍ يرضي الله، وينهونهم عن كل قبيح يسخط الله، فهم على عكس المنافقين الذين يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف {وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ} أي يؤدونها على الوجه الكامل {وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} أي يُعطونها إلى مستحقيها ابتغاء وجه الله {وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} أي في كل أمر ونهي {أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ} أي سيدخلهم في رحمته، ويفيض عليهم جلائل نعمته {إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ} أي غالب لا يُغلب من أطاعه ويذل من عصاه {حَكِيمٌ} أي يضع كل شيء في موضعه على أساس الحكمة، في النعمة والنقمة.

{وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ} أي وعدهم على إِيمانهم بجنات وارفة الظلال، تجري من تحت أشجارها الأنهار {خَالِدِينَ فِيهَا} أي لابثين فيها أبداً لا يزول عنهم نعيمها ولا يبيد {وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ} أي ومنازل يطيب فيها العيش في جنات الخلد والإقامة قال الحسن: هي قصور من اللؤلؤ والياقوت الأحمر والزبرجد {وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ} أي وشيء من رضوان الله أكبر من ذلك كله، وفي الحديث يقول الله تعالى لأهل الجنة: "يا أهل الجنة فيقولون: لبيك ربنا وسعديك فيقول: هل رضيتم؟ فيقولون: وما لنا لا نرضى وقد أعطيتنا ما لم تُعط أحداً من خلقك! فيقول: أعطيكم أفضل من ذلك فيقولون: وأي شيء أفضل من ذلك؟ فيقول: أُحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم بعده أبداً" {ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} أي ذلك هو الظفر العظيم الذي لا سعادة بعده.



أسباب جهاد الكفار والمنافقين



{يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ(73)يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا وَمَا نَقَمُوا إِلا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُنْ خَيْرًا لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ فِي الأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ(74)}



{يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ} قال ابن عباس: جاهد الكفار بالسيف، والمنافقين باللسان {وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ} أي اشدد عليهم بالجهاد والقتال والارعاب {وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ} أي مسكنهم ومثواهم جهنم {وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} أي بئس المكان الذي يصار إليه جهنم {يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا} أي يحلف المنافقون أنهم ما قالوا الذي بلغك عنهم من السب، قال قتادة: نزلت في عبد الله بن أُبيّ، وذلك أنه اقتتل رجلان: جهني وأنصاري، فعلا الجهني على الأنصاري، فقال ابن سلول للأنصار: ألا تنصرون أخاكم؟ والله ما مثلنا ومثل محمد إلا كما قال القائل "سمن كلبك يأكلك" فسعى بها رجل من المسلمين إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأرسل إليه يسأله فجعل يحلف بالله ما قاله فأنزل الله فيه هذه الآية .

{وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ} وقيل هي قول ابن سلول "لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل" {وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ} أي أظهروا الكفر بعد إظهار الإِسلام {وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا} قال ابن كثير: هم نفر من المنافقين همّوا بالفتك بالنبي صلى الله عليه وسلم عند عودته من تبوك وكانوا بضعة عشر رجلاً {وَمَا نَقَمُوا إِلا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ} أي ما عابوا على الرسول وما له عندهم ذنب إلا أن الله أغناهم ببركته، ويُمْنِ سعادته، وهذه الصيغة تقال حيث لا ذنب .. ثم دعاهم تبارك وتعالى إلى التوبة فقال {فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُنْ خَيْرًا لَهُمْ} أي فإِن يتوبوا عن النفاق يكن رجوعهم وتوبتهم خيراً لهم وأفضل {وَإِنْ يَتَوَلَّوْا} أي يعرضوا ويصروا على النفاق {يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذَابًا أَلِيمًا} أي يعذبهم عذاباً شديداً {فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ} أي في الدنيا بالقتل والأسر، وفي الآخرة بالنار وسخط الجبار {وَمَا لَهُمْ فِي الأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ} أي ليس لهم من ينقذهم من العذاب، أو يشفع لهم فيخلصهم وينجيهم يوم الحساب.





كذب المنافقين وخلفهم العهد والوعد



{وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ ءاتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ(75)فَلَمَّا ءاتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوا وَهُمْ مُعْرِضُونَ(76)فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ(77)أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ اللَّهَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ(78)}



سبب النزول:

روي أن رجلاً يسمى ثعلبة جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله: ادع الله أن يرزقني مالاً فقال: ويحك يا ثعلبة قليل تؤدي شكره، خير من كثير، لا تطيقه، فقال: والذي بعثك بالحق لئن دعوت الله أن يزقني مالاً لأعطين كل ذي حق حقه، فلم يزل يراجعه حتى دعا له، فاتخذ غنماً فنمَت كما ينمو الدود، فضاقت عليه المدينة فتنحى عنها فنزل وادياً من أوديتها حتى جعل يصلي الظهر والعصر في جماعة ويترك ما سواهما، ثم نمت وكثرت حتى ترك الجمعة والجماعة، فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه فأخبروه بخبره فقال: يا ويح ثعلبة ثلاثاً، فأنزل الله {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ ..} الآية فهلك في خلافة عثمان ..

عن ابن عمر قال: لما توفي عبد الله بن أبي جاء ابنه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأله أن يعطيه قميصه يكفن فيه أباه فأعطاه، ثم سأله أن يصلي عليه فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصلي عليه، فقام عمر فقال يا رسول الله: أعلى عدو الله تصلي؟ فقال: أخر عني يا عمر إِني خُيرت فاخترت فقيل لي {استغفر لهم} الآية ولو أعلم أني لو زدت على السبعين غفر له لزدت، ثم صلي عليه ومشى معه وقام على قبره فما كان إِلا يسيراً حتى أنزل الله {ولا تصلّ على أحدٍ منهم مات أبداً ..} الآية.



{وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ} أي ومن المنافقين من أعطى الله عهده وميثاقه {لَئِنْ ءاتَانَا مِنْ فَضْلِهِ} أي لئن أعطانا الله من فضله ووسع علينا في الرزق {لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ} أي لنصدقن على الفقراء والمساكين، ولنعملن فيها بعمل أهل الخير والصلاح .

{فَلَمَّاءاتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ} أي فلما رزقهم الله وأغناهم من فضله {بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوا وَهُمْ مُعْرِضُونَ} أي بخلوا بالإِنفاق ونقضوا العهد وأعرضوا عن طاعة الله ورسوله {فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ} أي جعل الله عاقبتهم رسوخ النفاق في قلوبهم إِلى يوم لقاء الله {بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ} أي بسبب إِخلافهم ما عاهدوا الله عليه من التصدق والصلاح {وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} أي وبسبب كذبهم في دعوى الإِيمان والإِحسان .

{أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ} الاستفهام للتوبيخ والتقريع أي ألم يعلم هؤلاء المنافقون أن الله يعلم أسرارهم وأحوالهم، ما يخفونه في صدورهم، وما يتحدثون به بينهم؟ {وَأَنَّ اللَّهَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ} أي لا يخفى عليه شيء مما غاب عن الأسماع والأبصار والحواس؟.



إعابة المنافقين على المؤمنين المنفقين



{الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ(79)اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ(80)}



{الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ} أي يعيبون المتطوعين المتبرعين من المؤمنين في صدقاتهم {وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ} أي ويعيبون الذين لا يجدون إِلا طاقتهم فيهزؤون منهم روى الطبري عن ابن عباس قال: جاء عبد الرحمن بن عوف بأربعين أوقية من ذهب إِلى النبي صلى الله عليه وسلم، وجاء رجل من الأنصار بصاعٍ من تمر، فقال بعض المنافقين: والله ما جاء عبد الرحمن بما جاء به إِلا رياءً، وإِن كان الله ورسوله لغنيين عن هذا الصاع فنزلت {سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ} أي جازاهم على سخريتهم وهو من باب المشاكلة {وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} أي عذاب موجع، هو عذاب الآخرة المقيم .

{اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ} أمر ومعناه الخبر أي سواء يا محمد استغفرت لهؤلاء المنافقين أم لم تستغفر لهم فلن يغفر الله لهم {إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} قال الزمخشري: والسبعون جارٍ مجرى المثل في كلامهم للتكثير والمعنى مهما أكثرت من الاستغفار لهم وبالغت فيه فلن يغفر الله لهم أبداً {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} أي عدم المغفرة لهم بسبب كفرهم بالله ورسوله كفراً شنيعاً حيث أظهروا الإِيمان وأبطنوا الكفر {وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} أي لا يوفق للإِيمان الخارجين عن طاعته، ولا يهديهم إِلى سبيل السعادة.



فرح المتخلفين من المنافقين عن غزوة تبوك



{فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَالُوا لا تَنفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ(81)فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلاً وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ(82)}



{فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللَّهِ} أي فرح المنافقون الذي تخلفوا عن رسول الله في غزوة تبوك بقعودهم بعد خروج الرسول صلى الله عليه وسلم مخالفة له حين سار وأقاموا {وَكَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} أي وكرهوا الخروج إِلى الجهاد إِيثاراً للراحة وخوف إِتلاف النفس والمال لما في قلوبهم من الكفر والنفاق .

{وَقَالُوا لا تَنفِرُوا فِي الْحَرِّ} أي قال بعضهم لبعض: لا تخرجوا إِلى الجهاد في وقت الحر، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم استنفرهم إِلى هذه الغزوة في حر شديد، قال أبو السعود: وإنما قال {وَكَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} على قوله "وكرهوا أن يخرجوا إِلى الغزو" إِيذاناً بأن الجهاد في سبيل الله مع كونه من أجلِّ الرغائب، وأشرف المطالب، التي يجب أن يتنافس فيها المتنافسون قد كرهوه، كما فرحوا بأقبح القبائح الذي هو القعود خلاف رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا لإِخوانهم تواصياً فيما بينهم بالشر والفساد لا تنفروا في الحر، فقد جمعوا ثلاث خصال من الكفر والضلال: الفرح بالقعود، وكراهية الجهاد، ونهي الغير عن ذلك، قال تعالى رداً عليهم.

{قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا} أي قل لهم يا محمد: نار جهنم التي تصيرون إِليها بتثاقلكم عن الجهاد أشد حراً مما تحذرون من الحر المعهود، فإِن حر الدنيا يزول ولا يبقى، وحر جنهم دائم لا يفتر، فما لكم لا تحذرون نار جهنم؟ قال الزمخشري: وهذا استجهال لهم، لأن من تصوَّن من مشقة ساعة، فوقع بذلك التصون في مشقة الأبد كان أجهل من كل جاهل {لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ} أي لو كانوا يفهمون لنفروا مع الرسول صلى الله عليه وسلم في الحر، ليتقوا به حر جهنم الذي هو أضعاف أضعاف هذا ولكنهم "كالمستجير من الرمضاء بالنار".

{فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلاً وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا} أمر يراد به الخبر معناه: فسيضحكون قليلاً، وسيبكون كثيراً، قال ابن عباس: الدنيا قليل فليضحكوا فيها ما شاؤوا، فإِذا انقطعت الدنيا وصاروا إِلى الله عز وجل استأنفوا بكاءً لا ينقطع أبداً {جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} أي جزاءً لهم على ما اجترحوا من فنون المعاصي.





منع المنافقين من الجهاد، ومنع النبي صلى الله عليه وسلم من الصلاة عليهم، والتحذير من الاغترار بهم



{فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلَى طَائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخَالِفِينَ(83)وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ(84)وَلا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ(85)}



{فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلَى طَائِفَةٍ مِنْهُمْ} أي فإِن ردك الله من غزوة تبوك إِلى طائفة من المنافقين الذين تخلفوا بغير عذر {فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ} أي طلبوا الخروج معك لغزوة أخرى {فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا} أي قل لهم لن تخرجوا معي للجهاد أبداً {وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا} أي لن يكون لكم شرف القتال معي لأعداء الله، وهو خبر معناه النهي للمبالغة، جارٍ مجرى الذم لهم لإِظهار نفاقهم {إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ} أي قعدتم عن الخروج معي أول مرة حين لم تخرجوا إِلى تبوك {فَاقْعُدُوا مَعَ الْخَالِفِينَ} أي فاقعدوا مع المتخلفين عن الغزو من النساء والصبيان.

لفت النظر إلى الإعجاز بقوله معيَ، مع العلم أنهم أمروا بالقتال في آية أخرى، إشارة إلى أن القتال سيكون بعد وقاة النبي صلى الله عليه وسلم.

{وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا} أي لا تصل يا محمد على أحدٍ من هؤلاء المنافقين إِذا مات، لأن صلاتك رحمة، وهم ليسوا أهلاً للرحمة {وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ} أي لا تقف على قبره للدفن، أو للزيارة والدعاء {إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} أي لأنهم كانوا في حياتهم منافقين يظهرون الإِيمان ويبطنون الكفر {وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ} أي وماتوا وهم على نفاقهم خارجون من الإِسلام متمردون في العصيان.

{وَلا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلادُهُمْ} أي لا تستحسن ما أنعمنا به عليهم من الأموال والأولاد {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الدُّنْيَا} أي لا يريد بهم الخير إِنما يريد أن يعذبهم بها في الدنيا بالمصائب والنكبات {وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ} أي تخرج أرواحهم ويموتوا على الكفر منشغلين بالتمتع بالأموال والأولاد عن النظر والتدبر في العواقب.



استئذان زعماء المنافقين في التخلف عن الجهاد، وإقدام المؤمنين عليه



{وَإِذَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ ءامِنُوا بِاللَّهِ وَجَاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُوْلُوا الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقَالُوا ذَرْنَا نَكُنْ مَعَ الْقَاعِدِينَ(86)رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ(87)لَكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ ءامَنُوا مَعَهُ جَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ وَأُوْلَئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ(88)أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ(89)وَجَاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الأَعْرَابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ(90)لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضَى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ(91)وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلا يَجِدُوا مَا يُنفِقُونَ(92)}



{وَإِذَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ} التنكير للتفخيم أي وإِذا أنزلت سورة جليلة الشأن {أَنْ ءامِنُوا بِاللَّهِ وَجَاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ} أي بأن آمنوا بالله بصدق ويقين، وجاهدوا مع الرسول لنصرة الحق وإِعزاز الدين {اسْتَأْذَنَكَ أُوْلُوا الطَّوْلِ مِنْهُمْ} أي استأذنك في التخلف أُولوا الغنى والمال الكثير {وَقَالُوا ذَرْنَا نَكُنْ مَعَ الْقَاعِدِينَ} أي دعنا نكن مع الذين لم يخرجوا للغزو وقعدوا لعذر، قال تعالى تقبيحاً لهم وذماً .

{رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ} أي رضوا بأن يكونوا مع النساء والمرضى والعجزة الذين تخلفوا في البيوت {وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ} أي ختم عليها {فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ} أي فهم لا يفهمون ما في الجهاد وطاعة الرسول من السعادة، وما في التخلف عنه من الشقاوة {لَكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ ءامَنُوا مَعَهُ جَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ} قال الرازي: لما شرح حال المنافقين، بيّن حال الرسول والمؤمنين بالضد منه، حيث بذلوا المال والنفس في طلب رضوان الله والتقرب إِليه والمعنى: إِن تخلف هؤلاء ولم يجاهدوا، فقد جاهد من هو خير منهم وأخلص نية واعتقاداً {وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ الْخَيْرَاتُ} أي لهم منافع الدارين: النصر والغنيمة في الدنيا، والجنة والكرامة في الآخرة {وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} أي الفائزون بالمطلوب.

{أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ} أي أعد الله لهم على إِيمانهم وجهادهم بساتين تجري من تحت قصورها الأنهار {خَالِدِينَ فِيهَا} أي لابثين فيها {ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} أي ذلك هو الظفر العظيم. الذي لا فوز وراءه.

{وَجَاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الأَعْرَابِ} أي جاء المعتذرون من الأعراب الذين انتحلوا الأعذار وتخلفوا عن الجهاد {لِيُؤْذَنَ لَهُمْ} أي في ترك الجهاد، وهذا بيان لأحوال المنافقين من الأعراب بعد بيان أحوال المنافقين من أهل المدينة، قال البيضاوي: هم "أسد" و "غطفان" استأذنوا في التخلف معتذرين بالجهد وكثرة العيال {وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ} أي وقعد عن الجهاد الذين كذبوا الله ورسوله في دعوى الإِيمان، وهم قوم لم يجاهدوا ولم يعتذروا عن تخلفهم {سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} وعيد لهم شديد أي سينال هؤلاء المتخلفين الكاذبين في دعوى الإِيمان عذاب أليم بالقتل والأسر في الدنيا، والنار في الآخرة.

{لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضَى } أي ليس على الشيوخ المسنين، ولا على المرضى العاجزين الذين لا يستطيعون الجهاد لعجزهم أو مرضهم {وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ} أي الفقراء الذين لا يجدون نفقة للجهاد {حَرَجٌ} أي إِثم في القعود {إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ} أي أخلصوا الإِيمان والعمل الصالح، فلم يرجفوا بالناس ولم يثبطوهم، ولم يثيروا الفتن، فليس على هؤلاء حرج إِذا تركوا الغزو لأنهم أصحاب أعذار {مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ} أي ليس عليهم جناح ولا إِلى معاتبتهم سبيل، قال ابن جزي: وصفهم بالمحسنين لأنهم نصحوا لله ورسوله، ورفع عنهم العقوبة والتعنيف واللوم، وهذا من بليغ الكلام لأن معناه: لا سبيل لعاتب عليهم، وهو جارٍ مجرى المثل {وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} أي عظيم المغفرة والرحمة حيث وسع على أهل الأعذار .

{وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ} نزلت في البكائين الذين أرادوا الغزو مع رسول الله ولم يجد الرسول صلى الله عليه وسلم ما يحملهم عليه، قال البيضاوي: هم البكاءون سبعة من الأنصار أتوا الرسول صلى الله عليه وسلم وقالوا: قد نذرنا الخروج فاحملنا نغزو معك، فقال عليه السلام: لا أجد ما أحملكم عليه فتولوا وهم يبكون {قُلْتَ لا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ} أي ليس عندي ما أحملكم عليه من الدواب {تَوَلَّوا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا} أي انصرفوا وأعينهم تسيل دمعاً من شدة الحزن { أَلا يَجِدُوا مَا يُنفِقُونَ} أي لأنهم لم يجدوا ما ينفقونه لغزوهم، ولم يكن عند الرسول ما يحملهم عليه.



معاتبة المنافقين بالتخلف عن الجهاد



{إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَاءُ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَعْلَمُونَ(93)}



{إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَاءُ} أي إِنما الإِثم والحرج على الذين يستأذنوك في التخلف وهم قادرون على الجهاد وعلى الإِنفاق لغناهم {رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ} أي رضوا بأن يكونوا مع النساء والمرضى والعجزة {وَطَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} أي ختم عليها فهم لذلك لا يهتدون.



عدم تصديق المنافقين في اعتذاراتهم وأيمانهم الكاذبة



{يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُلْ لا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ(94)سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ(95)يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ(96)}



{يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ} أي يعتذر إِليكم هؤلاء المتخلفون عن غزوة تبوك إِذا رجعتم إِليهم من سفركم وجهادكم {قُلْ لا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ} أي قل لهم لا تعتذروا فلن نصدقكم فيما تقولون {قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ} أي قد أخبرنا الله بأحوالكم وما في ضمائركم من الخبث والنفاق {وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ} أي وسيرى الله ورسوله عملكم فيما بعد، أتتوبون من نفاقكم أم تقيمون عليه؟ {ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ} أي ثم ترجعون بعد مماتكم إِلى الله تعالى الذي يعلم السر والعلانية، ولا تخفى عليه خافية {فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} أي فيخبركم عند وقوفكم بين يديه بأعمالكم كلها، ويجازيكم عليها الجزاء العادل .

{سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ} أي سيحلف لكم بالله هؤلاء المنافقون {إِذَا انقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ} أي إِذا رجعتم إِليهم من تبوك معتذرين بالأعذار الكاذبة {لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ} أي لتصفحوا عنهم ولتعرضوا عن ذمهم {فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ} أي فأعرضوا عنهم إِعراض مقتٍ واجتناب، وخلُّوهم وما اختاروا لأنفسهم من الكفر والنفاق، قال ابن عباس: يريد ترك الكلام والسلام ثم ذكر تعالى العلة فقال: {إِنَّهُمْ رِجْسٌ} أي لأنهم كالقذر لخبث باطنهم {وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ} أي مصيرهم إِلى جهنم هي مسكنهم ومأواهم {جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} أي جزاءً لهم على نفاقهم في الدنيا، وما اكتسبوه من الآثام {يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ} كرره لبيان كذبهم وللتحذير من الاغترار بمعاذيرهم الكاذبة، أي يحلفون لكم بأعظم الأيمان لينالوا رضاكم {فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ} أي فإِن رضيتم عنهم فإِن رضاكم لا ينفعهم لأن الله ساخط عليهم، قال أبو السعود: ووضع الفاسقين موضع الضمير للتسجيل عليهم بالفسق والخروج عن الطاعة.



أحوال الأعراب سكان البادية



{الأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ(97)وَمِنَ الأَعْرَابِ مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ مَغْرَمًا وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ(98)وَمِنَ الأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ أَلا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ(99)}



{الأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا} الأعراب - أهل البدو - أشد كفراً وأعظم نفاقاً من أهل الحضر، لجفائهم وقسوة قلوبهم، وقلة مشاهدتهم لأهل الخير والصلاح {وَأَجْدَرُ أَلا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ} أي وهم أولى بألا يعلموا ما أنزل الله على رسوله من الأحكام والشرائع، قال أبو حيّان: وإِنما كانوا أشد كفراً ونفاقاً لفخرهم وطيشهم ونشأتهم بلا سائس ولا مؤدب ولا مُربّي، فقد نشأوا كما شاءوا، ولبعدهم عن مشاهدة العلماء ومعرفة كتاب الله وسنة رسوله، فكانوا أطلق لساناً بالكفر من منافقي المدينة {وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} أي عليم بخلقه حكيم في صنعه .

{وَمِنَ الأَعْرَابِ مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ مَغْرَمًا} أي ومن هؤلاء الأعراب الجهلاء من يعدُّ ما يصرفه في سبيل الله ويتصدق به غرامة وخسراناً، لأنه لا ينفقه احتساباً فلا يرجو له ثواباً {وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ} أي ينتظر بكم مصائب الدنيا ليتخلص من أعباء النفقة {عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ} جملة اعتراضية للدعاء عليهم أي عليهم يدور العذاب والهلاك {وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} أي سميع لأقوالهم عليم بأفعالهم.

{وَمِنَ الأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} أي ومن الأعراب من يصدِّق بوحدانية الله وبالبعث بعد الموت على عكس أولئك المنافقين {وَيَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ} أي ويتخذ ما ينفق في سبيل الله ما يقربه من رضا الله ومحبته {وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ} أي دعاء الرسول واستغفاره له {أَلاَ إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَهُمْ} {أَلاَ} أداة استفتاح للتنبيه على الاعتناء بالأمر أي ألا إِن هذا الإِنفاق قربة عظيمة تقربهم لرضا ربهم حيث أنفقوها مخلصين {سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ} أي سيدخلهم الله في جنته التي أعدها للمتقين {إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} أي غفور لأهل طاعته رحيم بهم حيث وفقهم للطاعة.



منزلة السابقين الأولين وحال منافقي المدينة وما حولها



{وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ(100)وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ(101)وَءاخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صَالِحًا وَءاخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ(102)}



{وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ} أي والسابقون الأولون في الهجرة والنصرة، الذين سبقوا إِلى الإِيمان من الصحابة {وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ} أي سلكوا طريقهم واقتدوا بهم في سيرتهم الحسنة، وهم التابعون ومن سار على نهجهم إِلى يوم القيامة {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} وعدٌ بالغفران والرضوان أي رضي الله عنهم وأرضاهم، وهذا أرقى المراتب التي يسعى إِليها المؤمنون، ويتنافس فيها المتنافسون أن يرضى الله تعالى عنهم ويرضيهم، قال الطبري: رضي الله عنهم لطاعتهم إِياه وإِجابتهم نبيه، ورضوا عنه لما أجزل لهم من الثواب على الطاعة والإِيمان {وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ} أي وأعد لهم في الآخرة جنات تجري من تحت أشجارها وقصورها الأنهار {خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا} أي مقيمين فيها من غير انتهاء {ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} أي ذلك هو الفوز الذي لا فوز وراءه، قال أبو حيّان: لما بيّن تعالى فضائل الأعراب المؤمنين، بيّن حال هؤلاء السابقين، ولكن شتان ما بين الثناءين فهناك قال {ألا إِنها قُرْبةٌ لهم} وهنا قال {وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ} وهناك ختم {إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} وهنا ختم {ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}.

{وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ} أي وممن حولكم يا أهل المدينة منافقون من الأعراب منازلهم قريبة من منازلكم {وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ} أي ومن أهل المدينة منافقون أيضاً {مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ} أي لجوا في النفاق واستمروا عليه، قال ابن عباس: مرنوا عليه وثبتوا منهم ابن سلول، والجلاس، وأبو عامر الراهب {لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ} أي لا تعلمهم أنت يا محمد لمهارتهم في النفاق بحيث يخفى أمرهم على كثيرين، ولكن نحن نعلمهم ونخبرك عن أحوالهم {سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ} أي في الدنيا بالقتل والأسر، وعند الموت بعذاب القبر {ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ} أي ثم في الآخرة يردون إِلى عذاب النار، الذي أعده الله للكفار والفجار .

{وَءاخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ} أي وقوم آخرون أقروا بذنوبهم ولم يعتذروا عن تخلفهم بالمعاذير الكاذبة، قال الرازي: هم قوم من المسلمين تخلفوا عن غزوة تبوك لا لنفاقهم بل لكسلهم، ثم ندموا على ما فعلوا وتابوا {خَلَطُوا عَمَلاً صَالِحًا وَءاخَرَ سَيِّئًا} أي خلطوا جهادهم السابق وخروجهم مع الرسول لسائر الغزوات بالعمل السيء وهو تخلفهم عن غزوة تبوك هذه المرة {عَسَى اللهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ} أي لعل الله يتوب عليهم، قال الطبري: وعسى من الله واجب ومعناه: سيتوب الله عليهم، ولكنه في كلام العرب بمعنى الترجي {إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} أي ذو عفوٍ لمن تاب، عظيم الرحمة لمن أناب.



قَبول التوبة والصدقات والأعمال الصادرة عن خلوص النية والإثابة عليها



{خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ(103)أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ(104)وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ(105)}



{خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} أي خذ يا محمد من هؤلاء الذين اعترفوا بذنوبهم صدقة تطهرهم بها من الذنوب والأوزار، وتنمي بتلك الصدقة حسناتهم حتى يرتفعوا بها إِلى مراتب المخلصين الأبرار {وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ} أي وادع لهم بالمغفرة فإِن دعاءك واستغفارك طمأنينة لهم، قال ابن عباس: {سَكَنٌ لَهُمْ} رحمة لهم {وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} أي سميع لقولهم عليم بنياتهم.

{أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ} الاستفهام للتقرير أي ألم يعلم أولئك التائبون أن الله تعالى هو الذي يقبل توبة من تاب من عباده، {وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ} أي يتقبلها ممن أخلص النية {وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} أي وأن الله وحده المستأثر بقبول التوبة والرحمة، لقوله {غافر الذنب قابل التوب}.

{وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ} صيغة أمر متضمنة للوعيد أي اعملوا ما شئتم من الأعمال فأعمالكم لا تخفى على الله، وستعرض يوم الحساب على الرسول والمؤمنين {وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ} أي وستردُّون إِلى الله الذي لا تخفى عليه خافية {فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} أي فيجازيكم على أعمالكم إِن خيراً فخير، وإِن شراً فشر.



الانتظار الصعب



{وَءاخَرُونَ مُرْجَوْنَ لأَمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ(106)}



{وَءاخَرُونَ مُرْجَوْنَ لأَمْرِ اللَّهِ} أي وآخرون من المتخلفين مؤخرون إِلى أن يظهر أمر الله فيهم، قال ابن عباس: هم كعب بن مالك، ومرارة بن الربيع، وهلال بن أمية، لم يسارعوا إِلى التوبة والاعتذار، وكانوا من أصحاب بدر، فنهى النبي صلى الله عليه وسلم عن كلامهم والسلام عليهم، فصاروا مرجئين لأمره تعالى إلى أن يتجاوز عن سيئاتهم، فهو تعالى وحده الذي يقبل التوبة ويتوب على العبد دون غيره {إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ} أي إِما أن يعذبهم إِن لم يتوبوا، وإِما أن يوفقهم للتوبة ويغفر لهم {وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} أي عليم بأحوالهم حكيم فيما يفعله بهم، وهؤلاء الثلاثة المذكورون في قوله تعالى {وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا} وقد وقف أمرهم خمسين ليلة وهجرهم الناس حتى نزلت توبتهم بعد.



المقارنة بين أهل النفاق وأهل التقوى



{وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلا الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ(107)لا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ(108)أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ(109)لا يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ(110)}



{وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا} أي ومن المنافقين جماعة بالغوا في الإِجرام حتى ابتنوا مجمعاً يدبرون فيه الشر، وسموه مسجداً مضارة للمؤمنين، وقد اشتهر باسم "مسجد الضرار" {وَكُفْرًا} أي نصرة للكفر الذي يخفونه {وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ} أي يفرقون بواسطته جماعة المؤمنين، ويصرفونهم عن مسجد قباء {وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ} أي ترقباً وانتظاراً لقدوم أبي عامر الفاسق الذي قال لرسول الله: لا أجد قوماً يقاتلونك إِلا قاتلتك معهم، وهو الذي أمرهم ببناء المسجد ليكون معقلاً له قال الطبري في رواية الضحاك: هم ناس من المنافقين بنوا مسجداً بقباء يضارون به نبي الله والمسلمين وكانوا يقولون: إِذا رجع أبو عامر صلى فيه، وإِذا قدم ظهر على محمد وتغلب عليه {وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلا الْحُسْنَى} أي وليقسمن ما أردنا ببنائه إِلا الخير والإِحسان، من الرفق بالمسكين، والتوسعة على المصلين {وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} أي والله يعلم كذبهم في ذلك الحلف، وأتى بإِن واللام لزيادة التأكيد.

ثم نهى تعالى رسوله عن الصلاة في مسجد الضرار فقال {لا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا} أي لا تصل فيه يا محمد أبداً لأنه لم يُبْنَ إِلا ليكون معقلاً لأهل النفاق {لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى} اللام لام القسم أي لمسجد قباء الذي بني على تقوى الله وطاعته {مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ} أي من أول يوم ابتدئ في بنائه {أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ} أي أولى وأجدر بأن تصلي فيه من مسجد الضرار {فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا} أي في هذا المسجد رجال أتقياء - وهم الأنصار - يحبون أن يتطهروا من الذنوب والمعاصي {وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ} أي المبالغين في الطهارة الظاهرة والباطنة.

ثم أشار تعالى إِلى فضل مسجد التقوى على مسجد الضرار فقال: {أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ} الاستفهام للإِنكار والمعنى: هل من أسس بنيانه على تقوى وخوف من الله تعالى وطلبٍ لمرضاته بالطاعة {خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ} أي هل ذاك خير أم هذا الذي أسس بنيانه على طرف واد متصدع مشرف على السقوط؟ {فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ} أي فسقط به البناء في نار جهنم {وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} أي لا يوفق الظالمين إِلى السداد، ولا يهديهم سبيل الرشاد، والآية الكريمة على سبيل التشبيه والتمثيل لعمل أهل الإِخلاص، والإِيمان، وعمل أهل النفاق والضلال، والمعنى هل من أسس بنيان دينه على التقوى والإِخلاص كمن أسسه على الباطل والنفاق الذي يشبه طرف الوادي أو الجبل الذي أشفى على السقوط؟ .

{لا يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ} أي لا يزال في قلوب أهل مسجد الضرار شكٌ ونفاقٌ، وغيظ وارتياب بسبب هدمه، يحسبون أنهم كانوا في بنائه محسنين، روي أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث إِلى ذلك المسجد من هدمه وحرقه وأمر بإِلقاء الجيف والنتن والقمامة فيه إِهانة لأهله، فلذلك اشتد غيظ المنافقين وحقدهم {إِلا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ} أي لا يزالون في ارتياب وغيظ إِلا ان تتصدع قلوبهم فيموتوا {وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} أي والله سبحانه عليم بأحوال المنافقين، حكيم في تدبيره إِياهم ومجازاتهم بسوء نياتهم.



حال المؤمنين الصادقين في جهادهم



{إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْءانِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ(111)التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ(112)}



{إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ} أي اشترى أموال المؤمنين وأنفسهم بالجنة وهو تمثيل في ذروة البلاغة والبيان لأجر المجاهدين، مَثَّل تعالى جزاءهم بالجنة على بذلهم الأموال والأنفس في سبيله بصورة عقد فيه بيع وشراء، قال الحسن: بايعهم فأغلى لهم الثمن وانظروا إِلى كرم الله، أنفساً هو خلقها، وأموالاً هو رزقها، ثم وهبها لهم، ثم اشتراها منهم بهذا الثمن الغالي فإِنها لصفقة رابحة وقال بعضهم: ناهيك عن بيعٍ البائعُ فيه المؤمن، والمشتري فيه رب العزة والثمن فيه الجنة، والصك فيه الكتب السماوية، والواسطة فيه محمد عليه الصلاة والسلام {يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} أي يجاهدون لإِعزاز دين الله وإِعلاء كلمته {فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ} أي في حالتي الظفر بالأعداء بقتلهم، أو الاستشهاد في المعركة بموتهم .

{وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا} أي وعدهم به المولى وعداً قاطعاً {فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْءانِ} أي وعداً مثبتاً في الكتب المقدسة "التوراة، والإِنجيل، والقرآن" {وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ} الاستفهام إِنكاري بمعنى النفي أي لا أحد أوفى من الله جل وعلا، قال الزمخشري: لأن إِخلاف الميعاد قبيح لا يقدم عليه الكرام من الخلق، فكيف بالغني الذي لا يجوز عليه القبيح؟ ولا ترى ترغيباً في الجهاد أحسن منه وأبلغ.

{فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمْ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ} أي ابشروا بذلك البيع الرابح وافرحوا به غاية الفرح {وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} هو الفوز الذي لا فوز أعظم منه .

{التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ} كلام مستأنف، قال الزجاج: مبتدأ خبره محذوف أي التائبون العابدون من أهل الجنة أيضاً وإنِ لم يجاهدوا كقوله {وكلاً وعد الله الحسنى} والمعنى التائبون عن المعاصي، العابدون أي المخلصون في العبادة، الحامدون لله في السراء والضراء {السَّائِحُونَ} أي السائرون في الأرض للغزو أو طلب العلم، من السياحة وهي السير والذهاب في المدن والقفار للعظة والاعتبار {الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ} أي المصلون {الآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنكَرِ} أي الداعون إِلى الله، يدعون الناس إِلى الرشد والهدى، وينهونهم عن الفساد والردى {وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ} أي المحافظون على فرائض الله، المتمسكون بما شرع الله من حلال وحرام، قال الطبري: أي المؤدون فرائض الله، المنتهون إِلى أمره ونهيه {وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} أي بشرهم بجنات النعيم، وحذف المبشر به إِشارة إِلى أنه لا يدخل تحت حصر، بل لهم ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر.



وجوب قطع الموالاة مع الكفار حيِّهم وميِّتهم



{مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ ءامنوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُوْلِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ(113)وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ إِلا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأَوَّاهٌ حَلِيمٌ(114)وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ(115)إِنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يُحْيِ وَيُمِيتُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ(116)}



{مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ ءامنوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ} أي لا ينبغي ولا يصح للنبي والمؤمنين أن يطلبوا من الله المغفرة للمشركين {وَلَوْ كَانُوا أُوْلِي قُرْبَى} أي ولو كان المشركون أقرباء لهم {مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} أي من بعد ما وضح لهم أنهم من أهل الجحيم لموتهم على الكفر، والآية نزلت في أبي طالب.

{وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ} هذا بيان للسبب الذي حمل إِبراهيم على الاستغفار لأبيه آزر أي ما أقدم إِبراهيم على الاستغفار {إِلا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ} أي إِلا من أجل وعدٍ تقدم له بقوله {سأستغفر لك ربي} وأنه كان قبل أن يتحقق إِصراره على الشرك {فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ} أي فلما تبين لإِبراهيم ان أباه مصرّ على الكفر، تبرأ من أبيه بالكلية فضلاً عن الاستغفار له، ثم بيّن تعالى بأن الذي حمل إِبراهيم على الاستغفار هو فرط ترحمه وصبره على أبيه فقال {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأَوَّاهٌ} أي كثير التأوه من فرط الرحمة ورقة القلب {حَلِيمٌ} أي صبور على ما يعترضه من الأذى ولذلك حلم عن أبيه مع توعده له بقوله {لئن لم تنته لأرجمنك} فليس لغيره أن يتأسى به في ذلك، قال أبو حيان: ولما كان استغفار إِبراهيم لأبيه بصدد أن يُقتدى به بيّن تعالى العلة في استغفار إِبراهيم لأبيه، وهو الوعد الذي كان وعده به، فكان يرجو إِيمانه فلما تبيّن له من جهة الوحي أنه عدو لله، وأنه يموت كافراً، وانقطع رجاؤه منه تبرأ منه وقطع استغفاره .

{وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا} نزلت الآية في قوم من المسلمين استغفروا للمشركين، فخافوا على أنفسهم من ذلك فنزلت الآية تأنيساً لهم أي ما كان الله ليقضي على قوم بالضلال {بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ} أي بعد أن وفقهم للإِيمان {حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ} أي حتى يبين لهم ما يجتنبونه فإِن خالفوا بعد النهي استحقوا العقوبة {إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} أي عليم بجميع الأشياء ومنها أنه يعلم من يستحق الهداية، ومن يستحق الإِضلال.

{إِنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} أي له سلطان السماوات والأرض وملكهما، وكل من فيهما عبيده ومماليكه {يُحْيِ وَيُمِيتُ} أي بيده وحده حياتهم وموتهم {وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ} أي ما لكم أيها الناس من أحد غير الله تلجأون إِليه أو تعتمدون عليه، قال الألوسي: لما منعهم سبحانه عن الاستغفار للمشركين وإِن كانوا أولي قربى، وتضمن ذلك وجوب التبري عنهم، بيّن لهم أن الله سبحانه مالك كل موجود، ومتولي أمره، والغالب عليه، ولا يتأتى لهم ولاية ولا نصر إِلا منه تعالى، ليتوجهوا إِليه بكليتهم، متبرئين عما سواه، غير قاصدين إِلا إِياه.



قَبول توبة أهل تبوك ومجازاة المخلفين الثلاثة على صدقهم



{لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ(117)وَعَلَى الثَّلاَثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ(118)يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءامنوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ(119)}



{لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ} أي تاب الله على النبي من إِذنه للمنافقين في التخلف، وتاب على المهاجرين والأنصار لما حصل منهم من بعض الهفوات في غزوة تبوك، حيث تباطأ بعضهم، وتثاقل عن الجهاد آخرون، والغرض التوبة على من تخلفوا من المؤمنين عن غزوة تبوك ثم تابوا وأنابوا، وعلم الله صدق توبتهم فقبلها منهم،وصدّرها بتوبته على رسوله وكبار صحبه جبراً لقلوبهم، وتنويهاً لشأنهم، وبعثاً للمؤمنين على التوبة، وأنه ما من مؤمن إِلا وهو محتاج إِلى التوبة والاستغفار، حتى النبي والمهاجرون والأنصار {الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ} أي اتبعوه في غزوة تبوك وقت العسرة في شدة الحر، وقلة الزاد، والضيق الشديد روى الطبري عن عمر رضي الله عنه قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إِلى تبوك في قيظٍ شديد، فنزلنا منزلاً أصابنا فيه عطش، حتى ظننا أن رقابنا ستنقطع، حتى إِن الرجل لينحر البعير فيعصر فرثه فيشربه، فقال أبو بكر يا رسول الله: إِن الله قد عودك في الدعاء خيراً فادع لنا، قال: تحب ذلك؟ قال: نعم فرفع يديه فلم يرجعهما حتى سكبت السماء فملأوا ما معهم، فرجعنا ننظر فلم نجدها جاوزت العسكر {مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ} أي من بعد ما كادت قلوب بعضهم تميل عن الحق وترتاب، لما نالهم من المشقة والشدة {ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ} أي وفقهم للثبات على الحق وتاب عليهم لما ندموا {إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} أي لطيف رحيم بالمؤمنين .

{وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا} أي وتاب كذلك على الثلاثة الذين تخلفوا عن الغزو، وهم "كعب، وهلال، ومرارة" {حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ} أي ضاقت عليهم مع سعتها {وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ} أي ضاقت نفوسهم بما اعتراها من الغم والهم، بحيث لا يسعها أنس ولا سرور، وذلك بسبب أن الرسول عليه السلام دعا لمقاطعتهم، فكان أحدهم يفشي السلام لأقرب أقربائه فلا يرد عليه، وهجرتهم نساؤهم وأهلوهم وأهملوهم حتى تاب عليهم {وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلا إِلَيْهِ} أي وأيقنوا أنه لا معتصم لهم من الله ومن عذابه، إِلا بالرجوع والإِنابة إِليه سبحانه {ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا} أي رجع عليهم بالقبول والرحمة، ليستقيموا على التوبة ويدوموا عليها {إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} أي المبالغ في قبول التوبة وإِن كثرت الجنايات وعظمت، المتفضل على العباد بالرحمة الشاملة.

{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءامنوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} أي راقبوا الله في جميع أقوالكم وأفعالكم، وكونوا مع أهل الصدق واليقين، الذين صدقوا في الدين نية وقولاً وعملاً.



النهي عن التخلف عن الجهاد وتبيين حسن جزاء المجاهدين



{مَا كَانَ لأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلا يَرْغَبُوا بِأَنفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً إِلا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ(120)وَلا يُنفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً وَلا يَقْطَعُونَ وَادِيًا إِلا كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ(121)}



{مَا كَانَ لأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ} عتاب لمن تخلف عن غزوة تبوك أي ما صح ولا استقام لأهل المدينة ومن حولهم من سكان البوادي أن يتخلفوا عن الغزو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم {وَلا يَرْغَبُوا بِأَنفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ} أي لا يترفعوا بأنفسهم عن نفسه بأن يكرهوا لها المكاره ولا يكرهوها له عليه السلام، بل عليهم ان يفدوه بالمُهَج والأرواح، وأن يكابدوا معه ما يكابده من الأهوال والخطوب، قال الزمخشري: أُمروا بأن يصحبوه على البأساء والضراء، وأن يلقوا من الشدائد ما تلقاه نفسه، علماً بأنها أعز نفس على الله وأكرمها عليه، لا أن يضنوا بأنفسهم على ما سمح بنفسه عليه، وهذا نهي بليغ، وتهييج لمتابعته عليه السلام.

{ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ} أي ذلك النهي عن التخلف بسبب أنهم لا يصيبهم عطش {وَلا نَصَبٌ} أي ولا تعب {وَلا مَخْمَصَةٌ } أي ولا مجاعة {فِي سَبِيلِ اللَّهِ} أي في طريق الجهاد {وَلا يَطَئُونَ مَوْطِئًا} أي ولا يدوسون مكاناً من أمكنة الكفار بأرجلهم أو حوافر خيولهم {يَغِيظُ الْكُفَّارَ} أي يغضب الكفار وطؤها {وَلا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً} أي ولا يصيبون أعداءهم بشيء بقتل أو أسرٍ أو هزيمة قليلاً كان أو كثيراً {إِلا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ} أي إِلا كان ذلك قربة لهم عند الله {إِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} أي لا يضيع أجر من أحسن عملاً {وَلا يُنفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً} قال ابن عباس: تمرة فما فوقها {وَلا يَقْطَعُونَ وَادِيًا} أي ولا يجتازون للجهاد في سيرهم أرضاً ذهاباً أو إِياباً {إِلا كُتِبَ لَهُمْ} أي أثبت لهم أجر ذلك {لِيَجْزِيَهُمْ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} أي ليجزيهم على كل عمل لهم جزاء أحسن أعمالهم، قال الألوسي: على معنى أن لأعمالهم جزاءً حسناً وجزاء أحسن، وهو سبحانه اختار لهم أحسن جزاء.



توزيع المسؤوليات بين المسلمين لنشر الدين



{وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ(122)}



{وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُوا كَافَّةً} أي لا ينبغي خروج جميع المؤمنين للغزو بحيث تخلو منهم البلاد، روي عن ابن عباس انه تعالى لما شدد على المتخلفين قالوا: لا يتخلف منا أحد عن جيشٍ أو سرية أبداً، فلما قدم الرسول المدينة وأرسل السرايا إِلى الكفار، نفر المسلمون جميعاً إِلى الغزو وتركوه وحده بالمدينة فنزلت هذه الآية {فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ} أي فإِذا لم يمكن نفير الجميع ولم يكن فيه مصلحة فهلا نفر من كل جماعة كثيرة فئة قليلة {لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ} أي ليصبحوا فقهاء ويتكلفوا المشاق في طلب العلم {وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} أي وليخوفوا قومهم ويرشدوهم إِذا رجعوا إِليهم من الغزو، لعلهم يخافون عقاب الله بامتثال أوامره واجتناب نواهيه، قال الألوسي: وكان الظاهر أن يقال ليعلِّموا بدل لِيُنذِرُوا و يفقهون بدل {يحذرون} لكنه اختير ما في النظم الجليل للإِشارة إلى أنه ينبغي أن يكون غرض المعلم: الإِرشاد والإِنذار، وغرض المتعلم: اكتساب الخشية لا التبسط والاستكبار.



الدعوة إلى إظهار الغلظة مع الكفار



{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءامنوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ(123)}



{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءامنوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ} أي قاتلوا القريبين منكم وطهروا ما حولكم من رجس المشركين ثم انتقلوا إلى غيرهم، والغرض إِرشادهم إِلى الطريق الأصوب والأصلح، وهو أن يبتدئوا من الأقرب فالأقرب حتى يصلوا إلى الأبعد فالأبعد {وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً} أي وليجد هؤلاء الكفار منكم شدة عليهم {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} أي واعلموا أن من اتقى الله كان الله معه بالنصر والعون.



مدى تأثير التنزيل على المؤمنين والمنافقين



{وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ ءامَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ(124)وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ(125)أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لا يَتُوبُونَ وَلا هُمْ يَذَّكَّرُونَ(126)وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ هَلْ يَرَاكُمْ مِنْ أَحَدٍ ثُمَّ انصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ(127)}



{وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ} أي من سور القرآن {فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا} أي فمن هؤلاء المنافقين من يقول استهزاء: أيكم زادته هذه إِيماناً؟ على وجه الاستخفاف بالقرآن كأنهم يقولون: أي عجب في هذا وأي دليل في هذا؟ يقول تعالى { فَأَمَّا الَّذِينَ ءامنوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا} أي فأما المؤمنون فزادتهم تصديقاً وذلك لما يتجدد عندهم من البراهين والأدلة عند نزول كل سورة {وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} أي وهم يفرحون لنزولها لأنه كلما نزل شيء من القرآن ازدادوا إِيماناً.

{وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} أي وأما المنافقون الذين في قلوبهم نفاق وشك في دين الله {فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ} أي زادتهم نفاقاً إِلى نفاقهم وكفراً إِلى كفرهم، فازدادوا رجساً وضلالاً فوق ما هم فيه من الرجس والضلال {وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ} أي ماتوا على الكفر.

{أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ} الهمزة للإِنكار والتوبيخ أي أوَلا يرى هؤلاء المنافقون الذين تُفضح سرائرهم كل سنة مرة أو مرتين حين ينزل فيهم الوحي؟ {ثُمَّ لا يَتُوبُونَ وَلا هُمْيَذَّكَّرُونَ} أي ثم لا يرجعون عما هم فيه من النفاق ولا يعتبرون.

{وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ هَلْ يَرَاكُمْ مِنْ أَحَدٍ ثُمَّ انصَرَفُوا} أي وإِذا أنزلت سورة من القرآن فيها عيب المنافقين وهم في مجلس النبي صلى الله عليه وسلم نظر بعضهم لبعض هل يراكم أحد من المسلمين لننصرف، فإِنا لا نصبر على استماعه وهو يفضحنا ثم قاموا فانصرفوا {صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} جملة دعائية أي صرفها عن الهدى والإِيمان {بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ} أي لأجل أنهم لا يفهمون الحق ولا يتدبرون فهم حمقى غافلون.



امتنان الله على المؤمنين بصفات رسوله الكريم



{لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌٌ(128)فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ(129)}



{لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ} أي لقد جاءكم أيها القوم رسول عظيم القدر، من جنسكم عربي قرشي، يُبلغكم رسالة الله {عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ} أي يشق عليه عنتكم وهو المشقة ولقاء المكروه {حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ} أي حريص على هدايتكم {بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌٌ} أي رءوف بالمؤمنين رحيم بالمذنبين، شديد الشفقة والرحمة عليهم، قال ابن عباس: سماه باسمين من أسمائه. {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ} أي فإِن أعرضوا عن الإِيمان بك يا محمد فقل يكفيني ربي {لا إِلَهَ إِلا هُوَ} أي لا معبود سواه {عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ} أي عليه اعتمدت فلا أرجو ولا أخاف أحداً غيره {وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} أي هو سبحانه رب العرش المحيط بكل شيء، لكونه أعظم الأشياء، الذي لا يعلم مقدار عظمته إِلا الله تعالى.

yacine414
2011-03-26, 11:25
سورة يونس



الإنذار والتبشير من قِبل الرسول والافتراء والتكذيب من قِبل الكافرين

إثبات الألوهية والربوبية لله تعالى

الوعد الحق بالبعث والحشر والجزاء

أحوال الشمس والقمر الدالة على توحيد الله وكمال قدرته

أحوال المؤمنين والكافرين يوم القيامة

رحمة الله لعباده والتجاؤهم إليه في الشدائد وإعراضهم عنه في الرخاء

الإهلاك والاستخلاف متعلقان بالأعمال

التشكيك بالقرآن عن طريق المطالبة بالإتيان بغيره أو تبديله

التنديد بعبادة الأصنام

التحذير من الاختلاف المذموم

مطالبة المشركين بمعجزة محسوسة غير القرءان

الرد على الكفار المطالبين بإنزال الآيات الكونية

مثل موجَّه لمن يبغي في الأرض ويغترُّ بالدنيا

مصير المحسنين والمسيئين يوم القيامة

انقطاع الصلة بين المشركين وشركائهم يوم القيامة

اعتراف المشركين بالربوبية لله تعالى

حجج دامغة في إثبات وجود الله تعالى

بيان إعجاز القرءان

سُنَّة الله في المشركين في الحال والاستقبال

قِصَرُ عُمْرِ الدنيا

عاقبة المذنبين في الدنيا والآخرة

خصائص القرءان الكريم

الافتراء على الله بالتحليل والتحريم

إحاطة علم الله تعالى بجميع أفعال العباد وتصرفاتهم

حال أولياء الله في الدنيا والآخرة

تفرد الله تعالى بالعزة والملك، وحكمته البالغة في إيجاد الليل والنهار

الإنكار على أباطيل وافتراءات المشركين

تذكير نوح عليه السلام لقومه بآيات الله تعالى

تكذيب الجاحدين أنبياءَ الله عادة قديمة

التمسك بتقاليد الآباء والأجداد

إيمان وثبات وثقة تامة بالله تعالى

اليأس من إيمان فرعون وملئه

عاقبة الطغاة المتعالين وإنجاء المؤمنين المذعنين للحق

تأكيد صحة القرءان وصدق النبوة

خاصِّيَّةٌ انفرد بها قوم يونس عليه السلام

الدعوة إلى النظر والتفكُّر بحال السابقين

وجوب اتباع دين الحق



بَيْن يَدَيْ الُّسورَة



سورة يونس من السور المكية التي تُعْنى بأصول العقيدة الإسلامية " الإيمان بالله تعالى، والإيمان. بالكتب، والرسل، والبعث والجزاء" وهي تتميز بطابع التوجيه إلى الإيمان بالرسالات السماوية، وبوجه أخص إلى "القرآن العظيم" خاتمة الكتب المنزلة، والمعجزة الخالدة على مدى العصور والدهور.



*تحدثت السورة الكريمة في بدايتها عن الرسالة والرسول، وبينَّت أن هذه سنة الله في الأولين

والآخرين، فما من أمةٍ إلا بعث الله إلها رسولاً، فلا داعي للمشركين للعجب من بعثه خاتم المرسلين {أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرْ النَّاسَ}؟ ثم تلتها الآيات عن بيان حقيقة "

"الألوهية" و "العبودية" وأساس الصلة بين الخالق والمخلوق، وعرَّفت الناسَ بربهم الحقَّ الذي ينبغي أن يعبدوه، وأن يُسلموا وجوههم إليه، فهو وحده الخالق الرازق، المحيي المميت، المدبر الحكيم، وكل ما سواه فباطل وهباء {إِنَّ رَبَّكُمْ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ..}.

*وتناولت السورة الكريمة موقف المشركين من الرسالة والقرآن، وذكرت أن هذا القرءان هو المعجزة الخالدة، الدالة على صدق النبي الأمي، وأنه يحمل برهانه في تفرده بالمعجزة، حيث تحداهم أن يأتوا بسورة من مثله فعجزوا مع أنهم أساطين الفصاحة، وأمراء البيان {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنْ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}. وانتقلت السورة لتعريف الناس بصفات الإله الحق، بذكر آثار قدرته، الدالة على التدبير الحكيم، وما في هذا الكون المنظور من آثار القدرة الباهرة، التي هي أوضح البراهين على عظمة الله وجلاله وسلطانه {قل من يرزقكم من السماواتِ والأرض؟ أمَّنْ يملك السمع والأبصار…} وهذه هي القضية الكبرى التي يدور محور السورة عليها وهي موضوع الإيمان بوحدانية الله جل وعلا، وقد عرضت السورة بشتى الأدلة السمعية والعقلية.

*وتحدثت السورة عن قصص الأنبياء، فذكرت قصة نوح مع قومه، وقصة موسى مع فرعون الجبار، وذكرت قصة نبي الله "يونس"-الذي سميت السورة باسمه_ وكلُّ هذه القصص لبيان سنة الله الكونية في إهلاك الظالمين، ونصرة المؤمنين.



وختمت السورة الكريمة بأمر الرسول صلى الله عليه وسلم بالاستمساك بشريعة الله، والصبر على ما يلقى من الأذى في سبيل الله {وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ}.



التسمية: سميت السورة "سورة يونس" لذكر قصته فيها، وما تضمنته من العظة والعبرة برفع العذاب عن قومه حينءامنوا بعد أن كاد يحل بهم البلاء والعذاب، وهذا من الخصائص التي خصَّ الله بها قوم يونس لصدق توبتهم وإيمانهم.



الإنذار والتبشير من قِبل الرسول والافتراء والتكذيب من قِبل الكافرين



{الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ(1)أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَءامنوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُبِينٌ(2)}



{الر} إشارة إلى أن هذا الكلام البليغ المعجز، مكوّن من جنس الأحرف التي يتكون منها كلامكم، فمن هذه الحروف وأمثالهم تتألف آيات الكتاب الحكيم، وهي في متناول أيديهم ثم يعجزون عن الإتيان بمثل آية واحدة منه {الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ} أي هذه آيات القرءان المُحْكم المبين الذي لا يدخله شك، ولا يعتريه كذب ولا تناقض .

{أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ} أي أكان عجباً لأهل مكة إيحاؤنا إلى رجلٍ منهم هو محمد عليه السلام؟ والهمزة للإنكار أي لا عجب في ذلك فهي عادة الله في الأمم السالفة أوحى إلى رسلهم ليبلغوهم رسالة الله {أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ} أي أوحينا إليه بأن خوِّف الكفار عذاب النار {وَبَشِّرِ الَّذِينَءامنوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ} أي وأنْ بشِّرٍ المؤمنين بأنَّ لهم سابقةً ومنزلة رفيعة عند ربهم بما قدموا من صالح الأعمال .

{قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُبِينٌ} أي ومع وضوح صدق الرسول صلى الله عليه وسلم وإعجاز القرءان، قال المشركون: إنَّ محمداً لساحرٌ ظاهر السحر، مبطلٌ فيما يدَّعيه قال البيضاوي: وفيه اعترافٌ بأنهم صادفوا من الرسول صلى الله عليه وسلم أموراً خارقة للعادة، معجزة إيّاهم عن المعارضة، وهو اعتراف من حيث لا يشعرون بأن ما جاء به خارجٌ عن طوق البشر.



إثبات الألوهية والربوبية لله تعالى



{إِنَّ رَبَّكُمْ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمْ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ(3)}



{إِنَّ رَبَّكُمْ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ} أي إنَّ ربكم ومالك أمركم الذي ينبغي أن تفردوه بالعبادة هو الذي خلق الكائنات في مقدار ستة أيام من أيام الدنيا، ولو شاء لخلقهنَّ في لمحة ولكنه أراد تعليم العباد التأني والتثبت في الأمور {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} استواءً يليق بجلاله من غير تكييفٍ، ولا تشبيه، ولا تعطيل.

قال ابن كثير: نسلك في هذا المقام مذهب السلف الصالح، وهو إِمرارها كما جاءت من غير تشبيه ولا تعطيل، والمتبادر إلى أذهان المشبِّهين منفيٌ عن الله، فإن الله لا يشبهه شيءٌ من خلقه، فمن أثبت لله تعالى ما وردت به الآيات الصريحة، والأخبار الصحيحة، على الوجه الذي يليق بجلال الله، فقد سلك سبيل الهدى، وقال أبو السعود: استوى على العرش على الوجه الذي عناه، وهو صفة له سبحانه بلا كيف، منزهاً عن التمكن والاستقرار، وهذا بيانٌ لجلالة ملكه وسلطانه، بعد بيان عظمة شأنه .

{يُدَبِّرُ الأَمْرَ} أي يدبّر أمر الخلائق على ما تقتضيه الحكمة والمصلحة، قال ابن عباس: لا يشغله في تدبير خلقه أحد {مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ} أي لا يشفع عنده شافع يوم القيامة إِلا بعد أن يأذن له في الشفاعة، وفي هذا ردٌّ على المشركين في زعمهم أن الأصنام تشفع لهم {ذَلِكُمْ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ} أي ذلكم العظيم الشأن هو ربكم وخالقكم لا ربَّ سواه، فوحّدوه بالعبادة {أَفَلا تَذَكَّرُونَ} أي أفلا تتعظون وتعتبرون؟ تعلمون أنه المتفرد بالخلق ثم تعبدون معه غيره.



الوعد الحق بالبعث والحشر والجزاء



{إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّاً إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ ءامنوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ(4)}



{إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا} أي إِلى ربكم مرجعكم أيها الناس يوم القيامة جميعاً {وَعْدَ اللَّهِ حَقًّاً} أي وعداً من الله لا يتبدّل، وفيه ردٌّ على منكري البعث حيث قالوا {ما هي إِلا حياتُنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إِلا الدهر} {إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ} أي كما ابتدأ الخلق كذلك يعيده {لِيَجْزِيَ الَّذِينَ ءامنوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ} أي ليجزي المؤمنين بالعدل، ويوفّيهم أجورهم بالجزاء الأوفى .

{وَالَّذِينَ كَفَرُوا} أي والذين جحدوا بالله وكذبوا رسله {لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ} أي لهم في جهنم شرابٌ من حميم، بالغ النهاية في الحرارة {وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ} أي ولهم عذاب موجع بسبب كفرهم وإِشراكهم، قال البيضاوي: والآية كالتعليل لما سبق فإِنه لما كان المقصود من البدء والإِعادة مجازاة المكلفين على أعمالهم كان مرجع الجميع إِليه لا محالة.



أحوال الشمس والقمر الدالة على توحيد الله وكمال قدرته



{هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ(5)إِنَّ فِي اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ(6)}



{هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً} الآية للتنبيه على دلائل القدرة والوحدانية أي هو تعالى بقدرته جعل الشمس مضيئة ساطعة بالنهار كالسراج الوهّاج {وَالْقَمَرَ نُورًا} أي وجعل القمر منيراً بالليل وهذا من كمال رحمته بالعباد، ولما كانت الشمس أعظم جرماً خُصَّت بالضياء، لأنه هو الذي له سطوعٌ ولمَعان، قال الطبري: المعنى أضاء الشمس وأنار القمر {وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ} أي قدَّر سيره في منازل وهي البروج {لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ} أي لتعلموا أيها الناس حساب الأوقات، فبالشمس تعرف الأيام، وبسير القمر تُعرف الشهور والأعوام {مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلا بِالْحَقِّ} أي ما خلق تعالى ذلك عبثاً بل لحكمة عظيمة، وفائدة جليلة {يُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُون} أي يبيّن الآيات الكونيّة ويوضحها لقوم يعلمون قدرة الله، ويتدبرون حكمته، قال أبو السعود: أي يعلمون الحكمة في إِبداع الكائنات، فيستدلون بذلك على شؤون مبدعها جل وعلا.

{إِنَّ فِي اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} أي في تعاقبهما يأتي الليل فيذهب النهار، ويأتي النهار فيذهب الليل {وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} أي وما أوجد فيهما من أصناف المصنوعات {لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ} أي لآيات عظيمة وبراهين جليلة، على وجود الصانع ووحدانيته، وكمال علمه وقدرته، لقومٍ يتقون الله ويخافون عذابه.



أحوال المؤمنين والكافرين يوم القيامة



{إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ(7)أُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ(8)إِنَّ الَّذِينَ ءامنوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ(9)دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلامٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنْ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ(10)}



{إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءنَا} أي لا يتوقعون لقاء الله أصلاً ولا يخطر ببالهم، فقد أعمتهم الشهوات عن التصديق بما بعد الممات {وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا} أي رضوا بالدنيا عوضاً من الآخرة، وآثروا الخسيس على النفيس {وَاطْمَأَنُّوا بِهَا} أي فرحوا بها وسكنوا إِليها {وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ} أي وهم عن الأدلة المنبثّة في صحائف الأكوان غافلون، لا يعتبرون فيها ولا يتفكرون.

{أُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ النَّارُ} أي مثواهم ومقامهم النار {بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} أي بسبب كفرهم وإِجرامهم، وبعد أن ذكر الله حال الأشقياء أردفه بذكر حال السعداء فقال {إِنَّ الَّذِينَ ءامنوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ} أي يهديهم إِلى طريق الجنة بسبب إِيمانهم {تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ} أي تجري من تحت قصورهم الأنهار أو من تحت أسرَّتهم وهم مقيمون في جنات النعيم {دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ} أي دعاؤهم في الجنة سبحانك اللهم وفي الحديث (يُلهمون التسبيح والتحميد كما تُلهمون النَّفس) أي كلامهم في الجنة تسبيح الله {وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلامٌ} أي وتحية بعضهم بعضاً سلامٌ عليكم كما تحيِّيهم بذلك الملائكة {والملائكةُ يدخلون عليهم من كل باب سلامٌ عليكم} {وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنْ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} أي وآخر دعائهم أن يقولوا: الحمد لله ربّ العالمين.



رحمة الله لعباده والتجاؤهم إليه في الشدائد وإعراضهم عنه في الرخاء



{وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءنَا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ(11)وَإِذَا مَسَّ الإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ(12)}



{وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ} قال مجاهد: هو دعاء الرجل على نفسه أو ولده إِذا غضب، اللهم أهلكْه، اللهم لا تبارك فيه، قال الطبري: المعنى لو يعجل الله إِجابة دعاء الناس في الشر وفيما عليهم فيه مضرَّة، كاستعجاله لهم في الخير بالإِجابة إِذا دعوه به {لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ} أي لهلكوا وعُجِّل لهم الموت {فَنَذَرُ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءنَا} أي فنترك المكذبين بلقائنا الذين لا يؤمنون بالبعث {فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} أي في تمردهم وعتوهم يتردَّدون تحيراً والمعنى: نترك المجرمين ونمهلهم ونفيض عليهم النعم مع طغيانهم لتلزمهم الحجة .

{وَإِذَا مَسَّ الإِنْسَانَ الضُّرُّ} أي وإِذا أصاب الإِنسان الضرُّ من مرضٍ أو فقر أو نحو ذلك {دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا} أي دعانا في جميع الحالات: مضطجعاً أو قاعداً أو قائماً لكشف ذلك الضُر عنه {فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ} أي فلما أزلنا ما به من ضرّ استمرَّ على عصيانه، ونسي ما كان فيه من الجَهْد والبلاء أو تناساه، وهو عتابٌ لمن يدعو الله عند الضر، ويغفل عنه عند العافية {كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} أي كما زُيّن لذلك الإِنسان الدعاء عند الضرِّ والإِعراضُ عند الرخاءِ، كذلك زُيّن للمسرفين المتجاوزين الحد في الإِجرام، ما كانوا يعملون من الإِعراض عن الذكر، ومتابعة الشهوات.



الإهلاك والاستخلاف متعلقان بالأعمال



{وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَاءتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ(13)ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلائِفَ فِي الأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ(14)}



{وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا} أي ولقد أهلكنا الأمم من قبلكم أيها المشركون لما كفروا وأشركوا وتمادَوا في الغيِّ والضلال {وَجَاءتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ} أي جاءوهم بالمعجزات الباهرة التي تدل على صدقهم {وَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا} أي وما ءامنوا بما جاءتهم به الرسل، أي أنهم ظلموا وما ءامنوا فكان سبب إِهلاكهم شيئان: ظلمهم، وعدم إِيمانهم {كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ} أي مثل ذلك الجزاء -يعني الإِهلاك- نجزي كل مجرم، وهو وعيدٌ لأهل مكة على تكذيبهم رسول الله صلى الله عليه وسلم .

{ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلائِفَ فِي الأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ} أي ثم استخلفناكم في الأرض يا أهل مكة من بعد إِهلاك أولئك القرون، التي تسمعون أخبارها وتشاهدون آثارها {لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ} أي لننظر أتعملون خيراً أم شراً فنجازيكم على حسب عملكم، قال القرطبي: والمعنى: يعاملكم معاملة المختبر إِظهاراً للعدل، وقال ابن جزي: معناه ليظهر في الوجود عملكم فتقوم عليكم به الحجة، والغرض أن الله تعالى عالمٌ بأعمالهم من قبل ذلك ولكن يختبرهم ليتبيَّن في الوجود ما علمه تعالى أزلاً.



التشكيك بالقرآن عن طريق المطالبة بالإتيان بغيره أو تبديله



{وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ(15)قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ(16)فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ(17)}



{وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ} أي وإِذا قرئت على المشركين آيات القرءان المبين، حال كونها واضحات لا لَبْس فيها ولا إِشكال {قَالَ الَّذِينَ لايَرْجُونَ لِقَاءَنَا} أي قال الذين لا يؤمنون بالبعث والحساب،ولا يرجون الأجر والثواب {ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا} أي ائت يا محمد بكتابٍ آخر غير هذا القرءان، ليس فيه ما نكرهه من عيب آلهتنا، وتسفيه أحلامنا، {أَوْ بَدِّلْهُ} بأن تجعل مكان آية عذاب آية رحمة، ومكان سب آلهتنا مدحهم، ومكان الحرام حلالا، وإِنما قالوه على سبيل الاستهزاء والسخرية، قال ابن عباس: نزلت في المستهزئين بالقرآن من أهل مكة قالوا: يا محمد ائتنا بقرآن غير هذا فيه ما نسألك .

{قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي} أي قل لهم يا محمد ما ينبغي ولا يصح لي أن أغيّر أو أبدّل شيئاً من قبل نفسي {إِنْ أَتَّبِعُ إِلا مَا يُوحَى إِلَيَّ} أي لا أتّبع إِلا ما يوحيه إِليَّ ربي، فأنا عبد مأمور ورسول مبلِّغ، أبلغكم رسالة الله {إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} أي إِني أخشى إِن خالفت أمره، وبدَّلتُ وحيه، عذاب يومٍ شديد الهَوْل هو يوم القيامة، وهذا كالتعليل لما سبق {قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ} أي قل لهم يا محمد لو شاء الله ما تلوتُ هذا القرءان عليكم، وما تلوته إِلا بمشيئته تعالى، لأنه من عنده وما هو من عندي {وَلا أَدْرَاكُمْ بِهِ} أي ولا أَعلَمكم به على لساني {فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ} أي فقد مكثتُ بين أظهركم زمناً طويلاً، مدة أربعين سنة من قبل القرءان لا أعلمه أنا ولا أتلوه عليكم {أَفَلا تَعْقِلُونَ} أي أفلا تستعملون عقولكم بالتدبر والتفكر لتعلموا أنَّ مثل هذا الكتاب المعجز ليس إِلا من عند الله؟ قال الإِمام الفخر الرازي: إِن الكفار شاهدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم من أول عمره إِلى ذلك الوقت، وكانوا عالمين بأحواله، وأنه ما طالع كتاباً، ولا تتلمذ لأستاذ، ولا تعلَّم من أحد، ثم بعد انقراض أربعين سنة جاءهم بهذا الكتاب العظيم، المشتمل على نفائس علم الأصول، ودقائق علم الأحكام، ولطائف علم الأخلاق، وأسرار قصص الأولين، وعجز عن معارضته العلماء، والفصحاء، والبلغاء، وكلُّ من له عقل سليم يعلم أن مثل هذا لا يكون إِلا على سبيل الوحي والتنزيل.

{فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} استفهام إنكاري بمعنى النفي أي لا أحد أظلم ممن اختلق على الله الكذب والمقصود منه نفي الكذب عن مقامه الشريف صلى الله عليه وسلم حيث زعم المشركون أن هذا القرءان من صنع محمد {أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ} أي كذّب بالحق الذي جاءت به الرسل {إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ} أي لا يفوز بالسعادة من ارتكب الإِجرام وكذّب الرسل الكرام.



التنديد بعبادة الأصنام



{وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ(18)}



{وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ} بيانٌ لقبائح المشركين أي ويعبدون الأوثان التي هي جمادات لا تقدر على جلب نفعٍ أو دفع ضر {وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} أي يزعمون أن الأصنام تشفع لهم مع أنها حجارة لا تبصر ولا تسمع {قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ}؟ أي قل يا محمد لهؤلاء المشركين أتخبرون الله تعالى بشريكٍ أو شفيعٍ كائنٍ في السماوات أو الأرض لا يعلمه جلَّ وعلا، وهو علاّم الغيوب الذي أحاط علمه بجميع الكائنات؟ والاستفهام للتهكم والهزء بهم {سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} أي تنزّه الله وتقدَّس عما يقول الظالمون، وينسبه إِليه المشركون.



التحذير من الاختلاف المذموم



{وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ(19)}



{وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا} أي وما كان الناس إِلا على دين واحد هو الإِسلام من لدن آدم إِلى نوح فاختلفوا في دينهم وتفرقوا شيعاً وأحزاباً، قال ابن عباس: كان بين آدم ونوح عشرة قرون كلُّهم على الإِسلام، ثم وقع الاختلاف بين الناس وعُبدت الأوثان والأصنام فبعث الله الرسل مبشرين ومنذرين {وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ} أي ولولا قضاء الله بتأخير الجزاء إِلى يوم القيامة {لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} أي لعُجِّل عقابهم في الدنيا باختلافهم في الدين.



مطالبة المشركين بمعجزة محسوسة غير القرءان



{وَيَقُولُونَ لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنْ الْمُنْتَظِرِينَ (20)}



{وَيَقُولُونَ لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ} أي ويقول هؤلاء الكفرة المعاندون هلاّ أنزل على محمد معجزة من ربه كما كان للأنبياء من الناقة والعصا واليد {فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ} أي قل لهم أمر الغيب لله وحده ولا يأتي بالآيات إِلا هو وإِنما أنا مبلّغ {فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنْ الْمُنْتَظِرِينَ} أي فانتظروا قضاء الله بيننا فأنا ممن ينتظر ذلك.



الرد على الكفار المطالبين بإنزال الآيات الكونية



{وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذَا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آيَاتِنَا قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْرًا إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ(21)هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوْا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنْ الشَّاكِرِينَ(22)فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ(23)}



{وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ} المراد بالناس كفار مكة رُوي أن الله سلّط عليهم القحط سبع سنين حتى كادوا يهلكون فطلبوا منه صلى الله عليه وسلم أن يدعو لهم بالخصب ووعدوه بالإِيمان فلما رحمهم الله بإنزال المطر رجعوا إلى الكفر والعناد والمعنى: وإذا أذقنا هؤلاء المشركين رخاءً بعد شدة، وخصباً بعد جدبٍ أصابهم {إِذَا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آيَاتِنَا} قال مجاهد: استهزاءٌ وتكذيب {قُلْ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْرًا} أي أعجل عقوبة على جزاء مكرهم { إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ} أي إنَّ الملائكة الحفظة يكتبون مكركم ويسجّلون إجرامكم، وفيه تنبيهٌ على أن ما دبَّروه غير خاف على الحفظة فضلاً عن العليم الخبير .

{هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} أي هو تعالى بقدرته الذي يحملكم في البر على الدواب، وفي البحر على السفن التي تسير على وجه الماء {حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ} أي حتى إذا كنتم في البحر على ظهور هذه السفن {وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ} فيه التفاتٌ أي وجرين بهم بالريح الليِّنة الطرية التي تسيِّر السفن {وَفَرِحُوا بِهَا} أي فرح الركاب بتلك الريح الطيبة {جَاءتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ} أي وفجأةً جاءتها الريح الشديدة العاصفة المدمّرة {وَجَاءهُمْ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ} أي وأحاطت بهم أمواج البحار من كل جهة {وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ} أي أيقنوا بالهلاك {دَعَوْا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} أي أخلصوا الدعاء لله وتركوا ما كانوا يعبدون، قال القرطبي: وفي هذا دليل على أن الخلق جبلوا على الرجوع إِلى الله في الشدائد، وأن المضطر يجاب دعاؤه وإن كان كافراً، لانقطاع الأسباب، ورجوعه إلى ربّ الأرباب {لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنْ الشَّاكِرِينَ} أي لئن أنقذتنا من هذه الشدائد والأهوال لنكونن من الشاكرين على نعمائك، والعاملين بطاعتك ومرضاتك، قال أبو حيّان: ومعنى الإِخلاص إفراده بالدعاء من غير إشراك أصنام وغيرها، وقال الحسن: مخلصين لا إخلاص إيمان ولكن لأجل العلم بأنهم لا ينجيهم من ذلك إلا الله فيكون ذلك جارياً مجرى الإِيمان الاضطراري .

{فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} أي فلما خلّصهم وأنقذهم إِذا هم يعملون في الأرض بالفساد والمعاصي قال ابن عباس: يبغون بالدعاء فيدعون غير الله ويعملون بالمعاصي قال تعالى رداً عليهم {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ} أي وبالُ البغي عليكم، ولا يجني ثمرته إلا أنتم { مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} أي تتمتعون في هذه الحياة بالشهوات الفانية التي تعقبها الحسرات الباقية {ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} أي مرجعكم بعد الموت إلينا فنجازيكم عليها، وفي هذا وعيدٌ وتهديد. والآية الكريمة تمثيلٌ لطبيعة الإِنسان الجحود، لا يذكر الله إلا في ساعة العسرة، ولا يرجع إليه إلا وقت الكرب والشدة، فإِذا نجّاه الله من الضيق، وكشف عنه الكرب، رجع إلى الكفر والعصيان، وتمادى في الشرِّ والطغيان.



مثل موجَّه لمن يبغي في الأرض ويغترُّ بالدنيا



{إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنْ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتْ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ(24)}



ثم ضرب تعالى مثلاً للحياة الدنيا الزائلة الفانية وقصَّر مدة التمتع بها فقال {إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنْ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ} أي صفة الحياة الدنيا وحالها العجيبة في فنائها وزوالها، وذهاب نعيمها واغترار الناس بها كمثل مطر نزل من السماء فنبت به أنواع من النبات مختلط بعضها ببعض، قال ابن عباس: اختلط فنبت بالماء كلُّ لون {مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالأَنْعَامُ} أي مما يأكله الناس من الحبوب والثمار والبقول، والأنعامُ من الكلأ والتبن والشعير.

{حَتَّى إِذَا أَخَذَتْ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا} أي أخذت حسنها وبهجتها {وَازَّيَّنَتْ} أي تزينت بالحبوب والثمار والأزهار، وهو تمثيلٌ بالعروس إِذا تزينت بالحلي والثياب {وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا} أي وظنَّ أصحابها أنهم متمكنون من الانتفاع بها، محصّلون لثمرتها وغلّتها {أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَارًا} أي جاءها قضاؤنا بهلاك ما عليها من النبات إمّا ليلاً وإمّا نهاراً {فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا} أي محصودة مقطوعة لا شيء فيها كالذي حصد بالمناجل {كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ} أي كأنها لم تكن عامرة قائمة على ظهر الأرض قبل ذلك {كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} أي مثل ما بينا هذا المثل الرائع للحياة الدنيا نبيّن الآيات ونضرب الأمثال لقوم يتفكرون فيعتبرون بهذه الأمثال قال الألوسي: وتخصيصُهم بالذكر لأنهم المنتفعون.



مصير المحسنين والمسيئين يوم القيامة



{وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ(25)لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلا ذِلَّةٌ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ(26)وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَا لَهُمْ مِنْ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِنْ اللَّيْلِ مُظْلِمًا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ(27)}



{وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلامِ} أي يدعو إلى الجنة دار السرور والإِقامة {وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} أي يوصل من شاء هدايته إلى الطريق المستقيم وهو دين الإِسلام {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى} أي الذين أحسنوا بالإِيمان والعمل الصالح لهم الحسنى أي الجنة {وَزِيَادَةٌ} وهي النظر إلى وجه الله الكريم .

{وَلا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ} أي ولا يغشى وجوههم غبار ولا سواد كما يعتري وجوه أهل النار {وَلا ذِلَّةٌ} أي هوانٌ وصغار {أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} أي دائمون لا زوال فيها ولا انقراض لنعيمها بخلاف الدنيا وزخارفها {وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا} أي والذين عملوا السيئات في الدنيا فعصوا الله وكفروا فسيجزون على السيئةِ بمثلها لا يزادون على ذلك، فالحسناتُ مضاعفة بفضل الله، والسيئات جزاؤها بالمثل عدلاً منه تعالى {وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ } أي تغشاهم ذلة وهوان {مَا لَهُمْ مِنْ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ} أي ليس لهم أحد يعصمهم أو يمنعهم من سخط الله تعالى وعقابه {كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِنْ اللَّيْلِ مُظْلِمًا} أي كأنما أُلبست وجوههم من فرط السواد والظلمة قطعاً من ظلام الليل {أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} أي لا يخرجون منها أبداً.



انقطاع الصلة بين المشركين وشركائهم يوم القيامة



{وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكَانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ وَقَالَ شُرَكَاؤُهُمْ مَا كُنْتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ(28)فَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ(29)هُنَالِكَ تَبْلُوا كُلُّ نَفْسٍ مَا أَسْلَفَتْ وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ(30)}



{وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا} أي نجمع الفريقين للحساب: المؤمنين والكافرين ثم نقول للذين أشركوا بالله {مَكَانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ} أي الزموا مكانكم أنتم والذين عبدتموهم لا تبرحوا حتى تنظروا ما يفعل الله بكم {فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ} أي ففرقنا وميزنا بينهم وبين المؤمنين كقوله {وامتازوا اليوم أيها المجرمون} .

{وَقَالَ شُرَكَاؤُهُمْ مَا كُنْتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ} أي تبرأ منهم الشركاء وهم الأصنام الذين عبدوهم من دون الله، قال مجاهد: يُنطق الله الأوثان فتقول: ما كنا نشعر بأنكم إيانا تعبدون وما أمرناكم بعبادتنا كقوله {إذ تبرأ الذين اتُّبعوا من الذين اتَّبعوا ورأوا العذاب وتقطعت بهم الأسباب} {فَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ} أي تقول الشركاء للمشركين يوم القيامة: حسبنا الله شاهداً بيننا وبينكم {إِنْ كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ} أي ما كنا عن عبادتكم لنا إلا غافلين، لا نسمع ولا نبصر ولا نعقل، لأنا كنا جماداً لا روح فينا .

{هُنَالِكَ تَبْلُوا كُلُّ نَفْسٍ مَا أَسْلَفَتْ} أي في ذلك الوقت تُختبر كلُّ نفسٍ بما قدمت من خير أو شر، وتنال جزاء ما عملت {وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ} أي ردّوا إلى الله تعالى المتولي جزاءهم بالعدل والقسط {وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} أي ضاع وذهب عنهم ما كانوا يزعمونه من أن الأوثان تشفع لهم، وفي الآية تبكيتٌ شديدٌ للمشركين الذين عبدوا ما لا يسمع ولا يُبصر ولا يُغني عنهم شيئاً.



اعتراف المشركين بالربوبية لله تعالى



{قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنْ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنْ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنْ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ(31)فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلا الضَّلالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ(32)كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ(33)}



{قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنْ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ} في هذه الآيات الأدلةُ على وحدانية الله وربوبيته أي قل يا محمد لهؤلاء المشركين من ينزل لكم الغيث والقطر، ويخرج لكم الزروع والثمار؟ {أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ} أي من ذا الذي يملك أسماعكم وأبصاركم، التي تسمعون وتبصرون بها؟ ومن يستطيع أن يردها لكم إذا أراد الله أن يسلبكموها؟ كقوله {قل أرأيتم إن أخذ الله سمعكم وأبصاركم} الآية {وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنْ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنْ الْحَيِّ}؟ أي من يخرج الإِنسان من النطفة، والطير من البيضة، والسنبلة من الحبة، والنبات من الأرض، والمؤمن من الكافر؟ {وَمَنْ يُدَبِّرُ الأَمْرَ} أي ومن يدبّر أمر الخلائق، ويصرِّف شؤون الكائنات؟ {فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ} أي فسيقرون بأن فاعل ذلك كلِّه هو الله ربُّ العالمين، إذ لا مجال للمكابرة والعناد لغاية وضوحه {فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ} أي قل لهم يا محمد أفلا تخافون عقابه ونقمته بإِشراككم وعبادتكم غير الله؟

{فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ} أي هذا الذي يفعل هذه الأشياء الجليلة هو ربكم الحق، الثابتة ربوبيتُه ووحدانيتُه بالبراهين القاطعة {فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلا الضَّلالُ} استفهام إنكاري أي ليس بعد الحق إلا الضلال، فمن تخطى الحق الذي هو عبادة الله تعالى وقع في الضلال {فَأَنَّى تُصْرَفُونَ} أي فكيف تُصرفون عن عبادة الله، إلى عبادة ما لا يخلق ولا يرزق، ولا يحيي ولا يميت؟ {كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ} أي كذلك وجب قضاء الله وحكمه السابق {عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا} أي على الذين خرجوا عن الطاعة وكفروا وكذبوا {أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} أي لأنهم لا يصدقون بوحدانية الله ورسالة نبيّه، فلذلك حقت عليهم كلمة العذاب لشقاوتهم وضلالتهم.



حجج دامغة في إثبات وجود الله تعالى



{قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلْ اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ(34)قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلا أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ(35)وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلا ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنْ الْحَقِّ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ(36)}



{قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ} أي قل لهم يا محمد على جهة التوبيخ والتقريع: هل من الأوثان والأصنام من ينشىء الخلق من العدم ثم يفنيه، ثم يعيده ويحييه؟ قال الطبري: ولما كانوا لا يقدرون على دعوى ذلك، وفيه الحجة القاطعة، والدلالة الواضحة على أنهم في دعوى الأرباب كاذبون مفترون، أُمر صلى الله عليه وسلم بالجواب {قُلِ اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ} أي قل لهم يا محمد: الله وحده هو الذي يحيي ويميت، ويبدأ ويُعيد، وليس أحدٌ من هؤلاء الآلهة المزعومة يفعل ذلك {فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ} أي فكيف تنقلبون وتنصرفون عن الحق إلى الباطل؟

{قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ} توبيخ آخر في صورة استفهام، أي قل لهؤلاء المشركين هل من هذه الآلهة التي تعبدونها من يرشد ضالاً؟ أو يهدي حائراً؟ أو يدل على طريق الحق وسبيل الاستقامة؟ {قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ} أي فقل لهم: إن عجزتْ آلهتكم عن ذلك فالله هو القادر على هداية الضالّ، وإنارة السبيل، وبيان الحق { أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلا أَنْ يُهْدَى} أي أفمن يرشد إِلى الحق وهو الله سبحانه وتعالى أحقُّ بالاتباع أم هذه الأصنام التي لا تهدي أحداً؟ ولا تستطيع هداية نفسها فضلاً عن هداية غيرها؟ { فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} أي ما لكم أيها المشركون تسوّون بين الأصنام وبين ربّ الأرباب، وتحكمون بهذا الباطل الصُراح؟ وهو استفهام معناه التعجب والإِنكار.

ثم بيّن تعالى فساد نحلتهم بعد أن أفحمهم بالبراهين النيرة التي توجب التوحيد وتبطل التقليد فقال {وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلا ظَنًّا} أي وما يتبعون في اعتقادهم ألوهية الأصنام، إلا اعتقاداً غير مستند لدليل أو برهان، بل مجرد أوهام باطلة، وخرافات فاسدة {إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنْ الْحَقِّ شَيْئًا} أي ومثل هذا الاعتقاد المبني على الأوهام والخيالات، ظنٌ كاذب لا يغني من اليقين شيئاً، فليس الظنُّ كاليقين {إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ} أي عالمٌ بما هم عليه من الكفر والتكذيب، وهو وعيدٌ على اتباعهم للظنّ، وإعراضهم عن البراهين.

yacine414
2011-03-26, 11:26
بيان إعجاز القرءان



{وَمَا كَانَ هَذَا القرءان أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ(37)أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنْ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ(38)بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ(39)}



ثم بيَّن تعالى صدق النبوة والوحي فقال {وَمَا كَانَ هَذَا القرءان أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ} أي لا يصح ولا يعقل، ولا يستقيم لذي عقل سليم، أن يزعم أن هذا القرءان مفترى مكذوب على الله، لأنه فوق طاقة البشر {وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ} أي ولكنّه جاء مصدقاً لما قبله من الكتب السماوية كالتوراة والإِنجيل {وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ} أي وفيه تفصيلُ وتبيينُ الشرائع والعقائد والأحكام {لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} أي لا شك في أنه تنزيل ربّ العالمين .

{أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ} أي بل أيقولون اختلق محمد هذا القرءان من قبل نفسه؟ وهو استفهام معناه التقريع {قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ} أي إن كان كما زعمتم فجيئوا بسورةٍ مثل هذا القرءان، وهو تعجيزٌ لهم وإقامة حجة عليهم {وَادْعُوا مَنْ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ} أي ادعوا من دونه تعالى من استطعتم من خلقه، من الإِنس والجن للاستعانة بهم {إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} أي إن كنتم صادقين في أن محمداً افتراه، قال الطبري: والمراد أنكم إن لم تفعلوا فلا شك أنكم كذبة، لأن محمداً لن يَعْدوَ أن يكون بشراً مثلكم، فإذا عجز جميع الخلق أن يأتوا بسورةٍ مثلِه، فالواحد منهم أن يأتي بجميعه أعجز.

قال تعالى {بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ} أي بل كذب هؤلاء المشركون بالقرآن العظيم، وسارعوا إلى الطعن به قبل أن يفقهوه ويتدبروا ما فيه، والناس دائماً أعداء لما جهلوا {وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ} أي والحال لم يأتهم بعد عاقبة ما فيه من الوعيد {كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} أي مثل تكذيب هؤلاء كذبت الأمم الخالية قبلهم {فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ} أي فانظر يا محمد كيف أخذهم الله بالعذاب والهلاك بسبب ظلمهم وبغيهم، فكما فعل بأولئك يفعل بهؤلاء الظالمين الطاغين.



سُنَّة الله في المشركين في الحال والاستقبال



{وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهِ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ(40)وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ(41)وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كَانُوا لا يَعْقِلُونَ(42)وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كَانُوا لا يُبْصِرُونَ(43)إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ(44)}



{وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ} أي ومن هؤلاء الذين بعثتَ إليهم يا محمد من يؤمن بهذا القرءان ويتبعك وينتفع بما أُرسلتَ به {وَمِنْهُمْ مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهِ} بل يموت على ذلك ويُبعث عليه {وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ} أي وهو أعلم بمن يستحق الهداية فيهديه، ومن يستحق الضلالة فيضله .

{وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ} أي وإن كذَّبك هؤلاء المشركون فقل لي جزاء عملي ولكم جزاء عملكم حقاً كان أو باطلاً {أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ} أي لا يؤاخذ أحد بذنب الآخر {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ} أي يستمعون إليك إذا قرأت القرءان وقلوبهم لا تعي شيئاً مما تقرؤه وتتلوه {أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ}؟ أي أنت يا محمد لا تقدر أن تسمع من سلبه الله السمع {وَلَوْ كَانُوا لا يَعْقِلُونَ} أي ولو كانوا من الصمم لا يعقلون ولا يتدبرون؟ قال ابن كثير: المعنى ومن هؤلاء من يسمعون كلامك الحسن، والقرآن النافع، ولكنْ ليس أمر هدايتهم إليك، فكما لا تقدر على إسماع الأصم فكذلك لا تقدر على هداية هؤلاء إلا أن يشاء الله .

{وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كَانُوا لا يُبْصِرُونَ} أي ومن هؤلاء من ينظر إليك ويعاين دلائل نبوتك الواضحة، ولكنّهم عميٌ لا ينتفعون بما رأوا، أفأنت يا محمد تقدر على هدايتهم ولو كانوا عُمي القلوب؟ شبّههم بالعُمْي لتعاميهم عن الحق، قال القرطبي: والمراد تسلية النبي صلى الله عليه وسلم أي كما لا تقدر أن تخلق للأعمى بصراً يهتدي به، فكذلك لا تقدر أن توفّق هؤلاء للإِيمان {إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا} أي لا يعاقب أحداً بدون ذنب، ولا يفعل بخلقه ما لا يستحقون {وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} أي ولكنَّهم يظلمون أنفسهم بالكفر والمعاصي ومخالفة أمر الله، قال الطبري: وهذا إعلامٌ من الله تعالى بأنه لم يسلب هؤلاء الإِيمان ابتداءً منه بغير جرم سلف منهم، وإنما سلبهم ذلك لذنوب اكتسبوها، فحقَّ عليهم أن يطبع الله على قلوبهم.



قِصَرُ عُمْرِ الدنيا



{وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلا سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ(45)}



{وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلا سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ } أي اذكر يوم نجمع هؤلاء المشركين للحساب كأنهم ما أقاموا في الدنيا إلاّ ساعة من النهار، لهول ما يرون من الأهوال {يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ} أي يعرف بعضهم بعضاً كما كانوا في الدنيا، وهو تعارف توبيخ وافتضاح، يقول الواحد للآخر: أنتَ أغويتني وأضللتني، وليس تعارف محبة ومودّة {قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ} أي لقد خسر حقاً هؤلاء الظالمون الذين كذبوا بالبعث والنشور، وما كانوا موفَّقين للخير في هذه الحياة.



عاقبة المذنبين في الدنيا والآخرة



{وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ(46)وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذَا جَاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ(47)وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ(48)قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلا نَفْعًا إِلا مَا شَاءَ اللَّهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ(49)قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ بَيَاتًا أَوْ نَهَارًا مَاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ(50)أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ آلآنَ وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ(51)ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلا بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ(52)وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ(53)وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مَا فِي الأَرْضِ لافْتَدَتْ بِهِ وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوْا الْعَذَابَ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ(54)أَلاَ إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَلا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ(55)هُوَ يُحْيِ وَيُمِيتُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ(56)}



{وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ} أي إن أريناك يا محمد بعض عذابهم في الدنيا لتقرَّ عينك منهم فذاك، وإن توفيناك قبل ذلك فمرجعهم إلينا في الآخرة، ولا بدَّ من الجزاء إن عاجلاً أو آجلاً {ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ} أي هو سبحانه شاهدٌ على أفعالهم وإجرامهم ومعاقبتهم على ما اقترفوا.

{وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ} أي ولكل أمة من الأمم رسولٌ أُرسل لهدايتهم {فَإِذَا جَاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ} قال مجاهد: يعني يوم القيامة قُضي بينهم بالعدل، قال ابن كثير: فكلُّ أمة تُعرض على الله بحضرة رسولها، وكتابُ أعمالها من خير وشر شاهدٌ عليها، وحفظتُهم من الملائكة شهود أيضاً {وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} أي لا يُعذبون بغير ذنب.

{وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} أي ويقول كفار مكة متى هذا العذاب الذي تعدنا به إن كنت صادقاً؟ وهذا القول منهم على سبيل السخرية والاستهزاء {قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلا نَفْعًا} أي لا أستطيع أن أدفع عن نفسي ضراً، ولا أجلب إليها نفعاً، وليس ذلك لي ولغيري {إِلا مَا شَاءَ اللَّهُ} أي إلا ما شاء الله أن أملكه وأقدر عليه، فكيف أقدر أن أملك ما استعجلتم به من العذاب! {لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ} أي لكل أمة وقتٌ معلوم لهلاكهم وعذابهم {إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ} أي فإذا جاء أجل هلاكهم فلا يمكنهم أن يستأخروا عنه ساعة فيمهلون ويؤخرون، ولا يستقدمون قبل ذلك لأن قضاء الله واقع في حينه .

{قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ بَيَاتًا أَوْ نَهَارًا} أي قل لأولئك المكذبين أخبروني إن جاءكم عذاب الله ليلاً أو نهاراً فما نفعكم فيه؟ {مَاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ} استفهام معناه التهويل والتعظيم أي ما أعظم ما يستعجلون به؟ كما يقال لمن يطلب أمراً وخيماً: ماذا تجني على نفسك .

{أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ} في الكلام حذفٌ تقديره: أتؤخرون إلى أن تؤمنوا بها وإذا وقع العذاب وعاينتموه فما فائدة الإِيمان وما نفعكم فيه، إذا كان الإِيمان لا ينفع حينذاك؟ قال الطبري: المعنى أهنالك إذا وقع عذاب الله بكم أيها المشركون صدّقتم به في حالٍ لا ينفعكم فيه التصديق {آلآنَ وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ} أي يقال لكم أيها المجرمون: الآن تؤمنون وقد كنتم قبله تهزءون وتسخرون وتستعجلون نزول العذاب؟ {ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ} أي ذوقوا العذاب الدائم الذي لا زوال له ولا فناء {هَلْ تُجْزَوْنَ إِلا بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ} أي هل تُجزون إلا جزاء كفركم وتكذيبكم؟

{وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ} أي ويستخبرونك يا محمد فيقولون: أحقٌ ما وعدتنا به من العذاب والبعث؟ {قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ} أي قل نعم والله إنه كائن لا شك فيه {وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ} أي لستم بمعجزين الله بهربٍ أو امتناع من العذاب بل أنتم في قبضته وسلطانه {وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مَا فِي الأَرْضِ} أي لو أن لكل نفسٍ كافرةٍ ما في الدنيا جميعاً من خزائنها وأموالها، ومنافعها قاطبة {لافْتَدَتْ بِهِ} أي لدفعته فدية لها من عذاب الله ولكنْ هيهات أن يُقبل كما قال تعالى {فلن يُقبل من أحدهم ملءُ الأرض ذهباً ولو افتدى به} ثم قال تعالى مخبراً عن أسفهم وندمهم {وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوْا الْعَذَابَ} أي أخفى هؤلاء الظلمة الندم لما عاينوا العذاب، قال الإِمام الجلال: أي أخفاها رؤساؤهم عن الضعفاء الذين أضلوهم مخافة التعيير {وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ} أي قُضي بين الخلائق بالعدل {وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} أي لا يظلمون من أعمالهم شيئاً، ولا يُعاقبون إلا بجريرتهم.

{أَلاَ إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} "أَلاَ" كلمة تنبيه للسامع تزاد في أول الكلام أي انتبهوا لما أقول لكم فكل ما في السماوات والأرض ملكٌ لله، لا شيء فيها لأحدٍ سواه، هو الخالق وهو المالك {أَلاَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ} أي إن وعده بالبعث والجزاء حقٌ كائن لا محالة {وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} ولكنَّ أكثر الناس لقصور عقولهم، واستيلاء الغفلة عليهم، لا يعلمون ذلك فيقولون ما يقولون {هُوَ يُحْيِ وَيُمِيتُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} أي هو سبحانه المحيي والمميتُ، وإليه مرجعكم في الآخرة فيجازيكم بأعمالكم.



خصائص القرءان الكريم



{يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ(57)قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ(58)}



{يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ} خطابٌ لجميع البشر أي قد جاءكم هذا القرءان العظيم الذي هو موعظةٌ لكم من خالقكم {وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ} أي يشفي ما فيها من الشك والجهل {وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} أي وهداية من الضلال ورحمة لأهل الإِيمان قال الزمخشري: المعنى قد جاءكم كتابٌ جامعٌ لهذه الفوائد العظيمة من الموعظة، والتنبيه على التوحيد، ودواء الصدور من العقائد الفاسدة، ودعاء إلى الحق، ورحمة لمن آمن به منكم {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا} قال ابن عباس: فضل الله القرءان، ورحمته الإِسلام والمعنى ليفرحوا بهذا الذي جاءهم من الله، من القرءان والإِسلام، فإِنه أولى ما يفرحون به {هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} أي هو خيرٌ مما يجمعون من حطام الدنيا وما فيها من الزهرة الفانية، والنعيم الزائل، فإِن الدنيا بما فيها لا تساوي جناح بعوضة كما ورد به الحديث الشريف.



الافتراء على الله بالتحليل والتحريم



{قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلاَلاً قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ(59)وَمَا ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَشْكُرُونَ(60)}



{قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ} خطابٌ لكفار العرب والمعنى: أخبروني أيها المشركون عما خلقه الله لكم من الرزق الحلال {فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلاَلاً} أي فحرَّمتم بعضه وحلَّلتم بعضه كالبحيرة، والسائبة، والميتة، قال ابن عباس: نزلت إنكاراً على المشركين فيما كانوا يحلون ويحرمون من البحائر والسوائب، والحرث والأنعام { قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ} أي قل لهم يا محمد أخبروني: أحصل إذنٌ من الله لكم بالتحليل والتحريم، فأنتم فيه ممتثلون لأمره، أم هو مجرد افتراء وبهتان على ذي العزة والجلال؟

{وَمَا ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} أي وما ظنُّ هؤلاء الذين يتخرصون على الله الكذب فيحلون ويحرمون من تلقاء أنفسهم، أيحسبون أن الله يصفح عنهم ويغفر يوم القيامة؟ كلاَّ بل سيصليهم سعيراً، وهو وعيدٌ شديد للمفترين {إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ} أي لذو إنعام عظيم على العباد حيث رحمهم بترك معاجلة العذاب، وبالإِنعام عليهم ببعثة الرسل وإنزال الكتب {وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَشْكُرُونَ} أي لا يشكرون النعم بل يجحدون ويكفرون.



إحاطة علم الله تعالى بجميع أفعال العباد وتصرفاتهم



{وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُوا مِنْهُ مِنْ قُرْءانٍ وَلاَ تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلاَ أَكْبَرَ إِلا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ(61)}



{وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ} الخطابُ للرسول صلى الله عليه وسلم أي ما تكون يا محمد في أمرٍ من الأمور، ولا عملٍ من الأعمال {وَمَا تَتْلُوا مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ} أي وما تقرأ من كتاب الله شيئاً من القرءان {وَلاَ تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ} أي ولا تعملون أيها الناس من خير أو شر {إِلا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ} أي إلا كنا شاهدين رقباء، نحصي عليكم أعمالكم حين تندفعون وتخوضون فيها.

{وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ} أي ما يغيب ولا يخفى على الله {مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ} أي من وزن هباءة أو نملة صغيرة في سائر الكائنات أو الموجودات {وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلاَ أَكْبَرَ إِلا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} أي ولا أصغر من الذرة ولا أكبر منها إِلا وهو معلوم لدينا ومسجَّل في اللوح المحفوظ، قال الطبري: والآية خبرٌ منه تعالى أنه لا يخفى عليه أصغر الأشياء وإن خفَّ في الوزن، ولا أكبرها وإن عظم في الوزن، فليكن عملكم أيها الناس فيما يرضي ربكم، فإنّا محصوها عليكم ومجازوكم بها.



حال أولياء الله في الدنيا والآخرة



{أَلاَ إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ(62)الَّذِينَ ءامنوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ(63)لَهُمْ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ لاَ تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ(64)}



{أَلاَ إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} أي انتبهوا أيها الناس واعلموا أن أحباب الله وأولياءه لا خوف عليهم في الآخرة من عذاب الله، ولا هم يحزنون على ما فاتهم في الدنيا، ثم بيّن تعالى هؤلاء الأولياء فقال {الَّذِينَ ءامنوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} أي الذين صدّقوا الله ورسوله، وكانوا يتقون ربِّهم بامتثال أوامره واجتناب نواهيه، فالوليُّ هو المؤمن التقيُّ وفي الحديث (إنَّ لله عباداً ما هم بأنبياءَ ولا شهداءَ، يغبطهم الأنبياء والشهداء يوم القيامة لمكانهم من الله، قالوا أخبرنا من هم؟ وما أعمالهم؟ فلعلَّنا نحبُّهم، قال: هم قومٌ تحابّوا في الله، على غير أرحامٍ بيْنهم، ولا أموال يتعاطونها، فوالله إن وجوههم لنورٌ، وإنهم لعلى منابرَ من نور، لا يخافون إذا خاف الناسُ، ولا يحزنون إذا حزن الناس ثم قرأ {ألا إنَّ أولياء الله ..} الآية) .

{لَهُمْ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ} أي لهم ما يسرهم في الدارين، حيث تبشرهم الملائكة عند الاحتضار برضوان الله ورحمته، وفي الآخرة بجنان النعيم والفوز العظيم كقوله {إن الذين قالوا ربُّنا اللهُ ثم استقاموا تتنزّل عليهم الملائكةُ ألاّ تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون} {لاَ تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ} أي لا إخلاف لوعده {ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} أي هو الفوز الذي لا فوز وراءه، والظفر بالمقصود الذي لا يُضاهى.



تفرد الله تعالى بالعزة والملك، وحكمته البالغة في إيجاد الليل والنهار



{وَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ(65)أَلا إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ وَمَا يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكَاءَ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلا يَخْرُصُونَ(66)هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ(67)}



{وَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ } أي لا يحزنك ولا يؤلمك يا محمد تكذيبهم لك وقولهم: لستَ نبياً مرسلاً، ثم ابتدأ تعالى فقال {إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا} أي القوة الكاملة، والغلبة الشاملة، لله وحده، فهو ناصرك ومانعك ومعينك، وهو المنفرد بالعزّة يمنحها أولياءه، ويمنعها أعداءه {هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} أي السميع لأقوالهم، العليم بأعمالهم .

{أَلا إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ} أي الجميع له سبحانه عبيداً وملكاً وخلقاً {وَمَا يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكَاءَ} أي وما يتبع هؤلاء المشركون الذين يعبدون غير الله آلهة على الحقيقة، بل يظنون أنها تشفع أو تنفع، وهي لا تملك لهم ضراً ولا نفعاً {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلا الظَّنَّ} أي ما يتبعون إلا ظناً باطلاً {وَإِنْ هُمْ إِلا يَخْرُصُونَ} أي يَحْدسون ويكذبون، يظنون الأوهام حقائق {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ} تنبيهٌ على القدرة الكاملة والمعنى من دلائل قدرته الدالة على وحدانيته، أن جعل لكم أيها الناس الليل راحةً لأبدانكم تستريحون فيه من التعب والنصب في طلب المعاش {وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا} أي وجعل النهار مضيئاً تبصرون فيه الأشياء لتهتدوا إلى حوائجكم ومكاسبكم {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ} أي لعلامات ودلالات على وحدانيَّة الله، لقوم يسمعون سمع اعتبار.



الإنكار على أباطيل وافتراءات المشركين



{قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بِهَذَا أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ(68)قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ(69)مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمْ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ(70)}



ثم نبّه تعالى على ضلال اليهود والنصارى والمشركين فقال {قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا} أي نسب اليهود والنصارى لله ولداً فقالوا: عزير ابن الله، والمسيح ابن الله، كما قال كفار مكة: الملائكة بناتُ الله {سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ} أي تنزَّه الله وتقدّس عما نسبوا إليه فإنه المستغني عن جميع الخلق، فإن اتخاذ الولد إنما يكون للحاجة إليه، والله تعالى غير محتاج إلى شيء، فالولد منتفٍ عنه {لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ} أي الجميع خلقه وملكه {إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بِهَذَا} أي ما عندكم من حجة بهذا القول {أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} أي أتفترون على الله وتنسبون إليه الشريك والولد؟ وهو توبيخ وتقريع على جهلهم.

{قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ} أي كل من كذب على الله لا يفوز ولا ينجح {مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا} أي متاعٌ قليل في الدنيا يتمتعون به مدة حياتهم {ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ} أي ثم معادهم ورجوعهم إلينا للجزاء والحساب {ثُمَّ نُذِيقُهُمْ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ} أي ثم في الآخرة نذيقهم العذاب الموجع الأليم بسبب كفرهم وكذبهم على الله.



تذكير نوح عليه السلام لقومه بآيات الله تعالى



{وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَاقَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلا تُنْظِرُونِ(71)فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِي إِلا عَلَى اللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ(72)فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَجَعَلْنَاهُمْ خَلائِفَ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ(73)}



{وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ} أي اقرأ يا محمد على المشركين من أهل مكة خبر أخيك نوحٍ مع قومه المكذبين {إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَاقَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ} أي حين قال لقومه الجاحدين المعاندين يا قوم إِن كان عظُم وشقَّ عليكم {مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللَّهِ} أي طولُ مقامي ولبثي فيكم، وتخويفي إِياكم بآيات ربكم، وعزمتم على قتلي وطردي {فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ} أي على الله وحده اعتمدت، وبه وثقت فلا أبالي بكم {فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءكُمْ} أي فاعزموا أمركم وادعوا شركاءكم، ودبّروا ما تريدون لمكيدتي {ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً} أي لا يكن أمركم في شأني مستوراً بل مكشوفاً مشهوراً، {ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلا تُنْظِرُونِي} أي أَنْفذوا ما تريدون في أمري ولا تؤخروني ساعة واحدة، قال أبو السعود: وإِنما خاطبهم بذلك إِظهاراً لعدم المبالاة، وثقةً بالله وبوعده من عصمته وكلاءته.

{فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ} أي فإِن أعرضتم عن نصيحتي وتذكيري فليس لأني طلبت منكم أجراً حتى تمتنعوا، بل لشقاوتكم وضلالكم {إِنْ أَجْرِي إِلا عَلَى اللَّهِ} أي ما أطلب ثواباً أو جزاءً على تبليغ الرسالة إِلا من الله، وما نصحتكم إِلا لوجه الله لا لغرضٍ من أغراض الدنيا {وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} أي من الموحدين لله تعالى {فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ} أي فأصروا واستمروا على تكذيب نوح فنجيناه ومن معه من المؤمنين في السفينة {وَجَعَلْنَاهُمْ خَلائِفَ} أي جعلنا من معه من المؤمنين سكان الأرض وخلفاً ممن غرق {وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا} أي أغرقنا المكذبين بالطوفان {فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ} أي انظر يا محمد كيف كان نهاية المكذبين لرسلهم؟ والغرض: تسلية الرسول صلى الله عليه وسلم وتحذير لكفار مكة أن يحل بهم ما حلَّ بالسابقين.



تكذيب الجاحدين أنبياءَ الله عادة قديمة



{ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِ رُسُلاً إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ كَذَلِكَ نَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ(74)}



{ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ} أي أرسلنا من بعد نوح رسلاً إِلى قومهم يعني هوداً وصالحاً ولوطاً وإِبراهيم وشعيباً {فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ} أي بالمعجزات الواضحات {فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ} أي ما كانوا ليصدقوا بما جاءتهم به الرسل، ولم يزجرهم عقاب السابقين {كَذَلِكَ نَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ} أي كذلك نختم على قلوب المجاوزين الحدَّ في الكفر والتكذيب والعناد.



التمسك بتقاليد الآباء والأجداد



{ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى وَهَارُونَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلإيْهِ بِآيَاتِنَا فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ(75)فَلَمَّا جَاءَهُمْ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا إِنَّ هَذَا لَسِحْرٌ مُبِينٌ(76)قَالَ مُوسَى أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءكُمْ أَسِحْرٌ هَذَا وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ(77)قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الأرْضِ وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ(78)}



{ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى وَهَارُونَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلإيْهِ} أي بعثنا من بعد أولئك الرسل والأمم موسى وهارون إِلى فرعون وأشراف قومه {بِآيَاتِنَا} أي بالبراهين والمعجزات الباهرة، وهي الآيات التسع المذكورة في سورة الأعراف {فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ} أي تكبروا عن الإِيمان بها وكانوا مفسدين، تعوّدوا الإِجرام وارتكاب الذنوب العظام {فَلَمَّا جَاءهُمْ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا إِنَّ هَذَا لَسِحْرٌ مُبِينٌ} أي فلما وضح لهم الحق الذي جاءهم به موسى من اليد والعصا قالوا لفرط عتوهم وعنادهم: هذا سحرٌ ظاهرٌ بيِّن أراد به موسى أن يسحرنا .

{قَالَ مُوسَى أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءكُمْ} الاستفهام للإِنكار والتوبيخ أي أتقولون عن هذا الحق إِنه سحرٌ؟ ثم أنكر عليهم أيضاً باستفهام آخر {أَسِحْرٌ هَذَا} أي أسحرٌ هذا الذي جئتكم به؟ {وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ} أي والحال أنه لا يفوز ولا ينجح الساحرون {قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا} أي أجئتنا لتصرفنا وتلوينا عن دين الآباء والأجداد؟ {وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الأرْضِ} أي يكون لك ولأخيك هارون العظمة والملك والسلطان في أرض مصر {وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ} أي ولسنا بمصدقين لكما فيما جئتما به.



إيمان وثبات وثقة تامة بالله تعالى



{وَقَالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ(79)فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ(80)فَلَمَّا أَلْقَوْا قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ(81)وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ(82)}



{وَقَالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ} أي ائتوني بكل ساحر ماهر، عليمٍ بفنون السحر {فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ} في الكلام محذوف تقديره فأتوه بالسحرة فلما جاؤوا قال لهم موسى ألقوا ما أنتم ملقون من حبالكم وعصيكم.

{فَلَمَّا أَلْقَوْا قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ} أي ما جئتم به الآن هو السحرُ لا ما اتهمتوني به {إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ} أي سيمحقه وسيذهب به ويظهر بطلانه للناس {إِنَّ اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ} أي لا يصلح عمل من سعى بالفساد {وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ} أي يثبت الله الحق ويقوّيه بحججه وبراهينه {وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ} أي ولو كره ذلك الفجرة الكافرون.



طائفة قليلة تذعن للحق وتؤمن بدعوة موسى عليه السلام



{فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلإيْهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنْ الْمُسْرِفِينَ(83)وَقَالَ مُوسَى يَاقَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ(84)فَقَالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ(85)وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ(86)وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّءا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَبَشِّرْ الْمُؤْمِنِينَ(87)}



{فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ} أي فما آمن مع موسى ولا دخل في دينه، مع مشاهدة تلك الآيات الباهرة إِلا نفرٌ قليلٌ من أولاد بني إِسرائيل، قال مجاهد: هم أولاد الذين أُرسل إِليهم موسى من طول الزمان ومات آباؤهم {عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلإيْهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ} أي على تخوف وحذر من فرعون وملأه أن يعذبهم ويصرفهم عن دينهم { وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الأَرْضِ} أي عاتٍ متكبر مفسد في الأرض {وَإِنَّهُ لَمِنْ الْمُسْرِفِينَ} أي المتجاوزين الحدَّ بادعاء الربوبية.

{وَقَالَ مُوسَى يَاقَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ} أي قال لقومه لما رأى تخوف المؤمنين من فرعون يا قوم إِن كنتم صدقتم بالله وبآياته {فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا} أي على الله وحده اعتمدوا فإِنه يكفيكم كل شرٍّ وضُرٍّ {إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ} أي إِن كنتم مستسلمين لحكم الله منقادين لشرعه {فَقَالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا} أي أجابوا قائلين: على ربنا اعتمدنا وبه وثقنا {رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} أي لا تسلّطهم علينا حتى يعذبونا ويفتتنوا بنا فيقولوا: لو كان هؤلاء على الحق لما أصيبوا { وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} أي خلِّصنا وأنقذنا بفضلك وإِنعامك من كيد فرعون وأنصاره الجاحدين .

{وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّءا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا} أي اتخذا لهم بيوتاً للصلاة والعبادة {وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً} أي اجعلوها مصلّى تصلون فيها عند الخوف، قال ابن عباس: كانوا خائفين فأُمروا أن يصلّوا في بيوتهم {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ} أي أدوا الصلاة المفروضة في أوقاتها، بشروطها وأركانها على الوجه الأكمل {وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} أي بشّر يا موسى أتباعك المؤمنين بالنصر والغلبة على عدوهم.



اليأس من إيمان فرعون وملئه



{وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالاً فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوْا الْعَذَابَ الألِيمَ(88)قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلاَ تَتَّبِعَانِ سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ(89)}



{وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالاً فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} أي قال موسى يا ربنا إنك أعطيت فرعون وكبراء قومه وأشرافهم، زينةً من متاع الدنيا وأثاثها، وأنواعاً كثيرة من المال {رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ} اللام لامُ العاقبة أي آتيتهم تلك الأموال الكثيرة لتكون عاقبة أمرهم إِضلال الناس عن دينك، ومنعهم عن طاعتك وتوحيدك {رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ} دعاءٌ عليهم أي أهلكْ أموالهم يا ألله وبدِّدْها {وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ} أي قسِّ قلوبهم واطبع عليها حتى لا تنشرح للإِيمان، قال ابن عباس: أي امنعهم عن الإِيمان {فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوْا الْعَذَابَ الألِيمَ} دعاءٌ عليهم بلفظ النفي أي اللهمَّ فلا يؤمنوا حتى يذوقوا العذاب المؤلم ويوقنوا به حيث لا ينفعهم ذلك، وإِنما دعا عليهم موسى لطغيانهم وشدة ضلالهم، وقد علم بطريق الوحي أنهم لن يؤمنوا فدعا عليهم، قال ابن عباس: كان موسى يدعو وهارون يؤمّن فنسبت الدعوة إِليهما.

{قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا} أي قال تعالى قد استجبتُ دعوتكما على فرعون وأشراف قومه {فَاسْتَقِيمَا} أي اثبتا على ما أنتما عليه من الدعوة إِلى الله وإِلزام الحجة {وَلاَ تَتَّبِعَانِ سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} أي لا تسلكا سبيل الجهلة في الاستعجال أو عدم الاطمئنان بوعد الله تعالى، قال الطبري: رُوي أنه مكث بعد هذه الدعوة أربعين سنة ثم أغرق الله فرعون.



عاقبة الطغاة المتعالين وإنجاء المؤمنين المذعنين للحق



{وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ(90)آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ(91)فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ(92)وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جَاءَهُمْ الْعِلْمُ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ(93)}



{وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ} أي قطعنا وعدَّينا ببني إِسرائيل البحر "بحر السويس" حتى جاوزوه {فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا} أي لحقهم فرعونُ مع جنوده ظلماً وعدواناً وطلباً للاستعلاء بغير حق {حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ} أي حتى إِذا أحاط به الغرق وأيقن بالهلاك {قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ} أي قال عندئذٍ أقررتُ وصدقتُ بأنه لا إِله إِلا اللهُ ربُّ العالمين، الذي آمنت وأقرت به بنو إِسرائيل {وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ} تأكيدٌ لدعوى الإِيمان أي وأنا ممَّن أسلم نفسه لله، وأخلص في إِيمانه، قال ابن عباس: جعل جبريل عليه السلام في فم فرعون الطين مخافة أن تدركه الرحمة .

{آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} أي آلآن تؤمن حين يئست من الحياة، وقد عصيت الله قبل نزول نقمته بك، وكنتَ من الغالين في الضلال والإِضلال والصدِّ عن دين الله؟ {فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ} أي فاليوم نخرجك من البحر بجسدك الذي لا روح فيه {لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً} أي لتكون عبرةً لمن بعدك من الناس، ومن الجبابرة والفراعنة، حتى لا يطغوا مثل طغيانك، قال ابن عباس: إِن بعض بني إِسرائيل شكّوا في موت فرعون، فأمر الله البحر أن يلقيه بجسده سوياً بلا روح ليتحققوا موته وهلاكه {وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ} أي معرضون عن تأمل آياتنا لا يتفكرون فيها ولا يعتبرون بها .

{وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ} أي أنزلنا وأسكنا بني إِسرائيل بعد إِهلاك أعدائهم منزلاً صالحاً مرضياً {وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ} أي اللذائذ الطيبة النافعة {فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جَاءهُمْ الْعِلْمُ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} أي فما اختلفوا في أمر الدين إلا من بعد ما جاءهم العلم وهو التوراة التي فيها حكم الله، وهذا ذمٌ لهم لأن اختلافهم كان بسبب الدين، والدينُ يجمع ولا يفرّق، ويوحّد ولا يشتت، وقال الطبري: كانوا قبل أن يُبعث محمد صلى الله عليه وسلم مجمعين على نبوته، والإِقرار بمبعثه، فلما جاءهم ما عرفوا كفر به بعضهم، وآمن البعض، فذلك اختلافهم.



تأكيد صحة القرءان وصدق النبوة



{فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جَاءكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ المُمْتَرِينَ(94)وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخَاسِرِينَ(95)إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ(96)وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوْا الْعَذَابَ الأَلِيمَ(97)}



{فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ} هذا على سبيل الفرض والتقدير: أي إِن فرض أنك شككت فاسأل، قال ابن عباس: لم يشك النبي صلى الله عليه وسلم ولم يسأل، وقال الزمخشري: هذا على الفرض والتمثيل كأنه قيل: فإِن وقع شكٌ مثلاً، وخيَّل لك الشيطان خيالاً تقديراً فسل علماء أهل الكتاب، وفرقٌ عظيم بين قوله {وإِنهم لفي شك منه مريب} بإِثبات الشك على سبيل التأكد والتحقيق وبين قوله{فإِن كنت في شك} بمعنى الفرض والتمثيل وقال بعضهم: الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والمراد غيره {فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ} أي اسأل أهل الكتاب الذين يعرفون التوراة والإِنجيل، فإِن ذلك محقَّق عندهم كما قصصنا عليك، والغرضُ دفع الشك عن قصص القرءان .

{لَقَدْ جَاءكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ} أي جاءك يا محمد البيانُ الحق، والخبر الصادق، الذي لا يعتريه شك {فَلا تَكُونَنَّ مِنَ المُمْتَرِينَ} أي فلا تكن من الشاكين المرتابين {وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ} أي لا تكذّبْ بشيءٍ من آيات الله {فَتَكُونَ مِنَ الْخَاسِرِينَ} أي فتصبح ممن خسر دنياه وآخرته، قال البيضاوي: وهذا من باب التهييج والتثبيت وقطع أطماع المشركين عنه، وقال القرطبي: الخطابُ في هاتين الآيتين للنبي صلى الله عليه وسلم والمراد غيره.

{إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ} أي وجبت عليكم كلمة العذاب بإِرادة الله الأزلية {وَلَوْ جَاءتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ} أي لا يصدقون ولا يؤمنون أبداً ولو جاءتهم البراهين والمعجزات {حَتَّى يَرَوْا الْعَذَابَ الأَلِيمَ} أي فحينئذٍ يؤمنون كما آمن فرعون لكن لا ينفعهم الإيمان.



خاصِّيَّةٌ انفرد بها قوم يونس عليه السلام



{فَلَوْلا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا ءامنوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ(98)وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَنْ فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ(99)وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ(100) قُلْ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ(101)فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ قُلْ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ(102)ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ ءامنوا كَذَلِكَ حَقًّا عَلَيْنَا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ(103) }



{فَلَوْلا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا} أي هلاّ كانت قرية واحدة من القرى التي أهلكناها، تابتْ عن الكفر وأخلصت الإِيمان عند معاينة العذاب فنفعها إِيمانها في ذلك الوقت {إِلا قَوْمَ يُونُسَ} أي غير قوم يونس {لَمَّا ءامنوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} أي لما تابوا عن الكفر وآمنوا بالله رفعنا عنهم العذاب المخزي المهين في الحياة الدنيا {وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ} أي أخرناهم إِلى انتهاء آجالهم، قال قتادة: روي أن يونس أنذرهم بالعذاب ثم خرج من بين أظهرهم، فلما فقدوا نبيَّهم وظنوا أن العذاب قد دنا منهم، قذف الله في قلوبهم التوبة ولبسوا المُسُوح، فلما عرف الله الصدق من قلوبهم، والتوبة والندم على ما مضى منهم، كشف الله عنهم العذاب .

{وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَنْ فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا} أي لو أراد الله لآمن الناس جميعاً، ولكنْ لم يشأ ذلك لكونه مخالفاً للحكمة، فإِنه تعالى يريد من عباده إِيمان الاختيار، لا إِيمان الإِكراه والاضطرار {أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ}؟ أي أفأنت يا محمد تُكره الناس على الإِيمان، وتضطرهم إِلى الدخول في دينك؟ ليس ذلك إِليك، والآية تسليةٌ له صلى الله عليه وسلم وترويحٌ لقلبه مما كان يحرص عليه من إِيمانهم، قال ابن عباس: كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم حريصاً على إِيمان جميع الناس، فأخبره تعالى أنه لا يؤمن إِلا من سبقت له السعادة في الذّكر الأول، ولا يضلُّ إِلا من سبقت له الشقاوة في الذكر الأول {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ} أي ما كان لأحدٍ أن يؤمن إِلا بإِرادته تعالى وتوفيقه {وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ} أي ويجعل العذاب على الذين لا يتدبرون آيات الله، ولا يستعملون عقولهم فيما ينفع.



تخصيص العبادة بالله تعالى ونبذ الشرك



{قُلْ يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ(104)وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ(105)وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ(106)وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ(107)}



{قُلْ يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي} أي قل يا محمد لهؤلاء المشركين من قومك إِن كنتم في شك من حقيقة ديني وصحته {فَلا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} أي فلا أعبد ما تعبدون من الأوثان والأصنام التي لا تنفع ولا تضر {وَلَكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ} أي ولكني أعبد الله الذي يتوفاكم، وبيده محياكم ومماتكم، قال الطبري: وهذا تعريضٌ ولحنٌ من الكلام لطيف، وكأنه يقول: لا ينبغي لكم أن تشكّوا في ديني، وإِنما ينبغي أن تشكّوا في عبادة الأصنام التي لا تعقل ولا تضر ولا تنفع، فأما إِلهي الذي أعبده فهو الذي يقبض الخلق وينفع ويضر {وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} أي وأنا مأمور بأن أكون مؤمناً موحّداً لله لا أشرك معه غيره .

{وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا} أي وأمرتُ بالاستقامة في الدين، على الحنيفية السمحة ملةِ إِبراهيم {وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} أي ولا تكوننَّ ممن يشرك في عبادة ربه {وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ} تأكيدٌ للنهي المذكور أي ولا تعبدْ غير الله ممّا لا ينفع ولا يضر كالآلهة والأصنام {فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ} أي فإِن عبدتَ تلك الآلهة المزعومة كنت ممن ظلم نفسه لأنك عرضتها لعذاب الله، والخطابُ هنا للرسول صلى الله عليه وسلم والمراد غيره كما تقدم .

{وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلا هُوَ} أي وإِن أراد الله إِصابتك بضُرّ فلا دافع له إِلا هو وحده {وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ} أي وإِن أراد إِصابتك بنعمة أو رخاء فلا يمنعه عنك مانع {يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} أي يصيب بهذا الفضل والإِحسان من شاء من العباد {وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} أي هو سبحانه الغفور لذنوب العباد، الرحيم بأهل الرشاد.



وجوب اتباع دين الحق



{قُلْ يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ(108)وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ(109)}



{قُلْ يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ} أي جاءكم القرءان العظيم المشتمل على محاسن الأحكام {فَمَنْ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ} أي من اهتدى بالإِيمان فمنفعة اهتدائه لها خاصة {وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا} أي ومن ضلَّ بالكفر والإِعراض فوبال الضلال مقصور عليها {وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ} أي ولستُ بحفيظ أحفظ عليكم أعمالكم إِنما أنا بشيرٌ ونذير.

{وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ} أي اتّبعْ يا محمد في جميع شؤونك ما يوحيه إِليك ربك {وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ} أي اصبر على ما يعتريك من مشاقّ التبليغ حتى يقضي الله بينك وبينهم {وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ} أي هو سبحانه خير من يفصل في الحكومة، والآية تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم ووعيدٌ للمشركين.

yacine414
2011-03-26, 11:28
سورة هود



تقرير أصول الدين

عدم الفائدة في الاستخفاء عند الإعراض عن الحق

تكفل الله بأرزاق المخلوقات وشمولية علمه سبحانه وتعالى

موازنة دقيقة بين أوصاف الإنسان المؤمن وأوصاف الإنسان الكافر

تحريض النبي صلى الله عليه وسلم على تبليغ الرسالة وتحديد المشركين بالقرآن

جزاء إيثار الدنيا على الآخرة

الإيمان والإذعان لله هو منهج الحق والصواب

حال المؤمنين والكافرين في الدنيا والآخرة

قصة نوح عليه السلام مع قومه

موقف المشركين من قوم نوح في العناد والتكذيب

الإعداد لإغراق قوم نوح وإهلاكهم ومقابلة السخرية والتهكم بالتخطيط للنجاة

هلاك الكفرة ونجاة نوح ومن معه من الطوفان

تكريم نوح عليه السلام والذين ءامنوا معه

قصة هود عليه السلام مع قومه

قصة صالح عليه السلام مع قومه

قصة إبراهيم عليه السلام مع الملائكة المبشرين له بإسحاق ويعقوب عليهما السلام

قصة لوط عليه السلام مع قومه

قصة شعيب عليه السلام مع قومه

إعراض قوم موسى واتباعهم لفرعون

العظة والاعتبار من الأمم الظالمة

العبرة بجزاء الآخرة لكل من الأشقياء والسعداء

اختلاف الناس على أنبيائهم بين مؤمن بهم وكافر

الأمر بالاستقامة والتحذير من الركون إلى الظلمة

الاستعانة بالطاعات على إذهاب السيئات

عاقبة ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

الحكمة من قصص الأنبياء والحث على مزيد من الطاعات





بَيْن يَدَيْ السُّورَة



*سورة هود مكية وهي تُعْنى بأصول العقيدة الإسلامية ((التوحيد، الرسالة، البعث والجزاء)) وقد عرضت لقصص الأنبياء بالتفصيل تسلية للنبي عليه الصلاة والسلام على ما يلقاه من أذى المشركين لا سيما بعد تلك الفترة العصيبة التي مرت عليه بعد وفاة عمه ((أبي طالب)) وزوجه ((خديجة)) فكانت الآيات تتنَزَّل عليه وهي تقص عليه ما حدث لإخوانه الرسل من أنواع الابتلاء، ليتأسى بهم في الصبر والثبات.



*ابتدأت السورة الكريمة بتمجيد القرآن العظيم، الذي أحكمت آياته، فلا يتطرق إليه خلل ولا تناقض، لأنه تنْزيل الحكيم العليم، الذي لا تخفى عليه خافية من مصالح العباد.. ثم عرضت لعناصر الدعوة الإسلامية، عن طريق الحجج العقلية، مع الموازنة بين الفريقين: فريق الهدى، وفريق الضلال، وضربت مثلاً للفريقين وضَّحت به الفارق الهائل بين المؤمنين، وفرقت بينهما كما تفرق الشمس بين الظلمات والنور { مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالأَعْمَى وَالأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلا أَفَلا تَذَكَّرُونَ}؟.



*ثم تحدثت عن الرسل الكرام مبتدئة بقصة ((نوح)) عليه السلام أب البشر الثاني، لأنه لم ينج من الطوفان إلا نوحٌ والمؤمنون الذين ركبوا معه السفينة، وغرق كل من على الأرض، وهو أطول الأنبياء عُمُراً، وأكثرهم بلاءً وصبراً.



*ثم ذكرت قصة ((هود)) عليه السلام الذي سميت السورة الكريمة باسمه، تخليداً لجهوده الكريمة في الدعوة إلى الله، فقد أرسله الله تعالى إلى قوم ((عاد)) العتاة المتجبرين، الذين اغتروا بقوة أجسامهم وقالوا: من أشدُّ منا قوَّة؟ فأهلكهم الله بالريح الصرصر العاتية، وقد أسهبت الآيات في الحديث عنهم بقصد العظة والعبرة للمتكبرين المتجبرين { وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ.. إلى قوله.. ألاَ إن عاداً كفروا ربهم، ألاَ بُعداً لعادٍ قوم هود}.



*ثم تلتها قصة نبي الله ((صالح)) ثم قصة ((لوط)) قم قصة ((شعيب)) ثم قصة ((موسى وهارون)) صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، ثم جاء التعقيب المباشر بما في هذه القصص من العبر والعظات.



تقرير أصول الدين



{الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ(1)أَلا تَعْبُدُوا إِلا اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ(2)وَأَنْ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ(3)إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ(4)}



{الر} إِشارة إِلى إِعجاز القرآن، وأنه مركب من أمثال هذه الحروف الهجائية.

{كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ} أي هو كتابٌ جليل القدر، نظمت آياته نظماً محكماً، لا يلحقه تناقضٌ ولا خلل {ثُمَّ فُصِّلَتْ} أي بُيّنت فيه أمور الحلال والحرام، وما يحتاج إِليه العباد في أمور المعاش والمعاد {مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} أي من عند الله فصَّلها وبيَّنها الخبير العالم بكيفيات الأمور، ولذا كانت محكمة أحسن الإِحكام ومفصلة أحسن التفصيل {أَلا تَعْبُدُوا إِلا اللَّهَ} أي لئلا تعبدوا إِلا الله {إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ} أي إِنني مرسلٌ إِليكم من جهته تعالى، أنذركم بعذابه إِن كفرتم، وأبشركم بثوابه إِن آمنتم.

{وَأَنْ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ} أي استغفروه من الذنوب وأخلصوا التوبة واستقيموا عليها بالطاعة والإِنابة {يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا} أي يمتعكم في هذه الدنيا بالمنافع الجليلة من سعة الرزق، ورغَد العيش {إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} أي إِلى وقتٍ محدَّد هو انتهاء أعمالكم {وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ} أي ويعطي كل محسنٍ في عمله جزاء إِحسانه {وَإِنْ تَوَلَّوْا} أي وإِن تتولوا عن الإِيمان وتُعرضوا عن طاعة الرحمن {فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ} أي أخاف عليكم عذاب يوم القيامة، ووصف العذاب بأنه كبير لما فيه من الأهوال الشديدة {إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ} أي إِليه جلَّ وعلا رجوعكم بعد الموت {وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} أي قادر على إِماتتكم ثم إِحيائكم وعلى معاقبة من كذَّب لا يعجزه شيء، وفي الآية تهديد عظيم.



عدم الفائدة في الاستخفاء عند الإعراض عن الحق



{أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ(5)}



{أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ} قال ابن عباس: نزلت في الأخنس بن شريق كان يجالس رسول الله صلى الله عليه وسلم ويحلف إنه ليحبه ويضمر خلاف ما يظهر وقال القرطبي: أخبر عن معاداة المشركين للنبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين، ويظنون أنه تخفى على الله أحوالهم والمعنى إِنهم يطوون صدورهم على عداوة النبي والمؤمنين، يريدون بذلك أن يستخفوا من الله حتى لا يفتضح أمرهم {أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ} أي حين يتغطون بثيابهم {يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ} أي يعلم تعالى ما يُبْطنون وما يُظهرون وكأن الآية تقول: لا تظنوا أن تغطيتكم تحجبكم عن الله بل الله يعلم سرائركم وظواهركم لا تخفى عليه خافية من أحوالكم { إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} أي عالم بما في القلوب.



تكفل الله بأرزاق المخلوقات وشمولية علمه سبحانه وتعالى



{وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ(6)وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلا سِحْرٌ مُبِينٌ(7)}



{وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} أي ما من شيء يدب على وجه الأرض من إِنسان أو حيوان إِلا تكفّل الله برزقه تفضلاً منه تعالى وكرماً، فكما كان هو الخالق كان هو الرازق {وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا} قال ابن عباس: مستقرها حيث تأوي إِليه من الأرض، ومستودعها الموضع الذي تموت فيه فتدفن {كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} أي كلٌّ من الأرزاق، والأقدار، والأعمار، مسطَّرٌ في اللوح المحفوظ {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ} أي خلقها في مقدار ستة أيام من أيام الدنيا، وفيه الحث للعباد على التأني في الأمور فإِن الإِله القادر على خلق الكائنات بلمح البصر خلقها في ستة أيام {وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ} أي وكان العرش قبل خلقهما على الماء، قال الزمخشري: أي ما كان تحته خلق، وفيه دليل على أن العرش والماء كانا مخلوقين قبل السماوات والأرض {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} أي خلقهن لحكمة بالغة ليختبركم فيظهر المحسنُ من المسيء، ويجازيكم حسب أعمالكم .

{وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ} أي ولئن قلت يا محمد لأولئك المنكرين من كفار مكة إِنكم ستبعثون بعد موتكم للحساب {لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلا سِحْرٌ مُبِينٌ} أي ليقولنَّ الكفار المنكرون للبعث والنشور ما هذا القرآن إِلا سحرٌ واضح مكشوف.



موازنة دقيقة بين أوصاف الإنسان المؤمن وأوصاف الإنسان الكافر



{وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمْ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ أَلا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفًا عَنْهُمْ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون(8)وَلَئِنْ أَذَقْنَا الإِنسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ(9)وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ(10)إِلا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ(11)}



{وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمْ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ} أي إِلى مدةٍ من الزمن قليلة {لَيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ} أي ليقولُنَّ استهزاءً ما يمنعه من النزول؟ {أَلا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفًا عَنْهُمْ} أي ألا فلينتبهوا فإِنه يوم يأتيهم العذاب ليس مدفوعاً عنهم {وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون} أي نزل وأحاط بهم جزاء ما كانوا به يستهزئون .

{وَلَئِنْ أَذَقْنَا الإِنسَانَ مِنَّا رَحْمَةً} أي أنعمنا على الإِنسان بأنواع النعم من الصحة، والأمن، والرزق وغيرها من النعم {ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ} أي ثم سلبنا تلك النعم منه {إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ} أي قنوط من رحمة الله، شديد الكفر به {وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ} أي ولئن منحنا الإِنسان نعمة من بعد ما نزل به من الضر، وما أصابه من البلاء، كالفقر والمرض والشدة {لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي} أي انقطع الفقر والضيق والمصائب ولن تصيبني بعد اليوم {إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ} أي بطرٌ بالنعمة مغترٌ بها، متعاظم على الناس بما أُوتي، والآيةُ ذمٌ لمن يقنط عند الشدائد، ويبطر عند النعم {إِلا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} أي هذه عادة الإِنسان إِلا المؤمنين الذين يصبرون على الضراء، ويفعلون الخير في النعماء، فهم في حالتيْ المحنة والنعمة محسنون {أُوْلَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ} أي أولئك الموصوفون بالصفات الحميدة لهم مغفرةٌ لذنوبهم، وأجر كبيرٌ في الآخرة هو الجنة، قال أبو حيّان: ووصف الثواب بأنه كبير وذلك لما احتوى عليه من النعيم السرمدي، والأمن من العذاب، ورضا الله عنهم، والنظر إِلى وجهه الكريم.



تحريض النبي صلى الله عليه وسلم على تبليغ الرسالة وتحديد المشركين بالقرآن



{فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ كَنزٌ أَوْ جَاءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ(12)أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنْ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ(13)فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لا إِلَهَ إِلا هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ(14)}



{فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ} كان المشركون يقترحون على رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأتي بكنز أو يأتي معه ملك، وكانوا يستهزئون بالقرآن فقال الله تعالى له: فلعلك يا محمد تاركٌ بعض ما أُنزل إِليك من ربك فلا تبلغهم إِيَّاه لاستهزائهم {وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ} أي ويضيق صدرك من تبليغهم ما نزل عليك من ربك خشية التكذيب، والغرضُ تحريضُه صلى الله عليه وسلم على تبليغ الرسالة وعدم المبالاة بمن عاداه {أَنْ يَقُولُوا لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ كَنزٌ} أي لأجل أن يقولوا هلاّ أُنزل عليه مالٌ كثير {أَوْ جَاءَ مَعَهُ مَلَكٌ} أي جاء معه ملك يصدّقه كما اقترحنا، قال تعالى محدّداً مهمته عليه السلام {إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ} أي لست يا محمد إِلا منذراً تخوّف المجرمين من عذاب الله {وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ} أي قائم على شئون العباد يحفظ عليهم أعمالهم {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ} أي بل أيقولون اختلق محمد هذا القرآن وافتراه من عند نفسه؟ {قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ} أي إِن كان الأمر كذلك فأتوا بعشر سور مثله في الفصاحة والبلاغة مفتريات فأنتم عرب فصحاء {وَادْعُوا مَنْ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ} أي استعينوا بمن شئتم غير الله سبحانه {إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} في أنَّ هذا القرآن مفترى {فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ} أي فإِن لم يستجب لكم من دعوتموهم للمعاونة وعجزوا عن ذلك فاعلموا أيها المشركون أنما نزل هذا القرآن بوحيٍ من الله {وَأَنْ لا إِلَهَ إِلا هُوَ} أي لا ربّ ولا معبود إِلا الله الذي أنزل هذا القرآن المعجز {فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} لفظة استفهام ومعناه أمرٌ أي فأسلموا بعد ظهور هذه الحجة القاطعة إِذ لم يبق لكم عذر مانع من ذلك، قال ابن جزي: الاستفهام معناه استدعاءٌ إِلى الإِسلام، وإِلزامٌ للكفار أن يسلموا لما قام الدليل على صحة الإِسلام لعجزهم عن الإِتيان بمثل القرآن.



.

yacine414
2011-03-26, 11:29
جزاء إيثار الدنيا على الآخرة



{مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ(15)أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ(16)}



{مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا} أي من كان يقصد بأعماله الصالحة نعيم الدنيا فقط لأنه لا يعتقد بالآخرة {نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا} أي نوفّ إِليهم أجور أعمالهم بما يحبون فيها من الصحة والأمن والرزق {وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ} أي وهم في الدنيا لا يُنقصون شيئاً من أجورهم، قال قتادة: من كانت الدنيا همَّه ونيّته جازاه الله بحسناته في الدنيا، ثم يُفضي إِلى الآخرة وليس له حسنة يُعطى بها، وأما المؤمن فيُجازى بحسناته في الدنيا ويثاب عليها في الآخرة {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلا النَّارُ} أي هؤلاء الذين هدفهم الدنيا ليس لهم في الآخرة إِلا نار جهنم وعذابها المخلَّد {وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا} أي بطل ما صنعوه من الأعمال الصالحة لأنهم قد استوفوا في الدنيا جزاءها {وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} تأكيدٌ لما سبق أي باطل ما كانوا يعملون في الدنيا من الخيرات.



الإيمان والإذعان لله هو منهج الحق والصواب



{أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً أُوْلَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ(17)}



{أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ} أي أفمن كان على نور واضح، وبرهان ساطع من الله تعالى، وهو النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنون، وجوابه محذوف أي كمن كان يريد الحياة الدنيا؟ يريد أن بينهما تفاوتاً كبيراً، وتبايناً بعيداً، فلا يستوي من أراد الله، ومن أراد الدنيا وزينتها {وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ} أي ويتبعه شاهد من الله بصدقه، قال ابن عباس: هو جبريل عليه السلام {وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً} أي ومن قبل القرآن كتاب التوراة الذي أنزله الله على موسى قدوةً في الخير ورحمة لمن نزل عليهم {أُوْلَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ} أي أولئك الموصوفون بأنهم على نور من ربهم يصدّقون بالقرآن حق التصديق {وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ} أي ومن يكفر بالقرآن من أهل الملل والأديان، فله نار جهنم يردها لا محالة {فلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ} أي فلا تكن في شكٍ من هذا القرآن {إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ} أي إِنه الحق الثابت المنزّل من عند الله {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ} أي لا يصدّقون أنه تنزيل رب العالمين.



حال المؤمنين والكافرين في الدنيا والآخرة



{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أُوْلَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الأشْهَادُ هَؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ(18)الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ(19)أُوْلَئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الأَرْضِ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ يُضَاعَفُ لَهُمْ الْعَذَابُ مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ(20)أُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ(21)لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الآخِرَةِ هُمْ الأَخْسَرُونَ(22)إِنَّ الَّذِينَ ءامنوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَخْبَتُوا إِلَى رَبِّهِمْ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ(23)مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالأَعْمَى وَالأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلا أَفلا تَذَكَّرُونَ(24)}



{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} أي لا أحد أطغى ولا أظلم ممن اختلق الكذب على الله بنسبة الشريك والولد إِليه {أُوْلَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ} أي يُعرضون يوم القيامة في جملة الخلق على خالقهم ومالكهم {وَيَقُولُ الأشْهَادُ هَؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ} أي ويقول الخلائق والملائكة الذين يشهدون على أعمالهم هؤلاء الذين كذبوا على الله، والغرضُ فضيحتهم في الدار الآخرة على رؤوس الأشهاد والتشهيرُ بهم خزياً ونكالاً {أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} لظلمهم وافترائهم على الله، واللعنةُ: الطرد من رحمة الله {الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} أي يمنعون الناس عن اتِّباع الحق، وسلوك سبيل الهدى الموصل إِلى الله {وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا} أي ويريدون أن تكون السبيل معوّجة أي يبغون أن يكون دين الله معوجاً على حسب أهوائهم {وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ} أي جاحدون بالآخرة منكرون للبعث والنشور {أُوْلَئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الأَرْضِ} أي ليسوا مفلتين من عذاب الله وإِن أمهلهم {وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ} أي ليس لهم من يتولاهم أو يمنعهم من عذاب الله {يُضَاعَفُ لَهُمْ الْعَذَابُ} جملة مستأنفة أي يضاعف عليهم العذاب بسبب إِجرامهم وطغيانهم {مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ} أي سبب تشديد العذاب ومضاعفته عليهم أن الله جعل لهم سمعاً وبصراً، ولكنهم كانوا صُماً عن سماع الحق، عمياً عن اتباعه، فلم ينتفعوا بما منحهم الله من حواس {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ} أي خسروا سعادة الدنيا والآخرة، وخسروا راحة أنفسهم لدخولهم نار جهنم {وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} أي وغاب عنهم ما كانوا يزعمونه من شفاعة الآلهة {لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الآخِرَةِ هُمْ الأَخْسَرُونَ} أي حقاً إِنهم يوم القيامة من أخسر الناس، ولا ترى أحداً أبينَ خسراناً منهم، لأنه آثروا الفانية على الباقية، واستعاضوا عن الجِنان بلظى النيران، ثم لما ذكر تعالى حال الكفار الأشقياء، ذكر حال المؤمنين السعداء فقال {إِنَّ الَّذِينَ ءامنوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَخْبَتُوا إِلَى رَبِّهِمْ} أي جمعوا مع الإِيمان والعمل الصالح الإِخبات: وهو الاطمئنان إِليه سبحانه والخشوع له والانقطاع لعبادته {أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} أي منعّمون في الجنة لا يخرجون منها أبداً {مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ} أي فريق المؤمنين وفريق الكافرين {كَالأَعْمَى وَالأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ} قال الزمخشري: شبَّه فريق الكافرين بالأعمى والأصم، وفريق المؤمنين بالبصير والسميع، وهو من اللفّ والطباق والمعنى حال الفريقين العجيب كحال من جمع بين العمى والصمم، ومن جمع بين السمع والبصر {هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً} الاستفهام إِنكاري أي لا يستويان مثلاً فليس حال من يبصر نور الحق ويستضيء بضيائه كحال من يخبط في ظلمات الضلالة ولا يهتدي إِلى سبيل السعادة {أَفلا تَذَكَّرُونَ} أي أفلا تعتبرون وتتعظون؟ والغرض التفريق بين أهل الطاعة والإِيمان، وأهل الجحود والعصيان.



قصة نوح عليه السلام مع قومه



{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ(25)أَنْ لا تَعْبُدُوا إِلا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ(26)فَقَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلا بَشَرًا مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِي الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ(27)قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ(28)وَيَا قَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالاً إِنْ أَجْرِي إِلا عَلَى اللَّهِ وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ ءامنوا إِنَّهُمْ مُلاقُو رَبِّهِمْ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ(29)وَيَا قَوْمِ مَنْ يَنصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ(30)وَلا أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمْ اللَّهُ خَيْرًا اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنفُسِهِمْ إِنِّي إِذًا لَمِنْ الظَّالِمِينَ(31)}



{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ} أي أرسلناه رسولاً إلى قومه بعد أن امتلأت الأرض بشركهم وشرورهم {إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ} أي بأني منذرٌ لكم ومخوّف من عذاب الله إن لم تؤمنوا {أَنْ لا تَعْبُدُوا إِلا اللَّهَ} أي أرسلناه بدعوة التوحيد وهي عبادة الله وحده {إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ} أي إني أخاف عليكم إن عبدتم غيره عذاب يوم شديد مؤلم {فَقَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ} أي قال السادة والكبراء من قوم نوح {مَا نَرَاكَ إِلا بَشَرًا مِثْلَنَا} أي ما نراك إلا واحداً مثلنا ولا فضل لك علينا، قال الزمخشري: وفيه تعريضٌ بأنهم أحقُّ منه بالنبوة، وأن الله لو أراد أن يجعلها في أحدٍ من البشر لجعلها فيهم {وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا} أي وما اتبعك إلا سفلةُ الناس، قال ابن جزي: وإنما وصفوهم بذلك لفقرهم جهلاً منهم واعتقاداً بأن الشرف هو بالمال والجاه، وليس الأمر كذلك، بل المؤمنون أشرف منهم على فقرهم وخمولهم {بَادِي الرَّأْيِ} أي في ظاهر الرأي من غير تفكر أو رويّة { وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ} أي وما نرى لك ولأتباعك من مزية وشرف علينا يؤهلكم للنبوة، واستحقاق المتابعة {بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ} أي بل نظنكم كاذبين فيما تدعونه، أرادوا أن يحجوا نوحاً من وجهين: أحدهما: أن المتبعين له أراذل القوم ليسوا قدوة ولا أسوة، والثاني: أنهم مع ذلك لم يتَروَّوا في اتّباعه، ولا أمعنوا الفكر في صحة ما جاء به، وإنما بادروا إلى ذلك من غير فكرة ولا رويّة، وغرضُهم ألا تقوم الحجة عليهم بأن منهم من آمن به وصدّقه {قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي} تلطف معهم في الخطاب لاستمالتهم إلى الإِيمان أي قال لهم نوح: أخبروني يا قوم إن كنتُ على برهان وأمرٍ جليٍّ من ربي بصحة دعوايَ {وَآتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ} أي ورزقني هداية خاصة من عنده وهي النبوة {فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ} أي فخفي الأمر عليكم لاحتجابكم بالمادة عن نور الإِيمان {أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ} أي أنكرهكم على قبولها ونجبركم على الاهتداء بها والحال أنكم كارهون منكرون لها؟ والاستفهام للإِنكار أي لا نفعل ذلك لأنه لا إكراه في الدين {وَيَا قَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالاً} أي لا أسألكم على تبليغ الدعوة أجراً، ولا أطلب على النصيحة مالاً حتى تتهموني { إِنْ أَجْرِي إِلا عَلَى اللَّهِ} أي ما أطلب ثوابي إلا من الله فإنه هو الذي يثيبني ويجازيني {وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ ءامنوا} أي ولست بمبعد هؤلاء المؤمنين الضعفاء عن مجلسي، ولا بطاردهم عني كما طلبتم { إِنَّهُمْ مُلاقُو رَبِّهِمْ} أي إنهم صائرون إلى ربهم، وفائزون بقربه فكيف أطردهم؟ {وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ} أي ولكنكم قوم تجهلون قدرهم فتطلبون طردهم، وتظنون أنكم خير منهم {وَيَا قَوْمِ مَنْ يَنصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ} أي من يدفع عني عقاب الله إن ظلمتهم وطردتهم؟ {أَفَلا تَذَكَّرُونَ} أي أفلا تتفكرون فتعلمون خطأ رأيكم وتنزجرون عنه؟ {وَلا أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَائِنُ اللَّهِ} أي لا أقول لكم عندي المال الوافر الكثير حتى تتبعوني لغناي {وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ} أي ولا أقول لكم إني أعلم الغيب حتى تظنوا بي الربوبية {وَلا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ} أي ولا أقول لكم إني من الملائكة أُرسلت إليكم فأكون كاذباً في دعواي {وَلا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمْ اللَّهُ خَيْرًا} أي ولا أقول لهؤلاء الضعفاء الذين ءامنوا بي واحتقرتموهم لفقرهم لن يمنحهم الله الهداية والتوفيق {اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنفُسِهِمْ} أي أعلم بسرائرهم وضمائرهم {إِنِّي إِذًا لَمِنْ الظَّالِمِينَ} أي إني إن قلت ذلك أكون ظالماً مستحقاً للعقاب.



موقف المشركين من قوم نوح في العناد والتكذيب



{قَالُوا يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ(32)قَالَ إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِنْ شَاءَ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ(33)وَلا يَنفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ(34)أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنْ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرَامِي وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ(35)}



{قَالُوا يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا} أي قال قوم نوح لنوحٍ عليه السلام: قد خاصمتنا فأكثرتَ خصومتنا {فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} أي فائتنا بالعذاب الذي كنت تعدنا به إن كنت صادقاً في ما تقول {قَالَ إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِنْ شَاءَ} أي أمر تعجيل العذاب إليه تعالى لا إليَّ فهو الذي يأتيكم به إن شاء {وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ} أي ولستم بفائتين الله هرباً لأنكم في ملكه وسلطانه {وَلا يَنفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنصَحَ لَكُمْ} أي ولا ينفعكم تذكيري إياكم ونصحي لكم {إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ} أي إن أراد الله إضلالكم وهو جواب لما تقدم والمعنى ماذا ينفع نصحي لكم إن أراد الله شقاوتكم وإضلالكم؟ {هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} أي هو خالقكم والمتصرف في شئونكم، وإليه مرجعكم ومصيركم فيجازيكم على أعمالكم {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ} أي أيقول كفار قريش اختلق محمد هذا القرآن من عند نفسه {قُلْ إِنْ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرَامِي} أي قل لهم يا محمد إن كنت قد افتريتهذا القرآن فعليَّ وزري وذنبي، ولا تؤاخذون أنتم بجريرتي {وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ} أي وأنا بريءٌ من إجرامكم بكفركم وتكذيبكم، والآية اعتراضٌ بين قصة نوح للإِشارة إلى أن موقف مشركي مكة كموقف المشركين من قوم نوح في العناد والتكذيب.



الإعداد لإغراق قوم نوح وإهلاكهم ومقابلة السخرية والتهكم بالتخطيط للنجاة



{وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلا مَنْ قَدْ آمَنَ فَلا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ(36)وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ(37)وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ(38)فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ(39)حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلا قَلِيلٌ(40)وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِاِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ(41)}



{وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلا مَنْ قَدْ آمَنَ} أي أوحى الله إلى نوحٍ أنه لن يتبعك ويصدِّق برسالتك إلا من قد آمن من قبل {فَلا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} أي فلا تحزن بسبب كفرهم وتكذيبهم لك فإني مهلكهم {وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا} أي اصنع السفينة تحت نظرنا وبحفظنا ورعايتنا {وَوَحْيِنَا} أي وتعليمنا لك، قال مجاهد: أي كما نأمرك {وَلا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا} أي لا تشفع فيهم فإني مهلكهم لا محالة {إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ} أي هالكون غرقاً بالطوفان {وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ } حكايةُ حالٍ ماضيةٍ لاستحضارها في الذهن أي صنع نوحٌ السفينة كما علّمه ربُّه {وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ} أي كلما مرَّ عليه جماعة من كبراء قومه هزءوا منه وضحكوا وقالوا: يا نوحُ كنتَ بالأمس نبياً، وأصبحتَ اليوم نجاراً!! {قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا} أي إن تهزؤوا منا اليوم {فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ} أي فإنّا سنسخر منكم في المستقبل عندما تغرقون مثل سخريتكم منا الآن، فأنتم أولى بالسخرية والاستهزاء {فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} وعيدٌ وتهديد أي سوف تعلمون عاقبة التكذيب والاستهزاء {مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ} أي عذابٌ يُذلُّه ويهينه وهو الغرق {وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ} أي وينزل عليه عذاب دائم لا ينقطع وهو عذاب جهنم {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا} أي جاء أمرنا الموعود بالطوفان {وَفَارَ التَّنُّورُ} أي فار الماء من التنور الذي يوقد به النار، قال العلماء: جعل الله ذلك علامة لنوح وموعداً لهلاك قومه، وقال ابن عباس: التنور وجهُ الأرض، قال الطبري: والعرب تسمي وجه الأرض تنور الأرض، قيل له: إذا رأيتَ الماء على وجه الأرض فاركب أنت ومن معك في السفينة، وقال ابن كثير: التنور وجه الأرض أي صارت الأرض عيوناً تفور، حتى فار الماء من التنانير التي هي مكان النار صارت تفور ماءً، وهذا قول جمهور السلف والخلف {قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ} أي احمل في السفينة من كل صنفٍ من المخلوقات اثنين: ذكراً، وأنثى {وَأَهْلَكَ إِلا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ} أي واحمل قرابتك أيضاً أولادك ونساءك إلا من حكم الله بهلاكه، والمراد به ابنهُ الكافر "كنعان" وامرأته "واعلة" {وَمَنْ آمَنَ} أي واحمل معك من آمن من أتباعك {وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلا قَلِيلٌ} أي وما آمن بنوح إلا نزرٌ يسير مع طول إقامته بينهم وهي مدة تسعمائة وخمسين سنة، قال ابن عباس: كانوا ثمانين نفساً منهم نساؤهم، وعن كعب: كانوا اثنين وسبعين نفساً، وقيل: كانوا عشرة {وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِاِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا} أي وقال نوح لمن آمن به اركبوا في السفينة، باسم الله يكون جريُها على وجه الماء، وباسم الله يكون رسوُّها واستقرارها، قال الطبري: المعنى بسم الله حين تجري وحين تُرسي، أي حين تسير وحين تقف {إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} أي ساتر لذنوب التائبين، رحيمٌ بالمؤمنين حيث نجاهم من الغرق.



هلاك الكفرة ونجاة نوح ومن معه من الطوفان



{وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ(42)قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلا مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ(43)وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ(44)وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ(45)قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلا تَسْأَلْنِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ(46)قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ(47)}



{وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ} أي والسفينة تسير بهم وسط الأمواج، التي هي كالجبل في العِظَم والارتفاع، بإذن الله وعنايته ولطفه، قال الصاوي: رُوي أن الله أرسل المطر أربعين يوماً وليلة، وخرج الماء من الأرض ينابيع كما قال تعالى {ففتحنا أبواب السماء بماءٍ مُنْهمرٍ وفجَّرنا الأرضَ عُيوناً فالتقى الماءُ على أمرٍ قَدْ قُدر} وارتفع الماء على أعلى جبل أربعين ذراعاً حتى أغرق كل شيء {وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ} ونادى نوحٌ ولده "كنعان" قبيل سير السفينة وكان في ناحيةٍ منها لم يركب مع المؤمنين {يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا} أي اركب معنا ولا تهلكْ نفسك بالغرق {وَلا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ} أي فتغرق كما يغرقون {قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ} أي سأصعد إلى رأس جبل أتحصن به من الغرق، ظناً منه أن الماء لا يصل إلى رءوس الجبال {قَالَ لا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلا مَنْ رَحِمَ} أي قال له أبوه نوح: لا معصوم اليوم من عذاب الله ولا ناجي من عقابه إلا من رحمه الله {وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ} أي حال بين نوحٍ وولده موجُ البحر فغرق {وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ} أي انشقي وابتلعي ما على وجهك من الماء {وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي} أي أمسكي عن المطر {وَغِيضَ الْمَاءُ} أي ذهب في أغوار الأرض، قال مجاهد: نقص الماء {وَقُضِيَ الأَمْرُ} أي تمَّ أمر الله بإغراق من غرق، ونجاة من نجا {وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ} أي استقرت السفينة على جبل الجودي بقرب الموصل {وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} أي هلاكاً وخساراً لمن كفر بالله وهي جملة دعائية، قال الألوسي: ولا يخفى ما في الآية من الدلالة على عموم هلاك الكفرة، بل على عموم هلاك أهل الأرض ما عدا أهل السفينة، ويدل عليه ما رُوي أن الغرقَ أصاب امرأة معها صبيٌّ لها فوضعته على صدرها، فلما بلغها الماء وضعته على منكبها، فلما بلغها الماء رفعته بيديها، فلو رحم الله أحداً من أهل الأرض لرحمها {وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي} أي دعا نوح ربَّه متضرعاً إليه فقال: ربِّ إن ابني "كنعان " من أهلي وقد وعدتني بنجاتهم {وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ} أي وعدك حقٌ لا خُلْف فيه {وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ} أي وأنت يا ألله أعدل الحاكمين بالحق {قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ} أي قال له ربه: يا نوحُ إنَّ ولدك هذا ليس من أهلك الذين وعدتك بنجاتهم لأنه كافر ولا ولاية بين المؤمن والكافر { إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ} أي إنَّ عمله سيءٌ غير صالح {فَلا تَسْأَلْنِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} أي لا تطلب مني أمراً لا تعلم أصوابٌ هو أم غير صواب؟ {إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} أي إني أنبهك وأنصحك خشية أن تكون من الجاهلين، قال ابن جزي: وليس في ذلك وصفٌ له بالجهل، بل فيه ملاطفةٌ وإكرام {قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ} أي قال نوح معتذراً إلى ربه عمّا صدر عنه: ربّ إني أستجير بك من أن أسألك أمراً لا يليق بي سؤاله {وَإِلا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ} أي وإلا تغفر لي زلتي، وتتداركني برحمتك، أكنْ ممن خسر آخرته وسعادته.



تكريم نوح عليه السلام والذين ءامنوا معه



{قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ(48)تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ(49)}



{قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا} أي اهبط من السفينة بسلامة وأمن {وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ} أي وخيراتٍ عظيمة عليك وعلى ذرية من معك من أهل السفينة، قال القرطبي: دخل في هذا كل مؤمن إلى يوم القيامة {وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ } أي وأمم أخرى من ذرية من معك نمتعهم متاع الحياة الدنيا وهم الكفرة المجرمون { ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ} أي ثم نذيقهم في الآخرة العذاب الأليم وهو عذاب جهنم {تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ} أي هذه القصة وأشباهها من أخبار الغيوب السالفة التي لم تشهدها {نُوحِيهَا إِلَيْكَ} أي نعلمك بها يا محمد بواسطة الوحي {مَا كُنتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا} أي لم يكن عندك ولا عند أحدٍ من قومك علمٌ بها من قبل هذا القرآن {فَاصْبِرْ إِنَّ الْعاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ} أي فاصبر على أمر الله بتبليغ الدعوة كما صبر نوح، فإن العاقبة المحمودة لمن اتقى الله، وفيه تسلية له صلى الله عليه وسلم على أذى المشركين.



قصة هود عليه السلام مع قومه



{وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلا مُفْتَرُونَ(50)يَا قَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ أَجْرِي إِلا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلا تَعْقِلُونَ(51)وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ(52)قَالُوا يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ(53)إِنْ نَقُولُ إِلا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ(54)مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ(55)إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ(56)فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّونَهُ شَيْئًا إِنَّ رَبِّي عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ(57)وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُودًا وَالَّذِينَ ءامنوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْنَاهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ(58)وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ(59)وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا إِنَّ عَادًا كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْدًا لِعَادٍ قَوْمِ هُودٍ(60)}



{وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا} أي ولقد أرسلنا إلى قبيلة عاد نبياً منهم اسمه هود {قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ} أي اعبدوا الله وحده دون الآلهة والأوثان {مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} أي ليس لكم معبودٌ غيره يستحق العبادة {إِنْ أَنْتُمْ إِلا مُفْتَرُونَ} أي ما أنتم في عبادتكم غير الله إلا كاذبون عليه جل وعلا، لأنه لا إله سواه {يَا قَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا} أي لا أطلب منكم على النصح والبلاغ جزاءً ولا ثواباً {إِنْ أَجْرِي إِلا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي} أي ما ثوابي وجزائي إلا على الله الذي خلقني {أَفَلا تَعْقِلُونَ} أي أتغفلون عن ذلك فلا تعقلون أن من يدعوكم إلى الخير دون إرادة جزاءٍ منكم هو لكم ناصح أمين؟ والاستفهام للإِنكار والتقريع {وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ} أي استغفروه من الكفر والإِشراك {ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ} أي ارجعوا إليه بالطاعة والاستقامة على دينه والتمسك بالإِيمان والتوحيد {يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا} أي يرسل عليكم المطر غزيراً متتابعاً، رُوي أن عاداً كان حُبس عنهم المطر ثلاث سنين حتى كادوا يهلكون، فأمرهم هودٌ بالتوبة والاستغفار ووعدهم على ذلك بنزول الغيث والمطر، وفي الآية دليل على أن التوبة والاستغفار، سببٌ للرحمة ونزول الأمطار {وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ} أي ويزدكم عزاً وفخاراً فوق عزكم وفخاركم، قال مجاهد: شدة إلى شدتكم، فإنهم كانوا في غاية القوة والبطش حتى قالوا {من أشدُّ منا قوة}؟ {وَلا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ} أي لا تعرضوا عما أدعوكم إليه مصرّين على الإِجرام، وارتكاب الآثام {قَالُوا يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ} أي ما جئتنا بحجةٍ واضحة تدل على صدقك، قال الآلوسي: وإنما قالوه لفرط عنادهم، أو لشدة عَمَاهم عن الحق {وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ} أي لسنا بتاركين عبادة الأصنام من أجل قولك {وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ} أي لسنا بمصدقين لنبوتك ورسالتك، والجملة تقنيطٌ من دخولهم في دينه، ثم نسبوه إلى الخبل والجنون فقالوا {إِنْ نَقُولُ إِلا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ} أي ما نقول إلا أصابك بعض آلهتنا بجنون لما سببتها ونهيتنا عن عبادتها، قال الزمخشري: دلت أجوبتهم المتقدمة على أن القوم كانوا جفاةً، غلاظ الأكباد، لا يلتفتون إلى النصح، ولا تلين شكيمتهم للرشد، وقد دلَّ قولهم الأخير على جهلٍ مفرط، وبلَهٍ متناهٍ، حيث اعتقدوا في حجارة أنها تنتصر وتنتقم {قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ} أي قال هودٌ إني أشهدُ الله على نفسي {وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ} أي وأشهدكم أيضاً أيها القوم بأنني بريءٌ مما تشركون في عبادة الله من الأوثان والأصنام {مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ} أي فاحتالوا في هلاكي أنتم وآلهتكم ثم لا تمهلوني طرفة عين، قال أبو السعود: وهذا من أعظم المعجزات، فإنه عليه السلام كان رجلاً مفرداً بين الجم الغفير من عتاة عاد، الغلاظ الشداد، وقد حقّرهم وهيّجهم بانتقاص آلهتهم، وحثهم على التصدّي له فلم يقدروا على مباشرة شيء، وظهر عجزهم عن ذلك ظهوراً بيناً، وقال الزمخشري: من أعظم الآيات أن يُواجه بهذا الكلام رجلٌ واحد أمة عطاشاً إلى إراقة دمه، يرمونه عن قوسٍ واحدة، وذلك لثقته بربه وأنه يعصمه منهم، فلا تنشب فيه مخالبهم، ومثله قول نوح {فأجمعوا أمركم وشركاءكم} {إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ} أي إني لجأت إلى الله وفوضت أمري إليه تعالى مالكي ومالككم {مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا} أي ما من نسمةٍ تدبُّ على وجه الأرض إلا هي في قبضته وتحت قهره، والأخذُ بالناصية تمثيلٌ للملك والقهر، والجملةُ تعليلٌ لقوة توكله على الله وعدم مبالاته بالخلق {إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} أي إن ربي عادل، يجازي المحسن بإحسانه، والمسيء بإساءته، لا يظلم أحداً شيئاً {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ} أي فإِن تُعرضوا عن قبول دعوتي فقد أبلغتكم أيها القوم رسالة ربي، وما على الرسول إلا البلاغ {وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْمًا غَيْرَكُمْ} أي فسوف يهلككم الله ويستخلف قوماً آخرين غيركم، وهذا وعيدٌ شديد {وَلا تَضُرُّونَهُ شَيْئًا} أي لا تضرون الله شيئاً بإشراككم {إِنَّ رَبِّي عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ} أي إنه سبحانه رقيبٌ على كل شيء، وهو يحفظني من شركم ومكركم {وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا} أي ولما جاء أمرنا بالعذاب، وهو ما نزل بهم من الريح العقيم {نَجَّيْنَا هُودًا وَالَّذِينَ ءامنوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا} أي نجينا من العذاب هوداً والمؤمنين بفضلٍ عظيم ونعمة منا عليهم {وَنَجَّيْنَاهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ} أي وخلصناهم من ذلك العذاب الشديد، وهي الريح المدمرة التي كانت تهدم المساكن، وتدخل في أنوف أعداء الله وتخرج من أدبارهم، وتصرعهم على وجوههم حتى صاروا كأعجاز نخلٍ خاوية {وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ} الإِشارة لآثارهم أي تلك آثار المكذبين من قوم عاد انظروا ماذا حلّ بهم، حين كفروا بالله، وأنكروا آياته في الأنفس والآفاق الدالة على وحدانيته؟ {وَعَصَوْا رُسُلَهُ} أي عصوا رسوله هوداً، وجمعه تفظيعاً لحالهم، وإظهاراً لكمال كفرهم وعنادهم، ببيان أن عصيانهم له عصيانٌ لجميع الرسل السابقين واللاحقين لاتفاق كلمتهم على التوحيد {وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ} أي أطاعوا أمر كل مستكبر على الله، حائدٍ عن الحق، لا يُذعن له ولا يقبله، يريد به الرؤساء والكبراء {وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً} أي وأُلحقوا باللعنة والطرد من رحمة الله في الدنيا {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ} أي ويوم القيامة أيضاً تلحقهم اللعنة، قال الرازي : جعل اللعن رديفاً لهم ومتابعاً ومصاحباً في الدنيا والآخرة، ومعنى اللعنة الإِبعادُ من رحمة الله تعالى ومن كل خير { أَلا إِنَّ عَادًا كَفَرُوا رَبَّهُمْ} هذا تشنيعٌ لكفرهم وتهويلٌ بحرف التنبيه وبتكرار اسم عاد أي ألا فانتبهوا إنَّ عاداً كفروا بربهم إذْ عبدوا غيره، وجحدوا نعمته إذ كذبوا رسوله، فاستحقوا اللعنة في الدنيا، واللعنة في الآخرة {أَلا بُعْدًا لِعَادٍ قَوْمِ هُودٍ} أي أبعدهم الله من الخير، وأهلكهم عن بكرة أبيهم، وهي جملة دعائية بالهلاك واللعنة.



قصة صالح عليه السلام مع قومه



{وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنشَأَكُمْ مِنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ(61)قَالُوا يَا صَالِحُ قَدْ كُنتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا أَتَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ(62)قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً فَمَنْ يَنصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ فَمَا تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ(63)وَيَا قَوْمِ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ(64)فَعَقَرُوهَا فَقَالَ تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ(65)فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحًا وَالَّذِينَ ءامنوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ(66)وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ(67)كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلا إِنَّ ثَمُوداً كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْدًا لِثَمُودَ(68)}



{وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا} أي ولقد أرسلنا إلى قوم ثمود نبياً منهم وهو صالح عليه السلام {قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} أي اعبدوا الله وحده ليس لكم ربٌّ معبود سواه {هُوَ أَنشَأَكُمْ مِنَ الأَرْضِ} أي هو تعالى ابتدأ خلقكم من الأرض، فخلق آدم من تراب ثم ذريته من نطفة {وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا} أي جعلكم عمَّارها وسكانها تسكنون بها {فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ} أي استغفروه من الشرك ثم ارجعوا إليه بالطاعة {إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ} أي إنه سبحانه قريب الرحمة مجيب الدعاء {قَالُوا يَا صَالِحُ قَدْ كُنتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا} أي كنا نرجو أن تكون فينا سيّداً قبل تلك المقالة فلما قلتها انقطع رجاؤنا فيك {أَتَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا} أي أتنهانا يا صالح عن عبادة الأوثان التي عبدها آباؤنا؟ {وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ} أي وإننا لشاكون في دعواك، وأمرُك مريب يوجب التهمة {قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي} أي أخبروني إن كنتُ على برهانٍ وحِجة واضحةٍ من ربي {وَآتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً} أي وأعطاني النبوة والرسالة {فَمَنْ يَنصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ} أي فمن يمنعني من عذاب الله إن عصيت أمره؟ {فَمَا تَزِيدُونَنِي} أي فما تزيدونني بموافقتكم وعصيان أمر الله غير تضليل وإبعاد عن الخير، قال الزمخشري: {غَيْرَ تَخْسِيرٍ} يعني تخسّرون أعمالي وتبطلونها {وَيَا قَوْمِ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً} أضاف الناقة إلى الله تشريفاً لها لأنها خرجت من صخرة صماء بقدرة الله حسب طلبهم أي هذه الناقة معجزتي لكم وعلامة على صدقي {فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ} أي دعوها تأكل وتشرب في أرض الله فليس عليكم رزقها {وَلا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ} أي لا تنالوها بشيءٍ من السوء فيصيبكم عذاب عاجل لا يتأخر عنكم {فَعَقَرُوهَا فَقَالَ تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ} أي ذبحوا الناقة فقال لهم صالح: استمتعوا بالعيش في بلدكم ثلاثة أيام ثم تهلكون، قال القرطبي: إنما عقرها بعضهم وأضيف إلى الكل لأنه كان برضى الباقين، فعقرت يوم الأربعاء فأقاموا يوم الخميس والجمعة والسبت وأتاهم العذاب يوم الأحد {ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ} أي وعدٌ حق غير مكذوب فيه {فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحًا وَالَّذِينَ ءامنوا مَعَهُ} أي فلما جاء أمرنا بإهلاكهم نجينا صالحاً ومن آمن به {بِرَحْمَةٍ مِنَّا} أي بنعمةٍ وفضلٍ عظيم من الله {وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ} أي ونجيناهم من هوان ذلك اليوم وذُلّه {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ} أي القوي في بطشه، العزيز في ملكه، لا يغلبه غالب، ولا يقهره قاهر {وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ} أي أخذتهم صيحةٌ من السماء تقطعت لها قلوبهم، فأصبحوا هامدين موتى لا حِرَاك بهم كالطير إذا جثمت {كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا} أي كأن لم يقيموا في ديارهم ولم يَعْمُروها {أَلا إِنَّ ثَمُوداً كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْدًا لِثَمُودَ} أي ألا فانتبهوا أيها القوم إن ثمود كفروا بآيات ربهم فسحقاً لهم وبُعْداً، وهلاكاً ولعنة.



قصة إبراهيم عليه السلام مع الملائكة المبشرين له بإسحاق ويعقوب عليهما السلام



{وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا سَلامًا قَالَ سَلامٌ فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ(69)فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ(70)وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ(71)قَالَتْ يَا وَيْلَتَا أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ(72)قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ(73)فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ(74)إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ(75)يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ(76)}



{وَلَقَدْ جَاءتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى} هذه هي القصة الرابعة وهي قصة لوط وهلاك قومه المكذبين أي جاءت الملائكةُ الذين أرسلناهم لإِهلاك قوم لوط إبراهيمَ بالبشارة بإسحاق، قال القرطبي: لما أنزل الله الملائكة لعذاب قوم لوط مرّوا بإبراهيم فظنهم أضيافاً، وهم جبريل وميكائيل وإسرافيل، قاله ابن عباس: وقال السدي: كانوا أحد عشر ملَكاً على صورة الغلمان الحسان الوجوه {قَالُوا سَلامًا} أي سلموا عليه سلاماً {قَالَ سَلامٌ} أي قال لهم إبراهيم: سلام عليكم، قال المفسرون: ردَّ عليهم التحية بأحسن من تحيتهم لأنه جاء بها جملة اسميّة وهي تدل على الثبات والاستمرار { فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ} أي فما أبطأ ولا تأخر مجيئه حتى جاء بعجلٍ مشويٍّ فقدمه لهم، قال الزمخشري: والعجل: ولد البقرة ويسمى "الحسيل" وكان مال إبراهيم عليه السلام البقر، والحنيذ: المشوي بالحجارة المحماة في أخدود وقيل: الذي يقطر دسمه ويدل عليه "بعجلٍ سمين" {فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ} أي فلما رآهم لا يمدون أيديهم إلى الطعام ولا يأكلون منه أنكرهم {وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً} أي أحسَّ منهم الخوف والفزع، قال قتادة: كان العرب إذا نزل بهم ضيف فلم يطعم من طعامهم ظنوا أنه لم يجيء بخير وأنه جاء يحدث نفسه بشرّ {قَالُوا لا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ} أي قالت الملائكة: لا تخف فإِنا ملائكة ربك لا نأكل، وقد أُرسلنا لإِهلاك قوم لوط {وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ} أي وامرأة إبراهيم واسمها "سارة" قائمة وراء الستر تسمع كلامهم فضحكت استبشاراً بهلاك قوم لوط { فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ} أي بشرتها الملائكة بإسحاق ولداً لها ويأتيه مولودٌ هو يعقوب ابناً لولدها {قَالَتْ يَا وَيْلَتَا أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا} أي قالت سارة معجبة: يا لهفي ويا عجبي أألد وأنا امرأة مسنّة وهذا زوجي إبراهيم شيخ هرم أيضاً فكيف يأتينا الولد؟ {إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ} أي إن هذا الأمر لشيء غريب لم تجر به العادة، قال مجاهد: كانت يومئذٍ ابنة تسع وتسعين سنة، وإبراهيم ابن مائة وعشرين سنة {قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} أي أتعجبين من قدرة الله وحكمته في خلق الولد من زوجين هرمين؟ ليس هذا بمكان عجب على قدرة الله {رَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ} أي رحمكم الله وبارك فيكم يا أهل بيت إبراهيم {إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ} أي إنه تعالى محمود ممجّد في صفاته وذاته، مستحقٌ للحمد والتمجيد من عباده، وهو تعليل بديع لما سبق من البشارة {فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ} أي فلما ذهب عن إبراهيم الخوفُ الذي أوجسه في نفسه، واطمأن قلبُه لضيوفه حين علم أنهم ملائكة {وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى} أي جاءته البشارة بالولد {يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ} أي أخذ يجادل ملائكتنا في شأن إهلاك قوم لوط، وغرضُه تأخير العذاب عنهم لعلهم يؤمنون، قال المفسرون: لما قالت الملائكة: {إنا مهلكوا أهل هذه القرية} قال لهم: أرأيتم إن كان فيها خمسون من المسلمين أتهلكونهم؟ قالوا: لا، قال: فأربعون؟ قالوا: لا فما زال يتنزّل معهم حتى قال لهم: أرأيتم إن كان فيها رجل واحد مسلم أتهلكونهم ؟ قالوا لا فقال لهم {إِن فيها لوطاً، قالوا نحن أعلم بمن فيها لننجينَّه وأهله إِلا امرأته كانت من الغابرين} {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ} أي غير عجولٍ في الانتقام من المسيء إِليه {أَوَّاهٌ مُنِيبٌ} أي كثير التأوه والتأسف على الناس لرقة قلبه، منيب رجّاعٌ إِلى طاعة الله {يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا} أي قالت الملائكة: يا إِبراهيم دع عنك الجدال في قوم لوط فقد نفذ القضاء بعذابهم {إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ} أي جاء أمر الله بإِهلاكهم {وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ} أي نازلٌ بهم عذابٌ غير مصروفٍ عنهم ولا مدفوع.



قصة لوط عليه السلام مع قومه



{وَلَمَّا جَاءتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ(77)وَجَاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِنْ قَبْلُ كَانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ قَالَ يَا قَوْمِ هَؤُلاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلا تُخْزُونِي فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ(78)قَالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ(79)قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ(80)قَالُوا يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلا امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمْ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ(81)فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ(82)مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ(83)}



{وَلَمَّا جَاءتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ} أي ولما جاءت الملائكة لوطاً أصابه سوء وضجر، لأنه ظهر أنهم من البشر فخاف عليهم من قومه {وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا} أي ضاق صدره بمجيئهم خشيةً عليهم من قومه الأشرار {وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ} أي شديد في الشر {وَجَاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ} أي جاء قومه يسرعون إِليه لطلب الفاحشة بالضيوف كأنهم يدفعون إِلى ذلك دفعاً {وَمِنْ قَبْلُ كَانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ} أي ومن قبل ذلك الحين كانت عادتهم إِتيان الرجال وعمل الفاحشة فلذلك لم يستحيوا حين جاءوا يهرعون لها مجاهرين، قال القرطبي: وكان سبب إِسراعهم أن امرأة لوط الكافرة لما رأت الأضياف وجمالهم، خرجت حتى أتت مجلس قومها فقالت لهم: إِن لوطاً قد أضاف الليلة فتيةً ما رأيت مثلهم جمالاً فحينئذٍ جاءوا يُهرعون إِليه {قَالَ يَا قَوْمِ هَؤُلاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ} أي قال لهم لوط: هؤلاء نساء البلدة أُزوِّجكم بهن فذلك أطهر لكم وأفضل، وإِنما قال بناتي لأن كل نبيٍّ أبٌ لأمته في الشفقة والتربية {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلا تُخْزُونِي فِي ضَيْفِي} أي اخشوا عذاب الله ولا تفضحوني وتهينوني في ضيوفي {أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ} أي استفهام توبيخ أي أليس فيكم رجل عاقل يمنع عن القبيح؟ {قَالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ} أي قال له قومه: لقد علمت يا لوط ما لنا في النساء من أرب، وليس لنا رغبة فيهن {وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ} أي وأنت تعلم غرضنا وهو إِتيان الذكور، صرّحوا له بغرضهم الخبيث قبّحهم الله {قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً} أي لو كان لي قوة أستطيع أن أدفع أذاكم بها {أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ} أي ألجأ إِلى عشيرة وأنصار تنصرني عليكم، وجواب "لو" محذوف تقديرة لبطشتُ بكم وفي الحديث (رحم الله أخي لوطاً لقد كان يأوي إِلى ركنٍ شديد) يريد صلى الله عليه وسلم أن الله كان ناصره ومؤيده، فهو ركنه الشديد وسنده القوي، قال قتادة: وذُكر لنا أن الله تعالى لم يبعث نبياً بعد لوط إِلا في منعة من عشيرته، وحين سمع رسل الله تعالى تحسر لوط على ضعفه وانقطاعه من الأنصار {قَالُوا يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ} أي قالت الملائكة للوط: إِنا رسلُ ربك أُرسلنا لإِهلاكهم وإِنهم لن يصلوا إِليك بضرر ولا مكروه {فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ} أي اخرج بهم بطائفةٍ من الليل، قال الطبري: أي اخرج من بين أظهرهم أنت وأهلك ببقية من الليل {وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلا امْرَأَتَكَ} أي لا ينظر أحدٌ منكم وراءه إِلا امرأتَك فإِنها ستهلك كما هلكوا، نهُوا عن الالتفات لئلا تتفظر أكبادهم على قريتهم، قال القرطبي: إِن امرأة لوط لمّا سمعت هدَّة العذاب التفتت وقالت: واقوماه! فأدركها حجر فقتلها {إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ} أي إِنه يصيب امرأتك من العذاب ما أصاب قومك {إِنَّ مَوْعِدَهُمْ الصُّبْحُ} أي موعد عذابهم وهلاكهم الصبحُ { أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ} استعجلهم بالعذاب لغيظه على قومه فقالوا له: أليس وقت الصبح قريباً؟ قال المفسرون: إِن قوم لوط لما سمعوا بالضيوف هرعوا نحوه، فأغلق بابه وأخذ يجادل قومه عنهم من وراء الباب، فتسوروا الجدار، فلما رأت الملائكة ما بلوطٍ من الكرب قالوا يا لوط: افتح الباب ودعنا وإِيّاهم، ففتح الباب فضربهم جبريل بجناحه فطمس أعينهم وعموا، وانصرفوا على أعقابهم يقولون: النجاءَ، النجاء كما قال تعالى: {ولقد راودوه عن ضيفه فطمسنا أعينهم} ثم إِن لوطاً سرى بمن معه قبل الفجر، ولما حان وقت عذابهم أمر الله جبريل فاقتلع مَدائن قوم لوط -وهي خمسٌ- من تخوم الأرض حتى أدناها من السماء بما فيها، حتى سمع أهل السماء صراخ الديكة، ونباح الكلاب، ثم أرسلها مقلوبة وأتبعهم الله بالحجارة ولهذا قال تعالى {فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا} أي فلما جاء وقت العذاب قلبنا بهم القرى فجعلنا العالي سافلاً {وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ} أي أرسلنا على أهل تلك المدن حجارة صلبة شديدة من نارٍ وطين، شبّهها بالمطر لكثرتها وشدتها {مَنْضُودٍ} أي متتابعة، بعضُها في إِثر بعض {مُسَوَّمَةً} أي معلَّمة بعلامة، قال الربيع: قد كتب على كل حجر اسم من يُرمى به، قال القرطبي: وقوله {عِنْدَ رَبِّكَ} دليلٌ على أنها ليست من حجارة الأرض {وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ} أي ما هذه القرى المهلكة ببعيدة عن قومك "كفار قريش" فإِنهم يمرون عليها في أسفارهم أفلا يعتبرون؟ قال المفسرون: وقد صار موضع تلك المدن بحراً أُجاجاً يعرف بـ "البحر الميت" لأن مياهه لا تغذي شيئاً من الحيوان وقد اشتهر باسم "بحيرة لوط" والأرض التي تليها قاحلة لا تنبتُ شيئاً.



قصة شعيب عليه السلام مع قومه



{وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلا تَنقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ(84)وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ(85)بَقِيَّةُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ(86)قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لأنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ(87)قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلا الإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ(88)وَيَا قَوْمِ لا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ(89)وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ(90)قَالُوا يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا وَلَوْلا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ(91)قَالَ يَا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَاءَكُمْ ظِهْرِيًّا إِنَّ رَبِّي بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ(92)وَيَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كَاذِبٌ وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ(93)وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْبًا وَالَّذِينَ ءامنوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَأَخَذَتْ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ(94)كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلا بُعْدًا لِمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ(95)}



{وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا} هذه هي القصة السادسة من القصص المذكورة في هذه السورة أي وأرسلنا إِلى قبيلة مدين أخاهم شعيباً، وقد كان شعيب من نفس القبيلة ولهذا قال "أخاهم" {قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} أي اعبدوا الله وحده فليس لكم ربٌ سواه {وَلا تَنقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ} أي لا تنقصوا الناس حقوقهم في المكيال والميزان، وقد اشتهروا بتطفيف الكيل والوزن {إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ} أي إِني أراكم في سعةٍ تغنيكم عن نقص الكيل والميزان، قال القرطبي: أي في سعة من الرزق، وكثرةٍ من النعم {وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ} أي إِني أخاف عليكم إِن لم تؤمنوا عذاب يومٍ مهلك، لا يفلت منه أحد، والمراد به عذاب يوم القيامة {وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ} أي أتموا الكيل والوزن للناس بالعدل {وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ} أي لا تُنْقصوهم من حقوقهم شيئاً {وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ} أي ولا تسعوا بالفساد في الأرض، والعثيُّ أشد الفساد {بَقِيَّةُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ} أي ما أبقاه الله لكم من الحلال خيرٌ مما تجمعونه من الحرام، إِن كنتم مصدّقين بوعد الله ووعيده، وقال مجاهد: أي طاعة الله خير لكم {وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ} أي ولستُ برقيب أحفظ عليكم أعمالكم وأجازيكم بها وإِنما أنا ناصح مبلّغ، وقد أعذر من أنذر {قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا} لما أمرهم شعيب عليه السلام بعبادة الله تعالى وترك عبادة الأوثان، وبإِيفاء الكيل والميزان، ردّوا عليه على سبيل السخرية والاستهزاء فقالوا: أصلاتك تدعوك لأن تأمرنا بترك عبادة الأصنام التي عبدها آباؤنا؟ إِن هذا لا يصدر عن عاقل {أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ} أي وتأمرك بأن نترك تطفيف الكيل والميزان. قال الإِمام الفخر: إِن شعيباً أمرهم بشيئين: بالتوحيد، وترك البخس، فأنكروا عليه أمره بهذين النوعين فقوله {ما يعبد آباؤنا} إِشارة إِلى التوحيد، وقوله {نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا} إِشارة إِلى ترك البخس، وقد يراد بالصلاة الدينُ والمعنى: دينُك يأمرك بذلك؟ وأطلق عليه الصلاة لأنها أظهر شعار الدين، وروي أن شعيباً كان كثير الصلاة وكان قومه إِذا رأوه يصلي تغامزوا وتضاحكوا، فقصدوا بقولهم {أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ} السخرية والهزء، كما إِذا رأيت معتوهاً يطالع كتباً ثم يذكر كلاماً فاسداً فتقول: هذا من مطالعة تلك الكتب؟ {إِنَّكَ لأنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ} أي إِنك لأنت العاقل المتصف بالحلم والرشد؟ قال الطبري: يستهزئون به فإِنهم أعداء الله قالوا له ذلك استهزاءً، وإِنما سفّهوه وجهّلوه بهذا الكلام {قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنتُ عَلَى بَيِّنَةٍمِنْ رَبِّي} أي قال لهم شعيب: أخبروني إِن كنت على برهانٍ من ربي وهو الهداية والنبوة {وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا} أي أعطاني المال الحلال، فقد كان عليه السلام كثير المال، قال الزمخشري: والجواب محذوف دل عليه المعنى أي أخبروني إِن كنت على حجة واضحة، ويقينٍ من ربي، وكنتُ نبياً على الحقيقة أيصح لي أن لا آمركم بترك عبادة الأوثان، والكف عن المعاصي؟ والأنبياء لا يُبعثون إِلا لذلك {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ} أي لست أنهاكم عن شيء وأرتكبه وإِنما آمركم بما آمر به نفسي {إِنْ أُرِيدُ إِلا الإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ} أي لا أريد فيما آمركم به وأنهاكم عنه إِلا إصلاحكم وإِصلاح أمركم بقدر استطاعتي {وَمَا تَوْفِيقِي إِلا بِاللَّهِ} أي ليس التوفيق إِلى الخير إِلا بتأييده سبحانه ومعونته {عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} أي على الله سبحانه اعتمدت في جميع أموري، وإِليه تعالى أرجع بالتوبة والإِنابة {وَيَا قَوْمِ لا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي} أي لا يكسبنكم عداوتي {أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ} أي يصيبكم العذابُ كما أصاب قوم نوح بالغرق، وقوم هود بالريح، وقوم صالح بالرجفة، وقال الحسن: المعنى لا يحملنكم معاداتي على ترك الإِيمان فيصيبكم ما أصاب الكفار {وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ} أي وما ديار الظالمين من قوم لوطٍ بمكان بعيد، أفلا تتعظون وتعتبرون!؟ {وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ} أي استغفروا ربكم من جميع الذنوب، ثم توبوا إِليه توبةً نصوحاً {إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ} أي إِنه جل وعلا عظيم الرحمة، كثير الود والمحبة لمن تاب وأناب {قَالُوا يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ} أي قالوا لنبيّهم شعيب على وجه الاستهانة: ما نفهم كثيراً مما تحدثنا به، قال الألوسي: جعلوا كلامه المشتمل على فنون الحِكَم والمواعظ، وأنواع العلوم والمعارف، من قبيل التخليط والهذيان الذي لا يُفهم معناه، ولا يدرك فحواه مع أنه كما ورد في الحديث الشريف (خطيب الأنبياء) {وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا} أي لا قوة لك ولا عزَّ فيما بيننا {وَلَوْلا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ} أي ولولا جماعتك لقتلناك رمياً بالأحجار {وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ} أي لستَ عندنا بمكرَّم ولا محترم حتى نمتنع من رجمك {قَالَ يَا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ}؟ هذا توبيخ لهم أي أتتركوني لأجل قومي ولا تتركوني إعظاماً لجناب الرب تبارك وتعالى؟ فهل عشيرتي أعزّ عندكم من الله وأكرم؟ قال ابن عباس: إِن قوم شعيب ورهطه كانوا أعزَّ عليهم من الله وصغُر شأنُ الله عندهم، عزَّ ربنا وجلَّ ثناؤه {وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَاءَكُمْ ظِهْرِيًّا} أي جعلتم الله خلف ظهوركم لا تطيعونه ولا تعظمونه كالشيء المنبوذ وراء الظهر لا يُعبأ به، وهذا مثلٌ، قال الطبري: يقال للرجل إذا لم يقض حاجة الرجل: نبذ حاجته وراء ظهره أي تركها ولم يلتفت إليها {إِنَّ رَبِّي بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} أي إنه جل وعلا قد أحاط علماً بأعمالكم السيئة وسيجازيكم عليها {وَيَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ} تهديدٌ شديد أي اعملوا على طريقتكم إني عاملٌ على طريقتي كأنه يقول: اثبتوا على ما أنتم عليه من الكفر والعداوة، فأنا ثابت على الإِسلام والمصابرة {سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ} أي سوف تعلمون الذي يأتيه عذاب يذله ويهينه {وَمَنْ هُوَ كَاذِبٌ} أي وتعلمون من هو الكاذب {وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ} أي انتظروا عاقبة أمركم إنني منتظر معكم {وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْبًا وَالَّذِينَ ءامنوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا} أي ولما جاء أمرنا بإِهلاكهم نجينا شعيباً والمؤمنين معه بسبب رحمة عظيمة منا لهم {وَأَخَذَتْ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ} أي وأخذ أولئك الظالمين صيحةُ العذاب، قال القرطبي: صاح بهم جبريل صيحةً فخرجت أرواحهم من أجسادهم {فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ} أي موتى هامدين لا حراك بهم، قال ابن كثير: وذكر ههنا أنه أتتهم صيحة، وفي الأعراف رجفة، وفي الشعراء عذاب يوم الظلة، وهم أمةٌ واحدة اجتمع عليهم يوم عذابهم هذه النقم كلّها، وإِنما ذكر في كل سياقٍ ما يناسبه {كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا} أي كأنّهم لم يعيشوا ويقيموا في ديارهم قبل ذلك { أَلا بُعْدًا لِمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ} قال الطبري: أي ألا أبعد الله مدين من رحمته بإِحلال نقمته، كما بعدت من قبلهم ثمود من رحمته بإِنزال سخطه بهم.



إعراض قوم موسى واتباعهم لفرعون



{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ(96)إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلإِيْهِ فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ(97)يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمْ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ(98)وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ(99)}



{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ} هذه هي القصة السابعة وهي آخر القصص في هذه السورة والمعنى: لقد أرسلنا موسى بشرائع وأحكام وتكاليف إِلهية، وأيدناه بمعجزاتٍ قاهرة، وبينات باهرة، كالعصا واليد {إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلإِيْهِ} أي إِلى فرعون وأشراف قومه {فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ} أي فأطاعوا أمر فرعون وعصوا أمر الله {وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ} أي وما أمر فرعون بسديد لأنه ليس فيه رشد ولا هدى، وإِنما هو جهل وضلال {يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} أي يتقدم أمامهم إِلى النار يوم القيامة كما كان يتقدمهم في الدنيا {فَأَوْرَدَهُمْ النَّارَ} أي أدخلهم نار جهنم {وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ} أي بئس المدخل المدخول هي {وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ لَعْنَةً} أي أُلحقوا فوق العذاب الذي عجله الله لهم لعنةً في الدنيا {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ} أي وأُردفوا بلعنةٍ أخرى يوم القيامة {بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ} أي بئس العونُ المُعان والعطاء المُعْطى لهم، وهي اللعنة في الدارين.



العظة والاعتبار من الأمم الظالمة



{ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَائِمٌ وَحَصِيدٌ(100)وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمْ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ(101)وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ(102)}



{ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ} أي ذلك القصص من أخبار القرى التي أهلكنا أهلها بكفرهم وتكذيبهم الرسل، نقصه عليك يا محمد ونخبرك عنه بطريق الوحي {مِنْهَا قَائِمٌ وَحَصِيدٌ} أي من هذه القرى ما هو عامر قد هلك أهلُه وبقي بنيانُه، ومنها ما هو خراب قد اندثر بأهله فلم يبق له أثر كالزرع المحصود {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ} أي وما ظلمناهم بإِهلاكهم بغير ذنب، ولكنْ ظلموا أنفسهم بالكفر والمعاصي فاستحقوا عذاب الله ونقمته {فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمْ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ} أي ما نفعتهم آلهتهم التي عبدوها من دون الله، ولا دفعت عنهم شيئاً من عقاب الله وعذابه {لَمَّا جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ} أي حين جاء قضاء الله بعذابهم {وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ} أي وما زادتهم تلك الآلهة غير تخسير وتدمير {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ} أي مثل ذلك الأخذ والإِهلاك الذي أخذ الله به أهل القرى الظالمين المكذبين، يأخذ تعالى بعذابه الفجرة الظلمة، قال الألوسي: وفي الآية من إِنذار الظالم ما لا يخفى كما قال عليه السلام (إِن الله ليُملي للظالم حتى إِذا أخذه لم يفلته) ثم قرأ الآية {إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} أي إِن عذابه موجع شديد، وهذا مبالغة في التهديد والوعيد.



العبرة بجزاء الآخرة لكل من الأشقياء والسعداء



{إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيةً لِمَنْ خَافَ عَذَابَ الآخِرَةِ ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ(103)وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلا لأَجَلٍ مَعْدُودٍ(104)يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ(105)فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ(106)خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إِلا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ(107)وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إِلا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ(108)فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هَؤُلاءِ مَا يَعْبُدُونَ إِلا كَمَا يَعْبُدُ آبَاؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنقُوصٍ(109)}



{إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيةً لِمَنْ خَافَ عَذَابَ الآخِرَةِ} أي إِن في هذه القصص والأخبار لعظة وعبرة لمن خاف عذاب الله وعقابه في الآخرة {ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ} أي يجتمع فيه الخلائق للحساب والثواب والعقاب {وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ} أي يشهده أهل السماء والأرض، والأولون والآخرون، قال ابن عباس: يشهده البر والفاجر {وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلا لأَجَلٍ مَعْدُودٍ} أي ما نؤخر ذلك اليوم - يوم القيامة - إِلا لزمنٍ معيَّن سبق به قضاء الله، لا يتقدم ولا يتأخر {يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلا بِإِذْنِهِ} أي يوم يأتي ذلك اليوم الرهيب لا يتكلم أحدٌ إِلا بإِذن الله تعالى { فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ} أي فمن أهل الموقف شقيٌّ، ومنهم سعيد كقوله {فريقٌ في الجنة وفريقٌ في السعير} {فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا} أي فأما الأشقياء الذين سبقت لهم الشقاوة فإِنهم مستقرون في نار جهنم، لهم من شدة كربهم {زَفِيرٌ} وهو إِخراج النَّفَس بشدة {وَشَهِيقٌ} وهو ردٌّ النَّفَس بشدة، وقال بعض المفسرين: شبِّه صراخهم في جهنم بأصوات الحمير، قال الطبري: في روايته عن قتادة: صوتُ الكافر في النار صوت الحمار، أوله زفير وآخره شهيق {خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ} أي ماكثين في جهنم أبداً على الدوام ما دامت السماوات والأرض، قال الطبري: إِن العرب إِذا أرادت أن تصف الشيء بالدوام أبداً قالت: هذا دائمٌ دوام السماوات والأرض بمعنى أنه دائمٌ أبداً، فخاطبهم جل ثناؤه بما يتعارفون به بينهم، قال ابن زيد: ما دامت السماء سماءً، والأرض أرضاً والمعنى خالدين فيها أبداً، وقال الزمخشري: فيه وجهان: أحدهما أن تراد سماوات الآخرة وأرضها وهي دائمة مخلوقة للأبد، والثاني: أن يكون عبارة عن التأبيد ونفي الانقطاع {إِلا مَا شَاءَ رَبُّكَ} الاستثناء في أهل التوحيد، لأن لفظة {شَقُوا} تعم الكفار والمذنبين، فاستثنى الله من خلود أهل الشقاوة العصاة من المؤمنين، فإِنهم يطهرون في نار جهنم ثم يخرجون منها بشفاعة سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم ويدخلهم الله الجنة ويقال لهم: {طبتم فادخلوها خالدين} {إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} أي يفعل ما يريد يرحم ويعذب كما يشاء ويختار، لا معقّب لحكمه، ولا رادّ لقضائه {وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إِلا مَا شَاءَ رَبُّكَ} هذا بيانٌ لحال الفريق الثاني "أهل السعادة" اللهم اجعلنا منهم أي وأما السعداء الأبرار فإِنهم مستقرون في الجنة، لا يُخْرجون منها أبداً، دائمون فيها دوام السماوات والأرض، أو ما دامت سماواتُ الجنة وأرض الجنة حسب مشيئته تعالى، وقد شاء تعالى لهم الخلود والدوام {عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ} أي عطاءً غير مقطوع عنهم، بل هو ممتد إِلى غير نهاية {فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هَؤُلاءِ} أي لا تكن في شكٍ من عبادة هؤلاء المشركين في أنها ظلال بمعنى لا تشك في فساد دينهم {مَا يَعْبُدُونَ إِلا كَمَا يَعْبُدُ آبَاؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ} أي هم متبعون لآبائهم تقليداً من غير حجة ولا برهان، وهذه تسلية للرسول صلى الله عليه وسلم ووعدٌ له بالانتقام منهم، إِذ حالُهم حالُ من سبقهم من الضالين المكذبين، وقد بلغك ما نزل بأسلافهم فسينزل بهم مثله {وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنقُوصٍ} أي وسنعطيهم جزاءهم من العذاب كاملاً غير منقوص، وقال ابن عباس: ما قُدِّر لهم من الخير والشر.



اختلاف الناس على أنبيائهم بين مؤمن بهم وكافر



{وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ(110)وَإِنَّ كُلا لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ إِنَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ(111)}



{وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ} قال الطبري: يقول تعالى مسلياً نبيه في تكذيب مشركي قومه له: لا يحزنك يا محمد تكذيب هؤلاء لك، فلقد آتينا موسى التوراة كما آتيناك الفرقان، فاختلف في ذلك الكتاب، فكذَّب به بعضُهم، وصدَّق به بعضُهم، كما فعل قومك {وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ} أي ولولا حكم الله السابق بتأخير الحساب والجزاء إِلى يوم القيامة لقُضي بينهم في الدنيا فجوزي المحسن بإِحسانه، والمسيء بإِساءته، ولكن سبق القدر بتأخير الجزاء إِلى يوم الحساب {وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ} أي وإِن كفار قومك لفي شك من هذا القرآن مُريب لهم، إِذ لا يدرون أحقٌ هو أم باطل؟ {وَإِنَّ كُلا لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ} أي وإِنَّ كلاً من المؤمنين والكافرين لمَّا ينالوا جزاء أعمالهم وسيوفيهم ربُّك جزاءها في الآخرة {إِنَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} أي عليمٌ بأعمالهم جميعاً، صغيرها وكبيرها، وسيجازيهم عليها.



الأمر بالاستقامة والتحذير من الركون إلى الظلمة



{فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ(112)وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمْ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لا تُنصَرُونَ(113)}



{فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ} أي استقم يا محمد على أمر الله واثبُت وداوم على الاستقامة كما أمركَ ربُّك {وَمَنْ تَابَ مَعَكَ} أي ومن تاب من الشرك والكفر وآمن معك {وَلا تَطْغَوْا} أي لا تجاوزوا حدود الله بارتكاب المحارم {إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} أي إِنه تعالى مطّلع على أعمالكم ويجازي عليها {وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمْ النَّارُ} أي لا تميلوا إلى الظلمة من الولاة وغيرهم من الفسقة الفجرة فتمسكم نار جهنم، قال البيضاوي: الركونُ هو الميل اليسير أي لا تميلوا إِليهم أدنى ميل فتمسكم النار بركونكم إِليهم، وإِذا كان الركونُ اليسير إِلى من وجد منه ما يسمى ظلماً كذلك، فما ظنك بالركون إِلى الظالمين الموسومين بالظلم، والميل إِليهم كلَّ الميل؟! {وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لا تُنصَرُونَ} أي ليس لكم من يمنعكم من عذابه ثم لا تجدون من ينصركم من ذلك البلاء، قال القرطبي: والآية دالة على هجران أهل الكفر والمعاصي فإِن صحبتهم كفرٌ أو معصية إِذْ الصحبةُ لا تكون إِلا عن مودَّة، وأما صحبة الظالم على التقيَّة فمستثناةٌ من النهي بحال الاضطرار.



الاستعانة بالطاعات على إذهاب السيئات



{وَأَقِمْ الصَّلاةَ طَرَفي النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ(114)وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ(115)}



{وَأَقِمْ الصَّلاةَ طَرَفي النَّهَارِ} أي أقم الصلاة المكتوبة على تمامها وكمالها أول النهار وآخره، والمراد صلاة الصبح والعصر لأنهما طرفا النهار {وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ} أي ساعاتٍ منه قريبةً من النهار، والمراد بهما المغرب والعشاء {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} أي إِن الأعمال الصالحة ومنها الصلوات الخمس تكفّر الذنوب الصغائر، لحديث (الصلواتُ الخمسُ كفارةٌ لما بينها ما اجتُنبتْ الكبائرُ) قال المفسرون: المراد بالحسنات الصلواتُ الخمسُ واستدلوا على ذلك بسبب النزول، وهذا قول الجمهور، والأظهر أن المراد بها العموم وهو اختيار ابن كثير حيث قال: المعنى إِن فعل الخيرات يكفّر الذنوب السالفة كما جاء في الحديث (ما من مسلم يُذنب ذنباً فيتوضأ ويصلي ركعتين إِلا غُفر له) {ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ} أي ذلك المذكور من الاستقامة والمحافظة على الصلاة، عظةٌ للمتعظين وإِرشادٌ للمسترشدين {وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} أي اصبر يا محمد على ما تلقى من المكاره ومن أذى المشركين، فإِنَّ الله معك وهو لا يضيع ثواب المحسنين.



عاقبة ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر



{فَلَوْلا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُوْلُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الأرْضِ إِلا قَلِيلا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ(116)وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ(117)وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ(118)إِلا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ(119)}



{فَلَوْلا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُوْلُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الأرْضِ} أي فهلاَّ كان من الأمم الماضية قبلكم أُولُو عقل وفضل، وجماعةٌ أخيارٌ ينهون الأشرار عن الإِفساد في الأرض {إِلا قَلِيلا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ} استثناء منقطع أي لكنْ قليلاً منهم، نهَوْا عن الفساد فَنَجَوْا قال أبو حيّان: "لولا" في الآية للتحضيض صحبها معنى التأسف والتفجع مثل قوله {يا حسرةً على العباد} والغرضُ التأسف على تلك الأمم التي لم تهتد كقوم نوح وعاد وثمود ومن تقدم ذكره {وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ} أي واتَّبع أولئك الظلمة شهواتهم، وما نُعّموا به من الاشتغال بالمال واللذات وآثروها على الآخرة {وَكَانُوا مُجْرِمِينَ} أي وكانوا قوماً مصرِّين على الإِجرام {وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} أي ما جرت عادة الله تعالى أن يهلك القرى ظلماً وأهلُها مصلحون في أعمالهم، لأنه تعالى منزّه عن الظلم، وإِنما يهلكهم بكفرهم ومعاصيهم {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً} أي لو شاء الله لجعل الناس كلَّهم مؤمنين مهتدين على ملة الإِسلام، ولكنَّه لم يفعل ذلك للحكمة {وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ} أي ولا يزالون مختلفين على أديان شتى، وملل متعددة ما بين يهودي، ونصراني، ومجوسي، {إِلا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ} إِلا ناساً هداهم الله من فضله وهم أهل الحق {وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} اللام لامُ العاقبة أي خلقهم لتكون العاقبة اختلافهم ما بين شقي وسعيد، قال الطبري: المعنى وللاختلاف بالشقاء والسعادة خلقهم، فريق في الجنة، وفريقٌ في السعير {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} أي تمَّ أمر الله ونفذ قضاؤه بأن يملأ جهنم من الجنّ والإِنس من الكفرة الفجرة جميعاً، قال الألوسي: والجملة متضمنة معنى القسم ولذا جيء باللام في {لأَمْلأَنَّ} وكأنه قال: واللهِ لأملأن جهنم من أتباع إِبليس من الإِنس والجن أجمعين.



الحكمة من قصص الأنبياء والحث على مزيد من الطاعات



{وَكُلا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ(120)وَقُلْ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنَّا عَامِلُونَ(121)وَانتَظِرُوا إِنَّا مُنتَظِرُونَ(122)وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ(123)}



{وَكُلا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ} أي كل هذه الأخبار التي قصصناها عليك يا محمد من أخبار الرسل السابقين، إِنما هي بقصد تثبيتك على أداء الرسالة، وتطمين قلبك، ليكون لك بمن مضى من إِخوانك المرسلين أسوة فتصبر كما صبروا {وَجَاءكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ} أي جاءك في هذه القصص التي قصها الله عليك النبأ اليقيني الصادق {وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} أي وجاءك في هذه الأخبار أيضاً ما فيه عظة وعبرة للمعتبرين، وخصَّ المؤمنين بالذكر لانتفاعهم بمواعظ القرآن {وَقُلْ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنَّا عَامِلُونَ} أي اعملوا على طريقتكم ومنهجكم إِنا عاملون على طريقتنا ومنهجنا، وهو أمرٌ ومعناه التهديد والوعيد {وَانتَظِرُوا إِنَّا مُنتَظِرُونَ} تهديدٌ آخر أي انتظروا ما يحلُّ بنا إِنا منتظرون ما يحل بكم من عذاب الله {وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} أي علمُ ما غاب وخفي فيهما، كلُّ ذلك بيده وبعلمه {وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الأَمْرُ كُلُّهُ} أي إِليه يردُّ أمر كل شيء، فينتقم ممن عصى، ويثيب من أطاع وفيه تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم وتهديد للكفار بالانتقام منهم {فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ} أي اعبد ربَّك وحده، وفوّض إِليه أمرك، ولا تعتمدْ على أحدٍ سواه، فإِنه كافي من توكَّل عليه {وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} أي لا يخفى عليه شيء من أعمال العباد، ويجازي كلاً بعمله

yacine414
2011-03-26, 11:31
سورة يوسف

الإشارة إلى بعض وجوه الإعجاز في القرآن الكريم

تبشير يعقوبُ عليه السلام يوسفَ بالنبوة

التآمر للتخلص من يوسف "عليه السلام"

التخلص من يوسف "عليه السلام" ، وتلبيس الأمر على أبيه "عليه السلام"

نجاة يوسف "عليه السلام" من الهلاك المحتم

تحقق بشارة يعقوب "عليه السلام" بنبوة يوسف "عليه السلام"

محنة يوسف عليه السلام مع امرأة العزيز

مكيدة امرأة العزيز لنساء مصر وإيثار يوسف السجن على الوقوع في الفاحشة

دخول يوسف إلى السجن ودعوته لدينه فيه

تأويل رؤيا صاحبيه داخل السجن بوحي من الله عز وجل

تأويل رؤيا الملك

مطالبة يوسف الملك بالتحقيق في التهمة التي وجهت إليه

النفس أمَّارة بالسوء

يوسف في رئاسة الحكم ووزارة المالية

أخوة يوسف يشترون القمح من أخيهم يوسف

كلام إخوة يوسف مع أبيهم لإرسال أخيهم بنيامين معهم

وصية يعقوب لأولاده بالدخول متفرقين

حرص يوسف على إبقاء أخيه بنيامين لديه

نقاش حاد بين يوسف وإخوته حول السرقة

إخبار يوسف إخوته بحقيقة أمره واعترافهم بخطئهم

إخبار يعقوب بريح يوسف وتأييد قوله

لقاء أسرة يعقوب عليه السلام في مصر

توجه يوسف عليه السلام بالدعاء لربه

إخبار النبي صلى الله عليه وسلم بقصص الماضين تثبيتاً لصدق دعوته

العبرة من قصص الماضين في القرآن



بَيْن يَدَيْ السُّورَة



*سورة يوسف إحدى السور المكية التي تناولت قصص الأنبياء، وقد أفردت الحديث عن قصة نبي الله "يوسف بن يعقوب" وما لاقاه عليه السلام من أنواع البلاء، ومن ضروب المحن والشدائد، من إخوته ومن الآخرين، في بيت عزيز مصر، وفي السجن، وفي تآمر النسوة، حتى نجاه الله من ذلك الضيق، والمقصودُ بها تسلية النبي صلى الله عليه وسلم بما مرَّ عليه من الكرب والشدة، وما لاقاه من أذى القريب والبعيد.



*والسورة الكريمة أسلوبٌ فذٌ فريد، في ألفاظها، وتعبيرها، وأدائها، وفي قَصَصها الممتع اللطيف، تسري مع النفس سريان الدم في العروق، وتجري-برقتها وسلاستها- في القلب جريان الروح في الجسد، فهي وإن كانت من السورة المكية، التي تحمل -في الغالب- طابع الإنذار والتهديد، إلا أنها اختلفت عنها في هذا الميدان، فجاءت طريَّةً نَدِيّة، في أسلوب ممتع لطيف، سَلِسٍ رقيق، يحمل جو الأنس والرحمة، والرأفة والحنان، ولهذا قال خالدُ بن مَعْدان : "سورة يوسف ومريم ممَّا يتفكَّه بها أهل الجنة في الجنة" وقال عطاء: "لا يسمع سورة يوسف محزونٌ إلا استراح إليها".



*نزلت السورة الكريمة على رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد سورة "هود"، في تلك الفترة الحرجة العصبية من حياة الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم، حيث توالت الشدائد والنكبات عليه وعلى المؤمنين، وبالأخص بعد أن فقد عليه السلام نصيريه: زوجه الطاهر الحنون "خديجة" وعمَّه "أبا طالب" الذي كان له خير نصير، وخير معين، وبوفاتهما اشتد الأذى والبلاء على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى المؤمنين، حتى عُرف ذلك العام بـ "عام الحُزْن".



*وفي تلك الفترة العصبية من حياة الرسول الكريم، وفي ذلك الوقت الذي كان يعاني فيه الرسول والمؤمنون الوحشة والغربة، والانقطاع في جاهلية قريش، كان الله سبحانه ينزِّل على نبيه الكريم هذه السورة تسليةً له، وتخفيفاً لآلامه، بذكر قصص المرسلين، وكأن الله تعالى يقول لنبيه عليه السلام:لا تحزن يا محمد ولا تتفجع لتكذيب قومك، وإيذائهم لك، فإن بعد الشدة فَرَجاً، وإن بعد الضيق مخرجاً، أُنظر إلى أخيك "يوسف" وتمعَّنْ ما حدث له من صنوف البلايا والمِحَن، وألوان الشدائد والنكبات، وما ناله من ضروب المِحَن: محنة حَسد إخوته وكيدهم له، ومحنة رميه في الجب، ومحنة تعلق امرأة العزيز به وعشقها له، ثم مراودته عن نفسه بشتى طرق الفتنة والإغراء، ثم محنة السجن بعد ذلك العزِّ ورغد العيش!! انظر إليه كيف أنه لما صبر على الأذى في سبيل العقيدة، وصبر على الضر والبلاء، نقله الله من السجن إلى القصر، وجعله عزيزاً في أرض مصر، وملَّكه الله خزائنها، فكان السيد المطاع، والعزيز المكرَّم.. وهكذا أفعل بأوليائي، ومن صبر على بلائي، فلا بدَّ أن توطَّد النفس على تحمل البلاء، اقتداءً بمن سبقك من المرسلين {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ} [الأحقاف: 35] {وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلا بِاللَّهِ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ} [النحل: 127].



* وهكذا جاءت قصة يوسف تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم عما يلقاه، وجاءت تجمل البِشْرَ والأنس، والراحة، والطمأنينة لمن سار على درب الأنبياء، فلا بدَّ من الفرج بعد الضيق، ومن اليسر بعد العُسر، وفي السورة دروسٌ وعبر، وعظات بالغات، حافلات بروائع الأخبار العجيبة، والأنباء الغريبة {لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} [ق: 37].



*هذا هو جوُّ السورة، وهذه إيحاءاتُها ورموزُها.. تُبشِّر بقرب النصر، لمن تمسَّك بالصبر، وسار على طريق الأنبياء والمرسلين، والدعاء المخلصين، فهي سلوى للقلب، وبلسمٌ للجروح، وقد جرت عادة القرآن الكريم بتكرير القصة في مواطن عديدة، بقصد "العظة والاعتبار" ولكنْ بإيجاز دون توسع، لاستكمال جميع حلقات القصة، وللتشويق إلى سماع الأخبار دون سآمة أو ملل، وأما سورة يوسف فقد ذُكرت حلقاتها هنا متتابعة بإسهاب وإطناب، ولم تكرر في مكان آخر كسائر قَصص الرسل، لتشير إلى "إعجاز القرآن" في المجمل والمفصَّل، وفي حالتي الإيجاز والإطناب، فسبحان المَلِك العلي الوهاب.



قال العلامة القرطبي: ذكر الله أقاصيص الأنبياء في القرآن، وكررها بمعنى واحد، وفي وجوه مختلفة، وبألفاظ متباينة، على درجات البلاغة والبيان، وذكر قصة يوسف عليه السلام ولم يكررها، فلم يقدر مخالف على معارضة المكرر، ولا على معرضة غير المكرر، والإعجاز واضح لِمَنْ تأمل. وصدق الله {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُوْلِي الأَلْبَابِ}!.



قال الله تعالى: {تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ}.. إلى {آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ}.من آية (1) إلى نهاية آية (22).



الإشارة إلى بعض وجوه الإعجاز في القرآن الكريم



{الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ(1)إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ(2)نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنْ الْغَافِلِينَ(3)}



{الر} إشارة إلى الإِعجاز، فمن هذه الحروف وأمثالها تتألف آيات الكتاب المعجز {تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ} أي تلك الآيات التي أنزلت إليك يا محمد هي آيات الكتاب المعجز في بيانه، الساطع في حججه وبراهينه، الواضح في معانيه، الذي لا تشتبه حقائقه، ولا تلتبس دقائقُه {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا} أي أنزلناه بلغة العرب كتاباً عربياً مؤلفاً من هذه الأحرف العربية {لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} أي لكي تعقلوا وتدركوا أن الذي يصنع من الكلمات العادية هذا الكتاب المعجز ليس بشراً، وإنما هو إله قدير، وهذا الكلام وحيٌ منزل من رب العالمين {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ} أي نحن نحدثك يا محمد ونروي لك أخبار الأمم السابقة، بأصدق كلام، وأحسن بيان، {بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ} أي بإيحائنا إليك هذا القرآن المعجز {وَإِنْ كُنتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنْ الْغَافِلِينَ} أي وإنَّ الحال والشأن أنك كنتَ من قبل أن نوحي إليك هذا القرآن لمن الغافلين عن هذه القصة، لم تخطر ببالك، ولم تقرعْ سمعك، لأنك أميٌّ لا تقرأ ولا تكتب.



تبشير يعقوبُ عليه السلام يوسفَ بالنبوة



{إِذْ قَالَ يُوسُفُ لأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ(4)قَالَ يَا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلإِنسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ(5)وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ(6)}



{إِذْ قَالَ يُوسُفُ لأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا} من هنا بدايةُ القصة، أي اذكر حين قال يوسفُ لأبيه يعقوب يا أبي إني رأيت في المنام هذه الرؤيا العجيبة، رأيت أحد عشر كوكباً من كواكب السماء خرّت ساجدةً لي {وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ} أي ورأيت في المنام الشمس والقمر ساجدين لي مع الكواكب، قال ابن عباس: كانت الرؤيا فيهم وحياً، قال المفسرون: الكواكب الأحد عشر كانت إخوته، والشمس والقمر أبواه، وكان سنه إذ ذاك اثنتي عشرة سنة، وبين هذه الرؤيا واجتماعه بأبيه وإخوته في مصر أربعون سنة {قَالَ يَا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ} أي قال له يعقوب: لا تخبرْ بهذه الرؤيا إِخوتك {فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا} أي فيحتالوا لإِهلاكك حيلةً عظيمة لا تقدر على ردّها {إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلإِنسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ} أي ظاهر العداوة، قال أبو حيان: فهم يعقوب من رؤيا يوسف أن الله تعالى يبلّغه مبلغاً من الحكمة، ويصطفيه للنبوة،وينعم عليه بشرف الدارين، فخاف عليه من حسد إخوته فنهاه أن يقصَّ رؤياه عليهم {وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ} أي وكما أراك مثل هذه الرؤيا العظيمة كذلك يختارك ربك للنبوة {وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ} أي يعلمك تفسير الرؤيا المناميَّة {وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ} أي يتمم فضله وإنعامه عليك وعلى ذرية أبيك يعقوب {كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ} أي كما أكمل النعمة من قبل ذلك على جدك إبراهيم وجدك إسحاق بالرسالة والاصطفاء {إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} أي عليمٌ بمن هو أهلٌ للفضل، حكيم في تدبيره لخلقه.



التآمر للتخلص من يوسف "عليه السلام"



{لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ(7)إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ(8)اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوْ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ(9)قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ لا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنتُمْ فَاعِلِينَ(10)}



{لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ} أي لقد كان في خبر يوسف وإخوته الأحد عشر عبرٌ وعظاتٌ للسائلين عن أخبارهم {إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا} هذه هي المحنة الأولى ليوسف عليه السلام أي حين قالوا: والله ليوسفُ وأخوه "بنيامين" أحبُّ منَّا عند أبينا، أرادوا أن زيادة محبته لهما أمر ثابتٌ لا شبهة فيه، وإنما قالوا {وأخوه} وهم جميعاً إخوة لأن أمهما كانت واحدة {وَنَحْنُ عُصْبَةٌ} أي والحال نحن جماعة ذوو عدد، نقدر على النفع والضر، بخلاف الصغيرين {إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} أي إنه في خطأٍ وخروجٍ عن الصواب بيّن واضح، لإِيثاره يوسف وأخاه علينا بالمحنة، قال القرطبي: لم يريدوا ضلال الدين إذ لو أرادوه لكفروا، وإنما أرادوا أنه في خطأٍ بيِّن في إيثار اثنين على عشرة {اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوْ اطْرَحُوهُ أَرْضًا} أي أُقتلوا يوسف أو ألقوه في أرض بعيدة مجهولة {يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ} أي فعند ذلك يخلصْ ويصفو لكم حبُّ أبيكم، فيُقْبل عليكم، قال الرازي: المعنى إن يوسف شغله عنا وصرف وجهه إليه، فإذا فقده أقبل علينا بالمحبة والميل {وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ} أي وتتوبوا من بعد هذا الذنب وتصبحوا قوماً صالحين {قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ لا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ} أي قال لهم أخوهم "يهوذا" وهو أكبر ولد يعقوب: لا تقتلوا يوسف بل ألقوه في قعر الجب وغوره {يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ} أي يأخذه بعض المارَّة من المسافرين {إِنْ كُنتُمْ فَاعِلِينَ} أي إن كان لا بدَّ من الخلاص منه فاكتفوا بذلك، وكان رأيه فيه أهون شراً من رأي غيره.



التخلص من يوسف "عليه السلام" ، وتلبيس الأمر على أبيه "عليه السلام"



{قَالُوا يَا أَبَانَا مَا لَكَ لا تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ(11)أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدًا يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ(12)قَالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ(13)قَالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذًا لَخَاسِرُونَ(14)فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ(15)وَجَاءوا أَبَاهُمْ عِشَاءً يَبْكُونَ(16)قَالُوا يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِنْدَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ(17)وَجَاءوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ(18)}





{قَالُوا يَا أَبَانَا مَا لَكَ لا تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ} المعنى أيُّ شيء حدث لك حتى لا تأمنا على أخينا يوسف، ونحن جميعاً أبناؤك؟ {وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ} أي ونحن نشفق عليه ونريد له الخير، قال المفسرون: لما أحكموا العزْم ذكروا هذا الكلام وأظهروا عند أبيهم أنهم في غاية المحبة ليوسف، وفي غاية الشفقة عليه، ليستنزلوه عن رأيه في تخوفه منهم وكأنهم قالوا: لِمَ تخافنا عليه ونحن نحبه ونريد الخير به ‍‍ {أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدًا يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ} أي أرسله معنا غداً إلى البادية، يتوسع في أكل ما لذَّ وطاب، ويلهو ويلعب بالاستباق وغيره {وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} أي ونحن نحفظه من كل سوء ومكروه، أكّدوا كلامهم بإنَّ واللام وهم كاذبون {قَالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ} أي قال لهم يعقوب: إنه ليؤلمني فراقُه لقلة صبري عنه {وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ} أي وأخاف أن يفترسه الذئب في حال غفلتكم عنه، وكأنه لقنهم الحجة، قال الزمخشري: اعتذر إليهم بشيئين: أحدهما: أن ذهابهم به ومفارقته إيّاه مما يحزنه لأنه كان لا يصبر عنه ساعة، والثاني: خوفه عليه من الذئب إذا غفلوا عنه برعيهم ولعبهم {قَالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذًا لَخَاسِرُونَ} اللام للقسم أي والله لئن أكله الذئب ونحن جماعة أقوياء أشداء إنا لمستحقون أن يُدعى علينا بالخسار والدمار {فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ} في الكلام محذوف أي فأرسله معهم فلما أخذوه وابتعدوا به عن أبيه {وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ} أي عزموا واتفقوا على إلقائه في غور الجب {وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} أي أوحينا إلى يوسف لتخبرنَّ إخوتك بفعلهم هذا الذي فعلوه بك وهم لا يشعرون في ذلك الوقت أنك يوسف، قال الرازي: وفائدة هذا الوحي تأنيسُه، وتسكينُ نفسه، وإزالةُ الغمّ والوحشةِ عن قلبه، بأنه سيحصل له الخلاص من هذه المحنة {وَجَاءوا أَبَاهُمْ عِشَاءً يَبْكُونَ} أي رجعوا إلى أبيهم وقت العشاء ليلاً وهم يبكون، روي أنه لما سمع يعقوب بكاءهم فزع، وقال: ما لكم يا بَنيَّ، وأين يوسف؟ {قَالُوا يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ} أي نتسابق في العَدْو، أو في الرمي {وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِنْدَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ} أي تركنا يوسف عند ثيابنا وحوائجنا ليحفظها فجاء الذئب فافترسه {وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ} أي لست بمصدّق لنا في هذه المقالة ولو كنا في الواقع صادقين، فكيف وأنت تتهمنا وغير واثق بقولنا؟ وهذا القول منهم يدل على الارتياب، وكما قيل: يكاد المريبُ يقول خذوني {وَجَاءوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ} أي جاءوا على ثوبه بدمٍ كاذب، وُصِفَ بالمصدر مبالغةً كأنه نفسُ الكذب وعينُه، قال ابن عباس: ذبحوا شاة ولطخوا بدمها القميص فلما جاءوا يعقوب قال: كذبتم لو أكله الذئب لخرقَ القميص وروي أنه قال: "ما أحلم هذا الذئب أكل ابني ولم يشقَّ قميصه؟ {قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا} أي زيَّنت لكم أنفسكم أمراً في يوسف وليس كما زعمتم أن الذئب أكله {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ} أي أمري صبرٌ جميل لا شكوى فيه {وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} أي وهو سبحانه عوني على تحمل ما تصفون من الكذب.



نجاة يوسف "عليه السلام" من الهلاك المحتم



{وَجَاءتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وَارِدَهُمْ فَأَدْلَى دَلْوَهُ قَالَ يَا بُشْرَى هَذَا غُلامٌ وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ(19)وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ(20)}



{وَجَاءتْ سَيَّارَةٌ} أي قوم مسافرون مروا بذلك الطريق، قال ابن عباس: جاء قوم يسيرون من مدين إلى مصر فأخطأوا الطريق فانطلقوا يهيمون حتى هبطوا على الأرض التي فيها جب يوسف، وكان الجب في قفرة بعيدة عن العمران {فَأَرْسَلُوا وَارِدَهُمْ} أي بعثوا من يستقي لهم الماء {فَأَدْلَى دَلْوَهُ} أي أرسل دلوه في البئر، قال المفسرون: لما أدلى الواردُ دلوه وكان يوسف في ناحيةٍ من قعر البئر تعلَّق بالحبل فخرج فلما رأى حسنه وجماله نادى {قَالَ يَابُشْرَى هَذَا غُلامٌ} قاله على سبيل السرور والفرح لتبشير نفسه وجماعته، قال أبو السعود: كأنه نادى البشرى وقال تعاليْ فهذا أوانك حيث فاز بنعمة جليلة {وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً} أي أخفوا أمره عن الناس ليبيعوه في أرض مصر متاعاً كالبضاعة، والضمير يعود على الوارد وجماعته {وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ} أي لا يخفى عليه سبحانه أسرارهم، وما عزموا عليه في أمر يوسف {وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ} هذه هي المحنة الثانية في حياة يوسف الصدّيق وهي محنة الاسترقاق أي باعه أولئك المارة الذين استخرجوه من البئر بثمنٍ قليل منقوص هو عشرون درهماً كما قال ابن عباس {وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ} أي وكانوا في يوسف من الزاهدين الذين لا يرغبون فيه لأنهم التقطوه وخافوا أن يكون عبداً آبقاً فينتزعه سيّده من أيديهم، ولذلك باعوه بأبخس الأثمان.



تحقق بشارة يعقوب "عليه السلام" بنبوة يوسف "عليه السلام"



{وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ لامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَنْ يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ(21)وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ(22)}



{وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ لامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ} أي وقال الذي اشتراه من مدينة مصر لزوجته أكرمي إقامته عندنا، قال ابن عباس: كان اسم الذي اشتراه "قطفير" وهو العزيز الذي كان على خزائن مصر {عَسَى أَنْ يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا} أي عسى أن يكفينا بعض المهمات إذا بلغ أو نتبناه حيث لم يكن يولد لهما ولد {وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ} أي وكما نجيناه من الجب جعلناه متمكناً في أرض مصر يعيش فيها بعز وأمان {وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ} أي نوفقه لتعبير بعض المنامات {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ} أي لا يعجزه تعالى شيء {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} أي لا يعلمون لطائف صنعه وخفايا فضله {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ} أي بلغ منتهى شدته وقوته وهو ثلاثون سنة {آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا} أي أعطيناه حكمةً وفقهاً في الدين {وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} أي المحسنين في أعمالهم.



محنة يوسف عليه السلام مع امرأة العزيز



{وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ(23)وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ(24)وَاسْتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً إِلا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ(25)قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ(26)وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ(27)فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ(28)يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ(29)}



{وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ} هذه هي المحنة الثالثة بعد محنة الجب والاسترقاق، والمراودةُ الطلبُ برفقٍ ولين كما يفعل المخادع بكلامه المعسول المعنى: طلبت امرأة العزيز التي كان يوسف في بيتها منه أن يضاجعها، ودعته برفق ولين أن يواقعها، وتوسَّلت إليه بكل وسيلةٍ {وَغَلَّقَتِ الأَبْوَابَ} أي غلّقت أبواب البيوت عليها وعلى يوسف وأحكمت إغلاقها، قال القرطبي: كانت سبعة أبواب غلّقتها ثم دعته إلى نفسها {وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ} أي هلُمَّ وأسرع فليس ثمة ما يُخشى، قال أبو حيّان: أمرته بأن يسرع إليها {قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ} أي عياذاً بالله من فعل السوء، قال أبو السعود: وهذا إشارة إلى أنه منكر هائل يجب أن يعاذ بالله تعالى للخلاص منه، لما أراه الله من البرهان النيِّر على ما فيه من غاية القبح ونهاية السوء {إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ} أي إن زوجك هو سيدي العزيز الذي أكرمني وأحسن تعهدي فكيف أسيء إليه بالخيانة في حَرَمه؟ {إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} أي لا يضفر الظالمون بمطالبهم، ومنهم الخائنون المُجازون الإِحسانَ بالسوء، ثم أخبر تعالى أن امرأة العزيز حاولت إيقاعه في شراكها، وتوسَّلت إليه بكل وسائل الإِغراء، ولولا أنَّ الله جلَّ وعلا حفظه من كيدها لهلك فقال {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ} أي همَّت بمخالطته عن عزمٍ وقصدٍ وتصميم، عزماً جازماً على الفاحشة لا يصرفها عنها صارف، وقصدت إجباره على مطاوعتها بالقوة، بعد أن استحكمت من تغليق الأبواب، ودعوته إلى الإِسراع، مما اضطره إلى الهرب إلى الباب {وَهَمَّ بِهَا} أي مالت نفسه إليها بمقتضى الطبيعة البشرية، وحدثته نفسُه بالنزول عند رغبتها حديث نفسٍ، دون عزمٍ وقصد، فبين الهمَّيْن فرق كبير، قال الإِمام الفخر الرازي: الهمُّ خطورُ الشيء بالبال أو ميلُ الطبع، كالصائم في الصيف يرى الماء البارد فتحمله نفسُه على الميل إليه وطلب شربه، ولكنْ يمنعه دينُه عنه {لَوْلا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ} جوابه محذوفٌ أي لولا حفظ الله ورعايتُه ليوسف، وعصمتُه له لخالطها وأمضى ما حدثته نفسه به، ولكنَّ الله عصمه بالحفظ والتأييد فلم يحصل منه شيءٌ البتَّة، قال أبو حيّان: نسب بعضُهم ليوسف ما لا يجوز نسبتُه لآحاد الفُسَّاق، والذي أختاره أن "يوسف" عليه السلام لم يقع منه همٌّ البتَّة، بل هو منفيٌّ لوجود رؤية البرهان كما تقول: "قارفتَ الذنبَ لولا أن عصمك الله" وكقول العرب: "أنتَ ظالمٌ إن فعلتَ" وتقديره: إن فعلتَ فأنتَ ظالم وكذلك هنا التقدير: لولا أن رأى برهان ربه لهمَّ بها ولكنه وجد رؤية البرهان فانتفى الهمُّ، وأمّا أقوال السلف فنعتقد أنه لا يصح عن أحدٍ منهم شيءٌ من ذلك، لأنها أقوالٌ متكاذبة يناقضُ بعضُها بعضاً مع كونها قادحة في بعض فساق الملل فضلاً عن المقطوع لهم بالعصمة، وقال أبو السعود: إن همَّه بها بمعنى ميله إليها بمقتضى الطبيعة البشرية، ميلاً جبلياً، لا أنه قصدها قصداً اختيارياً، ألا يرى إلى ما سبق من استعصامه المنبئ عن كمال كراهيته له ونفرته عنه، وحكمه بعدم إفلاح الظالمين، وهل هو إلا تسجيلٌ باستحالة صدور الهمّ منه تسجيلاً محكماً؟ وما قيل: إنه حلَّ الهميان، وجلس مجلس الختان، فإنما هي خرافاتٌ وأباطيل، تمجها الآذان، وتردّها العقول والأذهان {كَذَلِكَ} أي ثبتناه على العفة أمام دوافع الفتنة والإِغراء لنصرف عنه المنكر والفجور، وهذه آيةٌ بيِّنة، وحجةٌ قاطعة على أنه عليه السلام لم يقع منه همٌّ بالمعصية، ولو كان كما زعموا لقال "لنصرفه عن السوء والفحشاء" فلما قال {لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ} دلَّ على أن ذلك شيء خارج عن الإِرادة فصرفه الله عنه، بما منحه من موجبات العفة والعصمة {وَالْفَحْشَاءَ} أي لنصرف عنه الزنى الذي تناهى قبحهُ {إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} بفتح اللام أي الذين أخلصهم الله لطاعته، واصطفاهم واختارهم لوحيه ورسالته، فلا يستطيع أن يغويهم الشيطان .. ثم أخبر تعالى بما حصل من المفاجأة العجيبة بقدوم زوجها وهما يتسابقان نحو الباب، ولا تزال هي في هياجها الحيواني {وَاسْتَبَقَا الْبَابَ} أي تسابقا نحو باب القصر، هو للهرب، وهي للطلب {وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ} أي شقت ثوبه من خلف لأنها كانت تلحقه فجذبته فشقت قميصه {وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ} أي وجدا العزيز عند باب القصر فجأة وقد حضر في غير أوان حضوره، وبمهارة فائقة تشبه مهارة إبليس انقلب الوضع فأصبح الظالم مظلوماً، والبريء متهماً {قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً إِلا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} أي ما جزاؤه إلا السجن أو الضرب ضرباً مؤلماً وجيعاً {قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا} أي قال يوسف مكذباً لها: هي التي دعتني إلى مقارفة الفاحشة لا أني أردت بها السوء {وشهد شاهدٌ من أهلها} قال ابن عباس: كان طفلاً في المهد أنطقه الله، وكان ابن خالها، قال أبو حيّان: وكونُه من أهلها أوجب للحجة عليها، وأوثقُ لبراءة يوسف، وأنفى للتهمة {إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ} أي إن كان ثوبُه قد شُقَّ من أمام فهي صادقة وهو كاذب {وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ} أي وإن كان ثوبه قد شُقَّ من الوراء فهي كاذبة وهو صادق، لأن الأمر المنطقي أن يُشق الثوب من خلف إن كانت هي الطالبة له وهو الهارب {فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ} أي فلما رأى زوجها أن الثوب قد شُقَّ من الوراء {قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ} أي إن هذا الأمر من جملة مكركن واحتيالكنَّ أيتها النسوة {إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ} تأكيد لما سبق ذكره أي مكركنَّ معشر النسوة واحتيالكنَّ للتخلص مما دبرتُنَّ شيءٌ عظيم {يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا} أي يا يوسف أكتم هذا الأمر ولا تذكره لأحد، يقول سيد قطب عليه الرحمة والرضوان: وهنا تبدو صورةٌ من "الطبقة الراقية" في المجتمع الجاهلي، رخاوةٌ في مواجهة الفضائح الجنسية، وميلٌ إلى كتمانها عن المجتمع، فيلتفت العزيز إلى يوسف البريء ويأمره بكتم الأمر وعدم إظهاره لأحد، ثم يخاطب زوجهُ الخائن بأسلوب اللباقة في مواجهة الحادث الذي يثير الدم في العروق {وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ} أي توبي واطلبي المغفرة من هذا الذنب القبيح، وكأن هذا هو المهم محافظة على الظواهر {إِنَّكِ كُنتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ} أي من القوم المتعمدين للذنب، وفي هذا إشارة إلى أن العزيز كان قليل الغَيْرة حيث لم ينتقم ممن أرادت خيانته، وتدنيس فراشه بالإِثم والفجور، قال ابن كثير: كان زوجها ليِّن العريكة سهلاً، أو أنه عذرها لأنها رأت ما لا صبر لها عنه.



مكيدة امرأة العزيز لنساء مصر وإيثار يوسف السجن على الوقوع في الفاحشة



{وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلالٍ مُبِينٍ(30)فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّينًا وَقَالَتْ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلا مَلَكٌ كَرِيمٌ(31)قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونَ مِنَ الصَّاغِرِينَ(32)قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ(33)فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ(34)ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوْا الآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ(35)}



{وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ} أي قال جماعة من النساء في مدينة مصر، روي أنهن خمس نسوة: امرأة ساقي العزيز، وامرأة الحاجب، وامرأة الخباز، وامرأة صاحب الدواب، وامرأة صاحب السجن قاله ابن عباس وغيره، والأظهر أن تلك الواقعة شاعت في البلد، واشتهرت وتحدث بها النساء {امْرَأَةُ الْعَزِيزِ} أي امرأة عزيز مصر تطلب من خادمها وعبدها أن يواقعها وتخادعه وتتوسل إليه لقضاء وطرها منه، قال أبو حيان: وتصريحهن بإضافتها إلى العزيز مبالغة في التشنيع، لأن النفوس أميل لسماع أخبار ذوي الجاه، وعبَّرن بـ {تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ} للدلالة على أن ذلك صار سجيّةً لها فهي دائماً تخادعه عن نفسه لأن المضارع يفيد التجدد والاستمرار {قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا} أي بلغ حبُّه شَغَاف قلبها - وهو حجابه - وشقَّه حتى وصل إلى فؤادها {إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} أي إنا لنعتقد أنها في ضلال عن طريق الرشد واضح بسبب حبها إيّاه {فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ} أي فلما سمعت بحديثهن، وسماه مكراً لأنه كان في خفية، كما يخفي الماكر مكره {أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ} أي أرسلت إليهنَّ تدعوهنَّ إلى منزلها لحضور وليمة، قال المفسرون: دعت أربعين امرأةً من الذوات منهن النساء الخمس المذكورات {وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً} أي هيأتْ لهنَّ ما يتكئن عليه من الفرش والوسائد {وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّينًا} في الكلام محذوف أي قدمت لهن الطعام وأنواع الفاكهة ثم أعطت كل واحدةٍ منهنَّ سكيناً لتقطع به {وَقَالَتْ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ} أي وقالت ليوسف وهنَّ مشغولات بتقشير الفاكهة والسكاكين في أيديهن: اخرجْ عليهنَّ فلم يشعرن إلا ويوسف يمرُّ من بينهن {فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ} أي فلما رأين يوسف أعظمْنه وأجللْنه، وبُهتن من جماله ودُهشن {وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ} أي جرحن أيديهن بالسكاكين لفرط الدهشة المفاجئة {وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ} أي تنزَّه الله عن صفات العجز، وتعالت عظمته في قدرته على خلق مثله {مَا هَذَا بَشَرًا} أي ليس هذا من البشر {إِنْ هَذَا إِلا مَلَكٌ كَرِيمٌ} أي ما هو إلا مَلَك من الملائكة، فإن هذا الجمال الفائق، والحسن الرائع مما لا يكاد يوجد في البشر {قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ} صرَّحت عند ذلك بما في نفسها من الحب ليوسف لأنها شعرت بأنها انتصرت عليهن فقالت قولة المنتصرة: هذا الذي رأيتموه هو ذلك العبد الكنعاني الذي لمتُنَّني في محبته، فانظرن ماذا لقيتنَّ منه من الافتتان والدهش والإِعجاب!! {وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ} أي أردت أن أنال وطري منه، وأن أقضي شهوتي معه، فامتنع امتناعاً شديداً، وأبى إباءً عنيفاً، قال الزمخشري: والاستعصام بناء مبالغة يدل على الامتناع البليغ والتحفظ الشديد {وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونَ مِنَ الصَّاغِرِينَ} أي ولئن لم يطاوعني ليعاقبنَّ بالسجن والحبس وليكوننَّ من الأذلاء المهانين، قال القرطبي: عاودته المراودة بمحضرٍ منهنَّ، وهتكتْ جلباب الحياء، وتوعدتْ بالسجن إن لم يفعل، ولم تعد تخشى لوماً ولا مقالاً، خلاف أول أمرها إذ كان ذلك سراً بينها وبينه {قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ} لجأ يوسف إلى ربه وجعل يناجيه في خشوع وتضرع فقال: ربّ السجن آثرُ عندي وأحبُّ إلى نفسي من اقتراف الفاحشة، وأسند الفعل إليهن لأنهن جميعاً مشتركات في الدعوة بالتصريح أو التلويح، وقيل إنها لما توعدته نصحنه وزيَّن له مطاوعتها، ونهينه عن إلقاء نفسه في السجن {وَإِلا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ} أي وإن لم تدفع عني شرهن وتعصمني منهن {أَصْبُ إِلَيْهِنَّ} أي أملْ إلى إجابتهن بمقتضى البشرية {وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ} أي بسبب ما يدعونني إليه من القبيح، وهذا كله على سبيل التضرع والاستغاثة بجناب الله تعالى كعادة الأنبياء والصالحين {فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ} أي أجاب الله دعاءه فنجّاه من مكرهن، وثبَّته على العصمة والعفة {إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ} أي لدعاء الملتجئين إليه {الْعَلِيمُ} بأحوالهم وما انطوت عليه نياتهم .. وهكذا اجتاز يوسف محنته الثالثة بلطف الله ورعايته {ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوْا الآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ} هذه بداية المحنة الرابعة وهي الأخيرة من محن الشدة في حياة يوسف الصّديق وهي "محنة السجن" وكل ما بعدها فرخاء والمعنى ثم ظهر للعزيز وأهله من استشارهم بعد الدلائل القاطعة على براءة يوسف، سجنه إلى مدة من الزمن غير معلومة، روي أن امرأة العزيز لما استعصى عليها يوسف وأيست منه، احتالت بطريق آخر، فقالت لزوجها: إن هذا العبد العبراني قد فضحني في الناس يقول لهم : إني راودته عن نفسه وأنا لا أقدر على إظهار عذري، فإما أن تأذن لي فأخرج وأعتذر، وإما أن تحبسه، فعند ذلك بدا له سجنه، قال ابن عباس: فأمر به فحمل على حمار، وضُرب بالطبل، ونُودي عليه في أسواق مصر، إن يوسف العبراني أراد سيدته فجزاؤه أن يسجن، قال أبو صالح ما ذكر ابن عباس هذا الحديث إلا بكى.



دخول يوسف إلى السجن ودعوته لدينه فيه



{وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا وَقَالَ الآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ(36)قَالَ لا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ(37)وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ(38)يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمْ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ(39)مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ الْحُكْمُ إِلا لِلَّهِ أَمَرَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ(40)}



{وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ} أي أُدخل يوسف السجن واتفق أنه أُدخل حينئذٍ آخران من خدم الملك الخاص أحدهما خبازه، والآخر ساقيه، اتهما بأنهما أرادا أن يسماه فحبسهما { قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا} أي قال الساقي إني رأيت في المنام أني أعصر عنباً يئول إلى خمر وأسقي منه الملك {وَقَالَ الآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ} أي وقال الخباز: إني رأيت في منامي أني أحمل على رأسي طبقاً فيه خبز، والطيرُ تأكل من ذلك الخبز {نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} أي أخبرنا بتفسير ما رأينا إنا نراك من الذين يحسنون تفسير الرؤيا {قَالَ لا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا} أي لا يأتيكما شيء من الطعام إلا أخبرتكما ببيان حقيقته وماهيته وكيفيته قبل أن يصل إليكما، أخبرهما بمعجزاته ومنها معرفة "المغيبات" توطئةً لدعائهما إلى الإِيمان، قال البيضاوي: أراد أن يدعوهما إلى التوحيد ويرشدهما إلى الدين القويم قبل أن يسعفهما إلى ما سألاه عنه، كما هو طريقة الأنبياء في الهداية والإِرشاد، فقدَّم ما يكون معجزة له من الإِخبار بالغيب ليدلهما على صدقه في الدعوة والتعبير {ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي} إن ذلك الإِخبار بالمغيبات ليس بكهانة ولا تنجيم، وإنما هو بإلهامٍ ووحيٍ من الله {إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} أي خصني ربي بذلك العلم لأني من بيت النبوة وقد تركت دين قومٍ مشركين لا يؤمنون بالله {وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ} أي يكذبون بيوم القيامة، نبّه على أصلين عظيمين: الإِيمان بالله، والإِيمان بدار الجزاء، إذ هما أعظم أركان الإِيمان، وكرر لفظة {هم} على سبيل التأكيد {وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ} أي اتبعت دين الأنبياء، لا دين أهل الشرك والضلال، والغرضُ إظهار أنه من بيت النبوة، لتقوى رغبتهما في الاستماع إليه والوثوق بكلامه {مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ} أي ما ينبغي لنا معاشر الأنبياء أن نشرك بالله شيئاً مع اصطفائه لنا وإنعامه علينا {ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ} أي ذلك الإِيمان والتوحيد من فضل الله علينا حيث أكرمنا بالرسالة، وعلى الناس حيث بعث الرسل لهدايتهم وإرشادهم {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ} أي لا يشكرون فضل الله عليهم فيشركون به غيره .. ولما ذكر عليه السلام ما هو عليه من الدين الحنيف الذي هو دين الرسل، تلطَّفَ في حسن الاستدلال على فساد ما عليه قوم الفتيين من عبادة الأصنام فقال {يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمْ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} أي يا صاحبيَّ في السجن أآلهة متعددة لا تنفع ولا تضر ولا تستجيب لمن دعاها كالأصنام، خيرٌ أم عبادة الواحد الأحد، المتفرد بالعظمة والجلال؟! {مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ} أي ما تعبدون يا معشر القوم من دون الله إلا أسماءً فارغة سميتموها آلهة وهي لا تملك القدرة والسلطان لأنها جمادات {مَا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ} أي ما أنزل الله لكم في عبادتها من حجة أو برهان {إِنْ الْحُكْمُ إِلا لِلَّهِ} أي ما الحكم في أمر العبادة والدين إلا لله رب العالمين { أَمَرَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ} أي أمر سبحانه بإفراد العبادة له، لأنه لا يستحقها إلا من له العظمة والجلال {ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ} أي ذلك الذي أدعوكم إليه من إخلاص العبادة لله هو الدين القويم الذي لا اعوجاج فيه {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} أي يجهلون عظمة الله فيعبدون ما لا يضر ولا ينفع .. تدرّج عليه السلام في دعوتهم وألزمهم الحجة بأن بيَّن لهم أولاً رجحان التوحيد على اتخاذ الآلهة المتعددة، ثم برهن على أن ما يسمونها آلهة ويعبدونها من دون الله لا تستحق الألوهية والعبادة، ثم نصَّ على ما هو الحق القويم والدين المستقيم وهو عبادة الواحد الأحد الفرد الصمد، وذلك من الأسلوب الحكيم في الدعوة إلى الله، حيث قدَّم الهداية والإِرشاد، والنصيحة والموعظة.

yacine414
2011-03-26, 11:37
سورة يوسف

الإشارة إلى بعض وجوه الإعجاز في القرآن الكريم

تبشير يعقوبُ عليه السلام يوسفَ بالنبوة

التآمر للتخلص من يوسف "عليه السلام"

التخلص من يوسف "عليه السلام" ، وتلبيس الأمر على أبيه "عليه السلام"

نجاة يوسف "عليه السلام" من الهلاك المحتم

تحقق بشارة يعقوب "عليه السلام" بنبوة يوسف "عليه السلام"

محنة يوسف عليه السلام مع امرأة العزيز

مكيدة امرأة العزيز لنساء مصر وإيثار يوسف السجن على الوقوع في الفاحشة

دخول يوسف إلى السجن ودعوته لدينه فيه

تأويل رؤيا صاحبيه داخل السجن بوحي من الله عز وجل

تأويل رؤيا الملك

مطالبة يوسف الملك بالتحقيق في التهمة التي وجهت إليه

النفس أمَّارة بالسوء

يوسف في رئاسة الحكم ووزارة المالية

أخوة يوسف يشترون القمح من أخيهم يوسف

كلام إخوة يوسف مع أبيهم لإرسال أخيهم بنيامين معهم

وصية يعقوب لأولاده بالدخول متفرقين

حرص يوسف على إبقاء أخيه بنيامين لديه

نقاش حاد بين يوسف وإخوته حول السرقة

إخبار يوسف إخوته بحقيقة أمره واعترافهم بخطئهم

إخبار يعقوب بريح يوسف وتأييد قوله

لقاء أسرة يعقوب عليه السلام في مصر

توجه يوسف عليه السلام بالدعاء لربه

إخبار النبي صلى الله عليه وسلم بقصص الماضين تثبيتاً لصدق دعوته

العبرة من قصص الماضين في القرآن



بَيْن يَدَيْ السُّورَة



*سورة يوسف إحدى السور المكية التي تناولت قصص الأنبياء، وقد أفردت الحديث عن قصة نبي الله "يوسف بن يعقوب" وما لاقاه عليه السلام من أنواع البلاء، ومن ضروب المحن والشدائد، من إخوته ومن الآخرين، في بيت عزيز مصر، وفي السجن، وفي تآمر النسوة، حتى نجاه الله من ذلك الضيق، والمقصودُ بها تسلية النبي صلى الله عليه وسلم بما مرَّ عليه من الكرب والشدة، وما لاقاه من أذى القريب والبعيد.



*والسورة الكريمة أسلوبٌ فذٌ فريد، في ألفاظها، وتعبيرها، وأدائها، وفي قَصَصها الممتع اللطيف، تسري مع النفس سريان الدم في العروق، وتجري-برقتها وسلاستها- في القلب جريان الروح في الجسد، فهي وإن كانت من السورة المكية، التي تحمل -في الغالب- طابع الإنذار والتهديد، إلا أنها اختلفت عنها في هذا الميدان، فجاءت طريَّةً نَدِيّة، في أسلوب ممتع لطيف، سَلِسٍ رقيق، يحمل جو الأنس والرحمة، والرأفة والحنان، ولهذا قال خالدُ بن مَعْدان : "سورة يوسف ومريم ممَّا يتفكَّه بها أهل الجنة في الجنة" وقال عطاء: "لا يسمع سورة يوسف محزونٌ إلا استراح إليها".



*نزلت السورة الكريمة على رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد سورة "هود"، في تلك الفترة الحرجة العصبية من حياة الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم، حيث توالت الشدائد والنكبات عليه وعلى المؤمنين، وبالأخص بعد أن فقد عليه السلام نصيريه: زوجه الطاهر الحنون "خديجة" وعمَّه "أبا طالب" الذي كان له خير نصير، وخير معين، وبوفاتهما اشتد الأذى والبلاء على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى المؤمنين، حتى عُرف ذلك العام بـ "عام الحُزْن".



*وفي تلك الفترة العصبية من حياة الرسول الكريم، وفي ذلك الوقت الذي كان يعاني فيه الرسول والمؤمنون الوحشة والغربة، والانقطاع في جاهلية قريش، كان الله سبحانه ينزِّل على نبيه الكريم هذه السورة تسليةً له، وتخفيفاً لآلامه، بذكر قصص المرسلين، وكأن الله تعالى يقول لنبيه عليه السلام:لا تحزن يا محمد ولا تتفجع لتكذيب قومك، وإيذائهم لك، فإن بعد الشدة فَرَجاً، وإن بعد الضيق مخرجاً، أُنظر إلى أخيك "يوسف" وتمعَّنْ ما حدث له من صنوف البلايا والمِحَن، وألوان الشدائد والنكبات، وما ناله من ضروب المِحَن: محنة حَسد إخوته وكيدهم له، ومحنة رميه في الجب، ومحنة تعلق امرأة العزيز به وعشقها له، ثم مراودته عن نفسه بشتى طرق الفتنة والإغراء، ثم محنة السجن بعد ذلك العزِّ ورغد العيش!! انظر إليه كيف أنه لما صبر على الأذى في سبيل العقيدة، وصبر على الضر والبلاء، نقله الله من السجن إلى القصر، وجعله عزيزاً في أرض مصر، وملَّكه الله خزائنها، فكان السيد المطاع، والعزيز المكرَّم.. وهكذا أفعل بأوليائي، ومن صبر على بلائي، فلا بدَّ أن توطَّد النفس على تحمل البلاء، اقتداءً بمن سبقك من المرسلين {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ} [الأحقاف: 35] {وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلا بِاللَّهِ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ} [النحل: 127].



* وهكذا جاءت قصة يوسف تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم عما يلقاه، وجاءت تجمل البِشْرَ والأنس، والراحة، والطمأنينة لمن سار على درب الأنبياء، فلا بدَّ من الفرج بعد الضيق، ومن اليسر بعد العُسر، وفي السورة دروسٌ وعبر، وعظات بالغات، حافلات بروائع الأخبار العجيبة، والأنباء الغريبة {لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} [ق: 37].



*هذا هو جوُّ السورة، وهذه إيحاءاتُها ورموزُها.. تُبشِّر بقرب النصر، لمن تمسَّك بالصبر، وسار على طريق الأنبياء والمرسلين، والدعاء المخلصين، فهي سلوى للقلب، وبلسمٌ للجروح، وقد جرت عادة القرآن الكريم بتكرير القصة في مواطن عديدة، بقصد "العظة والاعتبار" ولكنْ بإيجاز دون توسع، لاستكمال جميع حلقات القصة، وللتشويق إلى سماع الأخبار دون سآمة أو ملل، وأما سورة يوسف فقد ذُكرت حلقاتها هنا متتابعة بإسهاب وإطناب، ولم تكرر في مكان آخر كسائر قَصص الرسل، لتشير إلى "إعجاز القرآن" في المجمل والمفصَّل، وفي حالتي الإيجاز والإطناب، فسبحان المَلِك العلي الوهاب.



قال العلامة القرطبي: ذكر الله أقاصيص الأنبياء في القرآن، وكررها بمعنى واحد، وفي وجوه مختلفة، وبألفاظ متباينة، على درجات البلاغة والبيان، وذكر قصة يوسف عليه السلام ولم يكررها، فلم يقدر مخالف على معارضة المكرر، ولا على معرضة غير المكرر، والإعجاز واضح لِمَنْ تأمل. وصدق الله {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُوْلِي الأَلْبَابِ}!.



قال الله تعالى: {تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ}.. إلى {آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ}.من آية (1) إلى نهاية آية (22).



الإشارة إلى بعض وجوه الإعجاز في القرآن الكريم



{الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ(1)إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ(2)نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنْ الْغَافِلِينَ(3)}



{الر} إشارة إلى الإِعجاز، فمن هذه الحروف وأمثالها تتألف آيات الكتاب المعجز {تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ} أي تلك الآيات التي أنزلت إليك يا محمد هي آيات الكتاب المعجز في بيانه، الساطع في حججه وبراهينه، الواضح في معانيه، الذي لا تشتبه حقائقه، ولا تلتبس دقائقُه {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا} أي أنزلناه بلغة العرب كتاباً عربياً مؤلفاً من هذه الأحرف العربية {لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} أي لكي تعقلوا وتدركوا أن الذي يصنع من الكلمات العادية هذا الكتاب المعجز ليس بشراً، وإنما هو إله قدير، وهذا الكلام وحيٌ منزل من رب العالمين {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ} أي نحن نحدثك يا محمد ونروي لك أخبار الأمم السابقة، بأصدق كلام، وأحسن بيان، {بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ} أي بإيحائنا إليك هذا القرآن المعجز {وَإِنْ كُنتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنْ الْغَافِلِينَ} أي وإنَّ الحال والشأن أنك كنتَ من قبل أن نوحي إليك هذا القرآن لمن الغافلين عن هذه القصة، لم تخطر ببالك، ولم تقرعْ سمعك، لأنك أميٌّ لا تقرأ ولا تكتب.



تبشير يعقوبُ عليه السلام يوسفَ بالنبوة



{إِذْ قَالَ يُوسُفُ لأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ(4)قَالَ يَا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلإِنسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ(5)وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ(6)}



{إِذْ قَالَ يُوسُفُ لأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا} من هنا بدايةُ القصة، أي اذكر حين قال يوسفُ لأبيه يعقوب يا أبي إني رأيت في المنام هذه الرؤيا العجيبة، رأيت أحد عشر كوكباً من كواكب السماء خرّت ساجدةً لي {وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ} أي ورأيت في المنام الشمس والقمر ساجدين لي مع الكواكب، قال ابن عباس: كانت الرؤيا فيهم وحياً، قال المفسرون: الكواكب الأحد عشر كانت إخوته، والشمس والقمر أبواه، وكان سنه إذ ذاك اثنتي عشرة سنة، وبين هذه الرؤيا واجتماعه بأبيه وإخوته في مصر أربعون سنة {قَالَ يَا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ} أي قال له يعقوب: لا تخبرْ بهذه الرؤيا إِخوتك {فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا} أي فيحتالوا لإِهلاكك حيلةً عظيمة لا تقدر على ردّها {إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلإِنسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ} أي ظاهر العداوة، قال أبو حيان: فهم يعقوب من رؤيا يوسف أن الله تعالى يبلّغه مبلغاً من الحكمة، ويصطفيه للنبوة،وينعم عليه بشرف الدارين، فخاف عليه من حسد إخوته فنهاه أن يقصَّ رؤياه عليهم {وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ} أي وكما أراك مثل هذه الرؤيا العظيمة كذلك يختارك ربك للنبوة {وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ} أي يعلمك تفسير الرؤيا المناميَّة {وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ} أي يتمم فضله وإنعامه عليك وعلى ذرية أبيك يعقوب {كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ} أي كما أكمل النعمة من قبل ذلك على جدك إبراهيم وجدك إسحاق بالرسالة والاصطفاء {إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} أي عليمٌ بمن هو أهلٌ للفضل، حكيم في تدبيره لخلقه.



التآمر للتخلص من يوسف "عليه السلام"



{لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ(7)إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ(8)اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوْ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ(9)قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ لا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنتُمْ فَاعِلِينَ(10)}



{لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ} أي لقد كان في خبر يوسف وإخوته الأحد عشر عبرٌ وعظاتٌ للسائلين عن أخبارهم {إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا} هذه هي المحنة الأولى ليوسف عليه السلام أي حين قالوا: والله ليوسفُ وأخوه "بنيامين" أحبُّ منَّا عند أبينا، أرادوا أن زيادة محبته لهما أمر ثابتٌ لا شبهة فيه، وإنما قالوا {وأخوه} وهم جميعاً إخوة لأن أمهما كانت واحدة {وَنَحْنُ عُصْبَةٌ} أي والحال نحن جماعة ذوو عدد، نقدر على النفع والضر، بخلاف الصغيرين {إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} أي إنه في خطأٍ وخروجٍ عن الصواب بيّن واضح، لإِيثاره يوسف وأخاه علينا بالمحنة، قال القرطبي: لم يريدوا ضلال الدين إذ لو أرادوه لكفروا، وإنما أرادوا أنه في خطأٍ بيِّن في إيثار اثنين على عشرة {اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوْ اطْرَحُوهُ أَرْضًا} أي أُقتلوا يوسف أو ألقوه في أرض بعيدة مجهولة {يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ} أي فعند ذلك يخلصْ ويصفو لكم حبُّ أبيكم، فيُقْبل عليكم، قال الرازي: المعنى إن يوسف شغله عنا وصرف وجهه إليه، فإذا فقده أقبل علينا بالمحبة والميل {وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ} أي وتتوبوا من بعد هذا الذنب وتصبحوا قوماً صالحين {قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ لا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ} أي قال لهم أخوهم "يهوذا" وهو أكبر ولد يعقوب: لا تقتلوا يوسف بل ألقوه في قعر الجب وغوره {يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ} أي يأخذه بعض المارَّة من المسافرين {إِنْ كُنتُمْ فَاعِلِينَ} أي إن كان لا بدَّ من الخلاص منه فاكتفوا بذلك، وكان رأيه فيه أهون شراً من رأي غيره.



التخلص من يوسف "عليه السلام" ، وتلبيس الأمر على أبيه "عليه السلام"



{قَالُوا يَا أَبَانَا مَا لَكَ لا تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ(11)أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدًا يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ(12)قَالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ(13)قَالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذًا لَخَاسِرُونَ(14)فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ(15)وَجَاءوا أَبَاهُمْ عِشَاءً يَبْكُونَ(16)قَالُوا يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِنْدَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ(17)وَجَاءوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ(18)}





{قَالُوا يَا أَبَانَا مَا لَكَ لا تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ} المعنى أيُّ شيء حدث لك حتى لا تأمنا على أخينا يوسف، ونحن جميعاً أبناؤك؟ {وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ} أي ونحن نشفق عليه ونريد له الخير، قال المفسرون: لما أحكموا العزْم ذكروا هذا الكلام وأظهروا عند أبيهم أنهم في غاية المحبة ليوسف، وفي غاية الشفقة عليه، ليستنزلوه عن رأيه في تخوفه منهم وكأنهم قالوا: لِمَ تخافنا عليه ونحن نحبه ونريد الخير به ‍‍ {أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدًا يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ} أي أرسله معنا غداً إلى البادية، يتوسع في أكل ما لذَّ وطاب، ويلهو ويلعب بالاستباق وغيره {وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} أي ونحن نحفظه من كل سوء ومكروه، أكّدوا كلامهم بإنَّ واللام وهم كاذبون {قَالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ} أي قال لهم يعقوب: إنه ليؤلمني فراقُه لقلة صبري عنه {وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ} أي وأخاف أن يفترسه الذئب في حال غفلتكم عنه، وكأنه لقنهم الحجة، قال الزمخشري: اعتذر إليهم بشيئين: أحدهما: أن ذهابهم به ومفارقته إيّاه مما يحزنه لأنه كان لا يصبر عنه ساعة، والثاني: خوفه عليه من الذئب إذا غفلوا عنه برعيهم ولعبهم {قَالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذًا لَخَاسِرُونَ} اللام للقسم أي والله لئن أكله الذئب ونحن جماعة أقوياء أشداء إنا لمستحقون أن يُدعى علينا بالخسار والدمار {فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ} في الكلام محذوف أي فأرسله معهم فلما أخذوه وابتعدوا به عن أبيه {وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ} أي عزموا واتفقوا على إلقائه في غور الجب {وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} أي أوحينا إلى يوسف لتخبرنَّ إخوتك بفعلهم هذا الذي فعلوه بك وهم لا يشعرون في ذلك الوقت أنك يوسف، قال الرازي: وفائدة هذا الوحي تأنيسُه، وتسكينُ نفسه، وإزالةُ الغمّ والوحشةِ عن قلبه، بأنه سيحصل له الخلاص من هذه المحنة {وَجَاءوا أَبَاهُمْ عِشَاءً يَبْكُونَ} أي رجعوا إلى أبيهم وقت العشاء ليلاً وهم يبكون، روي أنه لما سمع يعقوب بكاءهم فزع، وقال: ما لكم يا بَنيَّ، وأين يوسف؟ {قَالُوا يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ} أي نتسابق في العَدْو، أو في الرمي {وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِنْدَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ} أي تركنا يوسف عند ثيابنا وحوائجنا ليحفظها فجاء الذئب فافترسه {وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ} أي لست بمصدّق لنا في هذه المقالة ولو كنا في الواقع صادقين، فكيف وأنت تتهمنا وغير واثق بقولنا؟ وهذا القول منهم يدل على الارتياب، وكما قيل: يكاد المريبُ يقول خذوني {وَجَاءوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ} أي جاءوا على ثوبه بدمٍ كاذب، وُصِفَ بالمصدر مبالغةً كأنه نفسُ الكذب وعينُه، قال ابن عباس: ذبحوا شاة ولطخوا بدمها القميص فلما جاءوا يعقوب قال: كذبتم لو أكله الذئب لخرقَ القميص وروي أنه قال: "ما أحلم هذا الذئب أكل ابني ولم يشقَّ قميصه؟ {قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا} أي زيَّنت لكم أنفسكم أمراً في يوسف وليس كما زعمتم أن الذئب أكله {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ} أي أمري صبرٌ جميل لا شكوى فيه {وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} أي وهو سبحانه عوني على تحمل ما تصفون من الكذب.



نجاة يوسف "عليه السلام" من الهلاك المحتم



{وَجَاءتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وَارِدَهُمْ فَأَدْلَى دَلْوَهُ قَالَ يَا بُشْرَى هَذَا غُلامٌ وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ(19)وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ(20)}



{وَجَاءتْ سَيَّارَةٌ} أي قوم مسافرون مروا بذلك الطريق، قال ابن عباس: جاء قوم يسيرون من مدين إلى مصر فأخطأوا الطريق فانطلقوا يهيمون حتى هبطوا على الأرض التي فيها جب يوسف، وكان الجب في قفرة بعيدة عن العمران {فَأَرْسَلُوا وَارِدَهُمْ} أي بعثوا من يستقي لهم الماء {فَأَدْلَى دَلْوَهُ} أي أرسل دلوه في البئر، قال المفسرون: لما أدلى الواردُ دلوه وكان يوسف في ناحيةٍ من قعر البئر تعلَّق بالحبل فخرج فلما رأى حسنه وجماله نادى {قَالَ يَابُشْرَى هَذَا غُلامٌ} قاله على سبيل السرور والفرح لتبشير نفسه وجماعته، قال أبو السعود: كأنه نادى البشرى وقال تعاليْ فهذا أوانك حيث فاز بنعمة جليلة {وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً} أي أخفوا أمره عن الناس ليبيعوه في أرض مصر متاعاً كالبضاعة، والضمير يعود على الوارد وجماعته {وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ} أي لا يخفى عليه سبحانه أسرارهم، وما عزموا عليه في أمر يوسف {وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ} هذه هي المحنة الثانية في حياة يوسف الصدّيق وهي محنة الاسترقاق أي باعه أولئك المارة الذين استخرجوه من البئر بثمنٍ قليل منقوص هو عشرون درهماً كما قال ابن عباس {وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ} أي وكانوا في يوسف من الزاهدين الذين لا يرغبون فيه لأنهم التقطوه وخافوا أن يكون عبداً آبقاً فينتزعه سيّده من أيديهم، ولذلك باعوه بأبخس الأثمان.



تحقق بشارة يعقوب "عليه السلام" بنبوة يوسف "عليه السلام"



{وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ لامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَنْ يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ(21)وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ(22)}



{وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ لامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ} أي وقال الذي اشتراه من مدينة مصر لزوجته أكرمي إقامته عندنا، قال ابن عباس: كان اسم الذي اشتراه "قطفير" وهو العزيز الذي كان على خزائن مصر {عَسَى أَنْ يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا} أي عسى أن يكفينا بعض المهمات إذا بلغ أو نتبناه حيث لم يكن يولد لهما ولد {وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ} أي وكما نجيناه من الجب جعلناه متمكناً في أرض مصر يعيش فيها بعز وأمان {وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ} أي نوفقه لتعبير بعض المنامات {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ} أي لا يعجزه تعالى شيء {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} أي لا يعلمون لطائف صنعه وخفايا فضله {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ} أي بلغ منتهى شدته وقوته وهو ثلاثون سنة {آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا} أي أعطيناه حكمةً وفقهاً في الدين {وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} أي المحسنين في أعمالهم.



محنة يوسف عليه السلام مع امرأة العزيز



{وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ(23)وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ(24)وَاسْتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً إِلا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ(25)قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ(26)وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ(27)فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ(28)يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ(29)}



{وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ} هذه هي المحنة الثالثة بعد محنة الجب والاسترقاق، والمراودةُ الطلبُ برفقٍ ولين كما يفعل المخادع بكلامه المعسول المعنى: طلبت امرأة العزيز التي كان يوسف في بيتها منه أن يضاجعها، ودعته برفق ولين أن يواقعها، وتوسَّلت إليه بكل وسيلةٍ {وَغَلَّقَتِ الأَبْوَابَ} أي غلّقت أبواب البيوت عليها وعلى يوسف وأحكمت إغلاقها، قال القرطبي: كانت سبعة أبواب غلّقتها ثم دعته إلى نفسها {وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ} أي هلُمَّ وأسرع فليس ثمة ما يُخشى، قال أبو حيّان: أمرته بأن يسرع إليها {قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ} أي عياذاً بالله من فعل السوء، قال أبو السعود: وهذا إشارة إلى أنه منكر هائل يجب أن يعاذ بالله تعالى للخلاص منه، لما أراه الله من البرهان النيِّر على ما فيه من غاية القبح ونهاية السوء {إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ} أي إن زوجك هو سيدي العزيز الذي أكرمني وأحسن تعهدي فكيف أسيء إليه بالخيانة في حَرَمه؟ {إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} أي لا يضفر الظالمون بمطالبهم، ومنهم الخائنون المُجازون الإِحسانَ بالسوء، ثم أخبر تعالى أن امرأة العزيز حاولت إيقاعه في شراكها، وتوسَّلت إليه بكل وسائل الإِغراء، ولولا أنَّ الله جلَّ وعلا حفظه من كيدها لهلك فقال {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ} أي همَّت بمخالطته عن عزمٍ وقصدٍ وتصميم، عزماً جازماً على الفاحشة لا يصرفها عنها صارف، وقصدت إجباره على مطاوعتها بالقوة، بعد أن استحكمت من تغليق الأبواب، ودعوته إلى الإِسراع، مما اضطره إلى الهرب إلى الباب {وَهَمَّ بِهَا} أي مالت نفسه إليها بمقتضى الطبيعة البشرية، وحدثته نفسُه بالنزول عند رغبتها حديث نفسٍ، دون عزمٍ وقصد، فبين الهمَّيْن فرق كبير، قال الإِمام الفخر الرازي: الهمُّ خطورُ الشيء بالبال أو ميلُ الطبع، كالصائم في الصيف يرى الماء البارد فتحمله نفسُه على الميل إليه وطلب شربه، ولكنْ يمنعه دينُه عنه {لَوْلا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ} جوابه محذوفٌ أي لولا حفظ الله ورعايتُه ليوسف، وعصمتُه له لخالطها وأمضى ما حدثته نفسه به، ولكنَّ الله عصمه بالحفظ والتأييد فلم يحصل منه شيءٌ البتَّة، قال أبو حيّان: نسب بعضُهم ليوسف ما لا يجوز نسبتُه لآحاد الفُسَّاق، والذي أختاره أن "يوسف" عليه السلام لم يقع منه همٌّ البتَّة، بل هو منفيٌّ لوجود رؤية البرهان كما تقول: "قارفتَ الذنبَ لولا أن عصمك الله" وكقول العرب: "أنتَ ظالمٌ إن فعلتَ" وتقديره: إن فعلتَ فأنتَ ظالم وكذلك هنا التقدير: لولا أن رأى برهان ربه لهمَّ بها ولكنه وجد رؤية البرهان فانتفى الهمُّ، وأمّا أقوال السلف فنعتقد أنه لا يصح عن أحدٍ منهم شيءٌ من ذلك، لأنها أقوالٌ متكاذبة يناقضُ بعضُها بعضاً مع كونها قادحة في بعض فساق الملل فضلاً عن المقطوع لهم بالعصمة، وقال أبو السعود: إن همَّه بها بمعنى ميله إليها بمقتضى الطبيعة البشرية، ميلاً جبلياً، لا أنه قصدها قصداً اختيارياً، ألا يرى إلى ما سبق من استعصامه المنبئ عن كمال كراهيته له ونفرته عنه، وحكمه بعدم إفلاح الظالمين، وهل هو إلا تسجيلٌ باستحالة صدور الهمّ منه تسجيلاً محكماً؟ وما قيل: إنه حلَّ الهميان، وجلس مجلس الختان، فإنما هي خرافاتٌ وأباطيل، تمجها الآذان، وتردّها العقول والأذهان {كَذَلِكَ} أي ثبتناه على العفة أمام دوافع الفتنة والإِغراء لنصرف عنه المنكر والفجور، وهذه آيةٌ بيِّنة، وحجةٌ قاطعة على أنه عليه السلام لم يقع منه همٌّ بالمعصية، ولو كان كما زعموا لقال "لنصرفه عن السوء والفحشاء" فلما قال {لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ} دلَّ على أن ذلك شيء خارج عن الإِرادة فصرفه الله عنه، بما منحه من موجبات العفة والعصمة {وَالْفَحْشَاءَ} أي لنصرف عنه الزنى الذي تناهى قبحهُ {إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} بفتح اللام أي الذين أخلصهم الله لطاعته، واصطفاهم واختارهم لوحيه ورسالته، فلا يستطيع أن يغويهم الشيطان .. ثم أخبر تعالى بما حصل من المفاجأة العجيبة بقدوم زوجها وهما يتسابقان نحو الباب، ولا تزال هي في هياجها الحيواني {وَاسْتَبَقَا الْبَابَ} أي تسابقا نحو باب القصر، هو للهرب، وهي للطلب {وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ} أي شقت ثوبه من خلف لأنها كانت تلحقه فجذبته فشقت قميصه {وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ} أي وجدا العزيز عند باب القصر فجأة وقد حضر في غير أوان حضوره، وبمهارة فائقة تشبه مهارة إبليس انقلب الوضع فأصبح الظالم مظلوماً، والبريء متهماً {قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً إِلا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} أي ما جزاؤه إلا السجن أو الضرب ضرباً مؤلماً وجيعاً {قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا} أي قال يوسف مكذباً لها: هي التي دعتني إلى مقارفة الفاحشة لا أني أردت بها السوء {وشهد شاهدٌ من أهلها} قال ابن عباس: كان طفلاً في المهد أنطقه الله، وكان ابن خالها، قال أبو حيّان: وكونُه من أهلها أوجب للحجة عليها، وأوثقُ لبراءة يوسف، وأنفى للتهمة {إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ} أي إن كان ثوبُه قد شُقَّ من أمام فهي صادقة وهو كاذب {وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ} أي وإن كان ثوبه قد شُقَّ من الوراء فهي كاذبة وهو صادق، لأن الأمر المنطقي أن يُشق الثوب من خلف إن كانت هي الطالبة له وهو الهارب {فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ} أي فلما رأى زوجها أن الثوب قد شُقَّ من الوراء {قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ} أي إن هذا الأمر من جملة مكركن واحتيالكنَّ أيتها النسوة {إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ} تأكيد لما سبق ذكره أي مكركنَّ معشر النسوة واحتيالكنَّ للتخلص مما دبرتُنَّ شيءٌ عظيم {يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا} أي يا يوسف أكتم هذا الأمر ولا تذكره لأحد، يقول سيد قطب عليه الرحمة والرضوان: وهنا تبدو صورةٌ من "الطبقة الراقية" في المجتمع الجاهلي، رخاوةٌ في مواجهة الفضائح الجنسية، وميلٌ إلى كتمانها عن المجتمع، فيلتفت العزيز إلى يوسف البريء ويأمره بكتم الأمر وعدم إظهاره لأحد، ثم يخاطب زوجهُ الخائن بأسلوب اللباقة في مواجهة الحادث الذي يثير الدم في العروق {وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ} أي توبي واطلبي المغفرة من هذا الذنب القبيح، وكأن هذا هو المهم محافظة على الظواهر {إِنَّكِ كُنتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ} أي من القوم المتعمدين للذنب، وفي هذا إشارة إلى أن العزيز كان قليل الغَيْرة حيث لم ينتقم ممن أرادت خيانته، وتدنيس فراشه بالإِثم والفجور، قال ابن كثير: كان زوجها ليِّن العريكة سهلاً، أو أنه عذرها لأنها رأت ما لا صبر لها عنه.



مكيدة امرأة العزيز لنساء مصر وإيثار يوسف السجن على الوقوع في الفاحشة



{وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلالٍ مُبِينٍ(30)فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّينًا وَقَالَتْ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلا مَلَكٌ كَرِيمٌ(31)قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونَ مِنَ الصَّاغِرِينَ(32)قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ(33)فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ(34)ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوْا الآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ(35)}



{وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ} أي قال جماعة من النساء في مدينة مصر، روي أنهن خمس نسوة: امرأة ساقي العزيز، وامرأة الحاجب، وامرأة الخباز، وامرأة صاحب الدواب، وامرأة صاحب السجن قاله ابن عباس وغيره، والأظهر أن تلك الواقعة شاعت في البلد، واشتهرت وتحدث بها النساء {امْرَأَةُ الْعَزِيزِ} أي امرأة عزيز مصر تطلب من خادمها وعبدها أن يواقعها وتخادعه وتتوسل إليه لقضاء وطرها منه، قال أبو حيان: وتصريحهن بإضافتها إلى العزيز مبالغة في التشنيع، لأن النفوس أميل لسماع أخبار ذوي الجاه، وعبَّرن بـ {تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ} للدلالة على أن ذلك صار سجيّةً لها فهي دائماً تخادعه عن نفسه لأن المضارع يفيد التجدد والاستمرار {قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا} أي بلغ حبُّه شَغَاف قلبها - وهو حجابه - وشقَّه حتى وصل إلى فؤادها {إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} أي إنا لنعتقد أنها في ضلال عن طريق الرشد واضح بسبب حبها إيّاه {فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ} أي فلما سمعت بحديثهن، وسماه مكراً لأنه كان في خفية، كما يخفي الماكر مكره {أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ} أي أرسلت إليهنَّ تدعوهنَّ إلى منزلها لحضور وليمة، قال المفسرون: دعت أربعين امرأةً من الذوات منهن النساء الخمس المذكورات {وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً} أي هيأتْ لهنَّ ما يتكئن عليه من الفرش والوسائد {وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّينًا} في الكلام محذوف أي قدمت لهن الطعام وأنواع الفاكهة ثم أعطت كل واحدةٍ منهنَّ سكيناً لتقطع به {وَقَالَتْ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ} أي وقالت ليوسف وهنَّ مشغولات بتقشير الفاكهة والسكاكين في أيديهن: اخرجْ عليهنَّ فلم يشعرن إلا ويوسف يمرُّ من بينهن {فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ} أي فلما رأين يوسف أعظمْنه وأجللْنه، وبُهتن من جماله ودُهشن {وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ} أي جرحن أيديهن بالسكاكين لفرط الدهشة المفاجئة {وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ} أي تنزَّه الله عن صفات العجز، وتعالت عظمته في قدرته على خلق مثله {مَا هَذَا بَشَرًا} أي ليس هذا من البشر {إِنْ هَذَا إِلا مَلَكٌ كَرِيمٌ} أي ما هو إلا مَلَك من الملائكة، فإن هذا الجمال الفائق، والحسن الرائع مما لا يكاد يوجد في البشر {قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ} صرَّحت عند ذلك بما في نفسها من الحب ليوسف لأنها شعرت بأنها انتصرت عليهن فقالت قولة المنتصرة: هذا الذي رأيتموه هو ذلك العبد الكنعاني الذي لمتُنَّني في محبته، فانظرن ماذا لقيتنَّ منه من الافتتان والدهش والإِعجاب!! {وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ} أي أردت أن أنال وطري منه، وأن أقضي شهوتي معه، فامتنع امتناعاً شديداً، وأبى إباءً عنيفاً، قال الزمخشري: والاستعصام بناء مبالغة يدل على الامتناع البليغ والتحفظ الشديد {وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونَ مِنَ الصَّاغِرِينَ} أي ولئن لم يطاوعني ليعاقبنَّ بالسجن والحبس وليكوننَّ من الأذلاء المهانين، قال القرطبي: عاودته المراودة بمحضرٍ منهنَّ، وهتكتْ جلباب الحياء، وتوعدتْ بالسجن إن لم يفعل، ولم تعد تخشى لوماً ولا مقالاً، خلاف أول أمرها إذ كان ذلك سراً بينها وبينه {قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ} لجأ يوسف إلى ربه وجعل يناجيه في خشوع وتضرع فقال: ربّ السجن آثرُ عندي وأحبُّ إلى نفسي من اقتراف الفاحشة، وأسند الفعل إليهن لأنهن جميعاً مشتركات في الدعوة بالتصريح أو التلويح، وقيل إنها لما توعدته نصحنه وزيَّن له مطاوعتها، ونهينه عن إلقاء نفسه في السجن {وَإِلا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ} أي وإن لم تدفع عني شرهن وتعصمني منهن {أَصْبُ إِلَيْهِنَّ} أي أملْ إلى إجابتهن بمقتضى البشرية {وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ} أي بسبب ما يدعونني إليه من القبيح، وهذا كله على سبيل التضرع والاستغاثة بجناب الله تعالى كعادة الأنبياء والصالحين {فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ} أي أجاب الله دعاءه فنجّاه من مكرهن، وثبَّته على العصمة والعفة {إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ} أي لدعاء الملتجئين إليه {الْعَلِيمُ} بأحوالهم وما انطوت عليه نياتهم .. وهكذا اجتاز يوسف محنته الثالثة بلطف الله ورعايته {ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوْا الآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ} هذه بداية المحنة الرابعة وهي الأخيرة من محن الشدة في حياة يوسف الصّديق وهي "محنة السجن" وكل ما بعدها فرخاء والمعنى ثم ظهر للعزيز وأهله من استشارهم بعد الدلائل القاطعة على براءة يوسف، سجنه إلى مدة من الزمن غير معلومة، روي أن امرأة العزيز لما استعصى عليها يوسف وأيست منه، احتالت بطريق آخر، فقالت لزوجها: إن هذا العبد العبراني قد فضحني في الناس يقول لهم : إني راودته عن نفسه وأنا لا أقدر على إظهار عذري، فإما أن تأذن لي فأخرج وأعتذر، وإما أن تحبسه، فعند ذلك بدا له سجنه، قال ابن عباس: فأمر به فحمل على حمار، وضُرب بالطبل، ونُودي عليه في أسواق مصر، إن يوسف العبراني أراد سيدته فجزاؤه أن يسجن، قال أبو صالح ما ذكر ابن عباس هذا الحديث إلا بكى.



دخول يوسف إلى السجن ودعوته لدينه فيه



{وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا وَقَالَ الآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ(36)قَالَ لا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ(37)وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ(38)يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمْ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ(39)مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ الْحُكْمُ إِلا لِلَّهِ أَمَرَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ(40)}



{وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ} أي أُدخل يوسف السجن واتفق أنه أُدخل حينئذٍ آخران من خدم الملك الخاص أحدهما خبازه، والآخر ساقيه، اتهما بأنهما أرادا أن يسماه فحبسهما { قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا} أي قال الساقي إني رأيت في المنام أني أعصر عنباً يئول إلى خمر وأسقي منه الملك {وَقَالَ الآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ} أي وقال الخباز: إني رأيت في منامي أني أحمل على رأسي طبقاً فيه خبز، والطيرُ تأكل من ذلك الخبز {نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} أي أخبرنا بتفسير ما رأينا إنا نراك من الذين يحسنون تفسير الرؤيا {قَالَ لا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا} أي لا يأتيكما شيء من الطعام إلا أخبرتكما ببيان حقيقته وماهيته وكيفيته قبل أن يصل إليكما، أخبرهما بمعجزاته ومنها معرفة "المغيبات" توطئةً لدعائهما إلى الإِيمان، قال البيضاوي: أراد أن يدعوهما إلى التوحيد ويرشدهما إلى الدين القويم قبل أن يسعفهما إلى ما سألاه عنه، كما هو طريقة الأنبياء في الهداية والإِرشاد، فقدَّم ما يكون معجزة له من الإِخبار بالغيب ليدلهما على صدقه في الدعوة والتعبير {ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي} إن ذلك الإِخبار بالمغيبات ليس بكهانة ولا تنجيم، وإنما هو بإلهامٍ ووحيٍ من الله {إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} أي خصني ربي بذلك العلم لأني من بيت النبوة وقد تركت دين قومٍ مشركين لا يؤمنون بالله {وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ} أي يكذبون بيوم القيامة، نبّه على أصلين عظيمين: الإِيمان بالله، والإِيمان بدار الجزاء، إذ هما أعظم أركان الإِيمان، وكرر لفظة {هم} على سبيل التأكيد {وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ} أي اتبعت دين الأنبياء، لا دين أهل الشرك والضلال، والغرضُ إظهار أنه من بيت النبوة، لتقوى رغبتهما في الاستماع إليه والوثوق بكلامه {مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ} أي ما ينبغي لنا معاشر الأنبياء أن نشرك بالله شيئاً مع اصطفائه لنا وإنعامه علينا {ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ} أي ذلك الإِيمان والتوحيد من فضل الله علينا حيث أكرمنا بالرسالة، وعلى الناس حيث بعث الرسل لهدايتهم وإرشادهم {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ} أي لا يشكرون فضل الله عليهم فيشركون به غيره .. ولما ذكر عليه السلام ما هو عليه من الدين الحنيف الذي هو دين الرسل، تلطَّفَ في حسن الاستدلال على فساد ما عليه قوم الفتيين من عبادة الأصنام فقال {يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمْ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} أي يا صاحبيَّ في السجن أآلهة متعددة لا تنفع ولا تضر ولا تستجيب لمن دعاها كالأصنام، خيرٌ أم عبادة الواحد الأحد، المتفرد بالعظمة والجلال؟! {مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ} أي ما تعبدون يا معشر القوم من دون الله إلا أسماءً فارغة سميتموها آلهة وهي لا تملك القدرة والسلطان لأنها جمادات {مَا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ} أي ما أنزل الله لكم في عبادتها من حجة أو برهان {إِنْ الْحُكْمُ إِلا لِلَّهِ} أي ما الحكم في أمر العبادة والدين إلا لله رب العالمين { أَمَرَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ} أي أمر سبحانه بإفراد العبادة له، لأنه لا يستحقها إلا من له العظمة والجلال {ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ} أي ذلك الذي أدعوكم إليه من إخلاص العبادة لله هو الدين القويم الذي لا اعوجاج فيه {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} أي يجهلون عظمة الله فيعبدون ما لا يضر ولا ينفع .. تدرّج عليه السلام في دعوتهم وألزمهم الحجة بأن بيَّن لهم أولاً رجحان التوحيد على اتخاذ الآلهة المتعددة، ثم برهن على أن ما يسمونها آلهة ويعبدونها من دون الله لا تستحق الألوهية والعبادة، ثم نصَّ على ما هو الحق القويم والدين المستقيم وهو عبادة الواحد الأحد الفرد الصمد، وذلك من الأسلوب الحكيم في الدعوة إلى الله، حيث قدَّم الهداية والإِرشاد، والنصيحة والموعظة.

yacine414
2011-03-26, 11:40
تأويل رؤيا صاحبيه داخل السجن بوحي من الله عز وجل



{يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا وَأَمَّا الآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ قُضِيَ الأمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ(41)وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ(42)}



ثم شرع في تفسير رؤياهما فقال {يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا وَأَمَّا الآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ} أي يا صاحبيَّ في السجن أمّا الذي رأى أنه يعصر خمراً فيخرج من السجن ويعود إلى ما كان عليه من سقي سيده الخمر، وأمّا الآخر الذي رأى على رأسه الخبز فيُقتل ويُعلَّق على خشبة فتأكل الطير من لحم رأسه، قال المفسرون: روي أنه لما أخبرهما بذلك جحدا وقالا ما رأينا شيئاً فقال {قُضِيَ الأمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ} أي انتهى وتمَّ قضاء الله صدقتما أو كذبتما فهو واقع لا محالة {وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِنْهُمَا} أي قال يوسف للذي اعتقد نجاته وهو الساقي {اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ} أي اذكرني عند سيّدك وأخبره عن أمري لعلّه يخلصني ممّا ظُلمتُ به {فَأَنسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ} أي أنسى الشيطان الساقي أن يذكر أمر يوسف للملك { فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ} أي مكث يوسف في السجن سبع سنين، قال المفسرون: وإِنما لبث في السجن بضع سنين، لأنه اعتمد ووثق بالمخلوق، وغفل أن يرفع حاجته إلى الخالق جل وعلا، قال القرطبي: قال وهب بن منبه: أقام أيوب في البلاء سبع سنين، وأقام يوسف في السجن سبع سنين.



تأويل رؤيا الملك



{وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنْبلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ يَا أَيُّهَا الْمَلأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَاي إِنْ كُنتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ(43)قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلامٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الأحْلامِ بِعَالِمِينَ(44)وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَاِدَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ(45)يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ(46)قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلا قَلِيلاً مِمَّا تَأْكُلُونَ(47)ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلا قَلِيلا مِمَّا تُحْصِنُونَ(48)ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ(49)}



{وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ} أي قال ملك مصر إني رأيت في منامي سبع بقرات سمانٍ خرجت من نهرٍ يابسٍ، وفي أثرهن سبع بقراتٍ هزيلة في غاية الهُزال فابتلعت العجافُ السمانَ {وَسَبْعَ سُنْبلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ} هذا من تتمة الرؤيا أي ورأيتُ أيضاً سبع سنبلاتٍ خضر قد انعقد حبُّها وسبعاً أُخر يابسات قد استحصدت، فالتوتْ اليابسات على الخضر فأكلنهنَّ {يَا أَيُّهَا الْمَلأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَاي} أي يا أيها الأشراف من رجالي وأصحابي أخبروني عن تفسير هذه الرؤيا {إِنْ كُنتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ} أي إن كنتم تجيدون تعبيرها وتعرفون مغزاها {قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلامٍ} أي أخلاط رؤيا كاذبة لا حقيقة لها، قال الضحاك: أحلامٌ كاذبة {وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الأحْلامِ بِعَالِمِينَ} أي ولسنا نعرف تأويل مثل هذه الأحلام الكاذبة {وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَاِدَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ} أي وقال الذي نجا من السجن وهو الساقي وتذكّر ما سبق له مع يوسف بعد مدة طويلة {أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ} أي أنا أخبركم عن تفسير هذه الرؤيا ممن عنده علم بتأويل المنامات {فَأَرْسِلُونِ} أي فأرسلوني إليه لآتيكم بتأويلها، خاطب الملك بلفظ التعظيم، قال ابن عباس: لم يكن السجن في المدينة ولهذا قال فأرسلون {يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ} في الكلام محذوف دلَّ عليه السياق وتقديره: فأرسلوه فانطلق الساقي إلى السجن ودخل على يوسف وقال له: يا يوسف يا أيها الصِّديق وسمّاه صديقاً لأنه كان قد جرب صدقه في تعبير الرؤيا التي رآها في السجن، والصدّيق مبالغةٌ من الصدق {أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ} أي أَخبرنا عن تأويل هذه الرؤيا العجيبة {لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ} أي لأرجع إلى الملك وأصحابه وأخبرهم بها ليعلموا فضلك وعلمك ويخلصوك من محنتك، قال الإِمام الفخر الرازي: وإنما قال {لعلِّي أرجع إلى الناس} لأنه رأى عجز سائر المعبّرين عن جواب هذه المسألة فخاف أن يعجز هو أيضاً عنها فلهذا السبب قال لعلّي {قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا} أي تزرعون سبع سنين دائبين بجدٍ وعزيمة {فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ} أي فما حصدتم من الزرع فاتركوه في سنبلة لئلا يسوّس {إِلا قَلِيلاً مِمَّا تَأْكُلُونَ} أي إلا ما أردتم أكله فادرسوه واتركوا الباقي في سنبلة {ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ} أي ثمَّ يأتي بعد سنيّ الرخاء سبع سنين مجدبات ذات شدة وقحط على الناس {يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ} أي تأكلون فيها مما ادخرتم أيام الرخاء {إِلا قَلِيلا مِمَّا تُحْصِنُونَ} أي إلا القليل الذي تدخرونه وتخبئونه للزراعة {ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ} أي ثم يأتي بعد سنيّ القحط والجدب العصيبة عام رخاء، فيه يُمطر الناس ويُغاثون، وفيه يعصرون الأعناب وغيرها لكثرة خصبه، قال الزمخشري : تأول عليه السلام البقرات السمان والسنبلات الخضر بسنين مخاصيب، والعجاف واليابسات بسنين مجدبة، ثم بشّرهم بأن العام الثامن يجيء مباركاً خصيباً، كثير الخير، غزير النعم، وذلك من جهة الوحي.



مطالبة يوسف الملك بالتحقيق في التهمة التي وجهت إليه



{وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ(50)قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدتُّنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ قَالَتْ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدتُّهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنْ الصَّادِقِينَ(51)ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ(52)}



{وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ} أي ولما رجع الساقي إلى الملك وعرض عليه ما عبَّر به يوسف رؤياه استحسن ذلك فقال: أحضروه لي لأسمع منه تفسيرها بنفسي ولأبصره {فَلَمَّا جَاءهُ الرَّسُولُ} أي فلما جاء رسول الملك يوسف {قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ} أي قال يوسف للرسول: ارجع إلى سيدك الملك {فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ} أي سلْه عن قصة النسوة اللاتي قطَّعن أيديهن هل يعلم أمرهنَّ؟ وهل يدري لماذا حُبستُ ودخلت السجن؟ وأني ظُلمت بسببهنَّ؟ أبى عليه السلام أن يخرج من السجن حتى تُبرأ ساحته من تلك التهمة الشنيعة، وأن يعلم الناس جميعاً أنه حُبس بلا جرم {إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ} أي إنه تعالى هو العالم بخفيات الأمور وبما دبّرن من كيدٍ لي {قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدتُّنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ} جمع الملك النسوة ودعا امرأة العزيز معهن فسألهن عن أمر يوسف وقال لهن: ما شأنكن الخطير حين دعوتن يوسف إلى مقارفة الفاحشة؟ {قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ} أي معاذ الله أن يكون يوسف أراد السوء، وهو تنزيهٌ له وتعجب من نزاهته وعفته {قَالَتْ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ} أي ظهر وانكشف الحق وبان بعد خفائه {أَنَا رَاوَدتُّهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنْ الصَّادِقِينَ} أي أنا التي أغريتُه ودعوتُه إلى نفسي وهو بريىءٌ من الخيانة وصادقٌ في قوله "هي راودتني عن نفسي" وهذا اعتراف صريحٌ ببراءة يوسف على رؤوس الأشهاد {ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ} الأظهر أن هذا من كلام يوسف قاله لمّا وصله براءة النسوة له والمعنى ذلك الأمر الذي فعلتُه من ردّ الرسول حتى تظهر براءتي ليعلم العزيز أني لم أخنه في زوجته في غيبته بل تعففت عنها {وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ} أي لايوفق الخائن ولا يسدّد خطاه.



النفس أمَّارة بالسوء



{وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ(53)}



{وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ} أي لا أزكي نفسي ولا أنزّهها، فإن النفس البشرية ميَّالة إلى الشهوات، قاله يوسف على وجه التواضع، قال الزمخشري: أراد أن يتواضع لله ويهضم نفسه، لئلا يكون لها مزكياً، وبحالها معجباً ومفتخراً {إِلا مَا رَحِمَ رَبِّي} أي إلا من رحمه الله بالعصمة {إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ} أي عظيم المغفرة واسع الرحمة.



يوسف في رئاسة الحكم ووزارة المالية



{وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ(54)قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ(55)وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ(56)وَلأَجْرُ الآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ(57)}



{وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي} أي ائتوني بيوسف أجعله من خاصتي وخلصائي، قال ذلك لمّا تحقق براءته وعرف عفته وشهامته وعلمه { فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ} أي فلما أتوا به وكلَّمه يوسف وشاهد الملك فضله، ووفور عقله، وحُسن كلامه قال إنك اليوم قريب المنزلة رفيع الرتبة، مؤتمنٌ على كل شيء {قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ} أي قال يوسف للملك اجعلني على خزائن أرضك {إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} أي أمينٌ على ما استودعتني، عليمٌ بوجوه التصرف، وإنما طلب منه الولاية رغبةً في العدل، وإقامة الحق والإِحسان، وليس هو من باب التزكية للنفس، وإنما هو للإِشعار بحنكته وداريته لاستلام وزارة الماليَّة {وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأرْضِ} أي وهكذا مكنّا ليوسف في أرض مصر، وجعلنا له العزَّ والسلطان بعد الحبس والضيق {يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ} أي يتخذ منها منزلاً حيث يشاء ويتصرف في المملكة كما يريد { نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ} أي نخص بإنعامنا وفضلنا من نشاء من عبادنا {وَلا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} أي لا نضيع أجر من أحسن عمله وأطاع ربه بل نضاعفه له {وَلأَجْرُ الآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} أي أجر الآخرة وثوابها خيرٌ للمؤمنين المتقين من أجر الدنيا، وفيه إشارة إلى أن المطلب الأعلى هو ثواب الآخرة، وأن ما يُدَّخر لهؤلاء المحسنين أعظم وأجلُّ من هذا النعيم العاجل في الدنيا.



أخوة يوسف يشترون القمح من أخيهم يوسف



{وَجَاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ(58)وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ قَالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ أَلا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنزِلِينَ(59)فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلا كَيْلَ لَكُمْ عِندِي وَلا تَقْرَبُونِ(60)قَالُوا سَنُرَاوِدُ عَنْهُ أَبَاهُ وَإِنَّا لَفَاعِلُونَ(61)وَقَالَ لِفِتْيَانِهِ اجْعَلُوا بِضَاعَتَهُمْ فِي رِحَالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَا إِذَا انقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ(62)}



{وَجَاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ} أي دخلوا على يوسف فعرف أنهم إخوته ولكنهم لم يعرفوه لهيبة المُلْك، وبُعْد العهد، وتغير الملامح، قال ابن عباس: كان بين إلقائه في الجب وبين دخولهم عليه اثنتان وعشرون سنة فلذا أنكروه، وكان سبب مجيئهم أنهم أصابتهم مجاعة في بلادهم بسبب القحط الذي عمَّ البلاد، فخرجوا إلى مصر ليشتروا من الطعام الذي ادخره يوسف، فلما دخلوا على يوسف قال كالمنكر عليهم: ما أقدمكم بلادي؟ قالوا: جئنا للميرة، قال: لعلكم عيونٌ "جواسيس" علينا؟ قالوا: معاذا الله، قال: فمن أين أنتم؟ قالوا من بلاد كنعان وأبونا يعقوب نبيُّ الله، قال: وله أولاد غيركم؟ قالوا: كنا اثني عشر فذهب أصغرنا وهلك في البرية - وكان أحبَّنا إليه - وبقي شقيقه فاحتبسه ليتسلّى به عنه وجئنا نحن العشرة، فأمر بإنزالهم وإكرامهم {وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ} أي هيأ لهم الطعام والميرة وأعطاهم ما يحتاجون إليه في سفرهم {قَالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ} أي ائتوني بأخيكم بنيامين لأصدقكم {أَلا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ} أي ألا ترون أني أتم الكيل من غير بخسٍ {وَأَنَا خَيْرُ الْمُنزِلِينَ} أي خير من يكرم الضيفان وخير المضيفين لهم، وكان قد أحسن إنزالهم وضيافتهم {فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلا كَيْلَ لَكُمْ عِندِي وَلا تَقْرَبُونِ} أي إن لم تأتوني بأخيكم فليس لكم عندي بعد اليوم ميرة، ولا تقربوا بلادي مرة ثانية، رغبهم ثم توعدهم، قال أبو حيّان: والظاهر أن كل ما فعله يوسف عليه السلام كان بوحيٍ من الله وإلا فمقتضى البر أن يبادر إلى أبيه ويستدعيه لكنَّ الله أراد تكميل أجر يعقوب ومحنته، ولتتفسَّر الرؤيا الأولى {قَالُوا سَنُرَاوِدُ عَنْهُ أَبَاهُ وَإِنَّا لَفَاعِلُونَ} أي سنخادعه ونحتال في انتزاعه من يده، ونجتهد في طلبه منه، وإنّا لفاعلون ذلك {وَقَالَ لِفِتْيَانِهِ اجْعَلُوا بِضَاعَتَهُمْ فِي رِحَالِهِمْ} أي قال يوسف لغلمانه الكيالين اجعلوا المال الذي اشتروا به الطعام في أوعيتهم {لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَا إِذَا انقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمْ} أي لكي يعرفوها إذا رجعوا إلى أهلهم وفتحوا أوعيتهم {لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} أي لعلهم يرجعون إلينا إذا رأوها، فإنه علم أنَّ دينهم يحملهم على رد الثمن لأنهم مطهّرون عن أكل الحرام فيكون ذلك أدعى لهم إلى العود إليه.



كلام إخوة يوسف مع أبيهم لإرسال أخيهم بنيامين معهم





{فَلَمَّا رَجَعُوا إِلَى أَبِيهِمْ قَالُوا يَا أَبَانَا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنَا أَخَانَا نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ(63)قَالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلا كَمَا أَمِنتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ(64)وَلَمَّا فَتَحُوا مَتَاعَهُمْ وَجَدُوا بِضَاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ قَالُوا يَا أَبَانَا مَا نَبْغِي هَذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا وَنَمِيرُ أَهْلَنَا وَنَحْفَظُ أَخَانَا وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذَلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ(65)قَالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقًا مِنْ اللَّهِ لَتَأْتُونَنِي بِهِ إِلا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قَالَ اللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ(66)}



{فَلَمَّا رَجَعُوا إِلَى أَبِيهِمْ قَالُوا يَا أَبَانَا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ} أي فلما عادوا إلى أبيهم قالوا له - قبل أن يفتحوا متاعهم - يا أبانا لقد أنذرنا بمنع الكيل في المستقبل إن لم نأت بأخينا بنيامين، فإنَّ ملك مصر ظنَّ أننا جواسيس وأخبرناه بقصتنا فطلب أخانا ليتحقق صدقنا {فَأَرْسِلْ مَعَنَا أَخَانَا نَكْتَلْ} أي أرسل معنا أخانا بنيامين لنأخذ ما نستحقه من الحبوب التي تُكال لنا {وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} أي نحفظه من أن يناله مكروه {قَالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلا كَمَا أَمِنتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ} أي قال لهم يعقوب: كيف آمنكم على بنيامين وقد فعلتم بأخيه يوسف ما فعلتم بعد أن ضمنتم لي حفظه، ثمَّ خنتم العهد؟ فأخاف أن تكيدوا له كما كدتم لأخيه؟ فأنا لا أثق بكم ولا بحفظكم، وإِنما أثق بحفظ الله {فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا} أي حفظُ الله خيرٌ من حفظكم {وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} أي هو أرحم من والديه وإخوته، فأرجو أن يمُنَّ عليَّ بحفظه ولا يجمع عليَّ مصيبتين {وَلَمَّا فَتَحُوا مَتَاعَهُمْ وَجَدُوا بِضَاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ} أي ولما فتحوا الأوعية التي وضعوا فيها الميرة وجدوا ثمن الطعام في متاعهم {قَالُوا يَا أَبَانَا مَا نَبْغِي} أي ماذا نبغي؟ وأيَّ شيءٍ نطلب من إكرام الملك أعظم من هذا؟ {هَذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا} أي هذا ثمن الطعام قد رُدَّ إلينا من حيثُ لا ندري، فهل هناك مزيدٌ فوق هذا الإِحسان، أوفى لنا الكيل، وردَّ لنا الثمن!! أرادوا بذلك استنزال أبيهم عن رأيه {وَنَمِيرُ أَهْلَنَا} أي نأتي بالميرة والطعام لأهلنا {وَنَحْفَظُ أَخَانَا} أي نحفظه من المكاره، وكرروا حفظ الأخ مبالغةً في الحض على إرساله {وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ} أي ونزداد باستصحابنا له حمل بعير، روي أنه ما كان يعطي الواحد إلا كيل بعير من الطعام، فأعطاهم حمل عشرة جمال ومنعهم الحادي عشر حتى يحضر أخوهم {ذَلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ} أي سهلٌ على الملك إعطاؤه لسخائه {قَالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ لَتَأْتُونَنِي بِهِ} أي قال لهم أبوهم: لن أرسل معكم بنيامين إلى مصر حتى تعطوني عهداً مؤكداً وتحلفوا بالله لتردُنه عليَّ {إِلا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ} أي إلا أن تُغلبوا ولا تقْدروا على تخليصه، ولا يبقى لكم طريق أو حيلة إلى ذلك، قال مجاهد: إلا أن تموتوا كلُّكم فيكون ذلك عذراً عندي {فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ} أي فلما حلفوا له وأعطوه العهد المؤكد {قَالَ اللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ} أي الله شهيد رقيب على ذلك.



وصية يعقوب لأولاده بالدخول متفرقين



{وَقَالَ يَا بَنِيَّ لا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَمَا أُغْنِي عَنكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِنْ الْحُكْمُ إِلا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلْ الْمُتَوَكِّلُونَ(67)وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ مَا كَانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنْ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِلا حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ(68)}



{وَقَالَ يا بَنِيَّ لا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ} أي لا تدخلوا مصر من بابٍ واحد، قال المفسرون : خاف عليهم من العين إن دخلوا مجتمعين إذ كانوا أهل جمالٍ وهيبة، والعينُ حقٌ تُدخل الرجلَ القبرَ والجملَ القِدر، كما جاء في الحديث {وَمَا أُغْنِي عَنكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ} أي لا أدفع عنكم بتدبيري شيئاً مما قضاه الله عليكم، فإن الحذر لا يدفع القدر {إِنْ الْحُكْمُ إِلا لِلَّهِ} أي ما الحكم إلا لله جلَّ وعلا وحده لا يشاركه أحد، ولا يمانعه شيء {عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ} أي عليه وحده اعتمدت وبه وثقت {وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلْ الْمُتَوَكِّلُونَ} أي وعليه فليعتمدْ أهل التوكل والإِيمان، ولْيفوضوا أمورهم إليه {وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ} أي دخلوا من الأبواب المتفرقة كما أوصاهم أبوهم {مَا كَانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ} أي ما كان دخولهم متفرقين ليدفع عنهم من قضاء الله شيئاً {إِلا حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا} أي إلا خشية العين شفقةً منه على بنيه {وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ} أي وإِن يعقوب لذو علمٍ واسع لتعليمنا إياه بطريق الوحي، وهذا ثناءٌ من الله تعالى عظيمٌ على يعقوب، لأنه علم بنور النبوة أن القدر لا يدفعه الحذر {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} أي لا يعلمون ما خصَّ الله به أنبياءه وأصفياءه من العلوم التي تنفعهم في الدارين.



حرص يوسف على إبقاء أخيه بنيامين لديه



{وَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ قَالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ(69)فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ(70)قَالُوا وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ مَاذَا تَفْقِدُونَ(71)قَالُوا نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ(72)قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ مَا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الأَرْضِ وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ(73)قَالُوا فَمَا جَزَاؤُهُ إِنْ كُنتُمْ كَاذِبِينَ(74)قَالُوا جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ(75)فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِنْ وِعَاءِ أَخِيهِ كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ(76)}



{وَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ} أي وحين دخل أولاد يعقوب على يوسف {آوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ} أي ضمَّ إليه أخاه الشقيق بنيامين {قَالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ} أي أنا أخوك يوسف، أخبره بذلك واستكتمه {فَلا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} أي لا تحزنْ بما فعلوا بنا فيما مضى فإن الله قد أحسن إلينا وجمعنا بخير، قال المفسرون: لما دخل إخوة يوسف عليه أكرمهم وأحسن ضيافتهم ثم أنزل كل اثنين في بيت وبقي "بنيامين" وحيداً فقال: هذا لا ثاني له فيكون معي، فبات يوسف يضمه إليه ويعانقه، وقال له: أنا أخوك يوسف فلا تحزن بما صنعوا، ثم أعلمه أنه سيحتال لإِبقائه عنده وأمره أن يكتم الخبر {فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ} أي ولمّا قضى حاجتهم وحمَّل إبلهم بالطعام والميرة {جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ} أي أمر يوسف بأن تُجعل السقاية - وهي صاعٌ من ذهب مرصَّعٌ بالجواهر - في متاع أخيه بنيامين {ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ} أي نادى منادٍ {أَيَّتُهَا الْعِيرُ} أي يا أصحاب الإِبل ويا أيها الركب المسافرون {إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ} أي أنتم قوم سارقون، وإنما استحل أن يرميهم بالسرقة لما في ذلك من المصلحة من إمساك أخيه {قَالُوا وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ مَاذَا تَفْقِدُونَ}؟ قال المفسرون: لما وصل المنادون إليهم قالوا: ألم نكرمكم ونحسن ضيافتكم؟ ونوفّ إليكم الكيل؟ ونفعل بكم ما لم نفعل بغيركم؟ قالوا: بلى وما ذاك؟ قالوا: فقدنا سقاية الملك ولا نتّهم عليها غيركم فذلك قوله تعالى: {قَالُوا وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ مَاذَا تَفْقِدُونَ} أي التفتوا إليهم وسألوهم ماذا ضاع منكم وماذا فُقد؟ وفي قولهم {مَاذَا تَفْقِدُونَ} بدل "ماذا سرَقْنا" إرشادٌ لهم إلى مراعاة حسن الأدب، وعدم المجازفة بنسبة البريئين إلى تهمة السرقة، ولهذا التزموا الأدب معهم فأجابوهم {قَالُوا نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ} أي ضاع منا مكيال الملِك المُرصَّع بالجواهر {وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ} أي ولمن جاءنا بالمكيال وردَّه إلينا حِمْلُ بعيرٍ من الطعام كجائزة له {وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ} أي أنا كفيلٌ وضامنٌ بذلك {قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ مَا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الأَرْضِ} قسمٌ فيه معنى التعجب أي قالوا متعجبين: والله لقد علمتم أيها القوم ما جئنا بقصد أن نفسد في أرضكم {وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ} أي ولسنا ممن يُوصف بالسرقة قطُّ لأننا أولاد أنبياء ولا نفعل مثل هذا الفعل القبيح، قال البيضاوي: استَشْهدوا بعلمهم على براءة أنفسهم لما عرفوا منهم من فرط أمانتهم، كردّ البضاعة التي جُعلت في رحالهم، وككمِّ أفواه الدواب لئلا تتناول زرعاً أو طعاماً لأحد {قَالُوا فَمَا جَزَاؤُهُ إِنْ كُنتُمْ كَاذِبِينَ} أي ما عقوبة السارق في شريعتكم إن كنتم كاذبين في ادعاء البراءة {قَالُوا جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ} أي جزاء السارق الذي يوجد الصاع في متاعه أن يُسترقَّ ويصبح مملوكاً لمن سَرَق منه {كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ} أي كذلك نجازي من تعدَّى حدود الله بالسرقة وأمثالها، وهذا القول منهم هو الحكم في شريعة يعقوب وقد نسخ بقطع الأيدي في الشريعة الإِسلامية {فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاءِ أَخِيهِ} أي بدأ بتفتيش أوعيتهم قبل وعاء أخيه بنيامين، قال المفسرون: هذا من تمام الحيلة ودفع التهمة فإنهم لما ادعوا البراءة قالوا لهم: لا بدَّ من تفتيش أوعيتكم واحداً واحداً فانطلقوا بهم إلى يوسف فبدأ بتفتيش أوعيتهم قبل وعاء "بنيامين" قال قتادة: ذُكر لنا أنه كان لا يفتح متاعاً ولا ينظر وعاءً إلا استغفر الله مما قذفهم به، حتى بقي أخوه - وكان أصغرَ القوم فقال: ما أظُنُّ هذا أخذ شيئاً فقالوا: والله لا نتركُك حتى تنظر في رَحله فإنه أطيب لنفسك وأنفسنا، فلما فتحوا متاعه وجدوا الصُواع فيه فذلك قوله تعالى {ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِنْ وِعَاءِ أَخِيهِ} أي استخرج الصُواع من متاع أخيه بنيامين، فلما أخرجها منه نكَّس الإِخوةُ رؤوسَهم من الحياء، وأقبلوا عليه يلومونه ويقولون له فضحتنا وسوَّدت وجوهنا يا ابن راحيل {كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ} أي كذلك صنعنا ودبرنا ليوسف وألهمناه الحيلة ليستبقي أخاه عنده {مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ} أي ما كان ليوسف أن يأخذ أخاه في دين ملك مصر، لأن جزاء السارق عنده أن يُضرب ويُغرَّم ضعفَ ما سَرَق {إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} أي إلا بمشيئته تعالى وإذنه، وقد دلّت الآية على أن تلك الحيلة كانت بتعليم الله وإلهامه له {نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ} أي نرفع بالعلم منازل من نشاء من عبادنا كما رفعنا يوسف {وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} أي فوق كل عالمٍ من هو أعلم منه حتى ينتهي إلى ذي العلم البالغ وهو ربُّ العالمين، قال الحسن: ليس عالمٌ إلا فوقه عالم حتى ينتهي العلم إلى الله وقال ابن عباس : الله العليم الخبير فوق كل عالم.



نقاش حاد بين يوسف وأخوته حول السرقة



{قَالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ قَالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَانًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَصِفُونَ(77)قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ(78)قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلا مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ إِنَّا إِذًا لَظَالِمُونَ(79)فَلَمَّا اسْتَيْئَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا قَالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ وَمِنْ قَبْلُ مَا فَرَّطتُمْ فِي يُوسُفَ فَلَنْ أَبْرَحَ الأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ(80)ارْجِعُوا إِلَى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يَا أَبَانَا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَمَا شَهِدْنَا إِلا بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حافِظِينَ(81)وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا وَإِنَّا لَصَادِقُونَ(82)قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ(83)وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ(84)قَالُوا تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ(85)قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ(86)يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلا تَيْئَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلا الْقَوْمُ الكَافِرُونَ(87)}



{قَالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ} أي إن سرق فقد سرق أخوه الشقيق من قبله يعنون يوسف، تنصّلوا من السرقة ورموا بها يوسف وأخاه { فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ} أي أخفى تلك القولة في نفسه وكتمها ولم يُظهرها لإِخوته تلطفاً معهم {قَالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَانًا} أي أنتم شرٌ منزلةً حيث سرقتم أخاكم من أبيكم ثم طفقتم تفترون على البريء، ولم يواجههم بهذا الكلام وإنما قاله في نفسه {وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَصِفُونَ} أي أعلم بما تتقوّلون وتفترون {قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا} استرحامٌ واستعطافٌ أي قالوا مستعطفين يا أيها السيد المبجَّل إنَّ أباه شيخ كبير في السِّن لا يكاد يستطيع فراقه {فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ} أي خذ بدله واحداً منا فلسنا عنده بمنزلته من المحبة والشفقة {إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} أي أتممْ إحسانك علينا فقد عودتنا الجميل والإِحسان {قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلا مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ} أي نعوذ بالله من أن نأخذ أحداً بجرم غيره {إِنَّا إِذًا لَظَالِمُونَ} أي نكون ظالمين إن فعلنا ذلك، قال الألوسي: والتعبير بقوله {مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ} بدل "من سَرَقَ" لتحقيق الحق والاحتراز عن الكذب {فَلَمَّا اسْتَيْئَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا} أي ولما يئسوا من إجابة طلبهم يأساً تاماً، وعرفوا أن لا جدوى من الرجاء، اعتزلوا جانباً عن الناس يتناجون ويتشاورون {قَالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ} أي قال أكبرهم سناً وهو "روبيل" أليس قد أعطيتم أباكم عهداً وثيقاً بردِّ أخيكم؟ {وَمِنْ قَبْلُ مَا فَرَّطتُمْ فِي يُوسُفَ} أي ومن قبل هذا ألا تذكرون تفريطكم في يوسف؟ فكيف ترجعون إليه الآن؟ {فَلَنْ أَبْرَحَ الأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي} أي فلن أفارق أرض مصر حتى يسمح لي أبي بالخروج منها {أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي} أي يحكم لي بخلاص أخي {وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ} أي وهو سبحانه أعدل الحاكمين لأنه لا يحكم إلا بالعدل والحق {ارْجِعُوا إِلَى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يَا أَبَانَا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ} أي ارجعوا إلى أبيكم فأخبروه بحقيقة ما جرى وقولوا له إن ابنك بنيامين سَرَق {وَمَا شَهِدْنَا إِلا بِمَا عَلِمْنَا} أي ولسنا نشهد إلا بما تيقنا وعلمنا فقد رأينا الصاع في رَحْله {وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حافِظِينَ} أي ما علمنا أنه سيسرق حين أعطيناك الميثاق {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا} أي واسأل أهل مصر عن حقيقة ما حدث، قال البيضاوي: أي أرسلْ إلى أهلها واسألهم عن القصة {وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا} أي واسأل أيضاً القافلة التي جئنا معهم وهم قوم من كنعان كانوا بصحبتهم في هذه السفرة {وَإِنَّا لَصَادِقُونَ} أي صادقون فيما أخبرناك من أمره {قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا} أي زيَّنتْ وسهَّلت لكم أنفسكم أمراً ومكيدةً فنفذتموها، اتهمهم بالتآمر على "بنيامين" لما سبق منهم في أمر يوسف {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ} أي لا أجد سوى الصبر محتسباً أجري عند الله {عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا} أي عسى أن يجمع الله شملي بهم، ويقرّ عيني برؤيتهم جميعاً {إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} أي العالم بحالي الحكيم في تدبيره وتصريفه {وَتَوَلَّى عَنْهُمْ} أي أعرض عن أولاده كراهة لما سمع منهم {وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ} أي يا لهفي ويا حسرتي وحزني على يوسف {وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ} أي فقد بصره وعمي من شدة البكاء حزناً على ولديه {فَهُوَ كَظِيمٌ} أي مملوء القلب كمداً وغيظاً ولكنه يكتم ذلك في نفسه، وهو مغموم ومكروب لتلك الداهية الدهياء، قال أبو السعود: وإنما تأسف على يوسف مع أن الحادث مصيبة أخويه لأن ذكر يوسف كان آخذاً بمجامع قلبه لا ينساه ولأنه كان واثقاً بحياتهما طامعاً في إيابهما وأما يوسف فلم يكن في شأنه ما يحرك سلسلة رجائه سوى رحمة الله وفضله، وقال الرازي: الحزن الجديد يقوّي الحزن القديم الكامن في النفس، والأسى يبعث الأسى ويثير الأحزان قال الشاعر:

فقلت له إن الأسى يبعـث الأسى فدعْني فهذا كلـه قـبر مالك

{قَالُوا تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ} أي تفتأ ولا تزال تذكر يوسف وتتفجع عليه {حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ} أي حتى تكون مريضاً مشرفاً على الهلاك أو تهلك أسىً وحسرة وتموت {قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ} أي قال لهم يعقوب: لستُ أشكو غمّي وحزني إليكم وإنما أشكو ذلك إلى الله فهو الذي تنفع الشكوى إليه {وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} أي أعلم من رحمته وإحسانه ما لا تعلمون أنتم فأرجو أن يرحمني ويلطف بي ويأتيني بالفرج من حيث لا أحتسب {يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ} أي اذهبوا إلى الموضع الذي جئتم منه فالتمسوا يوسف وتعرّفوا على خبره وخبر أخيه بحواسكم {وَلا تَيْئَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ} أي لا تقنطوا من رحمة الله وفرجه وتنفيسه {إِنَّهُ لا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلا الْقَوْمُ الكَافِرُونَ} أي فإنه لا يقنط من رحمته تعالى إلا الجاحدون المنكرون لقدرته جلَّ وعلا.



إخبار يوسف إخوته بحقيقة أمره واعترافهم بخطئهم



{فَلَمَّا دَخَلوا عَلَيْهِ قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ(88)قَالَ هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جَاهِلُونَ(89)قَالُوا أَئِنَّكَ لأَنْتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ(90)قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ(91)قَالَ لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ(92)اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيرًا وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ(93)}



{فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ} في الكلام محذوف أي فخرجوا راجعين إلى مصر فدخلوا على يوسف فلما دخلوا قالوا يا أيها العزيز أصابنا وأهلنا الشدة من الجدب والقحط {وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ} أي وجئنا ببضاعة رديئة مدفوعة يدفعها كل تاجرٍ رغبة عنها واحتقاراً، قال ابن عباس: كانت دراهمهم رديئة لا تقبل في ثمن الطعام، أظهروا له الذل والانكسار استرحاماً واستعطافاً {فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ} أي أتمم لنا الكيل ولا تنقصْه لرداءة بضاعتنا {وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا} أي بردّ أخينا إلينا أو بالمسامحة عن رداءة البضاعة {إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ} أي يثيب المحسنين أحسن الجزاء .. ولما بلغ بهم الأمر إلى هذا الحد من الاسترحام والضيق والانكسار أدركته الرأفة فباح لهم بما كان يكتمه من أمره {قَالَ هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جَاهِلُونَ}؟ أي هل تذكرون ما فعلتم بيوسف وأخيه حال شبابكم وطيشكم؟ والغرض تعظيم الواقعة كأنه يقول: ما أعظم ما ارتكبتم في يوسف وما أقبح ما أقدمتم عليه! قال أبو السعود: وإنما قاله نصحاً لهم، وتحريضاً على التوبة، وشفقةً عليهم {قَالُوا أَئِنَّكَ لأَنْتَ يُوسُفُ} أي قال إخوته متعجبين مستغربين: أأنت يوسف حقاً؟ {قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهذَا أَخِي} أي قال: نعم أنا يوسف وهذا أخي الشقيق {قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا} أي منَّ علينا بالخلاص من البلاء، والاجتماع بعد الفرقة، والعزة بعد الذلة {إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ} أي إنه من يتق الله فيراقبه ويصبر على البلايا والمحن { فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} أي لا يبطل أجرهم ولا يضيع إحسانهم بل يجزيهم عليه أوفى الجزاء، قال البيضاوي: ووضع المحسنين موضع الضمير للتنبيه على أن المحسن من جمع بين التقوى والصبر {قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا} اعترافٌ بالخطيئة وإقرار بالذنب أي والله لقد فضَّلك الله علينا بالتقوى والصبر، والعلم والحلم {وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ} أي وحالُنا وشأننا أننا كنا مذنبين بصنيعنا الذي صنعنا بك، ولذلك أعزَّك الله وأذلنا، وأكرمك وأهاننا {قَالَ لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ} أي قال لهم يوسف: لا عتب عليكم اليوم ولا عقوبة بل أصفح وأعفو {يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ} دعاءٌ لهم بالمغفرة وهذا زيادة تكريم منه لما فرط منهم {وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} أي هو جل وعلا المتفضل على التائب بالمغفرة والرحمة، أرحم بعباده من كل أحد {اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي} قال الطبري: ذُكر أن يوسف لمّا عرَّف نفسه لإخوته سألهم عن أبيهم فقالوا: ذهب بصره من الحزن فعند ذلك أعطاهم قميصه، وأراد يوسف تبشير أبيه بحياته، وإدخال السرور عليه بذلك {يَأْتِ بَصِيرًا} أي يرجع إليه بصره {وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ} أي وجيئوني بجميع الأهل والذرية من أولاد يعقوب.



إخبار يعقوب بريح يوسف وتأييد قوله



{وَلَمَّا فَصَلَتْ الْعِيرُ قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلا أَنْ تُفَنِّدُونِ(94)قَالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ(95)فَلَمَّا أَنْ جَاءَ الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيرًا قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ(96)قَالُوا يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ(97)قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ(98)}



{وَلَمَّا فَصَلَتْ الْعِيرُ} أي خرجت منطلقة من مصر إلى الشام { قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ} أي قال يعقوب لمن حضر من قرابته إني لأشمّ رائحة يوسف، قال ابن عباس: هاجت ريح فحملت ريح قميص يوسف وبينهما مسيرة ثمان ليال {لَوْلا أَنْ تُفَنِّدُونِ} أي تسفهوني وتنسبوني إلى الخَرَف وهو ذهاب العقل وجواب {لَوْلا} محذوف تقديره لأخبرتكم أنه حيٌّ {قَالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ} أي قال حفدته ومن عنده: والله إنك لفي خطأ وذهاب عن طريق الصواب قديم، بإفراطك في محبة يوسف، ولهجك بذكره، ورجائك للقائه، قال المفسرون: وإنما قالوا ذلك لاعتقادهم أن يوسف قد مات {فَلَمَّا أَنْ جَاءَ الْبَشِيرُ} أي فلما جاء المبشر بالخبر السارّ، قال مجاهد: كان البشير أخاه يهوذا الذي حمل قميص الدم فقال: أُفرحه كما أحزنته {أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ} أي طرح البشير القميص على وجه يعقوب {فَارْتَدَّ بَصِيرًا} أي عاد بصيراً لما حدث له من السرور والانتعاش {قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} أي قال يعقوب لأبنائه: ألم أخبركم بأني أعلم ما لا تعلمونه من حياة يوسف وأن الله سيرده عليَّ لتتحقق الرؤيا؟ قال المفسرون: ذكّرهم بقوله {إنما أشكو بثي وحزني إلى الله وأعلم من الله ما لا تعلمون} روي أنه سأل البشير كيف يوسف؟ فقال: هو ملك مصر، قال: ما أصنع بالملك! على أيّ دين تركتَه؟ قال: على دين الإسلام، قال: الآن تمَّت النعمة {قَالُوا يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا} طلب أبناؤه أن يستغفر لهم لما فرط منهم ثم اعترفوا بخطئهم بقولهم {إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ} أي مخطئين فيما ارتكبنا مع يوسف {قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي} وعدهم بالاستغفار، قال المفسرون: أخَّر ذلك إلى السَّحَر ليكون أقرب إلى الإِجابة وقيل: أخَّرهم إلى يوم الجمعة ليتحرى ساعة الإِجابة {إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} أي الساتر للذنوب الرحيم بالعباد.



لقاء أسرة يعقوب عليه السلام في مصر



{فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ(99)وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَاي مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنْ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ(100)}



{فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ} أي فلما دخل يعقوب وأبناؤه وأهلوهم على يوسف ضمَّ إليه أبويه واعتنقهما {وَقَالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ} أي ادخلوا بلدة مصر آمنين من كل مكروه، وإنما قال {إِنْ شَاءَ اللَّهُ} تبركاً وتيمناً {وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ} أي أجلسهما على سرير الملك بجانبه {وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا} أي سجد له أبوه وأمه وإخوته حين دخولهم عليه، قال المفسرون: كان السجود عندهم تحية وكرامة لا عبادة {وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَاي مِنْ قَبْلُ} أي هذا تفسير الرؤيا التي رأيتها في منامي وأنا صغير {قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا} أي صدقاً حيث وقعت كما رأيتها في النوم {وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنْ السِّجْنِ} أي أنعم عليَّ بإخراجي من السجن، قال المفسرون: ولم يذكر قصة الجب تكرماً منه لئلا يُخْجل إخوته ويذكّرهم صنيعهم بعد أن عفا عنهم {وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ} أي جاء بكم من البادية لأنهم كانوا أهل إبل وغنم ببادية فلسطين، ذكّرهم بنعمة الله على آل يعقوب حيث نقلهم من البادية إلى الحضر واجتمع شمل الأسرة بمصر، قال الطبري: ذُكر أن يعقوب دخل مصر هو ومن معه من أولاده وأهاليهم وأبنائهم وهم أقل من مائة، وخرجوا منها يوم خرجوا وهم زيادة على ستمائة ألف {مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي} أي أفسد ما بيني وبين إخوتي بالإِغواء، قال أبو حيان: وذكر هذا القدر من أمر إخوته لأن النعمة إذا جاءت إِثْر بلاءٍ وشدة كانت أحسن موقعاً {إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ} أي لطيف التدبير يحقّق مشيئتَه بلطفٍ ودقةٍ خفية لا يحسها الناس ولا يشعرون بها {إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} أي العليم بخلقه الحكيم في صنعه، قال المفسرون: إن يعقوب عليه السلام أقام مع يوسف في مصر أربعاً وعشرين سنة ثم مات وكان قد أوصى أن يُدفن بالشام إلى جنب أبيه إسحاق، فمضى يوسف بنفسه ودفنه ثمَّة، ثم لما عاد إلى مصر عاش بعد أبيه ثلاثاً وعشرين سنة، فلما تم أمره وعلم أنه لا يدوم تاقت نفسه إلى الملك الدائم الخالد، واشتاق إلى لقاء الله وإلى آبائه الصالحين إبراهيم وإسحاق عليهما السلام.



توجه يوسف عليه السلام بالدعاء لربه



{رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ(101)}



{رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ} أي أعطيتني العزَّ والجاه والسلطان، وذلك من نعمة الدنيا {وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ} أي علمتني تفسير الرؤيا، وذلك من نعمة العلم {فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} أي يا مبدع السماوات والأرض وخالقَهما على غير مثال سابق {أَنْتَ وَلِيِّ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ} أي أنت يا رب متولي أموري وشؤوني في الدارين {تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} أي اقبضني إليك مسلماً، واجعل لحاقي بالصالحين، ابتهل إلى ربه أن يحفظ عليه إسلامه حتى يموت عليه، وإلى هنا تنتهي قصة يوسف الصدّيق، ثم يأتي التعقيب بعد ذلك بإقامة البرهان على صحة نبوة محمد عليه الصلاة والسلام.



إخبار النبي صلى الله عليه وسلم بقصص الماضين تثبيتاً لصدق دعوته



{ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ(102)وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ(103)وَمَا تَسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ(104)وَكَأيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ(105)وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلا وَهُمْ مُشْرِكُونَ(106)أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غَاشِيَةٌ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ أَوْ تَأْتِيَهُمْ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ(107)قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنْ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ(108)}



{ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ} أي ذلك الذي أخبرناك عنه يا محمد من أمر يوسف وقصته، من الأخبار المغيَّبة التي لم تكن تعلمها قبل الوحي، وإنما نُعلمك نحن بها على أبلغ وجه وأدق تصوير، ليظهر صدقُك في دعوى الرسالة {وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ} أي وما كنت حاضراً إخوة يوسف حين تآمروا على أخيهم وأجمعوا أمرهم على إلقائه في الجب وهم يحتالون ويمكرون به وبأبيه ليرسله معهم، فإنك يا محمد لم تشاهدهم حتى تقف على حقيقة القصة وإنما جاءتك بوحيٍ من العليم الخبير {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} هذه تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم أي ليس أكثر الخلق ولو حرصتَ على إيمانهم وبالغتَ في إرشادهم بمصدقين لك لتصميمهم على الكفر {وَمَا تَسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ} أي وما تطلب منهم على هذا النصح، والدعاء إلى الخير والرشد أجرة حتى يثقل عليهم {إِنْ هُوَ إِلا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ} أي ما هذا القرآن إلا عظة وتذكير للعالمين، وأنت لا تطلب في تلاوته عليهم مالاً، فلو كانوا عقلاء لقبلوا ولم يتمردوا {وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} أي كم من الآيات والعلامات الدالة على وجود الله جل وعلا ووحدانيته، الكائنة في السماوات والأرض كالشمس والقمر والنجوم، والجبال والبحار والأشجار، وسائر ما فيهما من العجائب {يَمُرُّونَ عَلَيْهَا} أي يشاهدونها ليلَ نهار، ويمرون عليها بالعشي والإِبكار {وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ} أي لا يفكرون فيها ولا يعتبرون، فلا تتعجب من إعراضهم عنك فإن إعراضهم عن هذه الآيات الدالة على وحدانية الله وقدرته أغرب وأعجب {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} أي لا يؤمن أكثر هؤلاء المكذبين من قومك إلا إذا أشركوا مع الله غيره، فإنهم يقرّون بأن الله هو الخالق الرازق ويعبدون معه الأصنام، قال ابن عباس: ومن ذلك قولهم في تلبيتهم: "لبَّيْك لا شريك لك، إلا شريكاً هو لك، تملكه وما ملك" {أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غَاشِيَةٌ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ} أفأمن هؤلاء المكذبون عقوبةً من عذاب الله تغشاهم وتشملهم؟ {أَوْ تَأْتِيَهُمْ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} أي أو تأتيهم القيامة بأهوالها فجأة من حيث لا يشعرون ولا يتوقعون؟ والاستفهام إنكاري وفيه معنى التوبيخ {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي} أي قل يا محمد هذه طريقي ومنهاجي واضحة مستقيمة لا عوج فيها ولا شك ولا شبهة { أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنْ اتَّبَعَنِي} أي أدعو إلى عبادة الله وطاعته، على بيانٍ وحجة واضحة أنا ومن آمن بي { وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} أي وأنزهه سبحانه عن الشركاء والأنداد، فأنا مؤمن موحِّد ولست من المشركين.



العبرة من قصص الماضين في القرآن



{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلا رِجَالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَدَارُ الآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلا تَعْقِلُونَ(109)حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ(110)لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُوْلِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ(111)}



{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلا رِجَالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ} أي وما أرسلنا من قبلك يا محمد إلا رجالاً من البشر لا ملائكة من السماء، قال الطبري: أي رجالاً لا نساءً ولا ملائكة نوحي إليهم آياتنا للدعاء إلى طاعتنا، والآية ردٌّ على من أنكر أن يكون النبي من البشر، أو زعم أن في النساء نبيات {مِنْ أَهْلِ الْقُرَى} أي من أهل المُدن والأمصار لا من أهل البوادي، قال الحسن: لم يبعث الله نبياً من أهل البادية قط ولا من النساء ولا من الجن، قال المفسرون: وإنما كانوا من أهل الأمصار لأنهم أعلم وأحلم، وأهل البوادي فيهم الجهل والجفاء والقسوة { أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} أي أفلم يسر هؤلاء المكذبون في الأرض فينظروا نظر تفكر وتدبر ما حلَّ بالأمم السابقين ومصارع المكذبين فيعتبرون بذلك؟ والاستفهام للتوبيخ {وَلَدَارُ الآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا} أي الدار الآخرة خير للمؤمنين المتقين من هذه الدار التي ليس فيها قرار {أَفَلا تَعْقِلُونَ} أي أفلا تعقلون فتؤمنون!! {حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ} أي يئس الرسل من إيمان قومهم {وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا} أي أيقن الرسل أن قومهم كذّبوهم {جَاءهُمْ نَصْرُنَا} أي أتاهم النصر عند اشتداد الكرب، ففي اللحظة التي تستحكم فيها الشدة، ويأخذ فيها الكرب بالمخانق، ولا يبقى أملٌ في غير الله، في هذه اللحظة يجيء النصر كاملاً حاسماً فاصلاً {فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ} أي فنجينا الرسل والمؤمنين بهم دون الكافرين {وَلا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ} أي ولا يُردُّ عذابنا وبطشنا عن المجرمين إذا نزل بهم {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُوْلِي الأَلْبَابِ} أي لقد كان في قصة يوسف وإِخوته عظة وتذكرة لأولي العقول النيِّرة {مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى} أي ما كان هذا القرآن أخباراً تُروى أو أحاديث تختلق {وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ} أي ولكن كان هذا القرآن مصدقاً لما سبقه من الكتب السماوية المنزّلة من قبل {وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ} أي تبيان كل ما يُحْتاج إليه من أحكام الحلال والحرام، والشرائع والأحكام {وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} أي وهداية من الضلالة ورحمة من العذاب لقوم يصدّقون به ويعملون بأوامره ونواهيه.

yacine414
2011-03-26, 17:24
سورة الرعد



القرآن حق

من مظاهر قدرة الله في السماوات والأرض

إنكار المشركين البعث

علم الله المحيط بكل شيء

مظاهر ربوبيته وقدرته

وحدانية الله وحال المؤمن والمشرك تجاه الوحدانية

مَثَلُ الحق والباطل وجزاء المطيعين والعاصين

أوصاف أولي الألباب

أوصاف الكافرين الذميمة

الرزق والهداية والاطمئنان من الله

صاحب الرسالة، وبيان عظمة الله وقدرته

وصف الجنة، وموقف أهل الكتاب من نبوته صلى الله عليه وسلم

مهمته صلى الله عليه وسلم تبليغ الرسالة، ومآل الكفار، وتكذيبهم برسالته





بَين يَدَي السُّورَة



سورة الرعد من السور المدنية، التي تتناول المقاصد الأساسية للسور المدنية، من تقرير "الوحدانية" و "الرسالة" و "البعث والجزاء" ودفع الشبه التي يثيرها المشركون.



* ابتدأت السورة الكريمة بالقضية الكبرى، قضية الإِيمان بوجود الله ووحدانيته، فمع سطوع الحق ووضوحه، كذَّب المشركون بالقرآن، وجحدوا وحدانية الرحمن، فجاءت الآيات تقرر كمال قدرته تعالى، وعجيب خلقه في السماوات والأرض، والشمس والقمر، والليل والنهار، والزروع والثمار، وسائر ما خلق الله في هذا الكون الفسيح البديع.



* ثم تلتها الآيات في إثبات البعث والجزاء، ثم بعد ذكر الأدلة الساطعة والبراهين القاطعة على انفراده جل وعلا بالخلق والإِيجاد، والإِحياء والإِماتة، والنفع والضر، ضرب القرآن مثلين للحق والباطل أحدهما: في الماء ينزل من السماء، فتسيل به الأودية والشعاب، ثم هو يجرف في طريقه الغثاء، فيطفو على وجهه الزَّبد الذي لا فائدة فيه والثاني : في المعادن التي تُذاب لتصاغ منها الأواني وبعض الحلية كالذهب والفضة، وما يعلو هذه المعادن من الزبد والخبث، الذي لا يلبث أن يذهب جفاءً ويضمحل ويتلاشى، ويبقى المعدن النقي الصافي {أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا ..} الآيات فلذلك مثل الحق والباطل.



* وذكرت السورة الكريمة أوصاف أهل السعادة وأهل الشقاوة، وضربت لهم المثل بالأعمى والبصير، وبينت مصير كلٍ من الفريقين، ثم ختمت بشهادة الله لرسوله بالنبوة والرسالة وأنه مرسل من عند الله تعالى.



التسِميَة:

سميت {سورة الرعد} لتلك الظاهرة الكونية العجيبة، التي تتجلى فيها قدرة الله وسلطانه، فالماء جعله الله سبباً للحياة، وأنزله بقدرته من السحاب، والسحابُ جمع الله فيه بين الرحمة والعذاب، فهو يحمل المطر ويحمل الصواعق، وفي الماء الإِحياء، وفي الصواعق الإِفناء، وجعل النقيضين من العجائب كما قال القائل: جمعُ النقيضين من أسرار قدرته: هذا السحاب به ماء به نار. فما أجلَّ وأعظم قدرة الله ‍‍تعالى.



القرآن حق



{المر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَالَّذِي أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ(1)}



{المر} إشارة إلى إعجاز القرآن { تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ} أي هذه آيات القرآن المعجز، الذي فاق كل كتاب {وَالَّذِي أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ} أي والذي أوحي إليك يا محمد في هذا القرآن هو الحق الذي لا يلتبس بالباطل، ولا يحتمل الشك والتردّد {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ} أي ومع وضوحه وجلائه كذّب به أكثر الناس.



من مظاهر قدرة الله في السماوات والأرض

{اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الأَمْرَ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ(2)وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ(3)وَفِي الأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ(4)}



{اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا} أي خلقها مرتفعة البناء، قائمة بقدرته لا تستند على شيء حال كونكم تشاهدونها وتنظرونها بغير دعائم، وذلك دليل وجود الخالق المبدع الحكيم {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} أي علا فوق العرش علواً يليق بجلاله من غير تجسيم ولا تكييفٍ ولا تعطيل {وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُسَمًّى} أي ذلَّل الشمس والقمر لمصالح العباد، كلٌّ يسير بقدرته تعالى إلى زمنٍ معيَّن هو زمن فناء الدنيا {يُدَبِّرُ الأَمْرَ} أي يصرِّف بحكمته وقدرته أمور الخلق وشؤون الملكوت من إيجاد وإعدام، وإحياء وإماتة وغير ذلك {يُفَصِّلُ الآيَاتِ} أي يبيّنها ويوضّحها {لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ} أي لتصدقوا بلقاء الله، وتوقنوا بالمعاد إليه، لأن من قدر على ذلك كلّه فهو قادرٌ على إحياء الإِنسان بعد موته {وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الأَرْضَ} أي هو تعالى بقدرته بسط الأرض وجعلها ممدودة فسيحة، وهذا لا ينافي كرويتها فإن ذلك مقطوعٌ به، والغرضُ أنه تعالى جعلها واسعة فسيحة ممتدة الآفاق ليستقر عليها الإِنسان والحيوان، ولو كانت كلها جبالاً وودياناً لما أمكن العيش عليها، قال ابن جزي: ولا يتنافى لفظُ البسط والمدِّ مع التكوير، لأن كل قطعةٍ من الأرض ممدودةٌ على حِدَتها، وإنما التكوير لجملة الأرض {وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسيَ} أي وخلق في الأرض جبالاً ثوابتَ رواسخ لئلا تضطرب بأهلها كقوله {أن تميدَ بكم} {وَأَنْهَارًا} أي وجعل فيها الأنهار الجاريات {وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ} أي جعل فيها من جميع أنواع الثمرات زوجين اثنين ذكراً وأنثى ليتمَّ بينهما أسباب الإِخصاب والتكاثر طبق سنته الحكيمة، وقال أبو السعود: أي جعل من كل نوع من أنواع الثمرات الموجودة في الدنيا ضربين وصنفين، إمّا في اللون كالأبيض والأسود، أو في الطعم كالحلو والحامض، أو في القَدْر كالصغير والكبير، أو في الكيفيّة كالحارّ والبارد وما أشبه ذلك {يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ} أي يُلبسه إياه فيصير الجو مُظْلماً بعد ما كان مضيئاً {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} أي إنَّ في عجائبِ صنع الله لدلالات وعلامات باهرة على قدرته ووحدانيته لمن تأمل وتفكَّر، وخُصَّ "المتفكرون" بالذكر لأنَّ ما احتوتْ عليه هذه الآيات من الصنيع العجيب لا يُدرك إلا بالتفكر {وَفِي الأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ} أي في الأرض بقاعٌ مختلفةٌ متلاصقات قريبٌ بعضها من بعض، قال ابن عباس: أرضٌ طيبة، وأرضٌ سَبْخة تُنْبتُ هذه، وهذه إلى جنبها لا تُنْبت {وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ} أي بساتين كثيرة من أشجار العنب {وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ} أي وفي هذه القطع المتجاورة أنواع الزروع والحبوب والنخيل والرطب، منها ما يَنْبُت منه من أصل واحدٍ شجرتان فأكثر، ومنها ما ينبت منه شجرة واحدة {يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الأُكُلِ} أي الكل يسقى بماء واحدٍ، والتربة واحدة، ولكنَّ الثمار مختلفة الطعوم، قال الطبري: الأرض الواحدة يكون فيها الخوخ، والكمثرى، والعنب الأبيضُ والأسود، بعضُها حلوٌ، وبعضُها حامض، وبعضها أفضل من بعض مع اجتماع جميعها على شربٍ واحد {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} أي علامات باهرة ظاهرة لمن عقل وتدبَّر، وفي ذلك ردٌّ على القائلين بالطبيعة.



إنكار المشركين البعث



{وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَئِذَا كُنَّا تُرَابًا أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ الأَغْلالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ(5)وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ الْمَثُلاتُ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ(6)وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ إِنَّمَا أَنْتَ مُنذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ(7)}



{وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَئِذَا كُنَّا تُرَابًا أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ} أي إن تعجب يا محمد من شيء فليس ما هو أعجب من قول الكفار أئذا متنا وأصبحنا رفاتاً هل سنبعث من جديد؟ فإن إنكارهم للبعث حقيقٌ أن يُتعجب منه، فإن الذي قدر على إنشاء ما ذكرنا من السماوات والأرض، والأشجار والثمار، والبحار والأنهار قادرٌ على إعادتهم بعد موتهم {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ} أي هؤلاء الذين أنكروا البعث هم الجاحدون لقدرة الله {وَأُوْلَئِكَ الأَغْلالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ} أي يُغلُّون بالسلاسل في أعناقهم يوم القيامة {وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} أي وهم في جهنم مخلدون فيها أبداً لا يموتون فيها ولا يُخْرجون {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ} أي يستعجلك المشركون يا محمد بالبلاء والعقوبة قبل الرخاء والعافية، استعجلوا ما هُدّدوا به من عذاب الدنيا استهزاءً {وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ الْمَثُلاتُ} أي وقد مضت عقوباتُ أمثالهم من المكذبين، فما لهم لا يعتبرون ولا يتعَّظون؟ {وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ} أي وإن ربك لذو صفحٍ عظيم للناس، لا يعجّل لهم العقوبة وإن كانوا ظالمين بل يمهلهم بتأخيرها {وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ} أي شديد العقاب لمن أصرَّ على المعاصي ولم يتب من ذنوبه. قرن تعالى بين سعة حلمه وشدة عقابه ليبقى العبد بين الرغبة والرهبة، والرجاء والخوف {وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ} أي ويقول المشركون من كفار قريش هلاّ أُنزل على محمد معجزة تدل على صدقه مثل معجزات موسى وعيسى!!‍‍ قال أبو حيّان: لم يعتدُوا بالآيات الخارقة المنزلة كانشقاق القمر، وانقياد الشجر، ونبع الماء من بين الأصابع وأمثال هذه المعجزات فاقترحوا عناداً آياتٍ أخرى {إِنَّما أَنْتَ مُنذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ} جواب لما اقترحوا أي لستَ أنت يا محمد إلا محذّر ومبصِّر، شأنك شأن كل رسول قبلك، فلكل قوم نبيٌّ يدعوهم إلى الله وأما الآيات الخارقة فأمرها إلى مدبّر الكون والعباد.



علم الله المحيط بكل شيء



{للَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحمِلُ كُلُّ أُنثَى وَمَا تَغِيضُ الأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ(8)عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ(9)سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ(10)لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءا فَلا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ(11)}



{اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنثَى} أي الله وحده الذي يعلم ما تحمله كل أنثى في بطنها هل هو ذكرٌ أم أنثى؟ تامٌ أم ناقص؟ حسنٌ أو قبيح {وَمَا تَغِيضُ الأَرْحَامُ} أي وما تنقصه الأرحامُ بإلقاء الجنين قبل تمامه {وَمَا تَزْدَادُ} أي وما تزداد على الأشهر التسعة، قال ابن عباس: ما تغيضُ بالوضع لأقلَّ من تسعة أشهر، وما تزداد بالوضع لأكثر من تسعة أشهر، وعنه المراد بالغيض: السقطُ الناقصُ، وبالازدياد: الولدُ التام {وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ} أي كلُّ شيء من الأشياء عند الله تعالى بقدر محدود لا يتجاوزه حسب المصلحة والمنفعة {عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ} أي ما غاب عن الحسّ وما كان مشاهَداً منظوراً، فعلمهُ تعالى شاملٌ للخفيِّ والمرْئيِّ لا يخفى عليه شيء {الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ} أي العظيم الشأن الذي كل شيء دونه المستعلي على كل شيء بقدرته المنزّه عن المشابهة والمماثلة {سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ} أي يستوي في علمه تعالى ما أضمرتْهُ القلوبُ وما نطقتْ به الألسنة {وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ} أي ويستوي عنده كذلك من هو مستترٌ بأعماله في ظلمات الليل وهو في غاية الاختفاء، ومن هو ذاهبٌ في طريقه بوَضَح النهار مستعلنٌ لا يستخفي فيما يعمل وهو في غاية الظهور {لَهُ مُعَقِّبَاتٌ} أي لهذا الإِنسان ملائكة موكّلةٌ به تتعقب في حفظه يأتي بعضُهم بعَقِب بعض كالحَرَس في الدوائر الحكومية {مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ} أي من أمام الإِنسان ومن ورائه {يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} أي يحفظونه من الأخطار والمضارّ بأمره تعالى، قال مجاهد: ما من عبدٍ إلا وملكٌ موكلٌ به يحفظه في نومه ويقظته من الجنّ والإِنس والهوام {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} أي لا يزيل نعمته عن قومٍ ولا يسلبهم إيّاها إلا إذا بدّلوا أحوالهم الجميلة بأحوال قبيحة، وهذه من سنن الله الاجتماعية أنه تعالى لا يبدل ما بقومٍ من عافيةٍ ونعمة، وأمنٍ وعزة إلا إذا كفروا تلك النعم وارتكبوا المعاصي وفي الأثر "أوحى الله إلى نبيّ من أنبياء بني إسرائيل أن قلْ لقومك: إنه ليس من أهل قرية، ولا أهل بيت يكونون على طاعة الله فيتحولون منها إلى معصية الله إلا حوّل الله عنهم ما يحبون إلى ما يكرهون" {وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءا} أي وإذا أراد تعالى هلاك قومٍ أو عذابهم {فَلا مَرَدَّ لَهُ} أي لا يقدر على ردّ ذلك أحد {وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ} أي ليس لهم من دون الله وليٌّ يدفع عنهم العذاب والبلاء.

yacine414
2011-03-26, 17:26
مظاهر ربوبيته وقدرته





{هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ الْبَرْقَ خوْفًا وَطَمَعًا وَيُنْشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ(12)وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ(13)لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلا فِي ضَلالٍ(14)وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ(15)}



سبب النزول:

نزول الآية (13):

{ويرسل الصواعق}: ذكر الرواة سببين لنزول هذه الآية، أخرج الطبراني وغيره عن ابن عباس: أن أَرْبَدَ بن قيس وعامر بن الطُّفَيْل قدما المدينة على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال عامر: يا محمد: ما تجعل إليَّ إن أسلمت؟ قال: لك ما للمسلمين، وعليك ما عليهم، قال: أتجعل لي الأمر من بعدك؟ قال: ليس ذلك لك ولا لقومك، فخرجا، فقال عامر: إني أَشْغَل عنك وجه محمد بالحديث، فأضربه بالسيف، فرجعا، فقال عامر: يا محمد، قم معي أكلمك، فقام معه، ووقف يكلمه، وسلَّ (أرْبَد) السيف، فلما وضع يده على قائم السيف، يبست، والتفت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرآه، فانصرف عنهما، فخرجا، حتى إذا كانا بالرَّقْم (موضع) أرسل الله على أربد صاعقة، فقتلته، فأنزل الله: {الله يعلم ما تحمل كل أنثى} إلى قوله {شديد المحال}. وأما عامر فأرسل الطاعون عليه، فخرجت فيه غُدَّة كغدة الجمل، ومات في بيت سلولية.

وذكر الواحدي ما رواه أبو يعلى الموصلي في مسنده والنسائي والبزار عن أنس بن مالك رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث رجلاً مرّة إلى رجل من فراعنة العرب، فقال: اذهب فادعه لي، فقال: يا رسول الله، إنه أعتى من ذلك، قال: اذهب فادعه لي، قال: فذهب إليه، فقال: يدعوك رسول الله، قال: وما الله، أمن ذهب هو، أو من فضة أو من نحاس؟ فرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره، وقال: وقد أخبرتك أنه أعتى من ذلك، فقال: ارجع إليه الثانية فادعه، فرجع إليه، فعاد عليه مثل الكلام الأول، فرجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره، فقال: ارجع إليه، فرجع الثالثة، فأعاد عليه ذلك الكلام، فبينا هو يكلمني، إذ بعثت إليه سحابة حيال رأسه، فرعدت، فوقعت منها صاعقة، فذهبت بقحف رأسه، فأنزل الله تعالى: {وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ}.



{هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ الْبَرْقَ} هذا بيانٌ لآثار قدرته تعالى المنبثّة في الكون أي يريكم أيها الناس البرق الخاطف من خلال السحاب {خَوْفًا وَطَمَعًا} قال ابن عباس: خوفاً من الصواعق وطمعاً في الغيث، فإن البرق غالباً ما يعقبه صواعق مدمّرة، وقد يكون وراءه المطر المدرار الذي به حياة البلاد والعباد {وَيُنْشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ} أي وبقدرته كذلك يخلق السحب الكثيفة المحمَّلة بالماء الكثير {وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْملائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ} أي يسبح الرعد له تسبيحاً مقترناً بحمده والثناء عليه، وتسبّح له الملائكة خوفاً من عذابه، وتسبيحُ الرعد حقيقةٌ دلَّ عليها القرآن فنؤمن بها وإن لم نفهم تلك الأصوات فهو تعالى لا يخبر إلا بما هو حقٌّ كما قال {وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ} أي يرسل الصواعق المدمّرة نقمة يهلك بها من شاء {وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللَّهِ} أي وكفار مكة يجادلون في وجود الله ووحدانيته وفي قدرته على البعث {وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ} أي وهو تعالى شديد القوة والبطش والنكال، القادر على الانتقام ممن عصاه {لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ} أي لله تعالى تتجه الدعوةُ الحق فهو الحقيق بأن يُعبد وحده بالدعاء والالتجاء {وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ} أي والآلهة الذين يدعوهم الكفار من دون الله {لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ} أي لا يستجيبون لهم دعاءً، ولا يسمعون لهم نداءً {إِلا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ} أي إلا كمن يبسط كفيه للماء من بعيد يدعوه ويناديه ليصل الماء إلى فمه، والماءُ جمادٌ لا يُحسُّ ولا يسمع، قال أبو السعود: شبّه حال المشركين في عدم حصولهم عند دعاء آلهتهم على شيء أصلاً بحال عطشان هائم لا يدري ما يفعل، قد بسط كفيه من بعيد إلى الماء يبغي وصوله إلى فمه وليس الماء ببالغٍ فمه أبداً لكونه جماداً لا يشعر بعطشه {وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلا فِي ضَلالٍ} أي ما دعاؤهم والتجاؤهم لآلهتهم إلا في ضياع وخسار لأنه لا يُجدي ولا يفيد {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} أي ولله وحده يخضع وينقاد أهل السماوات وأهل الأرض {طَوْعًا وَكَرْهًا} أي طائعين وكارهين، قال الحسن: المؤمن يسجد طوعاً، والكافر يسجد كرْهاً أي في حالة الفزع والاضطرار {وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ} أي وتسجد ظلالهُم أيضاً لله في أول النهار وأواخره، والغرضُ الإِخبار عن عظمة الله تعالى وسلطانه الذي قهر كلَّ شيء، ودان له كل شيء، بأنه ينقاد لجلاله جميع الكائنات حتى ظلال الآدمييّن، والكل في نهاية الخضوع والاستسلام لأمره تعالى.



وحدانية الله وحال المؤمن والمشرك تجاهالوحدانية



{قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ قُلِ اللَّهُ قُلِ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ لا يَمْلِكُونَ لأَنفُسِهِمْ نَفْعًا وَلا ضَرًّا قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلْ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ(16)}



{قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} أي قل يا محمد لهؤلاء المشركين مَنْ خالق السماوات والأرض ومدبّر أمرهما؟ والسؤال للتهكم والسخرية بما عبدوا من دون الله {قُلِ اللَّهُ} أي قل لهم تقريعاً وتبكيتاً: اللهُ خالقُهما {قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ لا يَمْلِكُونَ لأَنفُسِهِمْ نَفْعًا وَلا ضَرًّا} أي قل لهم - إلزاماً لإِقامة الحجة عليهم - أجعلتم لله شركاء وعبدتموهم من دونه وهم لا يقدرون على نفع أنفسهم، ولا على دفع الضُرّ عنها، فكيف يستطيعونه لغيرهم؟ { قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ} هذا تمثيلٌ لضلالهم في عبادة غير الله، والمراد بالأعمى الكافر وبالبصير المؤمن، وبالظلمات الضلالُ وبالنور الهدى أي كما لا يستوي الأعمى والبصير، وكما لا تستوي الظلمات والنور، كذلك لا يستوي المؤمن الذي يبصر ضياء الحق، والمشرك الذي عمي عن رؤية ذلك الضياء، فالفارق بين الحق والباطل واضحٌ وضوح الفارق بين الأعمى والبصير، والفارق بين الإِيمان والضلال ظاهر ظهور الفارق بين النور والظلام {أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ} هذا من تمام الاحتجاج عليهم والتهكم بهم أي أم اتخذ هؤلاء المشركون آلهةً خلقوا مخلوقاتٍ كالتي خلقها الله فالتبس الأمر عليهم فلا يدرون خلق الله من خلق آلهتهم؟ وهو تهكم لاذع فإنهم يرون كل شيء من خلق الله، ويرون هذه الآلهة المزعومة لم تخلق شيئاً ثم بعد هذا كلّه يعبدونها من دون الله، وذلك أسخف وأحط ما تصل إليه عقول المشركين، ولما أقام الحجة عليهم جاء بهذا البيان الواضح {قُلْ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} أي الله الخالق لجميع الأشياء لا خالق غيره، وهو المنفرد بالألوهية والربوبية، الغالب لكل شيء، وجميعُ الأشياء تحت قدرته وقهره.



مَثَلُ الحق والباطل وجزاء المطيعين والعاصين



{أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ(17)لِلَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ الْحُسْنَى وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لافْتَدَوْا بِهِ أُوْلَئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسَابِ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ(18)أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ(19)}



{أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً} أي أنزل تعالى من السماء مطراً {فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا} أي فجرت مياه الأودية بمقدار سعتها كل بحَسَبه، فالكبير بمقدار كبره، والصغير بمقدار صغره {فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا} أي حمل السيل الذي حدث من الأمطار زبداً عالياً فوقه وهو ما يحمله السيل من غثاء، ورغوة تظهر على وجه الماء، قال الطبري: هذا مثلٌ ضربه الله للحق والباطل، والإِيمان والكفر، فمثل الحق في ثباته، والباطل في اضمحلاله، مثلُ الماء الذي أنزله الله من السماء إلى الأرض، فاحتمل السيل زبداً عالياً، فالحق هو الماء الباقي الذي يمكث في الأرض، والزبد الذي لا يُنتفع به هو الباطل، وهذا أحد مثلي الحق والباطل، والمثل الآخر قوله تعالى {وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ} أي ومن الذي يوقد عليه الناس من المعادن كالذهب والفضة والنحاس، مما يُسبك في النار طلب الزينةِ أو الأشياء التي يُنتفع بها كالأواني زبدٌ مثل زبد السيل، لا يُنْتفع به كما لا يُنْتفع بَزَبد السيل {كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ} أي كذلك يضرب الله المَثَل للحق والمَثَل للباطل، فمثلُ الحق في ثباته واستقراره كمثل الماء الصافي الذي يستقر في الأرض فينتفع منه الناس، ومثل الباطل في زواله واضمحلاله كمثل الزبد والغثاء الذي يقذف به الماء يتلاشى ويضمحل {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً} أي فأما الزبد الذي لا خير فيه مما يطفو على وجه الماء والمعادن فإنه يرمي به السيل ويقذفه ويتفرق ويتمزّق ويذهب في جانبَيْ الوادي {وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ} أي وأمّا ما ينتفع الناس به من الماء الصافي، والمعدن الخالص فيبقى ويثبت في الأرض {كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ} أي مِثْلَ المَثَلين السابقين يبيّن الله الأمثال للحق والباطل، والهدى والضلال ليعتبر الناس ويتعظوا {لِلَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ الْحُسْنَى} أي للمؤمنين الذين استجابوا لله بالإِيمان والطاعة المثوبةُ الحسنى وهي الجنة دار النعيم {وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ} أي لم يجيبوا ربهم إلى الإِيمان به وهم الكافرون {لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا} أي لو كان لهم جميع ما في الدنيا من الأموال {وَمِثْلَهُ مَعَهُ} أي ومثلَ جميع ما في الدنيا {لافْتَدَوْا بِهِ} أي لبذلوا كل ذلك فداءً لأنفسهم ليتخلصوا من عذاب الله {أُوْلَئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسَابِ} أي لهم الحساب السيء، قال الحسن: يُحاسبون بذنوبهم كلها لا يُغفر لهم منها شيء {وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ} أي المكان الذي يأوون إليه يوم القيامة نار جهنم {وَبِئْسَ الْمِهَادُ} أي بئس هذا المستقر والفِراش الممهد لهم في النار {أَفَمنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى} الهمزة للاستفهام الإِنكاري أي هل يستوي من آمن وصدَّق بما نزل عليك يا محمد ومن بقي يتخبط في ظلمات الجهل والضلال لا لُبَّ له كالأعمى؟ والمراد به عمى البصيرة قال ابن عباس نزلت في حمزة وأبي جهل {إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} أي إنما يتعظ بآيات الله ويعتبر بها ذوو العقول السليمة.



أوصاف أولي الألباب



{الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلا يَنقُضُونَ الْمِيثَاقَ(20)وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ(21)وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً وَيَدْرَءونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ(22) جَنَّاتُ عَدنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَن صَلَحَ مِنْ ءابَآئِهِم وَأَزْوَاجِهِم وَذُرِّيَّاتِهِم وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِم مِّن كُلِّ بَابٍ(23)سَلام عَلَيْكُم بِما صَبَرتُم فَنِعمَ عُقْبَى الدَّارِ(24)}



ثم عدَّد تعالى صفاتهم فقال {الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ} أي يتمون عهد الله الذي وصاهم به وهي أوامره ونواهيه التي كلَّف بها عباده {وَلا يَنقُضُونَ الْمِيثَاقَ} أي لا يخالفون ما وثقوه على أنفسهم من العهود المؤكدة بينهم وبين الله، وبين العباد أيضاً {وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ} أي يصلون الأرحام التي أمر الله بصلتها {وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ} أي يهابون ربهم إجلالاً وتعظيماً {وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ} أي يخافون الحساب السيء المؤدي لدخول النار، فهم لرهبتهم جادّون في طاعة الله، محافظون على حدوده {وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ} أي صبروا على المكاره طلباً لمرضاة الله {وَأَقَامُوا الصَّلاةَ} أي أدَّوا الصلاة المفروضة بحدودها في أوقاتها {وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً} أي أنفقوا بعض أموالهم التي أوجبها الله عليهم في الخفاء والعلانية {وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ} أي يدفعون الجهلَ بالحلم والأذى بالصبر، وقال ابن عباس: يدفعون بالعمل الصالح السيء من الأعمال بمعنى يفعلون الحسنات ليدرءوا بها السيئات وفي الحديث (وأتبع السيئةَ الحسنة تمحها) {أُوْلَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ} أي العاقبة المحمودة في الدار الآخرة وهي الجنة وقد جاء تفسيرها في قوله {جَنَّاتُ عَدنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَن صَلَحَ مِنْ ءابَآئِهِم وَأَزْوَاجِهِم وَذُرِّيَّاتِهِم} أي جنات إقامة خالدة يدخلها أولئك الأبرار ومن كان صالحاً من آبائهم ونسائهم وأولادهم، ليأنسوا بلقائهم ويتمَّ بهم سرورهم، وإن لم يكونوا يستحقون هذه المنازل العالية بأعمالهم، فترفع منازل هؤلاء إكراماً لأولئك وذلك فضل الله، ثم إن لهم إكراماً آخر بيّنه بقوله {وَالْمَلائكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِم مِّن كُلِّ بَابٍ} أي والملائكةُ تدخل عليهم للتهنئة من كل باب من أبواب الجنة يقولون لهم {سَلام عَلَيْكُم بِما صَبَرتُم} أي سلمتم من الآفات والمحن بصبركم في الدنيا، ولئن تعبتم فيما مضى فلقد استرحتم الساعة، وهذه بشارة لهم بدوام السلامة { فَنِعمَ عُقْبَى الدَّارِ} أي نعمت هذه العاقبة الحميدة عاقبتكم وهي الجنة بدل النار.



أوصاف الكافرين الذميمة



{وَالَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ أُوْلَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ(25)}



ولما ذكر تعالى أوصاف المؤمنين التسعة أعقبه بذكر أوصاف الكافرين الذميمة فقال {وَالَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ} أي ينقضون عهودهم بعدما وثقوا على أنفسهم لله أن يعملوا بما عهد إليهم من طاعته والإِيمان به {وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ} أي يقطعون الرحم التي أمر الله بوصلها {وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ} {أُوْلَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ} أي أولئك الموصوفون بما ذُكر من القبائح لهم البعد من رحمته، والطردُ من جنته {وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ} أي لهم ما يسوؤهم في الدار الآخرة وهو عذاب جهنم على عكس المتقين.



الرزق والهداية والاطمئنان من الله



{اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَفَرِحُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلا مَتَاعٌ(26)وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ(27)الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ(28)الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ(29)}



{اللهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ} أي يوسّع على من يشاء من عباده ويضيّق على من يشاء حسب الحكمة والمصلحة {وَفَرِحُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا} أي وفرح هؤلاء المشركون بنعيم الدنيا فرح أشرَ وبطر، وهو إخبار في ضمنه ذمٌ وتسفيه لمن فرح بالدنيا ولذلك حقّرها بقوله {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلا مَتَاعٌ} أي قليل وشيء حقير بالنظر إلى الآخرة {وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ} أي ويقول كفار مكة هلاّ أُنزل على محمد معجزة من ربه مثل معجزة موسى في فلق البحر، ومعجزة عيسى في إحياء الموتى ونحو ذلك {قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ} أي قل لهم يا محمد الأمر بيد الله وليس إليَّ، يُضلُّ من يشاء إضلاله فلا تغني عنه الآياتُ والنُذُّر شيئاً، ويرشد إلى دينه من أراد هدايته لأنه رجع إلى ربه بالتوبة والإِنابة، قال ابن جزي: خرج بالكلام مخرج التعجب حين طلبوا آية والمعنى قد جاءكم محمد صلى الله عليه وسلم بالقرآن وآياتٍ كثيرة فعميتُم عنها، وطلبتم غيرها، وتماديتم على الكفر فإنه تعالى يضل من يشاء مع ظهور الآيات، ويهدي من يشاء دون ذلك {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ} هذا بدلٌ والمعنى يهدي أهل الإِنابة وهم الذين آمنوا وتسكن وتستأنس قلوبهم بذكر الله وتوحيده، وجيء بصيغة المضارع لإِفادة دوام الاطمئنان واستمراره {أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} أي ألا فانتبهوا أيها القوم فإن بذكر الله تستأنس وتسكن قلوب المؤمنين، فلا يشعرون بقلق واضطراب من سوء العقاب، على عكس الذين إذا ذكر الله اشمأزتْ قلوبهُم {الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ} أي أما المؤمنون أهل الأعمال الصالحة فقرة عينٍ لهم ونعم ما يلقون من الهناءة والسعادة في المرجع والمنقلب، قال ابن عباس: {طُوبَى لَهُمْ} فرحٌ وقرة عين.





صاحب الرسالة، وبيان عظمة الله وقدرته



{كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهَا أُمَمٌ لِتَتْلُوَ عَلَيْهِمْ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَانِ قُلْ هُوَ رَبِّي لا إِلَهَ إِلا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ(30)وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى بَلْ لِلَّهِ الأَمْرُ جَمِيعًا أَفَلَمْ يَيْئَسْ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا وَلا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِنْ دَارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ(31)وَلَقَدْ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ(32)أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ قُلْ سَمُّوهُمْ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي الأَرْضِ أَمْ بِظَاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ وَصُدُّوا عَنْ السَّبِيلِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ(33)لَهُمْ عَذَابٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَشَقُّ وَمَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ(34)}



سبب النزول:

نزول الآية (31):

{ولو أن قرآنا}: أخرج الطبراني وغيره عن ابن عباس، قال: قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: إن كان كما تقول، فأرنا أشياخنا الأُوَل، نكلمهم من الموتى، وافسح لنا هذه الجبال - جبال مكة التي قد ضمتنا، فنزلت: {ولو أن قرآناً سيرت به الجبال} الآية.



{كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهَا أُمَمٌ} أي كما أرسلنا الأنبياء من قبلك كذلك أرسلناك يا محمد في أمة قد مضت قبلها أمم كثيرة، فهي آخر الأمم وأنتَ خاتم الأنبياء {لِتَتْلُوَ عَلَيْهِمْ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} أي لتبلّغهم هذا الوحي العظيم والذكر الحكيم {وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَانِ} أي والحال أنهم يكفرون بالرحمن الذي وسعت رحمته كل شيء {قُلْ هُوَ رَبِّي لا إِلَهَ إِلا هُوَ} أي قل يا محمد لهؤلاء المشركين إن الرحمن الذي كفرتم به وأنكرتم معرفته هو ربي الذي آمنتُ به لا معبود لي سواه {عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ} أي عليه وحده اعتمدت، وإليه توبتي ومرجعي فيثيبني على مجاهدتكم، والغرضُ تسلية النبي صلى الله عليه وسلم مما يلقاه من كفار قريش من الجحود والعناد فقد كذَّب قبلهم الأمم {وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ} أي لو كان كتابٌ من الكتب المنزّلة سُيرت بتلاوته الجبال وزعزعت عن أماكنها {أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الأَرْضُ} أي شُققت به الأرض حتى تتصدَّع وتصير قطعاً {أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى} أي خوطب به الموتى حتى أجابوا وتكلموا بعد أن أحياهم الله بتلاوته عليهم، وجواب {لو} محذوف تقديره: لكان هذا القرآن، لكونه غايةً في الهداية والتذكير، ونهايةً من الإِنذار والتخويف، وقال الزجاج: تقديره "لما آمنوا" لغلوهم في المكابرة والعناد، وتماديهم في الضلال والفساد {بَلْ لِلَّهِ الأَمْرُ جَمِيعًا} بلْ للإِضراب والمعنى: لو أن قرآناً فُعل به ما ذُكر لكان ذلك هذا القرآن، ولكنَّ الله لم يجبهم إلى ما اقترحوا من الآيات، لأنه هو المالك لجميع الأمور والفاعل لما يشاء منها من غير أن يكون لأحدٍ عليه تحكّمٌ أو اقتراح {أَفَلَمْ يَيْئَسْ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا} أي أفلم يقنط وييأس المؤمنون من إيمان الكفار، ويعلموا أنه تعالى لو شاء هدايتهم لهداهم لأن الأمر له، ولكنْ قضت الحكمة أن يكون بناء التكليف على {وَلا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ} أي ولا يزال كفار مكة يصيبهم بسوء أعمالهم وكفرهم داهيةٌ تقرع أسماعهم وتقلق بالهم من صنوف البلايا والمصائب {أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِنْ دَارِهِمْ} أي أو تحلُّ القارعة والداهية قريباً من ديارهم فيفزعون منها ويتطاير إليهم شررها {حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ} بإظهار الإِسلام وانتصارك عليهم بفتح مكة {إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ} أي لا يخلف وعده لرسله وأوليائه بنصرتهم على أعدائه {وَلَقَدْ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ} تسلية وتأنيس للنبي صلى الله عليه وسلم أي كما استهزأ بك المشركون فقد استهزأ المجرمون برسلهم وأنبيائهم {فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ} أي أمهلتهم وتركتهم في أمنٍ وَدَعة ثم أخذتهم بالعذاب {فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ} أي فكيف كان عقابي لهم على الكفر والتكذيب؟ {أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ} أي أفمن هو رقيب حفيظ على عمل كل إنسان لا يخفى عليه شيء من أعمال العباد وهو الله تعالى، والخبر محذوف تقديره: كمن ليس بهذه الصفة من الأصنام التي لا تسمع ولا تنفع ولا تملك من الأمر شيئاً، قال الفراء : وتُرك جوابهُ لأن المعنى معلومٌ وقد بيّنه بعد هذا بقوله {وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ} كأنه قيل: هل الله كشركائهم؟ وقال الزمخشري: هذا احتجاجٌ عليهم في إشراكهم بالله يعني أفالله الذي هو قائم رقيب على كل نفسٍ صالحة أو طالحة بما كسبت من خير أو شر وقد أعدَّ لكلٍ جزءاه كمن ليس كذلك {وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ قُلْ سَمُّوهُمْ} أي وجعل المشركون آلهة عبدوها معه من أصنام وأنداد في منتهى العجز والحقارة والجهالة، قل لهم يا محمد: سمّوهم لنا وصفوهم لننظر هل لهم ما يستحقون به العبادة والشركة مع الله؟ {أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي الأَرْضِ} أي أم تخبرون الله بشركاء لا يعلمهم سبحانه وهو استفهام للتوبيخ {أَمْ بِظَاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ} أي أم تسمونهم شركاء بظنٍ باطلٍ فاسد لا حقيقة له، لفرط الجهل وسخافة العقل {بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ} أي زيَّن لهم الشيطان ذلك الكفر والضلال {وَصُدُّوا عَنْ السَّبِيلِ} أي مُنعوا عن طريق الهدى {وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} أي ومن يضلله الله فما له أحدٌ يهديه {لَهُمْ عَذَابٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} أي لهؤلاء الكفرة عذاب عاجل في هذه الحياة الدنيا بالقتل والأسر وسائر المحن {وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَشَقُّ} أي ولعذابهم في الآخرة أثقل وأشد إيلاماً من عذاب الدنيا {وَمَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ} أي وليسلهم من يحميهم من عذاب الله أو يدفع عنهم سخطه وانتقامه.







وصف الجنة، وموقف أهل الكتاب من نبوته صلى الله عليه وسلم



{مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا تِلكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوا وَعُقْبَى الْكَافِرِينَ النَّارُ(35)وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَفْرَحُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمِنْ الأَحْزَابِ مَنْ يُنكِرُ بَعْضَهُ قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُو وَإِلَيْهِ مَآبِ(36)وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ حُكْمًا عَرَبِيًّا وَلَئِنْ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُمْ بَعْدَمَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا وَاقٍ(37)وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ(38)يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ(39)}



سبب النّزول:

نزول الآية (38):

قال الكلبي: عيَّرت اليهود رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالت: ما نرى لهذا الرّجل مهمّة إلا النِّساء والنّكاح، ولو كان نبيّاً كما زعم، لشغله أمر النُّبوة عن النِّساء، فأنزل الله تعالى: {ولقد أرسلنا رسلاً من قبلك، وجعلنا لهم أزواجاً وذُرِّيةً}.

{مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ} أي صفة الجنة العجيبة الشأنِ التي وعد الله بها عباده المتقين أنها تجري من تحت قصورها وغرفها الأنهار {أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا} أي ثمرها دائم لا ينقطع، وظلُّها دائم لا تنسخه الشمس {تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوا} أي تلك الجنة عاقبة المتقين ومآلهم {وَعُقْبَى الْكَافِرِينَ النَّارُ} أي وأما عاقبة الكفار الفجار فهي النار {وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمْ الْكِتَابَ يَفْرَحُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ} أي والذين أنزلنا إليهم التوراة والإِنجيل - ممن آمن بك واتبعك يا محمد - كعبد الله بن سلام والنجاشي وأصحابه يفرحون بهذا القرآن لما في كتبهم من الشواهد على صدقه والبشارة به {وَمِنْ الأَحْزَابِ مَنْ يُنكِرُ بَعْضَهُ} أي ومن أهل الملل المتحزبين عليك وهم أهل أديان شتى من ينكر بعض القرآن مكابرة مع يقينهم بصدقه لأنه موافق لما معهم {قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلا أُشْرِكَ بِهِ} أي قل يا محمد إنما أُمرتُ بعبادة الله وحده لا أشركُ معه غيره {إِلَيْهِ أَدْعُو وَإِلَيْهِ مَآبِ} أي إلى عبادته أدعو الناس وإليه مرجعي ومصيري {وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ حُكْمًا عَرَبِيًّا} أي ومثل إنزال الكتب السابقة أنزلنا هذا القرآن بلغة العرب لتحكم به بين الناس {وَلَئِنْ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَمَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ} أي ولئن اتبعتَ المشركين فيما يدعونك إليه من الأهواء والآراء بعدما آتاك الله من الحجج والبراهين {مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا وَاقٍ} أي ليس لك ناصرٌ ينصرك أو يقيك من عذاب الله، والمقصود تحذير الأمة من اتباع أهواء الناس لأن المعصوم إذا خوطب بمثل ذلك كان الغرض تحذير الناس، قال القرطبي: الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والمراد الأمة {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ} أي أرسلنا قبلك الرسل الكرام {وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً} أي وجعلنا لهم النساء والبنين، وهو ردٌّ على من عاب على الرسول صلى الله عليه وسلم كثرة النساء وقالوا: لو كان مرسلاً حقاً لكان مشتغلاً بالزهد وترك الدنيا والنساء، فردَّ الله مقالتهم وبيَّن أن محمداً صلى الله عليه وسلم ليس ببدعٍ في ذلك، بل هو كمن تقدم من الرسل {وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ} أي لم يكن لرسولٍ أن يأتي قومه بمُعجزة إلا إذا أذن الله له فيها، وهذا ردٌّ على الذين اقترحوا الآيات {لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ} أي لكل مدةٍ مضروبة كتابٌ كتبه الله في اللوح المحفوظ، وكلُّ شيء عنده بمقدار، قال الطبري: لكل أمر قضاه الله كتابٌ قد كتبه فهو عنده {يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ} أي ينسخ الله ما يشاء نسخه من الشرائع والأحكام وصحف الملائكة الكرام، ويثبتُ ما يشاء منها دون تغيير، قال ابن عباس: يبدّل الله ما يشاء فينسخه إلا الموتَ والحياة والشقاء والسعادة فإنه قد فرغ منها وقيل: إن المحو والإِثبات عامٌ في جميع الأشياء لما روي أن عمر بن الخطاب كان يطوف بالبيت ويبكي ويقول: اللهمَّ إن كنتَ كتبت عليَّ شقوةً أو ذنباً فامحه، فإنك تمحو ما تشاء وتثبت وعندك أمُّ الكتاب، واجعله سعادةً ومغفرة، وقد رجحه أبو السعود وهو قول ابن مسعود أيضاً {وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} أي أصل كل كتاب وهو اللوح المحفوظ الذي كتب الله فيه مقاديرَ الأشياءِ كلَّها.



مهمته صلى الله عليه وسلم تبليغ الرسالة، ومآل الكفار، وتكذيبهم برسالته



{وَإِنْ مَا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ(40)أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا وَاللَّهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ(41)وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعًا يَعْلَمُ مَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ(42)وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلاً قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ(43)}



{وَإِنْ مَا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ} أي وإن أريناك يا محمد بعض الذي وعدناهم من العذاب {أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ} أي نقبضك قبل أن نقر عينك بعذاب هؤلاء المشركين {فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ} أي ليس عليك إلا تبليغ الرسالة وعلينا حسابهم وجزاؤهم {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا} أي أولمْ ير هؤلاء المشركون أنّا نمكّن للمؤمنين من ديارهم ونفتح للرسول الأرض بعد الأرض حتى تنقص دار الكفر وتزيد دار الإِسلام؟ وذلك من أقوى الأدلة على أن الله منجزٌ وعده لرسوله عليه السلام {وَاللَّهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ} أي ليس يتعقب حكمه أحد بنقضٍ ولا تغيير {وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} أي سريع الانتقام ممن عصاه {وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} أي مكر الكفار الذين خَلَوْا بأنبيائهم كما مكر كفار قريش بك {فَلِلهِ الْمَكْرُ جَمِيعًا} أي له تعالى أسباب المكر جميعاً لا يضر مكرهم إلا بإرادته، فهو يوصل إليهم العذاب من حيث لا يعلمون {يَعْلَمُ مَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ} أي من خير وشر فيجازي عليه {وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ} أي لمن تكون العاقبة الحسنة في الآخرة {وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلاً} أي يقول كفار مكة لستَ يا محمد مرسلاً من عند الله {قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ} أي حسبي شهادة الله بصدقي بما أيدني من المعجزات {وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ} أي وشهادة المؤمنين من علماء أهل الكتاب.

yacine414
2011-03-26, 17:27
سورة إبراهيم



تنزيل القرآن لهداية الناس

إرسال الله موسى عليه السلام لهداية قومه

أخبار بعض الرسل السابقين

تهديد الكفار رسلهم بالطرد

لله القدرة المطلقة

الحوار بين الأشقياء والشيطان وحال السعداء

مثل الكلمة الطيبة والخبيثة

التحذير من عصيان الله، والأمر بالصلاة والإنفاق

دلائل وجوده تعالى ونعمه على عباده

دعاء نبي الله إبراهيم عليه السلام

من مشاهد يوم القيامة وأهوالها



بَين يَدَي السُّورَة



* تناولت السورة الكريمة موضوع العقيدة في أصولها الكبيرة "الإِيمان بالله، الإِيمان بالرسالة، الإِيمان بالبعث والجزاء" ويكاد يكون محور السورة الرئيسي "الرسالة والرسول" فقد تناولت دعوة الرسل الكرام بشيء من التفصيل، وبيَّنتْ وظيفة الرسول، ووضحت معنى وحدة الرسالات السماوية، فالأنبياء صلوات الله عليهم أجمعين جاؤوا لتشييد صرح الإِيمان، وتعريف الناس بالإِله الحق الذي تعنو له الوجوه، وإِخراج البشرية من الظلمات إِلى النور، فدعوتُهم واحدة، وهدفهم واحد، وإِن كان بينهم اختلافٌ في الفروع.



* وقد تحدثت السورة عن رسالة موسى عليه السلام، ودعوته لقومه إِلى أن يعبدوا الله ويشكروه، وضربت الأمثال بالمكذبين للرسل، من الأمم السابقة كقوم نوح، وعاد، وثمود، ثم تناولت الآيات موضوع الرسل مع أقوامهم على مر العصور والدهور، وحكت ما جرى بينهم من محاورات ومناورات انتهت بإِهلاك الله للظالمين {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ* وَلَنُسْكِنَنَّكُمْ الأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ}.



* وتحدثت السورة عن مشهد من مشاهد الآخرة، حيث يلتقي الأشقياء المجرمون بأتباعهم الضعفاء، وذكرت ما يدور بينهم من حوار طويل، ينتهي بتكدس الجميع في نار جهنم يصطلون سعيرها، فلم ينفع الأتباع تلك اللعنات والشتائم التي وجهوها إِلى الرؤساء فالكل في السعير، ثم ضربت الآيات مثلاً لكلمة الإِيمان، وكلمة الضلال، بالشجرة الطيبة، والشجرة الخبيثة، وختمت السورة ببيان مصير الظالمين يوم الجزاء والدين.



التســميَــة:

سميت السورة الكريمة "سورة إبراهيم" تخليداً لمآثر أب الأنبياء، وإِمام الحنفاء إبراهيم عليه السلام، الذي حطم الأصنام، وحمل راية التوحيد، وجاء بالحنيفية السمحة ودين الإِسلام الذي بعث به خاتم المرسلين، وقد قص علينا القرآن الكريم دعواته المباركة بعد انتهائه من بناء البيت العتيق، وكلها دعوات إلى الإِيمان والتوحيد.



تنزيل القرآن لهداية الناس



الر كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ(1)اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَوَيْلٌ لِلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ(2)الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا أُوْلَئِكَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ(3)وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ(4)}.



{الر} هذا الكتاب المعجز مؤلف من جنس هذه الحروف المقطعة فأتوا بمثله إِن استطعتم {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ} أي هذا القرآن كتاب أنزلناه عليك يا محمد، لم تنشئْه أنتَ وإِنما أوحيناه نحن إِليك {لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} أي لتخرج البشرية من ظلمات الجهل والضلال إِلى نور العلم والإِيمان {بِإِذْنِ رَبِّهِمْ} أي بأمره وتوفيقه {إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} أي لتهديهم إلى طريق الله العزيز الذي لا يُغالب، المحمود بكل لسان، الممجَّد في كل مكان .

{اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ} أي المالك لما في السماوات والأرض، الغني عن الناس، المسيطر على الكون وما فيه {وَوَيْلٌ لِلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ} قال الزجاج: {وَوَيْلٌ} كلمة تُقال للعذاب والهلكة، أي هلاك ودمارٌ للكافرين ويا ويلهم من عذاب الله الأليم.

ثم وضّح صفات أولئك الكفار بقوله {الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ} أي يفضّلون ويؤثرون الحياة الفانية على الحياة الآخرة الباقية {وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} أي يصرفون الناس ويمنعونهم عن دين الإِسلام {وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا} أي يطلبون أن تكون طريق الله معوجَّة لتوافق أهواءهم {أُوْلَئِكَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ} أي أولئك المتصفون بتلك الصفات الذميمة في ضلالٍ عن الحق مبين، لا يُرجى لهم صلاح ولا نجاح .

{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلا بِلِسَانِ قَوْمِهِ} أي وما أرسلنا في الأمم الخالية رسولاً من الرسل إِلا بلغة قومه {لِيُبَيِّنَ لَهُمْ} أي ليبيّن لهم شريعة الله ويفهمهم مراده، لتتمَّ الغاية من الرسالة {فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} أي وليست وظيفة الرسل إِلا التبليغ وأما أمر الهداية والإِيمان فذلك بيد الله يضلُّ من يشاء إِضلاله، ويهدي من يشاء هدايته على ما سبق به قضاؤه المحكم {وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} أي وهو العزيز في ملكه، الحكيم في صنعه.



إرسال الله موسى عليه السلام لهداية قومه



{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ(5)وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنجَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ(6)وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ(7)وَقَالَ مُوسَى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الأَرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ(8)}.



{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا} أي أرسلنا موسى بالمعجزات الباهرات الدالة على صدقه {أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} أن تفسيرية بمعنى أيْ، والمعنى أي أخرج بني إِسرائيل من ظلمات الجهل والكفر إِلى نور الإِيمان والتوحيد قال أبو حيان: وفي قوله {قَوْمَكَ} خصوصٌ لرسالة موسى إِلى قومه بخلاف قوله لمحمد {لتخرج الناس} مما يدل على عموم الرسالة {وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ} أي ذكّرهم بنعمه عليهم {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} أي في التذكير بأيام الله لعبراً ودلالات لكل عبد منيب صابر على البلاء، شاكر للنعماء .

{وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ} أي اذكروا نعم الله الجليلة عليكم {إِذْ أَنجَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ} أي حين نجاكم من الذل والاستعباد من فرعون وزبانيته {يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ} أي يذيقونكم أسوأ أنواع العذاب {وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءكُمْ} أي يذبحون الذكور ويستبقون الإِناث على قيد الحياة مع الذل والصغار {وَفِي ذَلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ} أي وفي تلك المحنة ابتلاءٌ واختبار لكم من ربكم عظيم. قال المفسرون: وكان سبب قتل الذكور أن الكهنة قالوا لفرعون إِنَّ مولوداً يولد في بني إِسرائيل يكون ذهاب ملكك على يديه، فأمر بقتل كل مولود.

{وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ} هذا من تتمة كلام موسى أي واذكروا أيضاً حين أعلم ربكم إِعلاماً لا شبهة فيه لئن شكرتم إِنعامي لأزيدنكم من فضلي {وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} أي ولئن جحدتم نعمتي بالكفر والعصيان فإِن عذابي شديد، وعدَ بالعذاب على الكفر، كما وعَدَ بالزيادة على الشكر {وَقَالَ مُوسَى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الأَرْضِ جَمِيعًا} أي وقال موسى لبني إِسرائيل بعد أن أيس من إِيمانهم لئن كفرتم أنتم وجميع الخلائق فلن تضروا اللهَ شيئاً {فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ} أي هو غنيٌّ عن شكر عباده، مستحق للحمد في ذاته وهو المحمود وإِن كفره من كفره.



أخبار بعض الرسل السابقين



{أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لا يَعْلَمُهُمْ إِلا اللَّهُ جَاءتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ وَقَالُوا إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ(9)قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى قَالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلا بَشَرٌ مِثْلُنَا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ(10)قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَمَا كَانَ لَنَا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطَانٍ إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلْ الْمُؤْمِنُونَ(11)وَمَا لَنَا أَلا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ(12)}.



{أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ} أي ألم يأتكم أخبار من قبلكم من الأمم المكذبة كقوم نوح وعاد وثمود ماذا حلَّ بهم لما كذبوا بآيات الله؟ {وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ} أي والأمم الذين جاؤوا بعدهم {لا يَعْلَمُهُمْ إِلا اللَّهُ} أي لا يحصي عددهم إِلا الله {جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ} أي بالحجج الواضحات، والدلائل الباهرات {فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ} أي وضعوا أيديهم على أفواههم تكذيباً لهم. وقال ابن مسعود: عضوا أصابعهم غيظاً {وَقَالُوا إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ} أي كفرنا بما زعمتم أن الله أرسلكم به {وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ} أي في شك عظيم من دعوتكم، وقلق واضطراب من دينكم.

{قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ} أي أجابهم الرسل بقولهم: أفي وجود الله ووحدانيته شك؟ والاستفهام للإِنكار والتوبيخ لأنه لا يحتمل الشك لظهور الأدلة ولهذا لفتوا الانتباه إِلى براهين وجوده بقولهم {فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} أي خالقهما ومبدعهما على غير مثال سابق {يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ} أي يدعوكم إِلى الإِيمان ليغفر لكم ذنوبكم {وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} أي إِن آمنتم أمدَّ في أعماركم إِلى منتهى آجالكم ولم يعاقبكم في العاجل فيهلككم.

{قَالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلا بَشَرٌ مِثْلُنَا} أي ما أنتم إِلا بشر مثلنا لا فضل لكم علينا { تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا} أي تريدون أن تصرفونا عن عبادة الأوثان التي كان عليها آباؤنا {فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ} أي فأتونا بحجة ظاهرة على صدقكم {قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ} أي قالت الرسل: نحن كما قلتم بشر مثلكم {وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} أي يتفضل على من يشاء بالنبوة والرسالة، قال الزمخشري: لم يذكروا فضلهم تواضعاً منهم وسلّموا لقولهم وأنهم بشرٌ مثلُهم في البشرية وحدها، فأمّا ما وراء ذلك فما كانوا مثلهم {وَمَا كَانَ لَنَا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطَانٍ إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ} أي وما ينبغي لنا أن نأتيكم بحجة وآية مما اقترحتموه علينا إِلا بمشيئة الله وإِذنه {وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} أي على الله وحده فليعتمد المؤمنون في جميع أمورهم.

{وَمَا لَنَا أَلا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ} أي قالت الرسل: أيُّ شيء يمنعنا من التوكل على الله؟ { وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا} أي والحال أنه قد بصّرنا طريق النجاة من عذابه {وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا} أي ولنصبرنَّ على أذاكم، قال ابن الجوزي: وإِنما قُصَّ هذا وأمثاله على نبينا صلى الله عليه وسلم ليقتدي بمن قبله في الصبر وليعلم ما جرى لهم {وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ} ليس هذا تكرارا وإِنما معناه الثبات على التوكل أي فليدوموا وليثبتوا على التوكل عليه وحده.

yacine414
2011-03-26, 17:29
تهديد الكفار رسلهم بالطرد



{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ(13)وَلَنُسْكِنَنَّكُمْ الأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ(14)وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ(15)مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ(16)يَتَجَرَّعُهُ وَلا يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ(17)مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ ذَلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ(18)}.



{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا} أي قال الكفار للرسل الأطهار والله لنطردنكم من ديارنا أو لترجعنَّ إِلى ديننا {فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ} أي أوحى الله إِلى الرسل لأهلكنَّ أعداءكم الكافرين المتجبرين {وَلَنُسْكنَنَّكُمْ الأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ} أي ولأمنحنكم سكنى أرضهم بعد هلاكهم {ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ} أي ذلك النصر للرسل وإِهلاك الظالمين لمن خاف مقامه بين يديّ وخاف عذابي ووعيدي، قال أبو حيّان: ولما أقسموا على إِخراج الرسل أو العودة في ملتهم أقسم تعالى على إِهلاكهم، وأي إِخراجٍ أعظم من الإِهلاك بحيث لا يكون لهم عودة إِليها أبداً.

{وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ} أي واستنصر الرسل بالله على قومهم وخسر وهلك كل متجبر معاند للحق {مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ} أي من وراء ذلك الكافر جهنم ويسقى فيها من ماءٍ صديد هو من قيح ودمٍ {يَتَجَرَّعُهُ وَلا يَكَادُ يُسِيغُهُ} أي يبتلعه مرة بعد مرة لمرارته، ولا يكاد يستسيغه لقبحه وكراهته {وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ} أي يأتيه الموت بأسبابه المحيطة به من كل مكان، ولكنَّه لا يموت ليستكمل عذابه {وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ} أي ومن بين يديه عذابٌ أشدُّ مما قبله وأغلظ.

{مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ} أي مثلُ أعمالِ الكفار التي عملوها في الدنيا يبتغون بها الأجر من صدقةٍ وصلة رحم وغيرها مثلُ رمادٍ عصفت به الريح فجعلته هباءً منثوراً {فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ} أي في يومٍ شديد هبوب الريح، قال القرطبي: ضرب الله هذه الآية مثلاً لأعمال الكفار في أنه يمحقها كما تمحق الريح الشديدة الرماد في يوم عاصف لأنهم أشركوا فيها غير الله تعالى {لا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ} أي لا يقدر الكفار على تحصيل ثواب ما عملوا من البرِّ في الدنيا لإِحباطه بالكفر، كما لا يستطيع أن يحصل الإِنسان على شيء من الرماد الذي طيَّرته الريح {ذَلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ} أي الخسران الكبير.



لله القدرة المطلقة



{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ(19)وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ(20)}



{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ} أي ألم تر أيها المخاطب بعين قلبك وتتأمل ببصيرتك أنَّ اللهَ العظيم الجليل انفرد بالخلق والإِيجاد، وأنه خلق السماوات والأرض ليُستدلَّ بهما على قدرته؟ قال المفسرون: أي لم يخلقهن عبثاً وإِنما خلقهنَّ لأمرٍ عظيم {إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ} أي هو قادرٌ على الإِفناء كقدرته على الإِيجاد والإِحياء. قال ابن عباس: يريد أن يميتكم يا معشر الكفار ويخلق قوماً غيركم خيراً منكم وأطوع {وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ} أي ليس ذلك بصعبٍ أو متعذرٍ على الله، فإِنَّ القويَّ القادر لا يصعبُ عليه شيء.



الحوار بين الأشقياء والشيطان وحال السعداء



{وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعًا فَقَالَ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ قَالُوا لَوْ هَدَانَا اللَّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ(21)وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِي مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ(22)وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلامٌ(23)}.



{وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعًا} أي خرجوا من قبورهم يوم البعث، وظهروا للحساب لا يسترهم عن الله ساتر. قال الإِمام الفخر الرازي: ورد بلفظ الماضي {وَبَرَزُوا} وإِن كان معناه الاستقبال لأن كل ما أخبر الله تعالى عنه فهو صدقٌ وحقٌ، فصار كأنه قد حصل ودخل في الوجود، ونظيره {وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ}.

{فَقَالَ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا} أي قال الأتباع والعوام للسادة الكبراء والقادة الذين أضلوهم في الدنيا {إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا} أي كنا أتباعاً لكم نأتمر بأمركم { فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ} أي هل أنتم دافعون عنا شيئاً من عذاب الله؟ والاستفهام للتوبيخ والتقريع {قَالُوا لَوْ هَدَانَا اللَّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ} أي قال القادة معتذرين: لو هدانا الله للإِيمان لهديناكم إِليه، ولكن حصل لنا الضلال فأضللناكم فلا ينفعنا العتاب ولا الجزع {سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا} أي يستوي علينا الجزع والصبر. قال الطبري: إِن أهل النار يجتمعون فيقول بعضهم لبعض: إِنما أدركَ أهلُ الجنةِ ببكائهم وتضرعهم إِلى الله فتعالوْا نبكي ونتضرع إلى الله، فبكوا فلما رأوا أن ذلك لا ينفعهم قالوا: تعالوا نصبر فصبروا صبراً لم يُر مثلُه، فلما رأوا أنه لا ينفعهم قالوا {سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا} وقال مقاتل: جزعوا خمسمائة عام، وصبروا خمسمائة عام {مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ} أي ليس لنا من مهرب أو ملجأ.

{وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ} هذه هي الخطبة البتراء التي يخطب بها إِبليس في محفل الأشقياء في جهنم أي لمّا فُرغ من الحساب ودخل أهلُ الجنةِ الجنةَ وأهلُ النارِ النارَ { إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ} أي وعدكم وعداً حقاً بإِثابة المطيع وعقاب العاصي فوفَّى لكم وعده {وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ} أي وعدتكم ألاّ بعث ولا ثواب ولا عقاب فكذبتكم وأخلفتكم الوعد {وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ} أي لم يكن لي قدرة وتسلط وقهر عليكم فأقهركم على الكفر والمعاصي {إِلا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي} أي إِلا دعائي إِياكم إِلى الضلالة بالوسوسة والتزيين فاستجبتم لي باختياركم {فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ} أي لا ترجعوا باللوم عليَّ اليوم ولكن لوموا أنفسكم فإِن الذنب ذنبكم .

{مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ} أي ما أنا بمغيثكم ولا أنتم بمغيثيَّ من عذاب الله {إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِي مِنْ قَبْلُ} أي كفرت بإِشراككم لي من الله في الطاعة {إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} أي إِن المشركين لهم عذاب مؤلم. قال المفسرون: هذه الخطبة إِنما تكون إِذا استقر أهل الجنةِ في الجنة، وأهلُ النار في النار، فيأخذ أهل النار في لوم إِبليس وتقريعه فيقوم فيما بينهم خطيباً بما أخبر عنه القرآن. وقال الحسن: يقف إِبليس يوم القيامة خطيباً في جهنم على منبرٍ من نار يسمعه الخلائق جميعاً.

{وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ} لمّا ذكر تعالى أحوال الأشقياء، ذكر بعده أحوال السعداء، ليبقى العبد بين الرغبة والرهبة، وبين الخوف والرجاء أي أدخلهم الله تعالى جناتٍ تجري من تحت قصورها أنهار الجنة ماكثين فيها أبداً بأمره تعالى وتوفيقه وهدايته {تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلامٌ} أي تُحَيِّهم الملائكة بالسلام مع الإِجلال والإِكرام.



مثل الكلمة الطيبة والخبيثة



{أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ(24)تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ(25)وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ(26) يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ(27)}



{أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ} هذا مثلٌ ضربه الله لكلمة الإِيمان وكلمة الإِشراك، فمثَّل لكلمة الإِيمان بالشجرة الطيبة، ولكلمة الإِشراك بالشجرة الخبيثة، قال ابن عباس: الكلمة الطيبة "لا إِله إِلا الله" والشجرة الطيبة "المؤمن" {أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ} أي أصلها راسخ في الأرض وأغصانها ممتدة نحو السماء .

{تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا} أي تعطي ثمرها كلَّ وقت بتيسير الخالق وتكوينه، كذلك كلمة الإِيمان ثابتة في قلب المؤمن، وعملُه يصعد إِلى السماء ينال بركته وثوابه في كل وقت {وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} أي يبيّن لهم الأمثال لعلهم يتعظون فيؤمنون.

{وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ} أي ومثل كلمة الكفر الخبيثة كشجرة الحَنْظل الخبيثة {اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الأَرْضِ} أي استؤصلت من جذورها واقتلعت من الأرض لعدم ثبات أصلها {مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ} أي ليس لها استقرارٌ وثبات، كذلك كلمة الكفر لا ثبات لها ولا فرع ولا بركة، قال ابن الجوزي: شُبه ما يكسبه المؤمن من بركة الإِيمان وثوابه في كل وقت بثمرتها المجتناة في كل حين، فالمؤمن كلما قال "لا إِله إِلا الله" صعدت إِلى السماء ثم جاء خيُرها ومنفعتها، والكافر لا يُقبل عمله ولا يصعد إِلى الله تعالى، لأنه ليس له أصل في الأرض ثابت، ولا فرع في السماء .

{يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} أي يثبتهم على كلمة التوحيد "لا إله إلا الله" وعلى الإِيمان في هذه الحياة فلا يزيغون ولا يُفْتنون {وَفِي الآخِرَةِ} أي عند سؤال الملكين في القبر كما في الحديث الشريف (المسلم إذا سئل في القبر شهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله فذلك قوله تعالى {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا } .. الآية {وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ} أي لا يهديهم في الحياة ولا عند سؤال الملكين وقت الممات {وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} أي من هداية المؤمن وإِضلال الكافر لا يُسأل عما يفعل وهم يُسألون.





التحذير من عصيان الله، والأمر بالصلاة والإنفاق



{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ(28)جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ(29)وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ(30)قُلْ لِعِبَادِي الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُنفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خِلالٌ(31)}.



سبب النزول:

نزول الآية (28):

{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا..} قال ابن عباس: هؤلاء هم كفار مكة. وأخرج الحاكم وابن جرير والطبراني وغيرهم عن عمر وعلي رضي الله عنهما أنهما قالا في المبدّلين: هم الأفجران من قريش: بنو المغيرة، وبنو أمية، فأما بنو المغيرة فقطع الله تعالى دابرهم يوم بدر - أو فكفيتموهم - وأما بنو أمية فمتعوا إلى حين.



{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا} استفهام للتعجيب أي ألا تعجب أيها السامع من أولئك الذين غيَّروا نعمة الله بالكفر والتكذيب؟ قال المفسرون: هم كفار مكة فقد أسكنهم الله حرمه الآمن، وجعل عيشهم في السِّعة، وبعث فيهم محمداً صلى الله عليه وسلم فلم يعرفوا قدر هذه النعمة، وكفروا به وكذبوه، فابتلاهم الله بالقحط والجدب {وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ} أي أنزلوا قومهم دار الهلاك بكفرهم وطغيانهم ثم فسَّرها بقوله {جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ} أي أحلوهم في جهنم يذوقون سعيرها وبئست جهنم مستقراً.

{وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ} أي جعلوا لله شركاء مماثلين عبدوهم كعبادته ليُضلوا الناس عن دين الله {قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ} أي استمتعوا بنعيم الدنيا فإِن مردَّكم ومرجعكم إِلى عذاب جهنم، وهو وعيد وتهديد.

{قُلْ لِعِبَادِي الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاةَ} أي قل يا محمد لعبادي الذين آمنوا فلْيقيموا الصلاة المفروضة عليهم ويؤدوها على الوجه الأكمل {وَيُنفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً} أي ولينفقوا مما أنعمنا عليهم به من الزرق خفيةً وجهرةً {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خِلالٌ} أي من قبل أن يأتي يوم القيامة الذي لا انتفاع فيه بمبايعة ولا صداقة، ولا فداء ولا شفاعة..



دلائل وجوده تعالى ونعمه على عباده



{اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمْ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمْ الأَنهَارَ(32)وَسَخَّرَ لَكُمْ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمْ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ(33)وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ(34)}.



ولما أطال الكلام في وصف أحوال السعداء والأشقياء ختم ذلك بذكر الدلائل الدالة على وجود الخالق الحكيم فقال {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ} أي أبدعهما واخترعهما على غير مثال سبق {وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً} أي أنزل من السحاب المطر {فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ} أي أخرج بالمطر من أنواع الزروع والثمار رزقاً للعباد يأكلونه {وَسَخَّرَ لَكُمْ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ} أي ذلَّل السفن الكبيرة لتسير بمشيئته، تركبونها وتحملون فيها أمتعتكم من بلد إِلى بلد {وَسَخَّرَ لَكُمْ الأَنهَارَ} أي الأنهار العذبة لتشربوا منها وتسقوا وتزرعوا {وَسَخَّرَ لَكُمْ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ} أي وذلَّل لكم الشمس والقمر يجريان بانتظام لا يفتران، لصلاح أنفسكم ومعاشكم {وَسَخَّرَ لَكُمْ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ} أي لتسكنوا في الليل، ولتبتغوا من فضله بالنهار، هذا لمنامكم وذاك لمعاشكم .

{وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ} أي أعطاكم كل ما تحتاجون إِليه، وما يصلح أحوالكم ومعاشكم، مما سألتموه بلسان الحال أو المقال {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا} أي وإِن تعدُّوا نِعَم اللهِ عليكم لا تطيقوا حصرها وعدَّها، فهي أكبر وأكثر من أن يحصيها عدد {إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} الإِنسان اسم جنس أي إن الإِنسان لمبالغٌ في الظلم والجحود، ظالمٌ لنفسه بتعديه حدود الله، جحودٌ لنعم الله، وقيل: ظلوم في الشدة يشكو ويجزع، كفَّار في النعمة يجمع ويمنع.



دعاء نبي الله إبراهيم عليه السلام



{وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ(35)رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ(36)رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ(37)رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ(38)الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ(39)رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ(40)رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ(41)}.



{وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا} أي اجعل مكة بلد أمنٍ يأمن أهله وساكنوه {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ} أي احمني يا رب وجنبني وأولادي عبادة الأصنام، والغرضُ تثبيتُه على ملة التوحيد والإِسلام {رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ} أي يا ربّ إِنَّ هذه الأصنام أضلَّت كثيراً من الخلق عن الهداية والإِيمان {فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي} أي فمن أطاعني وتبعني على التوحيد فإِنه من أهل ديني {وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} أي ومن خالف أمري فإِنك يا رب غفار الذنوب رحيمٌ بالعباد .

{رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي} كرّر النداء رغبةً في الإِجابة وإِظهاراً للتذلل والإِلتجاء إلى الله تعالى أي يا ربنا إني أسكنت من أهلي - ولدي إسماعيل وزوجي هاجر- { بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ} أي بوادٍ ليس فيه زرع في جوار بيتك المحرم، وهو وادي مكة شرفها الله تعالى {رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً} أي يا ربنا لكي يعبدوك ويقيموا الصلاة أسكنتهم بهذا الوادي فاجعل قلوبَ الناسِ تحنُّ وتسرع إِليهم شوقاً، قال ابن عباس: لو قال (أفئدة الناس) لازدحمت عليه فارس والروم والناسُ كلهم، ولكنْ قال {مِنْ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ} فهم المسلمون {وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ} أي وارزقهم في ذلك الوادي القفر من أنواع الثمار ليشكروك على جزيل نِعمك، وقد استجاب الله دعاءه، فجعل مكة حرماً آمناً يجبى إليها ثمرات كل شيء رزقاً من عند الله .

{رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ} أي يا ربنا إِنك العالم لما في القلوب تعلم ما نسرُّ وما نظهر {وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ} أي لا يغيب عليه تعالى شيء في الكائنات، سواء منها ما كان في الأرض أو في السماء، فكيف تخفى عليه وهو خالقها وموجدها؟ {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ} أي الحمد لله الذي رزقني على كبر سني وشيخوختي إِسماعيل وإِسحاق. قال ابن عباس: ولد له إِسماعيل وهو ابن تسعٍ وتسعين، وولد له إِسحاق وهو ابن مائة واثنتي عشرة سنة {إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ} أي مجيبٌ لدعاء من دعاه.

{رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي} هذه هي الدعوة السادسة من دعوات الخليل عليه السلام أي يا رب اجعلني ممن حافظ على الصلاة واجعل من ذريتي من يقيمها أيضاً، وهذه خير دعوةٍ يدعوها المؤمن لأولاده فلا أحبَّ له من أن يكون مقيماً للصلاة هو وذريته لأنها عماد الدين {رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ} أي تقبَّلْ واستجبْ دعائي فيما دعوتك به .

{رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ} هذه هي الدعوة السابعة وبها ختم إِبراهيم دعاءه الضارع الخاشع بالاستغفار له ولوالديه ولجميع المؤمنين، يوم يقوم الناس لرب العالمين. قال المفسرون: استغفر لوالديه قبل أن يتبيَّن له أنَّ أباه عدوٌ لله. قال القشيري: ولا يبعد أن تكون أمه مسلمة لأن الله ذكر عذره في استغفاره لأبيه دون أمه.



من مشاهد يوم القيامة وأهوالها



{وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ(42)مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ(43)وَأَنذِرْ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمْ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعْ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ(44)وَسَكَنتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمْ الأَمْثَالَ(45)وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ(46)فَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انتِقَامٍ(47)يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ(48)وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الأَصْفَادِ(49)سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمْ النَّارُ(50)لِيَجْزِيَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ(51)هَذَا بَلاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ(52)}



وينتقل السياق إِلى مشاهد القيامة وما فيها من الأهوال حين تتزلزل القلوب والأقدام {وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ} أي لا تظننَّ يا محمد أنَّ الله ساهٍ عن أفعال الظلمة، فإِن سنة الله إِمهال العصاة ثم يأخذهم أخذ عزيزٍ مقتدر، قال ميمون بن مِهْران: هذا وعيدٌ للظالم، وتعزيةٌ للمظلوم {إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ} أي إِنما يؤخرهم ليومٍ رهيب عصيب، تَشْخص فيه الأبصار من الفزع والهَلع، فتظلُّ مفتوحة مبهوتة لا تطرف ولا تتحرك، قال أبو السعود: تبقى أبصارهم مفتوحة لا تتحرك أجفانهم من هول ما يرونه .

{مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ} أي مسرعين لا يلتفتون إِلى شيء رافعين رؤوسهم مع إِدامة النظر، قال الحسن: وجوه الناس يومئذٍ إِلى السماء لا ينظر أحدٌ إِلى أحد {لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ} أي لا يطرفون بعيونهم من الخوف والجزع {وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ} أي قلوبهم خالية من العقل لشدة الفزع {وَأَنذِرْ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمْ الْعَذَابُ} أي خوّف يا محمد الكفار من هول يوم القيامة حين يأتيهم العذاب الشديد {فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ} أي فيتوجه الظالمون يومئذٍ إلى الله بالرجاء يقولون يا ربنا أمهلنا إِلى زمنٍ قريب لنستدرك ما فات {نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعْ الرُّسُلَ} أي نجب دعوتك لنا إِلى الإِيمان ونتّبع رسلك فيما جاؤونا به .

{أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ} أي يقال لهم توبيخاً وتبكيتاً: ألم تحلفوا أنكم باقون في الدنيا لا تنتقلون إِلى دار أخرى؟ والمراد إِنكارهم للبعث والنشور {وَسَكَنتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ} أي سكنتم في ديار الظالمين بعد أن أهلكناهم، فهلاَّ اعتبرتم بمساكنهم؟ {وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ} أي تبيَّن لكم بالإِخبار والمشاهدة كيف أهلكناهم وانتقمنا منهم {وَضَرَبْنَا لَكُمْ الأَمْثَالَ} أي بينا لكم الأمثال في الدنيا فلم تعتبروا {وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ} أي مكر المشركون بالرسول وبالمؤمنين حين أرادوا قتله {وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ} أي وعند الله جزاء هذا المكر فإِنه محيط بهم وبمكرهم {وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ} أي وإِن كان مكرهم من القوة والتأثير حتى ليؤدي إِلى زوال الجبال ولكنَّ الله عصَم ووقى منه .

{فَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ} أي لا تظننَّ أيها المخاطب أن الله يخلف رسله ما وعدهم به من النصر وأخذ الظالمين المكذبين {إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انتِقَامٍ} أي إِنه تعالى غالبٌ لا يعجزه شيء منتقم ممن عصاه {يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ} أي ينتقم من أعدائه يوم الجزاء، يوم تتبدل هذه الأرض أرضاً أخرى، وتتبدل السماوات سموات أخرى. قال ابن مسعود: تُبدَّل الأرضُ بأرضٍ كالفضة نقية، لم يسفك فيها دم، ولم يعمل عليها خطيئة .

{وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} أي خرجت الخلائق جميعها من قبورهم، ومثلوا أمام أحكم الحاكمين، لا يسترهم ساتر، ولا يقيهم واقٍ، ليسوا في دورهم ولا في قبورهم، وإِنما هم في أرض المحشر أمام الواحد القهار {وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الأَصْفَادِ} أي وفي ذلك اليوم الرهيب تبصر المجرمين مشدودين مع شياطينهم بالقيود والأغلال، قال الطبري: أي مقرَّنة أيديهم وأرجُلهم إِلى رقابهم بالأصفاد وهي الأغلال والسلاسل {سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ} أي ثيابهم التي يلبسونها من قطران وهي مادة يسرع فيها اشتعال النار، تُطلى بها الإِبل الجربى فيحرق الجربَ بحرّه وحدته، وهو أسود اللون منتنُ الريح {وَتَغْشَى وُجُوهَهُمْ النَّارُ} أي تعلوها وتحيط بها النار، جزاء المكر والاستكبار {لِيَجْزِيَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ} أي برزوا يوم القيامة لأحكم الحاكمين ليجازيهم الله على أعمالهم، المحسنَ بإِحسانه، والمسيءَ بإِساءته {إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} أي لا يشغله شأن عن شأن، يحاسب جميع الخلق في أعجل ما يكون من الزمان، في مقدار نصف نهار من أيام الدنيا كما ورد به الأثر .

{هَذَا بَلاغٌ لِلنَّاسِ} أي هذا القرآن بلاغٌ لجميع الخلق من إنس وجان، أَنزل لتبليغهم بما فيه من فنون العبر والعظات {وَلِيُنذَرُوا بِهِ} أي لكي يُنصحوا به ويخوّفوا من عقاب الله {وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ} أي ولكي يتحققوا فيما فيه من الدلائل الواضحة والبراهين القاطعة، على أنه تعالى واحد أحدٌ، فردٌ صمد {وَلِيَذَّكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} أي وليتعظ بهذا القرآن أصحاب العقول السليمة، وهم السعداء أهل النُّهى والصلاح.

yacine414
2011-03-26, 17:30
سورة الحجر





وصف القرءان لحال الكافرين

تقولات المشركين على الرسول صلى الله عليه وسلم وإفحامهم

البراهين الدالة على وحدانيته وقدرته تعالى

مبدأ خلق الإنسان، وقدرة الله على الإحياء والإماتة ، وعداوة إبليس لبني آدم

جزاء المتقين يوم القيامة

مغفرة الله وعذابه

قصة ضيف إبراهيم

قصة قوم شعيب وثمود

عطايا الله لنبيه صلى الله عليه وسلم، وأمره بالجهر بدعوته



بَين يَدَي السُّورَة



* سورة الحِجْر من السور المكية، التي تستهدف المقاصد الأساسية للعقيدة الإِسلامية "الوحدانية، النبوة، البعث و الجزاء" ومحور السورة يدور حول مصارع الطغاة والمكذبين لرسل الله في شتَّى الأزمان والعصور، ولهذا ابتدأت السورة بالإِنذار والتهديد، ملفَّعاً بظلٍ من التهويل والوعيد {رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ * ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمْ الأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ}.





* عرضت السورة لدعوة الأنبياء، وبينت موقف أهل الشقاوة والضلالة من الرسل الكرام، فما من نبيٍّ إلا سخر منه قومه الضالون، من لدن بعثة شيخ الأنبياء "نوح" عليه السلام، إلى بعثة خاتم المرسلين، وقد بينت السورة أن هذه سنة المكذبين، في كل زمان وحين {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الأَوَّلِينَ* وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ..} الآيات.



* وعرضت السورة إلى الآيات الباهرات، المنبثة في صفحة هذا الكون العجيب، الذي ينطق بآثار اليد المبدعة، ويشهد بجلال عظمة الخالق الكبير، بدءاً بمشهد السماء، فمشهد الأرض، فمشهد الرياح اللواقح، فمشهد الحياة والموت، فمشهد الحشر والنشر، وكلُّها ناطقة بعظمة الله وجلاله، وشاهدة بوحدانيته وقدرته {وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ * وَحَفِظْنَاهَا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ..} الآيات.



* وعرضت السورة إلى قصة "البشرية الكبرى" قصة الهدى والضلال ممثلة في خلق آدم عليه السلام، وعدوه اللدود إبليس اللعين، وما جرى من سجود الملائكة لآدم، واستكبار إبليس عن السجود، واعتراضه على أمر الله وتوعده لذرية آدم {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ..} الآيات.



* ومن قصة آدم تنتقل السورة إلى قصص بعض الأنبياء، تسليةً لرسول الله عليه السلام، وتثبيتاً لقلبه الشريف لئلا يتسرب إليه اليأس والقنوط، فتذكر قصة لوط، وشعيب، وصالح عليهم السلام، وما حل بأقوامهم المكذبين.



* وتختم السورة الكريمة بتذكير الرسول صلى الله عليه وسلم بالنعمة العظمى عليه، بإنزال هذا الكتاب المجيد المعجز، وتأمره بالصبر والسلوان على ما يلقاه من أذى المشركين، وتبشره بقرب النصر له وللمؤمنين {وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالقرءان الْعَظِيمَ..} إلى آخر السورة الكريمة.



التســميَــة :

سميت السورة الكريمة "سورة الحِجر" لأن الله تعالى ذكر ما حدث لقوم صالح، وهم قبيلة ثمود - وديارهم في الحِجر بين المدينة والشام - فقد كانوا أشداء ينحتون الجبال ليسكنوها، وكأنهم مخلدون في هذه الحياة، لا يعتريهم موت ولا فناء، فبينما هم آمنون مطمئنون جاءتهم صيحة العذاب في وقت الصباح {فَأَخَذَتْهُمْ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ * فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ}.





وصف القرءان لحال الكافرين



{الر تِلْكَ ءايَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ(1)رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ(2)ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمْ الأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ(3)وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلا وَلَهَا كِتَابٌ مَعْلُومٌ(4)مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ(5)}



{الر} إشارة إلى إعجاز القرءان أي هذا الكتاب العجيب المعجز كلام الله تعالى وهو منظوم من أمثال هذه الحروف الهجائية الألف واللام والراء {تِلْكَ ءايَاتُ الْكِتَابِ} أي هذه ءايات الكتاب، الكامل في الفصاحة والبيان، المتعالي عن الطاقة البشرية، {وَقُرْآنٍ مُبِينٍ} أي قرآنٍ عظيم الشأن، واضح بيّن، لا خلل فيه ولا اضطراب {رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا} أي ربما تمنى الكفار {لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ} أي لو كانوا في الدنيا مسلمين، وذلك عند معاينة أهوال الآخرة {ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا} أي دَعْهم يا محمد يأكلوا كما تأكل البهائم، ويستمتعوا بدنياهم الفانية {وَيُلْهِهِمْ الأَمَلُ} أي يشغلهم الأمل بطول الأجل، عن التفكر فيما ينجيهم من عذاب الله {فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} أي عاقبة أمرهم إذا رأوا القيامة وذاقوا وبال ما صنعوا، وهو وعيد وتهديد {وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ} أي وما أهلكنا أهل قرية من القرى الظالمة التي كذبت رسل الله {إِلا وَلَهَا كِتَابٌ مَعْلُومٌ} أي إلا لها أجل محدود لإِهلاكها {مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا} أي لا يتقدم هلاك أمةٍ قبل مجيء أوانه {وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ} أي ولا يتأخر عنهم، قال ابن كثير: وهذا تنبيهٌ لأهل مكة وإِرشاد لهم إلى الإِقلاع عما هم عليه من العِناد والإِلحاد الذي يستحقون به الهلاك.





تقولات المشركين على الرسول صلى الله عليه وسلم وإفحامهم



{وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ(6)لَوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ(7)مَا نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إِلا بِالْحَقِّ وَمَا كَانُوا إِذًا مُنْظَرِينَ(8)إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ(9)وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الأَوَّلِينَ(10)وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ(11)كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ(12)لا يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الأَوَّلِينَ(13)وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ(14)لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ(15)}



سبب النزول:

قال قتادة: القائلون هذه المقالة هم عبد الله بن أبي أمية، والنضر بن الحارث، ونوفل بن خويلد، والوليد بن المغيرة من صناديد قريش.



{وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ} قال كفار قريش لمحمد صلى الله عليه وسلم على جهة الاستهزاء والتهكم: يا من تزعم وتدعي أن القرءان نزل عليك {إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ} أي إنك حقاً لمجنون، أكّدوا الخبر بإنَّ واللام مبالغة في الاستخفاف والاستهزاء بمقامه الشريف عليه السلام {لَوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} أي هلاّ جئتنا بالملائكة لتشهد لك بالرسالة إن كنت صادقاً في دعواك أنك رسول الله!! قال تعالى رداً عليهم {مَا نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إِلا بِالْحَقِّ} أي ما ننزّل ملائكتنا إلا بالعذاب لمن أردنا إهلاكه {وَمَا كَانُوا إِذًا مُنْظَرِينَ} أي وفي هذه الحالة وعندئذٍ لا إمهال ولا تأجيل، والغرض أن عادة الله تعالى قد جرت في خلقه أنه لا ينزل الملائكة إلا لمن يريد إهلاكهم بعذاب الاستئصال، وهو لا يريد ذلك مع أمته صلى الله عليه وسلم لعلمه تعالى أنه يخرج من أصلابهم من يعبد الله، ففيه ردٌ عليهم فيما اقترحوا {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ} أي نحن بعظمة شأننا نزلنا عليك القرءان يا محمد {وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} أي ونحن الحافظون لهذا القرءان، نصونه عن الزيادة والنقصان، والتبديل والتغيير، قال المفسرون: تكفَّل الله بحفظ هذا القرءان، فلم يقدر أحد على الزيادة فيه ولا النقصان، ولا على التبديل والتغيير كما جرى في غيره من الكتب فإن حفظها موكولٌ إلى أهلها لقوله تعالى {بما استحفظوا من كتاب الله} وانظر الفرق بين هذه الآية {وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} حيث ضمن حفظه وبين الآية السابقة حيث وكل حفظه إليهم فبدَّلوا وغيَّروا {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الأَوَّلِينَ} أي ولقد أرسلنا من قبلك يا محمد رسلاً في طوائف وفرق الأمم الأولين {وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} أي وما جاءهم رسولٌ إلاّ سخروا منه واستهزؤوا به، وهذا تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم والمعنى كما فعل بك هؤلاء المشركون فكذلك فُعل بمن قبلك من الرسل فلا تحزن {كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ} أي كذلك نسلك الباطل والضلال والاستهزاء بأنبياء الله في قلوب المجرمين، كما سلكناه وأدخلناه في قلوب أولئك المستهزئين {لا يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الأَوَّلِينَ} أي لا يؤمنون بهذا القرءان وقد مضت سنة الله بإهلاك الكفار، فما أقرب هؤلاء من الهلاك والدمار؟ ثم بيَّن تعالى أن كفار مكة لا ينقصهم توافر براهين الإِيمان فهم معاندون مكابرون، وفي ضلالهم وعنادهم سائرون فقال {وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ} أي لو فرض أننا أصعدناهم إلى السماء، وفتحنا لهم باباً من أبوابها، فظلوا يصعدون فيه حتى شاهدوا الملائكة والملكوت {لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا} أي لقالوا - لفرطِ مكابرتهم وعنادهم - إنما سُدَّت أبصارنا وخُدعت بهذا الارتقاء والصعود {بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ} أي سحرنا محمد وخيَّل إلينا ذلك وما هو إلا سحر مبين، قال الرازي: لو ظل المشركون يصعدون في تلك المعارج، وينظرون إلى ملكوت الله تعالى وقدرته وسلطانه، وإِلى عبادة الملائكة الذين هم من خشيته مشفقون لشكّوا في تلك الرؤية،وبقوا مصرين على الكفر والعناد كما جحدوا سائر المعجزات من انشقاق القمر، والقرءان المعجز الذي لا يستطيع الجن والإِنس أن يأتوا بمثله.



البراهين الدالة على وحدانيته وقدرته تعالى



{وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ(16)وَحَفِظْنَاهَا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ(17)إِلا مَنْ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُبِينٌ(18)وَالأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ(19)وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ(20)وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ(21)وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ(22)وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِ وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوَارِثُونَ(23)وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ(24)وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ(25)}



ثم ذكر تعالى البراهين الدالة على وحدانيته وقدرته فقال {وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا} أي جعلنا في السماء منازل تسير فيها الأفلاك والكواكب {وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ} أي زيناها بالنجوم ليُسرَّ الناظر إليها {وَحَفِظْنَاهَا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ} أي حفظنا السماء الدنيا من كل شيطان لعين مطرود من رحمة الله {إِلا مَنْ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُبِينٌ} أي إلا من اختلس شيئاً من أخبار السماء فأدركه ولحقه شهاب ثاقب فأحرقه {وَالأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ} أي بسطناها ووسعناها وجعلنا فيها جبالاً ثوابت {وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ} أي أنبتنا في الأرض من الزروع والثمار من كل شيءٍ موزون بميزان الحكمة، بدقةٍ وإحكام وتقدير {وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ} أي ما تعيشون به من المطاعم والمشارب {وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ} أي وجعلنا لكم من العيال والمماليك والأنعام من لستم له برازقين، لأننا نخلق طعامهم وشرابهم لا أنتم {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ} أي ما من شيء من أرزاق الخلق والعباد ومنافعهم إلا عندنا خزائنه ومستودعاته {وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ} أي ولكن لا ننزله إلا على حسب حاجة الخلق إليه، وعلى حسب المصالح، كما نشاء ونريد {وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ} أي تلقَّح السحاب فيدر ماءً، وتلقّح الشجر فيتفتَّح عن أوراقه وأكمامه، فالريح كالفحل للسحاب والشجر { فَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ} أي فأنزلنا من السحاب ماءً عذباً، جعلناه لسقياكم ولشرب أرضكم ومواشيكم {وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ} أي لستم بقادرين على خزنه بل نحن بقدرتنا نحفظه لكم في العيون والآبار والأنهار، ولو شئنا لجعلناه غائراً في الأرض فهلكتم عطشاً كقوله {قل أرأيتم إن أصبح ماؤكم غوراً فمن يأتيكم بماءٍ معين}؟ {وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِ وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوَارِثُونَ} أي الحياة والموت بيدنا ونحن الباقون بعد فناء الخلق، نرث الأرض ومن عليها وإلينا يُرجعون {وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ} أي أحطنا علماً بالخلق أجمعين، الأموات منهم والأحياء، قال ابن عباس: المستقدمون كل من هلك من لدن آدم عليه السلام والمستأخرون من هو حي ومن سيأتي إلى يوم القيامة، وقال مجاهد: المستقدمون: الأمم السابقة، والمستأخرون أمة محمد صلى الله عليه وسلم، والغرضُ أنه تعالى محيطٌ علمه بمن تقدم وبمن تأخر، لا يخفى عليه شيء من أحوال العباد، وهو بيان لكمال علمه بعد الاحتجاج على كمال قدرته {وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ} أي وإن ربك يا محمد هو يجمعهم للحساب والجزاء {إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ} أي حكيمٌ في صنعه عليمٌ بخلقه.

yacine414
2011-03-26, 17:32
مبدأ خلق الإنسان، وقدرة الله على الإحياء والإماتة ، وعداوة إبليس لبني آدم



{وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ(26)وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ(27)وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ(28)فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ(29)فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ(30)إِلا إِبْلِيسَ أَبَى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ(31)قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا لَكَ أَلا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ(32)قَالَ لَمْ أَكُنْ لأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ(33)قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ(34)وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ(35)قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ(36)قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ(37)إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ(38)قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ(39)إِلا عِبَادَكَ مِنْهُمْ الْمُخْلَصِينَ(40)قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ(41)إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلا مَنْ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ(42)وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ(43)لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ(44)}



ولما ذكر تعالى الموت والفناء، والبعث والجزاء، نبههم إلى مبدأ أصلهم وتكوينهم من نفسٍ واحدة، ليشير إلى أن القادر على الإِحياء قادر على الإِفناء والإِعادة، وذكّرهم بعداوة إبليس لأبيهم آدم ليحذروه فقال: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ} أي خلقنا آدم من طين يابسٍ يسمع له صَلْصلة أي صوت إذا نُقر {مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ} أي من طين أسود متغيّر {وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ} أي ومن قبل آدم خلقنا الجانَّ - أي الشياطين ورئيسهم إبليس - من نار السموم وهي النار الحارة الشديدة التي تنفذ في المسامّ فتقتل بِحرها، قال المفسرون: عني بالجانِّ هنا "إبليس" أبا الجنِّ لأن منه تناسلت الجن فهو أصل لها كما أن آدم أصل للإِنس {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ} أي اذكر يا محمد وقت قول ربك للملائكة إني خالق بشراً من طين يابسٍ، أسود متغيّر، قال ابن كثير: فيه تنويهٌ بذكر آدم في الملائكة قبل خلقه له، وتشريفه إيّاه بأمر الملائكة بالسجود له، وامتناع إبليس عدوه عن السجود له حسداً وكفراً {فَإِذَا سَوَّيْتُهُ} أي سويت خَلْقه وصورته، وجعلته إنساناً كاملاً معتدل الأعضاء {وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي} أي أفضتُ عليه من الروح التي هي خلقٌ من خلقي فصار بشراً حياًُ {فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ} أي خروا له ساجدين، سجود تحيةٍ وتكريم لا سجود عبادة، قال المفسرون: وإنما أضاف الروح إليه تعالى على سبيل التشريف والتكريم كقوله "بيت الله، ناقة الله! شهر الله" وهي من إضافة الملك إلى المالك، والصنعة إلى الصانع {فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ} أي سجد لآدم جميع الملائكة لم يمتنع منهم أحد {إِلا إِبْلِيسَ أَبَى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ} الاستثناء منقطع لأن إبليس خلقٌ آخر غير الملائكة، فهو من نار وهم من نور، وهم لا يعصون الله ما أمرهم وهو أبى وعصى، فليس هو من الملائكة بيقين، ولكنه كان بين صفوفهم فتوجه إليه الخطاب والمعنى: سجد جميع الملائكة لكنْ إبليس امتنع من السجود بعد أن صدر له الأمر الإِلهي {قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا لَكَ أَلا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ} أي ما المانع لك من السجود؟ وأيُّ داعٍ دعا بك إلى الإِباء والامتناع؟ وهو استفهام تبكيتٍ وتوبيخ {قَالَ لَمْ أَكُنْ لأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ} أي قال إبليس: لا ينبغي ولا يليق لمثلي أن يسجد لآدم وهو مخلوق من طينٍ يابسٍ متغير، فهو من طينٍ وأنا من نار فكيف يسجد العظيم للحقير، والفاضل للمفضول؟ رأى عدوُّ الله نفسه أكبر من أن يسجد لآدم، ومنعه كبره وحسده عن امتثال أمر الله {قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ} أي اخرجْ من السماوات فإنك مطرودٌ من رحمتي {وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ} أي وإن عليك لعنتي إلى يوم الجزاء والعقوبة {قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} أي قال اللعين: أمهلني وأخرني إلى يوم البعث {قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ} أي قال له الله: إنك من المؤجلين إلى حين موتِ الخلائق، قال القرطبي: أراد بسؤاله الإِنظار - إلى يوم يبعثون - ألا يموت، لأن البعث لا موتَ بعده، فأجابه المولى بالإِنظار إلى يوم الوقت المعلوم وهو يوم موت الخلائق، فيموت إبليس ثم يُبعث {قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي} أي بسبب إغوائك وإضلالك لي {لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأَرْضِ} أي لأزينَّن لذرية آدم المعاصي والآثام {وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} أي ولأضلَّنهم عن طريق الهدى أجمعين {إِلا عِبَادَكَ مِنْهُمْ الْمُخْلَصِينَ} أي إلا من استخلصته من عبادك لطاعتك ومرضاتك فلا قدرة لي على إِغوائه {قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ} أي قال تعالى: هذا طريق مستقيم واضح، وسنة أزليةٌ لا تتخلف وهي {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} أي إن عبادي المؤمنين لا قوة لك على إضلالهم { إِلا مَنْ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ} استثناء منقطع لأن الغاوين ليسوا من عباد الله المخلصين والمعنى لكنْ من غوى وضل من الكافرين فلك عليهم تسلط، لأن الشيطان إنما يتسلط على الشاردين عن الله، كما يتسلط الذئب على الشاردة من القطيع {وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ} أي موعد إبليس وأتباعه جميعاً {لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ} أي لجهنم سبعة أبواب يدخلون منها لكثرتهم وروي عن عليّ أنها أطباقٌ، طبقٌ فوق طبق وأنها دركاتٌ بعضها أشد من بعض {لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ} أي لكل جماعة من أتباع إبليس بابٌ معينٌ معلوم، قال ابن كثير: كلٌ يدخل من بابٍ بحسب عمله، ويستقر في دَرَكٍ بقدر عمله.







جزاء المتقين يوم القيامة



{إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ(45)ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ آمِنِينَ(46)وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ(47)لا يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ(48)}



سبب النزول:

نزول الآية (45):

{إِنَّ الْمُتَّقِينَ }: أخرج الثعلبي عن سلمان الفارسي أنه لما سمع قوله تعالى: {وإن جهنم لموعدهم أجمعين} فرّ ثلاثة أيام هارباً من الخوف، لا يعقل، فجيء به للنبي صلى الله عليه وسلم، فسأله فقال: يا رسول الله، أنزلت هذه الآية: {وإن جهنم لموعدهم أجمعين} فوالذي بعثك بالحق، لقد قطَّعت قلبي، فأنزل الله: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ}.



نزول الآية (47):

{وَنَزَعْنَا ..}: أخرج ابن أبي حاتم عن علي بن الحسين أن هذه الآية نزلت في أبي بكر وعمر: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ} قيل: وأي غل؟ قال: غل الجاهلية، إن بني تميم، وبني عدي، وبني هاشم كان بينهم في الجاهلية عداوة، فلما أسلم هؤلاء القوم تحابوا، فأخذت أبا بكر الخاصرة، فجعل علي يسخن يده، فيكمد بها خاصرة أبي بكر، فنزلت هذه الآية.



{إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ} أي إن الذين اتقوا الفواحش والشرك لهم في الآخرة البساتين الناضرة، والعيون المتفجرة بالماء والسلسبيل والخمر والعسل {ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ آمِنِينَ} أي يقال لهم: أُدخلوا الجنة سالمين من كل الآفات، آمنين من الموت ومن زوال هذا النعيم {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ} أي أزلنا ما في قلوب أهل الجنة من الحقد والبغضاء والشحناء {إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ} أي حال كونهم إخوةً متحابين لا يكدّر صفوهم شيء، على سررٍ متقابلين وجهاً لوجه، قال مجاهد: لا ينظر بعضُهم إلى قفا بعض زيادةً في الأنس والإِكرام، وقال ابن عباس: على سررٍ من ذهب مكلَّلة بالدر والياقوت والزبرجد {لا يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ} أي لا يصيبهم في الجنة إعياءٌ وتعب {وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ} أي لا يُخْرجون منها ولا يُطردون، نعيمهم خالد، وبقاؤهم دائم، لأنها دار الصفاء والسرور.





مغفرة الله وعذابه



{نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ(49)وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الأَلِيمُ(50)}



{نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغفُورُ الرَّحِيمُ} أي أخبر يا محمد عبادي المؤمنين بأني واسع المغفرة والرحمة لمن تاب وأناب {وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الأَلِيمُ} أي وأخبرهم أنَّ عذابي شديد لمن أصرَّ على المعاصي والذنوب، قال أبو حيان: وجاء قوله {وَأَنَّ عَذَابِي} في غاية اللطف إذ لم يقل على وجه المقابلة (وأني المعذّب المؤلم) وكل ذلك ترجيح لجهة العفو والرحمة.



قصة ضيف إبراهيم



{وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ(51)إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلامًا قَالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ(52)قَالُوا لا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ(53)قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَنْ مَسَّنِي الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ(54)قَالُوا بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُنْ مِنَ الْقَانِطِينَ(55)قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلا الضَّالُّونَ(56)قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ(57)قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ(58)إِلا آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ(59)إِلا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَا إِنَّهَا لَمِنْ الْغَابِرِينَ(60)فَلَمَّا جَاءَ آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ(61)قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ(62)قَالُوا بَلْ جِئْنَاكَ بِمَا كَانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ(63)وَأَتَيْنَاكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ(64)فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبَارَهُمْ وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ(65)وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الأَمْرَ أَنَّ دَابِرَ هَؤُلاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ(66)وَجَاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ(67)قَالَ إِنَّ هَؤُلاءِ ضَيْفِي فَلا تَفْضَحُونِ(68)وَاتَّقُوا اللَّهَ وَلا تُخْزُونِ(69)قَالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعَالَمِينَ(70)قَالَ هَؤُلاءِ بَنَاتِي إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ(71)لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ(72)فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ(73)فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ(74)إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ(75)وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ(76)إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ(77)}



سبب النزول:

أخرج الطبراني عن عبد الله بن الزبير قال: مرّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفر من أصحابه يضحكون، فقال: "أتضحكون، وذِكْر الجنة والنار بين أيديكم، فنزلت هذه الآية: {نبئ عبادي أني أنا الغفور الرحيم، وأن عذابي هو العذاب الأليم}".



{وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ} أي وأخبرهم عن قصة ضيوف إبراهيم، وهم الملائكة الذين أرسلهم الله لإِهلاك قوم لوط، وكانوا عشرة على صورة غلمانٍ حسانٍ معهم جبريل {إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلامًا} أي حين دخلوا على إبراهيم فسلَّموا عليه {قَالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ} أي قال إبراهيم إنّا خائفون منكم، وذلك حين عرض عليهم الأكل فلم يأكلوا {قَالُوا لا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ} أي قالت الملائكة لا تخف فإنا نبشرك بغلام واسع العلم، عظيم الذكاء، هو إسحاق {قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَنْ مَسَّنِي الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ} أي قال إبراهيم أبشرتموني بالولد على حالة الكبر والهرم، فبأي شيء تبشروني؟ قال ذلك على وجه التعجب والاستبعاد {قَالُوا بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُنْ مِنَ الْقَانِطِينَ} أي بشرناك باليقين الثابت فلا تستبعدْه ولا تيأس من رحمة الله {قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلا الضَّالُّونَ} استفهام إنكاري أي لا يقنط من رحمة الله إلا المخطئون طريق المعرفة والصواب، الجاهلون برب الأرباب، أما القلب العامر بالإِيمان، المتصل بالرحمن، فلا ييأس ولا يقنط، قال البيضاوي: وكان تعجب إبراهيم عليه السلام باعتبار العادة دون القدرة فإنَّ الله تعالى قادرٌ على أن يخلق بشراً من غير أبوين، فكيف من شيخ فانٍ وعجوزٍ عاقر؟ ولذلك أجابهم بذلك الجواب {قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ} أي قال إبراهيم ما شأنكم وما أمركم الذي جئتم من أجله أيها الملائكة الكرام؟ {قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ} أي أرسلنا ربنا إلى قومٍ مشركين ضالين لإِهلاكهم يعنون قوم لوط {إِلا آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ} أي إلا أتباعَ لوط وأهلَه المؤمنين، فسننجيهم من ذلك العذاب أجمعين {إِلا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَا إِنَّهَا لَمِنْ الْغَابِرِينَ} أي إلا امرأة لوط فقد قدَّر الله بقاءها في العذاب مع الكفرة الهالكين، قال القرطبي: استثنى من آل لوط امرأته وكانت كافرة فالتحقت بالمجرمين في الهلاك {فَلَمَّا جَاءَ آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ} أي فلما أتى رسلُ الله لوطاً عليه السلام {قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ} أي قال لهم إنكم قوم لا أعرفكم فماذا تريدون؟ {قَالُوا بَلْ جِئْنَاكَ بِمَا كَانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ} أي قالوا له بل نحن رسل، جئناك بما كان فيه قومك يشكُّون فيه وهو نزول العذاب الذي وعدتهم به {وَأَتَيْنَاكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ} أي أتيناك بالحق اليقين من عذابهم وإنا لصادقون فيما نقول {فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ} أي سرْ بأهلك في طائفةٍ من الليل {وَاتَّبِعْ أَدْبَارَهُمْ} أي كنْ من ورائهم وسرْ خلفهم لتطمئنَّ عليهم {وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ} أي لا يلتفتْ أحد منكم وراءه لئلا يرى عظيم ما ينزل بهم فيرتاع {وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ} أي سيروا حيث يأمركم الله عز وجل، قال ابن عباس: يعني الشام {وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الأَمْرَ أَنَّ دَابِرَ هَؤُلاءِ مَقْطُوعٌ} أي أوحينا إلى لوط ذلك الأمر العظيم، أولئك المجرمين سيُستأصلون عن آخرهم حتى لا يبقى منهم أحدٌ {مُصْبِحِين} أي إذا دخل الصباح تمَّ هلاكهم واستئصالهم {وَجَاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ} أي جاء أهل مدينة سدوم - وهم قوم لوطٍ - مسرعين يستبشرون بأضيافه، طمعاً في ارتكاب الفاحشة بهم، ظناً منهم أنهم أناسٌ أمثالهم، قال المفسرون: أُخبر أولئك السفهاء أن في بيت لوطٍ شباناً مرداً حساناً فأسرعوا فرحين يبشّر بعضهم بعضاً بأضياف لوط {قَالَ إِنَّ هَؤُلاءِ ضَيْفِي فَلا تَفْضَحُونِ} أي هؤلاء ضيوفي فلا تقصدوهم بسوء فتُلحقوا بي العار وتفضحوني أمامهم {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَلا تُخْزُونِ} أي خافوا الله أن يحلَّ بكم عقابه، ولا تهينوني بالتعرض لهم بالمكروه {قَالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعَالَمِينَ} أي قالوا ألم نمنعك عن ضيافة أحد؟ قال الرازي: المعنى ألسنا قد نهيناك أن تكلمنا في أحدٍ من الناس إذا قصدناه بالفاحشة؟ {قَالَ هَؤُلاءِ بَنَاتِي إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ} أي هؤلاء النساء فتزوجوهنَّ ولا تركنوا إلى الحرام إن كنتم تريدون قضاء الشهوة،قال المفسرون: المراد بقوله {بناتي} بناتُ أمته لأن كل نبيٍّ يعتبر أباً لقومه {لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ} أي وحياتك يا محمد إن قوم لوط لفي ضلالهم وجهلهم يتخبطون ويترددون، وهذه جملة اعتراضية جاءت ضمن قصة لوط قسماً بحياة الرسول صلى الله عليه وسلم تكريماً له وتشريفاً، قال ابن عباس: "وما خلق الله وما ذرأ وما برأ نفساً أكرمَ على الله من محمد صلى الله عليه وسلم وما سمعتُ اللهَ أقسم بحياة أحدٍ غيره {فَأَخَذَتْهُمْ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ} أي أخذتهم صيحةُ العذاب المهلكة المدمرة وقت شروق الشمس {فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا} أي قلبناها بهم فجعلنا أعالي المنازل أسافلها، قال المفسرون: حمل جبريل عليه السلام قريتهم واقتلعها من جذورها، حتى رأوا الأفلاك وسمعوا تسبيح الأملاك ثم قلبها بهم { وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ} أي أنزلنا عليهم حجارة كالمطر من طين طبخ بنار جهنم {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ} أي فيما حلَّ بهم من الدمار والعذاب لدلالات وعلامات للمعتبرين، المتأملين بعين البصر والبصيرة {وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ} أي وإن هذه القرى المهلكة، وما ظهر فيها من آثار قهر الله وغضبه، لبطريقٍ ثابتٍ لم يندرس، يراها المجتازون في أسفارهم أفلا يعتبرون؟ {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ} أي لعبرةً للمصدّقين.



قصة قوم شعيب وثمود



{وَإِنْ كَانَ أَصْحَابُ الأَيْكَةِ لَظَالِمِينَ(78)فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُبِينٍ(79)وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحَابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ(80)وَءاتَيْنَاهُمْ ءايَاتِنَا فَكَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ(81)وَكَانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا آمِنِينَ(82)فَأَخَذَتْهُمْ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ(83)فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ(84)وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلا بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لآتِيَةٌ فَاصْفَحْ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ(85)إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلاقُ الْعَلِيمُ(86)}



{وَإِنْ كَانَ أَصْحَابُ الأَيْكَةِ لَظَالِمِينَ} أي وإنه الحال والشأن كان قوم شعيب - وهم أصحاب الأيكة أي الشجر الكثير الملتف - لظالمين بتكذيبهم شعيباً، وقطعهم الطريق، وتطفيفهم المكيال والميزان {فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ} أي أهلكناهم بالرجفة وعذاب يوم الظُلَّة، قال المفسرون: اشتد الحر عليهم سبعة أيام حتى قربوا من الهلاك، فبعث الله عليهم سحابة كالظلة، فالتجؤوا إليها واجتمعوا تحتها للتظلل بها، فبعث الله عليهم منها ناراً فأحرقتهم جميعاً {وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُبِينٍ} أي وإن قرى قوم لوط وشعيب لطريق واضح أفلا تعتبرون بهم يا أهل مكة؟ {وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحَابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ} هذه هي القصة الرابعة وهي قصة صالح عليه السلام أي كذبت ثمود نبيَّهم صالحاً - والحجرُ وادٍ بين المدينة والشام وآثاره باقية يمرُّ عليها المسافرون - قال البيضاوي: ومن كذَّب واحداً من الرسل فكأنما كذب الجميع ولذا قال {الْمُرْسَلِينَ} {وَءاتَيْنَاهُمْ ءايَاتِنَا فَكَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ} أي وأريناهم معجزاتنا الدالة على قدرتنا مثل الناقة وما فيها من العجائب فكانوا لا يعتبرون بها ولا يتَّعظون، قال ابن عباس: كان في الناقة آيات: خروجُها من الصخرة، ودنوُّ ولادتها عند خروجها، وعظمُ خَلْقها فلم تشبهها ناقة، وكثرةُ لبنها حتى كان يكفيهم جميعاً فلم يتفكروا فيها ولم يستدلوا بها {وَكَانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا آمِنِينَ} أي كانوا ينقبون الجبال فيبنون فيها بيوتاً آمنين يحسبون أنها تحميهم من عذاب الله {فَأَخَذَتْهُمْ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ} أي أخذتهم صيحة الهلاك حين أصبحوا {فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} أي ما دفع عنهم عذابَ الله وما كانوا يشيدونه من القلاع والحصون {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلا بِالْحَقِّ} أي وما خلقنا الخلائق كلَّها سماءها وأرضها وما بينهما إلا خلقاً ملتبساً بالحق، فلذلك اقتضت الحكمة إهلاك أمثال هؤلاء المكذبين لئلا يعم الفساد {وَإِنَّ السَّاعَةَ لآتِيَةٌ فَاصْفَحْ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ} أي وإن القيامة لآتيةٌ لا محالة فيُجازى المحسنُ بإحسانه، والمسيء بإساءته، فأعرضْ يا محمد عن هؤلاء السفهاء وعاملهم معاملة الحليم {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلاقُ الْعَلِيمُ} أي الخالق لكل شيء، العليمُ بأحوال العباد.



سبب النزول:

نزول الآية (95):

{إنا كفيناك}: أخرج البزار والطبراني عن أنس بن مالك قال: مر النبي صلى الله عليه وسلم على أناس بمكة، فجعلوا يغمزون في قفاه، ويقولون: هذا الذي يزعم أنه نبي، ومعه جبريل، فغمز جبريل بأصبعه، فوقع مثل الظفر في أجسادهم، فصارت قروحاً حتى نتنوا، فلم يستطع أحد أن يدنو منهم، فأنزل الله: {إنا كفيناك المستهزئين}.



عطايا الله لنبيه صلى الله عليه وسلم، وأمره بالجهر بدعوته



{وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالقرءان الْعَظِيمَ(87)لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ(88)وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ(89)كَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ(90)الَّذِينَ جَعَلُوا القرءان عِضِينَ(91)فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ(92)عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ(93)فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ(94)إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ(95)الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ(96)وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ(97)فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ(98) وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ(99)}



{وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي} أي ولقد أعطيناك يا محمد سبع آيات هي الفاتحة لأنها تثنّى أي تكرر قراءتها في الصلاة وفي الحديث (الحمدُ للهِ رب العالمين هي السبعُ المثاني والقرءان العظيمُ الذي أوتيتُه) وقيل: هي السور السبع الطوال، والأول أرجح {وَالقرءان الْعَظِيمَ} أي وآتيناك القرءان العظيم الجامع لكمالات الكتب السماوية {لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ} أي لا تنظر إلى ما متعنا به بعض هؤلاء الكفار، فإن الذي أعطيناك أعظم منها وأشرف وأكرم، وكفى بإِنزال القرءان عليك نعمة {وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ} أي لا تحزن لعدم إيمانهم {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ} أي تواضعْ لمن آمن بك من المؤمنين وضعفائهم {وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ} أي قل لهم يا محمد أنا المنذر من عذاب الله، الواضح البيِّن في الإِنذار لمن عصى أمر الجبار {كَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ} الكاف للتشبيه والمعنى أنزلنا عليك القرءان كما أنزل على أهل الكتاب وهم اليهود والنصارى الذين آمنوا ببعض كتابهم وكفروا ببعضه، فانقسموا إلى قسمين {الَّذِينَ جَعَلُوا القرءان عِضِينَ} أي جعلوا القرءان أجزاءً متفرقة وقالوا فيه أقوالاً مختلفة، قال ابن عباس: آمنوا ببعضٍ وكفروا ببعض، وهذه تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم عن صنيع قومه بالقرءان وتكذيبهم له بقولهم سحر، وشعر، وأساطير، بأن غيرهم من الكفرة فعلوا بغيره من الكتب مثل فعل كفار مكة {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} أي فأقسمُ بربك يا محمد لنسألنَّ الخلائق أجمعين {عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} عما كانوا يعملون في الدنيا {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ} أي فاجهر بتبليغ أمر ربك، ولا تلتفت إلى ما يقول المشركون {إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ} أي كفيناك شرَّ أعدائك المستهزئين بإهلاكنا إياهم وكانوا خمسة من صناديد قريش {الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ} أي الذين أشركوا مع الله غيره من الأوثان والأصنام {فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} وعيدٌ وتهديد أي سوف يعلمون عاقبة أمرهم في الدارين {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ} أي يضيق صدرك بالاستهزاء والتكذيب {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ} أي فافزع فيما نالك من مكروه إلى التسبيح والصلاة والإِكثار من ذكر الله {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} أي اعبد ربك يا محمد حتى يأتيك الموت، سمي يقيناً لأنه متيقن الوقوع والنزول

yacine414
2011-03-26, 17:33
سورة النحل



إثبات البعث والوحي

البراهين الدالة على وحدانيته وقدرته

نعم الله العظام وآياته المنبثة في الكائنات

تفرد الله بالخلق، وعلمه بالسر

إنكار المشركين الوحي وجزاؤهم يوم القيامة

حال المتقين مع الوحي وجزاؤهم

تهديد المشركين على تماديهم في الباطل

تذرع الكفار بحجج واهية وإنكارهم البعث

منزل المهاجرين، ومهمة الرسول صلى الله عليه وسلم تبيين كلام الله

توجيه الله الكفار للتوحيد، وتذكيرهم بنعمه

تفرده تعالى في التصرف في هذا الكون

ضربه تعالى الأمثال للعظة

علمه تعالى الغيب وخلقه الإنسان وهدايته، وتسخير الطير

نعمه تعالى على بني البشر

وعيد المشركين وأحوالهم يوم القيامة

أمره تعالى بالعدل ونهيه عن الفحشاء

أجمع آية للرجال والنساء في الترغيب بالعمل الصالح

ليس للشيطان سلطان على المؤمنين وتنزيل القرآن لتثبيت المؤمنين

المرتدون عن الإسلام والمهاجرون بعدما فتنوا

كفران النعمة وعاقبته في الدنيا

الحلال الطيب من المأكولات والحرام الخبيث

إرسال الله الرسل، ومهمة الرسول صلى الله عليه وسلم تبيان القرآن

دلائل عظمته وقدرته الدالة على وحدانيته

تفرده تعالى في التصرف في هذا الكون

ضربه تعالى الأمثال للعظة

علمه تعالى الغيب وخلقه الإنسان وهدايته، وتسخير الطير

نعمه تعالى على بني البشر

وعيد المشركين وأحوالهم يوم القيامة

أمره تعالى بالعدل ونهيه عن الفحشاء

أجمع آية للرجال والنساء في الترغيب بالعمل الصالح

ليس للشيطان سلطان على المؤمنين وتنزيل القرآن لتثبيت المؤمنين

المرتدون عن الإسلام والمهاجرون بعدما فتنوا

كفران النعمة وعاقبته في الدنيا

الحلال الطيب من المأكولات والحرام الخبيث

أمر النبي صلى الله عليه وسلم باتباع ملّة إبراهيم عليه السلام





بَين يَدَي السُّورَة



سورة النحل من السور المكية التي تعالج موضوعات العقيدة الكبرى "الأُلوهية، والوحي، والبعث والنشور" وإلى جانب ذلك تتحدث عن دلائل القدرة والوحدانية في ذلك العالم الفسيح في السماوات والأرض، والبحار والجبال، والسهول والوديان، والماء الهاطل، والنبات النامي، والفلك التي تجري في البحر، والنجوم التي يهتدي بها السالكون في ظلمات الليل، إلى آخر تلك المشاهد التي يراها الإِنسان في حياته، ويدركها بسمعه وبصره، وهي صورٌ حيةٌ مشاهدة، دالةٌ على وحدانية الله جلَّ وعلا، وناطقةٌ بآثار قدرته التي أبدع بها الكائنات.



* تناولت السورة الكريمة في البدء أمر الوحي الذي كان مجال إِنكار المشركين واستهزائهم، فقد كذبوا بالوحي واستبعدوا قيام الساعة، واستعجلوا الرسول صلى الله عليه وسلم أن يأتيهم بالعذاب الذي خوَّفهم به، وكلما تأخر العذاب زادوا استعجالاً وزادوا استهزاءً واستهتاراً.



* ولقد هدفت السورة الكريمة إلى تقرير مبدأ "وحدانية الله" جلَّ وعلا بلفت الأنظار إلى قدرة الله الواحد القهَّار، فخاطبت كل حاسةٍ في الإِنسان، وكل جارحةٍ في كيانه البشري، ليتجه بعقله إلى ربّه، ويستنير بما يرى من آثار صنع الله على عظمة اللهِ سبحانه.



* ثم تتابعت السورة الكريمةُ تذكِّر الناس بنتيجة الكفر بنعم الله، وعدم القيام بشكرها، وتحذرهم تلك العاقبة الوخيمة التي يؤول إليها مصيرُ كل معاندٍ وجاحد.



* وختمت السورة الكريمة بأمر الرسول صلى الله عليه وسلم بالدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة، والصبر والعفو عمَّا يلقاه من الأذى في سبيل تبليغ دعوة الله.



التســميَــة :

سميت هذه السورة الكريمة "سورة النحل" لاشتمالها على تلك العبرة البليغة التي تشير إلى عجيب صنع الخالق، وتدلُّ على الألوهية بهذا الصنع العجيب.



إثبات البعث والوحي



{أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ(1)يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنذِرُوا أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاتَّقُونِي(2)}.



{أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ} أي قرب قيام الساعة فلا تستعجلوا العذاب الذي أوعدكم به محمد، وإِنما أتى بصيغة الماضي لتحقق وقوع الأمر وقربه، قال الرازي : لما كان واجب الوقوع لا محالة عبّر عنه بالماضي كما يقال للمستغيث : جاءك الغوثُ فلا تجزع {سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} أي تنزَّه الله عما يصفه به الظالمون، وتقدس عن إشراكهم به غيره من الأنداد والأوثان {يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ} أي يُنزّل الملائكة بالوحي والنبوة بإِرادته وأمره {عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} أي على الأنبياء والمرسلين، وسمَّى الوحي روحاً لأنه تحيا به القلوب كما تحيا بالأرواح الأبدان {أَنْ أَنذِرُوا أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاتَّقُونِي} أي بأن أنذروا أهل الكفر أنه لا معبود إلا الله فخافوا عذابي وانتقامي.





البراهين الدالة على وحدانيته وقدرته



{خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ(3)خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ(4)وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ(5)وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ(6)وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلا بِشِقِّ الأَنفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ(7)وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُونَ(8)وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَائِرٌ وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ(9)}.



سبب النزول :

نزول الآية (4) :

{خَلَقَ الإِنسَانَ} : نزلت الآية في أبي بن خلَف الجمحي حين جاء بعظم رميم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا محمد، أترى الله يحيي هذا بعدما رمَّ ؟ ونظير الآية قوله تعالى في سورة يس : {أولم ير الإنسان أنا خلقناه من نطفة فإذا هو خصيم مبين} إلى آخر السورة.



ثم ذكر تعالى البراهين الدالة على وحدانيته وقدرته فقال {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ} أي خلقهما بالحق الثابت، والحكمة الفائقة، لا عبثاً ولا جُزافاً {تَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} أي تمجَّد وتقدَّس عن الشريك والنظير {خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ} أي خلق هذا الجنس البشري من نطفةٍ مهينة ضعيفة هي المنيُّ {فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ} أي فإِذا به بعد تكامله بشراً مخاصمٌ لخالقه، واضح الخصومة، يكابر ويعاند، وقد خُلق ليكون عبداً لا ضداً قال ابن الجوزي: لقد خُلق من نطفة وهو مع ذلك يخاصم وينكر البعث، أفلا يستدل بأوله على آخره، وبأن من قدر على إِيجاده أولاً قادرٌ على إعادته ثانياً؟ {وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا} أي وخلق الأنعام لمصالحكم وهي الإِبل والبقر والغنم {لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ} أي لكم فيها ما تستدفئون به من البرد مما تلبسون وتفترشون من الأصواف والأوبار {وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ} أي ولكم فيها منافع عديدة من النسل والدر وركوب الظهر، ومن لحومها تأكلون وهو من أعظم المنافع لكم {وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ} أي ولكم في هذه الأنعام والمواشي زينةٌ وجمالٌ حين رجوعها عشياً من المرعى، وحين غُدوّها صباحاً لترعى، جمال الاستمتاع بمنظرها صحيحةً سمينةً فارهة {وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلا بِشِقِّ الأَنفُسِ} أي وتحمل أحمالكم الثقيلة وأمتعتكم التي تعجزون عن حملها إلى بلدٍ بعيد لم تكونوا لتصلوا إليه إلا بجهدٍ ومشقة {إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ} أي إنَّ ربكم أيها الناس الذي سخَّر لكم هذه الأنعام لعظيمُ الرأفة والرحمة بكم {وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً} أي وخلق الخيل والبغال والحمير للحمل والركوب وهي كذلك زينة وجمال {وَيَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُونَ} أي ويخلق في المستقبل ما لا تعلمونه الآن كوسائل النقل الحديث : القاطرات، والسيارات، والطائرات النفاثة وغيرها مما يجدُّ به الزمان وهو من تعليم الله للإِنسان {وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ} أي وعلى الله جل وعلا بيانُ الطريق المستقيم، الموصلِ لمن يسلكه إلى جنات النعيم {وَمِنْهَا جَائِرٌ} أي ومن هذه السبيل طريقٌ مائلٌ عن الحق منحرفٌ عنه، لا يوصل سالكه إلى الله وهو طريق الضلال، كاليهودية والنصرانية والمجوسية {وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} أي ولو شاء أن يهديكم إلى الإِيمان لهداكم جميعاً ولكنه تعالى اقتضت حكمته أن يدع للإِنسان حرية الاختيار {فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر} ليترتب عليه الثواب والعقاب.



نعم الله العظام وآياته المنبثة في الكائنات



{هُوَ الَّذِي أَنزَلَ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ(10)يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لايَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ(11)وَسَخَّرَ لَكُمْ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ(12)وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الأَرْضِ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ(13)وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ(14)وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَارًا وَسُبُلا لَّعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ(15)وَعَلامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ(16)}.



ولما ذكر تعالى ما أنعم به عليهم من الأنعام، شرع فيذكر سائر النعم العظام وآياته المنبثة في الكائنات فقال {هُوَ الَّذِي أَنزَلَ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً} أي أنزل المطر بقدرته القاهرة من السحاب {لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ} أي أنزله عذباً فراتاً لتشربوه فتسكن حرارة العطش {وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ} أي وأخرج لكم منه شجراً ترعون فيه أنعامكم {يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالأَعْنَابَ} أي يخرجها من الأرض بهذا الماء الواحد على اختلاف صنوفها وطعومها وألوانها {وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ} أي ومن كل الفواكه والثمار يخرج لكم أطايب الطعام {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} أي إن في إنزال الماء وإِخراج الثمار لدلالة واضحة على قدرة الله ووحدانيته لقومٍ يتدبرون في صنعه فيؤمنون قال أبو حيان: ختم الآية بقوله {يَتَفَكَّرُونَ} لأن النظر في ذلك يحتاج إلى فضل تأمل، واستعمال فكر، ألا ترى أن الحبة الواحدة إذا وُضعت في الأرض ومرَّ عليها زمن معيَّن لحقها من نداوة الأرض ما تنتفخ به فيُشق أعلاها فتصعد منه شجرة إلى الهواء، وأسفلها يغوص منه في عمق الأرض شجرةٌ أخرى وهي العروق، ثم ينمو الأعلى ويقوى وتخرج الأوراق والأزهار، والأكمام والثمار، المشتملة على أجسامٍ مختلفة الطبائع والألوان والأشكال والمنافع وذلك بتقدير قادرٍ مختار وهو الله تعالى {وَسَخَّرَ لَكُمْ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ} أي ذلّل الليل والنهار يتعاقبان لمنامكم ومعاشكم، والشمس والقمر يدوران لمصالحكم ومنافعكم {وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ} أي والنجومُ تجري في فلكها بأمره لتهتدوا بها في ظلمات البر والبحر {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} أي إن في ذلك الخلق والتسخير لدلائل باهرة عظيمة، لأصحاب العقول السليمة {وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الأَرْضِ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ} أي وما خلق لكم في الأرض من الأمور العجيبة، من الحيوانات والنباتات، والمعاد والجمادات، على اختلاف ألوانها وأشكالها، وخواصها ومنافعها {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ} أي لعبرةً لقومٍ يتعظون {وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ} أي وهو تعالى - بقدرته ورحمته - ذلّل لكم البحر المتلاطم الأمواج للركوب فيه والغوص في أعماقه {لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا} أي لتأكلوا من البحر السمك الطريَّ الذي تصطادونه {وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا} أي وتستخرجوا منه الجواهر النفيسة كاللؤلؤ والمرجان {وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ} أي وترى السفن العظيمة تشق عُباب البحر جاريةً فيه وهي تحمل الأمتعة والأقوات {وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ} أي سخر لكم البحر لتنتفعوا بما ذُكر ولتطلبوا من فضل الله ورزقه سبل معايشكم بالتجارة {وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} أي ولتشكروا ربكم على عظيم إنعامه وجليل أفضاله {وَأَلْقَى فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ} أي نصب فيها جبالاً ثوابت راسيات لئلا تضطرب بكم وتميل قال أبو السعود: إن الأرض كانت كرةً خفيفة قبل أن تُخلق فيها الجبال، وكان من حقها أن تتحرك كالأفلاك بأدنى سبب فلما خُلقت الجبال توجهت بثقلها نحو المركز فصارت كالأوتاد لها {وَأَنْهَارًا وَسُبُلا لَّعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} أي وجعل فيها أنهاراً وطرقاً ومسالك لكي تهتدوا إلى مقاصدكم {وَعَلامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ} أي وعلامات يستدلون بها على الطرق كالجبال والأنهار، وبالنجوم يهتدون ليلاً في البراري والبحار قال ابن عباس: العلامات معالمُ الطرق بالنهار وبالنجم هم يهتدون بالليل.



تفرد الله بالخلق، وعلمه السر



{أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ(17)وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ(18)وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ(19)وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ(20)أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ(21)إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ(22) لا جَرَمَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ(23)}.



{أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ} الاستفهام إِنكاري أي أتسوّون بين الخالق لتلك الأشياء العظيمة والنعم الجليلة، وبين من لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً فضلاً عن غيره؟ أتشركون هذا الصنم الحقير مع الخالق الجليل ؟ وهو تبكيت للكفرة وإِبطالٌ لعبادتهم الأصنام {أَفَلا تَذَكَّرُونَ} أي أفلا تتذكرون فتعرفون خطأ ما أنتم فيه من عبادة غير الله؟ وهو توبيخٌ آخر {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا} أي إن تعدوا نعم الله الفائضة عليكم لا تضبطوا عددها فضلاً عن أن تطيقوا شكرها {إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} أي غفور لما صدر منكم من تقصير رحيم بالعباد حيث ينعم عليهم مع تقصيرهم وعصيانهم {وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ} أي يعلم ما تخفونه وما تظهرونه من النوايا والأعمال وسيجازيكم عليها {وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ} أي والذين يعبدونهم من دون الله كالأوثان والأصنام لا يقدرون على خلق شيء أصلاً والحال أنهم مخلوقون صنعهم البشر بأيديهم، فكيف يكونون آلهة تعبد من دون الله؟ {أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ} أي وتلك الأصنام أمواتٌ لا أرواح فيها، لا تسمع ولا تبصر لأنها جمادات لا حياة فيها، فكيف تعبدونها وأنتم أفضل منها لما فيكم من الحياة؟ {وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} أي ما تشعر هذه الأصنام متى يبعث عابدوها، وفيه تهكم بالمشركين لأنهم عبدوا جماداً لا يحس ولا يشعر {إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} أي إلهكم المستحق للعبادة إله واحدٌ لا شريك له {فَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنكِرَةٌ} أي فالذين لا يصدّقون بالبعث والجزاء قلوبهم تنكر وحدانية الله عز وجل {وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ} أي متكبرون متعاظمون عن قبول الحق بعدما سطعت دلائله {لا جَرَمَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ} أي حقاً إن الله تعالى لا تخفى عليه خافية من أحوالهم يعلم ما يخفون وما يظهرون {إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ} أي المتكبرين عن التوحيد والإِيمان.



إنكار المشركين الوحي وجزاؤهم يوم القيامة



{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ مَاذَا أَنزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ(24)لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلا سَاءَ مَا يَزِرُونَ(25)قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمْ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمْ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ(26)ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُخْزِيهِمْ وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِي الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ قَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكَافِرِينَ(27)الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمْ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ فَأَلْقَوْا السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ بَلَى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ(28)فَادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ(29)}.



{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ مَاذَا أَنزَلَ رَبُّكُمْ} أي وإِذا سئل هؤلاء الجاحدون أيَّ شيء أنزل ربكم على رسوله صلى الله عليه وسلم؟ {قَالُوا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ} أي قالوا على سبيل الاستهزاء: ما أنزله ليس إلا خرافات وأباطيل الأمم السابقين ليس بكلام رب العالمين قال المفسرون: كان المشركون يجلسون على مداخل مكة يُنفّرون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سألهم وفود الحاج ماذا أُنزل على محمد؟ قالوا أباطيل وأحاديث الأولين {لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ} أي قالوا ذلك البهتان ليحملوا ذنوبهم كاملةً من غير أن يُكفَّر منها شيء {وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ} أي وليحملوا ذنوب الأتباع الذين أضلوهم بغير دليلٍ أو برهان، فقد كانوا رؤساء يُقتدى بهم في الضلالة ولذلك حملوا أوزارهم وأوزار من أضلوهم {أَلا سَاءَ مَا يَزِرُونَ} ألاَ للتنبيه أي فانتبهوا أيها القوم بئس الحمل الذي حملوه على ظهورهم، والمقصودُ المبالغة في الزجر {قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} أي مكر المجرمون بأنبيائهم وأردوا إطفاء نور الله من قبل كفار مكة، وهذا تسلية له صلى الله عليه وسلم {فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ} أي قلع بنيانهم من قواعده وأسسه، وهذا تمثيلٌ لإِفساد ما أبرموه من المكر بالرسل {فَخَرَّ عَلَيْهِمْ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ} أي فسقط عليهم سقف بنيانهم فتهدّم البناء وماتوا {وَأَتَاهُمْ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ} أي جاءهم الهلاك والدمار من حيث لا يخطر على بالهم، والآية مشهد كاملٌ للدمار والهلاك، وللسخرية من مكر الماكرين، وتدبير المدبرين، الذين يقفون لدعوة الله ويحسبون مكرهم لا يُردّ، وتدبيرهم لا يخيب، والله من ورائهم محيط {ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُخْزِيهِمْ} أي يفضحهم بالعذاب ويذلهم ويهينهم {وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِي الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ} أي يقول تعالى لهم على سبيل التقريع والتوبيخ : أين هؤلاء الشركاء الذين كنتم تخاصمون وتعادون من أجلهم الأنبياء ؟ أحضروهم ليشفعوا لكم، والأسلوب استهزاءٌوتهكم {قَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكَافِرِينَ} أي يقول الدعاة والعلماء شماتةً بأولئك الأشقياء إن الذلَّ والهوان والعذاب محيط اليوم بمن كفر بالله {الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمْ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ} أي تقبض الملائكة أرواحهم الخبيثة حال كونهم ظالمي أنفسهم بالكفر والإِشراك بالله {فَأَلْقَوْا السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ} أي استسلموا وانقادوا عند الموت على خلاف عادتهم في الدنيا من العناد والمكابرة، وقالوا ما أشركنا ولا عصينا كما يقولون يوم المعاد {والله ربنا ما كنا مشركين} {بَلَى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} أي يكذبهم الله ويقول: بلى قد كذبتم وعصيتم وكنتم مجرمين {فَادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا} أي أدخلوا جهنم ماكثين فيها أبداً {فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ} أي بئست جهنم مقراً ومقاماً للمتكبرين عن طاعة الله.



حال المتقين مع الوحي وجزاؤهم



وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا خَيْرًا لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ(30)جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ كَذَلِكَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ(31)الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمْ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمْ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ(32)



{وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا} أي قيل للفريق الثاني وهم أهل التقوى والإِيمان {مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا خَيْرًا} أي ماذا أنزل ربكم على رسوله ؟ قالوا أنزل خيراً قال المفسرون: هذا كان في أيام الموسم يأتي الرجل مكة فيسأل المشركين عن محمد وأمره فيقولون: إِنه ساحر وكاهن وكذاب، فيأتي المؤمنين ويسألهم عن محمد وعن ما أنزل الله عليه فيقولون: أنزل الله عليه الخير والهدى والقرآن، قال تعالى بياناً لجزائهم الكريم {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ} أي لهؤلاء المحسنين مكافأة في الدنيا بإِحسانهم {وَلَدَارُ الآخِرَةِ خَيْرٌ} أي وما ينالونه في الآخرة من ثواب الجنة خيرٌ وأعظم من دار الدنيا لفنائها وبقاء الآخرة {وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ} أي ولنعم دار المتقين دار الآخرة وهي {جَنَّاتُ عَدْنٍ} أي جناتُ إِقامة {يَدْخُلُونَهَا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ} أي يدخلون تلك الجنان التي تجري من بين أشجارها وقصورها الأنهار {لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ} أي لهم في تلك الجنات ما يشتهون بدون كدٍّ ولا تعب، ولا انقطاعٍ ولا نَصب {كَذَلِكَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ} أي مثل هذا الجزاء الكريم يجزي الله عباده المتقين لمحارمه، المتمسكين بأوامره {الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمْ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ} أي هم الذين تقبض الملائكةُ أرواحهم حال كونهم أبراراً، قد تطهروا من دنس الشرك والمعاصي، طيبةً نفوسهم بلقاء الله {يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمْ} أي تسلم عليهم الملائكة وتبشرهم بالجنة قال ابن عباس: الملائكة يأتونهم بالسلام من قِبل الله، ويخبرونهم أنهم من أصحاب اليمين {ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} أي هنيئاً لكم الجنة بما قدمتم في الدنيا من صالح الأعمال.



تهديد المشركين على تماديهم في الباطل

{ هَلْ يَنظُرُونَ إِلا أَنْ تَأْتِيَهُمْ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَمَا ظَلَمَهُمْ اللَّهُ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ(33)فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُون(34)}.



{هَلْ يَنظُرُونَ إِلا أَنْ تَأْتِيَهُمْ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ} عاد الكلام إِلى تقريع المشركين وتوبيخهم على تماديهم في الباطل واغترارهم بالدنيا والمعنى ما ينتظر هؤلاء إِلا أحد أمرين: إِما نزول الموت بهم، أو حلول العذاب العاجل، أو ليس في مصير المكذبين قبلهم عبرةٌ وعظة؟.

{كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} أي كذلك صنع من قبلهم من المجرمين حتى حلَّ بهم العذاب {وَمَا ظَلَمَهُمْ اللَّهُ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} أي ما ظلمهم الله بتعذيبهم وإهلاكهم ولكنْ ظلموا أنفسهم بالشرك والمعاصي {فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا} أي أصابهم عقوبات كفرهم وجزاء أعمالهم الخبيثة {وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون} أي أحاط ونزل بهم جزاء استهزائهم وهو العذاب الأليم في دركات الجحيم.





تذرع الكفار بحجج واهية وإنكارهم البعث



{وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلا الْبَلاغُ الْمُبِينُ(35)وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولا أَنْ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ(36) إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ(37)وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ بَلَى وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ(38)لِيُبَيِّنَ لَهُمْ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ(39)إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ(40)}.



سبب النزول :

نزول الآية (38) :

{وأقسموا بالله..} قال الربيع بن أنس، عن أبي العالية : كان لرجل من المسلمين على رجل من المشركين دين، فأتاه يتقاضاه، فكان فيما تكلم به : والذي أرجوه بعد الموت، فقال المشرك : وإنك لتزعم أنك لتبعث بعد الموت؟! فأقسم بالله لا يبعث الله من يموت، فأنزل الله تعالى هذه الآية.



{وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا} أي قال أهل الكفر والإِشراك وهم كفار قريش {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ} أي لو شاء الله ما عبدنا الأصنام لا نحن ولا آباؤنا، ولا حرمنا ما حرمنا من البحائر والسوائب وغيرها، قالوا هذا على سبيل الاستهزاء لا على سبيل الاعتقاد، وغرضُهم أن إِشراكهم وتحريمهم لبعض الذبائح والأطعمة واقع بمشيئة الله، فهو راضٍ به وهو حقٌّ وصواب.

{كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} أي مثل هذا التكذيب والاستهزاء فعل من قبلهم من المجرمين، واحتجوا مثل احتجاجهم الباطل، وتناسوا كسبهم لكفرهم ومعاصيهم، وأن كل ذلك كان بمحض اختيارهم بعد أن أنذرتهم رسلهم عذاب النار وغضب الجبار {فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلا الْبَلاغُ الْمُبِينُ} أي ليس على الرسل إِلا التبليغ، وأمَّا أمر الهداية والإِيمان فهو إِلى الله جلَّ وعلا.

{وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولا أَنْ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} أي أرسلنا الرسل إِلى جميع الخلق يأمرونهم بعبادة الله وتوحيده ونترك كل معبود دون الله كالشيطان والكاهن والصنم، وكل من دعا إِلى الضلال {فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ} أي فمنهم من أرشده الله إِلى عبادته ودينه فآمن {وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ} أي ومنهم من وجبت له الشقاوة والضلالة فكفر، أعْلمَ تعالى انه أرسل الرسل لتبليغ الناس دعوة الله فمنهم من استجاب فهداه الله، ومنهم من كفر فأضَّله الله.

{فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} أي سيروا يا معشر قريش في أكناف الأرض ثم انظروا ماذا حلَّ بالأمم المكذبين لعلكم تعتبرون !.

{إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ} الخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم أي إِن تحرص يا محمد على هداية هؤلاء الكفار فاعلم أنه تعالى لا يخلق الهداية جبراً وقسراً فيمن يخلق فيه الضلالة بسوء اختياره {وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ} أي ليس لهم من ينقذهم من عذابه تعالى {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ} أي حلف المشركون جاهدين في أيمانهم مبالغين في تغليظ اليمين بأن الله لا يبعث من يموت، استبعدوا البعث ورأوه أمراً عسيراً بعد البلى وتفرق الأشلاء والذرات.

قال تعالى رداً عليهم {بَلَى وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا} أي بلى ليبعثنَّهم، وعد بذلك وعداً قاطعاً لابدَّ منه {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} أي ولكنَّ أكثرهم لا يعلمون قدرة الله فينكرون البعث والنشور {لِيُبَيِّنَ لَهُمْ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ} أي سيبعثهم ليكشف ضلالهم في إِنكارهم البعث، وليظهر لهم الحق فيما اختلفوا فيه، وليحقق العدل وهو التمييز بين المطيع والعاصي، وبين المحق والمبطل، وبين الظالم والمظلوم.

{وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ} أي وليعلم الجاحدون للبعث، والمكذبون لوعد الله الحق أنهم كانوا كاذبين فيما يقولون {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} أي لا يحتاج الأمر إلى كبير جهد وعناء فإِنا نقول للشيء كنْ فيكون.

قال المفسرون : هذا تقريبٌ للأذهان، والحقيقةُ أنه تعالى لو أراد شيئاً لكان بغير احتياج إِلى لفظ {كُنْ}.



منزل المهاجرين، ومهمة الرسول صلى الله عليه وسلم تبيين كلام الله



{وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلأَجْرُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ(41)الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ(42)وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلا رِجَالا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ(43)بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ(44) أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمْ الأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمْ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ(45)أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ(46)أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ(47)أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلالُهُ عَنْ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّدًا لِلَّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ(48)وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلائِكَةُ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ(49)يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ(50)}.



{وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا} أي تركوا الأوطان والأهل والقرابة في شأن الله وابتغاء رضوانه من بعد ما عُذّبوا في الله قال القرطبي: هم صهيب وبلال وخَبَّاب وعمّار، عذّبهم أهل مكة حتى قالوا لهم ما أرادوا، فلما خلّوهم هاجروا إِلى المدينة {لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً} أي لنسكننهم داراً حسنة خيراً مما فقدوا.

قال ابن عباس: بوأهم الله المدينة فجعلها لهم دار هجرة {وَلأَجْرُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} أي ثواب الآخرة أعظم وأشرف وأكبر لو كان الناس يعلمون {الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} أي هم الذين صبروا على الشدائد والمكاره، فهجروا الأوطان، وفارقوا الإِخوان، واعتمدوا على الله وحده يبتغون أجره ومثوبته.

{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلا رِجَالا نُوحِي إِلَيْهِمْ} أي وما أرسلنا من قبلك يا محمد إِلى الأمم الماضية إِلا بشراً نوحي إِليهم كما أوحينا إِليك.

قال المفسرون: أنكر مشركو قريش نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وقالوا: الله أعظم من أن يكون رسوله بشراً، فهلاَّ بعث إِلينا ملكاً، فنزلت {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} أي اسألوا يا معشر قريش العلماء بالتوراة والإِنجيل يخبرونكم أن جميع الأنبياء كانوا بشراً إِن كنتم لا تعلمون ذلك {بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ} أي أرسلناهم بالحجج والبراهين الساطعة الدالة على صدقهم وبالزبُر أي الكتب المقدسة.

{وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ} أي القرآن المذّكِّر الموقظ للقلوب الغافلة {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} أي لتعرّف الناس الأحكام، والحلال والحرام {وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} أي ولعلهم يتفكرون في هذا القرآن فيتعظون.

{أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمْ الأَرْضَ} أي هل أمن هؤلاء الكفار الذين مكروا برسول الله صلى الله عليه وسلم واحتالوا لقتله في دار الندوة، هل أمنوا أن يخسف الله بهم الأرض كما فعل بقارون؟ {أَوْ يَأْتِيَهُمْ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ} أي يأتيهم العذاب بغتةً في حال أمنهم واستقرارهم، من حيث لا يخطر ببالهم ومن جهةٍ لا يعلمون بها {أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ} أي يهلكهم في أثناء أسفارهم للتجارة واشتغالهم بالبيع والشراء فإِنهم على أي حال لا يعجزون الله {أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ} أي يهلكهم الله حال كونهم خائفين مترقبين لنزول العذاب.

قال ابن كثير: فإِنه يكون أبلغ وأشد فإِن حصول ما يتوقع مع الخوف شديدٌ {فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ} أي حيث لم يعاجلكم بالعقوبة.

{أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ} أي أولم يعتبر هؤلاء الكافرون ويروا آثار قدرة الله وأنه ما من شيء من الجبال والأشجار والأحجار ومن سائر ما خلق الله {يَتَفَيَّأُ ظِلالُهُ عَنْ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّدًا لِلَّهِ} أي تميل ظلالها من جانب إِلى جانب ساجدة للهِ سجود خضوعٍ لمشيئته تعالى وانقياد، لا تخرج عن إِرادته ومشيئته {وَهُمْ دَاخِرُونَ} أي خاضعون صاغرون فكل هذه الأشياء منقادة لقدرة الله وتدبيره فكيف يتعالى ويتكبر على طاعته أولئك الكافرون؟.

{وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلائِكَةُ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ} أي له تعالى وحده يخضع وينقاد جميع المخلوقات بما فيهم الملائكة فهم لا يستكبرون عن عبادته {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} أي يخافون جلال الله وعظمته، ويمتثلون أوامره على الدوام.



توجيه الله الكفار للتوحيد، وتذكيرهم بنعمه



{وَقَالَ اللَّهُ لا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِي(51)وَلَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ(52)وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنْ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمْ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ(53)ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ(54)لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ(55)وَيَجْعَلُونَ لِمَا لا يَعْلَمُونَ نَصِيبًا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ تَاللَّهِ لَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ(56)وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ(57)وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ(58)يَتَوَارَى مِنْ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ(59)لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ(60)وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ(61)وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمْ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمْ الْحُسْنَى لا جَرَمَ أَنَّ لَهُمْ النَّارَ وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ(62)}.





{وَقَالَ اللَّهُ لا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ} أي لا تعبدوا إِلهين فإِن الإِله الحق لا يتعدد {إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ} أي إِلهكم واحد أحد فردٌ صمد {فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِي} أي خافون دون سواي {وَلَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} أي ملكاً وخلقاً وعبيداً {وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا} أي له الطاعة والانقياد واجباً ثابتاً فهو الإِله الحق، وله الطاعة خالصة {أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ} الهمزة للإِنكار والتوبيخ أي كيف تتقون وتخافون غيره، ولا نفع ولا ضر إِلا بيده؟.

{وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنْ اللَّهِ} أي ما تفضَّل عليكم أيها الناس من رزقٍ ونعمةٍ وعافيةٍ ونصر فمن فضلِ اللهِ وإِحسانه {ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمْ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ} أي ثم إِذا أصابكم الضُّرُ من فقرٍ ومرضٍ وبأساء فإِليه وحده ترفعون أصواتكم بالدعاء، والغرض أنكم تلجأون إِليه وحده ساعة العسرة والضيق، ولا تتوجهون إِلا إِليه دون الشركاء {ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ} أي إِذا رفع عنكم البلاء رجع فريق منكم إِلى الإِشراك بالله قال القرطبي: ومعنى الكلام التعجيبُ من الإِشراك بعد النجاة من الهلاك {لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ} أي ليجحدوا نعمته تعالى من كشف الضر والبلاء {فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} أي تمتعوا بدار الفناء فسوف تعلمون عاقبة أمركم وما ينزل بكم من العذاب، وهو أمرٌ للتهديد والوعيد.

{وَيَجْعَلُونَ لِمَا لا يَعْلَمُونَ نَصِيبًا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ} أي يجعلون للأصنام التي لا يعلمون ربوبيتها ببرهان ولا بحجة نصيباً من الزرع والأنعام تقرباً إِليها {تَاللَّهِ لَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ} أي والله أيها المشركون لتُسألنَّ عما كنتم تختلقونه من الكذب على الله، والمراد سؤال توبيخٍ وتقريع.

{وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ} أي ومن جهل هؤلاء المشركين وسفاهتهم أن جعلوا الملائكة بنات الله، فنسبوا إِلى الله البنات وجعلوا لهم البنين {سُبْحَانَهُ} أي تنزَّه الله وتعظَّم عن هذا الإِفك والبهتان {وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ} أي ويجعلون لأنفسهم ما يحبّون من البنين أما البنات اللواتي يكرهونهن فينسبونهم إلى الله تعالى {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنثَى} أي إِذا أُخبر أحدهم بولادة بنت {ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا} أي صار وجهه متغيراً من الغم والحزن قال القرطبي: وهو كناية عن الغم والحزن وليس يريد السواد، والعربُ تقول لكل من لقي مكروهاً قد اسودَّ وجهه {وَهُوَ كَظِيمٌ} أي مملوءٌ غيظاً وغماً {يَتَوَارَى مِنْ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ} أي يختفي من قومه خوفاً من العار الذي يلحقه بسبب البنت، كأنها بليَّة وليست هبةً إِلهية، ثم يفكر فيما يصنع {أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ} أي أيرضى بهذه الأنثى على ذلٍّ وهوان أم يدفنها في التراب حية؟ {أَلا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} أي ساء صنيعهم وساء حكمهم، حيث نسبوا لخالقهم البنات - وهي عندهم بتلك الدرجة من الذل والحقارة - وأضافوا البنين إِليهم، تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً.

{لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ} أي لهؤلاء الذين لم يصدّقوا بالآخرة ونسبوا للهِ البنات سفهاً وجهلاً، صفةُ السوء القبيحة التي هي كالمثل في القبح، فالنقصُ إِنما ينسب إِليهم لا إِلى الله {وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَى} أي له جل وعلا الوصف العالي الشأن، والكمال المطلق، والتنزه عن صفات المخلوقين {وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} أي العزيزُ في ملكه، الحكيمُ في تدبيره.

ثم أخبر تعالى عن حلمه بالعباد مع ظلمهم فقال {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ} أي لو يؤاخذهم بكفرهم ومعاصيهم ويعاجلهم بالعقوبة {مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ} أي ما ترك على الأرض أحداً يدبُّ على ظهرها من إِنسانٍ وحيوان {وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} أي ولكنْ يؤخرهم إِلى وقتٍ معيَّن تقتضيه الحكمة {فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ} أي فإِذا جاء الوقت المحدَّد لهلاكهم لا يتأخرون برهةً يسيرةً من الزمن ولا يتقدمون عليها كقوله {وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِداً}.

{وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ} أي ينسبون إليه تعالى البنات مع كراهتهم لهنَّ، وهو تأكيد لما سبق للتقريع والتوبيخ {وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمْ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمْ الْحُسْنَى} أي يجعلون لله ما يجعلون ومع ذلك يزعمون أنَّ لهم العاقبة الحسنى عند الله وأنهم أهل الجنة {لا جَرَمَ أَنَّ لَهُمْ النَّارَ} أي حقاً إِنَّ لهم مكاناً في نار جهنم التي ليس وراء عذابها عذاب {وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ} أي معجَّلون إِليها ومُقدَّمون.



إرسال الله الرسل، ومهمة الرسول صلى الله عليه وسلم تبيان القرآن

{تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمْ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمْ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ(63)وَمَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلا لِتُبَيِّنَ لَهُمْ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ(64)}.



ثم ذكر تعالى نعمته في إرسال الرسل ليتأسى صلوات الله عليه بهم في الصبر على تحمل الأذى فقال {تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمْ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ} أي والله لقد بعثنا قبلك يا محمد رسلاً إلى أقوامك فحسن الشيطان أعمالهم القبيحة حتى كذبوا الرسل وردوا عليهم ما جاؤوهم به من البينات {فَهُوَ وَلِيُّهُمْ الْيَوْمَ} أي فالشيطان ناصرهم اليوم في الدنيا وبئس الناصر {وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} أي ولهم في الآخرة عقابٌ مؤلم.

{وَمَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلا لِتُبَيِّنَ لَهُمْ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ} أي ما أنزلنا عليك القرآن يا محمد إلا لتبين للناس ما اختلفوا فيه من الدين والأحكام لتقوم الحجة عليهم {وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} أي وأنزلنا القرآن هداية للقلوب، ورحمة وشفاء لمن آمن به.



دلائل عظمته وقدرته الدالة على وحدانيته



{وَاللَّهُ أَنزَلَ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ(65)وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ(66)وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ(67)وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنْ اتَّخِذِي مِنْ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنْ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ(68) ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلا يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ(69)}.



ثم ذكر تعالى عظيم قدرته الدالة على وحدانيته فقال {وَاللَّهُ أَنزَلَ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} أي أنزل بقدرته الماء من السحاب فأحيا بذلك الماء النبات والزرع بعد جدب الأرض ويُبسها {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ} أي إِن في هذا الإِحياء لدلالةً باهرة على عظيم قدرته لقوم يسمعون التذكير فيتدبرونه ويعقلونه.

{وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأَنْعَامِ لَعِبْرَةً} أي وإِنَّ لكم أيها الناس في هذه الأنعام "الإِبل والبقر والضأن والمعز" لعظةً وعبرة يعتبر بها العقلاء، ففي خلقها وتسخيرها دلالة على قدرة الله وعظمته ووحدانيته {نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ} أي نسقيكم من بعض الذي في بطون هذه الأنعام {مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا} أي من بين الروث والدم ذلك الحليب الخالص واللبن النافع {سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ} أي سهل المرور في حلقهم، لذيذاً هيناً لا يغصُّ به من شربه.

{وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا} أي ولكم مما أنعم الله به عليكم من ثمراتِ النخيل والأعناب ما تجعلون منه خمراً يسكر قال الطبري: وإِنما نزلت هذه الآية قبل تحريم الخمر ثم حُرِّمتْ بعد ذلك {وَرِزْقًا حَسَنًا} كالتمر والزبيب قال ابن عباس: الرزق الحسن: ما أُحلَّ من ثمرتها، والسَّكر: ما حُرّم من ثمرتها.

{إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} أي لآيةً باهرة، ودلالة قاهرة على وحدانيته سبحانه لقومٍ يتدبرون بعقولهم قال ابن كثير: وناسب ذكرُ العقل هنا لأنه أشرفُ ما في الإِنسان، ولهذا حرَّم الله على هذه الأمة الأشربة المسكرة صيانةً لعقولها، ولما ذكر تعالى ما يدل على باهر قدرته،وعظيم حكمته من إِخراج اللبن من بين فرثٍ ودمٍ، وإِخراج الرزق الحسن من ثمرات النخيل والأعناب، ذكر إِخراج العسل الذي جعله شفاءً للناس من النحل، وهي حشرةً ضعيفة وفيها عجائب بديعة وأمور غريبة، وكل هذا يدل على وحدانية الصانع وقدرته وعظمته فقال تعالى: {وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنْ اتَّخِذِي مِنْ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنْ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ} المراد من الوحي: الإِلهامُ والهدايةُ أي ألهمها مصالحها وأرشدها إِلى بناء بيوتها المسدَّسة العجيبة تأوي إِليها في ثلاثة أمكنة:الجبال، والشجر والأوكار التي يبنيها الناس {ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ} أي كلي من كل الأزهار والثمار التي تشتهينها من الحلو، والمر، والحامض، فإِن الله بقدرته يحيلها إِلى عسلٍ {فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلا} أي ادخلي الطرق في طلب المرعى حال كونها مسخرةً لك لا تضلين في الذهاب أو الإِياب.

{يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ} أي يخرج من بطون النحل عسلٌ متنوعٌ منه أحمر، وأبيض، وأصفر، فيه شفاءٌ للناس من كثيرٍ من الأمراض قال الرازي فإِن قالوا: كيف يكون شفاءً للناس وهو يضر بالصفراء ؟ فالجواب أنه تعالى لم يقل : إِنه شفاءٌ لكل الناس، ولكل داء، وفي كل حال، بل لمّا كان شفاء للبعض ومن البعض الأدواء صلح بأن يوصف بأنَّ فيه شفاء {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} أي لعبرة لقومٍ يتفكرون في عظيم قدرة الله، وبديع صنعه.



تفرده تعالى في التصرف في هذا الكون



{وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ(70)وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ(71) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنْ الطَّيِّبَاتِ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ(72)وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مِنْ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ شَيْئًا وَلا يَسْتَطِيعُونَ(73)فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ(74)}.



{وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ} أي خلقكم بقدرته بعد أن لم تكونوا شيئاً ثم يتوفاكم عند انقضاء آجالكم {وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ} أي يُردُّ إِلى أردأ وأضعف العمر وهو الهَرم والخرف {لِكَيْ لا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا} أي لينسى ما يعلم فيشبه الطفل في نقصان القوة والعقل {إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ} أي عليمٌ بتدبير خلقه، قديرٌ على ما يريده، فكما قدر على نقل الإِنسان من العلم إِلى الجهل، فإِنه قادر على إِحيائه بعد إِماتته قال عكرمة: من قرأ القرآن لم يُردَّ إِلى أرذل العمر.

{وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ} أي فاوت بينكم في الأرزاق فهذا غنيٌّ وذاك فقير، وهذا مالكٌ وذاك مملوك {فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ} أي ليس هؤلاء الأغنياء بمشركين لعبيدهم المماليك فيما رزقهم الله من الأموال حتى يستووا في ذلك مع عبيدهم، وهذا مثلٌ ضربه الله تعالى للمشركين قال ابن عباس: لم يكونوا ليشركوا عبيدهم في أموالهم ونسائهم، فكيف يشركون عبيدي معي في سلطاني ؟ {أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} الاستفهام للإِنكار أي أيشركون معه غيره وهو المنعم المتفضل عليهم ؟.

{وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا} أي هو تعالى بقدرته خلق النساء من جنسكم وشكلكم ليحصل الائتلاف والمودة والرحمة بينكم {وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً} أي جعل لكم من هؤلاء الزوجات الأولاد وأولاد الأولاد، سمّوا حفدة لأنهم يخدمون أجدادهم ويسارعون في طاعتهم {وَرَزَقَكُمْ مِنْ الطَّيِّبَاتِ} أي رزقكم من أنواع اللذائذ من الثمار والحبوب والحيوان {أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ} أي أبعد تحقق ما ذُكر من نعم الله يؤمنون بالأوثان ويكفرون بالرحمن ؟ وهو استفهام للتوبيخ والتقريع.

{وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مِنْ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ شَيْئًا} أي ويعبد هؤلاء المشركون أوثاناً لا تقدر على إِنزال مطر، ولا على إِخراج زرعٍ أو شجر، ولا تقدر أن ترزقهم قليلاً أو كثيراً {وَلا يَسْتَطِيعُونَ} أي ليس لها ذلك ولا تقدر عليه لو أرادت {فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الأَمْثَالَ} أي لا تمثّلوا لله الأمثال، ولا تشبّهوا له الأشباه، فإِنه تعالى لا مثل له ولا نظير ولا شبيه {إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} أي يعلم كل الحقائق، وأنتم لا تعلمون قدر عظمة الخالق.

yacine414
2011-03-26, 17:34
ضربه تعالى الأمثال للعظة



{ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا عَبْدًا مَمْلُوكًا لا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ(75)وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهُّ لا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ(76)}.



{ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا عَبْدًا مَمْلُوكًا لا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا} هذا مثلٌ ضربه الله تعالى لنفسه وللأصنام التي أشركوها مع الله جل وعلا أي مثلُ هؤلاء في إشراكهم مثلُ من سوَّى بين عبدٍ مملوكٍ عاجزٍ عن التصرف، وبين حرٍّ مالك يتصرف في أمره كيف يشاء، مع أنهما سيّان في البشرية والمخلوقية لله سبحانه وتعالى، فما الظنُّ بربِّ العالمين حيث يشركون به أعجز المخلوقات؟ {فَهُوَ يُنفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا} أي ينفق ماله في الخفاء والعلانية ابتغاء وجه الله {هَلْ يَسْتَوُونَ}؟ أي هل يستوي العبيد والأحرار الذين ضُرب لهم المثل، فالأصنام كالعبد المملوك الذي لا يقدر على شيء، والله تعالى له المُلك، وبيده الرزق، وهو المتصرف في الكون كيف يشاء، فكيف يُسوَّى بينه وبين الأصنام؟ {الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ} أي شكراً للهِ على بيان هذا المثال ووضوح الحق فقد ظهرت الحجة مثل الشمس الساطعة، ولكنَّ المشركين بسفههم وجهلهم يسوّون بين الخالق والمخلوق، والمالكِ والمملوك.

{وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ} هذا هو المثل الثاني للتفريق بين الإِله الحق والأصنام الباطلة. قال مجاهد: هذا مثلٌ مضروبٌ للوثن والحقّ تعالى، فالوثنُ أبكم لا يتكلم ولا ينطق بخير، ولا يقدر على شيء بالكلية لأنه إما حجرٌ أو شجر، {وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلاهُ} أي ثقيل عالة على وليِّه أو سيده {أَيْنَمَا يُوَجِّهُّ لا يَأْتِ بِخَيْرٍ} أي حيثما أرسله سيده لم ينجح في مسعاه لأنه أخرس، بليد، ضعيف {هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} أي هل يتساوى هذا الأخرس، وذلك الرجل البليغ المتكلم بأفصح بيان، وهو على طريق الحق والاستقامة، مستنيرٌ بنور القرآن؟ وإِذا كان العاقل لا يسوّي بين هذين الرجلين، فكيف تمكن التسوية بين صنم أو حجر، وبين الله سبحانه وهو القادر العليم، الهادي إلى الصراط المستقيم؟



علمه تعالى الغيب وخلقه الإنسان وهدايته، وتسخير الطير



{وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ(77)وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمْ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ(78)أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ السَّمَاءِ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلا اللَّهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ(79)}.



{وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} أي هو سبحانه المختص بعلم الغيب، يعلم ما غاب عن الأبصار في السماوات والأرض {وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ} أي ما شأن الساعة في سرعة المجيء إلا كنظرة سريعة بطرف العين، بل هو أقرب لأنه تعالى يقول للشيء : كن فيكون، وهذا تمثيل لسرعة مجيئها ولذلك قال {إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} أي قادرٌ على كل الأشياء ومن جملتها القيامة التي يكذب بها الكافرون.

{وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئًا} أي أخرجكم من أرحام الأمهات لا تعرفون شيئاً أصلاً {وَجَعَلَ لَكُمْ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} أي خلق لكم الحواس التي بها تسمعون وتبصرون وتعقلون لتشكروه على نعمه وتحمدوه على آلائه.

{أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ السَّمَاءِ} هذا من الأدلة على قدرة الله تعالى ووحدانيته والمعنى : ألم يشاهدوا الطيور مذلّلات للطيران في ذلك الفضاء الواسع بين السماء والأرض {مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلا اللَّهُ} أي ما يمسكهن عن السقوط عند قبض أجنحتهنَّ وبسطها إلا هو سبحانه {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} أي إنَّ فيما ذُكر لآيات ظاهرة، وعلامات باهرة على وحدانيته تعالى لقوم يصدِّقون بما جاءت به رسل الله.



نعمه تعالى على بني البشر

{وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الأَنْعَامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ(80)وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلالا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ الْجِبَالِ أَكْنَانًا وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمْ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ(81)فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ الْمُبِينُ(82)يَعْرِفُونَ نِعْمَةَ اللَّهِ ثُمَّ يُنكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمْ الْكَافِرُونَ(83)}.



{وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا} هذا تعداد لنعم الله على العباد أي جعل لكم هذه البيوت من الحجر والمدر لتسكنوا فيها أيام مُقامكم في أوطانكم {وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الأَنْعَامِ بُيُوتًا} أي وجعل لكم بيوتاً أُخرى وهي الخيام والقُباب المتخذة من الشعر والصوف والوبَر {تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ} أي تستخفون حملها ونقلها في أسفاركم، وهي خفيفةٌ عليكم في أوقات السفر والحضَر {وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا} أي وجعل لكم من صوف الغنم، ووبر الإِبل، وشعر المعز ما تلبسون وتفرشون به بيوتكم {وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ} أي تنتفعون وتتمتعون بها إلى حين الموت.

{وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلالا} أي جعل لكم من الشجر والجبل والأبنية وغيرها ظلالاً تتقون بها حرَّ الشمس {وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ الْجِبَالِ أَكْنَانًا} أي وجعل لكم في الجبال مواضع تسكنون فيها كالكهوف والحصون.

قال الرازي: لما كانت بلادُ العرب شديدة الحر، وحاجتهم إلى الظل ودفع الحر شديدة، فلهذا ذكر تعالى هذه المعاني في معرض النعمة العظيمة.

{وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمْ الْحَرَّ} أي جعل لكم الثياب من القطن والصوف والكتان لتحفظكم من الحر والبرد {وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ} أي ودروعاً تشبه الثياب تتقون بها شر أعدائكم في الحرب {كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ} أي مثل ما خلق هذه الأشياء لكم وأنعم بها عليكم فإِنه يُتم نعمة الدنيا والدين عليكم {لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ} أي لتخلصوا للهِ الربوبية، وتعلموا أنه لا يقدر على هذه الإِنعامات أحدٌ سواه.

{فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ الْمُبِينُ} أي فإِن أعرضوا عن الإِيمان ولم يؤمنوا بما جئتهم به يا محمد فلا ضرر عليك لأن وظيفتك التبليغ وقد بلَّغت الرسالة وأديت الأمانة {يَعْرِفُونَ نِعْمَةَ اللَّهِ ثُمَّ يُنكِرُونَهَا} أي يعرف هؤلاء المشركون نِعَم الله التي أنعم بها عليهم، ويعترفون بأنها من عند الله ثم ينكرونها بعبادتهم غير المنعم وقال السُّدي: نعمةُ الله هي محمد صلى الله عليه وسلم عرفوا نبوته، ثم جحدوها وكذّبوه {وَأَكْثَرُهُمْ الْكَافِرُونَ} أي أكثرهم يموتون كفاراً وفيه إشارة إلى أن بعضهم يهتدي للإِسلام وأما أكثرهم فمصرّون على الكفر والضلال.



وعيد المشركين وأحوالهم يوم القيامة



{وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا ثُمَّ لا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ(84)وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا الْعَذَابَ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ وَلا هُمْ يُنظَرُونَ(85)وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكَاءَهُمْ قَالُوا رَبَّنَا هَؤُلاء شُرَكَاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُو مِنْ دُونِكَ فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمْ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ(86)وَأَلْقَوْا إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ(87) الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ العَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ(88)وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ مِنْ أَنفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلاء وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ(89)}.



{وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا} أي ويوم القيامة نحشر الخلائق للحساب ونبعث في كل أمة نبيّها يشهد عليها بالإِيمان والكفر {ثُمَّ لا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا} أي لا يؤذن للذين كفروا في الاعتذار لأنهم يعلمون بطلانه وكذبه {وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ} أي لا يُطلب منهم أن يسترضوا ربَّهم بقولٍ أو عمل، فقد فات أوان العتاب والاسترضاء، وجاء وقت الحساب والعقاب قال القرطبي : العُتبى هي رجوع المعتوب عليه إلى ما يرضي العاتب، وأصل الكلمة من العتب وهي الموجدة فإِذا وجد عليه يقال: عَتَب، وإِذا رجع إلى مسرَّتك فقد أعتب.

{وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا الْعَذَابَ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ} أي وإِذا رأى المشركون عذاب جهنم فلا يُفتَّر عنهم ساعة واحدة {وَلا هُمْ يُنظَرُونَ} أي لا يُؤخرون ولا يُمهلون {وَإِذَا رَءا الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكَاءَهُمْ} أي وإِذا أبصر المشركون شركاءهم الذين كانوا يعبدونهم في الدنيا ويزعمون أنهم شركاء الله في الألوهية {قَالُوا رَبَّنَا هَؤُلاء شُرَكَاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُو مِنْ دُونِكَ} أي هؤلاء الذين عبدناهم من دونك. قال البيضاوي: وهذا اعترافٌ بأنهم كانوا مخطئين في ذلك والتماس لتخفيف العذاب {فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمْ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ} أي أجابوهم بالتكذيب فيما قالوا في تقرير وتوكيد، وذلك مما يوجب زيادة الغم والحسرة في قلوبهم {وَأَلْقَوْا إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ} أي استسلم أولئك الظالمون لحكم الله تعالى بعد الإِباء والاستكبار في الدنيا {وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} أي بطل ما كانوا يؤملون من أن آلهتهم تشفع لهم عند الله.

ثم أخبر تعالى عن مآلهم بعد أن أخبر عن حالهم فقال: {الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} أي كفروا بالله ومنعوا الناس من الدخول في دين الإِسلام {زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ العَذَابِ} أي زدناهم عذاباً في جهنم فوق عذاب الكفر، لأنهم ارتكبوا جريمة صدّ الناس عن الهدى فوق جريمة الكفر، فضوعف لهم العذاب جزاءً وفاقاً {بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ} أي بسبب إفسادهم في الدنيا بالكفر والمعصية {وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ مِنْ أَنفُسِهِمْ} أي اذكر للناس ذلك اليوم وهوْله حين نبعث في كل أمةٍ نبيَّها ليشهد عليها {وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلاء} أي وجئنا بك يا محمد شهيداً على أمتك {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} أي وأوحينا إليك القرآن المنير بياناً شافياً بليغاً لكل ما يحتاج الناس إليه من أمور الدين فلا حجة لهم ولا معذرة. قال ابن مسعود: قد بُيّن لنا في هذا القرآن كلُّ علمٍ، وكل شيء {وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} أي هداية للقلوب، ورحمة للعباد، وبشارةً للمسلمين المهتدين.





أمره تعالى بالعدل ونهيه عن الفحشاء



{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ(90)وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلا تَنقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمْ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ(91) وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلا بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّمَا يَبْلُوكُمْ اللَّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ(92)وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ(93) وَلا تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِمَا صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ(94)وَلا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلا إِنَّمَا عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ(95)مَا عِنْدَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ(96)}.



سبب النزول :

نزول الآية (91) :

{وأوفوا} : أخرج ابن جرير عن بُرَيْدة قال : نزلت هذه الآية في بيعة النبي صلى الله عليه وسلم. وأخرج ابن جرير عن مَزْيَدة بن جابر أن الآية نزلت في بيعة النبي صلى الله عليه وسلم، كان من أسلم يبايع على الإسلام، فقال تعالى: {وأوفوا بعهد الله ..} الآية، فلا تحملنكم قلة محمد وأصحابه، وكثرة المشركين أن تنقضوا البيعة التي بايعتم على الإسلام، وإن كان في المسلمين قلة، وفي المشركين كثرة.



نزول الآية (92) :

{ولا تكونوا} : أخرج ابن أبي حاتم عن أبي بكر بن أبي حفص: كانت سعيدة الأسدية حمقاء، تجمع الشعر والليف، فنزلت هذه الآية: {ولا تكونوا كالتي نقضت غزلها}.



{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ} أي يأمر بمكارم الأخلاق بالعدل بين الناس، والإِحسان إلى جميع الخلق {وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى} أي مواساة الأقرباء، وخصَّه بالذكر اهتماماً به {وَيَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ} أي ينهى عن كل قبيح من قولٍ، أو فعلٍ، أو عملٍ قال ابن مسعود: هذه أجمعُ آيةٍ في القرآن لخيرٍ يُمتثل، ولشرٍ يُجتنب، والفحشاء: كل ما تناهى قبحه كالزنى والشرك، والمنكر: كل ما تنكره الفطرة، والبغي: هو الظلم وتجاوز الحق والعدل {يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} أي يؤدبكم بما شرع من الأمر والنهي لتتعظوا بكلام الله.

{وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ} أي حافظوا على العهود التي عاهدتم عليها الرسول أو الناس وأدوها على الوفاء والتمام {وَلا تَنقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا} أي ولا تنقضوا أيمان البيعة بعد توثيقها بذكر الله تعالى {وَقَدْ جَعَلْتُمْ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلا} أي جعلتم الله شاهداً ورقيباً على تلك البيعة {إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ} أي عليم بأفعالكم وسيجازيكم عليها.

{وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثًا} هذا مثلٌ ضربه الله لمن نكث عهده، شبَّهت الآية الذي يحلف ويعاهد ويُبرم عهده ثم ينقضه بالمرأة تغزل غزلها وتفتله محكماً ثم تحلُه أنكاثاً أي أنقاضاً. قال المفسرون: كان بمكة امرأة حمقاء تغزل غزلاً ثم تنقضه، وكان الناس يقولون: ما أحمق هذه! {تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلا بَيْنَكُمْ} أي تتخذون أيمانكم خديعة ومكراً تخدعون بها الناس {أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ} أي لأجل أن تكون أمة أكثر عدداً وأوفر مالاً من غيرها. قال مجاهد: كانوا يحالفون الحلفاء فيجدون من هو أكثر منهم وأعزَّ، فينقضون حلف هؤلاء ويحالفون أولئك {إِنَّمَا يَبْلُوكُمْ اللَّهُ بِهِ} أي إِنما يختبركم الله بما أمركم به من الوفاء بالعهد لينظر المطيع من العاصي {وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} أي ليجازي كل عاملٍ بعمله من خير وشرّ.

{وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} أي لو شاء الله لخلق الناس باستعداد واحد، وجعلهم أهل ملةٍ واحدة، لا يختلفون ولا يفترقون {وَلَكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} أي ولكنْ اقتضت حكمته أن يتركهم لاختيارهم، ناسٌ للسعادة وناس للشقاوة، فيضلُّ من يشاء بخذلانه إِياهم عدلاً، ويهدي من يشاء بتوفيقه إِياهم فضلاً {وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} أي ثم يسألكم يوم القيامة عن جميع أعمالكم فيجازي على الفتيل والقطمير.

{وَلا تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلا بَيْنَكُمْ} كرره تأكيداً ومبالغة في تعظيم شأن العهود أي لا تعقدوا الأيمان وتجعلوها خديعة ومكراً تغرون بها الناس لتحصلوا على بعض منافع الدنيا الفانية {فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا} أي فتزلَّ أقدامكم عن طريق الاستقامة وعن محجة الحق بعد رسوخها فيه. قال ابن كثير: هذا مثل لمن كان على الاستقامة فحاد عنها، وزلَّ عن طريق الهدى بسبب الأيمان الحانثة، المشتملة على الصدّ عن سبيل الله، لأن الكافر إِذا رأى المؤمن قد عاهده ثم غدر به لم يبق له وثوقٌ بالدين، فيصد بسببه عن الدخول بالإِسلام ولهذا قال {وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِمَا صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} أي يصيبكم العقاب الدنيوي العاجل الذي يسوؤكم لصدّكم غيركم عن اعتناق الإِسلام بسبب نقض العهود {وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} أي ولكم في الآخرة عذاب كبير في نار جهنم.

{وَلا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلا} أي لا تستبدلوا عهد الله وعهد رسوله صلى الله عليه وسلم بحطام الدنيا الفاني {إِنَّمَا عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} أي ما عند الله من الأجر والثواب خير لكم من متاع الدنيا العاجل إِذا كنتم تعلمون الحقيقة، ثم علَّل ذلك بقوله {مَا عِنْدَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ} أي ما عندكم أيها الناس فإِنه فانٍ زائل، وما عند الله فإِنه باقٍ دائم، لا انقطاع له ولا نَفاد، فآثروا ما يبقى على ما يفنى {وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} أي ولنثيبنَّ الصابرين بأفضل الجزاء، ونعطيهم الأجر الوافي على أحسن الأعمال مع التجاوز عن السيئات، وهذا وعدٌ كريم بمنح أفضل الجزاء على أفضل العمل، ليكون الجزاء على أحسن العمل دون سواه، وكل ذلك بفضل الله.



أجمع آية للرجال والنساء في الترغيب بالعمل الصالح



{مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ(97)}



{مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ} أي من فعل الصالحات ذكراً كان أو أنثى بشرط الإِيمان {فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً} أي فلنحيينَّه في الدنيا حياة طيبة بالقناعة والرزق الحلال، والتوفيق لصالح الأعمال. وقال الحسن: لا تطيب الحياة لأحدٍ إِلا في الجنة لأنها حياة بلا موت، وغنى بلا فقر، وصحة بلا سقم، وسعادة بلا شقاوة {وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} أي ولنثيبنّهم في الآخرة بجزاء أحسن أعمالهم، وما أكرمه من ثواب!





ليس للشيطان سلطان على المؤمنين وتنزيل القرآن لتثبيت المؤمنين



{فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ(98)إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ(99)إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ(100)وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ(101) قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ(102)وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ(103)إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ لا يَهْدِيهِمْ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ(104)إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْكَاذِبُونَ(105)}.



سبب النزول :

نزول الآية (101) :

{وإذا بدّلنا ..} نزلت حين قال المشركون : إن محمداً عليه الصلاة والسلام سخر بأصحابه، يأمرهم اليوم بأمر، وينهاهم عنه غداً، أو يأتيهم بما هو أهون عليهم، وما هو إلا مفترٍ يقوله من تلقاء نفسه، فأنزل الله تعالى هذه الآية والتي بعدها.



نزول الآية (103) :

{ولقد نعلم أنهم يقولون ..} الآية : أخرج ابن أبي حاتم من طريق حصين عن عبد الله بن مسلم الحضرمي قال: كان لنا عبدان: أحدهما يقال له : يسار، والآخر جبر، وكانا صِقِلِّيين، فكانا يقرآن كتابهما، ويعلمان علمهما، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يمرّ بهما، فيستمع قراءتهما، فقالوا : إنما يتعلم منهما، فنزلت.



{فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ} أي إِذا أردت تلاوة القرآن {فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} أي فاسأل الله أن يحفظك من وساوس الشيطان وخطراته، كي لا يوسوس لك عند القراءة فيصدَّك عن تدبر القرآن والعمل بما فيه {إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا} أي ليس له تسلطٌ وقدرة على المؤمنين بالإِغواء والكفر لأنهم في كنف الرحمن {وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} أي يعتمدون على الله فيما نابَهم من شدائد {إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ} أي إِنما تسلُّطه وسيطرته على الذين يطيعونه ويتخذونه لهم ولياً {وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ} أي بسبب إِغوائه أصبحوا مشركين في عبادتهم وذبائحهم، ومطاعمهم ومشاربهم.

{وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ} أي وإِذا أنزلنا آيةً مكان آية وجعلناها بدلاً منها بأن ننسخ تلاوتها أو حكمها {وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ} جملةٌ اعتراضية سيقت للتوبيخ أي والله أعلم بما هو أصلح للعباد وبما فيه خيرهم، فإِنَّ مثل آياتِ هذا الكتاب كمثل الدواء يُعطى منه للمريض جرعات حتى يماثل الشفاء، ثم يستبدل بما يصلح له من أنواع أخرى من الأطعمة {قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ} أي قال الكفرة الجاهلون: إِنما أنت يا محمد متقوِّلٌ كاذبٌ على الله {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ} أي أكثرهم جهلة لا يعلمون حكمة الله فيقولون ذلك سفهاً وجهلاً قال ابن عباس: كان إِذا نزلت آية فيها شدة ثم نسخت قال كفار قريش: والله ما محمد إِلا يسخر من أصحابه، يأمرهم اليوم بأمرٍ، وينهاهم غداً عنه، وإِنه لا يقول ذلك إِلا من عند نفسه فنزلت.

{قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ} أي قل لهم يا محمد: إِنما نزَّله جبريل الأمين من عند أحكم الحاكمين بالصدق والعدل {لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا} أي ليثبّت المؤمنين بما فيه من الحجج والبراهين فيزدادوا إِيماناً ويقيناً {وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} أي وهداية وبشارة لأهل الإِسلام الذين انقادوا لحكمه تعالى، وفيه تعريضٌ بالكفار الذين لم يستسلموا لله تعالى.

{وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ} أي قد علمنا مقالة المشركين الشنيعة ودعواهم أن هذا القرآن من تعليم "جبْر الرومي" وقد ردَّ تعالى عليهم بقوله {لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ} أي لسان الذي يزعمون أنه علَّمه وينسبون إِليه التعليم أعجميٌ {وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ} أي وهذا القرآن عربيٌ في غاية الفصاحة، فكيف يمكن لمن لسانُه أعجمي أن يُعلم محمداً هذا الكتاب العربيَّ المبين ؟ ومن أين للأعجمي أن يذوق بلاغة هذا الكتاب المعجز في فصاحته وبيانه !!.

{إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ لا يَهْدِيهِمْ اللَّهُ} أي إِن الذين لا يُصدّقون بهذا القرآن لا يوفقهم الله لإِصابة الحق، ولا يهديهم إِلى طريق النجاة والسعادة {وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} أي لهم في الآخرة عذابٌ موجع مؤلم، وهذا تهديدٌ لهم ووعيد على كفرهم وافترائهم {إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ} أي لا يكذب على الله إِلا من لم يؤمن بالله ولا بآياته، لأنه لا يخاف عقاباً يردعه، فالكذب جريمةٌ فاحشة لا يُقدم عليها مؤمن، وهذا ردٌّ لقولهم {إِنما أنتَ مفتر} {وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْكَاذِبُونَ} أي وأولئك هم الكاذبون على الحقيقة لا محمد الرسول الأمين صلى الله عليه وسلم.





المرتدون عن الإسلام والمهاجرون بعدما فتنوا

{مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنْ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ(106)ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ(107)أُوْلَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْغَافِلُونَ(108)لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الآخِرَةِ هُمْ الْخَاسِرُونَ(109) ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ(110)يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ(111)}.



سبب النزول :

نزول الآية (106) :

{إلا من أكره} : أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: لما أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يهاجر إلى المدينة، أخذ المشركون بلالاً، وخبَّاباً، وعمار بن ياسر، فأما عمار فقال لهم كلمة أعجبتهم تَقيَّة، فلما رجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، حدَّثه فقال : كيف كان قلبك حين قلت: أكان منشرحاً بالذي قلت ؟ قال: لا، فأنزل الله: {إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان}.



نزول الآية (110) :

{ثم إن ربك} : أخرج ابن سعد في الطبقات عن عمر بن الحَكَم قال : كان عمار بن ياسر يعذَّب، حتى لا يدري ما يقول، وكان صهيب يعذب، حتى لا يدري ما يقول، وكان أبو فكيهة يعذب، حتى لا يدري ما يقول، وبلال وعامر بن فُهَيْرة وقوم من المسلمين، وفيهم نزلت هذه الآية : {ثم إن ربك للذين هاجروا من بعد ما فتنوا}.



{مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ} أي من تلفَّظ بكلمة الكفر وارتد عن الدين بعد ما دخل فيه {إِلا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ} أي من تلفَّظ بكلمة الكفر مكرهاً والحال أن قلبه مملوءٌ إِيماناً ويقيناً، والآيةُ تغليظٌ لجريمة المرتد لأنه عرف الإِيمان وذاقه ثم ارتدَّ إِيثاراً للحياة الدنيا على الآخرة.

قال المفسرون: نزلت في عمار بن ياسر أخذه المشركون فعذبوه حتى أعطاهم ما أرادوا مُكْرهاً فقال الناس: إِنَّ عماراً كفر فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إِنَّ عماراً ملئ إِيماناً من فرقه إِلى قدمه، واختلط الإِيمان بلحمه ودمه، فأتى عمار رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يبكي فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: كيف تجد قلبك ؟ قال: مطمئناً بالإِيمان قال: إِن عادوا فعُدْ.

{وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا} أي طابت نفسه بالكفر وانشرح صدره له {فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنْ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} أي ولهم غضبٌ شديد مع عذاب جهنم، إِذْ لا جُرْمَ أعظم من جرمهم {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ} أي ذلك العذاب بسبب أنهم آثروا الدنيا واختاروها على الآخرة {وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} أي لا يوفقهم إِلى الإِيمان ولا يعصمهم من الزيغ والضلال.

{أُوْلَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ} أي ختم على قلوبهم وأسماعهم وأبصارهم فجعل عليها غلافاً بحيث لا تُذعن للحق ولا تسمعه ولا تبصره {وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْغَافِلُونَ} أي الكاملون في الغفلة إِذْ أغفلتهم الدنيا عن تدبر العواقب {لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الآخِرَةِ هُمْ الْخَاسِرُونَ} أي حقاً ولا شك ولا ريب في أنهم الخاسرون في الآخرة لأنهم ضيَّعوا أعمارهم في غير منفعة تعود عليهم. قال المفسرون: وصفهم تعالى بست صفات هي: الغضب من الله، والعذاب العظيم، واختيارهم الدنيا على الآخرة، وحرمانهم من الهدى، والطبع على قلوبهم، وجعلهم من الغافلين.

{ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا} أي ثم إِن ربك يا محمد للذين هاجروا في سبيل الله بعد ما فتنهم المشركون الطغاة عن دينهم بالعذاب {ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا} أي ثم جاهدوا في سبيل الله وصبروا على مشاقّ الجهاد {إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} أي إِن ربك بعد تلك الهجرة والجهاد والصبر سيغفر لهم ويرحمهم.

{يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا} أي ذكِّرْهم يوم القيامة حين تخاصم كلُّ نفسٍ عن ذاتها سعياً في خلاصها، لا يهمها شأنُ غيرها {وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ} أي تُعطى جزاءَ ما عملت من غير بخْسٍ ولا نقصان {وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} أي لا ينقصون أجورهم بل يُعطونها كاملةً وافية.



كفران النعمة وعاقبته في الدنيا



{وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ(112)وَلَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ الْعَذَابُ وَهُمْ ظَالِمُونَ(113)}.



{وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا قَرْيَةً} هذا مثلٌ ضربه الله لأهل مكة وغيرهم، بقومٍ أنعم الله عليهم فأبطرتهم النعمة فعصوا وتمردوا، فبدَّل الله نعمتهم بنقمة {كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً} أي كان أهلها في أمنٍ واستقرار، وسعادة ونعيم {يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ} أي تأتيها الخيرات والأرزاق بسعةٍ وكثرةٍ من كل الجهات {فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ} أي لم يشكروا الله على ما آتاهم من خير، وما وهبهم من رزق {فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ} أي سلبهم اللهُ نعمة الأمن والاطمئنان، وأذاقهم آلام الخوف والجوع والحرمان {بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} أي بسبب كفرهم ومعاصيهم، قال الرازي: وهذا مثلُ أهل مكة لأنهم كانوا في الأمن والطمأنينة والخِصْب، ثم أنعم الله عليهم بالنعمة العظيمة وهو محمد صلى الله عليه وسلم فكفروا به، وبالغوا في إِيذائه، فعذبهم الله بالقحط والجوع سبع سنين حتى أكلوا الجيف والعظام.

{وَلَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ} أي ولقد جاءهم محمد بالآيات الباهرة والمعجزات الظاهرة وهو رسولٌ منهم يعرفون أصله ونسبه فلم يصدقوه ولم يؤمنوا برسالته، والآية دالة على أن المراد بهم أهل مكة وهو قول ابن عباس {فَأَخَذَهُمْ الْعَذَابُ وَهُمْ ظَالِمُونَ} أي فأصابتهم الشدائد والنكبات وهم ظالمون بارتكاب المعاصي والآثام.



الحلال الطيب من المأكولات والحرام الخبيث



{فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمْ اللَّهُ حَلالا طَيِّبًا وَاشْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ(114)إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنْ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ(115)وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمْ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ(116)مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ(117)وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ(118)ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ(119)}.



{فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمْ اللَّهُ حَلالا طَيِّبًا} أي كلوا من نِعَم الله التي أباحها لكم حال كونها حلالاً طيباً {وَاشْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} أي واشكروا الله على نعمه الجليلة إِن كنتم مخلصين في إِيمانكم لا تعبدون أحداً سواه.

ثم ذكر تعالى ما حرمه عليهم مما فيه مضرة لهم فقال {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ} أي لم يحرم ربكم عليكم أيها الناس إِلا ما فيه أذى لكم كالميتة والدم ولحم الخنزير {وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} أي وما ذبح على اسم غير الله تعالى فإِنَّ فيه أذى للنفس والعقيدة {فَمَنْ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} أي فمن اضطر لأكل ما حرَّم الله من المذكورات من غير بغيٍ ولا عدوان فإِن الله واسع المغفرة عظيم الرحمة لا يؤاخذ من كان مضطراً.

ثم وبّخ تعالى المشركين الذين حلّلوا وحرّموا من تلقاء أنفسهم فقال {وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمْ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ} أي لا تقولوا أيها المشركون في شأن ما تصفه ألسنتكم من الكذب هذا حلالٌ وهذا حرام من غير دليلٍ ولا برهان {لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ} أي لتكذبوا على الله بنسبة ذلك إِليه {إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ} أي إِن الذين يختلقون الكذبَ على الله لا يفوزون ولا يظفرون بمطلوبهم لا في الدنيا ولا في الآخرة {مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} أي انتفاعهم واستمتاعهم في الدنيا قليل لأنه زائل، ولهم في الآخرة عذاب مؤلم.

ثم ذكر تعالى ما حرَّم على اليهود فقال {وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ} أي وعلى اليهود خاصة حرمنا عليهم ما قصصنا عليك يا محمد مما سبق ذكره في سورة الأنعام عقوبةً لهم وهي شحوم البقر والغنم وكل ذي ظفر {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} أي وما ظلمناهم بذلك التحريم ولكنْ ظلموا أنفسهم فاستحقوا ذلك كقوله {فبظلمٍ من الذين هادوا حرمنا عليهم طيباتٍ أُحلَّت لهم} {ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهَالَةٍ} أي ثم إِن ربك يا محمد للذين ارتكبوا تلك القبائح بجهلٍ وسفه {ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا} أي ثم رجعوا إِلى ربهم وأنابوا وأصلحوا العمل بعد ذلك الزلل {إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} أي إِنه تعالى واسع المغفرة عظيم الرحمة، والآية تأنيسٌ لجميع الناس وفتحٌ لباب التوبة.



أمر النبي صلى الله عليه وسلم باتباع ملة إبراهيم عليه السلام



{إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُنْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ(120)شَاكِرًا لأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ(121)وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنْ الصَّالِحِينَ(122)ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنْ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ(123)إِنَّمَا جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ(124)ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ(125)وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ(126)وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلا بِاللَّهِ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ(127)إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ(128)}.



{إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً} أي إِنَّ إِبراهيم كان إِماماً قدوةً جامعاً لخصال الخير ولذلك اختاره الله {قَانِتًا لِلَّهِ} أي مطيعاً لربه قائماً بأمره {حَنِيفًا} أي مائلاً عن كل دين باطل إِلى الدين الحق، دين الإِسلام {وَلَمْ يَكُنْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} تأكيد لما سبق وردٌّ على اليهود والنصارى في زعمهم أن إِبراهيم كان يهودياً أو نصرانياً {شَاكِرًا لأَنْعُمِهِ} أي قائماً بشكر نعم الله {اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} أي اختاره واصطفاه للنبوة وهداه إِلى الإِسلام وإِلى عبادة الواحد الأحد.

{وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً} أي جعلنا له الذكر الجميل في الدنيا {وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنْ الصَّالِحِينَ} أي وهو في الآخرة من أصحاب الدرجات الرفيعة، وفي أعلى مقامات الصالحين.

{ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنْ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا} لما وصف تعالى إِبراهيم بتلك الأوصاف الشريفة أمر نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم أن يتَّبع ملته والمعنى ثم أمرناك يا محمد باتباع دين إِبراهيم وملته الحنيفية السمحة {وَمَا كَانَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ} أي وما كان يهودياً أو نصرانياً، وإِنما كان حنيفاً مسلماً، وهو تأكيد آخر لردّ مزاعم اليهود والنصارى أنهم على دينه {إِنَّمَا جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ} أي لم يكن تعظيم يوم السبت وتركُ العمل فيه من شريعة إِبراهيم ولا من شعائر دينه، وإِنما جعل تغليظاً على اليهود لاختلافهم في الدين وعصيانهم أمر الله، حيث نهاهم عن الاصطياد فيه فاصطادوا فمسخهم قردةً وخنازير {وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} أي وسيفصل الله تعالى بينهم يوم القيامة، فيجازي كلاً بما يستحق من الثواب والعقاب {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ} أي أدع يا محمد الناس إلى دين الله وشريعته القدسية بالأسلوب الحكيم، واللطيف واللين، بما يؤثر فيهم وينجع، لا بالزجر والتأنيب والقسوة والشدة {وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} أي جادل المخالفين بالطريقة التي هي أحسن من طرق المناظرة والمجادلة بالحجج والبراهين، والرفق واللين {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} أي إن ربك يا محمد هو العالم بحال الضالين وحال المهتدين، قال المفسرون: العطف بـ ثمَّ {ثم أوحينا إليك} فيه تعظيم منزلة الرسول صلى الله عليه وسلم وإجلال محله فكأنه بعد أن عدَّد مناقب الخليل عليه السلام قال: وههنا ما هو أعلى من ذلك كله قدراً، وارفع رتبة، وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم الأمي الذي هو سيد البشر متبعٌ لملة إبراهيم، مستمسك بشريعته وكفى بذلك فخراً.

فعليك أن تسلك الطريق الحكيم في دعوتهم ومناظرتهم، وليس عليك هدايتهم، إنما عليك البلاغ وعلينا الحساب {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} أي وإن عاقبتم أيها المؤمنون من ظلمكم واعتدى عليكم فعاملوه بالمثل ولا تزيدوا. قال المفسرون: نزلت في شأن "حمزة بن عبد المطلب" لما بقر المشركون بطنه يوم أُحد، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لئن أظفرني الله بهم لأمثلنَّ بسبعين منهم {وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ} أي ولئن عفوتم وتركتم القصاص فهو خير لكم وأفضل، وهذا ندبٌ إلى الصبر، وترك عقوبة من أساء، فإن العقوبة مباحة وتركها أفضل {وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلا بِاللَّهِ} أي واصبر يا محمد على ما ينالك من الأذى في سبيل الله، فما تنال هذه المرتبة الرفيعة إلا بمعونة الله وتوفيقه {وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ} أي لا تحزن على الكفار إن لم يؤمنوا {وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ} أي ولا يضقْ صدرك بما يقولون من السَّفه والجهل، ولا بما يدبرون من المكر والكيد {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} أي مع المتقين بمعونته ونصره، ومع المحسنين بالحفظ والرعاية، ومن كان الله معه فلن يضرَّه كيد الكائدين.

yacine414
2011-03-26, 17:35
سورة الإسراء



معجزة الإِسراء وتنزيل التوراة على موسى عليه السلام

فساد بني إسرائيل وعلوهم

من أهداف القرآن: الهداية للأحسن

آيات الله الكونية في هذا الوجود

التفريق بين من يريد الدنيا ومن يريد الآخرة

التوحيد وبر الوالدين وعدم التبذير من علامات الإيمان

محرمات يجب التنبه لها والابتعاد عنها

توبيخ للعرب على نسبة الولد والشريك لله تعالى

حماية الرسول صلى الله عليه وسلم من أذى المشركين عند قراءة القرآن وهروبهم عند ذكر الله

إنكار المشركين البعث وتبيين قدرة الله في الإحياء

الآمر بمجادلة الآخرين بالحسنى

تفنيد آخر لشبهات المشركين

سجود الملائكة لآدم وقصته مع إبليس

التذكير ببعض نعم الله على الإنسان

تكريم بني آدم

كيفية دعاء الناس يوم الحشر

أوامر وتوجيهات للرسول صلى الله عليه وسلم

عجز الثقلين عن الإتيان بمثل القرآن

محاولة المشركين تعجيز الرسول صلى الله عليه وسلم

التأكيد على بشرية الرسول وأن الرسل تبعث لهداية الخلائق

إيتاء سيدنا موسى عليه السلام تسع آيات وتنزيل القرآن

دعاء الله بالأسماء الحسنى





بَين يَدَيْ السُّورَة



* سورة الإِسراء من السور المكية التي تهتم بشؤون العقيدة، شأنها كشأن سائر السور المكية من العناية بأصول الدين "الوحدانية، والرسالة، والبعث" ولكنَّ العنصر البارز في هذه السورة الكريمة هو "شخصية الرسول" صلى الله عليه وسلم، وما أيده الله به من المعجزات الباهرة، والحجج القاطعة، الدالة على صدقه عليه الصلاة والسلام.



* تعرضت السورة الكريمة لمعجزة الإِسراء، التي كانت مظهراً من مظاهر التكريم الإِلهي، لخاتم الأنبياء والمرسلين، وآية باهرة تدل على قدرة الله جل وعلا في صنع العجائب والغرائب.



* وتحدثت عن بني إسرائيل، وما كتب الله عليهم من التشرد في الأرض مرتين، بسبب طغيانهم وفسادهم وعصيانهم لأوامر الله {وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إسْرائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ.. } الآيات.



* وتحدثت عن بعض الآيات الكونية، التي تدل على العظمة والوحدانية، وعن النظام الدقيق الذي يحكم الليل والنهار، ويسير وفق ناموس ثابت لا يتبدل { وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ... } الآيات.



* وتعرضت السورة إلى بعض الآداب الاجتماعية، والأخلاق الفاضلة الكريمة، فحثت عليها، ودعت إلى التحلي بها ليكون هناك المجتمع المثالي الفاضل بدءاً من قوله تعالى {وَقَضَى رَبُّكَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ.. } الآيات.



* وتحدثت عن ضلالات المشركين حيث نسبوا إلى الله تعالى الصاحبة والولد، والعجيب في أمرهم أنهم يكرهون البنات، ثم ينسبونها إلى العلي الكبير، المنزه عن الشبيه والنظير {أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلائِكَةِ إِنَاثًا إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلاً عَظِيمًا..} الآيات.



* وتحدثت عن البعث والنشور، والمعاد والجزاء، الذي كثر حوله الجدل، وأقامت الأدلة والبراهين على إمكانه، ثم تحدثت عن القرآن العظيم، معجزة محمد صلى الله عليه وسلم الخالدة، وذكرت تعنت المشركين في اقتراحاتهم، حيث طلبوا معجزة أخرى غير القرآن، أن يفجّر لهم الأنهار، ويجعل مكة حدائق وبساتين {وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لنا مِنَ الأَرْضِ يَنْبُوعًا..} الآيات.



* ثم ختمت السورة بتنزيه الله عن الشريك والولد، وعن صفات النقص {وَقُلْ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا} .



التسِـميـَــــة: سميت السورة الكريمة "سورة الإِسراء" لتلك المعجزة الباهرة معجزة الإِسراء التي خص الله تعالى بها نبيه الكريم.



اللغــــَـــة: {سُبْحَانَ} اسمٌ للتسبيح ومعناه تنزيه الله تعالى عن كل سوء ونقصٍ وهو خاصٌ به سبحانه {أَسْرَى} الإِسراء: السيرُ ليلاً يقال: أسرى وسرى لغتان قال الشاعر:

سريتَ من حَرَمٍ ليلاً إلى حَرَمٍ كما سَرَى البدرُ في دَاجٍ من الظُّلَم



{فَجَاسُوا} قال الزجاج: طافوا، والجَوْسُ: الطواف بالليل والتردُّد والطلب مع الاستقصاء وقال الواحدي: الجوسُ هو التردُّد والطلب {الْكَرَّةَ} الدَّولة والغَلَبة {تَتْبِيرًا} هلاكاً ودماراً {فَمَحَوْنَا} طمسنا قال علماء اللغة: المحوُ إذهاب الأثر يقال محوتُه فانمحى أي ذهب أثره {طَائِرَهُ} عمله المقدَّر عليه سمي الخير والشر بالطائر لأن العرب كانوا يتفاءلون ويتشاءمون بالطير إذا طار جهة اليمين أو الشمال {مُتْرَفِيهَا} المُتْرفُ: المتنعِّمُ الذي أبطرته النعمةُ وسَعَة العيش { يَصْلاهَا} يدخلها ويذوق حرَّها {مَدْحُورًا} مطروداً مبعداً من رحمة الله.



معجزة الإسراء وتنزيل التوراة على موسى عليه السلام



{سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ(1)وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ أَلا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلاً(2)ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا(3)}.



{سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً} أي تنزَّه وتقدَّس عما لا يليق بجلاله، اللهُ العليُّ الشأن، الذي انتقل بعبده ونبيه محمد صلى الله عليه وسلم في جزءٍ من الليل.

{مِنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى} أي من مكة المكرمة إلى بيت المقدس، وسمي بالأقصى لبعد المسافة بينه وبين المسجد الحرام.

قال المفسرون: وإنما قال {لَيْلاً} بلفظ التنكير لتقليل مدة الإِسراء، وأنه قطع به المسافات الشاسعة البعيدة في جزءٍ من الليل وكانت مسيرة أربعين ليلة، وذلك أبلغ في القدرة والإِعجاز ولهذا كان بدء السورة بلفظ {سُبْحَانَ} الدال على كمال القدرة، وبالغ الحكمة، ونهاية تنزهه تعالى عن صفات المخلوقين، وكان الإِسراء بالروح والجسد، يقظة لا مناماً.

{الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ} أي الذي باركنا ما حوله بأنواع البركات الحسية والمعنوية، بالثمار والأنهار التي خصَّ الله بها بلاد الشام، وبكونه مقر الأنبياء ومهبط الملائكة الأطهار.

{لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا} أي لنريَ محمداً صلى الله عليه وسلم آياتنا العجيبة العظيمة، ونطلعه على ملكوت السماوات والأرض، فقد رأى صلوات الله عليه السماواتِ العُلى والجنةَ والنار، وسدرة المنتهى، والملائكة والأنبياء وغير ذلك من العجائب والآيات التي تدل على قدرة الله تعالى.

{إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} أي إنه تعالى هو السميع لأقوال محمد، البصير بأفعالة، فلهذا خصَّه بهذه الكرامات والمعجزات احتفاءً وتكريماً.

{وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ} أي أعطينا موسى التوراة هدايةً لبني إسرائيل يخرجهم بواسطة ذلك الكتاب من ظلمات الجهل والكفر إلى نور العلم والإيمان.

{أَلا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلاً} أي لا تتخذوا لكم رباً تكلون إليه أموركم سوى الله الذي خلقكم قال المفسرون: لما ذُكر المسجدُ الأقصى وهو قلب الأرض المقدسة التي أسكنها الله بني إسرائيل جاء الحديث عنهم في مكانه المناسب من سياق السورة.

{ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ} أي يا ذرية ويا أبناء المؤمنين الذين كانوا مع نوح في السفينة، لقد نجينا آباءكم من الغرق فاشكروا الله على إنعامه.

{إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا} أي إن نوحاً كان كثير الشكر يحمد الله على كل حال فاقتدوا به، وفي النداء لهم تلطفٌ وتذكير بنعمة الله.



فساد بني إسرائيل وعلوهم



{وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إسْرائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا(4)فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولاً(5)ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمْ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا(6)إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآخِرَةِ لِيَسُئوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا(7)عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا(8)}



{وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إسْرائِيلَ فِي الْكِتَابِ} أي أخبرناهم وأعلمناهم وأوحينا إليهم في التوراة.

{لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ} أي ليحصلنَّ منكم الإِفساد في أرض فلسطين وما حولها مرتين قال ابن عباس: أول الفساد قتل زكريا والثاني قتل يحيى عليهما السلام.

{وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا} أي تطغون في الأرض المقدسة طغياناً كبيراً بالظلم والعدوان وانتهاك محارم الله.

{فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولاهُمَا} أي أُولى المرتين من الإِفساد {بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا} أي سلَّطنا عليكم من عبيدنا أناساً جبارين للانتقام منكم {أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ} أي أصحاب قوةٍ وبطش في الحرب شديد قال المفسرون: إن بني إسرائيل لما استحلوا المحارم وسفكوا الدماء سلَّط الله عليهم بُخْتنَصَّر ملك بابل فقتل منهم سبعين ألفاً حتى كاد يفنيهم هو وجنوده، وذلك أول الفسادين.

{ فَجَاسُوا خِلالَ الدِّيَارِ} أي طافوا وسط البيوت يروحون ويغدون للتفتيش عنكم واستئصالكم بالقتل والسلب والنهب لا يخافون من أحد.

{وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولاً} أي كان ذلك التسليط والانتقام قضاءً جزماً حتماً لا يقبل النقض والتبديل {ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمْ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ} أي ثمَّ لما تبتم وأنبتم أهلكنا أعداءكم ورددنا لكم الدَّوْلةَ والغلبة عليهم بعد ذلك البلاء الشديد.

{وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ} أي أعطيناكم الأموال الكثيرة والذرية الوفيرة، بعد أن نُهبت أموالكم وسُبيت أولادكم {وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا} أي جعلناكم أكثر عدداً ورجالاً من عدوكم لتستعيدوا قوتكم وتبنوا دولتكم {إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لأَنفُسِكُمْ} أي إن أحسنتم يا بني إسرائيل فإحسانكم لأنفسكم ونفعه عائد عليكم لا ينتفع الله منها بشيء {وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا} أي وإن أسأتم فعليها لا يتضرر الله بشيء منها، فهو الغني عن العباد، لا تنفعه الطاعة ولا تضره المعصية {فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآخِرَةِ} أي فإذا جاء وعد المرة الأخيرة من إفسادكم بقتل يحيى وانتهاك محارم الله بعثنا عليكم أعداءكم مرة ثانية {لِيَسئوا وُجُوهَكُمْ} أي بعثناهم ليهينوكم ويجعلوا آثار المساءة والكآبة باديةً على وجوهكم بالإذلال والقهر {وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ} أي وليدخلوا بيت المقدس فيخربوه كما خربوه أول مرة {وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا} أي وليدمروا ويهلكوا ما غلبوا عليه تدميراً، فقد سلّط الله عليهم مجوس الفرس فشردوهم في الأرض وقتلوهم ودمَّروا مملكتهم تدميراً {عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ} أي لعل الله يرحمكم ويعفو عنكم إن تبتم وأنبتم، وهذا وعدٌ منه تعالى بكشف العذاب عنهم إن رجعوا إلى الله و {عَسَى} من الله واجبة {وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا} أي وإن عدتم إلى الإِفساد والإِجرام عدنا إلى العقوبة والانتقام {وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا} أي وجعلنا جهنم محبساً وسجناً للكافرين، لا يقدرون على الخروج منها أبَدَ الآبدين.



من أهداف القرآن: الهداية للأحسن



{إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا(9)وَأَنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا(10)وَيَدْعُ الإِنسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الإِنسَانُ عَجُولاً(11)}



ثم بيَّن تعالى مزية التنزيل الكريم الذي فاق بها سائر الكتب السماوية فقال{إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} أي إنَّ هذا القرآن العظيم يهدي لأقوم الطرق وأوضح السُّبُل، ولما هو أعدل وأصوب {وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا} أي ويبشر المؤمنين الذين يعملون بمقتضاه بالأجر العظيم في جنات النعيم {وَأَنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} أي ويبشرهم بأن لأعدائهم الذين لا يصدقون بالآخرة العقاب الأليم في دار الجحيم، وقد جمعت الآية بين الترغيب والترهيب {وَيَدْعُ الإِنسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءهُ بِالْخَيْرِ} أي يدعو بالشر على نفسه كدعائه لها بالخير، ولو استجيب له في الشر كما يستجاب له في الخير لهلك، قال ابن عباس: هو دعاء الرجل على نفسه وولده عند الضجر بما لا يحبُّ أن يستجاب له: اللهمَّ أهلكه اللهمَّ دمّره ونحوه {وَكَانَ الإِنسَانُ عَجُولاً} أي ومن طبيعة الإِنسان العجلة، يتعجل بالدعاء على نفسه ويسارع لكل ما يخطر بباله، دون النظر في عاقبته.



آيات الله الكونية في هذا الوجود



{وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلا(12)وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا(13)اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا(14)مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً(15)وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا(16)وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا(17)}



ثم أشار تعالى إلى آيات الله الكونية في هذا الوجود، التي كلٌ منها برهانٌ نيرِّ على وحدانية الله فقال: {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ} أي علامتين عظيمتين على وحدانيتنا وكمال قدرتنا {فَمَحَوْنا ءايَةَ الليلِ} أي طمسنا الليل فجعلناه مظلماً لتسكنوا فيه {وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً} أي جعلنا النهار مضيئاً مشرقاً بالنور ليحصل به الإِبصار {لِتَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ} أي لتطلبوا في النهار أسباب معيشتكم {وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ} أي ولتعلموا عدد الأيام والشهور والأعوام، بتعاقب الليل والنهار، فالليل للراحة والسكون، والنهار للكسب والسعي {وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلاً} أي وكلَّ أمرٍ من أمور الدنيا والدين، بينَّاه أحسن تبيين، وليس شيء من أمر هذا الوجود متروكاً للمصادفة والجُزاف، وإنما هو بتقديرٍ وتدبيرٍ حكيم {وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ} أي إن الإِنسان مرهون بعمله مجزي به، وعملُه ملازم له لزوم القلادة للعنُقُ لا ينفك عنه أبداً {وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا} أي نظهر له في الآخرة كتاب أعماله مفتوحاً، فيه حسناته وسيئاته فيرى عمله مكشوفاً لا يملك إخفاءه أو تجاهله {اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا} أي إقرأ كتاب عملك كفى أن تكون اليوم شهيداً بما عملت، لا تحتاج إلى شاهد أو حسيب {مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا} أي من اهتدى فثواب اهتدائه له، ومن ضلَّ فعقاب كفره وضلاله عليها {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} أي لا يحمل أحد ذنب أحد، ولا يجني جانٍ إلا على نفسه {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} أي وما كنا معذبين أحداً من الخلق حتى نبعث لهم الرسل مذكرين ومنذرين فتقوم عليهم الحجة {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا} أي وإذا أردنا هلاك قوم من الأقوام أمرنا المتنعِّمين فيها والقادة والرؤساء بالطاعة على لسان رسلنا فعصوا أمرنا وخرجوا عن طاعتنا وفسقوا وفجروا {فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا} أي فوجب عليهم العذاب بالفسق والطغيان فأهلكناهم إهلاكاً مُريعاً قال ابن عباس: {أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا} أي سلَّطنا أشرارها فعصوا فيها، فإذا فعلوا ذلك أهلكم الله بالعذاب {وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ} أي وكثير من الأمم الطاغية المكذبين للرسل أهلكناهم من بعد نوح، كقوم عاد وثمود وفرعون. قال ابن كثير: والآية إنذار لكفار قريش والمعنى إنكم أيها المكذبون لستم أكرم على الله منهم وقد كذبتم أشرف الرسل وأكرم الخلائق فعقوبتكم أولى وأحرى {وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا} أي كفى يا محمد أن يكون ربك رقيباً على أعمال العباد، يدرك بواطنها وظواهرها ويجازي عليها.



التفريق بين من يريد الدنيا ومن يريد الآخرة



{مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا(18) وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا(19)كُلاًّ نُمِدُّ هَؤُلاء وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا(20)انظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً(21)} .



{مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ} أي من كان يريد بعمله الدنيا فقط ولها يعمل ويسعى ليس له همٌّ إلا الدنيا، عجلنا له فيها ما نشاء تعجيله من نعيمها، لا كلَّ ما يريد {ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا} أي ثم جعلنا له في الآخرة جهنم يدخلها مهاناً حقيراً مطروداً من رحمه الله {وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ} أي ومن أراد الدار الآخرة وما فيها من النعيم المقيم، وعمل لها عملها الذي يليق بها من الطاعات وهو مؤمن صادق الإيمان {فَأُوْلَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا} أي فأولئك الجامعون للخصال الحميدة من الإِخلاص، والعمل الصالح، والإِيمان، كان عملهم مقبولاً عند الله أحسن القبول، مثاباً عليه {كُلاًّ نُمِدُّ هَؤُلاء وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ} أي كل واحدٍ من الفريقين الذين أرادوا الدنيا، والذين أرادوا الآخرة نعطيه من عطائنا الواسع تفضلاً منا وإحساناً، فنعطي المؤمن والكافر والمطيع والعاصي {وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا} أيْ ما كان عطاؤه تعالى محبوساً ممنوعاً عن أحد {انظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ} أي أنظر يا محمد كيف فاوتنا بينهم في الأرزاق والأخلاق في هذه الحياة الدنيا فهذا غني وذاك فقير، وهذا شريف وذاك حقير {وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً} أي ولتفاوتُهم في الدار الآخرة أعظم من التفاوت في هذا الدار، لأن الآخرة دار القرار وفيها ما لا عينٌ رأت، ولا أُذُنٌ سمعت، ولا خطر على قلب بشر.



المنَاسَبَة: لما جعل تعالى الإيمان والعملَ الصالح أساساً للفوز بالسعادة الأبدية، وبيَّن حال المؤمن الذي أراد بعمله الدار الآخرة، ذكر هنا طائفةً من الأوامر والزواجر التي يقوم عليها بنيان المجتمع الصالح، ثم ذكر تعالى موقف المشركين المكذبين من هذا القرآن العظيم.





التوحيد وبر الوالدين وعدم التبذير من علامات الإيمان



{ لا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولاً(22)وَقَضَى رَبُّكَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا(23)وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا(24)رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلأَوَّابِينَ غَفُورًا(25)وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا(26)إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا(27) وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمْ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُلْ لَهُمْ قَوْلاً مَيْسُورًا(28)وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا(29)إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا(30)}





{لا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ} أي لا تجعل مع الله شريكاً ولا تتخذ غيره إلهاً تعبده {فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولاً} أي فتصير ملوماً عند الله مخذولاً منه لا ناصر لك ولا معين. {وَقَضَى رَبُّكَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ} أي حكم تعالى وأمر بأن لا تعبدوا إلهاً غيره. وقال مجاهد: {وَقَضَى} يعني وصَّى بعبادته وتوحيده {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} أي وأمر بأن تحسنوا إلى الوالدين إحساناً قال المفسرون: قرن الله تعالى بعبادته برَّ الوالدين لبيان حقهما العظيم على الولد لأنهما السبب الظاهر لوجوده وعيشه، ولما كان إحسانهما إلى الولد قد بلغ الغاية العظيمة وجب أن يكون إحسان الولد إليهما كذلك {إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا} أي قد أوصيناك بهما وبخاصة إذا كبرا أو كبر أحدهما، وإنما خصَّ حالة الكِبَر لأنهما حينئذٍ أحوج إلى البر والقيام بحقوقهما لضعفهما ومعنى {عِنْدَكَ} أي في كنفك وكفالتك {فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} أي لا تقل للوالدين أقل كلمة تظهر الضجر ككلمة أفٍّ ولا تسمعهما قولاً سيئاً حتى ولو بكلمة التأفف {وَلا تَنْهَرْهُمَا } أي لا تزجرهما بإغلاظٍ فيما لا يعجبك منهما {وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا} أي قل لهما قولاً حسناً ليناً طيباً بأدبٍ ووقار وتعظيم {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ} أي ألنْ جانبك وتواضعْ لهما بتذلّل وخضوع من فرط رحمتك وعطفك عليهما {وَقُلْ رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا} أي ادع لهما بالرحمة وقل في دعائك يا رب ارحم والديَّ برحمتك الواسعة كما أحسنا إليَّ في تربيتهما حالة الصغر {رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ} أي ربكم أيها الناس أعلم بما في ضمائركم من إرادة البر أو العقوق {إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلأَوَّابِينَ غَفُورًا} أي إن تكونوا قاصدين للبِرّ والصلاح دون العقوق والفساد فإنه جلَّ وعلا يتجاوز عن سيئاتكم ويغفر للأوابين وهم الذين كلما أخطأوا عادوا إلى ربهم مستغفرين قال الرازي: والمقصود من هذه الآية أن الأولى لما دلَّت على وجوب تعظيم الوالدين ثم إن الولد قد يظهر منه ما يخلُّ بتعظيمهما فإن كانت تلك الهفوة ليست لأجل العقوق بل ظهرت بمقتضى الجبلَّة البشرية كانت في محل الغفران، وبمناسبة الإحسان إلى الوالدين يأمر تعالى بالإحسان إلى الأقارب والضعفاء والمساكين {وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ} أي أعط كلَّ من له قرابة بك حقَّه من البر والإحسان {وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ} أي وأعط المسكين المحتاج والغريبَ المنقطع في سفره حقَّه أيضاً {وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا} أي لا تنفق مالكَ في غير طاعة الله فتكون مبذّراً، والتبذير الإنفاق في غير حق قال مجاهد: لو أنفق إنسان ماله كلَّه في الحق لم يكن مبذّراً، ولو أنفق مُدّاً في غير حق كان مبذّراً وقال قتادة: التبذير النفقة في معصية الله تعالى وفي غير الحق والفساد {إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ} هذا تعليل للنهي وهو غاية في الذم والتقبيح أي إن المبذرين كانوا أمثال الشياطين وأشباههم في الإفساد، لأنهم ينفقون في الباطل وينفقون في الشر والمعصية فَهُمْ أمثالهم {وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا} أي مبالغاً في كفران نعمة الله لا يؤدي حقَّ النعمة كذلك إخوانه المبذرون لا يؤدون حق النعمة، والمطلوب أن ينفقوا في الطاعات والحقوق غير متجاوزين ولا مبذرين {وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمْ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُلْ لَهُمْ قَوْلاً مَيْسُورًا} أي إن أعرضتَ عن ذوي القربى والمساكين وابن السبيل إذا لم تجد ما تعطيهم فقل لهم قولاً سهلاً ليناً وعدْهم وعداً جميلاً ) وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ ( تمثيلٌ للبخل أي لا تكنْ بخيلاً منوعاً لا تعطي أحداً شيئاً فمثلك عندئذ كمثل من حبست يده عن الإنفاق وشدَّت إلى عنقه {وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ} تمثيل للتبذير أي ولا تتوسع في الإنفاق توسعاً مفرطاً بحيث لا يبقى في يدك شيء، والغرض من الآية لا تكن بخيلاً ولا مسرفاً {فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا} أي فتصير مذموماً من الخَلْق والخالق، منقطعاً من المال كمن انقطع في سفره بانقطاع مطيته {إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ} أي يوسّع الرزق على من يشاء ويضيِّق على من يشاء، وهو القابض، الباسط المتصرف في خلقه، بما يشاء حسب الحكمة {إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا} أي إنه عالم بمصالح العباد، والتفاوتُ في الأرزاق ليس لأجل البخل بل لأجل رعاية المصالح فهو تعالى يعلم من مصالحهم ما يخفى عليهم.



محرمات يجب التنبه لها والابتعاد عنها



{وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا(31)وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً(32) وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنصُورًا(33)وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولاً(34)وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً(35)وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولاً(36) وَلا تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولاً(37)كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا(38)ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَدْحُورًا(39)}





{وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ} أي لا تُقدموا على قتل أولادكم مخافة الفقر ) نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ} أي رزقُهم علينا لا عليكم فنحن نرزقهم ونرزقكم فلا تخافوا الفقر بسببهم {إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا} أي قتلُهم ذنبٌ عظيم وجرمٌ خطير قال المفسرون: كان أهل الجاهلية يئدون البنات مخافة الفقر أو العار فنهاهم الله عن ذلك وضمن أرزاقهم {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى} أي لا تدنوا من الزنى وهو أبلغ من "لا تزنوا" لأنه يفيد النهي عن مقدمات الزنى كاللَّمس، والقُبلة، والنظرة، والغمز وغير ذلك مما يجرُّ إلى الزنى فالنهي عن القرب أبلغ من النهي عن الفعل {إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً} إي إن الزنى كان فعلة قبيحة متناهية في القبح {وَسَاءَ سَبِيلاً} أي ساء طريقاً موصلاً إلى جهنم {وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ} أي لا تقتلوا نفساً حرَّم الله قتلها بغير حقٍ شرعي موجب للقتل كالمرتد، والقاتل عمداً، والزاني المحصن {وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا} أي ومن قُتل ظلماً بغير حقٍ يوجب قتله فقد جعلنا لوارثه سلطةً على القاتل بالقصاص منه، أو أخذ الدية، أو العفو {فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنصُورًا} أي فلا يتجاوز الحدَّ المشروع بأن يقتل غير القاتل أو يُمثّل به أو يقتل اثنين بواحد كما كان أهل الجاهلية يفعلون، فحسبُه أن الله قد نصره على خصمه فليكن عادلاً في قصاصه {وَلا تَقْرَبُوامَالَ الْيَتِيمِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} أي لا تتصرفوا في مال اليتيم إلا بالطريقة التي هي أحسن وهي حفظه واستثماره {حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ} أي حتى يبلغ اليتيم سن الرشد ويحسن التصرف في ماله {وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولاً} أي وفّوا بالعهود سواءً كانت مع الله أو مع الناس لأنكم تُسألون عنها يوم القيامة {وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ} أي أتموا الكيل إذا كلتم لغيركم من غير تطفيفٍ ولا بَخْس {وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ} أي زنوا بالميزان العدل السويّ بلا احتيالٍ ولا خديعة {ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} أي وفاء الكيل وإقامة الوزن خيرٌ في الدنيا وأحسن مآلاً في الآخرة {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} أي لا تتَّبعْ ما لا تعلم ولا يَعْنيك بل تثبَّتْ من كل خبر، قال قتادة: لا تقل رأيتُ ولم تر، وسمعتُ ولم تسمع، وعلمتُ ولم تعلم، فإن الله تعالى سائلك عن ذلك كله {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولاً} أي إن الإنسان يُسأل يوم القيامة عن حواسه: عن سمعه، وبصره، وقلبه وعما اكتسبته جوارحه {وَلا تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا} أي لا تمش في الأرض مختالاً مشية المعجب المتكبر {إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولاً} هذا تعليل للنهي عن التكبر والمعنى أنك أيها الإِنسان ضئيل هزيل لا يليق بك التكبر ؟ كيف تتكبر على الأرض ولن تجعل فيها خرقاً أو شقاً ؟ وكيف تتطاول وتتعظَّمْ على الجبال ولن تبلغها طولاً ؟ فأنت أحقر وأضعف من كل واحدٍ من الجماديْن فكيف تتكبر وتتعالى وتختال وأنت أضعف من الأرض والجبال؟ وفي هذا تهكم وتقريع للمتكبرين {كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا} أي كل ذلك المذكور الذي نهى الله عنه كان عمله قبيحاً ومحرماً عند الله تعالى {ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ} أي ذلك الذي تقدم من الآداب والقصص والأحكام بعضُ الذي أوحاه إليك ربك يا محمد من المواعظ البليغة، والحِكَم الفريدة {وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَدْحُورًا} أي لا تشرك مع الله غيره من وثنٍ أو بشر فتلقى في جهنم ملوماً تلوم نفسك ويلومك اللهُ والخلق مطروداً مبعداً من كل خير قال الصاوي: ختم به الأحكام كما ابتدأها إشارةً إلى أن التوحيد مبدأ الأمور ومنتهاها، وهو رأس الأشياء وأساسُها، والأعمالُ بدونه باطلةٌ لا تفيد شيئاً.



توبيخ للعرب على نسبة الولد والشريك لله تعالى



{أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلائِكَةِ إِنَاثًا إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلاً عَظِيمًا(40)وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا وَمَا يَزِيدُهُمْ إِلا نُفُورًا(41) قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلاً(42)سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا(43)تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا(44)}





{أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلائِكَةِ إِنَاثًا} خطابٌ على وجه التوبيخ للعرب الذين قالوا إن الملائكة بنات الله والمعنى أفَخَصَّكُمْ ربكم وأخلصكم بالذكور واختار لنفسه - على زعمكم - البنات؟ كيف يجعل لكم الأعلى من النسل ويختار لنفسه الأدنى! {إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلاً عَظِيمًا} أي إنكم لتقولون قولاً عظيماً في شناعته وبشاعته حيث تنسبون إليه البنات وتجعلون لله ما تكرهون {وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا} أي ولقد بينّا للناس في هذا القرآن العظيم الأمثال والمواعظ، والوعد والوعيد، ليذكروا بما فيه من الحجج النيِّرة والبراهين الساطعة، فينْزجروا عما هم فيه من الشرك والضلال {وَمَا يَزِيدُهُمْ إِلا نُفُورًا} أي وما يزيدهم هذا البيان والتذكير إلا تباعداً عن الحق، وغفلةً عن النظر والاعتبار {قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلاً} أي لو فرضنا أن مع الله آلهة أخرى كما يزعم هؤلاء المشركون إذاً لطلبوا طريقاً إلى مغالبة ذي العزة والجلال ليسلبوا ملكه كما يفعل ملوك الدنيا بعضهم ببعض {سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا} أي تنزَّه تعالى وتقدَّس عما يقول أولئك الظالمون، وتعالى ربنا عما نسبوه إليه من الزور والبهتان تعالياً كبيراً، فإن مثل هذه الفِرية مما يتنزّه عنه مقامه الأسمى قال الشهاب: وذكر العلُوِّ بعد عنوانه بـ {ذِي الْعَرْشِ} في أعلى مراتب البلاغة لأنّه المناسب للعظمة والجلال {تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ} أي تسبح له الكائنات، وتنزهه وتقدسه الأرض والسموات، ومن فيهن من المخلوقات {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ} أي وما من شيء في هذا الوجود إلا ناطق بعظمة الله، شاهد بوحدانيته جلَّ وعلا، السماواتُ تسبّح الله في زرقتها، والحقولُ في خضرتها، والبساتينُ في نضرتها، والأشجار في حفيفها، والمياهُ في خريرها، والطيورُ في تغريدها، والشمسُ في شروقها وغروبها، والسحبُ في إمطارها، والكل شاهد بالوحدانية للّه.

وفي كل شيءٍ له آيةٌ تدلُّ على أنه واحدُ

{وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} أي ولكنْ لا تفهمون تسبيح هذه الأشياء لأنها ليست بلغاتكم {إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا} أي إنه تعالى حليم بالعباد لا يعاجل من عصاه بالعقوبة، غفورٌ لمن تاب وأناب، ولولا حلم الله وغفرانه لأخذ البشر أخذ عزيزٍ مقتدر.



حماية الرسول صلى الله عليه وسلم من أذى المشركين عند قراءة القرآن وهروبهم عند ذكر الله



{وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا(45)وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا(46)نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوَى إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلا رَجُلاً مَسْحُورًا(47)انظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً(48)}



{وَ إِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا} أي وإِذا قرأت يا محمد القرآن على هؤلاء المشركين الذين لا يصدّقون بالآخرة جعلنا بينك وبينهم حجاباً خفياً يحجب عنهم فهم القرآن وإِدراك أسراره وحِكمه {وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ} أي وجعلنا على قلوب هؤلاء الكفار أغطيةً لئلا يفهموا القرآن {وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا} أي صمماً يمنعهم من استماعه {وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا} أي وإِذا وحَّدت الله وأنت تتلو القرآن فرَّ المشركون من ذلك هرباً من استماع التوحيد {نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ} أي نحن أعلم بالغاية التي يستمعون من أجلها للقرآن وهي الاستهزاء والسخرية قال المفسرون: كان المشركون يجلسون عند النبي صلى الله عليه وسلم مظهرين الاستماع وفي الواقع قاصدين الاستهزاء فنزلت الآية تسلية للرسول صلى الله عليه وسلم وتهديداً للمشركين {إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوَى} أي حين يستمعون إلى قراءتك يا محمد ثم يتناجون ويتحدثون بينهم سراً {إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلا رَجُلاً مَسْحُورًا} أي حين يقول أولئك الفجرة ما تتبعون إلا رجلاً سُحِر فجُنَّ فاختلط كلامه {انظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الأَمْثَالَ فَضَلُّوا} أي انظر يا محمد وتعجَّبْ كيف يقولون تارة عنك إنك ساحر، وتارة إنك شاعر، وتارة إنك مجنون ! وقد ضلوا بهذا البهتان والزور {فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً} أي لا يجدون طريقاً إلى الهدى والحق المبين.



المنَـــاسَــبَة:

لما ذكر الله تعالى موقف المشركين من القرآن العظيم، وذكر تعاميهم عن فهم آياته البينات، أردفه بذكر شبهاتهم في إنكار البعث والنشور وكرَّ عليها بالإِبطال والتنفيذ، ثم ذكر قصة آدم وإبليس للعظة والاعتبار، وأعقبها بذكر نعمه العظيمة على العباد ثم بالوعيد والتهديد إن أصرَّوا على الكفر والجحود.

سَبَبُ النّزول:

أ- عن ابن عباس أن أهل مكة سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجعل لهم الصفا ذهباً، وأن يُنحِّيَ عنهم الجبال فيزرعوا فقيل له: إن شئتَ أن تستأني بهم لعلنا نجتبي منهم، وإن شئتَ نعطيهم الذي سألوا فإن كفروا وأُهلكوا، فقال: لا بل أستأني بهم فنزلت {وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالآيَاتِ إِلا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الأَوَّلُونَ}.

ب- لما ذكر تعالى شجرة الزقوم في القرآن قال أبو جهل: يا معشر قريش إن محمداً يخوّفكم بشجرة الزقوم، ألستم تعلمون أن النار تُحرق الشجر؟ ومحمد يزعم أن النار تُنْبت الشجر، فهل تدرون ما الزقوم. هو التمر والزُّبد، يا جارية ابغينا تمراً وزُبداً، فجاءته به فقال: تزقّموا من هذا الذي يخوّفكم به محمد فأنزل الله تعالى {وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلا طُغْيَانًا كَبِيرًا} .

**ابتسام**
2011-03-26, 17:36
http://dc02.arabsh.com/i/00315/n89that3sn0f.gifhttp://dc02.arabsh.com/i/00315/n89that3sn0f.gifhttp://dc02.arabsh.com/i/00315/n89that3sn0f.gif
شكرا لك
بارك الله فيك
تحياتي
http://dc02.arabsh.com/i/00315/n89that3sn0f.gifhttp://dc02.arabsh.com/i/00315/n89that3sn0f.gifhttp://dc02.arabsh.com/i/00315/n89that3sn0f.gif

yacine414
2011-03-26, 17:37
إنكار المشركين البعث وتبيين قدرة الله في الإحياء



{ وَقَالُوا أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا(49)قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا(50)أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا قُلْ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُءُوسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا(51)يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلا قَلِيلاً(52)}



{وَقَالُوا أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا} استفهام وإنكار أي قال المشركون المكذبون بالبعث أئذا أصبحنا عظاماً نخرة، وذراتٍ مفتتة كالتراب {أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا} أي هل سنُبعث ونُخْلق خلقاً جديداً بعد أن نبلى ونفنى ؟ {قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا} أي قل لهم يا محمد لو كنتم حجارةً أو حديداً لقدر الله على بعثكم وإحيائكم فضلاً عن أن تكونوا عظاماً ورفاتاً فإن الله لا يعجزه شيء، فالحجارة والحديد أبعد عن الحياة وهي أصلب الأشياء ولو كانت أجسامكم منها لأعادها الله فكيف لا يقدر على إعادتكم إذا كنتم عظاماً ورفاتاً؟ {أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ} أي أو كونوا خلقاً آخر أوغل في البعد عن الحياة من الحجارة والحديد مما يصعب في نفوسكم تصوُّرُ الحياة فيه فسيبعثكم الله قال مجاهد: المعنى كونوا ما شئتم فستعادون {فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا} ؟ أي من الذي يردنا إلى الحياة بعد فنائنا {قُلْ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} أي قل لهم يعيدكم القادر العظيم الذي خلقكم وأنشأكم من العدم أول مرة {فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُءُوسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ} ؟ أي يحركون رؤوسهم متعجبين مستهزئين ويقولون استنكاراً واستبعاداً متى يكون البعث والإِعادة؟ {قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا( أي لعله يكون قريباً فإن كلَّ ما هو آتٍ قريب {يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلا قَلِيلاً} أي سيكون بعثكم يوم الحشر الأكبر يوم يدعوكم الرب جل وعلا للاجتماع في المحشر فتجيبون لأمره، وتظنون لهوْل ما ترون أنكم ما أقمتم في الدنيا إلا زمناً قليلاً.



الأمر بمجادلة الآخرين بالحسنى



{وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلإِنسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا(53)رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً(54) وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا(55)}



{وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} أي قل لعبادي المؤمنين يقولوا في مخاطباتهم ومحاوراتهم الكلمة الطيبة ويختاروا من الكلام ألطفه وأحسنه وينطقوا دائماً بالحسنى {إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ} أي إن الشيطان يُفسد ويُهيج بين الناس الشرَّ ويُشعل نار الفتنة بالكلمة الخشنة يفُلت بها اللسان {إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلإِنسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا} أي ظاهر العداوة للإِنسان من قديم الزمان يتلمس سقَطَات لسانه ليُحْدث العداوة والبغضاء بين المرء وأخيه {ربكُمْ أَعْلمُ بكم إنْ يَشَأْ يرحَمْكُم أو إنْ يَشَأْ يعذبْكم} أي ربكم أيها الناس أعلم بدخائل نفوسكم إن يشأ يرحمكم بالتوفيق للإِيمان، وإن يشأ يعذبكم بالإِماتة على الكفر والعصيان {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً} أي وما جعلناك يا محمد حفيظاً على أعمال الكفار كفيلاً عنهم لتقسرهم على الإِيمان إنما أرسلناك نذيراً فمن أطاعك دخل الجنة، ومن عصاك دخل النار {وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} إنتقالٌ من الخصوص إلى العموم أي ربك جلَّ وعلا أعلمُ بعباده بأحوالهم ومقاديرهم فيخص بالنبوة من شاء من خلقه، وهو أعلم بالسعداء والأشقياء، والآية ردٌّ على المشركين حيث استبعدوا النبوة على رسول الله وقالوا: كيف يكون يتيم أبي طالب نبياً؟ وكيف يكون هؤلاء الفقراء الضعفاء أصحابه دون الأكابر والرؤساء؟ {وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ} أي فضلنا بعض الأنبياء على بعض حسب علمنا وحكمتنا وخصصناهم بمزايا فريدة، فاصطفينا إبراهيم بالخُلَّة، وموسى بالتكليم، وسليمان بالمُلْك العظيم، ومحمداً بالإِسراء والمعراج وجعلناه سيّد الأولين والآخرين، وكلُّ ذلك فعل الحكيم العليم الذي لا يصدر شيءٌ إلا عن حكمته {وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا} أي وأنزلنا الزبور على داود المشتمل على الحكمةِ وفصلِ الخطاب.



تفنيد آخر لشبهات المشركين



{قُلْ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنكُمْ وَلا تَحْوِيلاً(56)أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمْ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا(57)وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلا نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَابًا شَدِيدًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا(58)وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالآيَاتِ إِلا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الأَوَّلُونَ وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إِلا تَخْوِيفًا(59)وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلا طُغْيَانًا كَبِيرًا(60)}



{قُلْ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ} أي قل يا محمد لهؤلاء المشركين أدعوا الذين زعمتم أنهم آلهة من دونه تعالى، قال الحسن: يعني الملائكة وعيسى وعزيراً فقد كانوا يقولون إنهم يشفعون لنا عند الله {فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنكُمْ وَلا تَحْوِيلاً} أي فلا يستطيعون رفع البلاء عنكم ولا تحويله إلى غيركم {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمْ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ} أي أولئك الآلهة الذين يدعونهم من دون الله هم أنفسهم يبتغون القرب إلى الله، ويتوسلون إليه بالطاعة والعبادة، فكيف تعبدونهم معه؟ {وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ} أي يرجون بعبادتهم رحمته تعالى ويخافون عقابه ويتسابقون إلى رضاه {إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا} أي عذابه تعالى شديد ينبغي أن يُحذر منه ويخاف من وقوعه وحصوله {وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلا نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَابًا شَدِيدًا} أي ما من قريةٍ من القرى الكافرة التي عصتْ أمر الله وكذَّبتْ رسله إلا وسيهلكها الله إما بالاستئصال الكلي أو بالعذاب الشديد لأهلها {كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا} أي كان ذلك حكماً مسطراً في اللوح المحفوظ لا يتغيَّر {وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالآيَاتِ إِلا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الأَوَّلُونَ} قال المفسرون: اقترح المشركون على رسول الله صلى الله عليه وسلم معجزاتٍ عظيمة منها أن يقلب لهم الصفا ذهباً، وأن يزيح عنهم الجبال، فأخبره تعالى أنه أجابهم إلى ما طلبوا ثم لمَّا لم يؤمنوا استحقوا عذاب الاستئصال، وقد اقتضت حكمته تعالى إمهالهم لأنه علم أنَّ منهم من يؤمن أو من أولادهم فلهذا السبب ما أجابهم إلى ما طلبوا، أو المعنى ما منعنا من إرسال المعجزات والخوارق التي اقترحها قومك إلاّ تكذيبُ مَنْ سبقهم من الأمم حيث اقترحوا ثم كذبوا فأهلكهم الله ودمَّرهم {وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا} أي وأعطينا قوم صالح الناقة آيةً بينة ومعجزةً ساطعة واضحة فكفروا بها وجحدوا بعد أن سألوها فأهلكهم الله {وَمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إِلا تَخْوِيفًا} أي وما نرسل بالآيات الكونية كالزلازل والرعد والخسوف والكسوف إلا تخويفاً للعباد من المعاصي، قال قتادة: إن الله تعالى يخوّف الناس بما شاء من الآيات لعلهم يعتبرون ويرجعون {وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ} أي واذكر يا محمد حين أخبرناك أن الله أحاط بالناس علماً في الماضي والحاضر والمستقبل فهو تعالى لا يخفى عليه شيءٌ من أحوالهم وقد علم أنهم لن يؤمنوا ولو جئتهم بما طلبوا من الآيات والمعجزات {وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلا فِتْنَةً لِلنَّاسِ} أي وما جعلنا الرؤيا التي أريناكها عياناً ليلة المعراج من عجائب الأرض والسماء إلا امتحاناً وابتلاءً لأهل مكة حيث كذبوا وكفروا وارتد بعض الناس لما أخبرهم بها، قال البخاري عن ابن عباس: هي رؤيا عينٍ أُريها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ليلةَ أُسريَ به وليست برؤيا منام {وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ} أي وما جعلنا الشجرة الملعونة في القرآن وهي شجرة الزقوم إلا فتنةً أيضاً للناس، قال ابن كثير: لما أخبرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه رأى الجنة والنار ورأى شجرة الزقوم كذبوا بذلك حتى قال أبو جهل متهكماً: هاتوا لنا تمراً وزُبْداً وجعل يأكل من هذا بهذا، ويقول: تزقّموا فلا نعلم الزقوم غير هذا {وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلا طُغْيَانًا كَبِيرًا} أي ونخوّف هؤلاء المشركين بأنواع العذاب والآيات الزاجرة فما يزيدهم تخويفنا إلا تمادياً وغياً واستمراراً على الكفر والضلال، فماذا تنفع معهم الخوارق؟ ما زادتهم خارقة الإِسراء والمعراج، ولا خارقة التخويف بشجرة الزقوم إلا استهزاءً وإمعاناً في الضلال.



سجود الملائكة لآدم وقصته مع إبليس



{وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلا إِبْلِيسَ قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا(61) قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِي إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلا قَلِيلاً(62)قَالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُورًا(63)وَاسْتَفْزِزْ مَنْ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الأَمْوَالِ وَالأَولادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمْ الشَّيْطَانُ إِلا غُرُورًا(64)إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلاً(65)}

ثم أشار تعالى إلى أن هذا الطغيان سببه إغواء الشيطان ولهذا ذكر قصته عقب ذلك فقال: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلا إِبْلِيسَ} أي أذكر يا محمد حين أمرنا الملائكة بالسجود لآدم سجود تحية وتكريم فسجدوا كلهم إلا إبليس استكبر وأبى افتخاراً على آدم واحتقاراً له {قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا} استفهامُ إنكاري أي أأسجد أنا العظيم الكبير لهذا الضعيف الحقير الذي خلقته من الطين؟ كيف يصح للعالي أن يسجد للداني؟ { قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ} أي قال إبليس اللعين جراءةً على الربّ وكفراً به: أتُرى هذا المخلوق الذي فضَّلته عليَّ وجعلتَه أكرَم مني عندك؟ {لَئِنْ أَخَّرْتَنِي إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلا قَلِيلاً} أي لئن أنظرتني وأبقيتني حياً إلى يوم القيامة لأستأصلنَّ ذريته بالإِغواء والإِضلال، قال الطبري: أقسم عدوُّ الله فقال لربه: لئن أخرتَ إهلاكي إلى يوم القيامة لأستأصلنَّهم ولأستميلنَّهم وأضلنَّهم إلا قليلاً منهم {قَالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُورًا} أي قال الرب جلَّ وعلا: إذهب فقد أنظرتُك وابذل جهدك فيهم فمن أطاعك من ذرية آدم فإن جزاءك وجزاءهم نارُ جهنم جزاء كاملاً وافراً لا ينقص لكم منه شيء، قال القرطبي: والأمر في {اذْهَبْ} أمرُ إهانة والمعنى اجهد جهدك فقد أنظرناك {وَاسْتَفْزِزْ مَنْ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ} أي استخفف واستجهل وحرِّكْ من أردتَ أن تستفزَّه فتخدعه بدعائك إلى الفساد، قال ابن عباس: صوتُه كلُّ داعٍ يدعو إلى معصية الله تعالى، وقال مجاهد: صوته الغناء والمزامير واللهو {وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ} أي صِحْ عليهم بأعوانك وجنودك من كل راكبٍ وراجل، قال الطبري: المعنى اجمع عليهم من ركبان جندك ومشاتهم من يصيح عليهم بالدعاء إلى طاعتك، والصرفِ عن طاعتي، قال ابن عباس: خيلُه ورَجِله كلُّ راكبٍ وماشٍ في معصية الله تعالى، وقال الزمخشري: الكلام واردٌ مورد التمثيل، مُثِّلَتْ حالُه في تسلطه على من يُغويه بفارسٍ مغوار أوقع على قومٍ فصوَّت بهم صوتاً يستفزهم عن أماكنهم، ويُقلقهم عن مراكزهم، وأجلبَ عليهم بجنده من خيَّالةٍ ورجَّالة حتى استأصلهم {وَشَارِكْهُمْ فِي الأَمْوَالِ وَالأَولادِ} أي اجعل لنفسك شركة في أموالهم وأولادهم، أما الأموال فبكسبها من الحرام وإنفاقها في المعاصي، وأما الأولاد فبتحسين اختلاط الرجال بالنساء حتى يكثر الفجور ويكثر أولاد الزنى {وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمْ الشَّيْطَانُ إِلا غُرُورًا} أي عدْهم بالوعود المغرية الخادعة والأماني الكاذبة، كالوعد بشفاعة الأصنام، والوعد بالغِنى من المال الحرام، والوعد بالعفو والمغفرة وسَعَة رحمة الله، والوعد باللذة والسرور في ارتكاب الموبقات كقول الشاعر:

خذوا بنصيبٍ من سرورٍ ولذةٍ فكلٌ وإن طال المدى يتصرَّم

{إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} أي إنَّ عبادي المخلصين ليس لك عليهم تسلطٌ بالإِغواء لأنهم في حفظي وأماني {وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلاً} أي كفى بالله تعالى عاصماً وحافظاً لهم من كيدك وشرك.



التذكير ببعض نعم الله على الإنسان





{رَبُّكُمْ الَّذِي يُزْجِي لَكُمْ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا(66)وَإِذَا مَسَّكُمْ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الإِنْسَانُ كَفُورًا(67)أَفَأَمِنتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلا(68)أَمْ أَمِنتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرَى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفًا مِنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ بِمَا كَفَرْتُمْ ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعًا(69)}



ثم ذكَّر تعالى العباد بإحسانه ونعمه عليهم وبآثار قدرته ووحدانيته فقال {رَبُّكُمْ الَّذِي يُزْجِي لَكُمْ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ} أي ربكم أيها الناس هو الذي يُسيّر لكم السفن في البحر لتطلبوا من رزقه في أسفاركم وتجاراتكم {إِنَّهُ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} أي هو تعالى رحيم بالعباد ولهذا سهَّل لهم أسباب ذلك {وَإِذَا مَسَّكُمْ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلا إِيَّاهُ( أي وإذا أصابتكم الشدة والكرب في البحر وخشيتم من الغَرَق ذهب عن خاطركم من كنتم تعبدونه من الآلهة ولم تجدوا غير الله مغيثاً يغيثكم، فالإِنسان في تلك الحالة لا يتضرع إلى الصنم والوثن، والمَلك والفَلَك وإنما يتضرع إلى الله تعالى {فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ} أي فلما نجاكم من الغرق وأخرجكم إلى البَرِّ أعرضتم عن الإِيمان والإِخلاص {وَكَانَ الإِنْسَانُ كَفُوراً} أي ومن طبيعة الإِنسان جحود نعم الرحمن، ثم خوَّفهم تعالى بقدرته العظيمة فقال: {أَفَأَمِنتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ} أي أفأمنتم أيها الناس حين نجوتم من الغرق في البحر أن يخسف الله بكم الأرض فيخفيكم في باطنها؟ إنكم في قبضة الله في كل لحظة فكيف تأمنون بطش الله وانتقامه بزلزالٍ أو رجفةٍ أو بركان؟ {أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا} أي يمطركم بحجارة من السماء تقتلكم كما فعل بقوم لوط {ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلاً} أي لا تجدوا من يقوم بأموركم ويحفظكم من عذابه تعالى: {أَمْ أَمِنتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرَى} أي يعيدكم في البحر مرةً أخرى {فَيرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفًا مِنَ الرِّيحِ} أي يرسل عليكم وأنتم في البحر ريحاً شديدة مدمِّرة، لا تَمرُّ بشيءٍ إلا كسرته ودمَّرته {فَيُغْرِقَكُمْ بِمَا كَفَرْتُمْ} أي يغرقكم بسبب كفركم {ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعًا} أي لا تجدوا من يأخذ لكم بالثأر منا أو يطالبنا بتبعة إغراقكم.



المنَــاسَبَة:

لما ذكر تعالى ما امتنَّ به على الناس من تسيير السفن في البحر، ومن تنجيتهم من الغرق، تمّم ذكر المنَّة بما أنعم به على النوع الإنِساني من تكرمتهم، ورزقهم، وتفضيلهم على سائر المخلوقات، ثم ذكر أحوال الناس ودرجاتهم في الآخرة، ثم حذَّر الرسول صلى الله عليه وسلم من اتباع أهواء المشركين.



تكريم بني آدم



{ وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً(70) }.



{ وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ } أي لقد شرفنا ذرية آدم على جميع المخلوقات بالعقل، والعلم، والنطق، وتسخير جميع ما في الكون لهم {وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} أي وحملناهم على ظهور الدواب والسفن {وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ} أي من لذيذ المطاعم والمشارب، قال مقاتل: السمن والعسل والزبد والتمر والحلوى وجعلنا رزق الحيوان التبن والعظام وغيرها {وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً} أي وفضلناهم على جميع من خلقنا من سائر الحيوانات وأصناف المخلوقات من الجن والبهائم والدواب والوحش والطير وغير ذلك.



كيفية دعاء الناس يوم الحشر



{ يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُوْلَئِكَ يَقْرَءُونَ كِتَابَهُمْ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً(71)وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلاً(72)}.



{يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ } أي اذكر يوم الحشر حين ننادي كل إنسان بكتاب عمله ليسلَّم له وينال جزاءه، والإِمام الكتاب الذي سجل فيه عمل الإِنسان ويقوّيه {وكلِّ شيءٍ أحصيناه في إمامٍ مبين} قال ابن عباس: الإِمام ما عُمل وأُملي فكتب عليه، فمن بُعث متقياً لله جُعل كتابُه بيمينه فقرأه واستبشر {فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ} أي فمن أُعطي كتاب عمله بيمينه وهم السعداء أولو البصائر والنُّهى المتقون لله {فَأُوْلَئِكَ يَقْرَءُونَ كِتَابَهُمْ} أي يقرؤون حسناتهم بفرح واستبشار لأنهم أخذوا كتبهم بأيمانهم {وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً} أي ولا يُنقصون من أجور أعمالهم شيئاً ولو كان بمقدار الفتيل وهو الخيط الذي في شق النواة {وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى} أي ومن كان في هذه الدنيا أعمى القلب لا يهتدي إلى الحق ولا إلى الخير {فَهُوَ فِي الآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلاً} أي فهو في الآخرة أشدُّ عمىً وأشدُّ ضلالاً عن طريق السعادة والنجاة قال قتادة: من كان في هذه الدنيا أعمى عمَّا عايَنَ من نعم الله وخلقه وعجائبه، فهو فيما يغيب عنه من أمر الآخرة أشد عمى وأضلُّ طريقاً.



محاولة المشركين فتنة الرسول صلى الله عليه وسلم وإخراجه من مكة



{ وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِي عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لاتَّخَذُوكَ خَلِيلاً(73)وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلاً(74)إِذًا لأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا(75)وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا وَإِذًا لا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلا قَلِيلاً(76)سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا وَلا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلاً(77)} .



{وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} أي وإن كان الحال والشأن أن المشركين قاربوا أن يصرفوك عن الذي أوحيناه إليك يا محمد من بعض الأوامر والنواهي {لِتَفْتَرِي عَلَيْنَا غَيْرَهُ} أي لتأتي بغير ما أوحاه الله إليك وتخالف تعاليمه {وَإِذًا لاتَّخَذُوكَ خَلِيلاً} أي لو فعلت ما أرادوا لاتخذوك صاحباً وصديقاً، قال المفسرون: حاول المشركون محاولات كثيرة ليثنوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المضي في دعوته منها: مساومتهم له أن يعبدوا إلهه مقابل أن يترك التنديد بآلهتهم وما كان عليه آباؤهم، ومنها مساومة بعضهم أن يجعل أرضهم حراماً كالبيت العتيق الذي حرَّمه الله، ومنها طلب بعض الكبراء أن يجعل لهم مجلساً غير مجلس الفقراء، فعصمه الله من شرهم وأخبر أنه لا يكله إلى أحد من خلقه بل هو وليه وحافظه وناصره {وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ} أي لولا أن ثبتناك على الحق بعصمتنا إياك {لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلاً} أي كدت تميل إليهم وتسايرهم على ما طلبوا {إِذًا لأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ} أي لو ركَنْتَ إليهم لضاعفنا لك عذاب الدنيا وعذاب الآخرة، لأن الذنب من العظيم جرمٌ كبيرٌ يستحق مضاعفة العذاب، والغرضُ من الآية بيانُ فضل الله على الرسول في تثبيته على الحق، وعصمته من الفتنة، ولو تخلَّى عن عصمتِه لمالَ إليهم بعض الشيء و {لَوْلا} حرف امتناع لوجود أي امتنع الركون إليهم لعصمته تعالى وتثبيته له، فليس في الآية ما يُنقص من قدر الرسول صلى الله عليه وسلم وإنما هي بيان لفضل الله العظيم على نبيه الكريم {ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا} أي لا تجد من ينصرك منا أو يدفع عنك عذابنا {وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا} أي وإن كاد المشركون بمكرهم وإزعاجهم أن يخرجوك يا محمد من أرض مكة {وَإِذًا لا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلا قَلِيلاً} أي لو أخرجوك لم يلبثوا بعد خروجك إلا زمناً يسيراً وفق سنة الله التي لا تتبدل مع الذين يخرجون رسلهم من أوطانهم، قال قتادة: همَّ أهلُ مكة بإخراج النبي صلى الله عليه وسلم من مكة ولو فعلوا ذلك ما أمهلوا ولكنَّ الله تعالى منعهم من إخراجه حتى أمره بالخروج {سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا} أي هذه عادة الله مع رسله في إهلاك كل أمةٍ أَخرجتْ رسولهَا من بين أظهرهم {وَلا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلاً} أي لن تجد لها تبديلاً أو تغييراً.



أوامر وتوجيهات للرسول صلى الله عليه وسلم



{أَقِمْ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا(78)وَمِنْ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا(79)وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا(80)وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا(81)وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلا خَسَارًا(82)وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الإِنسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ يَئُوسًا(83)قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلاً(84)وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلْ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلا قَلِيلاً(85)}



{أَقِمْ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ} أي حافظ يا محمد على الصلاة في أوقاتها من وقت زوال الشمس عند الظهيرة إلى وقت ظلمة الليل {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ} أي وأقم صلاة الفجر، وإنما عبَّر عنها بقرآن الفجر لأنه تطلب إطالة القراءة فيها {إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} أي تشهده ملائكة الليل والنهار كما في الحديث {يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار فيجتمعون في صلاة العصر، وصلاة الفجر ...} الحديث، قال المفسرون: في الآية الكريمة إشارة إلى الصلوات المفروضة، فدلوكُ الشمس زوالهُا وهو إشارة إلى الظهر والعصر، وغَسَقُ الليل ظلمتُه وهو إشارة إلى المغرب والعشاء، وقرآن الفجر صلاة الفجر، فالآية رمزٌ إلى الصلوات الخمس {وَمِنْ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ} أي وقم من الليل بعد النوم متهجداً بالقرآن فضيلةً وتطوعاً لك {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} أي لعلَّ ربك يا محمد يقيمك يوم القيامة مقاماً محموداً يحمدك فيه الأولون والآخرون وهو مقام "الشفاعة العظمى"، قال المفسرون: {عَسَى} في كلام الله للتحقيق لأنه وعد كريم وهو لا يتخلف، ولهذا قال ابن عباس: عسى من الله واجبة أي تفيد القطع {وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ} أي قل يا رب أدخلني قبري مُدْخل صدق أي إدخالاً حسناً {وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ} أي أخرجني من قبري عند البعث إخراجاً حسناً هذا قول ابن عباس، وقال الحسن والضحاك: المراد دخوله المدينة المنورة، وخروجه من مكة المكرمة وذلك حين أخرجه المشركون بعد أن تآمروا على قتله صلوات الله وسلامه عليه {وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيراً} أي اجعل لي من عندك قوةً ومَنَعة تنصرني بها على أعدائك وتُعزُّ بها دينك، وقد استجاب الله دعاءه فنصره على الأعداء، وأعلا دينه على سائر الأديان {وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ} أي سطع نور الحق وضياؤه وهو الإِسلام، وزهق الباطل وأنصاره وهو الكفر وعبادةُ الأصنام، فلا شرك ولا وثنية بعد إشراق نور الإِيمان {إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا} أي إن الباطل لا بقاء له ولا ثبوت لأنه يضمحل ويتلاشى، وإن كانت له صولةٌ وجولة فسرعان ما تزول كشعلة الهشيم ترتفع عالياً ثم تخبو سريعاً، روي أن النبي صلى الله عليه وسلم لما دخل مكة عام الفتح كان حول الكعبة ثلاثمائة وستون صنماً فجعل يطعنها بعودٍ في يده ويقول: {جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا} فما بقي منها صنمٌ إلا خرَّ لوجهه ثم أمر بها فكسرت {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} أي وننزّل من آيات القرآن العظيم ما يشفي القلوب من أمراض الجهل والضلالة، ويُذهب صدأ النفس من الهوى والدَّنس، والشُّح والحسد، وما هو رحمة للمؤمنين بما فيه من الإِيمان والحكمة والخير المبين {وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلا خَسَارًا} أي ولا يزيد هذا القرآن الكافرين به عند سماعه إلا هلاكاً ودماراً لأنهم لا يصدقون به فيزدادون كفراً وضلالاً {وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الإِنسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ} أي وإذا أنعمنا على الإِنسان بأنواع النعم من صحةٍ، وأمنٍ، وغنىً أعرض عن طاعة الله وعبادته، وابتعد عن ربه غروراً وكِبْراً {وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ يَئُوسًا} أي وإذا أصابته الشدائد والمصائب أصبح يائساً قانطاً من رحمة الله، والآية تمثيلٌ لطغيان الإِنسان فإن أصابته النعمة بطر وتكبَّر، وإن أصابته الشدة أيس وقنط كقوله {إن الإِنسان خُلق هَلُوعاً، إذا مسَّه الشرُ جزوعاً، وإذا مسَّه الخير منوعاً} {قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ} أي كل واحدٍ يعمل على نهجه وطريقته في الهدى والضلال، فإن كانت نفس الإنسان مشرقةً صافية صدرت عنه أفعال كريمة فاضلة، وإن كانت نفسه فاجرةً كافرة صدرت عنه أفعال سيئةٌ شريرة {فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلا} أي ربكم أعلم بمن اهتدى إلى طريق الصواب وبمن ضلَّ عنه وسيجزي كل عاملٍ بعمله {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلْ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} أي يسألك يا محمد الكفار عن الروح ما هي؟ وما حقيقتها؟ فقل لهم إنها من الأسرار الخفية التي لا يعلمها إلا ربُّ البرية {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلا قَلِيلا} أي وما أوتيتم أيها الناس من العلم إلا شيئاً قليلاً لأن علمكم قليل بالنظر إلى علم الله.



عجز الثقلين عن الإتيان بمثل القرآن





{ وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلاً(86)إِلا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّ فَضْلَهُ كَانَ عَلَيْكَ كَبِيرًا(87)قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا(88)وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنَ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلا كُفُورًا(89)}



{وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} أي لو أردنا لمحونا هذا القرآن الذي هو مِنَّةُ الرحمن من صدرك يا محمد فإن ذلك في قدرتنا {ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلاً} أي لا تجد من يتوكل علينا باسترداده، وردّه إليك بعد ذهابه {إِلا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ} أي لكنْ رحمةً من ربك تركناه محفوظاً في صدرك وصدر أصحابك {إِنَّ فَضْلَهُ كَانَ عَلَيْكَ كَبِيرًا} أي فضل الله عليك عظيم حيث أنزل عليك القرآن، وأعطاك المقام المحمود، وجعلك خاتم المرسلين وسيد الأولين والآخرين، والمقصود بالآية الامتنان على الرسول بالقرآن والتحذير له عن التفريط فيه، والخطاب له عليه السلام والمراد أمته {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} أي لو اتفق واجتمع أرباب الفصاحة والبيان من الإِنس والجان وأرادوا أن يأتوا بمثل هذا القرآن لما أطاقوا ذلك ولو تعاونوا وتساعدوا على ذلك جميعاً فإن هذا أمر لا يستطاع وليس بمقدور أحد {وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ} أي بيَّنا لهم الحجج والبراهين القاطعة، ووضحنا لهم الحقَّ بالآياتِ والعِبَر، والترغيب والترهيب {فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلا كُفُورًا} أي ومع البراهين القائمة والحجج الواضحة أبى أكثر الناس إلا جحوداً للحق وتكذيباً لله ورسوله.

المنَـــاسَبَة:

لما ذكر تعالى القرآن وما فيه من الدلائل الواضحة والبراهين القاطعة على صدق النبي الأمي، وتحداهم فظهر عجزهم بوضوح إعجازه، ذكر هنا نماذج عن تعنت الكفار وضلالهم باقتراح خوارق مادية غير القرآن العظيم، ثم ذكر قصة موسى وتكذيب فرعون له مع كثرة الخوارق والمعجزات التي ظهرت على يديه تسليةً لرسول الله صلى الله عليه وسلم عن تكذيب المشركين، ثم ختم السورة الكريمة بدلائل القدرة والوحدانية.



سَبَبُ النّزول :

أ- عن ابن عباس أن رؤساء قريش اجتمعوا عند الكعبة فقالوا : ابعثوا إلى محمد فكلِّموه وخاصموه حتى تُعذروا فيه، فبعثوا إليه إنَّ أشراف قومك قد اجتمعوا ليكلموك فجاءهم سريعاً - وكان حريصاً على رُشدهم - فقالوا يا محمد : إنّا والله لا نعلم رجلاً من العرب أدخلَ على قومه ما أدخلتَ على قومك، لقد شتمت الآباء، وعبتَ الدين، وسفَّهتَ الأحلام، وفرَّقت الجماعة، فإن كنتَ إنما جئت بهذا لتطلب مالاً جعلنا لك من أموالنا ما تكون به أكثرنا مالاً، وإن كنت إنما تطلب الشَّرَف فينا سوَّدناك علينا، وإن كان هذا الذي يأتيك رَئِيّاً - أي تابعاً من الجنّ - بذلنا أموالنا في طلب الطِبِّ حتى نبرئك منه أو نُعذّر فيك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما بي ما تقولون، ما جئتكم أطلب أموالكم ولا الشرف فيكم ولا الملك عليكم، ولكن الله بعثني رسولاً، فإن تقبلوا مني ما جئتكم به فهو حظكم في الدنيا والآخرة، وإن تردّوه عليَّ أصبر لأمر الله حتى يحكم الله بيني وبينكم، فقالوا يا محمد إن كنت غير قابلٍ منا ما عرضنا فقد علمت أنه ليس أحد من الناس أضيقَ بلاداً، ولا أشدَّ عيشاً منا، فسل ربك يُسيّر لنا هذه الجبال، ويجري لنا أنهاراً، ويبعث من مضى من آبائنا حتى نسألهم أحقٌّ ما تقول؟ وسلْه أن يجعل لك جناناً وكنوزاً وقصوراً من ذهب وفضة تغنيك عنا فأنزل الله {وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنْبُوعًا..} الآية.



محاولة المشركين تعجيز الرسول صلى الله عليه وسلم



{وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنْبُوعًا(90)أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الأَنهَارَ خِلالَهَا تَفْجِيرًا(91) أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلاً(92)أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُه قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إِلا بَشَرًا رَسُولاً(93)}.



{وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنْبُوعًا} لما تبيّن إعجاز القرآن ولزمتهم الحجة وغلبوا أخذوا يتعلَّلون باقتراح الآيات والخوارق، والمعنى قال المشركون: لن نصدِّقك يا محمد حتى تشقّق لنا من أرض مكة عيناً غزيرة لا ينقطع منها الماء {أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ} أي يكون لك بستانٌ فيه أنواع النخيل والأعناب {فَتُفَجِّرَ الأَنهَارَ خِلالَهَا تَفْجِيرًا} أي تجعل الأنهار تتفجّر فيها وتسير وسطها بقوة وغزارة {أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا} هذا هو الاقتراح الثالث أي تجعل السماء تتساقط علينا قِطَعاً قِطَعاً كما كنتَ تخوّفنا وتزعم أن الله سيعذبنا إن لم نؤمن بك قال المفسرون: أشاروا إلى قوله تعالى: {إنْ نَشَأْ نخسفْ بهم الأرضَ أَوْ نُسْقِطَ عليهم كِسَفًا من السَّمَاء} {أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلاً} أي تُحضر لنا اللهَ وملائكته مقابلةً وعياناً فنراهم {أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ} أي يكون لك قصرٌ مشيَّد عظيم من ذهبٍ لا من حجر أو طين {أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُه} هذا هو الاقتراح السادس والأخير، وكلُّها تدل على سفهٍ وجهلٍ كبير، بسنة الله في خلقه وبحكمته وجلاله أي أو تصعد يا محمد إلى السماء بِسُلَّم ولن نصدّقك لمجرد صعودك حتى تعود ومعك كتاب من الله تعالى منشور أنك عبده ورسولُه نقرؤه بأنفسنا {قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إِلا بَشَرًا رَسُولاً} أي قل لهم يا محمد تعجباً من فرط كفرهم وعنادهم: سبحانَ الله هل أنا إله حتى تطلبوا مني أمثال هذه الخوارق؟ ما أنا إلا رسولٌ من البشر بعثني الله إليكم فلم هذا الجحود والعناد؟!



التأكيد على بشرية الرسول وأن الرسل تبعث لهداية الخلائق



{ وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءهُمْ الْهُدَى إِلا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولاً(94)قُلْ لَوْ كَانَ فِي الأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولاً(95) قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا(96)وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وَجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا(97)ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا وَقَالُوا أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا(98) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلاً لا رَيْبَ فِيهِ فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلا كُفُورًا(99)قُلْ لَوْ أَنتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذًا لأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الإِنفَاقِ وَكَانَ الإِنْسَانُ قَتُورًا(100)}



{وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءهُمْ الْهُدَى إِلا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولاً} ؟ أي إن السبب الذي منع المشركين من الإِيمان بعد وضوح المعجزات هو استبعاد أن يبعث الله رسولاً إلى الخلق من البشر، فلماذا يكون بشراً ولا يكون ملكاً؟ وقد ردَّ تعالى عليهم بقوله {قُلْ لَوْ كَانَ فِي الأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ} أي قل لهم يا محمد: لو كان أهل الأرض ملائكة يمشون على أقدامهم كما يمشي الناس ساكنين في الأرض مستقرين فيها {لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولاً} أي لنزلنا عليهم رسولاً من الملائكة ولكنَّ أهل الأرض بشرٌ فالرسول إليهم بشرٌ من جنسِهم، إذْ جرت حكمة الله أن يرسل إلى كل قومٍ رسولاً من جنسهم ليمكنهم الفهم عنه ومخاطبته، وهذا تسفيهٌ وتجهيل لمنطق المشركين {قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ} أي كفى اللهُ شاهداً على صدقي {إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا} أي هو تعالى العالم بأحوال العباد وسيجازيهم عليها {وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ} أي من يهده الله إلى الحق فهو السعيد الرشيد {وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِهِ} أي ومن يضلله الله عن الحق بسبب سوء اختياره فلن تجد لهم أنصاراً يعصمونهم من عذاب الله {وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وَجُوهِهِمْ} أي يُسحبون يوم القيامة على وجوههم تجرُّهم الزبانية من أرجلهم إلى جهنم كما يُفعل في الدنيا بمن يبالغ في هوانه وتعذيبه {عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا} أي يُحشرون حال كونهم عمياً وبكماً وصماً يعني فاقدي الحواس لا يرون ولا ينطقون ولا يسمعون ثم يردُّ الله إليهم أسماعهم وأبصارهم ونطقهم فيرون النار ويسمعون زفيرها وينطقون بما حكى الله عنهم، عن أنس قيل يا رسول الله: كيف يُحشر الناسُ على وجوههم ؟ قال: الذي أمشاهم على أرجلهم قادر على أن يمشيهم على وجوههم {مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا} أي مستقرهم ومقامهم في جهنم كلما سكن لهبها وخمدت نارها زدناهم ناراً ملتهبة ووهجاً وجمراً {ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا وَقَالُوا أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا} أي ذلك العذاب جزاء كفرهم بآيات الله وتكذيبهم بالبعث والنشور وقولهم أئذا أصبحنا عظاماً نخرة، وذرات متفتتة سنُخلق ونبعث مرة ثانية؟ وقد ردَّ تعالى عليهم بقوله {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ} أي أولم ير هؤلاء المشركون أن الله العظيم الجليل الذي خلق هذا الكون الهائل بسماواته وأرضه قادرٌ على إعادة جسد الإِنسان بعد فنائه؟ فإِن القادر على الإِحياء قادر على الإِعادة بطريق الأحرى، قال أبو حيّان: نبَّههم تعالى على عظيم قدرته وباهر حكمته بقوله {أَوَلَمْ يَرَوْا} وهو استفهام إِنكارٍ وتوبيخ على استبعادهم الإِعادة، واحتجاجٌ عليهم بأنهم قد رأوا قدرة الله على خلق هذه الأجرام العظيمة التي بعضُ ما تحويه البشرُ، فكيف يقرون بخلق هذا المخلوق العظيم ثم ينكرون إعادته {وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلاً لا رَيْبَ فِيهِ} أي جعل لهؤلاء المشركين موعداً محدَّداً لموتهم وبعثِهم، لا شك ولا ريب في مجيئه {فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلا كُفُورًا} أي أبى هؤلاء الكافرون الظالمون - مع وضوح الحق وسطوعه - إلا جحوداً وتمادياً في الكفر والضلال {قُلْ لَوْ أَنتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي} أي قل يا محمد لهؤلاء المعاندين المكابرين، المقترحين للخوارق والمعجزات: لو كنتم تملكون خزائن رزق الله ونِعَمه التي أفاضها على العباد {إِذًا لأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الإِنفَاقِ وَكَانَ الإِنْسَانُ قَتُورًا} أي إذاً لبخلتم به وامتنعتم عن الإِنفاق خوفاً من نفادها {وَكَانَ الإِنْسَانُ قَتُورًا} أي وكان الإِنسان شحيحاً مبالغاً في البخل، قال ابن عباس:{قَتُورًا} أي بخيلاً منوعاً، وقال الزمخشري: ولقد بلغ هذا الوصف بالشُّحّ الغاية التي لا يبلغها الوهم، ثم ذكر تعالى أن كثرة الخوارق لا تُنشئ الإِيمان في القلوب الجاحدة، وها هو ذا موسى قد أُوتي تسع آيات بينات ثم كذَّب بها فرعون وملأه فحلَّ بهم الهلاك جميعاً.



إيتاء سيدنا موسى عليه السلام تسع آيات وتنزيل القرآن



{ وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ فَاسْألْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ جَاءهُمْ فَقَالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُورًا(101) قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزَلَ هَؤُلاء إِلا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا(102)فَأَرَادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الأَرْضِ فَأَغْرَقْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعًا(103)وَقُلْنَا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسْكُنُوا الأَرْضَ فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا(104)وَبِالْحَقِّ أَنزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا(105)وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنزِيلاً(106)قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّدًا(107)وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً(108)وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا(109)}

{وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ( أي والله لقد أعطينا موسى تسع آياتٍ واضحات الدلالة على نبوته وصحة ما جاء به من عند الله وهي "العصا، واليد، والطوفان، والجراد، والقُمَّل، والضفادع، والدم، وانفلاق البحر، والسنين" خمسٌ منها في سورة الأعراف {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلاتٍ} والباقي متفرقات {فَاسْألْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ جَاءهُمْ} أي فاسألْ يا محمد بني إسرائيل عما جرى بين موسى وفرعون فإنهم يعلمونها مما لديهم في التوراة، قال الرازي: وليس المطلوب من سؤال بني إسرائيل أن يستفيد هذا العلم منهم بل المقصود أن يظهر لعامة اليهود وعلمائهم صدق ما ذكره الرسول فيكون هذا السؤال سؤال استشهاد {فَقَالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُورًا} أي إني لأظنك يا موسى قد سُحرت فتخبَّط عقلُك {قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزَلَ هَؤُلاء إِلا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ بَصَائِرَ} أي قال له موسى توبيخاً وتبكيتاً: لقد تيقَّنت يا فرعون أن هذه الآيات التسع ما أنزلها إلا رب السماواتِ والأرض شاهدة على صدقي، تبصِّرُ الناس بقدرة الله وعظمته ولكنك مكابرٌ معاند {وَإِنِّي لأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا} أي وإني لأعتقدك يا فرعون هالكاً خاسراً {فَأَرَادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الأَرْضِ} أي أراد فرعون أن يخرج موسى وقومه من أرض مصر {فَأَغْرَقْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعًا} أي فأغرقنا فرعون وجنده أجمعين في البحر {وَقُلْنَا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسْكُنُوا الأَرْضَ} أي وقلنا لبني إسرائيل من بعد إغراق فرعون وجنده اسكنوا أرض مصر {فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا} أي فإذا جاء يوم القيامة جئنا بكم من قبوركم إلى المحشر مختلطين فيكم المؤمن والكافر، والبرُّ والفاجر، ثم نفصل بينكم ونميّز السعداء من الأشقياء، ثم عاد إلى تعظيم حال القرآن وجلالة قدره فقال {وَبِالْحَقِّ أَنزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ} أي وأنزلنا هذا القرآن متلبساً بالحقِّ، لا يعتريه شك أو ريب، فيه الحكم والمواعظ والأمثال التي اشتمل عليها القرآن وهكذا أُنزل من عند الله {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا} أي وما أرسلناك يا محمد إلا مبشراً بالجنة لمن أطاع، ومنذراً بالنار لمن عصى {وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ} أي وقرآناً نزّلناه مفرقاً منجماً لتقرأه على الناس على تُؤدةٍ ومهل، ليكون حفظه أسهل، والوقوف على دقائقه أيسر {وَنَزَّلْنَاهُ تَنزِيلاً} أي نزّلناه شيئاً بعد شيء على حسب الأحوال والمصالح {قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا} خطاب للمشركين الذين اقترحوا المعجزات على وجه التهديد والوعيد أي آمنوا بهذا القرآن أو لا تؤمنوا فإن إيمانكم به لا يزيده كمالاً، وتكذيبكم له لا يورثه نقصاً {إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّدًا} أي العلماء الذين قرأوا الكتب السالفة من صالحي أهل الكتاب إذا سمعوا القرآن تأثروا فخّروا ساجدين للهِ رب العالمين، والجملة تعليل لما تقدم والمعنى: إن لم تؤمنوا به أنتم فقد آمن به من هو خير منكم وأعلم {وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً} أي يقولون تنزَّه الله عن إخلاف وعده إنه كان وعده كائناً لا محالة {وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا} أي ويخرُّون لناحية الأذقان ساجدين على وجوههم باكين عند استماع القرآن ويزيدهم تواضعاً لله، قال الرازي: والفائدة في هذا التكرير اختلاف الحالين وهو خرورهم للسجود وفي حال كونهم باكين عند استماع القرآن.



دعاء الله بالأسماء الحسنى





{قُلْ ادْعُوا اللَّهَ أَوْ ادْعُوا الرَّحْمَانَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلا(110) وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا(111) .



{قُلْ ادْعُوا اللَّهَ أَوْ ادْعُوا الرَّحْمَانَ} أي نادوا ربكم الجليل بإسم {اللَّهَ} أو بإسم {الرَّحْمَانَ} {أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى ( أي بأي هذين الاسمين ناديتموه فهو حسن لأن أسماءه جميعها حسنى وهذان منها، قال المفسرون: سببها أن الكفار سمعوا النبي صلى الله عليه وسلم يدعو {يا الله، يا رحمن} فقالوا إن كان محمد ليأمرنا بدعاء إله واحدٍ وها هو يدعو إلهين فنزلت الآية مبينة أنهما لمسمَّى واحد {وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا} أي لا تجهر يا محمد بقراءتك في الصلاة فيسمعك المشركون فيسبوا القرآن ومن أنزله ولا تُسرَّ بقراءتك بحيث لا تسمع من خلفك {وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً} أي اقصد طريقاً وسطاً بين الجهر والمخافتة، قال ابن عباس: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرفع صوته بالقراءة فإذا سمعه المشركون سبوا القرآن ومن أنزله فنزلت {وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا} أي الحمد لله الذي تنزَّه عن الولد {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ} أي ليس له شريك في ألوهيته {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ} أي ليس بذليل فيحتاج إلى الوليّ والنصير {وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا} أي عظِّمْ ربك عظمةً تامة واذكره بصفات العز والجلال، والعظمة والكمال، ختمت السورة كما بدأت بحمد الله وتقرير وحدانيته بلا ولد ولا شريك، وتنزيهه عن الحاجة إلى الولي والنصير، وهو العلي الكبير.

yacine414
2011-03-26, 17:39
سورة الكهف



الثناء لله تعالى مُنَزِّل القرآن على الرسول صلى الله عليه وسلم:

قصة أصحاب الكهف:

توجيهات للنبي صلى الله عليه وسلم وتطمين للمؤمنين:

مثل الغني الكافر والفقير المؤمن:

مثل الحياة الدنيا:

تسيير الجبال والحشر والعرض على الله:

أمر الملائكة بالسجود لآدم عليه السلام:

إرسال الرسل لهداية الخلق، وحال المعرضين عن الإيمان وتأخير العذاب رحمة من الله تعالى:

قصة موسى والخضر في السنة النبوية:

قصة موسى عليه السلام مع الخَضِر:

قصة ذي القرنين و يأجوج ومأجوج:

محاسبة الكفار:

جزاء المؤمنين وسعة علم الله وتوحيده:





بَين يَدَي السُّورَة



* سورةُ الكهف من السور المكية، وهي إِحدى سورٍ خمس بُدئت بـ "الحمدُ لله" وهذه السور هي "الفاتحة، الأنعام، الكهف، سبأ، فاطر" وكلُّها تبتدئ بتمجيد الله جل وعلا وتقديسه، والاعتراف له بالعظمة والكبرياء، والجلال والكمال.



* تعرضت السورة الكريمة لثلاث قصص من روائع قصص القرآن، في سبيل تقرير أهدافها الأساسية لتثبيت العقيدة، والإيمان بعظمة ذي الجلال ..

أما الأولى فهي قصة "أصحاب الكهف" وهي قصة التضحية بالنفس في سبيل العقيدة، وهم الفتية المؤمنون الذي خرجوا من بلادهم فراراً بدينهم، ولجأوا إلى غارٍ في الجبل، ثم مكثوا فيه نياماً ثلاثمائة وتسع سنين، ثم بعثهم الله بعد تلك المدة الطويلة.



* والقصة الثانية: قصة موسى مع الخضر، وهي قصة التواضع في سبيل طلب العلم، وما جرى من الأخبار الغيبية التي أطلع الله عليها ذلك العبد الصالح "الخضر" ولم يعرفها موسى عليه السلام حتى أعلمه بها الخضر كقصة السفية، وحادثة قتل الغلام، وبناء الجدار.



* والقصة الثالثة: قصة "ذي القرنين" وهو ملك مكَّن الله تعالى له بالتقوى والعدل أن يبسط سلطانه على المعمورة، وأن يملك مشارق الأرض ومغاربها، وما كان من أمره في بناء السدِّ العظيم.



* وكما استخدمت السورة - في سبيل هدفها - هذه القصص الثلاث، استخدمت أمثلة واقعية ثلاثة، لبيان أن الحقَّ لا يرتبط بكثرة المال والسلطان، وإِنما هو مرتبط بالعقيدة.



المثل الأول: للغني المزهوّ بماله، والفقير المعتز بعقيدته وإِيمانه، في قصة أصحاب الجنتين.

والثاني: للحياة الدنيا وما يلحقها من فناء وزوال.

والثالث: مثل التكبر والغرور مصوراً في حادثة امتناع إبليس عن السجود لآدم، وما ناله من الطرد والحرمان، وكل هذه القصص والأمثال بقصد العظة والاعتبار.



التسِـــمَيـــة:

سميت "سورة الكهف" لما فيها من المعجزة الربانية، في تلك القصة العجيبة الغريبة قصة أصحاب الكهف.



خلاصة قصة أصحاب الكهف كما ذكرها المفسرون، أن ملكاً جباراً يسمى دقيانوس، ظهر على بلدةٍ من بلاد الروم تدعى "طرطوس"، بعد زمن عيسى عليه السلام، وكان يدعو الناس إلى عبادة الأصنام ويقتل كل مؤمن لا يستجيب لدعوته الضالة، حتى عظمت الفتنة على أهل الإِيمان، فلما رأى الفتية ذلك حزنوا حزناً شديداً وبلغ خبرهُم الملك الجبار فبعث في طلبهم فلما مثلوا عند الملك توعدهم بالقتل إن لم يعبدوا الأوثان ويذبحوا للطواغيت، فوقفوا في وجهه وأظهروا إيمانهم وقالوا {رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا} فقال لهم: إنكم فتيانٌ حديثةٌ أسنانكم وقد أخّرتكم إلى الغد لتروا رأيكم، فهربوا ليلاً ومرّوا براعٍ معه كلب فتبعهم فلما كان الصباح آووا إلى الكهف وتبعهم الملك وجنده فلما وصلوا إلى الكهف هاب الرجال وفزعوا من الدخول عليهم، فقال الملك: سدّوا عليهم باب الغار حتى يموتوا فيه جوعاً وعطشاً، وألقى الله على أهل الكهف النوم فبقوا نائمين وهم لا يدرون ثلاث مئة وتسع سنين ثم أيقظهم الله وظنوا أنهم أقاموا يوماً أو بعض يوم، وشعروا بالجوع فبعثوا أحدهم ليشتري لهم طعاماً وطلبوا منه التخفي والحذر فسار حتى وصل البلدة فوجد معالمها قد تغيرت ولم يعرف أحداً من أهلها فقال في نفسه: لعلي أخطأت الطريق إلى البلدة ثم اشترى طعاماً ولما دفع النقود للبائع جعل يقلبها في يده، ويقول: من أين حصلت على هذه النقود؟ واجتمع الناس وأخذوا ينظرون لتلك النقود ويعجبون، ثم قالوا من أنت يا فتى لعلك وجدت كنزاً؟ فقال لا والله ما وجدت كنزاً إنها دراهم قومي، قالوا له إنها من عهد بعيد ومن زمن الملك دقيانوس، قال: وما فعل دقيانوس؟ قالوا مات من قرون عديدة، قال والله ما يصدقني أحد بما أقوله: لقد كنا فتيةً وأكرهنا الملك على عبادة الأوثان فهربنا منه عشية أمس فأوينا إلى الكهف فأرسلني أصحابي اليوم لأشتري لهم طعاماً، فانطلقوا معي إلى الكهف أريكم أصحابي، فتعجبوا من كلامه ورفعوا أمره إلى الملك - وكان مؤمناً صالحاً - فلما سمع خبره خرج الملك والجند وأهل البلدة وحين وصلوا إلى الغار سمعوا الأصوات وجلبَة الخيل فظنوا أنهم رسل دقيانوس فقاموا إلى الصلاة فدخل الملك عليهم فرآهم يصلون فلما انتهوا من صلاتهم عانقهم الملك وأخبرهم أنه رجل مؤمن وأن دقيانوس قد هلك من زمن بعيد وسمع كلامهم وقصتهم وعرف أن الله بعثهم ليكون أمرهم آية للناس ثم ألقى الله عليهم النوم وقبض أرواحهم فقال الناس: لنتخذن عليهم مسجداً.



الثناء لله تعالى مُنَزِّل القرآن على الرسول صلى الله عليه وسلم:



{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا(1)قَيِّمًا لِيُنذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا(2)مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا(3)وَيُنذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا(4)مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلا لآبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلا كَذِبًا(5) فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا(6)إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً(7)وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا(8)}



{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ} أي الثناء الكامل مع التعظيم والإِجلال لله الذي أنزل على رسوله محمد القرآن نعمةً عليه وعلى سائر الخلق {وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا} أي لم يجعل فيه شيئاً من العوج لا في ألفاظه ولا في معانيه، وليس فيه أي عيبٍ أو تناقض { قَيِّمًا} أي مستقيماً لا اختلاف فيه ولا تناقض، قال الطبري: هذا من المُقدَّم والمؤخر أي أنزل الكتاب قيّماً ولم يجعل له عِوَجاً يعني مستقيماً لا اختلاف فيه ولا تفاوت، ولا اعوجاج ولا ميل عن الحق، {لِيُنذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ} أي لينذر بهذا القرآن الكافرين عذاباً شديداً من عنده تعالى {وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ} أي ويبشّر المصدقين بالقرآن الذين يعملون الأعمال الصالحة {أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا} أي أن لهم الجنة وما فيها من النعيم المقيم {مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا} أي مقيمين في ذلك النعيم الذي لا انتهاء له ولا انقضاء {وَيُنذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا} أي ويخوّف أولئك الكافرين الذين نسبوا لله الولد عذابه الأليم، قال البيضاوي: خصَّهم بالذكر وكرَّر الإِنذار استعظاماً لكفرهم، وإِنما لم يذكر المُنْذَر به استغناءً بتقدم ذكره {مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ} أي ما لهم بذلك الافتراء الشنيع شيءٌ من العلم أصلاً {وَلا لآبَائِهِمْ} أي ولا لأسلافهم الذين قلَّدوهم فتاهوا جميعاً في بيداء الجهالة والضلالة {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ} أي عظمت تلك المقالة الشنيعة كلمة قبيحة ما أشنعها وأفظعها؟ خرجت من أفواه أولئك المجرمين، وهي في غاية الفساد والبطلان {إِنْ يَقُولُونَ إِلا كَذِبًا} أي ما يقولون إلا كذباً وسفهاً وزوراً {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ} أي فلعلك قاتلٌ نفسك يا محمد ومهلكها غّماً وحزناً على فراقهم وتوليهم وإِعراضهم عن الإِيمان {إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا} أي إن لم يؤمنوا بهذا القرآن حسرةً وأسفاً عليهم، فما يستحق هؤلاء أن تحزن وتأسف عليهم، والآية تسليةٌ للنبي عليه السلام {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأَرْضِ زِينَةً لَهَا} أي جعلنا ما عليها من زخارف ورياش ومتاع وذهب وفضة وغيرها زينة للأرض كما زينا السماء بالكواكب {لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} أي لنختبر الخلق أيهم أطوع لله وأحسن عملاً لآخرته {وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا} أي سنجعل ما عليها من الزينة والنعيم حطاماً وركاماً حتى تصبح كالأرض الجرداء التي لا نبات فيها ولا حياة بعد أن كانت خضراء بهجة، قال القرطبي: الآية وردت لتسلية النبي صلى الله عليه وسلم، والمعنى: لا تهتم يا محمد للدنيا وأهلها فإِنا إِنما جعلنا ذلك امتحاناً واختباراً لأهلها، فمنهم من يتدبر ويؤمن ومنهم من يكفر، ثم إن يوم القيامة بين أيديهم، فلا يعظمنَّ عليك كفرهُم فإِنا سنجازيهم.



قصة أصحاب الكهف



{أمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ ءاياتنا عَجَبًا(9)إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا(10)فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا(11)ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا(12)نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى(13)وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا(14)هَؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا(15) وَإِذْ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقًا(16)وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ذَلِكَ مِنْ ءايات اللَّهِ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا(17)وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوْ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا(18) وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا(19) إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا(20)وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لا رَيْبَ فِيهَا إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَانًا رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا(21)سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلا قَلِيلٌ فَلا تُمَارِ فِيهِمْ إِلا مِرَاءً ظَاهِرًا وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا(22)وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا(23)إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِي رَبِّي لأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا(24)وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا(25)قُلْ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا(26)}



{أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ ءاياتِنا عَجَبًا} ؟ بدء قصة أصحاب الكهف، والكهفُ الغار المتسع في الجبل، والرقيمُ اللوح الذي كتب فيه أسماء الكهف على المشهور، والمعنى: لا تظننَّ يا محمد أن قصة أهل الكهف - على غرابتها - هي أعجبُ ءايات الله، ففي صفحات هذا الكون من العجائب والغرائب ما يفوق قصة أصحاب الكهف، قال مجاهد: أحسبت أنهم كانوا أعجب آياتنا؟ قد كان في ءاياتِنا ما هو أعجب منهم {إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ} أي اذكر حين التجأ الشبان إلى الغار في الجبل وجعلوه مأواهم {فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً} أي أعطنا من خزائن رحمتك الخاصة مغفرة ورزقاً {وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَداً} أي أصلح لنا أمرنا كلَّه واجعلنا من الراشدين المهتدين {فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا} أي ألقينا عليهم النوم في الغار سنين عديدة {ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا} أي ثم أيقظناهم من بعد نومهم الطويل لنرى أيَّ الفريقين أدقُّ إحصاءً للمدة التي ناموها في الكهف؟ قال ابن جزي: والمراد بالحزبين: أصحابُ الكهف، والذين بعثهم الله إليهم حتى رأوهم وقال مجاهد: الحزبان من أصحاب الكهف لما استيقظوا اختلفوا في المدة التي لبثوها في الكهف، فقال بعضهم: يوماً أو بعض يوم وقال آخرون: ربكم أعلم بما لبثتم، والقول الأول مرويّ عن ابن عباس {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ} أي نحن نقص عليك يا محمد خبرهم العجيب على وجه الصدق دون زيادةٍ ولا نقصان {إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى} أي إنهم جماعة من الشبان آمنوا بالله فثبتناهم على الدين وزدناهم يقيناً {وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ} أي قوينا عزمهم وألهمناهم الصبر حتى أصبحت قلوبهم ثابتة راسخة، مطمئنة إلى الحق معتزةً بالإِيمان {إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} أي حين قاموا بين يدي الملك الكافر الجبار من غير مبالاة فقالوا: ربنا هو خالق السماوات والأرض لا ما تدعونا إليه من عبادة الأوثان والأصنام {لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا} أي لن نشرك معه غيره، فهو واحد بلا شريك {لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا} أي لئن عبدنا غيره نكون قد تجاوزنا الحقَّ، وحِدْنا على الصواب، وأفرطنا في الظلم والضلال {هَؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً} أي هؤلاء أهل بلدنا عبدوا الأصنام تقليداً من غير حجة {لَوْلا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ} أي هلاّ يأتون على عبادتهم لها ببرهان ظاهر، والغرض من أسلوب التحضيض {لَوْلا} التعجيز كأنهم قالوا إنهم لا يستطيعون أن يأتوا بحجة ظاهر على عبادتهم للأصنام فهم إذاً كذبة على الله {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} استفهام بمعنى النفي أي لا أحد أظلم ممن كذب على الله بنسبة الشريك إليه تعالى {وَإِذْ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلا اللَّهَ} أي وإِذْا اعتزلتم أيها الفتية قومكم وما يعبدون من الأوثان غير الله تعالى {فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ} أي التجئوا إلى الكهف {يَنشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ} أي يبسط ربكم ويوسّعْ عليكم رحمته {وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقًا} أي يُسهّل عليكم أسباب الرزق وما ترفقون به من غداء وعشاء في هذا الغار {وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ} أي ترى أيها المخاطب الشمس إذا طلعت تميل عن كهفهم جهة اليمين {وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ} أي وإِذا غربت تقطعهم وتُبعد عنهم جهة الشمال والغرض أن الشمس لا تصيبهم عند طلوعها ولا عند غروبها كرامةً لهم من الله لئلا تؤذيهم بِحَرِّها {وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ} أي في متَّسع من الكهف وفي وسطه بحيث لا تصيبهم الشمس لا في ابتداء النهار، ولا في آخره {ذَلِكَ مِنْ ءايات اللَّهِ} أي ذلك الصنيع من دلائل قدرة الله الباهرة، قال ابن عباس: لو أن الشمس تطلع عليهم لأحرقتهم، ولو أنهم لا يُقلَّبون لأكلتهم الأرض {مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي} أي من يوفقه الله للإِيمان ويرشده إلى طريق السعادة فهو المهتدي حقاً {وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا} أي ومن يضلله الله بسوء عمله فلن تجد له من يهديه {وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ} أي لو رأيتهم أيها الناظر لظننتهم أيقاظاً لتفتح عيونهم وتقلبهم والحال أنهم نيام {وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ} أي ونقلبهم من جانب إلى جانب لئلا تأكل الأرض أجسامهم {وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ} أي وكلبهم الذي تبعهم باسطٌ يديه بفناء الكهف كأنه يحرسهم {لَوْ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا} أي لو شاهدتهم وهم على تلك الحالة لفررت منهم هارباً رعباً منهم، وذلك لما ألبسهم الله من الهيبة، فرؤيتهم تثير الرعب إذ يراهم الناظر نياماً كالأيقاظ، يتقلبون ولا يستيقظون {وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءلُوا بَيْنَهُمْ} أي كما أنمناهم كذلك بعثناهم من النوم وأيقظناهم بعد تلك الرقدة الطويلة التي تشبه الموت ليسأل بعضهم بعضاً عن مدة مكثهم وإقامتهم في الغار {قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ} أي قال أحدهم: كم مكثنا في هذا الكهف؟ فقالوا مكثنا فيه يوماً أو بعض اليوم قال المفسرون: إنهم دخلوا في الكهف صباحاً وبعثهم الله في آخر النهار فلما استيقظوا ظنوا أن الشمس قد غربت فقالوا لبثنا يوماً، ثم رأوها لم تغرب فقالوا أو بعض يوم، وما دروا أنهم ناموا ثلاثمائة وتسع سنين {قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ} أي قال بعضهم، الله أعلم بمدة إقامتنا ولا طائل وراء البحث عنها، فخذوا بما هو أهم وأنفع لكم فنحن الآن جياع {فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ} أي فأرسلوا واحداً منكم إلى المدينة بهذه النقود الفضية {فَلْيَنظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ} أي فليختر لنا أحلى وأطيب الطعام فليشتر لنا منه {وَلْيَتَلَطَّفْ وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا} أي وليتلطف في دخول المدينة، وشراء الطعام، حتى لا يشعر بأمرنا أحد {إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ} أي إن يظفروا يقتلوكم بالحجارة أو يردوكم إلى دينهم الباطل {وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا} أي وإن عدتم إلى دينهم ووافقتموهم على كفرهم فلن تفوزوا بخيرٍ أبداً، وهكذا يتناجى الفتية فيما بينهم خائفين حذرين أن يظهر عليهم الملك الجبار فيقتلهم أو يردهم إلى عبادة الأوثان فيوصون صاحبهم بالتلطف بالدخول والخروج وأخذ الحيطة والحذر {وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لا رَيْبَ فِيهَا} أي وكما بعثناهم من نومهم كذلك أطلعنا الناس عليهم ليستدلوا بذلك على صحة البعث ويوقنوا أن القيامة لا شك فيها، فتكون قصة أصحاب الكهف حجة واضحة ودلالة قاطعة على إمكان البعث والنشور، فإن القادر على بعث أهل الكهف بعد نومهم ثلاثمائة عام قادر على بعث الخلق بعد مماتهم {إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ} أي حين تنازع القوم في أمر أهل الكهف بعد أن أطلعهم الله عليه ثم قبض أرواحهم {فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَانًا} أي قال بعض الناس: ابنوا على باب كهفهم بنياناً ليكون علَماً عليهم {رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ} أي الله أعلم بحالهم وشأنهم {قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا} أي قال الفريق الآخر وهم الأكثرية الغالبة: لنتخذنَّ على باب الكهف مسجداً نصلي فيه ونعبد الله فيه {سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ} أي سيقول هؤلاء القوم الخائضون في قصتهم في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم من أهل الكتاب هم ثلاثة رجال يتبعهم كلبهم {وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ} أي ويقول البعض: إنهم خمسةٌ سادسهم الكلب قذفاً بالظنِّ من غير يقين ولا علم كمن يرمي إلى مكان لا يعرفه {وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ} أي ويقول البعض إنهم سبعةٌ والثامن هو الكلب {قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ} أي الله أعلم بحقيقة عددهم {مَا يَعْلَمُهُمْ إِلا قَلِيلٌ} أي لا يعلم عدتهم إلا قليل من الناس، قال ابن عباس: أنا من ذلك القليل، كانوا سبعةً إن الله عدَّهم حتى انتهى إلى السبعة قال المفسرون: إن الله تعالى لمّا ذكر القول الأول والثاني أردفه بقوله {رَجْمًا بِالْغَيْبِ} ولما ذكر القول الأخير لم يقدح فيه بشيء، فكأنه أقر قائله ثم نبَّه رسوله إلى الأفضل والأكمل وهو ردُّ العلم إلى علام الغيوب {فَلا تُمَارِ فِيهِمْ إِلا مِرَاءً ظَاهِرًا} أي فلا تجادل أهل الكتاب في عدتهم إلا جدال متيقنٍ عالم بحقيقة الخبر {وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا} أي لا تسأل أحداً عن قصتهم فإِنَّ فيما أوحي إليك الكفاية {وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} أي لا تقولنَّ لأمر عزمت عليه إني سأفعله غداً إلا إذا قرنته بالمشيئة، فقلت إن شاء الله، قال ابن كثير: سبب نزول الآية أن النبي صلى الله عليه وسلم لما سئل عن قصة أصحاب الكهف قال: {غداً أجيبكم} فتأخر الوحي عنه خمسة عشر يوماً {وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ} أي إذا نسيت أن تقول إن شاء الله، ثم تذكرت فقلها لتبقى نفسك مستشعرةً عظمة الله {وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِي رَبِّي لأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا} أي لعلَّ الله يوفقني ويرشدني إلى ما هو أصلح من أمر ديني ودنياي {وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُواتِسْعًا} أي مكثوا في الكهف نائمين ثلاثمائة وتسع سنين، وهذا بيانٌ لما أُجمل في قوله تعالى { سِنِينَ عَدَدًا} {قُلْ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا} أي الله أعلم بمدة لبثهم في الكهف على وجه اليقين {لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} أي هو تعالى المختص بعلم الغيب وقد أخبرك بالخبر القاطع عن أمرهم الحكيمُ الخبير {أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ} أي ما أبصره بكل موجود، وما أسمعه لكل مسموع، يدرك الخفيات كما يدرك الجليات {مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ} أي ليس للخلق ناصرٌ ولا معين غيره تعالى {وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا} أي ليس له شريك ولا مثيل ولا نظير، ولا يقبل في قضائه وحكمه أحداً لأنه الغنيّ عما سواه.

yacine414
2011-03-26, 17:41
توجيهات للنبي صلى الله عليه وسلم وتطمين للمؤمنين



{وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا(27)وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا(28)وَقُلْ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءتْ مُرْتَفَقًا(29)إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلا(30)أُوْلَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ الأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِنْ سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الأَرَائِكِ نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا(31)}



المنَــاسَبَة:

لما ذكر تعالى قصة أهل الكهف وهي تُمثل صور التضحية والبطولة في سبيل العقيدة والإِيمان، أعقبها بذكر قصة صاحب الجنتين، وهي نموذج آخر للعقيدة ممثلة في قصة الأخوين من بني إسرائيل: المؤمن المعتز بإِيمانه، والكافر وهو صاحب الجنتين، وما فيها من عبر وعظات، وفي ثنايا الآيات جاءت بعض التوجيهات القرآنية الكريمة.



سَبَب النزّول:

رُوي أن أشراف قريش اجتمعوا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقالوا له: إن أردت أن نؤمن بك فاطرد هؤلاء الفقراء من عندك يعنون "بلالاً، وخباباً، وصهيباً" وغيرهم فإِنا نأنف أن نجتمع بهم، وتعيِّن لهم وقتاً يجتمعون فيه عندك، فأنزل الله {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ ..} الآية.



{وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ} أي إقرأ يا محمد ما أوحاه إليك ربك من ءايات الذكر الحكيم { لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ} أي لا يقدر أحدٌ أن يغيّر أو يبدّل كلام الله { وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا} أي لن تجد ملجأ غير الله تعالى أبداً { وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ} أي احبس نفسك مع الضعفاء والفقراء من المسلمين الذين يدعون ربهم بالصباح والمساء {يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} أي يبتغون بدعائهم وجه الله تعالى {وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ} أي لا تصرف بصرك إلى غيرهم من ذوي الغنى والشرف، قال المفسرون: كان عليه السلام حريصاً على إِيمان الرؤساء ليؤمن أتباعهم، ولم يكن مريداً لزينة الدنيا قط، فأمِر أن يجعل إِقباله على فقراء المؤمنين، وأن يُعرض عن أولئك العظماء والأشراف من المشركين {تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} أي تبتغي بمجالستهم الشرف والفخر، قال ابن عباس: لا تجاوزهم إلى غيرهم تطلب بدلهم أصحاب الشرف والثروة {وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا} أي لا تطع كلام الذين سألوك طرد المؤمنين، فقلوبهم غافلة عن ذكر الله، وقد شغلوا عن الدين وعبادةِ ربهم بالدنيا، قال المفسرون: نزلت في عُيينة بن حصن وأصحابه، أتى النبي صلى الله عليه وسلم وعنده جماعة من الفقراء منهم "سلمان الفارسي" وعليه شملة صوف قد عرق فيها، فقال عُيينة للنبي صلى الله عليه وسلم: أما يؤذيك ريح هؤلاء؟ ونحن سادةُ مضر وأشرافُها إن أسلمنا يسلم الناس، وما يمنعنا من اتباعك إلا هؤلاء فنحِّهمْ عنك حتى نتبعك، أو اجعل لنا مجلساً ولهم مجلس، فهمَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجيبهم إلى ما طلبوا فلما، نزلت الآية خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يلتمس هؤلاء الفقراء فلما رآهم جلس معهم وقال {الحمد لله الذي جعل في أُمتي من أمرني ربي أن أصبر نفسي معهم}، {وَاتَّبَعَ هَوَاهُ} أي سار مع هواه وترك أمر الله {وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} أي كان أمره ضياعاً وهلاكاً ودماراً {وَقُلْ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} ظاهرهُ أمرٌ وحقيقته وعيدٌ وإِنذار، أي قل يا محمد لهؤلاء الغافلين لقد ظهر الحق وبان بتوضيح الرحمن فإِن شئتم فآمنوا وإِن شئتم فاكفروا كقوله {اعملوا ما شئتم}، {إنّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا} أي هيأنا للكافرين بالله ورسوله ناراً حاميةً شديدة أحاط بهم سورها كإِحاطة السوار بالمعصم {وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ} أي وإِن استغاثوا من شدة العطش فطلبوا الماء أُغيثوا بماءٍ شديد الحرارة كالنحاس المذاب أو كعكر الزيت المحمى يشوي وجوههم إذا قَرُب منهم من شدة حره وفي الحديث (ماءُ كعكر الزيت فإِذا قُرب إليه سقطت فروة وجهه فيه) أي سقطت جلدة وجهه فيه أعاذنا الله من جهنم {بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءتْ مُرْتَفَقًا} أي بئس ذلك الشراب الذي يُغاثون به وساءت جهنم منزلاً ومقيلاً يرتفق به أهل النار {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً} لما ذكر تعالى حال الأشقياء أعقبه بذكر حال السعداء، على طريقة القرآن في الترغيب والترهيب، أي إنا لا نضيع ثواب من أحسن عمله وأخلص فيه بل نزيده وننميه {أُوْلَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ} أي لهم جنات إقامة {تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ الأَنْهَارُ} أي تجري من تحت غرفهم ومنازلهم أنهار الجنة {يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ} أي يُحلَّون في الجنة بأساور الذهب، قال المفسرون: ليس أحد من أهل الجنة إلا وفي يده ثلاثة أساور: سوارٌ من ذهب، وسوار من فضة، وسوار من لؤلؤ، لأن الله تعالى قال {وحلوا أساور من فضة} وقال {ولؤلؤاً ولباسهم فيها حرير} وفي الحديث (تبلغ حلية المؤمن من حيث يبلغ الوضوء) {وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِنْ سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ} أي وهم رافلون في ألوانٍ من الحرير، برقيق الحرير وهو السندس، وبغليظه وهو الاستبرق، قال الطبري: معنى الآية أنهم يلبسون من الحلي أساور من ذهب، ويلبسون من الثياب السندس وهو ما رقَّ من الديباج، والاستبرق وهو ما غلظ فيه وثَخُن {مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الأَرَائِكِ} أي متكئين في الجنة على السرر الذهبية المزينة بالثياب والستور، قال ابن عباس: الأرائك الأسرة من ذهب وهي مكلَّلة بالدُر والياقوت عليها الحجال، الأريكةُ ما بين صنعاء إلى أيلة، وما بين عدن إلى الجابية {نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا} أي نعم ذلك جزاء المتقين، وحسنت الجنة منزلاً ومقيلاً لهم.



مثل الغني الكافر والفقير المؤمن



{وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا(32)كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا وَفَجَّرْنَا خِلالَهُمَا نَهَرًا(33)وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالاً وَأَعَزُّ نَفَرًا(34)وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا(35)وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنقَلَبًا(36) قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلا(37)لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا(38)وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلا بِاللَّهِ إِنْ تُرَنِي أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالاً وَوَلَدًا(39)فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِي خَيْرًا مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِنَ السَّمَاءِ فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا(40)أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا(41) وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا(42)وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مُنتَصِرًا(43)هُنَالِكَ الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا وَخَيْرٌ عُقْبًا(44)}



{وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلا رَجُلَيْنِ} أي أضرب لهؤلاء الكفار الذين طلبوا منك أن تطرد الفقراء هذا المثل، قال المفسرون: هما أخوان من بني إسرائيل، أحدهما مؤمن، والآخر كافر، ورثا مالاً عن أبيهما، فاشترى الكافر بما له حديقتين،وأنفق المؤمن ماله في مرضاة الله حتى نفد ماله، فعيَّره الكافر بفقره، فأهلك الله مال الكافر، وضرب هذا مثلاً للمؤمن الذي يعمل بطاعة الله، والكافر الذي أبطرته النعمة {جَعَلْنَا لأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ} أي جعلنا لأحدهما - وهو الكافر - بستانينِ من شجر العنب، مثمريْن بأنواع العنب اللذيذ {وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ} أي أحطناهما بسياجٍ من شجر النخيل {وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا} أي جعلنا وسط هذين البستانين زرعاً ويتفجر بينهما نهر، وإنه لمنظرٌ بهيجٌ يصوره القرآن أروع تصوير، منظر الحديقتين المثمرتين بأنواع الكرم، المحفوفتين بأشجار النخيل، تتوسطهما الزروع وتتفجر بينهما الأنهار {كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا} أي كلُّ واحدة من الحديقتين أخرجت ثمرها يانعاً في غاية الجودة والطيب ولم تنقص منه شيئاً {وَفَجَّرْنَا خِلالَهُمَا نَهَرًا} أي جعلنا النهر يسير وسط الحديقتين {وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ} أي وكان للأخ الكافر من جنتيه أنواع من الفواكه والثمار {فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالاً وَأَعَزُّ نَفَرًا} أي قال صاحب الجنتين لأخيه المؤمن وهو يجادله ويخاصمه ويفتخر عليه ويتعالى: أنا أغنى منك وأشرف، وأكثر أنصاراً وخدماً {وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ} أي أخذ بيد أخيه المؤمن ودخل الحديقة يطوف به فيها ويريه ما فيها من أشجار وثمار وأنهار وهو ظالم لنفسه بالعُجب والكفر {قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا} أي ما أعتقد أن تفنى هذه الحديقة أبداً {وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً} أي وما أعتقد القيامة كائنة وحاصلة، أنكر فناء جنته وأنكر البعث والنشور {وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا} أي ولئن كان هناك بعثٌ - على سبيل الفرض والتقدير كما تزعمُ - فسوف يعطيني الله خيراً من هذا وأفضل {مُنقَلَبًا} أي مرجعاً وعاقبة ، فكما أعطاني هذا في الدنيا فسيعطيني في الآخرة لكرامتي عليه {قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ} أي قال ذلك المؤمن الفقير وهو يراجع أخاه ويجادله {أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً} أي أجحدت الله الذي خلق أصلك من تراب ثم من منيّ ثم سوَّاك إنساناً سويّا؟ الاستفهام للتقريع والتوبيخ {لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي} أي لكنْ أنا أعترف بوجود الله فهو ربي وخالقي {وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا} أي لا أُشرك مع الله غيره، فهو المعبودُ وحده لا شريك له {وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ} أي فهلاّ حين دخلتَ حديقتك وأُعجبت بما فيها من الأشجار والثمار، قلت: هذا من فضل الله، فما شاءَ اللهُ كان وما لم يشأْ لم يكن {لا قُوَّةَ إِلا بِاللَّهِ} أي لا قدرة لنا على طاعته إلا بتوفيقه ومعونته {إِنْ تُرَنِي أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالاً وَوَلَدًا} أي قال المؤمن للكافر: إن كنت ترى أنني أفقر منك وتعتز عليَّ بكثرة مالك وأولادك {فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِي خَيْرًا مِنْ جَنَّتِكَ} جواب الشرط أي إني أتوقع من صنع الله تعالى وإحسانه أن يقلب ما بي وما بك من الفقر والغنى فيرزقني جنةً خيراً من جنتك لإِيماني به، ويسلب عنك نعمته لكفرك به ويخرّب بستانك {وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِنَ السَّمَاءِ} أي يرسل عليها آفةً تجتاحها أو صواعق من السماء تدمّرها {فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا} أي تصبح الحديقة أرضاً ملساء لا تثبت عليها قدم، جرداء لا نبات فيها ولا شجر {أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا} أي يغور ماؤها في الأرض فيتلف كل ما فيها من الزرع والشجر، وحينئذٍ لا تستطيع طلبه فضلاً عن إعادته وردّه، وينتهي الحوار هنا وتكون المفاجأة المدهشة فيتحقَّق رجاءُ المؤمن بزوال النعيم عن الكافر، وفجأة ينقلنا السياق من مشهد البهجة والازدهار إلى مشهد البوار والدمار {وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ} أي هلكت جنته بالكلية واستولى عليها الخراب والدمار في الزروع والثمار {فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنفَقَ فِيهَا} أي يقلب كفيه ظهراً لبطن أسفاً وحزناً على ماله الضائع وجهده الذاهب قال القرطبي: أي يضرب إحدى يديه على الأخرى ندماً لأن هذا يصدر من النادم {وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا} أي مهشّمة محطمة قد سقطت السقوف على الجدران فأصبحت خراباً يباباً {وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا} أي وهو نادم على إشراكه بالله يتمنى أن لم يكن قد كفر النعمة، ندم حين لا ينفع الندم، قال تعالى {وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ} أي لم تكن له جماعة تنصره وتدفع عنه الهلاك {وَمَا كَانَ مُنتَصِرًا} أي وما كان بنفسه ممتنعاً عن انتقام الله سبحانه، فلم تنفعه العشيرة والولد حين اعتزّ وافتخر بهم وما استطاع بنفسه أن يدفع عنه العذاب {هُنَالِكَ الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ} أي في ذلك المقام وتلك الحال تكون النصرة لله وحده لا يقدر عليها أحد فهو الوليُّ الحق الذي ينصر أولياءه {هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا وَخَيْرٌ عُقْبًا} أي الله خير ثواباً في الدنيا والآخرة لمن آمن به، وهو خيرٌ عاقبةً لمن اعتمد عليه ورجاه.



مثل الحياة الدنيا



{وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا(45) الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلاً(46)}

{وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ} هذا مثلٌ آخر للدنيا وبهرجها الخادع يشبه مثل الجنتين في الفناء والزوال، والمعنى اضرب يا محمد للناس مثل هذه الحياة في زوالها وفنائها وانقضائها بماءٍ نزل من السماء فخرج به النبات وافياً غزيراً وخالط بعضه بعضاً من كثرته وتكاثفه {فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ} أي صار النبات متكسراً من اليبس متفتتاً تنسفه الرياح ذات اليمين وذات الشمال {وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا} أي قادراً على الإِفناء والإِحياء لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} أي الأموال والأولاد زينة هذه الحياة الفانية، ذاك مثلها وهذه زينتها والكل إلى فناء وزوال لا يغتر بها إلا الأحمق الجهول {وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلاً} أي أعمال الخير تبقى ثمرتها أبد الآباد فهي خير ما يؤمله الإِنسان ويرجوه عند الله، قال ابن عباس: الباقيات الصالحات هي الصلوات الخمس وعنه أيضاً أنها كل عمل صالحٍ من قول أو فعلٍ يبقى للآخرة، وفي الحديث {سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، هنَّ الباقيات الصالحات}.



تسيير الجبال والحشر والعرض على الله



{وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا(47)وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِدًا(48)وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا(49)}



{وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ} لما ذكر الدنيا ومآلها ذكر القيامة وأهوالها أي واذكر يوم نزيل الجبال من أماكنها ونسيّرها كما نسيّر السحاب فنجعلها هباءً منبثاً {وَتَرَى الأَرْضَ بَارِزَةً} أي وترى الأرض ظاهرة للعيان ليس عليها ما يسترها من جبل ولا شجر ولا بنيان، قد قلعت جبالها وهُدم بنيانها فهي بارزة ظاهرة {وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا} أي جمعنا الأولين والآخرين لموقف الحساب فلم نترك أحداً منهم {وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا} أي عُرضوا على رب العالمين مصطفّين، لا يحجبُ أحدٌ أحداً منهم وفي الحديث (يجمع الله الأولين والآخرين في صعيدٍ واحدٍ صفوفاً)، قال مقاتل: يُعرضون صفاً بعد صف كالصفوف في الصلاة كل أمةٍ وزمرةٍ صفاً {لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} أي يقال للكفار على وجه التوبيخ والتقريع: لقد جئتمونا حفاةً عراةً لا شيء معكم من المال والولد كهيئتكم حين خلقناكم أول مرة {بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِدًا} أي زعمتم أن لا بعث ولا جزاء، ولا حساب ولا عقاب {وَوُضِعَ الْكِتَابُ} أي وضعت صحائف أعمال البشر وعُرضت عليهم {فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ} أي فترى المجرمين خائفين مما فيه من الجرائم والذنوب {وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا} أي يا حسرتنا ويا هلاكنا على ما فرطنا في حياتنا الدنيا {مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلا أَحْصَاهَا} أي ما شأن هذا الكتاب لا يترك صغيرة ولا كبيرة إلا ضبطها وأحاط بها؟ قال تعالى: {وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا} أي مكتوباً مثبتاً في الكتاب {وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} أي لا يعاقب إنساناً بغير جرم، ولا يُنقص من ثواب المحسن.



أمر الملائكة بالسجود لآدم عليه السلام



{وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً(50)مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنفُسِهِمْ وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا(51)وَيَوْمَ يَقُولُ نَادُوا شُرَكَائِي الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ مَوْبِقًا(52) وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفًا(53)}



{وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ} أي اذكر حين أمرنا الملائكة بالسجود لآدم سجود تحية وتكريم لا سجود عبادة {فَسَجَدُوا إِلا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ} أي سجد جميع الملائكة لكن إبليس الذي هو من الجن خرج عن طاعة ربه، والآية صريحة في أن إبليس من الجن لا من الملائكة {أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ} أي أفتتخذونه يا بني آدم هو وأولاده الشياطين أولياء من دون الله وهم لكم أعداء {بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً} أي بئست عبادة الشيطان بدلاً عن عبادة الرحمن {مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} أي ما أشهدت هؤلاء الشياطين الذين عبدتموهم من دوني خلق السماوات والأرض {وَلا خَلْقَ أَنفُسِهِمْ} أي ولا أشهدت بعضهم خلق بعض فهم عبيد أمثالكم لا يملكون شيئاً {وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا} أي وما كنت متخذ الشياطين أعواناً في الخلق فكيف تطيعونهم من دوني؟ {وَيَوْمَ يَقُولُ نَادُوا شُرَكَائِي الَّذِينَ زَعَمْتُمْ} أي ويوم يقول الله للمشركين: أدعوا شركائي ليمنعوكم من عذابي ويشفعوا لكم كما كنتم تزعمون {فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ } أي فاستغاثوا بهم فلم يغيثوهم {وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ مَوْبِقًا} أي جعلنا بين العابدين والمعبودين مهلكةً لا يجتازها هؤلاء وهي النار {وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا} أي عاينوها وهي تتغيظ حنقاً عليهم فأيقنوا أنهم داخلوها {وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفًا} أي لم يجدوا عنها معدلاً وذلك لأنها أحاطت بهم من كل جانب فلم يقدروا على الهرب منها.





إرسال الرسل لهداية الخلق، وحال المعرضين عن الإيمان وتأخير العذاب رحمة من الله تعالى



{وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الإِنسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً(54)وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءهُمْ الْهُدَى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمْ الْعَذَابُ قُبُلاً(55)وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلا مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَمَا أُنْذِرُوا هُزُوًا(56) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا(57)وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمْ الْعَذَابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلاً(58)وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدًا(59)}





{وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ} أي بيّنا في هذا القرآن الأمثال وكرَّرنا الحجج والمواعظ {وَكَانَ الإِنسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً} أي وطبيعة الإِنسان الجدلُ والخصومة لا ينيب لحق ولا ينزجر لموعظة {وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءهُمْ الْهُدَى} أي ما منع الناسَ من الإِيمان حين جاءهم الهُدى من الله {وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ} أي ومن الاستغفار من الذنوب والآثام {إِلا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الأَوَّلِينَ} أي إلا انتظارهم أن تأتيهم سنة الأولين وهي الإِهلاك {أَوْ يَأْتِيَهُمْ الْعَذَابُ قُبُلاً} أي يأتيهم عذاب الله عياناً ومقابلة ومعنى الآية أنه ما منعهم من الإِيمان والاستغفار إلا طلبهم أن يشاهدوا العذاب الذي وُعدوا به عياناً ومواجهة كقولهم {فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذابٍ أليم} {وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلا مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ} أي ما نرسل الرسل إلا لغرض التبشير والإِنذار لا للإِهلاك والدمار، مبشرين لأهل الإِيمان ومنذرين لأهل العصيان {وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ} أي ومع وضوح الحق يجادل الكفار بالباطل ليغلبوا به الحق ويبطلوه فهم حين يطلبون الخوارق ويستعجلون العذاب لا يريدون الإِيمان وإِنما يستهزئون ويسخرون {وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَمَا أُنْذِرُوا هُزُوًا} أي اتخذوا القرآن وما خُوّفوا به من العذاب سخرية واستهزاءً {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا} أي لا أحد أظلمُ ممن وُعظ بآيات الله البينة، وحججه الساطعة، فتعامى عنها وتناساها ولم يُلقِ لها بالاً {وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ} أي نسي ما عمله من الجرائم الشنيعة، والأفعال القبيحة، ولم يتفكر في عاقبتها {إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ} أي جعلنا على قلوبهم أغطية تحول دون فقه هذا القرآن وإدراك أسراره، والانتفاع بما فيه من المواعظ والأحكام {وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا} أي وفي آذانهم صمماً معنوياً يمنعهم أن يسمعوه سماع تفهم وانتفاع {وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا} أي وإن دعوتهم إلى الإِيمان والقرآن فلن يستجيبوا لك أبداً لأنهم لا يفقهون ولا يسمعون، فللهدى قلوبٌ متفتحة مستعدة لقبول الإِيمان وهؤلاء كالأنعام {وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ} أي وربك يا محمد واسع المغفرة عظيم الرحمة بالعباد مع تقصيرهم وعصيانهم {لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمْ الْعَذَابَ} أي لو يعاقبهم بما اقترفوا من المعاصي والإِجرام لعجَّل لهم عذاب الدنيا، ولكنه تعالى يمهلهم ويؤخر عنهم العذاب الذي يستعجلونه به رحمةً بهم، وقد جرت سنته بأن يمهل الظالم ولكن لا يهمله {بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلاً} أي لهم موعد آخر في القيامة يرون فيه الأهوال لن يجدوا لهم فيه ملجأ ولا منجى {وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا} أي تلك هي أخبار الأمم السالفة والقرون الخالية كقوم هود وصالح ولوط وشعيب أهلكناهم حين ظلموا {وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدًا} أي جعلنا لهلاكهم وقتاً محدَّداً معلوماً، أفلا يعتبر هؤلاء المكذبون المعاندون؟ والآية وعيد وتهديد لكفار قريش، قال ابن كثير: والمعنى احذروا أيها المشركون أن يصيبكم ما أصابهم فقد كذبتم أعظم نبيٍّ وأشرف رسول، لستم بأعزَّ علينا منهم فخافوا عذابي ونّذري.



قصة موسى عليه السلام مع الخَضِر



{وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا(60)فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا(61)فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا(62)قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيه إِلا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا(63)قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا(64) فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا(65)قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِي مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا(66)قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِي صَبْرًا(67)وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا(68)قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا(69)قَالَ فَإِنْ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا(70)فَانطَلَقَا حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا(71)قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِي صَبْرًا(72)قَالَ لا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا(73)فَانطَلَقَا حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلامًا فَقَتَلَهُ قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا(74)قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِي صَبْرًا(75)قَالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا(76) فَانطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنقَضَّ فَأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ لاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا(77)قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا(78)أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا(79)وَأَمَّا الْغُلامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا(80) فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا(81)وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا(82)}



المنَــاسَبَة:

لما ضرب تعالى المثل في قصة صاحب الجنتين، وضرب المثل للحياة الدنيا وما فيها من نعيم خادع ومتاع زائل، نبَّه تعالى إلى الغاية من ذكر هذه الأمثال وهي "العظةُ والاعتبار" ثم ذكر القصة الثالثة "قصة موسى مع الخضر" وما فيها من أمور غيبيَّة عجيبة.



{وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ} هذه هي القصة الثالثة في هذه السورة الكريمة والمعنى اذكر حين قال موسى الكليم لفتاه "يوشع بن نون" لا أزال أسير وأتابع السير حتى أصل إلى ملتقى بحر فارس وبحر الروم مما يلي جهة المشرق وهو مجمع البحرين {أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا} أي أسير زماناً إلى أن أبلغ ذلك المكان {فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا} أي فلما بلغ موسى وفتاه مجمع البحرين نسي "يوشع" أن يخبر موسى بأمر الحوت وما شاهده منه من الأمر العجيب، روي أن الله تعالى أوحى إلى موسى أن يأخذ معه حوتاً فيجعله في مِكْتل فحيثما فقد الحوت فهناك الرجل الصالح {فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا} أي اتخذ الحوت سبيله في البحر مسلكاً، قال المفسرون: كان الحوت مشوياً فخرج من المِكْتل ودخل في البحر وأمسك الله جرية الماء على الحوت فصار كالطاق عليه وجمد الماء حوله وكان ذلك آيةً من ءايات الله الباهرة لموسى عليه السلام {فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءنَا} أي فلما قطعا ذلك المكان وهو مجمع البحرين الذي جُعل موعداً للملاقاة قال موسى لفتاه أعطنا طعام الغداء {لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا} أي لقينا في هذا السفر العناء والتعب، وكان قد سار ليلة وجزءاً من النهار بعد أن جاوز الصخرة {قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ} أي قال الفتى "يوشع بن نون" حين طلب موسى منه الحوت للغداء أرأيت حين التجأنا إلى الصخرة التي نمت عندها ماذا حدث من الأمر العجيب؟ لقد خرج الحوتُ من المكتل ودخل البحر وأصبح عليه مثل الكوة وقد نسيتُ أن أذكر لك ذلك حين استيقظتَ {وَمَا أَنْسَانِيه إِلا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ} أي وقد أنساني الشيطان أن أخبرك عن قصته الغريبة {وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا} أي واتخذ الحوتُ طريقه في البحر وكان أمره عجباً، يتعجب الفتى من أمره لأنه كان حوتاً مشوياً فدبَّت فيه الحياة ودخل البحر {قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ} أي قال موسى هذا الذي نطلبه ونريده لأنه علامة على غرضنا وهو لُقْيا الرجل الصالح فارتدا على آثارهما قَصَصاً أي رجعا في طريقهما الذي جاءا منه يتتبعان أثرهما الأول لئلا يخرجا عن الطريق {فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا} أي وجدا الخضر عليه السلام عند الصخرة التي فقد عندها الحوت، وفي الحديث أن موسى وجد الخضر مسجَّى بثوبه مستلقياً على الأرض، فقال له: السلام عليك، فرفع رأسه، وقال: وأنّى بأرضك السلام؟ {آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا} أي وهبناه نعمة عظيمة وفضلاً كبيراً وهي الكرامات التي أظهرها الله على يديه {وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا} أي علماً خاصاً بنا لا يُعلم إلا بتوفيقنا وهو علم الغيوب، قال العلماء: هذا العلم الرباني ثمرة الإِخلاص والتقوى ويسمى "العلم اللدُنِّي" يورثه الله لمن أخلص العبودية له، ولا ينال بالكسب والمشقة وإِنما هو هبة الرحمن لمن خصَّه الله بالقرب والولاية والكرامة {قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِي مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا} أي هل تأذن لي في مرافقتك لأقتبس من علمك ما يرشدني في حياتي؟ قال المفسرون: هذه مخاطبة فيها ملاطفة وتواضع من نبي الله الكريم وكذلك ينبغي أن يكون الإِنسان مع من يريد أن يتعلم منه {قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِي صَبْرًا} أي قال الخضر: إنك لا تستطيع الصبر على ما ترى، قال ابن عباس: لن تصبر على صنعي لأني علمتُ من غيب علم ربي {وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا} أي كيف تصبر على أمرٍ ظاهره منكرٌ وأنت لا تعلم باطنه؟ {قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا} أي قال موسى ستراني صابراً ولا أعصي أمرك إن شاء الله {قَالَ فَإِنْ اتَّبَعْتَنِي فَلا تسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا} شرط عليه قبل بدء الرحلة ألا يسأله ولا يستفسر عن شيء من تصرفاته حتى يكشف له سرها، فقبل موسى شرطه رعايةً لأدب المتعلم مع العالم، والمعنى لا تسألني عن شيء مما أفعله حتى أبيّنه لك بنفسي {فَانطَلَقَا حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا} أي انطلق موسى والخضر يمشيان على ساحل البحر حتى مرت بهما سفينة فعرفوا الخضر فحملوهما بدون أجر فلما ركبا السفينة عمد الخضر إلى فأس فقلع لوحاً من ألواح السفينة بعد أن أصبحت في لجة البحر {قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا} أي قال له موسى مستنكراً: أخرقت السفينة لتغرق الركاب؟ {لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا} أي فعلت شيئاً عظيماً هائلاً، يروى أن موسى لما رأى ذلك أخذ ثوبه فجعله مكان الخرق ثم قال للخضر: قومٌ حملونا بغير أجرٍ عمدتَ إلى سفينتهم فخرقتها لتغرق أهل السفينة لقد فعلت أمراً منكراً عظيماً!! {قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِي صَبْرًا} أي ألم أخبرك من أول الأمر أنك لا تصبر على ما ترى من صنيعي؟ ذكَّره بلطفٍ في مخالفته الشرط {قَالَ لا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ} أي لا تؤاخذني بمخالفتي الشرط ونسياني العهد {وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا} أي لا تكلفني مشقةً في صحبتي إياك وعاملني باليُسر لا بالعُسر {فَانطَلَقَا حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلامًا فَقَتَلَهُ} أي فقبل عذره، وانطلقا بعد نزولهما من السفينة يمشيان فمرَّا بغلمانٍ يلعبون وفيهم غلام وضيء الوجه جميل الصورة فأمسكه الخضر واقتلع رأسه بيده ثم رماه في الأرض {قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ} أي قال موسى: أقتلت نفساً طاهرةً لم ترتكب جرماً ولم تقتل نفساً حتى تُقتل به {لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا} أي فعلت شيئاً منكراً عظيماً لا يمكن السكوت عنه ..لم يكن موسى ناسياً في هذه المرة ولا غافلاً ولكنه قاصدٌ أن يُنكر المنكر الذي لا يصبر على وقوعه بالرغم من تذكره لوعده، وقال هنا {نُكراً} أي منكراً فظيعاً وهو أبلغ من قوله {إمْراً} في الآية السابقة، ذكر القرطبي أن موسى عليه السلام لما قال للخضر {أقتلتَ نفساً زكيَّة} غضب واقتلع كتف الصبي الأيسر وقشر اللحم عنه فإذا مكتوب في عظم كتفه كافرٌ لا يؤمن بالله أبداً.

{قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِي صَبْرًا} أي ألم أقل لك أنتَ على التعيين والتحديد لن تستطيع الصبر على ما ترى مني؟ قال المفسرون: وقَّره في الأول فلم يواجهه بكاف الخطاب فلما خالف في الثاني واجهه بقوله {لك} لعدم العذر هنا، ويعود موسى لنفسه ويجد أنه خالف وعده مرتين، فيندفع ويقطع على نفسه الطريق ويجعلها آخر فرصةٍ أمامه {قَالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلا تُصَاحِبْنِي} أي إن أنكرت عليك بعد هذه المرة واعترضتُ على ما يصدر منك فلا تصحبني معك {قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا} أي قد أعذرت إليَّ في ترك مصاحبتي فأنت معذورٌ عندي لمخالفتي لك ثلاث مرات {فَانطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا} أي مشيا حتى وصلا إلى قرية، قال ابن عباس: هي انطاكية فطلبا طعاماً وكان أهلها لئاماً لا يطعمون جائعاً، ولا يستضيفون ضيفاً، فامتنعوا عن إضافتهما أو إطعامهما {فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنقَضَّ} أي وجداً حائطاً مائلاً يوشك أن يسقط ويقع {فَأَقَامَهُ} أي مسحه الخضر بيده فاستقام، وقيل إنه هدمه ثم بناه في القرية كلاهما مرويٌ عن ابن عباس {قَالَ لَوْ شِئْتَ لاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا} أي قال له موسى لو أخذت منهم أجراً نستعين به على شراء الطعام!! أنكر عليه موسى صنيع المعروف مع غير أهله، روي أن موسى قال للخضر: قومٌ استطعمناهم فلم يطعمونا، وضِفناهم فلم يضيّفونا، ثم قعدت تبني لهم الجدار لو شئتَ لاتخذت عليه أجراً! {قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ} أي قال الخضر: هذا وقت الفراق بيننا حسب قولك {سَأُنَبِّئُكَ بِتأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا} أي سأخبرك بحكمة هذه المسائل الثلاث التي أنكرتها عليَّ ولم تستطع عليها، وفي الحديث (رحم الله أخي موسى لوددت أنه صبر حتى يقص الله علينا من أمرهما ولو لبث مع صاحبه لأبصر العجب) {أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ} هذا بيانٌ وتفصيل للأحداث العجيبة التي رآها موسى ولم يطق لها صبراً، والمعنى أما السفينة التي خرقتها فكانت لأناس ضعفاء لا يقدرون على مدافعة الظَّلمة يشتغلون بها في البحر بقصد التكسب {فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا} أي أردتُ بخرقها أن أجعلها معيبة لئلا يغتصبها الملك الظالم {وَكَانَ وَرَاءهُمْ مَلِكٌ} أي كان أمامهم ملك كافر ظالمٌ {يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا} أي يغتصب كل سفينة صالحة لا عيب فيها {وَأَمَّا الْغُلامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ} أي وأما الغلام الذي قتلتُه فكان كافراً فاجراً وكان أبواه مؤمنين، وفي الحديث (إن الغلام الذي قتله الخضر طُبع كافراً، ولو عاش لأرهق أبويه طغياناً وكفراً) {فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا} أي فخفنا أن يحملهما حبُّه على اتَباعه في الكفر والضلال {فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا} أي فأردنا بقتله أن يرزقهما الله ولداً صالحاً خيراً من ذلك الكافر وأقربَ براً ورحمة بوالديه {وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَهُمَا} أي وأما الجدار الذي بنيتُه دون أجر والذي يوشك أن يسقط فقد خبئ تحته كنزٌ من ذهب وفضة لغلامين يتيمين {وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا} أي وكان والدهما صالحاً تقياً فحفظ الله لهما الكنز لصلاح الوالد، قال المفسرون: إن صلاح الآباء ينفع الأبناء، وتقوى الأصول تنفع الفروع {فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مِنْرَبِّكَ} أي فأراد الله بهذا الصنيع أن يكبرا ويشتد عودهما ويستخرجا كنزهما من تحت الجدار {رحمة من ربك} أي رحمةً من الله بهما لصلاح أبيهما {وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي} أي ما فعلتُ ما رأيتَ من خرْقِ السفينة، وقتل الغلام، وإِقامة الجدار عن رأيي واجتهادي، بل فعلته بأمر الله وإِلهامه {ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا} أي ذلك تفسير الأمور التي لم تستطع الصبر عليها وعارضت فيها قبل أن أخبرك عنها.





قصة ذي القرنين و يأجوج ومأجوج



{وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا(83)إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا(84)فَأَتْبَعَ سَبَبًا(85) حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِنْدَهَا قَوْمًا قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا(86)قَالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا(87)وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا(88)ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا(89)حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْرًا(90) كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْرًا(91)ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا(92)حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْمًا لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلا(93)قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا(94)قَالَ مَا مَكَّنِي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا(95)آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا(96)فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا(97)قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا(98)وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا(99)}



المنَــاسَبَة

لما ذكر تعالى قصة الخضر أعقبها بقصة ذي القرنين ورحلاته الثلاث إلى الغرب، والشرق، وإلى السَّدين، وبناؤه للسدّ في وجه "يأجوج ومأجوج" وهي القصة الرابعة من القصص المذكورة في هذه السورة، وجميعها ترتبط بالعقيدة والإِيمان، وهو الهدف الأصيل للسورة الكريمة.



سَبَبُ النّزول:

أ- قال قتادة: إن اليهود سألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن ذي القرنين فأنزل الله {وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ..} الآية.

ب- قال مجاهد: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال يا رسول الله: إني أتصدق، وأصلُ الرحم، ولا أصنع ذلك إلا لله تعالى، فيُذكر ذلك مني وأُحمد عليه فيسرني ذلك وأُعجب به، فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يقل شيئاً فأنزل الله {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} .



{وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ} أي يسألك اليهود يا محمد عن ذي القرنين ما شأنه؟ وما قصته؟ {قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا} أي قل لهم سأقص عليكم من نبأه وخبره قرآناً ووحياً {إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا} أي يسرنا له أسباب الملك والسلطان والفتح والعمران، وأعطيناه كل ما يحتاج إليه للوصول إلى غرضه من أسباب العلم والقدرة والتصرف، قال المفسرون: ذو القرنين هو "الاسكندر اليوناني" ملكَ المشرق والمغرب فسمي ذا القرنين، وكان ملكاً مؤمناً مكَّن الله له في الأرض فعدل في حكمه وأصلح، وكان في الفترة بين عيسى ومحمد صلوات الله عليهما، روي أن الذين ملكوا الأرض أربعة: مؤمنان وكافران، أما المؤمنان فسليمان وذو القرنين، وأما الكافران فنمرود وبختنصر {فَأَتْبَعَ سَبَبًا} أي سلك طريقه الذي يسره الله له وسار جهة المغرب {حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ} أي وصل المغرب {وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ} أي وجد الشمس تغرب في ماء وطين - حسب ما شاهد لا حسب الحقيقة - فإِن الشمس أعظم من أن تدخل في عين من عيون الأرض، قال الرازي: إن ذا القرنين لما بلغ أقصى المغرب ولم يبق بعده شيء من العمارات وجد الشمس كأنها تغرب في عين وهدة مظلمة وإِن لم تكن كذلك في الحقيقة كما أن راكب البحر يرى الشمس كأنها تغيب في البحر إِذا لم ير الشطَّ وهي في الحقيقة تغيب وراء البحر {وَوَجَدَ عِنْدَهَا قَوْمًا} أي وجد عند تلك العين الحارة ذات الطين قوماً من الأقوام {قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا} أي قلنا له بطريق الإِلهام: إما أن تقتلهم، أو تدعوهم بالحسنى إلى الهداية والإِيمان، قال المفسرون: كانوا كفاراً فخيرَّه الله بين أن يعذبهم بالقتل، أو يدعوهم إلى الإِسلام فيُحسن إليهم {قَالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ} أي من أصرَّ على الكفر فسوف نقتله {ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا} أي ثم يرجع إلى ربه فيعذبه عذاباً منكراً فظيعاً في نار جهنم {وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى} أي وأمّا من آمن بالله وأحسن العمل في الدنيا وقدَّم الصالحات فجزاؤه الجنة يتنعَّم فيها {وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا} أي نيسر عليه في الدنيا فلا نكلفه بما هو شاق بل بالسهل الميسِّر. اختار الملك العادل دعوتهم بالحسنى فمن آمن فله الجنة، والمعاملة الطيبة، والمعونة والتيسير، ومن بقي على الكفر فله العذاب والنكال في الدنيا والآخرة {ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا} أي سلك طريقاً بجنده نحو المشرق {حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ} أي حتى إِذا وصل أقصى المعمورة من جهة الشرق حيث مطلع الشمس في عين الرائي {وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْرًا} أي وجد الشمس تشرقُ على أقوامٍ ليس لهم من اللباس والبناء ما يسترهم من حر الشمس فإِذا طلعت الشمس دخلوا في أسراب تحت الأرض، وإِذا غربتْ خرجوا لمكاسبهم، قال قتادة: مضى ذو القرنين يفتح المدائن ويجمع الكنوز ويقتل الرجال إلاّ من آمن حتى أتى مطلع الشمس فأصاب قوماً من أسراب عراةً، ليس لهم طعام إلا ما أنضجته الشمس إذا طلعت، حتى إذا زالت عنهم الشمس خرجوا من أسرابهم في طلب معايشهم، وذُكر لنا أنهم كانوا في مكان لا يثبت عليه بنيان، ويقال إنهم الزنج {كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْرًا} أي كذلك فعل بأهل المشرق من آمن تركه ومن كفر قتله كما فعل بأهل المغرب وقد أحطنا علماً بأحواله وأخباره، وعتاده وجنوده، فأمرُه من العظمة وكثرة الرجال بحيث لا يحيط به إلا علم اللطيف الخبير {ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا} أي سلك طريقاً ثالثاً بين المشرق والمغرب يوصله جهة الشمال حيث الجبال الشاهقة {حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ} أي حتى إذا وصل إلى منطقة بين حاجزين عظيمين، بمنقطع أرض بلاد الترك مما يلي أرمينية وأذربيجان، قال الطبري: والسَّدُ: الحاجز بين الشيئين وهما هنا جبلان سُدَّ ما بينهما، فردَم ذو القرنين حاجزاً بين يأجوج ومأجوج من ورائهم ليقطع مادة غوائلهم وشرهم عنهم {وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْمًا لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً} أي وجد من وراء السدين قوماً متخلفين لا يكادون يعرفون لساناً غير لسانهم إلا بمشقة وعُسر، قال المفسرون: إنما كانوا لا يفقهون القول لغرابة لغتهم، وبطء فهمهم، وبعدهم عن مخالطة غيرهم، وما فهم كلامهم إلا بواسطة ترجمان {قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ} أي قال القوم لذي القرنين: إن يأجوج ومأجوج - قبيلتان من بني آدم في خلقهم تشويهٌ، منهم مفرطٌ في الطول، ومنهم مفرطٌ في القِصر - قومٌ مفسدون بالقتل والسلب والنهب وسائر وجوه الشر، قال المفسرون: كانوا من أكلة لحوم البشر، يخرجون في الربيع فلا يتركون أخضر إلا أكلوه، ولا يابساً إلا احتملوه {فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا} أي هل نفرض لك جزءاً من أموالنا كضريبة وخراج {عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا} أي لتجعل سداً يحمينا من شر يأجوج ومأجوج، قال أبو حيّان: هذا استدعاءٌ منهم لقبول ما يبذلونه على جهة حسن الأدب {قَالَ مَا مَكَّني فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ} أي ما بسطه الله عليَّ من القُدرة والمُلك خيرٌ مما تبذلونه لي من المال {فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ} أي لا حاجة لي إلى المال فأعينوني بالأيدي والرجال {أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا} أي أجعل بينكم وبينهم سداً منيعاً، وحاجزاً حصيناً، وهذه شهامة منه حيث رفض قبول المال وتطوَّع ببناء السد واكتفى بعون الرجال {آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ} أي أعطوني قطع الحديد واجعلوها لي في ذلك المكان {حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ} أي حتى إذا ساوى البناء بين جانبي الجبلين {قَالَ انفُخُوا} أي انفخوا بالمنافيخ عليه {حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ} أي جعل ذلك الحديد المتراكم كالنار بشدة الإِحماء {آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا} أي أعطوني أصبُّ عليه النحاس المذاب، قال الرازي: لما أتوه بقطع الحديد وضع بعضها على بعض حتى صارت بحيث تسدُّ ما بين الجبلين إلى أعلاهما، ثم وضع المنافخ عليها حتى إذا صارت كالنار صبَّ النحاس المذاب على الحديد المحمي فالتصق بعضه ببعض وصار جبلاً صلداً {فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ} أي فما استطاع المفسدون أن يعلوه ويتسوروه لعلوه وملاسته {وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا} أي وما استطاعوا نقبه من أسفل لصلابته وثخانته، وبهذا السد المنيع أغلق ذو القرنين الطريق على يأجوج ومأجوج {قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي} أي قال ذو القرنين: هذا السدُّ نعمةٌ من الله ورحمة على عباده {فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي} أي فإِذا جاء وعد الله بخروج يأجوج ومأجوج وذلك قرب قيام الساعة {جَعَلَهُ دَكَّاءَ} أي جعله الله مستوياً بالأرض وعاد متهدماً كأن لم يكن بالأمس {وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا} أي كان وعده تعالى بخراب السدِّ وقيام الساعة كائناً لا محالة .. وهنا تنتهي قصة ذي القرنين ثم يأتي الحديث عن أهوال الساعة وشدائد القيامة قال تعالى {وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ} أي تركنا الناس يوم قيام الساعة يضطرب بعضهم ببعض - لكثرتهم - كاضطراب موج البحر {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا} أي ونفخ في الصور النفخة الثانية فجمعناهم للحساب والجزاء في صعيد واحدٍ جمعاً لم يتخلف منهم أحد.



محاسبة الكفار



{وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكَافِرِينَ عَرْضًا(100)الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكَانُوا لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا(101) أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبَادِي مِنْ دُونِي أَوْلِيَاءَ إِنَّا أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ نُزُلاً(102)قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً(103)الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا(104)أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا(105)ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَرُسُلِي هُزُوًا(106)}



{وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكَافِرِينَ عَرْضًا} أي أبرزنا جهنم وأظهرناها للكافرين يوم جمع الخلائق حتى شاهدوها بأهوالها عرضاً مخيفاً مفزعاً {الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَنْ ذِكْرِي} أي هم الذين كانوا في الدنيا عُمياً عن دلائل قدرة الله ووحدانيته فلا ينظرون ولا يتفكرون {وَكَانُوا لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا} أي لا يطيقون أن يسمعوا كلام الله تعالى لظلمة قلوبهم، قال أبو السعود: وهذا تمثيلٌ لإِعراضهم عن الأدلة السمعية، وتعاميهم عن الآيات المشاهدة بالأبصار فكأنهم عميٌ صم {أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبَادِي مِنْ دُونِي أَوْلِيَاءَ} الهمزة للإِنكار والتوبيخ أي أفظنَّ الكافرون أن يتخذوا بعض عبادي آلهة يعبدونهم دوني كالملائكة وعزير والمسيح ابن مريم، وأن ذلك ينفعهم أو يدفع عنهم عذابي؟ قال القرطبي: جواب الاستفهام محذوف تقديره أفحسبوا أن ذلك ينفعهم، أو لا أعاقبهم ) إِنَّا أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ نُزُلاً} أي هيأنا جهنم وجعلناها ضيافةً لهم كالنُزُل المعد للضيف، قال البيضاوي: وفيه تهكمٌ بهم وتنبيهٌ على أن لهم وراءها من العذاب ما تستحقر جهنم دونه {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً} أي قل يا محمد لهؤلاء الكافرين هل نخبركم بأخسر الناس عند الله؟ {الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} أي بطل عملهم وضاع في هذه الحياة الدنيا لأن الكفر لا تنفع معه طاعة، قال الضحاك: هم القسيّسون والرهبان يتعبدون ويظنون أن عبادتهم تنفعهم وهي لا تقبل منهم {وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} أي يظنون أنهم محسنون بأفعالهم {أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ} أي كفروا بالقرآن وبالبعث والنشور فبطلت أعمالهم {فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا} أي ليس لهم عند الله قيمةٌ ولا وزن، ولا قدرٌ ولا منزلة، وفي الحديث (يُؤتى بالرجل الطويل الأكول الشروب فلا يزن جناح بعوضة) {ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَرُسُلِي هُزُوًا} أي ذلك جزاؤهم وعقوبتهم نارُ جهنم بسبب كفرهم واستهزائهم بآيات الله ورسله.



جزاء المؤمنين وسعة علم الله وتوحيده



{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً(107)خَالِدِينَ فِيهَا لا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلاً(108)قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا(109)قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا(110)}



{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} أي آمنوا بالله وعملوا بما يرضيه {كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً} أي لهم أعلى درجات الجنة وهي الفردوس منزلاً ومستقراً {خَالِدِينَ فِيهَا لا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلاً} أي ماكثين فيها أبداً لا يطلبون عنها تحولاً قال ابن رواحة: في جنانِ الفِردوس ليسَ يخافون خُروجاً عنها ولا تحويلاً {قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي} هذا تمثيلٌ لسعة علم الله والمعنى لو كانت بحار الدنيا حبراً ومداداً وكتبت به كلمات الله وحكمه وعجائبه {لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي} أي لفني ماء البحر على كثرته وانتهى، وكلامُ الله لا ينفد لأنه غير متناهٍ كعلمه جل وعلا {وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا} أي ولو أتينا بمثل ماء البحر وزدناه به حتى يكثر فإِن كلام الله لا يتناهى {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} أي قل لهم يا محمد إِنما أنا إِنسان مثلكم أكرمني الله بالوحي، وأمرني أن أخبركم أنه واحدٌ أحد لا شريك له {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ} أي فمن كان يرجو ثواب الله ويخاف عقابه {فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحًا} أي فليخلص له العبادة {وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} أي لا يرائي بعمله ولا يبتغي بما يعمل غير وجه الله، فإِن الله لا يقبل إلا ما كان خالصاً لوجهه الكريم.

yacine414
2011-03-26, 17:42
سورة مريم



دعاء زكريا عليه السلام طالباً من الله الولد، وتبشيره بيحيى

إيتاء يحيى عليه السلام التوراة والحكمة

حمل السيدة مريم بعيسى عليه السلام

ولادة عيسى عليه السلام

نبوة عيسى وكلامه في المهد وهو طفل

اختلاف النصارى في شأن عيسى عليه السلام

مناقشة إبراهيم عليه السلام أبيه في عبادة الأصنام

قصة موسى عليه السلام

قصة إسماعيل وإدريس عليهما السلام

من صفات الأنبياء: خشية الله والسجود له

تنزيل الوحي يكون بأمر الله عز وجل

من شبه المشركين إنكار البعث

من شبههم أيضاً مباهاتهم بحسن حالهم في الدنيا

قصة العاص بن وائل وجحوده بآيات ربه

اتخاذ الكفار الأصنام آلهة ليعزوا بهم من دون الله

الرد على من نسب الولد إلى الله

محبة المؤمنين وإهلاك المعاندين





بَين يَدَي السُّورَة



* سورة مريم مكية، وغرضها تقرير التوحيد، وتنزيه الله جل وعلا عما لا يليق به، وتثبيت عقيدة الإِيمان بالبعث والجزاء، ومحورُ هذه السورة يدور حول التوحيد، والإِيمان بوجود الله ووحدانيته، وبيان منهج المهتدين، ومنهج الضالين.



* عرضت السورة الكريمة لقصص بعض الأنبياء مبتدئةً بقصة نبي الله "زكريا" وولده "يحيى" الذي وهبه على الكبر من امرأةٍ عاقر لا تلد، ولكنَّ الله قادرٌ على كل شيء، يسمع دعاء المكروب، ويستجيب لنداء الملهوف، ولذلك استجاب الله دعاءه ورزقه الغلام النبيه.



* وعرضت السورة لقصة أعجب وأغرب، تلك هي قصة "مريم العذراء" وإِنجابها لطفلٍ من غير أب، وقد شاءت الحكمة الإِلهية أن تبرز تلك المعجزة الخارقة بميلاد عيسى من أم بلا أب، لتظل آثار القدرة الربانية ماثلةً أمام الأبصار، بعظمة الواحد القهار.



* وتحدثت كذلك عن قصة إبراهيم مع أبيه، ثم ذكرت بالثناء والتبجيل رسل الله الكرام : "إسحاق، يعقوب، موسى، هارون، إسماعيل، إدريس، نوحاً" وقد استغرق الحديث عن هؤلاء الرسل الكرام حوالي ثلثي السورة، والمقصد من ذلك إثبات "وحدة الرسالة" وأنَّ الرسل جميعاً جاءوا لدعوة الناس إلى توحيد الله، ونبذ الشرك والأوثان.



* وتحدثت السورة عن بعض مشاهد القيامة، وعن أهوال ذلك اليوم الرهيب، حيث يجثو فيه الكفرة المجرمون حول جهنم ليقذفوا فيها، ويكونوا وقوداً لها.



* وختمت السورة الكريمة بتنزيه الله عن الولد، والشريك، والنظير، وردَّت على ضلالات المشركين بأنصع بيان، وأقوى برهان.



التسـمِيـــة:

سميت "سورة مريم" تخليداً لتلك المعجزة الباهرة، في خلق إنسانٍ بلا أب، ثم إِنطاق الله للوليد وهو طفل في المهد، وما جرى من أحداث غريبة رافقت ميلاد عيسى عليه السلام.



دعاء زكريا عليه السلام طالباً من الله الولد، وتبشيره بيحيى



{كهيعص(1)ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا(2)إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا(3)قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا(4)وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتْ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا(5)يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا(6) يَازَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا(7)قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَكَانَتْ امْرَأَتِي عَاقِرًا وَقَدْ بَلَغْتُ مِنْ الْكِبَرِ عِتِيًّا(8)قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُنْ شَيْئًا(9)قَالَ رَبِّ اجْعَل لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا(10)فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنْ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا(11)}



{كهيعص} حروفٌ مقطعة للتنبيه على إعجاز القرآن وتقرأ: "كافْ، هَا، يَا، عَيْن، صَادْ" {ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا} أي هذا ذكرُ رحمةِ ربِّك لعبدِهِ زكريا نقصُّه عليك يا محمد {إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا} أي حين ناجى ربه ودعاه بصوت خفي لا يكاد يسمع، قال المفسرون: لأن الإِخفاء في الدعاء أدخلُ في الإِخلاص وأبعدُ من الرياء {قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي} أي دعا في ضراعة فقال يا رب: لقد ضعف عظمي، وذهبتْ قوتي من الكِبر {وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا} أي انتشر الشيب في رأسي انتشار النار في الهشيم {وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا} أي لم تخيّب دعائي في وقت من الأوقات بل عودتني الإِحسان والجميل فاستجب دعائي الآن كما كنت تستجيبه فيما مضى، قال البيضاوي: هذا توسلٌ بما سلف له من الاستجابة، وأنه تعالى عوَّده بالإِجابة وأطمعه فيها، ومن حقّ الكريم أن لا يخيِّب من أطمعه {وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي} أي خفت بني العم والعشيرة من بعد موتي أن يضيّعوا الدين ولا يُحسنوا وراثة العلم والنبوة {وَكَانَتْ امْرَأَتِي عَاقِرًا} أي لا تلد لكبر سنها أو لم تلدْ قطُّ {فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا} أي فارزقني من محض فضلك ولداً صالحاً يتولاني {يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ} أي يرثني ويرث أجداده في العلم والنبوة، قال البيضاوي: المراد وراثة الشرع والعلم فإِن الأنبياء لا يُوَرِّثون المال {وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا} أي اجعله يا رب مرضياً عندك، قال الرازي: قدَّم زكريا عليه السلام على طلب الولد أموراً ثلاثة: أحدها: كونه ضعيفاً، والثاني: أن الله ما ردَّ دعاءه البتة، والثالث: كون المطلوب بالدعاء سبباً للمنفعة في الدين ثم صرَّح بسؤال الولد وذلك مما يزيد الدعاء توكيداً لما فيه من الاعتماد على حول الله وقوته والتبري عن الأسباب الظاهرة {يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيَى} أي نبشرك بواسطة الملائكة بغلامٍ يسمى يحيى كما في آل عمران {فنادته الملائكة وهو قائمٌ يصلي في المحراب أنَّ الله يبشرك بيحيى} { لمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا} أي لم يسمَّ أحدٌ قبله بيحيى فهو اسم فذٌّ غير مسبوق سمّاه تعالى به ولم يترك تسميته لوالديه، وقال مجاهد: ليس له شبيه في الفضل والكمال {قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ} أي كيف يكون لي غلام؟ وهو استفهام تعجب وسرور بالأمر العجيب {وَكَانَتْ امْرَأَتِي عَاقِرًا} أي والحال أن امرأتي كبيرة السن لم تلد في شبابها فكيف وهي الآن عجوز!! {وَقَدْ بَلَغْتُ مِنْ الْكِبَرِ عِتِيًّا} أي بلغتُ في الكبر والشيخوخة نهاية العمر قال المفسرون: كان قد بلغ مئةً وعشرين سنة، وامرأتُه ثمانٍ وتسعين سنة، فأراد أن يطمئنَّ ويعرف الوسيلة التي يرزقه بها هذا الغلام {قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ} أي قال الله لزكريا: هكذا الأمر أخلقه من شيخين كبيرين، وخلقه وإِيجادُه سهلٌ يسيرٌ عليَّ {وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُنْ شَيْئا} أي كما خلقتُك من العدم ولم تكُ شيئاً مذكوراً فأنا قادر على خلق يحيى منكما قال المفسرون: ليس في الخلق هينٌ وصعبٌ على الله، فوسيلة الخلق للصغير والكبير، والجليل والحقير واحدةٌ {كن فيكون} وإِنما هو أهونُ في اعتبار الناس، فإِن القادر على الخلق من العدم قادرٌ على الخلق من شيخين هرمين {قال ربِّ اجعلْ لي آية} أي اجعل لي علامة تدل على حمل امرأتي {قَالَ آيَتُكَ أَلا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا} أي علامتك ألا تستطيع تكليم الناس ثلاثة أيام بلياليهن وأنت سويُّ الخلق ليس بك خرسٌ ولا علة، قال ابن عباس: اعتُقِل لسانه من غير مرض وقال ابن زيد: حُبس لسانه فكان لا يستطيع أن يكلم أحداً وهو مع ذلك يسبح ويقرأ التوراة لم يكن الإِنجيل ظهر بعد لأن هذا قبل ولادة عيسى عليه السلام فإِذا أراد كلام الناس لم يستطع أن يكلمهم {فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنْ الْمِحْرَابِ} أي أشرف عليهم من المصلّى وهو بتلك الصفة {فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا} أي أشار إلى قومه بأن سبّحوا الله في أوائل النهار وأواخره، وكان كلامه مع الناس بالإِشارة لقوله تعالى في آل عمران {قال آيتك ألا تكلم الناس ثلاثة أيامٍ إلا رمزاً} .



إيتاء يحيى عليه السلام التوراة والحكمة



{يَا يَحْيَى خُذْ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا(12)وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا وَزَكَاةً وَكَانَ تَقِيًّا(13)وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا(14)وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا(15)}



{يَا يَحْيَى خُذْ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ} في الكلام حذفٌ والتقدير فلما ولد يحيى وكبر وبلغ السنَّ الذي يؤمر فيه قال الله له: يا يحيى خذ التوراة بجدٍ واجتهاد {وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا} أي أعطيناه الحكمة ورجاحة العقل منذ الصغر، روي أن الصبيان قالوا ليحيى: اذهب بنا نلعبْ فقال لهم : ما للَّعب خلقت وقيل: أعطي النبوة منذ الصغر والأول أظهر قال الطبري: المعنى أعطيناه الفهم لكتاب الله في حال صباه قبل بلوغه سن الرجال {وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا وَزَكَاةً وَكَانَ تَقِيًّا} أي فعلنا ذلك رحمةً منا بأبويه وعطفاً عليه وتزكيةً له من الخصال الذميمة {وَكَانَ تَقِيًّا} أي عبداً صالحاً متقياً لله، لم يهمَّ بمعصيةٍ قط، قال ابن عباس: طاهراً لم يعمل بذنب {وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا} أي جعلناه باراً بأبيه وأُمه محسناً إليهما ولم يكن متكبراً عاصياً لربه {وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا} أي سلام عليه من الله من حين مولده إلى حين مبعثه، في يوم ولادته وفي يوم موته ويوم يُبعث من قبره، قال ابن عطية: حيَّاه في المواطن التي يكون الإنسان فيها في غاية الضعف، والحاجة، والافتقار إلى الله.





حمل السيدة مريم بعيسى عليه السلام



{وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذْ انتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا(16)فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا(17)قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنتَ تَقِيًّا(18)قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لأَهَبَ لَكِ غُلامًا زَكِيًّا(19)قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُنْ بَغِيًّا(20)قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا(21)فَحَمَلَتْهُ فَانتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا(22)}.



{وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ } هذه هي القصة الثانية في هذه السورة وهي أعجب من قصة "ميلاد يحيى" لأنها ولادة عذراء من غير بعل، وهي أغرب من ولادة عاقرٍ من بعلها الكبير في السن والمعنى اذكر يا محمد قصة مريم العجيبة الغريبة الدالة على كمال قدرة الله {إِذْ انتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا} أي حين تنحَّتْ واعتزلت أهلها في مكان شرقيِّ بيت المقدس لتتفرغ لعبادة الله {فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا} أي جعلت بينها وبين قومها ستراً وحاجزاً {فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا} أي أرسلنا إليها جبريل عليه السلام { فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا} أي تصوَّر لها في صورة البشر التام الخلقة، قال ابن عباس: جاءها في صورة شاب أبيض الوجه جعْدَ الشعر مستوي الخلقة، قال المفسرون: إنما تمثل لها في صورة الإنسان لتستأنس بكلامه ولا تنفر عنه، ولو بدا لها في الصورة الملكية لنفرتْ ولم تقدر على السماع لكلامه، ودلَّ على عفافها وورعها أنها تعوذت بالله من تلك الصورة الجميلة الفائقة في الحسن {قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنتَ تَقِيًّا} أي فلما رأته فزعت وخشيتْ أن يكون إنما أرادها بسوء فقالت: إني أحتمي بالله وألتجئ إلى الله منك، وجواب الشرط محذوفٌ تقديره إن كنت تقياً فاتركني ولا تؤذني {قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لأَهَبَ لَكِ غُلامًا زَكِيًّا} أي قال لها جبريل مزيلاً لما حصل عندها من الخوف: ما أنا إلا ملَكٌ مرسلٌ من عند الله إليك ليهبَ لك غلاماً طاهراً من الذنوب {قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ} أي كيف يكون لي غلام؟ وعلى أيّ صفةٍ يوجد هذا الغلام مني؟ {وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُنْ بَغِيًّا} أي ولستُ بذاتِ زوج حتى يأتيني ولد ولستُ بزانية {قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ} أي كذلك الأمر حكم ربُّك بمجيء الغلام منك وإن لم يكن لك زوج، فإنَّ ذلك على الله سهل يسير {وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا} أي وليكون مجيئه دلالةً للناس على قدرتنا العجيبة ورحمة لهم ببعثه نبياً يهتدون بإرشاده {وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا} أي وكان وجودة أمراً مفروغاً منه لا يتغيَّر ولا يتبدّل لأنه في سابق علم الله الأزَلي {فَحَمَلَتْهُ فَانتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا} انتهى الحوار بين الروح الأمين ومريم العذراء، قال المفسرون: إن جبريل نفخ في جيب درعها فدخلت النفخة في جوفها فحملت به وتنحت إلى مكان بعيد ومعنى الآية أنها حملت بالجنين فاعتزلت -وهو في بطنها- مكاناً بعيداً عن أهلها خشية أن يعيرّوها بالولادة من غير زوج.



ولادة عيسى عليه السلام



{فَأجَاءهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا(23)فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا(24)وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا(25) فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا فَإِمَّا تَرَيْنَ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيًّا}



{فَأَجَاءهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا} أي فألجأها ألَمُ الطَّلق وشدة الولادة إلى ساق نخلةٍ يابسة لتعتمد عليه عند الولادة {قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا} أي قالت يا ليتني كنت قد مِتُّ قبل هذا اليوم وكنت شيئاً تافهاً لا يُعرف ولا يُذكر، قال ابن كثير: عرفت أنها ستُبتلى وتُمتحن بهذا المولود فتمنت الموت لأنها عرفت أن الناس لا يصدقونها في خبرها، وبعدما كانت عندهم عابدةً ناسكة تصبح عاهرة زانية ولذلك قالت ما قالت {فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلا تَحْزَنِي} أي فناداها الملك من تحت النخلة قائلاً لها: لا تحزني لهذا الأمر {قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا} أي جعل لك جدولاً صغيراً يجري أمامك، قال ابن عباس: ضرب جبريل برجله الأرض فظهرت عين ماءٍ عذب فجرى جدولاً {وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ} أي حركي جذع النخلة اليابسة {تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا} أي يتساقط عليك الرُّطب الشهيُّ الطريُّ قال المفسرون: أمرها بهز الجذع اليابس لترى آية أخرى في إحياء موات الجذع بعد رؤيتها عين الماء العذب الذي جرى جدولاً، وذلك ليسكن ألمها وتعلم أن ذلك كرامةً من الله لها {فَكُلِي وَاشْرَبِي} أي كلي من هذا الرطب الشهي، واشربي من هذا الماء العذب السلسبيل {وَقَرِّي عَيْنًا} أي طيبي نفساً بهذا المولود ولا تحزني {فَإِمَّا تَرَيْنَ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا} أي فإِن رأيتِ أحداً من الناس وسألكِ عن شأن المولود {فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا} أي نذرت السكوتَ والصمت لله تعالى {فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيًّا} أي لن أكلّم أحداً من الناس .. أُمِرت بالكفّ عن الكلام ليكفيها ولدها ذلك فتكون آية باهرة.

yacine414
2011-03-26, 17:46
نبوة عيسى وكلامه في المهد وهو طفل



{فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا(27)يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا(28)فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا(29)قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِي الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا(30) وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ ‎وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا(31)وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا(32)وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا(33)}

{فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ} أي أتتْ قومها بعد أن طهرت من النفاس تحمل ولدها عيسى على يديها {قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئا فَرِيًّا} أي فلما رأوها وابنها أعظموا أمرها واستنكروه وقالوا لها: لقد جئتِ شيئاً عظيماً مُنكراً {يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ} أي يا شبيهة هارون في الصلاح والعبادة ما كان أبوك رجلاً فاجراً ) وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا} أي وما كانت أُمكِ زانية فكيف صدر هذا منك وأنت من بيتٍ طاهر معروفٍ بالصلاح والعبادة؟ قال قتادة: كان هارون رجلاً صالحاً في بني إسرائيل مشهوراً بالصلاح فشبهوها به، وليس بهارون أخي موسى لأن بينهما ما يزيد على ألف عام، وقال السهيلي: هارون رجل من عُبّاد بني إسرائيل المجتهدين كانت مريم تُشبّه به في اجتهادها وليس بهارون أخي موسى بن عمران فإن بينهما دهراً طويلاً {فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ} أي لم تجبهم وأشارت إلى عيسى ليكلموه ويسألوه {قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا} أي قالوا متعجبين: كيف نكلم طفلاً رضيعاً لا يزال في السرير يغتذي بلبان أُمه؟ قال الرازي: روي أنه كان يرضع فلما سمع ذلك ترك الرضاع وأقبل عليهم بوجهه وكلمهم، ثم لم يتكلم حتى بلغ مبلغاً يتكلم فيه الصبيان {قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ} أي قال عيسى في كلامه حين كلمهم: أنا عبدٌ لله خلقني بقدرته من دون أب، قدّم ذكر العبودية، ليُبطل قول من ادّعى فيه الربوبية {آتَانِي الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا} أي قضى ربي أن يؤتيني الإِنجيل ويجعلني نبياً، وإِنما جاء بلفظ الماضي لإِفادة تحققه فإِن ما حكم به الله أزلاً لا بدَّ إلا أن يقع {وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَينَ مَا كُنتُ} أي جعل فيَّ البركة والخير والنفع للعباد حيثما كنت وأينما حللت {‎وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا} أي أوصاني بالمحافظة على الصلاة والزكاة مدة حياتي {وَبَرًّا بِوَالِدَتِي} أي وجعلني باراً بوالدتي محسناً لها {وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا} أي ولم يجعلني متعظماً متكبراً على أحد شقياً في حياتي {وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا} أي سلام الله عليَّ في يوم ولادتي، وفي يوم مماتي، وفي يوم خروجي حياً من قبري، هذا ما نطق به المسيح عليه السلام وهو طفل رضيع في المهد .. وهكذا يعلن عيسى عبوديته لله، فليس هو إلهاً، ولا ابن إله، ولا ثالث ثلاثة كما يزعم النصارى، إنما عبدٌ ورسول، يحيا ويموت كسائر البشر، خلقه الله من أُم دون أب ليكون آية على قدرة الله الباهرة، ولهذا جاء التعقيب المباشر.



اختلاف النصارى في شأن عيسى عليه السلام



{ذَلِكَ عِسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ(34)مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ(35) وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ(36)فَاخْتَلَفَ الأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ(37)أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا لَكِنْ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ(38)وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ(39)إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ(40)}



{ذَلِكَ عِسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ} أي ذلك هو القول الحقُّ في عيسى ابن مريم لا ما يصفه النصارى من أنه ابن الله، أو اليهود من أنه ابن زنى ويشكّون في أمره ويمترون {مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ} أي ما ينبغي لله ولا يجوز له أن يتخذ ولداً {سُبْحَانَهُ} أي تنزَّه الله عن الولد والشريك {إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ} أي إذا أراد شيئاً وحكم به قال له كنْ فكان، ولا يحتاج إلى معاناةٍ أو تعب، ومن كان هذا شأنه كيف يتوهم أن يكون له ولد؟ قال المفسرون: وهذا كالدليل لما سبق كأنه قال: إن اتخاذ الولد شأن العاجز الضعيف المحتاج الذي لا يقدر على شيء، وأما القادر الغني الذي يقول للشيء {كُنْ فَيَكُونُ} فلا يحتاج في اتخاذ الولد إلى إِحبال الأنثى وحيث أوجده بقوله { كُنْ} لا يسمى ابناً له بل هو عبده، فهو تبكيتٌ وإِلزام لهم بالحجج الباهرة {وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} أي وممّا أمرَ به عيسى قومَه وهو في المهد أن أخبرهم أن الله ربه وربهم فليفردوه بالعبادة هذا هو الدين القويم الذي لا اعوجاج فيه {فَاخْتَلَفَ الأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ} أي اختلفت الفرق من أهل الكتاب في أمر عيسى وصاروا أحزاباً متفرقين، فمنهم من يزعم أنه ابن الله، ومنهم من يزعم أنه ابن زنى {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ} أي ويلٌ لهم من المشهد الهائل ومن شهود هول الحساب والجزاء {أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا} أي ما أسمعهم وأبصرهم في ذلك اليوم الرهيب {لَكِنْ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} أي لكنْ الظالمون في هذه الدنيا في بعدٍ وغفلة عن الحق واضح جلي {وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ} أي أنذر الخلائق وخوّفهم يوم القيامة يوم يتحسر المسيء إذ لم يُحسن، والمقصر إذ لم يزدد من الخير {إِذْ قُضِيَ الأَمْرُ} أي قُضي أمرُ الله في الناس، فريقٌ في الجنة وفريق في السعير {وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ} أي وهم اليوم في غفلةٍ سادرون {وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} أي لا يصدقون بالبعث والنشور {إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا} أي نحن الوارثون للأرض وما عليها من الكنوز والبشر {وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ} أي مرجع الخلائق ومصيرهم إلينا للحساب والجزاء.





مناقشة إبراهيم عليه السلام أبيه في عبادة الأصنام



{وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا(41) إِذْ قَالَ لأَبِيهِ يَاأَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا(42)يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا(43)يَا أَبَتِ لا تَعْبُدْ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَانِ عَصِيًّا(44)يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَانِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا(45)قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْراهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنتَهِ لأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا(46)قَالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا(47)وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا(48)فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلاًّ جَعَلْنَا نَبِيًّا(49)وَوَهَبْنَا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا(50)}



المنَـاسَبـَة:

لما ذكر تعالى "قصة مريم" واختلاف النصارى في شأن عيسى حتى عبدوه من دون الله، أعقبها بذكر "قصة إبراهيم" وتحطيمه الأصنام لتذكير الناس بما كان عليه خليل الرحمن من توحيد الربّ الديّان، وسواء في الضلال من عبد بشراً أو عبد حجراً، فالنصارى عبدوا المسيح، ومشركو العرب عبدوا الأوثان.



{وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ} أي اذكر يا محمد في الكتاب العزيز خليل الرحمن إبراهيم عليه السلام {إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا} أي ملازماً للصدق مبالغاً فيه، جامعاً بين الصّديقية والنبوة، والغرضُ تنبيه العرب إلى فضل إبراهيم الذي يزعمون الانتساب إليه ثم يعبدون الأوثان مع أنه إمام الحنفاء وقد جاء بالتوحيد الصافي الذي دعاهم إليه خاتم المرسلين {إِذْ قَالَ لأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا} أي ناداه متلطفاً بخطابه، مستميلاً له نحو الهداية والإيمان، يا أبت لم تعبد حجراً لا يسمع ولا يبصر، ولا يجلب لك نفعاً أو يدفع عنك ضراً؟ {يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ} كرّر النصح باللطف ولم يصف أباه بالجهل الشنيع في عبادته للأصنام وإِنما ترفق وتلطف في كلامه أي جاءني من العلم بالله ومعرفة صفاته القدسية ما لا تعلمه أنت {فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا} أي اقبل نصيحتي وأطعني أرشدك إلى طريق مستقيم فيه النجاة من المهالك وهو دين الله الذي لا عوَج فيه {يَا أَبَتِ لا تَعْبُدْ الشَّيْطَانَ} أي لا تطع أمر الشيطان في الكفر وعبادة الأوثان {إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَانِ عَصِيًّا} أي إن الشيطان عاصٍ للرحمن، مستكبر على عبادة ربه، فمن أطاعه أغواه، قال القرطبي: وإنما عبّر بالعبادة عن الطاعة لأن من أطاع شيئاً في معصية الله فقد عبده {يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَانِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا} تحذيرٌ من سوء العاقبة والمعنى أخاف أن تموت على كفرك فيحل بك عذاب الله الأليم وتكون قريناً للشيطان بالخلود في النيران قال الإمام الفخر الرازي: وإِيراد الكلام بلفظ {يَا أَبَتِ} في كل خطاب دليل على شدة الحب والرغبة في صونه عن العقاب، وإِرشاده إلى الصواب، وقد رتَّب إبراهيم الكلام في غاية الحسن، لأنه نبَّهه أولاً إلى بطلان عبادة الأوثان، ثم أمره باتباعه في الاستدلال وترك التقليد الأعمى، ثم ذكَّره بأن طاعة الشيطان غير جائزة في العقول، ثم ختم الكلام بالوعيد الزاجر عن الإِقدام مع رعاية الأدب والرفق، وقوله {إِنِّي أَخَافُ} دليلٌ على شدة تعلق قلبه بمصالحه قضاءً لحق الأبوَّة {قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْراهِيمُ} أي قال له أبوه آزر : أتارك يا إبراهيم عبادة آلهتي ومنصرفٌ عنها؟ استفهامٌ فيه معنى التعجب والإِنكار لإِعراضه عن عبادة الأوثان كأن ترك عبادتها لا يصدر عن عاقل، قال البيضاوي: قابل أبوه استعطافه ولطفه في الإِرشاد بالفظاظة وغلظة العناد، فناداه باسمه ولم يقابل قوله {يا أبتِ} بـ"يا ابني" وقدَّم الخبر وصدَّره بالهمزة لإِنكار نفس الرغبة كأنها مما لا يرغب عنها عاقل، ثم هدَّده بقوله {لَئِنْ لَمْ تَنتَهِ لأَرْجُمَنَّكَ} أي لئن لم تترك شتم وعيب آلهتي لأرجمنك بالحجارة {وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا} أي اهجرني دهراً طويلاً قال السديُّ: أبداً .. بهذه الجهالة تلقى "آزر" الدعوة إلى الهدى، وبهذه القسوة قابل القول المؤدَّب المهذَّب، وكذلك شأن الكفر مع الإِيمان، وشأن القلب الذي هذَّبه الإِيمان، والقلب الذي أفسده الطغيان {قَالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي} أي قال إبراهيم في جوابه: أمَّا أنا فلا ينالك مني أذى ولا مكروه، ولا أقول لك بعدُ ما يؤذيك لحرمة الأبوَّة، وسأسأل الله أن يهديك ويغفر لك ذنبك {إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا} أي مبالغاً في اللطف بي والاعتناء بشأني {وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ}أي أترككم وما تعبدون من الأوثان وأرتحل عن دياركم {وَأَدْعُو رَبِّي} أي وأعبد ربي وحده مخلصاً له العبادة {عَسَى أَلا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا} أي راجياً بسبب إخلاصي العبادة له ألاَّ يجعلني شقياً، وفيه تعريضٌ بشقاوتهم بدعاء آلهتهم .. وهكذا اعتزل إبراهيم أباه وقومه وعبادتهم للأوثان، وهجر الأهل والأوطان، فلم يتركه الله وحيداً بل وهب له ذريةً وعوَّضه خيراً {فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ} قال المفسرون: لما هاجر إبراهيم إلى أرض الشام، واعتزل أباه وقومه في الله، أبدله الله من هو خيرٌ منهم، فوهب له إسحاق ويعقوب أولاداً أنبياء، فآنس الله بهما وحشته عن فراق قومه بأولئك الأولاد الأطهار، ويعقوبُ ابن اسحق، وهما شجرتا الأنبياء فقد جاء من نسلهما أنبياء بني إسرائيل، قال ابن كثير: المعنى جعلنا له نسلاً وعقباً أنبياء، أقرَّ الله بهم عينه في حياته بالنبوة ولهذا قال {وَكُلاًّ جَعَلْنَا نَبِيًّا} أي كل واحدٍ منهما جعلناه نبياً {وَوَهَبْنَا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنَا} أي أعطينا الجميعَ - إبراهيم وإِسحاق ويعقوب - كل الخير الديني والدنيوي، من المال والولد والعلم والعمل {وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا} أي جعلنا لهم ذكراً حسناً في الناس، لأن جميع أهل الملل والأديان يثنون عليهم لما لهم من الخصال المرضية، ويُصلون على إِبراهيم وعلى آله إلى قيام الساعة، قال الطبري: أي رزقناهم الثناء الحسن، والذكر الجميل في الناس.



قصة موسى عليه السلام



{وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصًا وَكَانَ رَسُولاً نَبِيًّا (51)وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا(52)وَوَهَبْنَا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيًّا(53)}



{وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى} أي اذكر يا محمد لقومك في القرآن العظيم خبر موسى الكليم {إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصًا} أي استخلصه الله لنفسه، واصطفاه من بين الخلق لكلامه {وَكَانَ رَسُولاً نَبِيًّا} أي من الرسل الكبار، والأنبياء الأطهار، جمع الله له بين الوصفين الجليلين، وإنما أعاد لفظ "كان"لتفخيم شأن النبي المذكور {وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الأَيْمَنِ} أي نادينا موسى من جهة جبل الطور من ناحية اليمين حين كلمناه بلا واسطة {وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا} أي أدْنيناه للمناجاة حين كلمناه، قال ابن عباس: أُدني موسى من الملكوت ورُفعت له الحُجُب حتى سمع صريف الأقلام، قال الزمخشري: شبّهه بمن قرَّبه بعض العظماء للمناجاة حيث كلَّمه بغير واسطة ملك {وَوَهَبْنَا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيًّا} أي وهبنا له من نعمتنا عليه أخاه هارون فجعلناه نبياً إجابة لدعائه حين قال {وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي هَارُونَ أَخِي} جعلناه له عضُداً وناصراً ومعيناً.



قصة إسماعيل وإدريس عليهما السلام



{وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولا نَبِيًّا(54)وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا(55)وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا(56) وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا(57)}



{وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ} أي اذكر يا محمد في القرآن العظيم خبر جدّك "إسماعيل" الذبيح ابن إبراهيم، وهو أبو العرب جميعاً {إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ} أي كان صادقاً في وعده، لا يعد بوعدٍ إلا وفى به، قال المفسرون: وذُكر بصدق الوعد وإِن كان موجوداً في غيره من الأنبياء تشريفاً وإِكراماً، ولأنه عانى في الوفاء بالوعد ما لم يعانه غيره من الأنبياء، فمن مواعيده الصبر وتسليم نفسه للذبح فلذلك أثنى الله عليه {وَكَانَ رَسُولاً نَبِيًّا} أي جمع الله له بين الرسالة والنبوة، قال ابن كثير: وفي الآية دليل على شرف إسماعيل على أخيه إسحاق لأنه إِنما وُصف بالنبوة فقط، وإِسماعيل وصف بالنبوة والرسالة، ومن إسماعيل جاء خاتم المرسلين محمد صلى الله عليه وسلم {وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ} أي كان يحث أهله على طاعة الله، وبخاصة الصلاة التي هي عماد الدين، والزكاة التي بها تتحقق سعادة المجتمع {وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا} أي نال رضى الله، قال الرازي: وهذا نهاية المدح لأن المرضيَّ عند الله هو الفائز في كل طاعاته بأعلى الدرجات {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا} أي اذكر يا محمد في الكتاب الجليل خبر إدريس إنه كان ملازماً للصدق في جميع أحواله، موحى إليه من الله، قال المفسرون: إدريس هو جد نوح، وأول مرسل بعد آدم، وأول من خط بالقلم ولبس المخيط، وكانوا من قبل يلبسون الجلود، وقد أنزل الله عليه ثلاثين صحيفة {وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا} أي رفعنا ذكره وأعلينا قدره، بشرف النبوة والزلفى عند الله.



من صفات الأنبياء: خشية الله والسجود له



{أُوْلَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَانِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا(58)}



{أُوْلَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ} أي أولئك المذكورون هم أنبياء الله ورسله الكرام، الذين قصصنا عليك خبرهم في هذه السورة -وهم عشرة أولهم زكريا وآخرهم إدريس - وهم الذين أنعم الله عليهم بشرف النبوة {مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ} أي من نسل آدم كإِدريس {وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ} كإِبراهيم فإِنه من ذرية سام بن نوح {وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ } كإِسماعيل وإِسحاق ويعقوب {وَإِسْرَائِيلَ} أي ومن ذرية إسرائيل وهو "يعقوب" كموسى وهارون وزكريا ويحيى وعيسى {وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا} أي وممن هديناهم للإِيمان واصطفيناهم لرسالتنا ووحينا {إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَانِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا} أي إذا سمعوا كلام الله سجدوا وبكوا من خشية الله مع ما لهم من علو الرتبة، وسموِّ النفس، والزلفى من الله تعالى، قال القرطبي: وفي الآية دلالة على أن لآياتِ الرحمن تأثيراً في القلوب.



صفات خلق الأنبياء وجزاء التائبين



{فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا(59)إِلا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئًا(60)جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمَانُ عِبَادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا(61)لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا إِلا سَلامًا وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا(62)تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيًّا(63)}



{فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ} أي جاء من بعد الأتقياء قومٌ أشقياء، تركوا الصلوات وسلكوا طريق الشهوات {فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا} أي سوف يلقون كل شرٍّ وخسارٍ ودمار، قال ابن عباس: غيٌّ وادٍ في جهنم، وإِن أودية جهنم لتستعيذ بالله من حره {إِلا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا} أي إلا من تاب وأناب وأصلح عمله {فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئًا} أي فأولئك يُسعدون في الجنة ولا يُنقصون من جزاء أعمالهم شيئاً {جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمَانُ عِبَادَهُ بِالْغَيْبِ} أي هي جنات إقامة التي وعدهم بها ربهم فآمنوا بها بالغيب قبل أن يروها تصديقاً بوعده تعالى {إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا} أي إن وعده تعالى بالجنة آتٍ وحاصلٌ لا يُخلف {لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا إِلا سَلامًا} أي لا يسمعون في الجنة شيئاً من فضول الكلام، لكنْ يسمعون تسليم الملائكة عليهم على وجه التحية والإِكرام، والاستثناء منقطع {وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا} أي ولهم ما يشتهون في الجنة من أنواع المطاعم والمشارب بدون كدٍّ ولا تعب، ولا تنغصٍ ولا انقطاع {تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيًّا} أي هذه الجنة التي وصفنا أحوال أهلها هي التي نورثها لعبادنا المتقين.



تنزيل الوحي يكون بأمر الله عز وجل



{وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا(64) رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا(65)}



{وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلا بِأَمْرِ رَبِّكَ} هذا من كلام جبريل لرسول الله صلى الله عليه وسلم حين احتبس عنه فترةً من الزمن والمعنى: ما نتنزّل إلى الدنيا إلا بأمر الله وإذنه {لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ} أي لله جل وعلا جميع الأمر، أمر الدنيا والآخرة، وهو المحيط بكل شيء لا تخفى عليه خافية، ولا يعزب عنه مثقال ذرة، فكيف نقدم على فعل شيء إلا بأمره وإِذنه؟ {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} أي لا ينسى شيئاً من أعمال العباد {رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ} أي هو ربُّ العوالم علويها وسفليها فاعبده وحده {وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ} أي اصبر على تكاليف العبادة {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} أي هل تعلم له شبيهاً ونظيراً؟



من شبه المشركين إنكار البعث



{وَيَقُولُ الإِنسَانُ أَئِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا(66)أَوَلا يَذْكُرُ الإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُنْ شَيْئًا(67)فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا(68)ثُمَّ لَنَنزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَانِ عِتِيًّا(69)ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلَى بِهَا صِلِيًّا(70) وَإِنْ مِنْكُمْ إِلا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا(71)ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا(72)}



المنـَاسَبــَة:

لما ذكر تعالى طائفةً من قصص الأنبياء للعظة والاعتبار، وكان الغرضُ الأساسي للسورة الكريمة إثبات قدرة الله على الإِحياء والإِفناء، وإثباتُ يوم المعاد، ذكر تعالى هنا بعض شبهات المكذبين للبعث والنشور وردَّ عليها بالحجج القاطعة، والبراهين الساطعة، وختم السورة الكريمة ببيان مآل السعداء والأشقياء.

سَبَبُ النّزول:

عن خباب بن الأرت قال: كنتُ رجلاً قيناً -أي حداداً- وكان لي على العاص بن وائل دينٌ فأتيتُه أتقاضاه، فقال: لا والله لا أقضيك حتى تكفر بمحمد، فقلت: لا والله لا أكفر بمحمد حتى تموت ثم تبعث -أي تموت الآن وتبعث أمامي وهذا من باب المستحيل، قال: فإني إذا متُّ ثم بُعثتُ جئتني ولي ثمَّ مالٌ فأعطيتك، فأنزل الله {أفرأيت الذي كفر بآياتنا وقال لأُوتينَّ مالاً وولداً} .



{وَيَقُولُ الإِنسَانُ أَئِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا} أي يقول الكافر الذي لا يصدق بالبعث بعد الموت على وجه الإِنكار والاستبعاد: أئذا متُّ وأصبحت تراباً ورفاتاً فسوف أُخرج من القبر حياً؟ قال ابن كثير: يتعجب ويستبعد إعادته بعد موته، واللام "لسوف" للمبالغة في الإنكار، وهو إنكار منشؤه غفلة الإنسان عن نشأته الأولى، أين كان؟ وكيف كان؟ ولو تذكّر لعلم أن الأمر أيسر مما يتصور {أَوَلا يَذْكُرُ الإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُنْ شَيْئًا} أي أولاَ يتذكر هذا المكذّب الجاحد أول خلقه فيستدل بالبداءة على الإِعادة؟ ويعلم أن الله الذي خلقه من العدم قادرٌ على أن يعيده بعد الفناء وتشتت الأجزاء؟ قال بعضُ العلماء: لو اجتمع كل الخلائق على إيراد حجةٍ في البعث على هذا الاختصار لما قدروا عليها، إذْ لا شكَّ أنَّ الإِعادة ثانياً أهونُ من الإِيجاد أولاً، ونظيره قوله {قل يُحييها الذي أنشأها أول مرة} {فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ} أي فوربك يا محمد لنحشرنَّ هؤلاء المكذبين بالبعث مع الشياطين الذين أغروهم، قال المفسرون: يُحشر كل كافر مع شيطان في سلسلة {ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا} أي نحضر هؤلاء المجرمين حول جهنم قعوداً على الركب من شدة الهول والفزع، لا يطيقون القيام على أرجلهم لما يدهمهم من شدة الأمر {ثُمَّ لَنَنزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ} أي لنأخذنَّ ولننتزعنَّ من كل فرقةٍ وجماعة ارتبطت بمذهب {أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَانِ عِتِيًّا} أي من منهم أعصى لله وأشد تمرداً، والمراد أنه يؤخذ من هؤلاء المجرمين ليقذف في جهنم الأعتى فالأعتى، قال ابن مسعود: يُبدأ بالأكابر جرماً {ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلَى بِهَا صِلِيًّا} أي نحن أعلم بمن هم أحق بدخول النار، والاصطلاء بحرها، وبمن يستحق تضعيف العذاب فنبدأ بهم {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلا وَارِدُهَا} أي ما منكم أحدٌ من برٍ أو فاجر ألاّ وسيرد على النار، المؤمن للعبور والكافر للقرار {كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا} أي كان ذلك الورود قضاءً لازماً لا يمكن خُلفه {ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا} أي ننجّي من جهنم المتقين بعد مرور الجميع عليها {وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا} أي ونترك الظالمين في جهنم قعوداً على الركب، قال البيضاوي: والآية دليلٌ على أن المراد بالورود الجثوُّ حواليها، وأن المؤمنين يفارقون الفجرة إلى الجنة بعد نجاتهم، ويبقى الفجرة فيها على هيئاتهم.



من شبههم أيضاً مباهاتهم بحسن حالهم في الدنيا



{وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقَامًا وَأَحْسَنُ نَدِيًّا(73)وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثًا وَرِئْيًا(74)قُلْ مَنْ كَانَ فِي الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَانُ مَدًّا حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذَابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضْعَفُ جُندًا(75) وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ مَرَدًّا(76)}



{وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ} أي وإِذا قرئت على المشركين آيات القرآن المبين، واضحات الإِعجاز، بينات المعاني {قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقَامًا وَأَحْسَنُ نَدِيًّا} أي قال الكفرة المترفون لفقراء المؤمنين أيُّ الفريقين: - نحن أو أنتم - أحسنُ مسكناً، وأطيب عيشاً، وأكرم منتدى ومجلساً؟ قال البيضاوي: إن المشركين لما سمعوا الآيات الواضحات وعجزوا عن معارضتها، أخذوا في الافتخار بما لهم من حظوظ الدنيا والاستدلال بزيادة حظهم فيها على فضلهم وحسن حالهم لقصور نظرهم، فردَّ الله عليهم بقوله {وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثًا وَرِئْيًا} أي وكثير من الأمم المكذبين بآياتنا أهلكناهم بكفرهم كانوا أكثر من هؤلاء متاعاً، وأجمل صورةً ومنظراً، فكما أهلكنا السابقين نهلك اللاحقين، فلا يغترَّ هؤلاء بما لديهم من النعيم والمتاع {قُلْ مَنْ كَانَ فِي الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَانُ مَدًّا} أي قل يا محمد لهؤلاء المشركين الزاعمين أنهم على حق: من كان في الضلالة منا ومنكم فليمهله الرحمن فيما هو فيه، وليدعْه في طغيانه، حتى يلقى ربه وينقضي أجله، قال القرطبي: وهذا غايةٌ في التهديد والوعيد {حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ} أي حتى يروا ما يحلُّ بهم من وعد الله {إِمَّا الْعَذَابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ} أي إِمَّا عذاب الدنيا بالقتل والأَسر، أو عذاب الآخرة بما ينالهم يوم القيامة من الشدائد والأهوال {فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضْعَفُ جُندًا} أي فسيعلمون عندئذ حين تنكشف الحقائق أي الفريقين شرُّ منزلة عند الله، وأقل فئة وأنصاراً، هل هم الكفار أم المؤمنون ؟ وهذا في مقابلة قولهم {خَيْرٌ مَقَامًا وَأَحْسَنُ نَدِيًّا} {وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى} أي ويزيد الله المؤمنين المهتدين، بصيرةً وإِيماناً وهداية {وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا} أي والأعمال الصالحة التي تبقى لصاحبها ذخراً في الآخرة خير عند الله من كل ما يتباهى به أهل الأرض من حيث الأجر والثواب {وَخَيْرٌ مَرَدًّا} أي وخير رجوعاً وعاقبة، فإن نعيم الدنيا زائل ونعيم الآخرة باقٍ دائم.



قصة العاص بن وائل وجحوده بآيات ربه



{أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لأُوتَيَنَّ مَالا وَوَلَدًا(77)أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمْ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا(78)كَلا سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدًّا(79)وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينَا فَرْدًا(80)}.

{أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لأُوتَيَنَّ مَالاً وَوَلَدًا} نزلت في العاص بن وائل، والاستفهام للتعجب أي تعجَّب يا محمد من قصة هذا الكافر الذي جحد بآيات الله وزعم أن الله سيعطيه في الآخرة المال والبنين {أطَّلَعَ الْغَيْبَ} أي هل اطَّلع على الغيب الذي تفرَّد به علاّم الغيوب؟ {أَمْ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا} أي أم أعطاه الله عهداً بذلك فهو يتكلم عن ثقةٍ ويقين؟ {كَلا سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ} ردٌّ عليه، ولفظةُ "كلاَّ" للردع والزجر أي ليرتدع ذلك الفاجر عن تلك المقالة الشنيعة فسنكتب ما يقول عليه {وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدًّا} أي سنزيد له في العذاب ونطيله عليه جزاء طغيانه واستهزائه، ونضاعف له مدد العذاب مكان الإِمداد بالمال والولد {وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينَا فَرْدًا} أي ونرثه ما يخلفه من المال والولد بعد إهلاكه، ويأتينا وحيداً لا مال معه ولا ولد، ولا نصير له ولا سند.



اتخاذ الكفار الأصنام آلهة ليعزوا بهم من دون الله



{وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا(81)كَلا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا(82) أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا(83)فَلا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا(84)يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا(85)وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا(86)لا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلا مَنْ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا(87)}



{وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا} أي واتخذ المشركون أصناماً عبدوها من دون الله لينالوا بها العزَّ والشرف {كَلا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا} أي ليس الأمر كما ظنوا وتوهموا فإِن الآلهة التي عبدوها ستبرأ من عبادتهم ويكونون لهم أعداء يوم القيامة {أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا} أي ألم تر يا محمد أنَّا سلَّطنا الشياطين على الكافرين تُغريهم إغراءً بالشر، وتهيّجُهم تهييجاً حتى يركبوا المعاصي قال الرازي: أي تغريهم على المعاصي وتحثُّهم وتهيّجهم لها بالوساوس والتسويلات {فَلا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا} أي لا تتعجل يا محمد في طلب هلاكهم فإِنه لم يبق له إلا أيام وأنفاس نعدُّها عليهم عدّاً ثم يصيرون إلى عذاب شديد قال ابن عباس: نعدُّ أنفاسهم في الدنيا كما نعدُّ عليهم سنيَّهم {يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا} أي يوم نحشر المتقين إلى ربهم معزَّزين مكرَّمين، راكبين على النوق كما يفد الوفود على الملوك منتظرين لكرامتهم وإِنعامهم {وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا} أي ونسوق المجرمين كما تُساق البهائم مشاةً عطاشاً كأنهم إبلٌ عطاش تُساق إلى الماء وفي الحديث (يُحشر الناس يوم القيامة على ثلاث طرائق: راغبين، وراهبين، واثنان على بعير، وثلاثة على بعير، وأربعة على بعير، وعشرة على بعير، وتُجُّر بقيتهم إلى النار، تقيل معهم حيث قالوا، وتبيت معهم حيث باتوا) {لا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ} أي لا يشفعون ولا يُشفع لهم {إِلا مَنْ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا} الاستثناء منقطع أي لكنْ من تحلَّى بالإِيمان والعمل الصالح فإِنه يملك الشفاعة، قال ابن عباس: العهدُ "شهادة أن لا إله إلا الله".



الرد على من نسب الولد إلى الله



{وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَانُ وَلَدًا(88)لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا(89)تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا(90)أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَانِ وَلَدًا(91) وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَانِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا(92) إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إِلا آتِي الرَّحْمَانِ عَبْدًا(93)لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا(94)وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا(95)}



{وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَانُ وَلَدًا} أي النصارى ومن زعم أن الملائكة بنات الله {لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا} أي لقد أتيتم أيها المشركون بقولٍ منكر عظيم تناهى في القبح والشناعة {تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ} أي تكاد السماوات تتشقَّق من هول هذا القول ) وَتَنشَقُّ الأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا} أي وتنشقُّ كذلك الأرض وتندكُّ الجبال وتُهدُّ هداً استعظاماً للكلمة الشنيعة {أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَانِ وَلَدًا} أي ما يليق به سبحانه اتخاذ الولد، لأن الولد يقتضي المجانسة ويكون عن حاجة، وهو المنزَّه عن الشبيه والنظير، والغني عن المعين والنصير {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إِلا آتِي الرَّحْمَانِ عَبْدًا} أي ما من مخلوقٍ في العالم العلوي والسفلي إلا وهو عبدٌ لله، ذليلٌ خاضعٌ بين يديه، منقادٌ مطيع له كما يفعل العبيد {لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا} أي علم عددهم وأحاط علمه بهم فلا يخفى عليه شيء من أمورهم {وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا} أي وكل فردٍ يأتي يوم القيامة وحيداً فريداً، بلا مالٍ ولا نصير، ولا معين ولا خفير.



محبة المؤمنين وإهلاك المعاندين



{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَانُ وُدًّا(96)فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا(97)وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا(98)}



{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَانُ وُدًّا} لما ذكر أحوال المجرمين ذكر أحوال المؤمنين والمعنى سيحدث لهم في قلوب عباده الصالحين محبةً ومودة، قال الربيع: يحبُّهم ويحببهم إلى الناس {فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا} أي فإِنما يسرنا يا محمد هذا القرآن بلسانك العربي تقرأه، وجعلناه سهلاً يسيراً لمن تدبره، لتبشّر به المؤمنين المتقين، وتخوّف به قوماً معاندين شديدي الخصومة والجدال {وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ} أي كم من الأمم الماضية أهلكناهم بتكذيبهم الرسل، و"كم" للتكثير {هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ} أي هل ترى منهم أحداً؟ {أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا} أي أو تسمع لهم صوتاً خفياً؟ والمعنى أنهم بادوا وهلكوا وخلت منهم الديار، وأوحشت منهم المنازل، فكما أهلكنا أولئك نهلك هؤلاء.

yacine414
2011-03-26, 17:47
سورة طه



إنزال القرآن رحمة وسعادة

قصة موسى عليه السلام وتكليمه ربه بالوادي المقدس:

معجزة العصا وانقلابها إلى حية

معجزة اليد وانقلابها إلى ضوء كضوء الشمس

نعم الله على سيدنا موسى عليه السلام قبل النبوة

توجيهات الله لموسى وهارون في دعوة فرعون

الحوار بين فرعون وموسى عليه السلام حول الربوبية

اتهام موسى بالسحر

جمع فرعون السحرة وتحذير موسى لهم

المبارزة بين موسى والسحرة وإعلان إيمانهم علناً

المسير ببني إسرائيل وإغراق فرعون وجنوده ونعم الله على بني إسرائيل

مفاجأة موسى لربه وفتنة السامري

معاتبة موسى لهارون على تأليه العجل

أخذ العبرة من قصص الماضين وجزاء المعرض عن القرآن

أحوال الجبال والناس يوم القيامة

أنزل الله القرآن عربياً وأمر نبيه بعدم العجلة بقراءته عند تلاوة جبريل

قصة إخراج آدم من الجنة من وراء وسوسة الشيطان

الاعتبار بهلاك الأمم الماضية، والصبر على أذى المشركين وعدم الالتفات إلى متعهم، وأمر الأهل بالصلاة

اقتراح المشركين الإتيان بمعجزة أخرى غير مكتفين بمعجزة القرآن



بَين يَدَي السُّورَة



سورة طه مكية، وغرضُها تركيز أصول الدين "التوحيد، والنبوة، والبعث والنشور".



* في هذه السورة الكريمة تظهر شخصية الرسول صلى الله عليه وسلم، في شدّ أزره، وتقوية روحه، حتى لا يتأثر بما يُلقى إليه من الكيد والعناد، والاستهزاء والتكذيب، ولإِرشاده إلى وظيفته الأساسية، وهي التبليغ والتذكير، والإِنذار والتبشير، وليس عليه أن يجبر الناس على الإِيمان.



* عرضت السورة لقصص الأنبياء، تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتطميناً لقلبه الشريف، فذكرت بالتفصيل قصة "موسى وهارون" مع فرعون الطاغية الجبار، ويكاد يكون معظم السورة في الحديث عنها وبالأخص موقف المناجاة بين موسى وربه، وموقف تكليفه بالرسالة، وموقف الجدال بين موسى وفرعون، وموقف المبارزة بينه وبين السحرة، وتتجلى في ثنايا تلك القصة رعايةُ الله لموسى، نبيّه وكليمه، وإِهلاك الله لأعدائه الكفرة المجرمين.



* وعرضت السورة لقصة آدم بشكل سريع خاطف، برزت فيه رحمة الله لآدم بعد الخطيئة، وهدايته لذريته بإِرسال الرسل مبشرين ومنذرين، ثم ترك الخيار لهم لاختيار طريق الخير أو الشر.



* وفي ثنايا السورة الكريمة تبرز بعض مشاهد القيامة، في عبارات يرتجف لها الكون، وتهتز لها القلوب هَلعاً وجزعاً، ويعتري الناس الذهولُ والسكون {وَخَشَعَتْ الأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَانِ فَلا تَسْمَعُ إِلا هَمْسًا}.

* وعرضت السورة ليوم الحشر الأكبر، حيث يتم الحساب العادل، ويعود الطائعون إلى الجنة، ويذهب العصاة إلى النار، تصديقاً لوعد الله الذي لا يتخلف، بإِثابة المؤمنين وعقاب المجرمين.



* وختمت ببعض التوجيهات الربانية للرسول صلى الله عليه وسلم في الصبر وتحمل الأذى في سبيل الله حتى يأتي نصر الله.



التسمَية:

سميت "سورة طه" وهو اسم من أسمائه الشريفة عليه الصلاة والسلام، تطييباً لقلبه، وتسليةً لفؤاده عما يلقاه من صدود وعناد، ولهذا ابتدأت السورة بملاطفته بالنداء {طه مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى}.



إنزال القرآن رحمة وسعادة



{ طه(1)مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى(2)إِلا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى(3)تَنزِيلا مِمَّنْ خَلَقَ الأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلا(4)الرَّحْمَانُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى(5)لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى(6)وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى(7)اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ لَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى(8)}.



{طه مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى} الحروف المقطعة للتنبيه إلى إعجاز القرآن، وقال ابن عباس: معناها يا رجل، ومعنى الآية: ما أنزلنا عليك يا محمد القرآن لتشقى به إنما أنزلناه رحمة وسعادة، رُوي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما نزل عليه القرآن صلَى هو وأصحابه، فأطال القيام، فقالت قريش: ما أنزل الله هذا القرآن على محمد إلا ليشقى، فنزلت هذه الآية {إِلا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى} أي ما أنزلناه إِلا عظة وتذكيراً لمن يخشى الله ويخاف عقابه، وهو المؤمنُ المستنير بنور القرآن {تَنزِيلا مِمَّنْ خَلَقَ الأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلا} أي أنزله خالقُ الأرض، ومبدعُ الكون، ورافع السماوات الواسعة العالية، والآية إِخبارٌ عن عظمته وجبروته وجلاله، قال أبو حيّان: ووصفُ السماوات بالعُلى دليلٌ على عظمة قدرة من اخترعها إِذ لا يمكن وجود مثلها في علُوِّها من غيره تعالى {الرَّحْمَانُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} أي ذلك الربُّ الموصوف بصفات الكمال والجمال هو الرحمن الذي استوى على عرشه استواءً يليق بجلاله من غير تجسيمٍ، ولا تشبيه، ولا تعطيل، ولا تمثيل كما هو مذهب السلف {لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى} أي له سبحانه ما في الوجود كلِّه: السماواتُ السبعُ، والأرضون، وما بينهما من المخلوقات، وما تحت التراب من معادن ومكنونات، الكلُّ ملكُه وتحت تصرفه وقهره وسلطانه.

{وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى} أي وإِن تجهرْ يا محمد بالقول أو تخفه في نفسك فسواءٌ عند ربك، فإِنه يعلم السرَّ وما هو أخفى منه كالوسوسة والهاجس والخاطر .. والغرضُ من الآية طمأنينة قلبه عليه السلام بأن ربه معه يسمعه، ولن يتركه وحيداً يواجه الكافرين بلا سند فإِذا كان يدعوه جهراً فإِنه يعلم السرَّ وما هو أخفى، والقلب حين يستشعر قرب الله منه، وعلمه بسرِّه ونجواه يطمئن ويرضى ويأنس بهذا القرب الكريم {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ لَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} أي ربكم هو الله المتفرد بالوحدانية، لا معبود بحق سواه، ذو الأسماء الحسنة التي هي في غاية الحُسن، وفي الحديث (إِن للهِ تسعةً وتسعين اسماً، من أحصاها دخل الجنة).



قصة موسى عليه السلام وتكليمه ربه بالوادي المقدس



{ وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى(9)إِذْ رَأَى نَارًا فَقَالَ لأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى(10)فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِي يَا مُوسَى(11)إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِي الْمُقَدَّسِ طُوًى(12)وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى(13)إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمْ الصَّلاةَ لِذِكْرِي(14)إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى(15)فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى(16) }.



{وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى} الاستفهام للتقرير وغرضه التشويق لما يُلقى إِليه أي هل بلغك يا محمد خبر موسى وقصته العجيبة الغريبة؟ {إِذْ رَأَى نَارًا فَقَالَ لأهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا} أي حين رأى ناراً، فقال لامرأته أقيمي مكانك فإِني أبصرتُ ناراً، قال ابن عباس: هذا حين قضى الأجل وسار بأهله من مدين يريد مصر، وكان قد أخطأ الطريق، وكانت ليلة مظلمة شاتية، فجعل يقدح بالزناد فلا يخرج منها شرَرٌ، فبينما هو كذلك إِذْ بصر بنارٍ من بعيد على يسار الطريق، فلما رآها ظُنها ناراً وكانت من نور الله {لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ} أي لعلي آتيكم بشعلة من النار تستدفئون بها {أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى} أي أجد هادياً يدلني على الطريق {فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِي يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ} أي فلما أتى النار وجدها ناراً بيضاء تتّقد في شجرة خضراء وناداه ربُّه يا موسى: إِني أنا ربُّك الذي أكلمك فاخلع النعلين من قدميك رعايةً للأدب وأَقْبل {إِنَّكَ بِالْوَادِي الْمُقَدَّسِ طُوًى} أي فإِنك بالوادي المطهَّر المبارك المسمّى طوى {وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى} أي اصطفيتك للنبوة فاستمع لما أُوحيه إِليك، قال الرازي: فيه نهايةُ الهيبة والجلالة فكأنه قال: لقد جاءك أمر عظيم هائل فتأهبْ له واجعل كل عقلك وخاطرك مصروفاً إِليه {إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدْنِي} أي أنا الله المستحق للعبادة لا إِله غيري فأفردني بالعبادة والتوحيد {وَأَقِمْ الصَّلاةَ لِذِكْرِي} أي أقم الصلاة لتذكرني فيها، قال مجاهد: إِذا صلّى ذكر ربه لاشتمالها على الأذكار، وقال الصاوي: خصَّ الصلاة بالذكر وإِن كانت داخلةً في جملة العبادات لعظم شأنها، واحتوائها على الذكر، وشغل القلب واللسان والجوارح، فهي أفضل أركان الدين بعد التوحيد {إِنَّ الساعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا} أي إِن الساعة قادمة وحاصلةٌ لا محالة أكاد أخفيها عن نفسي فكيف أطلعكم عليها؟ قال المبرِّد: وهذا على عادة العرب فإِنهم يقولون إِذا بالغوا في كتمان الشيء: كتمته حتى من نفسي أي لم أطلع عليه أحداً {لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى} أي لتنال كلُّ نفسٍ جزاء ما عملت من خير أو شر، قال المفسرون: والحكمة من إِخفائها وإِخفاء وقت الموت أن الله تعالى حكم بعدم قبول التوبة عند قيام الساعة وعند الاحتضار، فلو عرف الناس وقت الساعة أو وقت الموت، لاشتغلوا بالمعاصي ثم تابوا قبل ذلك، فيتخلصون من العقاب، ولكنَّ الله عمَّى الأمر، ليظلَّ الناس على حذر دائم، وعلى استعداد دائم، من أن تبغتهم الساعة أو يفاجئهم الموت {فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهَا} أي لا يصرفنَّك يا موسى عن التأهب للساعة والتصديق بها من لا يوقن بها {وَاتَّبَعَ هوَاهُ} أي مالَ مع الهوى وأقبل على اللذائذ والشهوات ولم يحسب حساباً لآخرته {فَتَرْدَى} أي فتهلك فإِن الغفلة عن الآخرة مستلزمة للهلاك.



معجزة العصا وانقلابها إلى حية



{وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى(17)قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى(18)قَالَ أَلْقِهَا يَا مُوسَى(19)فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى(20)قَالَ خُذْهَا وَلا تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الأُولَى(21) }



{وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى} أي وما هذه التي بيمينك يا موسى؟ أليست عصا؟ والغرض من الاستفهام التقريرُ والإِيقاظُ والتنبيهُ إِلى ما سيبدو من عجائب صنع الله في الخشبة اليابسة بانقلابها إِلى حية، لتظهر لموسى القدرة الباهرة، والمعجزة القاهرة، قال ابن كثير: إِنما قال له ذلك على وجه التقرير، أي أمّا هذه التي في يمينك عصاك التي تعرفها؟ فسترى ما نصنع بها الآن؟ {قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا} أي أعتمد عليها في حال المشي {وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي} أي أهزُّ بها الشجرة وأضرب بها على الأغصان ليتساقط ورقها فترعاه غنمي {وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى} أي ولي فيها مصالح ومنافع وحاجات أُخَرى غير ذلك، قال المفسرون: كان يكفي أن يقول هي عصاي ولكنه زاد في الجواب لأن المقام مقام مباسطة وقد كان ربه يكلمه بلا واسطة، فأراد أن يزيد في الجواب ليزداد تلذذاً بالخطاب، وكلام الحبيب مريحٌ للنفس ومُذْهبٌ للعَناء {قَالَ أَلْقِهَا يَا مُوسَى} أي اطرح هذه العصا التي بيدك يا موسى لترى من شأنها ما ترى! {فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حيَّةٌ تَسْعَى} أي فلما ألقاها صارت في الحال حية عظيمة تنتقل وتتحرك في غاية السرعة، قال ابن عباس: انقلبت ثعباناً ذكراً يبتلع الصخر والشجر، فلما رآه يبتلع كل شيءٍ خافه ونفر منه وولَى هارباً، قال المفسرون: لما رأى هذا الأمر العجيب الهائل، لحقه ما يلحق البشر عند رؤية الأهوال والمخاوف، لا سيما هذا الأمر الذي يذهب بالعقول، وإِنما أظهر له هذه الآية وقت المناجاة تأنيساً له بهذه المعجزة الهائلة حتى لا يفزع إِذا ألقاها عند فرعون لأنه يكون قد تدرَّب وتعوَّد {قَالَ خُذْهَا وَلا تَخَفْ} أي قال له ربه: خذْها يا موسى ولا تخفْ منها { سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الأُولَى} أي سنعيدها إلى حالتها الأولى كما كانت عصا لا حيَّة، فأمسكها فعادت عصا.



معجزة اليد وانقلابها إلى ضوء كضوء الشمس



{وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرَى(22)لِنُرِيَكَ مِنْ ءاياتِنَا الْكُبْرَى(23)اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى(24)قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي(25)وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي(26)وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي(27)يَفْقَهُوا قَوْلِي(28)وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي(29)هَارُونَ أَخِي(30)اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي(31)وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي(32)كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا(33)وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا(34)إِنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيرًا(35)}



{وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرَى} أي أدخل يدك تحت إِبطك ثم أخرجها تخرج نيرة مضيئة كضوء الشمس والقمر من غير عيب ولا برص، قال ابن كثير: كان إِذا أدخل يده في جيبه ثم أخرجها تخرج تتلألأ كأنها فلقة قمر من غير برصٍ ولا أذى {آيَةً أُخْرَى} أي معجزة ثانية غير العصا {لِنُرِيَكَ مِنْ ءاياتِنَا الْكُبْرَى} أي لنريك بذلك بعض ءاياتنا العظيمة .. أراه الله معجزتين "العصا، واليد" وهي بعض ما أيَّده الله به من المعجزات الباهرة، ثم أمره أن يتوجه إلى فرعون رأس الكفر والطغيان {اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى} أي اذهب بما معك من الآيات إِلى فرعون إِنه تكبَّر وتجبَّر وجاوز الحدَّ في الطغيان حتى ادَّعى الألوهية {قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي} أي وسِّعْه ونوِّره بالإِيمان والنُبوّة {وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي} أي سهّلْ عليَّ القيام بما كلفتني من أعباء الرسالة والدعوة {وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي يَفْقَهُوا قَوْلِي} أي حلَّ هذه اللُّكْنة الحاصلة في لساني حتى يفهموا كلامي، قال المفسرون: عاش موسى في بيت فرعون فوضعه فرعون مرة في حِجْرهِ وهو صغير فجرَّ لحية فرعون بيده فهمَّ بقتله، فقالت له آسية: إِنه لا يعقل وسأريك بيان ذلك، قدّمْ إِليه جمرتين ولؤلؤتين، فإِن أخذ اللؤلؤة عرفت أنه يعقل، وإِن أخذ الجمرة عرفت أنه طفل لا يعقل، فقدَّم إِليه فأخذ الجمرة فجعلها في فيه فكان في لسانه حَبْسة {وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي هَارُونَ أَخِي} أي اجعل لي معيناً يساعدني ويكون من أهلي وهو أخي هارون {اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي} أي لتقوِّي به يا رب ظهري {وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي} أي اجعله شريكاً لي في النبوة وتبليغ الرسالة {كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا} أي كي نتعاون على تنزيهك عما لا يليق بك ونذكرك بالدعاء والثناء عليك {إِنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيرًا} أي عالماً بأحوالنا لا يخفى عليك شيء من أفعالنا، طلب موسى من ربه أن يعينه بأخيه يشدُّ به أزره، لما يعلم منه من فصاحة اللسان، وثبات الجنَان، وأن يشركه معه في المهمة لما يعلم من طغيان فرعون وتكبره وجبروته.



نعم الله على سيدنا موسى عليه السلام قبل النبوة



{ قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى(36)وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى(37)إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى(38)أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي(39)إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَنْ يَكْفُلُهُ فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلا تَحْزَنَ وَقَتَلْتَ نَفْسًا فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى(40)}.



{قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى} أي أُعطيت ما سألتَ وما طلبتَ، ثم ذكّره تعالى بالمنن العظام عليه {وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى} أي أنعمنا عليك يا موسى بمنَّة أخرى غير هذه المنة {إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى} أي ألهمناها ما يُلهم ممّا كان سبباً في نجاتك {أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ} أي ألهمناها أن أَلْقِ هذا الطفل في الصندوق ثم اطرحيه في نهر النيل، ثم ماذا؟ ومن يتسلمه؟ { فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ} أي يلقيه النهر على شاطئه ويأخذه فرعون عدوي وعدوُّه قال أبو حيّان: {فَلْيُلْقِهِ} أمرٌ معناه الخبر جاء بصيغة الأمر مبالغة إِذْ الأمر أقطع الأفعال وأوجبها {وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي} أي زرعتُ في القلوب محبتك بحيث لا يكاد يصبر عنك من رآك حتى أحبَّك فرعون، قال ابن عباس: أحبَّه الله وحببَّه إِلى خلقه {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} أي ولتُربّى بعين الله بحفظي ورعايتي {إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَنْ يَكْفُلُهُ} أي حين تمشي أختك وتتَّبع أثرك فتقول لآل فرعون حين طلبوا لك المراضع: هل أدلكم على من يضمن لكم حضانته ورضاعته؟ قال المفسرون: لمّا التقطه آل فرعون جعل لا يقبل ثدي امرأة لأن الله حرَّم عليه المراضع، وبقيت أُمه بعد قذفه في اليم مغمومة، فأمرت أخته أن تتَّبع خبره، فلما وصلت إلى بيت فرعون ورأته قالت: هل أدلكم على امرأة أمينة فاضلة تتعهد لكم رضاع هذا الطفل؟ فطلبوا منها إِحضارها، فأتت بأم موسى، فلما أخرجت ثديها التقمه، ففرحت زوجة فرعون فرحاً شديداً، وقالت لها: كوني معي في القصر فقالت: لا أستطيع أن أترك بيتي وأولادي ولكنْ آخذه معي وآتي لك به كل حين فقالت: نعم وأحسنت إِليها غاية الإِحسان فذلك قوله تعالى {فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلا تَحْزَنَ} أي رددناك إِلى أمك لكي تُسرَّ بلقائك، وتطمئن بسلامتك ونجاتك، ولكيلا تحزن على فراقك {وَقَتَلْتَ نَفْسًا فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ} أي قتلت القبطي حين أصبحت شاباً فنجيناك من غمّ القتل وصرفنا عنك شرَّ فرعون وزبانيته، وفي صحيح مسلم: وكان قتله خطأً {وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا} أي ابتليناك ابتلاءً عظيماً بأنواعٍ من المِحن {فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ} أي مكثت سنين عديدة عند شعيب في أرض مدين {ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى} أي جئت على موعدٍ ووقت مقدر للرسالة والنبوة.



المنَاسَبَة:

لما ذكر تعالى نعمته على موسى باستجابة دعائه وإِعطائه سُؤْله، ذكر هنا ما خصَّه به من الاصطفاء والاجتباء، وأمره بالذهاب إِلى فرعون مع أخيه هارون لتبليغه دعوة الله، ثم ذكر ما دار من الحوار بين موسى وفرعون وما كان من أمر السحرة وسجودهم لله رب العالمين.



توجيهات الله لموسى وهارون في دعوة فرعون



{وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي(41)اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي وَلا تَنِيَا فِي ذِكْرِي(42)اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى(43) فَقُولا لَهُ قَوْلا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى(44)قَالاَ رَبَّنَا إِنَّنَا نَخافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى(45)قَالَ لا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى(46)فَأْتِيَاهُ فَقُولا إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلامُ عَلَى مَنْ اتَّبَعَ الْهُدَى(47)إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى(48) }



{وَاصْطَنَعْتكَ لِنَفْسِي} أي اخترتك لرسالتي ووحيي {اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي} أي اذهب مع هارون بحججي وبراهيني ومعجزاتي، قال المفسرون: المراد بالآيات هنا اليد والعصا التي أيّد الله بها موسى {وَلا تَنِيَا فِي ذِكْرِي} أي لا تفترا وتقصِّرا في ذكر الله وتسبيحه، قال ابن كثير: والمراد ألاّ يفترا عن ذكر الله بل يذكران الله في حال مواجهة فرعون، ليكون ذكر الله عوناً لهما عليه، وقوة لهما وسلطاناً كاسراً له {اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى} أي تجبَّر وتكبَّر وبلغ النهاية في العتُو والطغيان {فَقُولا لَهُ قَوْلا لَيِّنًا } أي قولا لفرعون قولاً لطيفاً رفيقاً {لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} أي لعله يتذكر عظمة الله أو يخاف عقابه فيرتدع عن طغيانه {قَالا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى} أي قال موسى وهارون: يا ربنا إِننا نخاف إِن دعوناه إِلى الإِيمان أن يعجِّل علينا العقوبة، أو يجاوز الحدَّ في الإِساءة إِلينا {قَالَ لا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} أي لا تخافا من سطوته إِنني معكما بالنصرة والعون أسمع جوابه لكما، وأرى ما يفعل بكما {فَأْتِيَاهُ فَقُولا إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ} أي إِنا رسولان من عند ربك أرسلنا إِليك، وتخصيصُ الذكر بلفظ {رَبِّكَ} لإِعلامه أنه مربوبٌ وعبدٌ مملوك لله إِذْ كان يدَّعي الربوبية { فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلا تُعَذِّبْهُمْ} أي أطلقْ سراح بني إِسرائيل ولا تعذبهم بتكليفهم بالأعمال الشاقة {قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ} أي قد جئناك بمعجزة تدل على صدقنا {وَالسَّلامُ عَلَى مَنْ اتَّبَعَ الْهُدَى} أي والسلامة من عذاب الله لمن اهتدى وآمن بالله، قال المفسرون: لم يقصد به التحية لأنه ليس بابتداء الخطاب وإِنما قصد به السلام من عذاب الله وسخطه {إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى} أي قد أخبرنا الله فيما أوحاه إِلينا أن العذاب الأليم على من كذَّب أنبياء الله وأعرض عن الإِيمان.



الحوار بين فرعون وموسى عليه السلام حول الربوبية



{قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى(49)قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى(50)قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الأُولَى(51)قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنسَى(52)الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأرْضَ مَهْدًا وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلا وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى(53)كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآَيَاتٍ لأُوْلِي النُّهَى(54)مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى(55)}.



{قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى} أي قال فرعون: ومنْ هذا الربُّ الذي تدعوني إِليه يا موسى؟ فإِني لا أعرفه؟ ولم يقل: من ربيّ لغاية عتوّه ونهاية طغيانه بل أضافه إِلى موسى وهارون {فَمَنْ رَبُّكُمَا} {قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} أي ربُّنا هو الذي أبدع كل شيءٍ خَلقه ثم هداه لمنافعه ومصالحه، وهذا جوابٌ في غاية البلاغة والبيان لاختصاره ودلالته على جميع الموجودات بأسرها، فقد أعطى العين الهيئة التي تطابق الإِبصار، والأُذُن الشكل الذي يوافق الاستماع، وكذلك اليد والرجل والأنف واللسان، قال الزمخشري: ولله درُّ هذا الجواب ما أخصره وأجمعه وأبينه لمن ألقى الذهن ونظر بعين الإِنصاف { قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الأُولَى} أي ما حال من هلك من القرون الماضية لِم لَمْ يُبعثوا، ولم يُحاسبوا إِن كان ما تقول حقاً؟ قال ابن كثير: لما أخبر موسى بأن ربه الذي أرسله هو الذي خلق ورزق، وقدَّر فهدى، شرع فرعون يحتج بالقرون الأولى كأنه يقول: ما بالهم إِذْ كان الأمر كذلك لم يعبدوا ربَّك بل عبدوا غيره؟ {قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ} أي قال موسى: علم أحوالها وأعمالها عند ربي مسطرٌ في اللوح المحفوظ {لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنسَى} أي لا يخطئ ربي ولا يغيب عن علمه شيءٌ منها .. ثم شرع موسى يبينّ له الدلائل على وجود الله وآثار قدرته الباهرة فقال {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأرْضَ مَهْدًا} أي جعل الأرض كالمهد تمتهدونها وتستقرون عليها رحمة بكم {وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلا} أي جعل لكم طُرقاً تسلكونها فيها لقضاء مصالحكم {وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً} أي أنزل لكم من السحاب المطرَ عذباً فراتاً {فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى} أي فأخرج بذلك الماء أنواعاً من النباتات المختلفة الطعم والشكل والرائحة كلُّ صنف منها زوج، وفيه التفاتٌ من الغيبة إِلى المتكلم تنبيهاً على عظمة الله {كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ} أي كلوا من هذه النباتات والثمار واتركوا أنعامكم تسرح وترعى من الكلأ الذي أخرجه الله، والأمر للإِباحة تذكيراً له بالنِّعم { إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لأُوْلِي النُّهَى} أي إِنَّ فيما ذُكر لعلامات واضحة لأصحاب العقول السليمة على وجود الله ووحدانيته {مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ} أي من الأرض خلقناكم أيها الناس وإليها تعودون بعد مماتكم فتصيرون تراباً {وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى} أي ومن الأرض نخرجكم مرة أخرى للبعث والحساب.



اتهام موسى بالسحر



{وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ ءاياتِنَا كُلَّهَا فَكَذَّبَ وَأَبَى(56) قَالَ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَا مُوسَى(57)فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِدًا لا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلا أَنْتَ مَكَانًا سُوًى(58)قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى(59)}.



ثم أخبر تعالى عن عتوِّ فرعون وعناده فقال {وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ ءاياتِنَا كُلَّهَا} أي والله لقد بصَّرْنا فرعون بالمعجزات الدالة على نبوةّ موسى من العصا، واليد، والطوفان، والجراد، وسائر الآيات التسع {فَكَذَّبَ وَأَبَى} أي كذَّب بها مع وضوحها وزعم أنها سحر، وأبى الإِيمان والطاعة لعتوِّه واستكباره {قَالَ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَا مُوسَى} أي قال فرعون: أجئتنا يا موسى بهذا السحر لتخرجنا من أرض مصر؟ {فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ} أي فلنعارضنَّك بسحرٍ مثل الذي جئت به ليظهر للناس أنك ساحر ولستَ برسول {فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِدًا} أي عيِّنْ لنا وقت اجتماع {لا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلا أَنْتَ مَكَانًا سُوًى} أي لا نخلف ذلك الوعد لا من جهتنا ولا من جهتك ويكون بمكان معيَّن ووقت معيَّن {قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى} أي قال موسى: موعدنا للاجتماع يوم العيد - يومُ من أيام أعيادهم - وأن يجتمع الناس في ضحى ذلك النهار، قال المفسرون: وإِنما عيَّن ذلك اليوم للمبارزة ليظهر الحق ويزهق الباطل على رؤوس الأشهاد، ويشيع ذلك في الأقطار بظهور معجزته للناس.



جمع فرعون السحرة وتحذير موسى لهم



{فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتَى(60)قَالَ لَهُمْ مُوسَى وَيْلَكُمْ لا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنْ افْتَرَى(61)فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى(62) قَالُوا إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَنْ يُخْرِجَاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمْ الْمُثْلَى(63)فَأَجْمِعُوا كيدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنْ اسْتَعْلَى(64)}.



{فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتَى} أي انصرف فرعون فجمع السَّحرة ثم أتى الموعد ومعه السحرة وأدواتهم وما جمعه من كيد ليطفئ نور الله، قال ابن عباس: كانوا اثنين وسبعين ساحراً مع كل ساحر منهم حبال وعصىّ {قَالَ لَهُمْ مُوسَى وَيْلَكُمْ لا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ} أي قال موسى للسحرة لما جاء بهم فرعون: ويلكم لا تختلقوا على الله الكذب فيهلككم ويستأصلكم بعذاب هائل {وَقَدْ خَابَ مَنْ افْتَرَى} أي خسر وهلك من كذب على الله.. قدَّم لهم النصح والإِنذار لعلَّهم يثوبون إلى الهُدى، ولما سمع السَّحرة منه هذه المقالة هالهم ذلك ووقعتْ في نفوسهم مهابته ولذلك تنازعوا في أمره {فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى} أي اختلفوا في أمر موسى فقال بعضهم: ما هذا بقول ساحر وأخفوا ذلك عن الناس وأخذوا يتناجون سرّاً {قَالُوا إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَنْ يُخْرِجَاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا} أي قالوا بعد التناظر والتشاور ما هذان إِلاّ ساحران يريدان الاستيلاء على أرض مصر وإِخراجكم منها بهذا السحر {وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمْ الْمُثْلَى} أي غرضُهما إِفسادُ دينكم الذي أنتم عليه والذي هو أفضل المذاهب والأديان، قال الزمخشري: والظاهر أنهم تشاوروا في السرِّ وتجاذبوا أهداب القول ثم قالوا { إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ} فكانت نجواهم في تلفيق هذا الكلام وتزويره خوفاً من غلبة موسى وهارون لهما وتثبيطاً للناس من اتباعهما {فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا} أي أحْكموا أمركم واعزموا عليه ولا تتنازعوا وارموا عن قوسٍ واحدة، ثم ائتوا إلى الميدان مصطفين ليكون أهيب في صدور الناظرين {وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنْ اسْتَعْلَى} أي فاز اليوم من علا وغلب، قال المفسرون: أرادوا بالفلاح ما وعدهم به فرعون من الإنعامات العظيمة والهدايا الجزيلة مع التقريب والتكريم كما قال تعالى {أَئِنَّ لَنَا لأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذًا لَمِنْ الْمُقَرَّبِينَ}.

yacine414
2011-03-26, 17:48
المبارزة بين موسى والسحرة وإعلان إيمانهم علناً



{ قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى(65)قَالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى(66)فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى(67)قُلْنَا لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الأَعْلَى(68)وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى(69)فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى(70)قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى (71) قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا(72) إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى(73)إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَا(74)وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُوْلَئِكَ لَهُمْ الدَّرَجَاتُ الْعُلا(75)جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أبداً وَذَلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى(76)}



{قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى} أي قال السحرة لموسى: إِمَّا أن تبدأ أنتَ بالإِلقاء أو نبدأ نحنُ؟ خيرَّوه ثقةً منهم بالغلبة لموسى لأنهم كانوا يعتقدون أنَّ أحداً لا يقاومهم في هذا الميدان {قَالَ بَلْ أَلْقُوا} أي قال لهم موسى: بل ابدأوا أنتم بالإِلقاء، قال أبو السعود: قال ذلك مقابلةً للأدب بأحسنَ من أدبهم حيث بتَّ القول بإِلقائهم أولاً، وإِظهاراً لعدم المبالاة بسحرهم ليُبرزوا ما معهم، ويستفرغوا أقصى جهدهم وقصارى وسعهم، ثم يُظهر الله سلطانه فيقذف بالحق على الباطل فيدمغه {فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى} في الكلام حذفٌ دلَّ عليه المعنى أي فألقوا فإِذا تلك الحبال والعصيُّ التي ألقوها يتخيلها موسى ويظنُّها - من عظمة السحر - أنها حياتٍ تتحرك وتسعى على بطونها، والتعبيرُ يوحي بعظمة السحر حتى إن موسى فزع منها واضطرب {فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى} أي أحسَّ موسى الخوف في نفسه بمقتضى الطبيعة البشرية لأنه رأى شيئاً هائلاً {قُلْنَا لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الأَعْلَى} أي قلنا لموسى: لا تخفْ ممّا توهمت فإِنك أنت الغالب المنتصر {وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا} أي أَلقِ عصاك التي بيمينك تبتلعْ بفمها ما صنعوه من السحر { إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ} أي إِنَّ الذي اخترعوه وافتعلوه هو من باب الشعوذة والسحر {وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى} أي لا يسعد الساحر حيث كان ولا يفوز بمطلوبه لأنه كاذب مضلِّل {فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى} أي فألقى موسى عصاه فابتلعت ما صنعوا فخرَّ السحرة حينئذٍ سجداً لله ربّ العالمين لما رأوا من الآية الباهرة، قال ابن كثير: لما ألقى موسى العصا صارت ثعباناً عظيماً هائلاً، ذا قوائم وعُنق ورأس وأضراس، فجعلت تتَّبع تلك الحبال والعصي حتى لم تبق شيئاً إِلا ابتلعته، والناس ينظرون إِلى ذلك عياناً نهاراً، فلما عاين السحرة ذلك وشاهدوه علموا علم اليقين أن هذا ليس من قبيل السحر والحيل وأنه حقٌّ لا مرية فيه، فعند ذلك وقعوا سجداً لله، فقامت المعجزة واتضح البرهان، ووقع الحق وبطل السحر، قال ابن عباس: كانوا أول النهار سحرة، وفي آخر النهار شهداء بررة {قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ} أي قال فرعون للسحرة: آمنتم بموسى وصدقتموه بما جاء به قبل أن أسمح لكم بذلك وقبل أن تستأذنوني؟ {إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ} أي إِنه رئيسكم الذي علَّمكم السحر فاتفقتم معه لتذهبوا بملكي، قال القرطبي: وإِنما أراد فرعون بقوله هذا أن يُلبِّس على الناس حتى لا يتبعوهم فيؤمنوا كإِيمانهم، ثم توعَّدهم وهدَّدهم بالقتل والتعذيب، فقال {فَلأقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ} أي فوالله لأقطعنَّ الأيدي والأرجل منكم مختلفات بقطع اليد اليمنى، والرجل اليسرى أو بالعكس {وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} أي لأعلقنكم على جذوع النخل وأقتلنكم شرَّ قِتْلة {وَلَتَعْلَمنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى} أي ولتعلمُنَّ أيها السحرة من هو أشدُّ منا عذاباً وأدوم، هل أنا أم ربُّ موسى الذي صدقتم به وآمنتم {قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ} أي قال السحرة: لن نختارك ونفضّلك على الهدى والإِيمان الذي جاءنا من الله على يد موسى ولو كان في ذلك هلاكنا {وَالَّذِي فَطَرَنَا} قسمٌ بالله أي مقسمين بالله الذي خلقنا {فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ} أي فاصنع ما أنت صانع {إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} أي إِنما ينفذ أمرك في هذه الحياة الدنيا وهي فانية زائلة ورغبتنا في النعيم الخالد، قال عكرمة: لما سجدوا أراهم الله في سجودهم منازلهم في الجنة فلذلك قالوا ما قالوا {إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا} أي آمنا بالله ليغفر لنا الذنوب التي اقترفناها وما صدر منا من الكفر والمعاصي {وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ} أي ويغفر لنا السحر الذي عملناه لإِطفاء نور الله { وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} أي والله خيرٌ منك ثواباً وأبقى عذاباً، وهذا جوابُ قوله {ولتعلمُنَّ أيُّنا أشدُّ عذاباً وأبقى} {إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ} هذا من تتمة كلام السحر عظةً لفرعون أي من يلقى ربه يوم القيامة وهو مجرمٌ باقترافه المعاصي وموته على الكفر، فإِن له نار جهنم {لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَا} أي لا يموت في جهنم فينقضي عذابه، ولا يحيا حياة طيبة هنيئة {وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ} أي ومن يلقى ربه مؤمناً موحّداً وقد عمل الطاعات وترك المنهيات {فَأُوْلَئِكَ لَهُمْ الدَّرَجَاتُ الْعُلا} أي فأولئك المؤمنون العاملون للصالحات لهم المنازل الرفيعة عند الله {جَنَّاتُ عَدْنٍ} بيانٌ للدرجات العُلى أي جناتُ إِقامة ذات الدرجات العاليات، والغُرف الآمنات، والمساكن الطيبات {تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ} أي تجري من تحت غرفها وسُرُرها أنهار الجنة من الخمر والعسل، واللَّبن، والماء {خَالِدِينَ فِيهَا أبداً} أي ماكثين في الجنة دوماً لا يخرجون منها أبداً {وَذَلِكَ جزَاءُ مَنْ تَزَكَّى} أي وذلك ثواب من تطهَّر من دنس الكفر والمعاصي، وفي الحديث (الجنة مائة درجة، ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض، والفردوس أعلاها درجة فإِذا سألتم الله فاسألوه الفردوس).



المناسَبَة:

لا تزال الآيات الكريمة تتحدث عن قصة موسى وفرعون، وتشير الآيات هنا إِلى عناية الله تعالى بموسى وقومه، وإِنجائهم وإِهلاك عدوهم، وتذكّرهم بنعم الله العظمى ومننه الكبرى على بني إِسرائيل، وما وصّاهم به من المحافظة على شكرها وتحذيرهم من التعرض لغضب الله بكفرها، ثم تذكر الآيات انتكاس بني إِسرائيل بعبادتهم العجل، وقد طوى هنا ما فصَّل في ءايات أخر.



المسير ببني إسرائيل وإغراق فرعون وجنوده ونعم الله على بني إسرائيل



{وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لا تَخَافُ دَرَكًا وَلا تَخْشَى(77)فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ(78)وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى(79)يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ قَدْ أَنجَيْنَاكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الأَيْمَنَ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكُمْ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى(80)كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَلا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى(81)وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى(82)}



{وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي} أي أوحينا إِلى موسى بعد أن تمادى فرعون في الطغيان أنْ سرْ ببني إِسرائيل ليلاً من أرض مصر {فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا} أي اضرب البحر بعصاك ليصبح لهم طريقاً يابساً يمرون عليه {لا تَخَافُ دَرَكًا وَلا تَخْشَى} أي لا تخاف لحاقاً من فرعون وجنوده، ولا تخشى الغرق في البحر {فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ} أي فلحقهم فرعون مع جنوده ليقتلهم فأصابهم من البحر ما أصابهم، وغشيهم من الأهوال ما لا يعلم كُنهه إِلا الله، والتعبير يفيد التهويل لما دهاهم عند الغَرق {وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى} أي أضلهم عن الرشد وما هداهم إِلى خيرٍ ولا نجاة، وفيه تهكم بفرعون في قوله {وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلا سَبِيلَ الرَّشَادِ} {يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ قَدْ أَنجَيْنَاكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الأَيْمَنَ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكُمْ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى} خطابٌ لبني إِسرائيل بعد خروجهم من البحر وإِغراق فرعون وجنوده، والمعنى اذكروا يا بني إِسرائيل نعمتي العظيمة عليكم حين نجيتكم من فرعون وقومه الذين كانوا يسومونكم سوء العذاب {وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الأَيْمَنَ} أي وعدنا موسى للمناجاة وإِنزال التوراة عليه جانب طور سيناء الأيمن، وإنما نسبت المواعدة إِليهم لكون منفعتها راجعة إِليهم إِذْ في نزول التوراة صلاحُ دينهم ودنياهم {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكُمْ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى} أي رزقناكم وأنتم في أرض التيه بالمنِّ وهو يشبه العسل، والسلوى وهو من أجود الطيور لحماً تفضلاً منا عليكم .. وفي هذا الترتيب غايةُ الحسن حيث بدأ بتذكيرهم بنعمة الإِنجاء، ثم بالنعمة الدينية، ثم بالنعمة الدنيوية {كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} أي وقلنا لكم كلوا من الحلال اللذيذ الذي أنعمتُ به عليكم {وَلا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي} أي لا تحملنكم السعة والعافية على العصيان لأمري فينزل بكم عذابي {وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى} أي ومن ينزل عليه غضبي وعقابي فقد هلك وشقي {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى} أي وإِني لعظيم المغفرة لمن تاب من الشرك وحسُن إِيمانه وعمله، ثم استقام على الهدى والإِيمان، وفي الآية ترغيب لمن وقع في وهدة العصيان ببيان المخرج كيلا ييأس.



مفاجأة موسى لربه وفتنة السامري



{ وَمَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَا مُوسَى(83)قَالَ هُمْ أُولاءِ عَلَى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى(84)قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمْ السَّامِرِيُّ(85)فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ يَا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْدًا حَسَنًا أَفَطَالَ عَلَيْكُمْ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي(86)قَالُوا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَارًا مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْنَاهَا فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ(87)فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ(88)أَفَلا يَرَوْنَ أَلا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلا وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعًا(89)}



{وَمَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَا مُوسَى} أيْ أيُّ شيءٍ عجَّل بك عن قومك يا موسى؟ قال الزمخشري: كان موسى قد مضى مع النقباء الذين اختارهم من قومه إِلى الطور على الموعد المضروب ثم تقدمهم شوقاً إِلى كلام ربه {قَالَ هُمْ أُولاءِ عَلَى أَثَرِي} أي قومي قريبون مني لم أتقدمهم إِلا بشيء يسير وهم يأتون بعدي {وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى} أي وعجلتُ إِلى الموضع الذي أمرتني بالمجيء إِليه لتزداد رضىً عني .. اعتذر موسى أولا،ً ثم بيَّن السبب في إِسراعه قبل قومه وهو الشوق إِلى مناجاة الله ابتغاءً لرضى الله {قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ} أي ابتليناهم بعبادة العجل من بعد ذهابك من بينهم {وَأَضَلَّهُمْ السَّامِرِيُّ} أي وأوقعهم السامريُّ في الضلالة بسبب تزيينه لهم عبادة العجل، وكان السامري ساحراً منافقاً من قومٍ يعبدون البقر، قال المفسرون: كان موسى حين جاء لمناجاة ربه قد استخلف على بني إِسرائيل أخاه هارون، وأمره أن يتعهدهم بالإِقامة على طاعة الله، وفي أثناء غيبة موسى جمع السامريُّ الحليَّ ثم صنع منها عجلاً ودعاهم إِلى عبادته فعكفوا عليه وكانت تلك الفتنة وقعت لهم بعد خروج موسى من عندهم بعشرين يوماً {فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا} أي رجع موسى من الطور بعدما استوفى الأربعين وأخذ التوراة غضبان شديد الحزن على ما صنع قومه من عبادة العجل {قَالَ يَا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْدًا حَسَنًا} أي ألم يعدْكم بإِنزال التوراة فيها الهدى والنور؟ والاستفهام للتوبيخ {أَفَطَالَ عَلَيْكُمْ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي} أي هل طال عليكم الزمن حتى نسيتم العهد أم أردتم بصنيعكم هذا أن ينزل عليكم سخط الله وغضبه فأخلفتم وعدي؟ قال أبو حيان: وكانوا وعدوه بأن يتمسكوا بدين الله وسنّة موسى عليه السلام، ولا يخالفوا أمر الله أبداً، فأخلفوا موعده بعبادتهم العجل {قَالُوا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا} أي ما أخلفنا العهد بطاقتنا وإِرادتنا واختيارنا بل كنا مكرهين {وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَارًا مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْنَاهَا} أي حملنا أثقالاً وأحمالاً من حُليِّ آل فرعون فطرحناها في النار بأمر السامري، قال مجاهد: أوزاراً: أثقالاً وهي الحلي التي استعاروها من آل فرعون {فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ} أي كذلك فعل السامري ألقى ما كان معه من حلي القوم في النار، قال المفسرون: كان بنو إِسرائيل قد استعاروا من القبط الحُليّ قبل خروجهم من مصر، فلما أبطأ موسى في العودة إِليهم قال لهم السامري: إِنما احتُبس عليكم لأجل ما عندكم من الحلي فجمعوه ودفعوه إِلى السامري، فرمى به في النار وصاغ لهم منه عجلاً، ثم ألقى عليه قبضةً من أثر فرس جبريل عليه السلام فجعل يخور فذلك، قوله تعالى {فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ} أي صاغ لهم السامري من تلك الحليّ المذابة عجلاً جسداً بلا روح له خوارٌ وهو صوت البقر {فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ} أي هذا العجل إِلهكم وإِله موسى فنسي موسى إِلهه هنا وذهب يطلبه في الطور، قال قتادة: نسي موسى ربه عندكم، فعكفوا عليه يعبدونه، قال تعالى رداً عليهم وبياناً لسخافة عقولهم في عبادة العجل {أَفَلا يَرَوْنَ أَلا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلا وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعًا} أي أفلا يعلمون أن العجل الذي زعموا أنه إِلههم لا يردُّ لهم جواباً، ولا يقدر أن يدفع عنهم ضراً أو يجلب لهم نفعاً فكيف يكون إِلهاً؟ والاستفهام للتوبيخ والتقريع.





معاتبة موسى لهارون على تأليه العجل



{ وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِنْ قَبْلُ يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنتُمْ بِهِ وإن رَبَّكُمْ الرَّحْمَانُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي(90)قَالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى(91)قَالَ يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا(92)أَلا تَتَّبِعَنِي أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي(93)قَالَ يَبْنَؤُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي(94)قَالَ فَمَا خَطْبُكَ يَا سَامِرِيُّ(95)قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي(96)قَالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَنْ تَقُولَ لا مِسَاسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِدًا لَنْ تُخْلَفَهُ وَانظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفًا(97)إِنَّما إِلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا(98)}.



{وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِنْ قَبْلُ يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنتُمْ بِهِ} أي قال لهم هارون ناصحاً ومذكراً من قبل رجوع موسى إِليهم: إِنما ابْتُليتُم وأُضللتم بهذا العجل { وإن رَبَّكُمْ الرَّحْمَانُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي} أي وإِنَّ ربكم المستحقَّ للعبادة هو الرحمن لا العجل، فاقتدوا بي فيما أدعوكم إِليه من عبادة الله، وأطيعوا أمري بترك عبادة العجل {قَالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى} أي قالوا: لن نزال مقيمين على عبادة العجل حتى يعود إِلينا موسى فننظر في الأمر {قَالَ يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا أَلا تَتَّبِعَنِي}؟ في الكلام حذفٌ أي فلما رجع موسى ووجدهم عاكفين على عبادة العجل امتلأ غضباً لله وأخذ برأس أخيه هارون يجره إِليه، وقال له: أيُّ شيء منعك حين رأيتهم كفروا بالله أن لا تتبعني في الغضب لله والإِنكار عليهم والزجر لهم عن ذلك الضلال؟ { أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي} أي أخالفتني وتركت أمري ووصيتي؟ قال المفسرون: وأمرهُ هو ما كان أوصاه به فيما حكاه تعالى عنه {وَقَالَ مُوسَى لأخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ} {قَالَ يَبْنَؤُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي} أي قال له هارون استعطافاً وترقيقاً: يا ابن أمي - أي يا أخي - لا تأخذ بلحيتي ولا بشعر رأسي، قال ابن عباس: أخذ شعر رأسه بيمينه ولحيته بشماله من شدة غيظه وفرط غضبه لأن الغيرة في الله ملكته {إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ} أي إني خفت إن زجرتُهم بالقوة أن يقع قتالٌ بينهم فتلومني على ذلك وتقول لي: لقد أشعلتَ الفتنة بينهم {وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي} أي لم تنتظرْ أمري فيهم، فمن أجل ذلك رأيتُ ألاّ أفعل شيئاً حتى ترجع إِليهم لتتدارك الأمر بنفسك، قال ابن عباس: وكان هارون هائبا مطيعاً له {قَالَ فَمَا خَطْبُكَ يَا سَامِرِيُّ} أي ما شأنك فيما صنعت؟ وما الذي حملك عليه يا سامري؟ {قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ} أي قال السامريُّ: رأيتُ ما لم يروه وهو أن جبريل جاءك على فرس الحياة فأُلقي في نفسي أن أقبض من أثره قبضة فما ألقيتُه على شيءٍ إِلا دبَّت فيه الحياة {فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا} أي قبضت شيئاً من أثر فرس جبريل فطرحتها على العجل فكان له خوار {وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي} أي وكذلك حسَّنتْ وزيَّنَتْ لي نفسي {قَالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَنْ تَقُولَ لا مِسَاسَ} أي قال موسى للسامري: عقوبتك في الدنيا ألاّ تمسَّ أحداً ولا يمسَّك أحد، قال الحسن: جعل الله عقوبة السامري ألا يماسَّ الناسَ ولا يمسّوه عقوبة له فيالدنيا وكأنَّ الله عز وجل شدَّد عليه المحنة {وَإِنَّ لَكَ مَوْعِدًا لَنْ تُخْلَفَهُ} أي وإِنَّ لك موعداً للعذاب في الآخرة لن يتخلَّف {وَانظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا} أي انظر إِلى هذا العجل الذي أقمت ملازماً على عبادته {لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفًا} أي لنحرقنَّه بالنار ثم لنطيرنَّه رماداً في البحر لا يبقى منه عين ولا أثر {إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلا هُوَ} أي يقول موسى لبني إِسرائيل: إِنما معبودكم المستحق للعبادة هو الله الذي لا ربَّ سواه {وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا} أي وسع علمه كلَّ شيء فلا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء.



أخذ العبرة من قصص الماضين وجزاء المعرض عن القرآن



{كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْرًا(99)مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْرًا(100)خَالِدِينَ فِيهِ وَسَاءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِمْلا(101)يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا(102)يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلا عَشْرًا(103)نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلا يَوْمًا(104) }



{كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ} أي كما قصصنا عليك يا محمد خبر موسى مع فرعون وما فيه من الأنباء الغريبة، كذلك نقص عليك أخبار الأمم المتقدمين {وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْرًا} أي أعطيناك من عندنا قرآناً يتلى منطوياً على المعجزات الباهرة، قال أبو حيّان: امتن تعالى عليه بإِيتائه الذكر المشتمل على القصص والأخبار، الدال على معجزات أُوتيها عليه السلام {مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْرًا} أي من أعرض عن هذا القرآن فلم يؤمن به ولم يتَّبع ما فيه، فإِنه يحمل يوم القيامة حملاً ثقيلاً، وذنباً عظيماً يثقله في جهنم {خَالِدِينَ فِيهِ وَسَاءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِمْلا} أي مقيمين في ذلك العذاب بأوزارهم، وبئس ذلك الحمل الثقيل حملاً لهم، شُبِّه الوزرُ بالحمل لثقله {يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا} أي يوم ينفخ إسرافيل في الصور النفخة الثانية، ونحشر المجرمين إلى أرض المحشر زُرق العيون سود الوجوه، قال القرطبي: تُشوه خلقتُهم بزرقة العيون وسواد الوجوه {يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلا عَشْرًا} أي يتهامسون بينهم ويسرُّ بعضهم إِلى بعض قائلين: ما مكثتم في الدنيا إِلا عشر ليال، قال أبو السعود: استقصروا مدة لبثهم فيها لما عاينوا الشدائد والأهوال {نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلا يَوْمًا} أي نحن أعلم بما يتناجون بينهم إِذ يقول أعقلهم وأعدلهم قولاً ما لبثتم إِلا يوماً واحداً.





أحوال الجبال والناس يوم القيامة



{ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا(105)فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا(106)لا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلا أَمْتًا(107)يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِي لا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتْ الأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَانِ فَلا تَسْمَعُ إِلا هَمْسًا(108) يَوْمَئِذٍ لا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَانُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلا(109)يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا(110)وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا(111)وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخَافُ ظُلْمًا وَلا هَضْمًا(112) }.



{وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا} أي ويسألونك عن حال الجبال يوم القيامة فقل لهم: إِن ربي يفتِّتها كالرمل، ثم يرسل عليها الرياح فيطيرّها {فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا} أي فيتركها أرضاً ملساء مستوية لا نبات فيها ولا بناء {لا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلا أَمْتًا} أي لا ترى فيها انخفاضاً ولا ارتفاعاً {يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِي لا عِوَجَ لَهُ} أي في ذلك اليوم العصيب يتَّبع الناس داعي الله الذي يدعوهم لأرض المحشر يأتونه سراعاً لا يزيغون عنه ولا ينحرفون {وَخَشَعَتْ الأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَانِ} أي ذلَّت وسكنت أصوات الخلائق هيبةً من الرحمن جل وعلا {فَلا تَسْمَعُ إِلا هَمْسًا} أي لا تسمع إِلا صوتاً خفياً لا يكاد يُسمع، وعن ابن عباس: هو همسُ الأقدام في مشيها نحو المحشر {يَوْمَئِذٍ لا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَانُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلا} أي في ذلك اليوم الرهيب لا تنفع الشفاعة أحداً إِلاّ لمن أذن له الرحمن في أن يشفع له، ورضي لأجله شفاعة الشافع، وهو الذي كان في الدنيا من أهل لا إِله إِلا الله، قاله ابن عباس {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ} أي يعلم تعالى أحوال الخلائق فلا تخفى عليه خافية من أمور الدنيا وأمور الآخرة {وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا} أي لا تحيط علومهم بمعلوماته جل وعلا {وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ} أي ذلت وخضعتْ وجوه الخلائق للواحد القهار جبار السماوات والأرض الذي لا يموت، قال الزمخشري: المراد بالوجوه وجُوه العصاة، وأنهم إِذا عاينوا يوم القيامة الخيبة والشقوة وسوء الحساب، صارت وجوهُهم عانيةً أي ذليلة خاضعة مثل وجوه العُناة وهم الأسارى كقوله {سيئت وجوه الذين كفروا}، {وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا} أي خسر من أشرك بالله، ولم ينجح ولا ظفر بمطلوبه {وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ} أي من قدَّم الأعمال الصالحة بشرط الإِيمان {فَلا يَخَافُ ظُلْمًا وَلا هَضْما} أي فلا يخاف ظلماً بزيادة سيئاته، ولا بخساً ونقصاً لحسناته.





أنزل الله القرآن عربياً وأمر نبيه بعدم العجلة بقراءته عند تلاوة جبريل



{وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا(113)فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا(114)}.



{وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا} أي مثل إِنزال الآيات المشتملة على القصص العجيبة أنزلنا هذا الكتاب عليك يا محمد بلغة العرب ليعرفوا أنه في الفصاحة والبلاغة خارج عن طوق البشر {وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ} أي كررنا فيه الإِنذار والوعيد {لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا} أي كي يتقوا الكفر والمعاصي أو يحدث لهم موعظة في القلوب ينشأ عنها امتثال الأوامر واجتناب النواهي {فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ} أي جلَّ الله وتقدَّس الملك الحق الذي قهر سلطانه كل جبار عّما يصفه به المشركون من خلقه {وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ} أي إِذا أقرأك جبريل القرآن فلا تتعجل بالقراءة معه، بل استمعْ إِليهِ واصبر حتى يفرغَ من تلاوته وحينئذٍ تقرأه أنت، قال ابن عباس: كان عليه السلام يبادر جبريل فيقرأ قبل أن يفرغ جبريل من الوحي حرصاً على حفظ القرآن ومخافة النسيان فنهاه الله عن ذلك، قال القرطبي: وهذا كقوله تعالى {لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ} {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} أي سلِ الله عز وجل زيادة العلم النافع، قال الطبري: أمره بمسألته من فوائد العلم ما لا يعلم.



قصة إخراج آدم من الجنة من وراء وسوسة الشيطان



{ وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا(115)وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلا إِبْلِيسَ أَبَى(116)فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلاَ يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى(117)إِنَّ لَكَ أَلا تَجُوعَ فِيهَا وَلا تَعْرَى(118)وَأَنَّكَ لا تَظْمَأُ فِيهَا وَلا تَضْحَى(119)فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلَى(120)فَأَكَلاَ مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى(121)ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى(122)قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى(123)وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى(124)قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا(125)قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ ءاياتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى(126)وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى(127)}.



{وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ} أي وصيناه أن لا يأكل من الشجرة من القديم {فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا} أي نسي أمرنا ولم نجد له حزماً وصبراً عمّا نهيناه عنه {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلا إِبْلِيسَ أَبَى} يذكر تعالى تشريف آدم وتكريمه وما فضّله به على كثير من الخلق، أي واذكر يا محمد حين أمرنا الملائكة بالسجود لآدم سجود تحيةٍ وتكريم فامتثلوا الأمر إِلا إِبليس فإِنه أبى السجود وعصى أمر ربه، قال الصاوي: كررت هذه القصة في سبع سور من القرآن تعليماً للعباد امتثال الأوامر، واجتناب النواهي وتذكيراً لهم بعداوة إِبليس لأبيهم آدم {فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ} أي ونبهنا آدم فقلنا له إِن إِبليس شديد العداوة لك ولحواء {فَلاَ يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى} أي لا تطيعاه فيكون سبباً لإِخراجكما من الجنة فتشقيان، وإِنما اقتصر على شقائه مراعاةً للفواصل ولاستلزام شقائه لشقائها، قال ابن كثير: المعنى إِيّاك أن تسعى في إِخراجك من الجنة فتتعب وتشقى في طلب رزقك، فإِنك ههنا في عيشٍ رغيد، بلا كلفةٍ ولا مشقة {إِنَّ لَكَ أَلا تَجُوعَ فِيهَا وَلا تَعْرَى} أي إِنَّ لك يا آدم ألاَّ ينالك في الجنة الجوعُ ولا العريُ {وَأَنَّكَ لا تَظْمَأُ فِيهَا وَلا تَضْحَى} أي ولك أيضاً ألاّ يصيبك العطش فيها ولا حر الشمس، لأن الجنة دار السرور والحبور، لا تعب فيها ولا نصب، ولا حر ولا ظمأ بخلاف دار الدنيا {فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ} أي حدَّثه خفيةً بطريق الوسوسة {قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلَى} أي قال له إِبليس اللعين: هل أدلك يا آدم على شجرةٍ من أكل منها خُلّد ولم يمت أصلاً، ونال المُلك الدائم الذي لا يزول أبداً؟ وهذه مكيدة ظاهرها النصيحة ومتى كان اللعين ناصحاً؟ {فَأَكَلاَ مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا} أي أكل آدم وحواء من الشجرة التي نهاهما الله عنها فظهرت لهما عوراتهما، قال ابن عباس: عريا من النور الذي كان الله تعالى قد ألبسهما إِياه حتى بدت فروجهما {وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجنَّةِ} أي شرعاً يأخذان من أوراق الجنة ويغطيان بها عوراتهما ليستترا بها {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى} أي خالف آدم أمر ربه بالأكل من الشجرة فضلَّ عن المطلوب الذي هو الخلود في الجنة حيث اغتر بقول العدوّ، قال أبو السعود: وفي وصفه بالعصيان والغِواية - مع صغر زلته - تعظيمٌ لها وزجرٌ بليغ لأولاده عن أمثالها {ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى} أي ثم اصطفاه ربه فقرَّبه إِليه وقبل توبته وهداه إِلى الثبات على التوبة والتمسك بأسباب الطاعة {قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ} أي قال الله لآدم وحواء: إِنزلا من الجنة إِلى الأرض مجتمعين، بعضُ ذريتكما لبعض عدوٌّ بسبب الكسب والمعاش واختلاف الطبائع والرغبات، قال الزمخشري: لما كان آدم وحواء أصلي البشر جُعلا كأنهما البشر في أنفسهما فخوطبا مخاطبتهم {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى} أي فإِن جاءكم من جهتي الكتب والرسل لهدايتكم {فَمَنْ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى} أي فمن تمسَّك بشريعتي واتَّبع رسلي فلا يضلَّ في الدنيا ولا يشقى في الآخرة قال ابن عباس: ضمن الله تعالى لمن قرأ القرآن وعمل بما فيه ألاّ يضلَّ في الدنيا، ولا يشقى في الآخرة وتلا الآية {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا} أي ومن أعرض عن أمري وما أنزلته على رسلي من الشرائع والأحكام فإِن له في الدنيا معيشةً قاسية شديدة وإِن تنعَّم ظاهره {وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} أي ونحشره في الآخرة أعمى البصر، قال ابن كثير: من أعرض عن أمر الله وتناساه فإِن له حياة ضنكاً في الدنيا، فلا طمأنينة له ولا انشراح لصدره، بل صدره ضيِّقٌ حرج لضلاله وإِن تنعَّم ظاهره ولبس ما شاء، وأكل ما شاء، وسكن حيث شاء، فإِن قلبه في قلقٍ وحيرة وشك، وقيل: يُضيَّق عليه قبره حتى تختلف أضلاعه فيه {قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا} أي قال الكافر: يا رب بأي ذنبٍ عاقبتني بالعمى وقد كنت في الدنيا بصيراً؟ {قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ ءاياتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى} أي قال الله تعالى له: لقد أتتك ءاياتنا واضحة جلية فتعاميتَ عنها وتركتها، وكذلك تُترك اليوم في العذاب جزاءً وفاقاً {وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآيَاتِ رَبِّهِ} أي ومثل ذلك الجزاء الموافق للخيانة والتكذيب بآيات الله نعاقب من أسرف بالانهماك في الشهوات، ولم يصدّق بكلام ربه وآياته البينات {وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى} أي عذاب جهنم أشدُّ من عذاب الدنيا لأنَّ عذابها أدوم وأثبت لأنه لا ينقطع ولا ينقضي.





الاعتبار بهلاك الأمم الماضية، والصبر على أذى المشركين وعدم الالتفات إلى متعهم،

وأمر الأهل بالصلاة





{أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لأُوْلِي النُّهَى(128)وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكَانَ لِزَامًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى(129)فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى(130)وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى(131)وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى(132)}.





{أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ} أي أفلم يتبيَّن لكفار مكة الذين كذبوك كم أهلكنا قبلهم من الأمم الخالية المكذبين لرسلهم {يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ} أي يرون مساكن عاد وثمود ويعاينون آثار هلاكهم أفلا يتعظون ويعتبرون؟ {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لأُوْلِي النُّهَى} أي إِنَّ في آثار هذه الأمم البائدة لدلالات وعِبراً لذوي العقول السليمة {وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكَانَ لِزَامًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى} أي لولا قضاءُ الله بتأخير العذاب عنهم ووقتٌ مسمَّى لهلاكهم لكان العذاب واقعاً بهم قال الفراء: في الآية تقديم وتأخيرٌ والمعنى ولولا كلمةٌ وأجلٌ مسمَّى لكان لزاماً أي لكان العذاب لازماً لهم، وإِنما أخَّره لتعتدل رؤوس الآي {فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ} أي فاصبر يا محمد على ما يقول هؤلاء المكذبون من قومك {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا} أي صلّ وأنت حامد لربك قبل طلوع الشمس صلاة الصبح، وقبل غروبها صلاة العصر {وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى} أي وصلِّ لربك في ساعات الليل وفي أول النهار وآخره {لَعَلَّكَ تَرْضَى} أي لعلَّك تُعطى ما يرضيك، قال القرطبي: أكثر المفسرين أن هذه الآية إشارة إِلى الصلوات الخمس {قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ} صلاة الصبح {وَقَبْلَ غُرُوبِهَا} صلاة العصر {وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ} صلاة العشاء {وَأَطْرَافَ النَّهَارِ} صلاة المغرب والظهر، لأن الظهر في آخر طرف النهار الأول، وغروب الشمس آخر طرف النهار الأخير {وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ} أي لا تنظر إِلى ما متعنا به أصنافاً من الكفار من نعيم الدنيا وبهرجها الخادع {زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَا} أي زينة الحياة الدنيا {لِنَفْتنَهُمْ فِيهِ} أي لنبتليهم ونختبرهم بهذا النعيم حتى يستوجبوا العذاب بكفرهم {وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى} أي ثواب الله خير من هذا النعيم الفاني وأدوم، قال المفسرون: الخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم والمراد به أُمته لأنه عليه السلام كان أزهد الناس في الدنيا وأشدَّ رغبة فيما عند الله {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا} أي وأْمر يا محمد أهلك وأمتك بالصلاة واصبر أنت على أدائها بخشوعها وآدابها { لا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ} أي لا نكلفك أن ترزق نفسك وأهلك بل نحن نتكفل برزقك وإِياهم {وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى} أي العاقبة الحميدة لأهل التقوى، قال ابن كثير: أي حسن العاقبة وهي الجنة لمن اتقى الله.



اقتراح المشركين الإتيان بمعجزة أخرى غير مكتفين بمعجزة القرآن





{وَقَالُوا لَوْلا يَأْتِينَا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الأولَى(133)وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولا فَنَتَّبِعَ ءاياتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى(134)قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحَابُ الصِّرَاطِ السَّوِيِّ وَمَنْ اهْتَدَى(135)}



{وَقَالُوا لَوْلا يَأْتِينَا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ} أي قال المشركون هلاّ يأتينا بمعجزة تدل على صدقه؟ {أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الأُولَى} أي أولم يكتفوا بالقرآن المعجزة الكبرى لمحمد عليه السلام المحتوي على أخبار الأمم الماضية؟ والاستفهام للتوبيخ والتقريع، قال أبو حيّان: اقترح المشركون ما يختارون على ديدنهم في التعنت فأجيبوا بأن هذا القرآن الذي سبق التبشير به في الكتب الإِلهية السابقة أعظم الآيات في الإِعجاز وهو الآية الباقية إِلى يوم القيامة {وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ} أي لو أنا أهلكنا كفار مكة من قبل نزول القرآن وبعثة محمد عليه السلام {لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولا} أي لقالوا يا ربنا هلاّ أرسلت إِلينا رسولاً حتى نؤمن به ونتَّبعه {فَنَتَّبِعَ ءاياتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى} أي فنتمسك بآياتك من قبل أن نذلّ بالعذاب ونفتضح على رؤوس الأشهاد، قال المفسرون: أراد تعالى أن يبيّن أنه لا حجة لأحد على الله بعد إِرسال الرسل وإِنزال الكتب فلم يترك لهم حجة ولا عذراً {قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ} أي قل يا محمد لهؤلاء المكذبين كلٌ مناومنكم منتظر دوائر الزمان ولمن يكون النصر {فَتَرَبَّصُوا} أمر تهديد أي فانتظروا العاقبة والنتيجة {فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحَابُ الصِّرَاطِ السَّوِيِّ} أي فستعلمون عن قريب من هم أصحاب الطريق المستقيم هل نحن أم أنتم؟ {وَمَنْ اهْتَدَى} أي اهتدى إِلى الحق وسبيل الرشاد ومن بقي على الضلال، قال القرطبي: وفي هذا ضربٌ من الوعيد والتخويف والتهديد ختمت به السورة الكريمة.

yacine414
2011-03-26, 17:50
سورة الأنبياء



غفلة الناس عن الحساب يوم القيامة

بشرية الرسل عليهم الصلاة والسلام

تهديد الكفار بالهلاك نتيجة ظلمهم كما فعل بسلفهم

توبيخ المشركين وذمهم وإثبات الوحدانية

الإنكار الشديد على من اتخذ آلهة مع الله

توبيخ آخر للمشركين على عدم تدبرهم ءايات الكون الدالة على وجود الإله الواحد

لم يكتب الخلود لأحد من الخلائق ومجيء القيامة بغتة

حفظ الله للبشر وعدله في حسابهم

إتيان موسى وهارون التوراة وتنزيل القرآن على محمد صلى الله عليه وسلم

إنكار إبراهيم عبادة الأصنام ودعوته إلى التوحيد

نقاش إبراهيم مع قومه حول تكسير الأصنام

نجاة سيدنا إبراهيم عليه السلام من النار

تنجية إبراهيم ولوط إلى الأرض المقدسة - الشام

قصة لوط عليه السلام وإعطاؤه النبوة

قصة نوح عليه السلم

قصة داود وسليمان عليهما السلام

قصة أيوب عليه السلام

قصة إسماعيل وإدريس وذي الكفل عليهم السلام

قصة يونس عليه السلام وابتلاع الحوت له

قصة زكريا ويحيى عليهما السلام مع قصة مريم

وحدة الرسالات السماوية

مصير الكافرين والمؤمنين في الآخرة وطي السماء

محمد صلى الله عليه وسلم الرحمة المهداة



بَين يَدَي السُّورَة



هذه السورة مكية وهي تعالج موضوع العقيدة الإِسلامية في ميادينها الكبيرة "الرسالة، الوحدانية البعث والجزاء" وتتحدث عن الساعة وشدائدها، والقيامة وأهوالها، وعن قصص الأنبياء والمرسلين.



* ابتدأت السورة الكريمة بالحديث عن غفلة الناس عن الآخرة، وعن الحساب والجزاء، بينما القيامة تلوح لهم وهم في غفلةٍ عن ذلك اليوم الرهيب، وقد شغلتهم مغريات الحياة عن الحساب المرقوب.



* ثم انتقلت إلى الحديث عن المكذبين، وهم يشهدون مصارع الغابرين، ولكنهم لا يعتبرون ولا يتعظون، حتى إِذا ما فاجأهم العذاب، رفعوا أصواتهم بالتضرع والاستغاثة ولكن هيهات.



* وتناولت السورة دلائل القدرة في الأنفس والآفاق، لتنبه على عظمة الخالق المدبر الحكيم، فيما خلق وأبدع، ولتربط بين وحدة الكون، ووحدة الإِله الكبير.



* وبعد عرض الأدلة والبراهين، الشاهدة على وحدانية رب العالمين، تذكر السورة حال المشركين وهم يتلقون الرسول عليه السلام بالاستهزاء والسخرية والتكذيب، وتعقّب على ذلك بسنة الله الكونية في إِهلاك الطغاة المجرمين.



* ثم تتناول السورة الكريمة قصص بعض الرسل، وتتحدث بالإِسهاب عن قصة إِبراهيم عليه السلام مع قومه الوثنيّين، في أسلوب مشوّق، فيه من نصاعة البيان، وقوة الحجة والبرهان ما يجعل الخصم يقر بالهزيمة في خنوعٍ واستسلام، وفي قصته عبر وعظات.



* وتتابع السورة الحديث عن الرسل الكرام فتتحدث عن "إِسحاق، ويعقوب، ولوط، ونوح، وداود، وسليمان، وأيوب، وإِسماعيل، وإِدريس، وذي الكفل، وذي النون، وزكريا، وعيسى" بإِيجاز مع بيان الأهوال والشدائد التي تعرضوا لها، وتختم ببيان رسالة سيد المرسلين محمد بن عبد الله المرسل رحمة للعالمين.

التســـميَــــة:

سميت "سورة الأنبياء" لأن الله تعالى ذكر فيها جملةً من الأنبياء الكرام في استعراضٍ سريع، يطول أحياناً ويقصر أحياناً، وذكر جهادهم وصبرهم وتضحيتهم في سبيل الله، وتفانيهم في تبليغ الدعوة لإِسعاد البشرية.





غفلة الناس عن الحساب يوم القيامة



{اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ(1)مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ(2)لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هَذَا إِلا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ(3)قَالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ(4) بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلامٍ بَلْ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الأَوَّلُونَ(5)مَا آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ(6) }.



{اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ} أي قرب ودنا وقت حساب الناس على أعمالهم { وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ} أي وهم مستغرقون في الشهوات، غافلون عن ذلك اليوم الرهيب، لا يعملون للآخرة ولا يستعدون لها كقول القائل: الناس في غفلاتهم: ورَحى المنيَّة تطحن، وإِنما وصف الآخرة بالاقتراب لأن كل ما هو آتٍ قرب {مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ} أي ما يأتيهم شيءُ من الوحي والقرآن من عند الله متجدّد في النزول فيه عظةٌ لهم وتذكير {إِلا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ} أي إِلاّ استمعوا القرآن مستهزئين قال الحسن: كلما جُدّد لهم الذكرُ استمروا على الجهل {لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ} أي ساهيةً قلوبهم عن كلام الله، غافلةً عن تدبر معناه {وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا} أي تناجى المشركون فيما بينهم سراً { هَلْ هَذَا إِلا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ} أي قالوا فيما بينهم خفيةً هل محمد الذي يدّعى الرسالة إِلا شخص مثلكم يأكل الطعام ويمشي في الأسواق ؟ {أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ} أي أفتقبلون السحر وأنتم تعلمون أنه سحر ؟ قال الألوسي: أرادوا أن ما أتى به محمد عليه السلام من قبيل السحر، وذلك بناءً على ما ارتكز في اعتقادهم أن الرسول لا يكون إِلا ملكاً وأن كل ما جاء به من الخوارق من قبيل السحر وعنوا بالسحر القرآن {قَالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ} أي قال محمد صلى الله عليه وسلم إِنَّ ربي لا يخفى عليه شيء مما يقال في السماء والأرض {وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} أي السميع بأقوالكم، العليم بأحوالكم، وفي هذا تهديدٌ لهم ووعيد {بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلامٍ} هذا إِضرابٌ من جهته تعالى وانتقال إلى ما هو أشنع وأقبح حيث قالوا عن القرآن إِنه أخلاط منامات {بَلْ افْتَرَاهُ} أي اختلقه محمد من تلقاء نفسه {بَلْ هُوَ شَاعِرٌ} أي بل محمد شاعر وما أتى به شعر يخيل للسامع أنه كلام رائع مجيد قال ابن جزي: حكى عنهم هذه الأقوال الكثيرة ليظهر اضطراب أمرهم وبطلان أقوالهم فهم متحيرون لا يستقرون على شيء {فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الأَوَّلُونَ} أي فليأتنا محمدٌ بمعجزةٍ خارقة تدل على صدقه كما أُرسل موسى بالعصا وصالح بالناقة {مَا آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ} أي ما صدَّق قبل مشركي مكة أهل القرى الذين اقترحوا على أنبيائهم الآيات بل كذبوا فأهلكهم الله أفيصدّق هؤلاء بالآيات لو رأوها ؟ كلا قال أبو حيان: وهذا استبعادٌ وإِنكار أي هؤلاء أعتى من الذين اقترحوا على أنبيائهم الآيات فلو أعطيناهم ما اقترحوا لكانوا أضلَّ من أولئك واستحقوا عذاب الاستئصال ولكنَّ الله تعالى حكم بإِبقائهم لعلمه أنه سيخرج منهم مؤمنون.



بشرية الرسل عليهم الصلاة والسلام



{وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلا رِجَالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنتُمْ لا تَعْلَمُونَ(7)وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ(8)ثُمَّ صَدَقْنَاهُمْ الْوَعْدَ فَأَنجَيْنَاهُمْ وَمَنْ نَشَاءُ وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ(9)لَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ(10) }.



{وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلا رِجَالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ} أي وما أرسلنا قبلك يا محمد إِلا رسلاً من البشر لا ملائكة فكيف ينكر هؤلاء المشركون رسالتك ويقولون: ما هذا إِلا بشر مثلكم؟ {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنتُمْ لا تَعْلَمُونَ} أي فاسألوا يا أهل مكة العلماء بالتوراة والإِنجيل هل كان الرسل الذين جاؤوهم بشراً أم ملائكة ؟ إِن كنتم لا تعلمون ذلك {وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ} أي ما جعلنا الأنبياء أجساداً لا يأكلون ولا يشربون كالملائكة بل هم كسائر البشر يأكلون ويشربون، وينامون ويموتون {وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ} أي ما كانوا مخلَّدين في الدنيا لا يموتون {ثُمَّ صَدَقْنَاهُمْ الْوَعْدَ فَأَنجَيْنَاهُمْ وَمَنْ نَشَاءُ} أي ثم صدقنا الأنبياء ما وعدناهم به من نصرهم وإِهلاك مكذبيهم وإِنجائهم مع أتباعهم المؤمنين {وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ} أي وأهلكنا المكذبين للرسل، المجاوزين الحدَّ في الكفر والضلال، وهذا تخويفٌ لأهل مكة {لَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ} اللام للقسم أي والله لقد أنزلنا إِليكم يا معشر العرب كتاباً عظيماً مجيداً لا يماثله كتاب في شرفُكم وعزُّكم {أَفَلا تَعْقِلُونَ} أي أفلا تعقلون هذه النعمة فتؤمنون بما جاءكم به محمد عليه السلام ؟



تهديد الكفار بالهلاك نتيجة ظلمهم كما فعل بسلفهم



{وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آخَرِينَ(11)فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَرْكُضُونَ(12)لا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ(13)قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ(14)فَمَا زَالَتْ تِلْكَ دَعْوَاهُمْ حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيدًا خَامِدِينَ(15)وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ(16)لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا لاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ(17) بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمْ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ(18)وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ(19)يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ(20) }.



{وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً} أي وكثيراً أهلكنا من أهل القرى الذين كفروا بآيات الله وكذبوا رسله { وَأَنشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آخَرِينَ} أي وخلقنا أمة أخرى بعدهم {فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَرْكُضُونَ} أي فلما رأوا عذابنا بحاسة البصر وتيقنوا نزوله إذا هم يهربون فارين منهزمين قال أبو حيان: لما أدركتهم مقدمة العذاب ركبوا دوابّهم يركضونها هاربين منهزمين {لا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ} أي تقول لهم الملائكة استهزاءً: لا تركضوا هاربين من نزول العذاب وارجعوا إِلى ما كنتم فيه من النعمة والسرور ولين العيش {وَمَسَاكِنِكُمْ} أي ارجعوا إِلى مساكنكم الطيبة {لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ} أي لعلكم تُسألون عما جرى عليكم، وهذا كله من باب الاستهزاء التوبيخ {قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ} أي قالوا يا هلاكنا ودمارنا إِنا كنا ظالمين بالإِشراك وتكذيب الرسل، اعترفوا وندموا حين لا ينفعهم الندم {فَمَا زَالَتْ تِلْكَ دَعْوَاهُمْ} أي فما زالت تلك الكلمات التي قالوها يكررونها ويردّدونها {حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيدًا خَامِدِينَ} أي حتى أهلكناهم بالعذاب وتركناهم مثل الحصيد موتى كالزرع المحصود بالمناجل {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ} أي لم نخلق ذلك عبثاً وباطلاً وإِنما خلقناهما دلالةً على قدرتنا ووحدانيتنا ليعتبر الناس ويستدلوا بالخلق على وجود الخالق المدّبر الحكيم {لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا} قال ابن عباس: هذا ردٌّ على من قال اتخذ الله ولداً والمعنى لو أردنا أن نتخذ ما يُتلهى به من زوجةٍ أو ولد {لاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا} أي لاتخذناه من عندنا من الحور العين أو الملائكة {إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ} أي لو أردنا فعل ذلك لاتخذنا من لدنا ولكنه منافٍ للحكمة فلم نفعله {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ} أي بل نرمي بالحق المبين على الباطل المتزعزع فيقمعه ويُبطله {فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ} أي هالك تالف {وَلَكُمْ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ} أي ولكم يا معشر الكفار العذاب والدمار من وصفكم الله تعالى بما لا يجوز من الزوجة والولد {وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} أي وله جلَّ وعلا جميع المخلوقات ملكاً وخلقاً وتصرفاً فكيف يجوز أن يشرك به ما هو عبدٌ ومخلوق له ؟ {وَمَنْ عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ} أي والملائكة الذين عبدتموهم من دون الله لا يتكبرون عن عبادة مولاهم ولا يَعْيَون ولا يملُّون {يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ} أي هم في عبادة دائمة ينزّهون الله عما لا يليق به ويصلّون ويذكرون الله ليل نهارّ لا يضعفون ولا يسأمون.



توبيخ المشركين وذمهم وإثبات الوحدانية



{ أَمْ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الأَرْضِ هُمْ يُنشِرُونَ(21)لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ(22)لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ(23)أَمْ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِي وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ(24) }.



{أَمْ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الأَرْضِ هُمْ يُنشِرُونَ} لما ذكر الدلائل على وحدانيته وأن من في السماوات والأرض ملكٌ له وأن الملائكة المقربين في طاعته وخدمته عاد إِلى ما كان عليه من توبيخ المشركين وذمهم وتسفيه أحلامهم، و{أَمْ} منقطعة بمعنى بل والهمزة فيها استفهام معناه التعجب والإِنكار والمعنى هل اتخذ هؤلاء المشركين آلهةً من الأرض قادرين على إِحياء الموتى ؟ كلا بل اتخذوا آلهةً جماداً لا تتصف بالقدرة على شيء فهي ليست بآلهة على الحقيقة لأن من صفة الإله القدرةُ على الإِحياء والإِماتة {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} هذا برهان على وحدانيته تعالى أي لو كان في الوجود آلهة غير الله لفسد نظام الكون كله لما يحدث بين الآلهة من الاختلاف والتنازع في الخلق والتدبير وقصد المغالبة، ألا ترى أنه لا يوجد ملِكان في مدينة واحدة، ولا رئيسان في دائرة واحدة ؟ {فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ} أي تنزّه الله الواحد الأحد خالق العرش العظيم عما يصفه به أهل الجهل من الشريك والزوجة والولد {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} أي لا يسأل تعالى عمّا يفعل لأنه مالك كل شيء والمالك يفعل في ملكه ما يشاء، ولأنه حكيم فأفعاله كلُّها جارية على الحكمة، وهم يُسألون عن أعمالهم لأنهم عبيد {أَمْ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً} كرَّر هذا الإِنكار استعظاماً للشرك ومبالغة في التوبيخ أي هل اتخذوا آلهة من دون الله تصلح للعبادة والتعظيم ؟ {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ } أي قل يا محمد لأولئك المشركين ائتوني بالحجة والبرهان على ما تقولون {هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِي وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي} أي هذا الكتاب الذي معي والكتب التي من قبلي كالتوراة والإِنجيل ليس فيها ما يقتضي الإِشراك بالله، ففي أي كتابٍ نزل هذا ؟ في القرآن أم في الكتب المنزّلة على سائر الأنبياء ؟! فما زعمتموه من وجود الآلهة لا تقوم عليه حجة لا من جهة العقل ولا النقل، بل كتب الله السابقة شاهدة بتنزيهه عن الشركاء والأنداد {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ} أي بل أكثر المشركين لا يعلمون التوحيد فهم معرضون عن النظر والتأمل في دلائل الإِيمان.



المنَــاسَــبَــة:

لما بيَّن تعالى أحوال المشركين وأقام الأدلة والبراهين على وحدانية الله وبطلان تعدد الآلهة، ذكر هنا أن دعوة الرسل جميعاً إِنما جاءت لبيان التوحيد ثم ذكر بقية الأدلة على قدرة الله ووحدانيته في هذا الكون العجيب.

سـبَبَ النّزول :

مرَّ النبي صلى الله عليه وسلم على أبي سفيان وأبي جهل وهما يتحدثان، فلما رآه أبو جهل ضحك وقال لأبي سفيان : هذا نبيُّ بني عبد مناف !! فغضب أبو سفيان وقال : ما تنكر أن يكون لبني عبد منافٍ نبيٌّ ؟ فرجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إِلى أبي جهل وقال له : ما أراك منتهياً حتى يصيبك ما أصاب عمَّك الوليد بن المغيرة فنزلت {وإِذا رآك الذين كفروا إِنْ يتخذونك إِلا هُزُواً..} الآية.



الإنكار الشديد على من اتخذ آلهة مع الله



{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدُونِ(25)وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَانُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ(26)لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ(27)يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يَشْفَعُونَ إِلا لِمَنْ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ(28) وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ(29)}



{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ } أي وما بعثنا قبلك يا محمد رسولاً من الرسل { إِلا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا} أي إِلا أوحينا إِليه أنه لا ربَّ ولا معبود بحق سوى الله {فَاعْبُدُونِ} أي فاعبدوني وحدي وخصوني بالعبادة ولا تشركون معي أحداً {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَانُ وَلَدًا} أي قال المشركون اتخذ الله من الملائكة ولداً قال المفسرون: هم حيٌّ من خزاعة قالوا: الملائكة بنات الله {سُبْحَانَهُ } أي تنزَّه الله وتقدَّس عما يقول الظالمون {بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ} أي بل هم عبادٌ مبجَّلون اصطفاهم الله فهم مكرمون عنده في منازل عالية، ومقاماتٍ سامية وهم في غاية الطاعة والخضوع {لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ} أي لا يقولون شيئاً حتى يقوله شأنهم شأن العبيد المؤدبين وهم بطاعته وأوامره يعلمون لا يخالفون ربهم في أمرٍ من الأوامر {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ } أي علمه تعالى محيط بهم لا يخفى عليه منهم خافية {وَلا يَشْفَعُونَ إِلا لِمَنْ ارْتَضَى} أي لا يشفعون يوم القيامة إِلا لمن رضي الله عنه وهم أهل الإِيمان كما قال ابن عباس: هم أهل شهادة لا إِله إِلا الله {وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ} أي وهم من خوف الله ورهبته خائفون حذرون لأنهم يعرفون عظمة الله قال الحسن: يرتعدون من خشية الله {وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ} أي ومن يقل من الملائكة إني إلهٌ ومعبودٌ مع الله {فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ} أي فعقوبته جهنم قال المفسرون: هذا على وجه التهديد وعلى سبيل الفرض والتقدير لأن هذا شرط والشرطُ لا يلزم وقوعه والملائكة معصومون {كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ} أي مثل ذلك الجزاء الشديد نجزي من ظلم وتعدى حدود الله.



توبيخ آخر للمشركين على عدم تدبرهم ءايات الكون الدالة على وجود الإله الواحد



{أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ(30)وَجَعَلْنَا فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا سُبُلا لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ(31)وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا وَهُمْ عَنْ ءاياتِهَا مُعْرِضُونَ(32)وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ(33)}



{أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا} استفهام توبيخ لمن ادعى مع الله آلهة وردٌّ على عبدة الأوثان أي أولم يعلم هؤلاء الجاحدون أن السماوات الأرض كانتا شيئاً واحداً ملتصقتين ففصل الله بينهما ورفع السماء إِلى حيث هي وأقرَّ الأرض كما هي ؟ قال الحسن وقتادة : كانت السماوات والأرض ملتزقتين ففصل الله بينهما بالهواء وقال ابن عباس: كانت السماوات رتقاً لا تمطر، وكانت الأرض رتقاً لا تُنبت ففتق هذه بالمطر، وهذه بالنبات {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ} أي جعلنا الماء أصل كل الأحياء وسبباً للحياة فلا يعيش بدونه إِنسان ولا حيوان ولا نبات {أَفَلا يُؤْمِنُونَ} أي أفلا يصدّقون بقدرة الله ؟ {وَجَعَلْنَا فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ } أي جعلنا في الأرض جبالاً ثوابت لئلا تتحرك وتضطرب فلا يستقر لهم عليها قرار {وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا سُبُلاً لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ} أي وجعلنا في هذه الجبال مسالك وطرقاً واسعة كي يهتدوا إِلى مقاصدهم في الأسفار قال ابن كثير: جعل في الجبال ثُغراً يسلكون فيها طرقاً من قطر إِلى قطر، وإِقليم إِلى إِقليم، كما هو المشاهد في الأرض يكون الجبل حائلاً بين هذه البلاد وهذه فيجعل الله فيها فجوةً ليسلك الناس فيها من ههنا إِلى ههنا {وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا} أي جعلنا السماء كالسقف للأرض محفوظة من الوقوع والسقوط وقال ابن عباس: حفظت بالنجوم من الشياطين {وَهُمْ عَنْ ءاياتِهَا مُعْرِضُونَ} أي والكفار عن الآيات الدالة على وجود الصانع وقدرته من الشمس والقمر والنجوم وسائر الأدلة والعبر معرضون لا يتفكرون فيما أبدعته يد القدرة من الخلق العجيب والتنظيم الفريد الدال على الحكمة البالغة والقدرة الباهرة قال القرطبي: بيَّن تعالى أن المشركين غفلوا عن النظر في السماوات وآياتها، من ليلها ونهارها، وشمسها وقمرها، وأفلاكها ورياحها، وما فيها من القدرة الباهرة إِذ لو نظروا واعتبروا لعلموا أن لها صانعاً قادراً واحداً يستحيل أن يكون له شريك {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ} أي وهو تعالى بقدرته نوَّع الحياة فجعل فيها ليلاً ونهاراً هذا في ظلامه وسكونه، وهذا بضيائه وأنسه، يطول هذا تارة ثم يقصر أُخرى وبالعكس، وخلق الشمس والقمر آيتين عظيمتين دالتين على وحدانيته {كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} أي كلٌّ من الشمس والقمر والنجوم والكواكب والليل والنهار يجرون ويسيرون بسرعة كالسابح في الماء.



لم يكتب الخلود لأحد من الخلائق وإتيان القيامة بغتة



{وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِيْنْ مِتَّ فَهُمْ الْخَالِدُونَ(34)كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ(35)وَإِذَا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمَانِ هُمْ كَافِرُونَ(36)خُلِقَ الإِنسَانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ ءاياتِي فَلا تَسْتَعْجِلُونِ(37)وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ(38) لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمْ النَّارَ وَلا عَنْ ظُهُورِهِمْ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ(39)بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ فَلا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهَا وَلا هُمْ يُنظَرُونَ(40)وَلَقَدْ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون(41)}.



{وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ} أي وما جعلنا لأحدٍ من البشر قبلك يا محمد البقاء الدائم والخلود في الدنيا { أَفَإِيْنْ مِتَّ فَهُمْ الْخَالِدُونَ} أي فهل إِذا متَّ يا محمد سيخلَّدون بعدك في هذه الحياة ؟ لا لن يكون لهم ذلك بل كلٌّ إِلى الفناء قال المفسرون: هذا ردٌّ لقول المشركين {شاعرٌ نتربص به ريب المنون} فأعلم تعالى بأن الأنبياء قبله ماتوا وتولى الله دينه بالنصر والحياطة، فهكذا نحفظ دينك وشرعك {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} أي كل مخلوقٍ إِلى الفناء ولا يدوم إِلا الحيُّ القيوم {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً} أي ونختبركم بالمصائب والنِّعم لنرى الشاكر من الكافر، والصابر من القانط قال ابن عباس: نبتليكم بالشدة والرخاء، والصحة والسَّقم، والغنى والفقر، والحلال والحرام، والطاعة والمعصية، والهدى والضلال وقال ابن زيد: نختبركم بما تحبون لنرى كيف شكركم، وبما تكرهون لنرى كيف صبركم !! {وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} أي وإِلينا مرجعكم فنجازيكم بأعمالكم {وَإِذَا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلا هُزُوًا} أي إِذا رآك كفار قريش كأبي جهل وأشياعه يسخرون منك ويقولون { أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ} استفهام فيه إِنكار وتعجيب أي هذا الذي يسب آلهتكم ويُسفّه أحلامكم ؟ {وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمَانِ هُمْ كَافِرُونَ} أي وهم كافرون بالله ومع ذلك يستهزئون برسول الله قال القرطبي: كان المشركون يعيبون من جحد إِلهية أصنامهم وهم جاحدون لإِلهية الرحمن، وهذا غاية الجهل {خُلِقَ الإِنسَانُ مِنْ عَجَلٍ} أي رُكّب الإِنسان على العَجلة فخُلق عجولاً يستعجل كثيراً من الأشياء وإِن كانت مضرَّة قال ابن كثير: والحكمة في ذكر عجلة الإِنسان ههنا أنه لما ذكر المستهزئين بالرسول صلى الله عليه وسلم وقع في النفوس سرعة الانتقام منهم واستعجلوا ذلك ولهذا قال {سَأُرِيكُمْ ءاياتِي فَلا تَسْتَعْجِلُونِ} أي سترون انتقامي واقتداري على من عصاني فلا تتعجلوا الأمر قبل أوانه {وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} أي ويقول المشركون على سبيل الاستهزاء والسخرية: متى هذا العذاب الذي يعدنا به محمد إِن كنتم يا معشر المؤمنين صادقين فيما أخبرتمونا به، قال تعالى {لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمْ النَّارَ وَلا عَنْ ظُهُورِهِمْ} أي لو عرف الكافرون فظاعة العذاب حين لا يستطيعون دفع العذاب عن وجوههم وظهورهم لأنه محيط بهم من جميع جهاتهم لما استعجلوا الوعيد قال أبو حيّان: وجواب {لَوْ} محذوف لأنه أبلغ في الوعيد وأهيب وقدَّره الزمخشري بقوله: لما كانوا بتلك الصفة من الكفر والاستهزاء والاستعجال ولكنَّ جهلهم هو الذي هوَّنه عندهم {وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ} أي لا ناصر لهم من عذاب الله {بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ} أي بل تأتيهم الساعة فجأة فتدهشهم وتحيرهم {فَلا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهَا وَلا هُمْ يُنظَرُونَ} أي فلا يقدرون على صرفها عنهم ولا يُمهلون ويُؤخرون لتوبةٍ واعتذار {وَلَقَدْ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ} تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم عن استهزاء المشركين أي والله لقد استهزئ برسلٍ أولي شأن خطير وذوي عدد كثير من قبلك يا محمد {فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون} أي فنزل وحلَّ بالساخرين من الرسل العذاب الذي كانوا يستهزئون به قال أبو حيان: سلاّه تعالى بأنَّ من تقدَّمه من الرسل وقع من أممهم الاستهزاء بهم، وأن ثمرة استهزائهم جَنَوْها هلاكاً وعقاباً في الدنيا والآخرة فكذلك حال هؤلاء المستهزئين.



حفظ الله للبشر وعدله في حسابهم



{قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَانِ بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ(42)أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنَا لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنفُسِهِمْ وَلا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ(43)بَلْ مَتَّعْنَا هَؤُلاءِ وَآبَاءهُمْ حَتَّى طَالَ عَلَيْهِمْ الْعُمُرُ أَفَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الأَرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ(44)قُلْ إِنَّمَا أُنذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ وَلا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعَاءَ إِذَا مَا يُنذَرُونَ(45)وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذَابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ(46)وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ(47)}.



{قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَانِ} أي قل يا محمد لهؤلاء المستهزئين من يحفظكم من بأس الرحمن في أوقاتكم؟ ومن يدفع عنكم عذابه وانتقامه إِن أراد إِنزاله بكم؟ وهو سؤال تقريع وتنبيه كيلا يغْترُّوا بما نالهم من نعم الله {بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ} أي بل هؤلاء الظالمون معرضون عن كلام الله ومواعظه لا يتفكرون ولا يعتبرون {أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنَا لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنفُسِهِمْ وَلا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ} أي ألهم آلهة تمنعهم من العذاب غيرنا ؟ {لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنفُسِهِمْ} أي لا يقدرون على نصر أنفسهم، فكيف ينصرون عابديهم ؟{ وَلا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ} أي وليست هذه الآلهة تستطيع أن تجير نفسها من عذاب الله لأنها في غاية العجز والضعف قال ابن عباس: يُصحبون: يُجارون أي لا يُجيرهم منا أحد لأن المجير صاحب لجاره {بَلْ مَتَّعْنَا هَؤُلاءِ وَآبَاءهُمْ حَتَّى طَالَ عَلَيْهِمْ الْعُمُرُ} أي متعنا هؤلاء المشركين وآباءهم من قبلهم بما رزقناهم من حطام الدنيا حتى طالت أعمارهم في رخاء ونعمة وحسبوا أن ذلك يدوم فاغتروا بذلك {أَفَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الأَرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا} أي أفلا ينظرون فيعْتبرون بأننا نأتي أرضهم فننقصها من أطرافها بالفتح على النبي وتسليط المسلمين عليها ؟ {أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ} استفهام بمعنى التقريع والإِنكار أي أفهم الغالبون والحالة هذه أم المغلوبون؟ بل هم المغلوبون الأخسرون الأرذلون {قُلْ إِنَّمَا أُنذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ} أي قل لهم يا محمد إِنما أخوفكم وأحذركم بوحيٍ من الله لا من تلقاء نفسي، فأنا مبلّغٌ عن الله ما أنذرتكم به من العذاب والنكال {وَلا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعَاءَ إِذَا مَا يُنذَرُونَ} أي ولكنكم أيها المشركون لشدة جهلكم وعنادكم كالصُمّ الذين لا يسمعون الكلام والإِنذار فلا يتعظون ولا ينزجرون {وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذَابِ رَبِّكَ} أي ولئن أصابهم شيء خفيف مما أُنذروا به من عذاب الله ولو كان يسيراً {لَيَقُولُنَّ يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ} أي ليعترفنَّ بجريمتهم ويقولون: يا هلاكنا لقد كنا ظالمين لأنفسنا بتكذيبنا رسل الله {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} أي ونقيم الموازين العادلة التي توزن بها الأعمال في يوم القيامة {فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا} أي فلا يُنقص محسنٌ من إِحسانه، ولا يُزاد مسيٌ على إِساءته {وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا} أي وإِن كان العمل الذي عملته زِنَةُ حبةٍ من خردل جئنا بها وأحضرناها قال أبو السعود: أي وإِن كان في غاية القلة والحقارة، فإِن حبة الخردل مثلٌ في الصغر {وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} أي كفى بربك أن يكون محصياً لأعمال العباد مجازياً عليها قال الخازن: والغرضُ منه التحذير فإِن المحاسب إِذا كان في العلم بحيث لا يمكن أن يشتبه عليه شيء، وفي القدرة بحيث لا يعجز عن شيء فحقيق بالعاقل أن يكون على أشدّ الخوف منه.



إتيان موسى وهارون التوراة وتنزيل القرآن على محمد صلى الله عليه وسلم



{وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْرًا لِلْمُتَّقِينَ(48)الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ(49)وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنزَلْنَاهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنكِرُونَ(50)}.



{وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْرًا لِلْمُتَّقِينَ} أي ولقد أعطينا موسى وهارون التوراة الفارقة بين الحق والباطل والهدى والضلال نوراً وضياءً وتذكيراً للمؤمنين المتقين {الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ} أي هم الذين يخافون الله ولم يروه لأنهم عرفوا بالنظر والاستدلال أن لهم رباً عظيماً قادراً يجازي على الأعمال فهم يخشونه وإِن لم يروه {وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ} أي وهم من أهوال القيامة وشدائدها خائفون وجلون {وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنزَلْنَاهُ} أي وهذا القرآن العظيم كتاب عظيم الشأن فيه ذكرٌ لمَنْ تذكّر، وعظة لمن اتعظ، كثير الخير، أنزلناه عليكم بلغتكم {أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنكِرُونَ} أي أفأنتم يا معشر العرب منكرون له وهو في غاية الجلاء والظهور ؟ قال الكرخي: الاستفهام للتوبيخ والخطابُ لأهل مكة فإِنهم من أهل اللسان يدركون مزايا الكلام ولطائفه، ويفهمون من بلاغة القرآن ما لا يدركه غيرهم مع أن فيه شرفهم وصيتَهم فلو أنكره غيرهم لكان لهم مناصبته وعداؤه.





إنكار إبراهيم عبادة الأصنام ودعوته إلى التوحيد



{وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ(51)إِذْ قَالَ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ(52)قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءنَا لَهَا عَابِدِينَ(53) قَالَ لَقَدْ كُنتُمْ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ(54)قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللاعِبِينَ(55)قَالَ بَل رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ(56)وَتَاللَّهِ لأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ(57)فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلا كَبِيرًا لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ(58)}.

yacine414
2011-03-26, 17:50
المنَــاسَـبَــة:

لمّا ذكر تعالى الدلائل على التوحيد والنبوة والمعاد أتبع ذلك بذكر قصص الأنبياء، وما نال كثيراً منهم من الابتلاء تسليةً للرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم ليتأسّى بهم في الصبر واحتمال الأذى في سبيل الله تعالى، وتوطين النفس على مجابهة المشركين أعداء الله.



{وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ} أي والله لقد أعطينا إِبراهيم هُداه وصلاحه إِلى وجوه الخير في الدين والدنيا {مِنْ قَبْلُ} أي من صغره حيث وفقناه للنظر والاستدلال إِلى وحدانية ذي الجلال {وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ} أي عالمين أنه أهلٌ لما آتيناه من الفضل والنبوة {إِذْ قَالَ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ} هذا بيانٌ للرشد الذي أُوتيه إِبراهيم من صغره أي حين قال لأبيه آزر وقومه المشركين ما هذه الأصنام التي أنتم مقيمون على عبادتها ؟ وفي قوله { مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ} تحقيرٌ لها وتصغيرٌ لشأنها وتجاهل بها مع علمه بتعظيمهم لها {قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءنَا لَهَا عَابِدِينَ} أي نعبدها تقليداً لأسلافنا قال ابن كثير: لم يكن لهم حجة سوى صنيع آبائهم الضلال { قَالَ لَقَدْ كُنتُمْ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} أي لقد كنتم وأسلافكم الذين عبدوا هذه الأصنام في خطأٍ بيّن بعبادتكم إِياها إِذ هي جمادات لا تنفع ولا تضر ولا تسمع {قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللاعِبِينَ} أي هل أنت جادُّ فيما تقول أم لاعب ؟ وهل قولك حقٌّ أم مزاح ؟ استعظموا إِنكاره عليهم، واستعبدوا أن يكون ما هم عليه ضلالاً، وجوَّزوا أن ما قاله على سبيل المزاح لا الجد فأضرب عن قولهم وأخبر أنه جادٌّ فيما قال غير لاعب {قَالَ بَل رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ} أي ربكم الجدير بالعبادة هو ربَّ السماوات والأرض الذي خلقهنَّ وأبدعهنَّ لا هذه الأصنام المزعومة {وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ} أي وأنا شاهد للهِ بالوحدانية بالبراهين القاطعة والحجج الساطعة كالشاهد الذي تقطع به الدَّعاوى {وَتَاللَّهِ لأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ} أي وأقسمُ بالله لأمكرنَّ بآلهتكم وأحتالنَّ في وصول الضر إِليها بعد ذهابكم عنها إِلى عيدكم قال المفسرون: كان لهم عيد يخرجون إِليه في كل سنة ويجتمعون فيه فقال آزر لإِبراهيم: لو خرجت معنا إِلى عيدنا أعجبك ديننا!! فخرج معهم إِبراهيم فلما كان ببعض الطريق ألقى نفسه إِلى الأرض وقال إِني سقيم أشتكي رجلي فتركوه ومضوا ثم نادى في آخرهم {وَتَاللَّهِ لأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ} فسمعها رجلٌ فحفظها {فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا} أي كسَّر الأصنام حتى جعلها فتاتاً وحُطاماً {إِلا كَبِيرًا لَهُمْ} أي إِلا الصنم الكبير فإِنه لم يكسره قال مجاهد: ترك الصنم الأكبر وعلَّق الفأس الذي كسر به الأصنام في عنقه ليحتجَّ به عليهم {لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ} أي لعلَّهم يرجعون إِلى الصنم فيسألونه عمن كسَّر الأصنام فيتبين لهم عجزه وتقوم الحجة عليهم.



نقاش إبراهيم مع قومه حول تكسير الأصنام



{قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنْ الظَّالِمِينَ(59)قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ(60) قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ(61)قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ(62)قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنطِقُونَ(63)فَرَجَعُوا إِلَى أَنفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمْ الظَّالِمُونَ(64)ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلاءِ يَنطِقُونَ(65)}.



{قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنْ الظَّالِمِينَ} في الكلام محذوفٌ تقديره: فلما رجعوا من عيدهم ونظروا إِلى آلهتهم ورأوا ما فُعل بها قالوا على جهة البحث والإِنكار والتشنيع والتوبيخ: إِنَّ من حطَّم هذه الآلهة لشديد الظلم عظيم الجرم لجراءته على الآلهة المستحقة للتعظيم والتوقير {قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ} أي قال من سمع إِبراهيم يقول {وَتَاللَّهِ لأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ} سمعنا فتى يذكرهم بالذم ويسبُّهم ويعيبهم يسمى إِبراهيم فلعله هو الذي حطَّم الآلهة ! {قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ} أي قال نمرود وأشراف قومه أحضروا إِبراهيم بمرأى من الناس حتى يروه، والغرضُ أن تكون محاكمته على رؤوس الأشهاد بحضرة الناس كلهم ليكون عقابه عبرة لمن يعتبر {لعلهم يشهدون} أي لعلهم يحضرون عقابه ويرون ما يصنع به {قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ} أي هل أنتَ الذي حطَّمت هذه الآلهة يا إِبراهيم ؟ {قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا} أي قال إِبراهيم بل حطَّمها الصنم الكبير لأنه غضب أن تعبدوا معه هذه الصغار فكسرها، والغرض تبكيتُهم وإِقامة الحجة عليهم ولذا قال {فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنطِقُونَ} أي اسألوا هذه الأصنام من كسرها ؟ إِن كانوا يقدرون على النطق قال القرطبي: والكلام خرج مخرج التعريض وذلك أنهم كانوا يعبدونهم ويتخذونهم آلهة من دون الله كما قال إِبراهيم لأبيه {لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئاً} فقال إِبراهيم {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا } ليقولوا إِنهم لا ينطقون ولا ينفعون ولا يضرون فيقول لهم فلم تعبدونهم ؟ فتقوم عليهم الحجة منهم كما يجوز فرض الباطل مع الخصم حتى يرجع إِلى الحق من نفسه فإِنه أقرب في الحجة وأقطع للشبهة {فَرَجَعُوا إِلَى أَنفُسِهِمْ} أي رجعوا إِلى عقولهم وتفكروا بقلوبهم {فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمْ الظَّالِمُونَ} أي الظالمون في عبادة ما لا ينطق {ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ} أي انقلبوا من الإِذعان إِلى المكابرة والطغيان {لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلاءِ يَنطِقُونَ} أي قالوا في لجاجهم وعنادهم: لقد علمتَ يا إِبراهيم أن هذه الأصنام لا تتكلم ولا تجيب فكيف تأمرنا بسؤالها ؟ وهذا إِقرار منهم بعجز الآلهة، وحينئذٍ توجهت لإِبراهيم الحجة عليهم فأخذ يوبخهم ويعنّفهم.



نجاة سيدناإبراهيم عليه السلام من النار



{قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنفَعُكُمْ شَيْئًا وَلا يَضُرُّكُمْ(66) أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ(67) قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنتُمْ فَاعِلِينَ(68)قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ(69)وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمْ الأَخْسَرِينَ(70)}.



{قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنفَعُكُمْ شَيْئًا وَلا يَضُرُّكُمْ} أي أتعبدون جمادات لا تضر ولا تنفع ؟ {أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} أي قبحاً لكم ونتناً لكم وللأصنام التي عبدتموها من دون الله {أَفَلا تَعْقِلُونَ} أي أفلا تعقلون قبح صنيعكم ؟ {قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانصُرُوا آلِهَتَكُمْ} لمّا لزمتهم الحجة وعجزوا عن الجواب عدلوا إِلى البطش والتنكيل فقالوا: احرقوا إِبراهيم بالنار انتقاماً لآلهتكم ونصرةً لها {إِنْ كُنتُمْ فَاعِلِينَ} أي إِن كنتم ناصريها حقاً {قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ} أي ذات بردٍ وسلامة وجاءت العبارةُ هكذا للمبالغة قال المفسرون: لما أرادوا إِحراق إِبراهيم جمعوا له حطباً مدة شهر حتى كانت المرأة تمرض فتنذر إِن عوفيت أن تحمل حطباً لحرق إِبراهيم، ثم جعلوه في حفرة من الأرض وأضرموها ناراً فكان لها لهب عظيم حتى إِن الطائر ليمرُّ من فوقها فيحترق من شدة وهجها وحرها، ثم أوثقوا إِبراهيم وجعلوه في منجنيق ورموه في النار، فجاء إِليه جبريل فقال: ألك حاجة؟ قال أمّا إِليك فلا، فقال جبريل: فاسأل ربك، فقال: "حسبي من سؤالي علمه بحالي" فقال الله: يا نار كوني برداً وسلاماً على إِبراهيم، ولم تحرق النار منه سوى وثاقه وقال ابن عباس: لو لم يقل الله {وَسَلامًا} لآذى إِبراهيم بردها {وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا} أي أرادوا تحريقه بالنار {فَجَعَلْنَاهُمْ الأَخْسَرِينَ} أي أخسر الناس وأخسر من كل خاسر حيث كادوا لنبيّ اللهِ فردَّ الله كيدهم في نحورهم.



تنجية إبراهيم ولوط إلى الأرض المقدسة - الشام -



{وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ(71)وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلا جَعَلْنَا صَالِحِينَ(72)وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ(73) }.



{وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ} أي ونجينا إِبراهيم مع ابن أخيه لوط حيث هاجرا من العراق إِلى الشام التي بارك الله فيها بالخِصب وكثرة الأنبياء ووفرة الأنهار والأشجار قال ابن الجوزي: وبركتُها أن الله عزَّ وجل بعث أكثر الأنبياء منها وأكثر فيها الخِصب والأنهار {وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً} أي أعطينا إِبراهيم -بعدما سأل ربه الولد- إسحاق وأعطيناه كذلك يعقوب نافلةً أي زيادة وفضلاً من غير سؤال قال المفسرون: سأل إِبراهيم ربه ولداً فأعطاه الله إسحاق وزاده يعقوب نافلة وزيادة على ما سأل لأنَّ ولد الولد كالولد {وَكُلا جَعَلْنَا صَالِحِينَ} أي وكلاً من إِبراهيم وإِسحاق ويعقوب جعلناه من أهل الخير والصلاح {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا} أي جعلناهم قدوةً ورؤساء لغيرهم يرشدون الناس إِلى الدين بأمر الله {وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ} أي أوحينا إِليهم أن يفعلوا الخيرات ليجمعوا بين العلم والعمل {وَإِقَامَ الصَّلاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ} أي وأمرناهم بطريق الوحي بإِقامة الصلاة وإِيتاء الزكاة، وإِنما خصهما بالذكر لأن الصلاة أفضلُ العبادات البدنية، والزكاة أفضلُ العبادات المالية {وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ} أي موحدين مخلصين في العبادة.



قصة لوط عليه السلام وإعطاؤه النبوة



{وَلُوطًا آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ تَعْمَلُ الْخَبَائِثَ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَاسِقِينَ(74)وَأَدْخَلْنَاهُ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ(75)}.



{وَلُوطًا آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا} أي وأعطينا لوطاً النبوة والعلم والفهم السديد قال ابن كثير: كان لوط قد آمن بإِبراهيم عليه السلام واتَّبعه وهاجر معه كما قال تعالى {فآمن له لوطٌ وقال إِني مهاجرٌ إِلى ربي} فآتاه الله حُكماً وعلماً وأوحى إِليه وجعله نبياً وبعثه إِلى "سدوم" فكذبوه فأهلكهم الله ودمَّر عليهم كما قصّ خبرهم في غير موضع من كتابه العزيز {وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ تَعْمَلُ الْخَبَائِثَ} أي خلَّصناه من أهل قرية سدوم الذين كانوا يعملون الأعمال الخبيثة كاللواط وقطع السبيل وغير ذلك {إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَاسِقِينَ} أي كانوا أشراراً خارجين عن طاعة الله {وَأَدْخَلْنَاهُ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ} أي أدخلناه في أهل رحمتنا لأنه من عبادنا الصالحين.



قصة نوح عليه السلام



{وَنُوحًا إِذْ نَادَى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ(76)وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ(77)}.



{وَنُوحًا إِذْ نَادَى مِنْ قَبْلُ} أي واذكر قصة نوح حين دعا على قومه من قبل هؤلاء الأنبياء المذكورين، دعا عليهم بالهلاك حين كذبوه بقوله {ربّ لا تذَرْ على الأرض من الكافرين ديَّاراً} {فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ} أي استجبنا دعاءه فأنقذناه ومن معه من المؤمنين - ركاب السفينة - من الطوفان والغرق الذي كان كرباً وغماً شديداً يكاد يأخذ بالأنفاس {وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا} أي منعناه من شر قومه المكذبين فنجيناه وأهلكناهم {إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ} أي كانوا منهمكين في الشرّ فأغرقناهم جميعاً ولم نُبْق منهم أحداً.



قصة داود وسليمان عليهما السلام



{وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ(78)فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلاًّ آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ(79)وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ(80)وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ(81)وَمِنْ الشَّيَاطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلاً دُونَ ذَلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ(82)}.



{وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ} أي واذكر قصة داود وسليمان حين يحكمان في شأن الزرع {إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ} أي وقت رعت فيه غنم القوم ليلاً فأفسدته {وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ} أي كنا مطَّلعين على حكم كلٍ منهما عالمين به {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ} أي علمنا وألهمنا سليمان الحكم في القضية {وَكُلاًّ آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا} أي وكلاً من داود وسليمان أعطيناه الحكمة والعلم الواسع مع النبوة قال المفسرون: تخاصم إِلى داود رجلان دخلت غنم أحدهما على زرع الآخر بالليل فأفسدته فلم تُبق منه شيئاً، فقضى بأن يأخذ صاحب الزرع الغنم، فخرج الرجلان على سليمان وهو بالباب فأخبراه بما حكم به أبوه فدخل عليه فقال: يا نبيَّ الله لو حكمتَ بغير هذا كان أرفق للجميع ؟ قال: وما هو ؟ قال: يأخذ صاحب الغنم الأرض فيصلحها ويبذرها حتى تعود زرعها كما كان، ويأخذ صاحب الزرع الغنم وينتفع بألبانها وصوفها ونسلها، فإِذا خرج الزرع رُدَّت الغنم إِلى صاحبها والأرض إِلى ربها فقال له داود: وُفّقت يا بُنيَّ وقضى بينهما بذلك فذلك قوله تعالى {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ} {وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ} أي جعلنا الجبال والطير تسبّح مع داود إِذا سبّح قال ابن كثير: وذلك لطيب صوته بتلاوة الزبور فكان إِذا ترنّم بها تقف الطير في الهواء فتجاوبه وتردُّ عليه الجبال تأويباً وإِنما قدَّم ذكر الجبال على الطير لأن تسخيرها وتسبيحها أعجب وأغرب وأدخل في الإِعجاز لأنها جماد {وَكُنَّا فَاعِلِينَ} أي وكنا قادرين على فعل ذلك {وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ} أي علمنا داود صنع الدروع بإلانة الحديد له قال قتادة: أول من صنع الدروع داود وكانت صفائح فهو أول من سردها وحلَّقها {لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ} أي لتقيكم في القتال شرَّ الأعداء {فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ} استفهامٌ يراد به الأمر أي اشكروا الله على ما أنعم به عليكم، ولما ذكر تعالى ما خصَّ به نبيه داود عليه السلام ذكر ما خصَّ به ابنه سليمان فقال {وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً} أي وسخرنا لسليمان الريح عاصفةً أي شديدة الهبوب {تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا} أي تسير بمشيئته وإِرادته إِلى أرض الشام المباركة بكثرة الأشجار والأنهار والثمار، وكانت مسكنه ومقر ملكه {وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ} أي وكنا عالمين بجميع الأمور فما أعطيناه تلك المكانة إِلا لما نعلمه من الحكمة {وَمِنْ الشَّيَاطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ} أي وسخرنا لسليمان بعض الشياطين يغوصون في الماء ويدخلون أعماق البحار ليستخرجوا له الجواهر واللآلئ {وَيَعْمَلُونَ عَمَلاً دُونَ ذَلِكَ} أي ويعملون أعمالاً أخرى سوى الغوص كبناء المدن والقصور الشاهقة والأمور التي يعجز عنها البشر {وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ} أي نحفظهم عن الزيغ عن أمره أو الخروج عن طاعته.









قصة أيوب عليه السلام



{وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِي الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ(83)فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ(84) }.



المنَــاسـَبـَـة:

لما ذكر تعالى جملةً من الأنبياء "إبراهيم، نوح، لوط، داود، سليمان" وما نال كثيراً منهم من الابتلاء، ذكر هنا قصة أيوب وابتلاء الله له بأنواع المحن ثم أعقبها بذكر محنة يونس وزكريا وعيسى وكلُّ ذلك بقصد التسلية للرسول صلى الله عليه وسلم ليتأسى بهم.



سَبَبُ النزّول:

عن ابن عباس قال: لما نزل قوله تعالى {إِنكم وما تعبدون من دون الله حصبُ جهنم} شقَّ ذلك على كفار قريش وقالوا: شتم آلهتنا وأتوا ابن الزَّبعري وأخبروه فقال: لو حضرتُه لرردتُ عليه قالوا: وما كنت تقول له ؟ قال أقول له: هذا المسيح تعبده النصارى، وهذا عزيز تعبده اليهود، أفهما من حصب جهنم ؟ فعجبت قريش من مقالته ورأوا أنَّ محمداً قد خصم فأنزل الله {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ}.

{وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ} أي واذكر قصة نبيّ الله أيوب حين دعا ربَّه بتضرع وخشوع {أَنِّي مَسَّنِي الضُّرُّ} أي نالني البلاء والكرب والشدة قال المفسرون: كان أيوب نبياً من الروم، وكان له أولاد ومال كثير، فأذهب الله ماله فصبر، ثم أهلك الأولاد فصبر، ثم سلَّط البلاء والمرض على جسمه فصبر فمر عليه ملأ من قومه فقالوا: ما أصابه هذا إِلا بذنب عظيم فعند ذلك تضرَّع إِلى الله فكشف عنه ضره {وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} أي أكثرهم رحمة فارحمني، ولم يصرّح بالدعاء ولكنه وصف نفسه بالعجز والضعف، ووصف ربه بغاية الرحمة ليرحمه، فكان فيه من حسن التلطف ما ليس في التصريح بالطلب {فَاسْتَجَبْنَا لَهُ} أي أجبنا دعاءه وتضرعه { فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ} أي أزلنا ما أصابه من ضر وبلاء {وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ} قال ابن مسعود: مات أولاده وهم سبعة من الذكور وسبعة من الإِناث فلما عوفي أُحيوا له وولدت له امرأته سبعة بنين وسبع بنات. والمعنى أعطيناه أهله في الدنيا ورزقناه من زوجته مثل ما كان له من الأولاد والأتباع {رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا} أي من أجل رحمتنا إِيّاه {وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ} أي وتذكرة لغيره من العابدين ليصبروا كما صبر قال القرطبي: أي وتذكيراً للعُبَّاد لأنهم إِذا ذكروا بلاء أيوب ومحنته وصبره وطّنوا أنفسهم على الصبر على شدائد الدنيا مثل ما فعل أيوب وهو أفضل أهل زمانه، يُروى أنَّ أيوب مكث في البلاء ثمان عشرة سنة فقالت له امرأته يوماً: لو دعوتَ الله عز وجل فقال لها: كم لبثنا في الرخاء ؟ فقالت: ثمانين سنة فقال: إِني أستحيي من الله أن أدعوه وما مكثت في بلائي المدة التي مكثتها في رخائي.





قصة إسماعيل وإدريس وذي الكفل عليهم السلام:



{وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ(85)وَأَدْخَلْنَاهُمْ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ(86)}.



{وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ} واذكر لقومك قصة إِسماعيل بن إِبراهيم وإِدريس بن شيث وذا الكفل {كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ} أي كل هؤلاء الأنبياء من أهل الإِحسان والصبر، جاهدوا في الله وصبروا على ما نالهم من الأذى {وَأَدْخَلْنَاهُمْ فِي رَحْمَتِنَا} أي أدخلناهم بصبرهم وصلاحهم الجنة دار الرحمة والنعيم { إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ} أي لأنهم من أهل الفضل والصلاح.



قصة يونس عليه السلام وابتلاع الحوت له



{وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لا إِلَهَ إِلا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ(87)فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ(88) }



{وَذَا النُّونِ} أي واذكر لقومك قصة يونس الذي ابتلعه الحوت، والنونُ هو الحوتُ نُسب إِليه لأنه التقمه {إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا} أي حين خرج من بلده مغاضباً لقومه إِذ كان يدعوهم إِلى الإِيمان فيكفرون حتى أصابه ضجر منهم فخرج عنهم ولذلك قال الله تعالى {ولا تكن كصاحب الحوت} ولا يصح قول من قال: مغضباً لربه قال أبو حيان: وقولُ من قال مغاضباً لربه يجب طرحه إِذ لا يناسب منصب النبوة وقال الرازي: لا يجوز صرف المغاضبة إِلى الله تعالى لأن ذلك صفة من يجهل كون الله مالكاً للأمر والنهي، والجاهلُ بالله لا يكون مؤمناً فضلاً عن أن يكون نبياً، ومغاضبتُه لقومه كانت غضباً لله، وأنفةً لدينه، وبغضاً للكفر وأهله {فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ} أي ظنَّ يونس أنْ لن نضيّق عليه بالعقوبة كقوله {ومن قُدر عليه رزقُه} أي ضُيّق عليه فيه فهو من القدر لا من القُدرة قال الإِمام الفخر الرازي: من ظنَّ عجز الله فهو كافر، ولا خلاف أنه لا يجوز نسبة ذلك إِلى آحاد المؤمنين فكيف إِلى الأنبياء عليهم السلام ! روي أنه دخل ابن عباس على معاوية فقال له معاوية: لقد ضربتني أمواج القرآن البارحة فغرقتُ فيها فلم أجدْ لي خلاصاً إِلا بك، فقال: وما هي ؟ قال: يظنُّ نبيُّ الله يونس أن لن يقدر الله عليه ؟ فقال ابن عباس: هذا من القدْر لا من القُدرة {فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ} أي نادى ربه في ظلمة الليل وهو في بطن الحوت قال ابن عباس: جمعت الظلمات لأنها ظلمة الليل، وظلمةُ البحر، وظلمةُ بطن الحوت {أَنْ لا إِلَهَ إِلا أَنْتَ} أي نادى بأن لا إِله إِلا أنت يا رب {سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} أي تنزَّهت يا ربّ عن النقص والظلم، وقد كنتُ من الظالمين لنفسي وأنا الآن من التائبين النادمين فاكشفْ عني المحنة وفي الحديث (ما من مكروبٍ يدعو بهذا الدعاء إِلا استجيب له) {فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ } أي استجبنا لتضرعه واستغاثته ونجيناه من الضيق والكرب الذي ناله حين التقمه الحوت {وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ} أي كما نجينا يونس من تلك المحنة ننجي المؤمنين من الشدائد والأهوال إِذا استغاثوا بنا.



قصة زكريا ويحيى عليهما السلام مع قصة مريم



{وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ(89)فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ(90) وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ(91)}.



{وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ} أي واذكر يا محمد خبر رسولنا زكريا حين دعا ربه دعاء مخلص منيب قائلاً: ربّ لا تتركني وحيداً بلا ولد ولا وارث قال ابن عباس: كان من سنُّه مائة وسنُّ زوجته تسعاً وتسعين {وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ} أي وأنت يا رب خير من يبقى بعد كل من يموت قال الألوسي: وفيه مدحٌ له تعالى بالبقاء، وإشارة إلى فناء من سواه من الأحياء، واستمطارٌ لسحائب لطفه عز وجل {فَاسْتَجَبْنَا لَهُ} أي أجبنا دعاءه {وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى} أي رزقناه ولداً اسمه يحيى على شيخوخته {وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ} أي جعلناها ولوداً بعد أن كانت عاقراً وقال ابن عباس: كانت سيئة الخُلُق طويلة اللسان فأصلحها الله تعالى فجعلها حسنة الخُلُق {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ} أي إِنما استجبنا دعاء من ذُكر من الأنبياء لأنهم كانوا صالحين يجدّون في طاعة الله ويتسابقون في فعل الطاعات وعمل الصالحات {وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا} أي طمعاً ورجاءً في رحمتنا وخوفاً وفزعاً من عذابنا {وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} أي كانوا متذللين خاضعين لله يخافونه في السر والعلن {وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا} أي واذكر مريم البتول التي أعفت نفسها عن الفاحشة وعن الحلال والحرام كقوله {وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُنْ بَغِيًّا} قال ابن كثير: ذكر تعالى قصة مريم وابنها عيسى مقرونة بقصة زكريا وابنه يحيى لأن تلك مربوطة بهذه فإِنها إِيجاد ولدٍ من شيخ كبير قد طعن في السن وامرأة عجوز لم تكن تلد في حال شبابها، وهذه أعجب فإِنها إِيجاد ولدٍ من أنثى بلا ذكر ولذلك ذكر قصة مريم بعدها {فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا} أي أمرنا جبريل فنفخ في فتحة درعها - قميصها - فدخلت النفخة إِلى جوفها فحملت بعيسى، وأضاف الروح إِليه تعالى على جهة التشريف {وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ} أي وجعلنا مريم مع ولدها عيسى علامةً وأعجوبة للخلق تدل على قدرتنا الباهرة ليعتبر بها الناس.



وحدة الرسالات السماوية



{إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ(92)وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ(93)فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ(94)وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ(95)حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنسِلُونَ(96) وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يَا وَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ(97) }.





{إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} أي دينكم وملتكم التي يجب أن تكونوا عليها أيها الناس ملةٌ واحدة غير مختلفة وهي ملة الإِسلام، والأنبياء كلهم جاؤوا برسالة التوحيد قال ابن عباس: معناه دينكم دينٌ واحد {وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} أي وأنا إِلهكم لا ربَّ سواي فأفردوني بالعبادة {وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ} أي اختلفوا في الدين وأصبحوا فيه شيعاً وأحزاباً فمن موحّد، ومن يهودي، ونصراني ومجوسّي {كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ} أي رجوعهم إِلينا وحسابهم علينا قال الرازي: معنى الآية جعلوا أمر دينهم فيما بينهم قِطعاً كما تتوزع الجماعة الشيء ويقتسمونه تمثيلاً لاختلافهم في الدين وصيرورتهم فرقاً وأحزاباً شتى {فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ} أي من يعمل شيئاً من الطاعات وأعمال البرّ والخير بشرط الإِيمان {فَلَا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ} أي لا بُطلان لثواب عمله ولا يضيع شيء من جزائه {وَإِنّا لَهُ كَاتِبُونَ} أي نكتب عمله في صحيفته والمراد أمر الملائكة بكتابة أعمال الخلق {وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ} قال ابن عباس: أي ممتنعٌ على أهل قرية أهلكناهم أن يرجعوا بعد الهلاك إِلى الدنيا مرة ثانية وفي رواية عنه {أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ} أي لا يتوبون قال ابن كثير: والأول أظهر وقال أبو حيّان: المعنى وممتنع على أهل قرية قدرنا إِهلاكهم لكفرهم رجوعهم في الدنيا إِلى الإِيمان إِلى أن تقوم الساعة فحينئذٍ يرجعون {حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ} أي حتى إِذا فتح سدُّ يأجوج ومأجوج {وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنسِلُونَ} أي وهم لكثرتهم من كل مرتفع من الأرض ومن كل أكمة وناحية يسرعون النزول والمرادُ أن يأجوج ومأجوج لكثرتهم يخرجون من كل طريق للفساد في الأرض {وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ} أي اقترب وقت القيامة قال المفسرون: جعل الله خروج يأجوج ومأجوج علماً على قرب الساعة. قال ابن مسعود: الساعة من الناس بعد يأجوج ومأجوج كالحامل المتمّم لا يدري أهلُها متى تفْجؤهم بولدها ليلاً أو نهاراً {فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا} الضمير للقصة والشأن أي فإِذا شأن الكافرين أنَّ أبصارهم شاخصة من هول ذلك اليوم لا تكاد تطرف من الحيرة وشدة الفزع { يَا وَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا} أي ويقولون يا ويلنا أي يا حسرتنا وهلاكنا قد كنا في الدنيا في غفلةٍ تامة عن هذا المصير المشؤوم واليوم الرهيب {بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ} أضربوا عن القول السابق وأخبروا بالحقيقة المؤلمة والمعنى لم نكن في غفلةٍ حيث ذكَّرتنا الرسلُ ونبَّهتنا الآيات بل كنا ظالمين لأنفسنا بالتكذيب وعدم الإِيمان.



مصير الكافرين والمؤمنين في الآخرة وطيّ السماء



{إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ(98)لَوْ كَانَ هَؤُلاءِ آلِهَةً مَا وَرَدُوهَا وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ(99)لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَهُمْ فِيهَا لا يَسْمَعُونَ(100)إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ(101)لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنفُسُهُمْ خَالِدُونَ(102) لا يَحْزُنُهُمْ الْفَزَعُ الأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمْ الْمَلائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمْ الَّذِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ(103)يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ(104)وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِي الصَّالِحُونَ(105)إِنَّ فِي هَذَا لَبَلاغًا لِقَوْمٍ عَابِدِينَ(106)}.



{إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} أي إِنكم أيها المشركون وما تعبدونه من الأوثان والأصنام{حَصَبُ جَهَنَّمَ} أي حطب جهنم ووقودها قال أبو حيان: الحَصب ما يحصب به أي يُرمى به في نار جهنم، وقبل أن يُرمى به لا يُطلق عليه حصبٌ إِلا مجازاً {أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ} أي أنتم داخلوها مع الأصنام، وإِنما جمع الله الكفار مع معبوداتهم في النار لزيادة غمّهم وحسرتهم برؤيتهم الآلهة التي عبدوها معهم في عذاب الجحيم {لَوْ كَانَ هَؤُلاءِ آلِهَةً مَا وَرَدُوهَا} أي لو كانت هذه الأصنام التي عبدتموها آلهةً ما دخلوا جهنم {وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ} أي العابدون والمعبدون كلهم في جهنم مخلَّدون {لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ} أي لهؤلاء الكفرة في النار زفير وهو صوت النَّفس الذي يخرج من قلب المغموم وهو يشبه أنين المحزون والمكلوم {وَهُمْ فِيهَا لا يَسْمَعُونَ} أي لا يسمعون في جهنم شيئاً لأنهم يُحشرون صُماً كما قال تعالى {ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم عُمياً وبُكماً وصُماً} قال القرطبي: وسماعُ الأشياء فيها روح وأُنس، فمنع الله الكفار ذلك في النار وقال ابن مسعود: إِذا بقي من يُخلَّد في نار جهنم جعلوا في توابيت من نار، فيها مسامير من نار فلا يسمعون شيئاً، ولا يرى أحد منهم أنه يُعذَّب في النار غيره ثم تلا الآية {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى} أي سبقت لهم السعادة {أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ} أي هم عن النار مبعدون لا يصلون حرَّها ولا يذوقون عذابها قال ابن عباس: أولئك أولياء الله يمرون على الصراط مرّاً أسرع من البرق ويبقى الكفار فيها جثياً {لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا} أي لا يسمعون حسَّ النار ولا حركة لهبها وصوتها {وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنفُسُهُمْ خَالِدُونَ} أي وهم في الجنة دائمون، لهم فيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين {لا يَحْزُنُهُمْ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ} أي لا تصيبهم أهوال يوم القيامة والبعث لأنهم في مأمنٍ منها {وَتَتَلَقَّاهُمْ الْمَلائِكَةُ} أي تستقبلهم الملائكة على أبواب الجنة يهنئونهم قائلين {هَذَا يَوْمُكُمْ الَّذِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ} أي هذا يوم الكرامة والنعيم الذي وعدكم الله به فأبشروا بالهناء والسرور {يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ} أي اذكر يوم نطوي السماء طياً مثل طيّ الصحيفة على ما كتب فيها قال ابن عباس: كطيّ الصحيفة على ما فيها، فاللام بمعنى " على" { كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ} أي نحشرهم حفاةً عُراة غُرْلاً على الصورة التي بدأنا خلقهم فيها وفي الحديث (إِنكم محشورون إِلى الله حفاةً عُراةً غُرلاً ألاَ وإِنَّ أول الخلائق يُكسى يوم القيامة إِبراهيم عليه السلام .. ) الحديث {وَعْدًا عَلَيْنَا} أي وعداً مؤكداً لا يُخلف ولا يبدّل لازم علينا إِنجازه والوفاء به {إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ} أي قادرين على ما نشاء، وهو تأكيد لوقوع البعث {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ} أي سجلنا وسطرنا في الزبور المنزل على داود {مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ} أي من بعد ما سطرنا على اللوح المحفوظ أزلاً {أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِي الصَّالِحُونَ} أي أن الجنة يرثها المؤمنون الصالحون قال ابن كثير: أخبر سبحانه في التوراة والزبور وسابق علمه قبل أن تكون السماوات والأرض أن يورث أمة محمد صلى الله عليه وسلم الأرض ويُدخلهم الجنة وهم الصالحون وقال القرطبي: أحسن ما قيل فيها أن يراد بها أرض الجنة لأن الأرض في الدنيا قد ورثها الصالحون وغيرهم وهو قول ابن عباس ومجاهد ويدل عليه قوله تعالى {وقالوا الحمد لله الذي صدقنا وعْده وأورثنا الأرض} وأكثر المفسرين على أن المراد بالعباد الصالحين أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وقال مجاهد: الزبور: الكتب المنزلة، والذكرُ أمُّ الكتاب عند الله {إِنَّ فِي هَذَا لَبَلاغًا لِقَوْمٍ عَابِدِينَ} أي إِنَّ في هذا المذكور في هذه السورة من الأخبار والوعد والوعيد والمواعظ البالغة لكفايةً لقوم خاضعين متذللين لله جل وعلا، المؤثرين لطاعة الله على طاعة الشيطان.



محمد صلى الله عليه وسلم الرحمة المهداة



{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ(107)قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (108)فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلَى سَوَاءٍ وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ مَا تُوعَدُونَ(109)إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ(110)وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ(111)قَالَ رَبِّ احْكُمْ ‎بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمَانُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ(112)}.





{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} أي وما أرسلناك يا محمد إِلا رحمة للخلق أجمعين وفي الحديث (إِنما أنا رحمةٌ مهداة) فمن قَبِلَ هذه الرحمة وشكر هذه النعمة سعد في الدنيا والآخرة {قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} أي قل يا محمد لهؤلاء المشركين: إِنما أوحى إِليَّ ربي أنَّ إِلهكم المستحق للعبادة إِله واحد أحد فرد صمد {فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} استفهام ومعناه الأمر أي فأسلموا له وانقادوا لحكمه وأمره {فَإِنْ تَوَلَّوْا} أي فإِن أعرضوا عن الإِسلام {فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلَى سَوَاءٍ} أي فقل لهم أعلمتكم بالحق على استواءٍ في الإِعلام لم أخصَّ أحداً دون أحد {وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ مَا تُوعَدُونَ} أي وما أدري متى يكون ذلك العذاب ؟ ولا متى يكون أجل الساعة ؟ فهو واقع لا محالة ولكنْ لا علم لي بقربه ولا ببعده {إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ} أي اللهُ هو العالم الذي لا يخفى عليه شيء، يعلم الظواهر والضمائر، ويعلم السرَّ وأخفى، وسيجازي كلاً بعمله {وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ} أي وما أدري لعل هذا الإِمهال وتأخير عقوبتكم امتحانٌ لكم لنرى كيف صنيعكم {وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ} أي ولعلَّ هذا التأخير لتستمعوا إِلى زمنٍ معين ثم يأتيكم عذاب الله الأليم {قَالَ رَبِّ احْكُمْ ‎بِالْحَقِّ} أي احكم بيني وبين هؤلاء المكذبين وافصل بيننا بالحق {وَرَبُّنَا الرَّحْمَانُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} أي أستعين بالله على الصبر على ما تصفونه من الكفر والتكذيب .. ختم السورة الكريمة بأمر النبي صلى الله عليه وسلم بتفويض الأمر إِليه وتوقع الفرج من عنده، فهو نعم الناصر ونعم المعين

yacine414
2011-03-26, 17:51
سورة الحج



التســميَـــة

أمر الله الناس بالتقوى

الاستدلال بخلق الإنسان والنبات على البعث

المجادلة بالباطل وأضطراب الإيمان وجزاء الصالحين

ظن الكفار أن الله لن ينصر رسوله صلى الله عليه وسلم

يوم القيامة يفصل الله تعالى بين الأمم

جزاء الكفرة والمؤمنين

المنع عن المسجد الحرام

تعيين مكان البيت الحرام والمناداة بالحج إليه

تعظيم حرمات الله وشعائره

التسمية عند ذبح البدن والأكل والإطعام منها

الدفاع عن المؤمنين والإذن بالقتال

الاعتبار بآثار الأمم البائدة

كون النبي صلى الله عليه وسلم منذراً للناس

قصة الغرانيق

مجازاة من هاجر في سبيل الله

بعضٌ من دلائل قدرته تعالى

لكل أمة من الأمم شريعة يتعبدون بها

بعض أباطيل المشركين وتحديهم بخلق ذبابة

أوامر الله للمؤمنين





بَين يَديَ السُّورَة



* سورة الحج مدنية وهي تتناول جوانب التشريع، شأنها شأن سائر السور المدنية التي تُعنى بأمور التشريع، ومع أن السورة مدنية إِلا أنه يغلب عليها جو السور المكية، فموضوع الإِيمان، والتوحيد، والإِنذار والتخويف، وموضوع البعث والجزاء، ومشاهد القيامة وأهوالها، هو البارز في السورة الكريمة، حتى ليكاد يُخيل للقارئ أنها من السور المكية، هذا إلى جانب الموضوعات التشريعية من الإِذن بالقتال، وأحكام الحج والهَدي، والأمر بالجهاد في سبيل الله، وغير ذلك من المواضيع التي هي من خصائص السور المدنية، حتى لقد عدَّها بعض العلماء من السور المشتركة بين المدني والمكي.



* ابتدأت السورة الكريمة بمطلع عنيف ومخيف، ترتجف له القلوبُ، وتطيش لهوله العقول، ذلكم هو الزلزال العنيف الذي يكون بين يدي الساعة، ويزيد في الهول على خيال الإِنسان، لأنه لا يدك الدور والقصور فحسب، بل يصل هولُه إلى المرضعات الذاهلات عن أطفالهن، والحوامل المسقطات حملهن، والناس الذين يترنحون كأنهم سكرى من الخمر، وما بهم شيء من السكر والشراب، ولكنه الموقف المرهوب، الذي تتزلزل له القلوب {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ..} الآيات.



* ومن أهوال الساعة إلى أدلة البعث والنشور، تنتقل السورة لتقيم الأدلة والبراهين على البعث بعد الفناء، ثم الانتقال إلى دار الجزاء، لينال الإِنسان جزاءه إن خيراً فخير، وإن شراً فشر.



* وتحدثت السورة عن بعض مشاهد القيامة، حيث يكون الأبرار في دار النعيم، والفجار في دار الجحيم.

* ثم انتقلت للحديث عن الحكمة من الإِذن بقتال الكفار، وتناولت الحديث عن القرى المدمرة بسبب ظلمها وطغيانها، وذلك لبيان سنة الله في الدعوات، وتطميناً للمسلمين بالعاقبة التي تنتظر الصابرين.



* وفي ختام السورة ضربت مثلاً لعبادة المشركين للأصنام، وبيَّنت أن هذه المعبودات أعجز وأحقر من أن تخلق ذبابة فضلاً عن أن تخلق إنساناً سميعاً بصيراً، ودعت إلى اتباع ملة الخليل إبراهيم كهف الإِيمان، وركن التوحيد.



التســميَـــة:

سميت "سورة الحج" تخليداً لدعوة الخليل إبراهيم عليه السلام،حين انتهى من بناء البيت العتيق ونادى الناس لحج بيت الله الحرام، فتواضعت الجبال حتى بلغ الصوت أرجاء الأرض، وأسمع نداؤه في الأصلاب والأرحام وأجابوا النداء "لبيك اللهم لبيك".

أمر الله الناس بالتقوى



{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ(1)يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ(2)وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ(3)كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ(4) }



{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكمْ } خطاب لجميع البشر أي خافوا عذاب الله وأطيعوه بامتثال أوامره واجتناب نواهيه، وجماع القول في التقوى هو: طاعةُ الله واجتناب محارمه ولهذا قال بعض العلماء: التقوى أن لا يراك حيث نهاك، وأن لا يفقدك حيث أمرك {إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ} تعليلٌ للأمر بالتقوى أي إن الزلزال الذي يكون بين يدي الساعة أمر عظيم وخطب جسيم لا يكاد يتصور لهوله {يَوْمَ تَرَوْنَهَا} أي في ذلك اليوم العصيب الذي تشاهدونه فيه تلك الزلزلة وترون هول مطلعها {تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ} أي تغفل وتذهل - مع الدهشة وشدة الفزع - كل أنثى مرضعة عن رضيعها، إذ تنزع ثديها من فم طفلها وتنشغل - لهول ما ترى - عن أحب الناس إليها وهو طفلها الرضيع {وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى} أي تراهم كأنهم سكارى يترنحون ترنح السكران من هول ما يدركهم من الخوف والفزع {وَمَا هُمْ بِسُكَارَى} أي وما هم على الحقيقة بسكارى من الخمر {وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} استدراك لما دهاهم أي ليسوا بسكارى ولكن أهوال الساعة وشدائدها أطارت عقولهم وسلبت أفكارهم فهم من خوف عذاب الله مشفقون {وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ} أي وبعضٌ من الناس من يخاصم وينازع في قدرة الله وصفاته بغير دليل ولا برهان ويقول ما لا خير فيه من الأباطيل قال المفسرون: نزلت في النضر بن الحارث وكان جدلاً يقول الملائكة بناتُ الله، والقرآن أساطير الأولين، ولا بعث بعد الموت قال أبو السعود: والآية عامة له ولأضرابه من العُتاة المتمردين {وَيَتَّبعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ} أي يطيع ويقتدي بكل عاتٍ متمرد كرؤساء الكفر الصادّين عن الحق {كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلاهُ} أي حكم الله وقضى أنه من تولى الشيطان واتخذه ولياً {فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ} أي فأن الشيطان يغويه ويسوقه إلى عذاب جهنم المستعرة، وعبر بلفظ {وَيَهْدِيهِ} على سبيل التهكم.



الاستدلال بخلق الإنسان والنبات على البعث



{يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا وَتَرَى الأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ(5) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ(6)وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ(7)}



ولما ذكر تعالى المجادلين في قدرة الله، المنكرين للبعث والنشور ذكر دليلين واضحين على إمكان البعث أحدهما في الإِنسان، والثاني في النبات فقال {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ} أي إِن شككتم في قدرتنا على إحيائكم بعد موتكم فانظروا في أصل خلقكم ليزول ريبكم فقد خلقنا أصلكم “آدم” من التراب، ومن قدر على خلقكم أول مرة قادر على أن يعيدكم ثاني مرة، والذي قدر على إخراج النبات من الأرض، بعد موتها قادر على أن يخرجكم من قبوركم {ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ} أي ثم جعلنا نسله من المني الذي ينطف من صلب الرجل قال القرطبي: والنطف: القطر سمي نطفة لقلته: {ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ} وهو الدم الجامد الذي يشبه العلقة التي تظهر حول الأحواض والمياه {ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ} أي من قطعة من لحم مقدار ما يمضغ {مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ} أي مستبينة الخلق مصورة وغير مصورة قال ابن زيد: المخلقة التي خلق الله فيها الرأس واليدين والرجلين، وغير مخلقة التي لم يخلق فيها شيء {لِنُبَيِّنَ لَكُمْ} أي خلقناكم على هذا النموذج البديع لنبين لكم أسرار قدرتنا وحكمتنا قال الزمخشري: أي لنبين لكم بهذا التدريج قدرتنا، وأن من قدر على خلق البشر من تراب أولاً، ثم من نطفة ثانياً، ولا تناسب بين التراب والماء، وقدر على أن يجعل النطفة علقة وبينهما تباين ظاهر، ثم يجعل العلقة مضغة والمضغة عظاماً، قادر على إعادة ما بدأه، بل هذا أدخل في القدرة وأهون في القياس {وَنُقِرُّ فِي الأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ} أي ونثبت من الحمل في أرحام الأمهات من أردنا أن نُقرَّه فيها حتى يتكامل خلقه {إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} أي إلى زمن معين هو وقت الوضع {ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً} أي ثم نخرج هذا الجنين طفلاً ضعيفاً في بدنه وسمعه وبصره وحواسه، ثم نعطيه القوة شيئاً فشيئاً {ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ} أي كمال قوتكم وعقلكم {وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى} أي ومنكم من يموت في ريعان شبابه {وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ} أي ومنكم من يعمر حتى يصل إلى الشيخوخة والهرم وضعف القوة والخرف {لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا} أي ليعود إلى ما كان عليه في أوان الطفولة من ضعف البينة، وسخافة العقل، وقلة الفهم، فينسى ما علمه وينكر ما عرفه ويعجز عما قدر عليه كما قال تعالى {وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلا يَعْقِلُونَ} {وَتَرَى الأَرْضَ هَامِدَةً} هذه هي الحجة الثانية على إمكان البعث أي وترى أيها المخاطب أو أيها المجادل الأرض يابسةً ميتة لا نبات فيها {فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ} أي فإذا أنزلنا عليها المطر تحركت بالنبات وانتفخت وزادت وحييت بعد موتها {وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ} أي وأخرجت من كل صنفٍ عجيب ما يسر الناظر ببهائه ورونقه {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ} أي ذلك المذكور من خلق الإِنسان والنبات لتعلموا أن الله هو الخالق المدبر وأن ما في الكون من آثار قدرته شاهد بأن الله هو الحق {وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتَى} أي وبأنه القادر على إحياء الموتى كما أحيا الأرض الميتة بالنبات {وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} أي وبأنه قادر على ما أراد { وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيهَا} أي وليعلموا أن الساعة كائنة لا شك فيها ولا مرية {وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ} أي يحيي الأموات ويعيدهم بعدما صاروا رميماً، ويبعثهم أحياء إلى موقف الحساب.



المجادلة بالباطل واضطراب الإيمان وجزاء الصالحين



{وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدًى وَلا كِتَابٍ مُنِيرٍ(8)ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ(9)ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلامٍ لِلْعَبِيدِ(10)وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ(11)يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُ وَمَا لا يَنْفَعُهُ ذَلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ(12)يَدْعُوا لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ(13)إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ(14) }.



{وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدًى وَلا كِتَابٍ مُنِيرٍ} أي يجادل في شأنه تعالى من غير تمسك بعلمٍ صحيح يهدي إلى المعرفة ولا كتابٍ نير بيّن الحجة بل بمجرد الرأي والهوى قال ابن عطية: كرر هذه على وجه التوبيخ فكأنه يقول: هذه الأمثال في غاية الوضوح والبيان ومن الناس مع ذلك من يجادل في الله بغير دليل ولا برهان {ثَانِيَ عِطْفِهِ} أي معرضاً عن الحق لاوياً عنقه كفراً قال ابن عباس: مستكبراً عن الحق إذا دُعي إليه قال الزمخشري: وثنيُ العطف عبارة عن الكِبر والخيلاء فهو كتصعير الخد {لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} أي ليصُدَّ الناس عن دين الله وشرعه {لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ} أي له هوان وذل في الحياة الدنيا {وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ} أي ونذيقه في الآخرة النار المحرقة {ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ} أي ذلك الخزي والعذاب بسبب ما اقترفته من الكفر والضلال {وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلامٍ لِلْعَبِيدِ} أي وأن الله عادل لا يظلم أحداً من خلقه {وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ} أي ومن الناس من يعبد الله على جانب وطرفٍ من الدين، وهذا تمثيل للمذبذبين الذين لا يعبدون الله عن ثقة ويقين بل عن قلق واضطراب كالذي يكون على طرف من الجيش فان أحسَّ بظفر أو غنيمة استقر وإلا فرّ قال الحسن: هو المنافق يعبده بلسانه دون قلبه وقال ابن عباس: كان الرجل يقدم المدينة فإن ولدت امرأته غلاماً وأنتجت خيله قال: هذا دين صالح، وإن لم تلد امرأته ولم تنتج خيله قال: هذا دين سوء {فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ} أي فإن ناله خير في حياته من صحةٍ ورخاء أقام على دينه {وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ} أي وإن ناله شيء يفتتن به من مكروه وبلاء ارتد فرجع إلى ما كان عليه من الكفر {خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ} أي أضاع دنياه وآخرته فشقي الشقاوة الأبدية {ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} أي ذلك هو الخسران الواضح الذي لا خسران مثله {يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُ وَمَا لا يَنْفَعُهُ} أي يعبد الصنم الذي لا ينفع ولا يضر {ذَلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ} أي ذلك هو نهاية الضلال الذي لا ضلال بعده، شبه حالهم بحال من أبعد في التيه ضالاً عن الطريق {يَدْعُوا لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ} أي يعبد وثناً أو صنماً ضره في الدنيا بالخزي والذل أسرع من نفعه الذي يتوقعه بعبادته وهو الشفاعة له يوم القيامة، وقيل: الآية على الفرض والتقدير: أي لو سلمنا نفعه أو ضره لكان ضره أكثر من نفعه، والآية سيقت تسفيهاً وتجهيلاً لمن يعتقد أنه ينتفع بعبادة غير الله حين يستشفع بها {لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ} أي بئس الناصر وبئس القريب والصاحب {إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ} لما ذكر حال المشركين وحال المنافقين المذبذبين ذكر حال المؤمنين في الآخرة والمعنى إن الله يدخل المؤمنين الصادقين جنات تجري من تحت قصورها وغرفها أنهار اللبن والخمر والعسل وهم في روضات الجنات يحبرون {إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ} أي يثيب من يشاء ويعذب من يشاء لا معقب لحكمه، فللمؤمنين الجنة بفضله، وللكافرين النار بعدله. فيتلقى جزاءه عدلاً، ولا ظلم في الحساب.



ظن الكفار أن الله لن ينصر رسوله صلى الله عليه وسلم



{ مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لِيَقْطَعْ فَلْيَنظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ(15)وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ ءاياتٍ بَيِّنَاتٍ وَأَنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ(16)}.



{مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ} أي من كان يظن أن لن ينصر الله رسوله صلى الله عليه وسلم في الدنيا والآخرة {فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لِيَقْطَعْ} أي فليمدد بحبل إلى السقف ثم ليقطع عنقه وليختنق به {فَلْيَنظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ} أي فلينظر هل يشفي ذلك ما يجد في صدره من الغيظ؟ قال ابن كثير: وهذا القول قول ابن عباس وهو أظهر في المعنى وأبلغ في التهكم فإن المعنى: من كان يظنُّ أنَّ الله ليس بناصر محمداً وكتابه ودينه فليذهب فليقتل نفسه إن كان ذلك غائظة فإن الله ناصره لا محالة {وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ ءاياتٍ بَيِّنَاتٍ} أي ومثل ذلك الإِنزال البديع المنطوي على الحكم البالغة أنزلنا القرآن الكريم كله ءايات واضحات الدلالة على معانيها الرائقة {وَأَنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ} أي وأن الله هو الهادي لا هادي سواه يهدي من يشاء إلى صراطٍ مستقيم.



يوم القيامة يفصل الله تعالى بين الأمم



{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ(17)أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ(18) }.



{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا} أي صدقوا الله ورسوله وهم أتباع محمد عليه السلام {وَالَّذِينَ هَادُوا} أي اليهود وهم المنتسبون إلى موسى عليه السلام {وَالصَّابِئِينَ} هم قوم يعبدون النجوم {وَالنَّصَارَى} هم المنتسبون إلى موسى عليه السلام {وَالْمَجُوسَ} هم عبدة النيران {وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا} هم العرب عبدة الأوثان { إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} أي يقضي بين المؤمنين وبين الفرق الخمسة الضالة فيدخل المؤمنين الجنة والكافرين النار {إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} أي شاهد على أعمال خلقه عالم بكل ما يعملون {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ} أي يسجد لعظمته كل شيء طوعاً وكرهاً، الملائكة في أقطار السماوات، والإِنس والجن وسائر المخلوقات في العالم الأرضي {وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ} أي وهذه الأجرام العظمى مع سائر الجبال والأشجار والحيوانات تسجد لعظمته سجود انقياد وخضوع، قال ابن كثير: وخص الشمس والقمر والنجوم بالذكر لأنها قد عبدت من دون الله، فبيّن أنها تسجد لخالقها وأنها مربوبة مسخرة. والغرض من الآية: بيان عظمته تعالى وانفراده بألوهيته وربوبيته بانقياد هذه العوالم العظمى له وجريها على وفق أمره وتدبيره {وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ} أي ويسجد له كثير من الناس سجود طاعة وعبادة {وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ} أي وكثير من الناس وجب له العذاب بكفره واستعصائه {وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ} أي من أهانه الله بالشقاء والكفر فلا يقدر أحد على دفع الهوان عنه {إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ} أي يعذب ويرحم، ويعز ويذل، ويُغني ويُفقِر، ولا اعتراض لأحد عليه.







جزاء الكفرة والمؤمنين



{هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمْ الْحَمِيمُ(19)يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ(20)وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ(21)كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ(22)إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ(23)وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ(24) }.

yacine414
2011-03-26, 17:52
المنَـــاسَبــَة:

لما ذكر تعالى أهل السعادة وأهل الشقاوة، ذكر هنا ما دار بينهم من الخصومة في دينه وعبادته، ثم ذكر عظم حرمة البيت العتيق وبناء الخليل له، وعظم كفر هؤلاء المشركين الذين يصدون الناس عن سبيل الله والمسجد الحرام.



{هَذَانِ خَصْمَانِ} أي هذان فريقان مختصمان فريق المؤمنين المتقين، وفريق الكفرة المجرمين {اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ} أي اختلفوا وتنازعوا من أجل الله ودينه قال مجاهد: هم المؤمنون والكافرون، فالمؤمنون يريدون نصرة دين الله، والكافرون يريدون إطفاء نور الله {فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ} أي فصلت لهم ثيابٌ من نار على قدر أجسادهم ليلبسوها إذا صاروا إلى النار قال القرطبي: شبهت النار بالثياب لأنها لباس لهم كالثياب ومعنى {قُطِّعَتْ} خيطت وسويت، وذكر بلفظ الماضي لأن الموعود منه كالواقع المحقق {يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمْ الْحَمِيمُ} أي يصب على رؤوسهم الماء الحار المغلي بنار جهنم {يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ} أي يذاب به ما في بطونهم من الأمعاء والأحشاء مع الجلود قال ابن عباس: لو سقطت منه قطرة على جبال الدنيا لأذابتها وفي الحديث (إن الحميم ليصب على رؤوسهم فينفذ الجمجمة حتى يخلص إلى جوفه، فيسلت ما في جوفه حتى يمرق من قدميه وهو الصهر، ثم يعاد كما كان) قال الإِمام الفخر الرازي: والغرض أن الحميم إذا صب على رؤوسهم كان تأثيره في الباطن مثل تأثيره في الظاهر، فيذيب أمعاءهم وأحشاءهم كما يذيب جلودهم وهو أبلغ من قوله {وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ} {وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ} أي ولهم مطارق وسياط من الحديد يضربون بها ويدفعون وفي الحديث (لو وُضِعَت مقمعة منها في الأرض فاجتمع عليها الثقلان ما أقلوها). {كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا} أي كلما أراد أهل النار الخروج من النار من شدة غمها ردوا إلى أماكنهم فيها قال الحسن: إن النار تضربهم بلهبها فترفعهم حتى إذا كانوا في أعلاها ضربوا بالمقامع فهووا فيها سبعين خريفاً {وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ} أي يقال لهم: ذوقوا عذاب جهنم المحرق الذي كنتم به تكذبون، ولما ذكر تعالى ما أعد للكفار من العذاب والدمار، ذكر ما أعده للمؤمنين من الثواب والنعيم فقال {إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ} أي يدخل المؤمنين الصالحين في الآخرة جنات تجري من تحت أشجارها وقصورها الأنهار العظيمة المتنوعة {يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ} أي تلبسهم الملائكة في الجنة الأساور الذهبية كحلية وزينة يتزينون بها {وَلُؤْلُؤًا} أي ويحلون باللؤلؤ كذلك إكراماً من الله لهم {وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ} أي ولباسهم في الجنة الحرير، ولكنه أعلى وأرفع مما في الدنيا بكثير {وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ} أي أرشدوا إلى الكلام الطيب والقول النافع إذ ليس في الجنة لغوٌ ولا كذب {وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ} أي إلى صراط الله وهو الجنة دار المتقين.



المنع عن المسجد الحرام



{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ(25) }



ثم عدد تعالى بعض جرائم المشركين فقال {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} أي جحدوا بما جاء به محمد عليه السلام ويمنعون المؤمنين عن إتيان المسجد الحرام لأداء المناسك فيه قال القرطبي: وذلك حين صدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المسجد الحرام عام الحديبية، وإنما قال {وَيَصُدُّونَ} بصيغة المضارع ليدل على الاستمرار فكأن المعنى: إن الذين كفروا من شأنهم الصد عن سبيل الله ونظيره قوله {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ} {الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ} أي الذي جعلناه منسكاً ومتعبداً للناس جميعاً سواء فيه المقيم الحاضر، والذي يأتيه من خارج البلاد {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ} أي ومن يرد فيه سوءاً أو ميلاً عن القصد أو يهم فيه بمعصية {نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} أي نذقه أشد أنواع العذاب الموجع قال ابن مسعود: لو أن رجلاً بِعدَنَ همَّ بأن يعمل سيئة عند البيت أذاقه الله عذاباً أليماً وقال مجاهد: تُضاعف السيئات فيه كما تضاعف الحسنات.



تعيين مكان البيت الحرام والمناداة بالحج إليه



{وَإِذْ بَوَّأْنَا لإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِي لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ(26)وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ(27)لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ(28)ثُمَّ لِيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ(29)}.



{وَإِذْ بَوَّأْنَا لإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ} أي واذكر حين أرشدنا إبراهيم وألهمناه مكان البيت {أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا} أي أمرناه ببناء البيت العتيق خالصاً لله قال ابن كثير: أي ابنه على اسمي وحدي {وَطَهِّرْ بَيْتِي لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} أي طهر بيتي من الأوثان والأقذار لمن يعبد الله فيه بالطواف والصلاة قال القرطبي: والقائمون هم المصلون، ذكر تعالى من أركان الصلاة وأعظمها وهو القيام والركوع والسجود {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ} أي ونادِ في الناس داعياً لهم لحج بيت الله العتيق قال ابن عباس: لما فرغ إبراهيم من بناء البيت قيل له: أذن في الناس بالحج، قال يا رب: وما يبلغ صوتي؟ قال: أذن وعلي الإِبلاغ فصعد إبراهيم على جبل أبي قبيس وصاح: يا أيها الناس إنّ الله قد أمركم بحج هذا البيت ليثيبكم به الجنة، ويجيركم من عذاب النار فحجوا، فأجابه من كان في أصلاب الرجال، وأرحام النساء: لبيك اللهم لبيك {يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ} أي يأتوك مشاة على أقدامهم أو ركباناً على كل جمل هزيل قد أتعبه وأنهكه بعد المسافة {يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ} أي تأتي الإِبل الضامرة من كل طريق بعيد قال القرطبي: ورد الضمير إلى الإِبل {يَأْتِينَ} تكرمةً لها لقصدها الحج مع أربابها كما قال {وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا} في خيل الجهاد تكرمةً لها حين سعت في سبيل الله {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ} أي ليحضروا منافع لهم كثيرة دينية ودنيوية قال الفجر الرازي: وإنما نكَّر المنافع لأنه أراد منافع مختصة بهذه العبادة دينية ودنيوية لا توجد في غيرها من العبادات {وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ} أي ويذكروا عند ذبح الهدايا والضحايا اسم الله في أيام النحر شكراً لله على نعمائه وعلى ما رزقهم وملكهم من الأنعام وهي: الإِبل والبقر والغنم والمعز قال الرازي: وفيه تنبيه على أن الغرض الأصلي ذكر اسمه تعالى عند الذبح وأن يخالف المشركين في ذلك فإنهم كانوا يذبحونها للنصب والأوثان {فَكُلُوا مِنْهَا} أي كلوا من لحوم الأضاحي {وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ} أي أطعموا منها البائس الذي أصابه بؤس وشدة، والفقير الذي أضعفه الإِعسار قال ابن عباس: البائس الذي ظهر بؤسه في ثيابه وفي وجهه، والفقير الذي لا يكون كذلك، ثيابه نقية ووجهه وجه غني {ثُمَّ لِيَقْضُوا تَفَثَهُمْ} أي ثم بعد الذبح ليزيلوا وسخهم الذي أصابهم بالإِحرام وذلك بالحلق والتقصير وإزالة الشعث وقص الشارب والأظافر {وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ} أي ما أوجبوه على أنفسهم بالنذر طاعةً لله {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} أي ليطوفوا حول البيت العتيق طواف الإِفاضة وهو طواف الزيارة الذي به تمام التحلل، والعتيق: القديم الذي سمي به لأنه بيت وضع للناس.



تعظيم حرمات الله وشعائره



{ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمْ الأَنْعَامُ إِلا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ(30)حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ(31)ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ(32)لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ(33) وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ(34)الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ(35)}.



{ذَلِكَ} أي الأمر والشأن ذلك قال الزمخشري: كما يقدم الكاتب جملة من كتابه في بعض المعاني ثم إذا أراد الخوض في معنى آخر قال: هذا وقد كان كذا {وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ} أي من يعظم ما شرعه الله من أحكام الدين ويجتنب المعاصي والمحارم {فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ} أي ذلك التعظيم خير له ثواباً في الآخرة {وَأُحِلَّتْ لَكُمْ الأَنْعَامُ إِلا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ} أي أحللنا لكم جميع الأنعام إلا ما استثني في الكتاب المجيد كالميتة والمنخنقة وما ذبح لغير الله وغير ذلك {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ} أي اجتنبوا الرجس الذي هو الأوثان كما تجتنب الأنجاس، وهو غاية المبالغة في النهي عن عبادتها وتعظيمها {وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ} أي اجتنبوا شهادة الزور {حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ} أي مائلين إلى الحق مسلمين لله غير مشركين به أحداً {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ} تمثيل للمشرك في ضلاله وهلاكه أي ومن أشرك بالله فكأنما سقط من السماء فتخطفه الطير وتمزقه كل ممزق {أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} أي أو عصفت به الريح حتى هوت به في بعض المهالك البعيدة {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ} أي ذلك ما وضحه الله لكم من الأحكام والأمثال ومن يعظم أمور الدين ومنها أعمالُ الحج والأضاحي والهدايا { فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} أي فإن تعظيمها من أفعال المتقين لله قال القرطبي: أضاف التقوى إلى القلوب لأن حقيقة التقوى في القلب وفي الحديث (التقوى ههنا) وأشار إلى صدره {لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} أي لكم في الهدايا منافع كثيرة من الدر والنسل والركوب إلى وقت نحرها {ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ} أي ثم مكان ذبحها في الحرم بمكة أو منى، وخص البيت بالذكر لأنه أشرف الحرم كقوله تعالى {هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ} {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا} أي شرعنا لكل أُمة من الأمم السابقة من عهد إبراهيم مكاناً للذبح تقرباً لله قال ابن كثير: يخبر تعالى أنه لم يزل ذبح المناسك وإراقة الدماء على اسم الله مشروعاً في جميع الملل {لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ} أي أمرناهم عند الذبح أن يذكروا اسم الله وأن يذبحوا لوجهه تعالى {عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ} أي شكراً لله على ما أنعم به عليهم من بهيمة الأنعام من الإِبل والبقر والغنم، بين تعالى أنه يجب أن يكون الذبح لوجهه تعالى وعلى اسمه لأنه هو الخالق الرازق لا كما كان المشركون يذبحون للأوثان {فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} أي فربكم أيها الناس ومعبودكم إله واحد لا شريك له {فَلَهُ أَسْلِمُوا} أي فأخلصوا له العبادة واستسلموا لحكمه وطاعته {وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ} أي بشر المطيعين المتواضعين الخاشعين بجنات النعيم، ثم وصف تعالى المخبتين بأربع صفات فقال {الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} أي إذا ذكر الله خافت وارتعشت لذكره قلوبهم لإِشراق أشعة جلاله عليهم فكأنهم بين يديه واقفون، ولجلاله وعظمته مشاهدون {وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ} أي يصبرون في السراء والضراء على الأمراض والمصائب والمحن وسائر المكاره {وَالْمُقِيمِي الصَّلاةِ} أي الذين يؤدونها في أوقاتها مستقيمةً كاملة مع الخشوع والخضوع {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} أي ومن بعض الذي رزقناهم من فضلنا ينفقون في وجوه الخيرات.



التسمية عند ذبح البدن والأكل والإطعام منها



{ وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ(36)لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرْ الْمُحْسِنِينَ(37)}.



{وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} أي والإِبل السمينة - سميت بدناً لبدانتها وضخامة أجسامها - جعلناها من أعلام الشريعة التي شرعها الله لعباده قال ابن كثير: وكونها من شعائر الدين أنها تُهدى إلى بيته الحرام بل هي أفضل ما يهدى {لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ} قال ابن عباس: نفعٌ في الدنيا وأجرٌ في الآخرة {فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ} أي اذكروا عند ذبحها اسم الله الجليل عليها حال كونها صواف أي قائمات قد صففن أيديهن وأرجلهن {فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا} أي فإذا سقطت على الأرض بعد نحرها، وهو كنايةُ عن الموت {فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ} أي كلوا من هذه الهدايا وأطعموا القانع أي المتعفف والمعتر أي السائل قاله ابن عباس، وقال الرازي: الأقرب أن القانع هو الراضي بما يدفع إليه من غير سؤال وإلحاح، والمعتر هو الذي يتعرض ويطلب ويعتريهم حالاً بعد حال {كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} أي مثل ذلك التسخير البديع جعلناها منقادة لكم مع ضخامة أجسامها لكي تشكروا الله على إنعامه {لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا} أي لن يصل إليه تعالى شيء من لحومها ولا دمائها {وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ} أي ولكن يصل إليه التقوى منكم بامتثالكم أوامره وطلبكم رضوانه {كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ} أي كرره للتأكيد أي كذلك ذللها لكم وجعلها منقادة لرغبتكم لتكبروا الله على ما أرشدكم إليه من أحكام دينه {وَبَشِّرْ الْمُحْسِنِينَ} أي بشر المحسنين في أعمالهم بالسعادة والفوز بدار النعيم.





الدفاع عن المؤمنين والإذن بالقتال



{إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ(38)أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ(39)الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ(40) الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ(41)}.



المنَـــاسَبــَة:

لما بيَّن تعالى مناسك الحج وما فيه من منافع الدنيا والآخرة، وذكر أن الكفار صدوا المؤمنين عن دين الله وعن دخول مكة، بيَّن هنا أنه يدافع عن المؤمنين وذكر الحكمة من مشروعية القتال ومنها الدفاع عن المقدسات، وحماية المستضعفين، وتمكين المؤمنين من عبادة الله تعالى.



{إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا} أي ينصر المؤمنين ويدفع عنهم بأس المشركين، وهذه بشارة للمؤمنين بإعلائهم على الكفار وكفِّ كيدهم عنهم {إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ} أي إنه تعالى يبغض كل خائنٍ للأمانة جاحدٍ نعمة الله {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا} فيه محذوف تقديره: أُذن لهم في القتال بسبب أنهم ظُلموا قال ابن عباس: هذه أول آيةٍ نزلت في الجهاد قال المفسرون: هم أصحابُ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان مشركو مكة يؤذونهم أذى شديداً وكانوا يأتون رسول الله صلى الله عليه وسلم بين مضروب ومشجوج ويتظلمون إليه فيقول لهم: اصبروا فإني لم أؤمر بقتالهم حتى هاجروا فأُنزلت هذه الآية وهي أول آيةٍ أُذن فيها بالقتال بعدما نهي عنه في أكثر من سبعين آية {وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} أي هو تعالى قادر على نصر عباده من غير قتال ولكنه يريد منهم أن يبذلوا جهدهم في طاعته لينالوا أجر الشهداء {الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ} أي أُخرجوا من أوطانهم ظلماً وعدواناً بغير سبب موجب للإِخراج قال ابن عباس: يعني محمداً وأصحابه أُخرجوا من مكة إلى المدينة بغير حق {إِلا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ} أي ما كان لهم إساءة ولا ذنب إلا أنهم وحدوا الله ولم يشركوا به أحداً {وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ} أي لولا ما شرعه الله من الجهاد وقتال الأعداء لاستولى أهل الشرك على أهل الأديان وتعطلت الشعائر ولكنه تعالى دفع شرهم بأن أمر بقتالهم {لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ} أي لتهدمت معابد الرهبان وكنائس النصارى {وَصَلَوَاتٌ} أي كنائس اليهود { وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا} أي ومساجد المسلمين التي يعبد فيها الله بكرة وأصيلاً، ومعنى الآية أنه لولا كفُّه تعالى المشركين بالمسلمين، وإذنه بمجاهدة المسلمين للكافرين لاستولى المشركون على أهل الملل المختلفة في أزمانهم فهدموا موضع عباداتهم، ولم يتركوا للنصارى بيعاً، ولا لرهبانهم صوامع، ولا لليهود كنائس، ولا للمسلمين مساجد، ولغلب المشركون أهل الأديان، وإنما خص المساجد بهذا الوصف { يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا} تعظيماً لها وتشريفاً لأنها أماكن العبادة الحقة { وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ } قسمٌ أي والله سينصر الله من ينصر دينه ورسوله {إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} أي أنه تعالى قادر لا يعجزه شيء، عزيزٌ لا يُقهر ولا يغلب قال ابن كثير: وصف نفسه بالقوة والعزة، فبقوته خلق كل شيء، وبعزته لا يقهره قاهر ولا يغلبه غالب {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ} قال ابن عباس: هم المهاجرون والأنصار والتابعون بإحسان، والمعنى: هؤلاء الذين يستحقون نصرة الله هم الذين إن جعلنا لهم سلطاناً في الأرض وتملكاً واستعلاء عبدوا الله وحافظوا على الصلاة وأداء الزكاة {وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ} أي دعوا إلى الخير ونهوا عن الشر {وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ} أي مرجع الأمور إلى حكمه تعالى وتقديره.



الاعتبار بآثار الأممالبائدة



{وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَثَمُودُ(42)وَقَوْمُ إِبْرَاهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ(43)وَأَصْحَابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسَى فَأَمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ(44)فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ(45)أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ(46)وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ(47)وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ(48)}.



{وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَثَمُودُ} تسلية للرسول صلى الله عليه وسلم ووعيد للمشركين أي إن كذبك أهل مكة فاعلم أنك لست أول رسول يكذبه قومه فقد كان قبلك أنبياء كُذبوا فصبروا إلى أن أهلك الله المكذبين، فاقتد بهم واصبر {وَقَوْمُ إِبْرَاهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحَابُ مَدْيَنَ } أي وكذب كذلك قوم إبراهيم وقوم لوط وقوم شعيب {وَكُذِّبَ مُوسَى} أي وكذب موسى أيضاً مع وضوح ءاياته، وعظم معجزاته فما ظنك بغيره؟ {فَأَمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ} أي أمهلتهم ثم أخذتهم بالعقوبة {فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ} استفهام تقريري أي فكيف كان إنكاري عليهم بالعذاب ألم يكن أليماً؟ ألم أبدلهم بالنعمة نقمة، وبالكثرة قلة، وبالعمارة خراباً ؟ فكذلك أفعل بالمكذبين من أهل مكة {فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا} أي كم من قرية أهلكنا أهلها بالعذاب الشامل {وَهِيَ ظَالِمَةٌ} أي وهي مشركة كافرة {فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا} أي خرت سقوفها على الأرض ثم تهدمت حيطانها فسقطت فوق السقوف فهي مخربة مهدمة {وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ} أي وكم من بئر عطلت فتركت لا يستقى منها لهلاك أهلها {وَقَصْرٍ مَشِيدٍ} أي وكم من قصر مرفوع البنيان أصبح خالياً بلا ساكن، أليس في ذلك عبرة للمعتبر؟ {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا} أي أفلم يسافر أهل مكة ليشاهدوا مصارع الكفار فيعتبروا بما حل بهم من النكال والدمار!! وهلاّ عقلوا ما يجب أن يُعقل من الإيمان والتوحيد! {أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا} أي أو تكون لهم آذانٌ يسمعون بها المواعظ والزواجر {فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} أي ليس العمى على الحقيقة عمى البصر، وإنما العمى عمى البصيرة فمن كان أعمى القلب لا يعتبر ولا يتدبر، وذِكرُ الصدور للتأكيد ونفي توهم المجاز {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ} أي ويستعجلك يا محمد هؤلاء المشركون بالعذاب استهزاءً، وإن ذلك واقع لا محالة، لكن لوقوعه أجل لا يتعداه لأنه تعالى لا يخلف الميعاد {وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} أي هو تعالى حليم لا يعجل فإن مقدار ألف سنة عند خلقه كيوم واحد عنده بالنسبة إلى حلمه فلِم إذاً يستبعدونه ويستعجلون العذاب؟ ولهذا قال بعد ذلك {وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ} أي وكثير من أهل قرية أخرت إهلاكهم وأمهلتهم مع استمرارهم على الظلم فاغتروا بذلك التأخير {ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ} أي ثم أخذتهم بالعذاب بعد طول الإمهال وإليَّ المرجع والمآب قال أبو حيّان: لما كان تعالى قد أمهل قريشاً حتى استعجلت بالعذاب ذكر الآية تنبيهاً على أن السابقين أُمهلوا ثم أُهلكوا وأن قريشاً وإن أملى تعالى لهم وأمهلهم فإنه لا بد من عذابهم فلا يفرحوا بتأخير العذاب عنهم.



كون النبي صلى الله عليه وسلم منذراً للناس



{ قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ(49)فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ(50)وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي ءاياتِنَا مُعَاجِزِينَ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ(51)}.



{قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ} أي قل يا محمد لهؤلاء المستعجلين للعذاب إنما أنا منذر لكم أخوفكم عذاب الله وأنذركم إنذاراً بيناً من غير أن يكون لي دخلٌ في تعجيل العذاب أو تأخيره {فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} أي فالمؤمنون الصادقون الذين جمعوا بين الإيمان والعمل الصالح لهم عند ربهم مغفرة ورزق كريم في جنان النعيم قال الرازي: بين سبحانه أن من جمع بينهما فالله تعالى يجمع له بين المغفرة والرزق الكريم وقال القرطبي: إذا سمعت الله تعالى يقول {وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} فاعلم أنه الجنة {وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي ءاياتِنَا مُعَاجِزِينَ} أي كذبوا بآياتنا وسعوا في إبطالها مغالبين مشاقين يريدون إطفاء نور الله {أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} أي فأولئك هم أصحاب النار الحارة الموجعة، الشديد عذابها ونكالها، شبههم من حيث الدوام بالصاحب قال الرازي: فإن قيل: إنه عليه السلام بشر المؤمنين أولاً، وأنذر الكافرين ثانياً في هذه الآية فكان القياس أن يقال {إنما أنا لكم بشير ونذير} والجواب أن الكلام مسوق إلى المشركين وهم الذين استعجلوا العذاب و{أَيُّهَا النَّاسُ } نداءً لهم، وإنما ذكر المؤمنين وثوابهم زيادة لغيظهم وإيذائهم.



قصة الغرانيق



{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ ءاياتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ(52)لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ(53)وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ(54)وَلا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ(55)الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ(56)وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ(57)}.



{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ} أي وما أرسلنا قبلك يا محمداً رسولاً ولا نبياً {إِلا إِذَا تَمَنَّى} أي إلا إذا أحبَّ شيئاً وهوته نفسه {أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ} أي ألقى الشيطان فيما يشتهيه ويتمناه بعض الوساوس التي توجب اشتغاله بالدنيا كما قال عليه السلام (إنه ليُغان على قلبي فأستغفر الله في اليوم سبعين مرة ) قال الفراء: تمنى إذا حدَّث نفسه وفي البخاري: قال ابن عباس: "إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته" إلا إذا حدَّث ألقى الشيطان في حديثه فيبطل الله ما يلقي الشيطان ويحكم الله ءاياته، ويقال: أمنيته: قراءته قال النحاس: وهذا من أحسن ما قيل في الآية وأجله، ومعنى الآية: وما أرسلنا رسولاً ولا نبياً فحدث نفسه بشيء وتمنى لأمته الهداية والإيمان إلا ألقى الشيطان الوسواس والعقبات في طريقه بتزيين الكفر لقومه وإلقائه في نفوسهم مخالفةً لأمر الرسول وكأنَّ الآية تسلية للرسول صلى الله عليه وسلم تقول له: لا تحزن يا محمد على معاداة قومك لك فهذه سنة المرسلين. هذا أصح ما قيل في تفسير الآية وهو اختيار المحققين من المفسرين. وأما قصة الغرانيق التي أولع بذكرها بعض المفسرين فهي باطلة مردودة، وهي أن الرسول عليه السلام قرأ سورة {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى} بمحضر من المشركين والمسلمين فلما بلغ {أَفَرَأَيْتُمْ اللاتَ وَالْعُزَّى * وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى} ألقى الشيطان على لسانه "تلك الغرانيق العلى وإن شفاعتهن لترتجى" ففرح بذلك المشركون ولما انتهى من السورة سجد وسجد معه المشركون إلخ قال ابن العربي: إن جميع ما ورد في هذه القصة باطل لا أصل له وقال ابن إسحاق: هي من وضع الزنادقة وقال البيهقي: رواتها مطعون فيهم وقال ابن كثير: ذكر كثير من المفسرين قصة الغرانيق وهي روايات مرسلات ومنقطعات لا تصح وقال القاضي عياض: هذا حديث لم يخرجه أحد من أهل الصحة ولا رواه أحد بسند متصل سليم، وإنما أُولع به وبمثله المفسرون والمؤرخون، المولعون بكل غريب، المتلقفون من الصحف كل صحيح وسقيم. أقول: مما يدل على بطلان القصة قوله تعالى في نفس السورة {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى* إِنْ هُوَ إِلا وَحْيٌ يُوحَى} فكيف نطق المعصوم بمثل هذا الذي يزعمونه! سبحانك هذا بهتان عظيم وانظر الرد القاطع في تفسير الفخر الرازي.

{فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ} أي يزيل ويبطل الله ما يلقيه الشيطان من الوساوس والأوهام {ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ ءاياتِهِ} أي يثبت في نفس الرسول ءاياته الدالة على الوحدانية والرسالة {وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ}أي مبالغٌ في العلم حكيم يضع الأشياء في مواضعها قال أبو السعود: وفي الآية دلالة على جواز السهو من الأنبياء عليهم السلام، وتطرق الوسوسة إليهم {لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ} أي ليجعل تلك الشبه والوساوس التي يلقيها الشيطان {فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} أي فتنة للمنافقين الذين في قلوبهم شك وارتياب {وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ} أي وفتنةً للكافرين الذين لا تلين قلوبهم لذكر الله، وهم خواص من الكفار عتاةٌ كأبي جهل، والنضر، وعتبة {وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ} أي وإن هؤلاء المذكورين من المنافقين والمشركين لفي عداوة شديدة لله ولرسوله، ووصف الشقاق بلفظ {بَعِيدٍ} لأنه في غاية الضلال والبعدِ عن الخير {وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ} أي وليعلم أهل العلم أن القرآن هو الحق النازل من عند الله تعالى {فَيُؤْمنُوا بِهِ} أي يؤمنوا بهذا القرآن {فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ} أي تخشع وتسكن له قلوبهم بخلاف مَنْ في قلبه مرض{وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} أي مرشد المؤمنين إلى الصراط المستقيم ومنقذهم من الضلالة والغواية {وَلا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ} أي ولا يزال هؤلاء المشركون في شك وريب من هذا القرآن {حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً} أي حتى تأتيهم الساعة فجأة دون أن يشعروا قال قتادة: ما أخذ الله قوماً قطُّ إلا عند سكرتهم وغرتهم ونعمتهم فلا تغتروا بالله إنه لا يغتر بالله إلا القوم الفاسقون {أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ} أي أو يأتيهم عذاب يوم القيامة وسمي عقيماً لأنه لا يوم بعده قال أبو السعود: كأنَّ كل يوم يلد ما بعده من الأيام، فما لا يوم بعده يكون عقيماً، والمراد به الساعة أيضاً كأنه قيل: أو يأتيهم عذابها، ووضع ذلك موضع الضمير لمزيد التهويل {الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ} أي الملك يوم القيامة لله وحده لا منازع له فيه ولا مدافع {يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ} أي يفصل بين عباده بالعدل، فيدخل المؤمنين الجنة والكافرين النار ولهذا قال {فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَملُوا الصَّالِحَاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ} أي فالذين صدقوا الله ورسوله وفعلوا صالح الأعمال لهم النعيم المقيم في جنات الخلد {وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ} أي والذين جحدوا بآيات الله وكذبوا رسله لهم العذاب المخزي مع الإِهانة والتحقير في دار الجحيم.



مجازاة من هاجر في سبيل الله



{ وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمْ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ(58)لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلاً يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ(59)ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنصُرَنَّهُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ(60)}.



{وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} أي تركوا الأوطان والديار ابتغاء مرضاة الله وجاهدوا لإِعلاء كلمة الله {ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا} أي قتلوا في الجهاد أو ماتوا على فرشهم {لَيَرْزُقَنَّهُمْ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا} أي ليعطينهم نعيماً خالداً لا ينقطع أبداً وهو نعيم الجنة {وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} أي هو تعالى خير من أعطى فإنه يرزق بغير حساب {لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلاً يَرْضَوْنَهُ} أي ليدخلنهم مكاناً يرضونه وهو الجنة التي فيها ما لا عينٌ رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر {وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ} أي عليم بدرجات العاملين حليم عن عقابهم {ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ} أي جازى الظالم بمثل ما ظلمه {ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنصُرَنَّهُ اللَّهُ} أي ثم اعتدى الظالم عليه ثانياً لينصرن الله ذلك المظلوم {إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ} أي مبالغ في العفو والغفران، وفيه تعريض بالحث على العفو والصفح، فإنه تعالى مع كمال قدرته على الانتقام يعفو ويغفر فغيره أولى بذلك.



بعضٌ من دلائل قدرته تعالى



{ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ(61)ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ(62)أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ(63)لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ(64)أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الأَرْضِ إِلا بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ(65)وَهُوَ الَّذِي أَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ إِنَّ الإِنسَانَ لَكَفُورٌ(66) }.

{ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ} أي ذلك النصر بسبب أن الله قادر، ومن ءايات قدرته إيلاج الليل في النهار أي أنه يدخل كلاً منهما في الآخر. بأن ينقص من الليل فيزيد في النهار وبالعكس وهذا مشاهد ملموس في الصيف والشتاء {وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} أي سميع لأقوال عباده بصير بأحوالهم لا تخفى عليه خافية {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ} أي ذلك بأن الله هو الإِله الحق {وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ} أي وأن الذي يدعوه المشركون من الأصنام والأوثان هو الباطل الذي لا يقدر على شيء {وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} أي هو العالي على كل شيء ذو العظمة والكبرياء فلا أعلى منه ولا أكبر.



المنَـــاسَبــَة:

لمّا ذكر تعالى ما دّل على قدرته الباهرة من إيلاج الليل في النهار والنهار في الليل ونبه به على نعمه، أتبعه هنا بأنواع أخر من الدلائل على قدرته وحكمته، وجعلها كالمقدمة لإِثبات البعث والمعاد، وختم السورة بدعوة المؤمنين إلى عبادة الله الواحد الأحد.



{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً} استفهام تقريري أي ألم تعلم أيها السامع أن الله بقدرته أنزل من السحاب المطر؟ {فَتُصْبِحُ الأَرْضُ مُخْضَرَّةً} أي فأصبحت الأرض منتعشة خضراء بعد يبسها ومحولها، وجاء بصيغة المضارع {فتصبح} لاستحضار الصورة وإفادة بقائها كذلك مدة من الزمن { إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ} قال ابن عباس: لطيف بأرزاق عباده خبير بما في قلوبهم من القنوط، والغرض من الآية إقامة الدليل على كمال قدرته وعلى البعث والنشور فمن قدر على هذا قدر على إعادة الحياة بعد الموت ولهذا قال {وَهُوَ الَّذِي أَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ} {لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ} أي جميع ما في الكون ملكه جل وعلا، خلقاً وملكاً وتصرفاً، والكل محتاج إلى تدبيره وإتقانه {وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} أي هو تعالى غني عن الأشياء كلها لا يحتاج لأحد، وهو المحمود في كل حال {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ} تذكير بنعمة أخرى أي ألم تر أيها العاقل أن الله سخر لعباده جميع ما يحتاجون إليه من الحيوانات والأشجار والأنهار والمعادن {وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ} أي وسخر السفن العظيمة المثقلة بالأحمال والرجال تسير في البحر لمصالحكم بقدرته ومشيئته {وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الأَرْضِ} أي ويمسك بقدرته السماء كي لا تقع على الأرض فيهلك من فيها {إِلا بِإِذْنِهِ} أي إذا شاء وذلك عند قيام الساعة {إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ} أي وذلك من لطفه بكم ورحمته لكم حيث هيأ لكم أسباب المعاش فاشكروا آلاءه {وَهُوَ الَّذِي أَحْيَاكُمْ} أي أحياكم بعد أن كنتم عدماً { ثُمَّ يُمِيتُكُمْ} أي يميتكم عند انتهاء آجالكم {ثُمَّ يُحْيِيكُمْ} أي بعد موتك للحساب والثواب والعقاب {إِنَّ الإِنسَانَ لَكَفُورٌ} أي مبالغ في الجحود لنعم الله قال ابن عباس: المراد بالإِنسان الكافر والغرض من الآيات توبيخ المشركين كأنه يقول: كيف تجعلون لله أنداداً وتعبدون معه غيره وهو المستقل بالخلق والرزق والتصرف!!





لكل أمة من الأمم شريعة يتعبدون بها



{لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكًا هُمْ نَاسِكُوهُ فَلا يُنَازِعُنَّكَ فِي الأَمْرِ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلَى هُدًى مُسْتَقِيمٍ(67)وَإِنْ جَادَلُوكَ فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ(68)اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ(69)أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ(70)}.



{لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكًا} أي لكل نبي من الأنبياء وأمةٍ من الأمم السابقين وضعنا لهم شريعة ومتعبداً ومنهاجاً كقوله {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} {هُمْ نَاسِكُوهُ} أي هم عاملون به أي بذلك الشرع {فَلا يُنَازِعُنَّكَ فِي الأَمْرِ} أي لا ينازعك أحدٌ من المشركين فيما شرعتُ لك ولأمتك فقد كانت الشرائع في كل عصر وزمان، وهو نهيٌ يراد به النفي أي لا ينبغي منازعةُ النبي صلى الله عليه وسلم لأن الحق قد ظهر بحيث لا يسع النزاع فيه {وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ} أي أدعُ الناس إلى عبادة ربك وإلى شريعته السمحة المطهرة {إِنَّكَ لَعَلَى هُدًى مُسْتَقِيمٍ} أي فإِنك على طريق واضحٍ مستقيم، موصل إلى جنات النعيم {وَإِنْ جَادَلُوكَ فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ} أي وإِن خاصموك بعد ظهور الحق وقيام الحجة عليهم فقل لهم: الله أعلم بأعمالكم القبيحة وبما تستحقون عليها من الجزاء، وهذا وعيد وإِنذار {اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} أي الله يفصل في الآخرة بين المؤمنين والكافرين فيما كانوا فيه يختلفون في أمر الدين، فيعرفون حينئذٍ الحق من الباطل {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ} الاستفهام تقريري أي لقد علمت يا محمد أنَّ الله أحاط علمه بما في السماء والأرض فلا تخفى عليه أعمالهم {إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ} أي إن ذلك كله مسطر في اللوح المحفوظ {إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} أي إن حصر المخلوقات تحت علمه وإِحاطته سهلُ عليه يسيرٌ لديه.



بعض أباطيل المشركين وتحديهم بخلق ذبابة



{وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَا لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ(71)وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ ءاياتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ ءاياتِنَا قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكُمْ النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ(72)يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوْ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمْ الذُّبَابُ شَيْئًا لا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ(73)مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ(74)اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنْ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ(75)يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ(76)}.



ثم بيَّن سبحانه ما يقدم عليه الكفار مع عظيم نعمه، ووضوح دلائله فقال {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} أي ويعبد كفار قريش غير الله تعالى أصناماً لا تنفع ولا تسمع {مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا} أي ما لم يرد به حجة ولا برهان من جهة الوحي والشرع {وَمَا لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ} أي وما ليس عندهم به علم من جهة العقل وإنما هو مجرد التقليد الأعمى للآباء {وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ} أي ليس لهم ناصر يدفع عنهم عذاب الله {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ ءاياتُنَا بَيِّنَاتٍ} أي وإذا تليت على هؤلاء المشركين ءايات القرآن الواضحة الساطعة وما فيها من الحجج القاطعة على وحدانية الله {تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ} أي ترى في وجوه الكفار الإِنكار بالعبوس و الكراهة {يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ ءاياتِنَا} أي يكادون يبطشون بالمؤمنين الذين يتلون عليهم القرآن {قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكُمْ النَّارُ} أي قل لهم: هل أخبركم بما هو أسوأ أو أشنع من تخويفكم للمؤمنين وبطشكم بهم؟ إنه نار جهنم وعذابها ونكالها {وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا} أي وعدها الله للكافرين المكذبين بآياته {وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} أي بئس الموضع الذي يصيرون إليه {يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ} أي يا معشر المشركين ضرب الله مثلاً لما يعبد من دون الله من الأوثان والأصنام فتدبروه حق التدبر واعقلوا ما يقال لكم {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوْ اجْتَمَعُوا لَهُ} أي إنَّ هذه الأصنام التي عبدتموها من دون الله لن تقدر على خلق ذبابة على ضعفها وإن اجتمعت على ذلك، فكيف يليق بالعاقل جعلها آلهة وعبادتها من دون الله! قال القرطبي: وخص الذباب لأربعة أمور: لمهانته، وضعفه، ولاستقذاره، وكثرته، فإذا كان هذا الذي هو أضعف الحيوان وأحقره لا يقدر من عبدوهم من دون الله على خلق مثله ودفع أذيته، فكيف يجوز أن يكونوا آلهة معبودين، وأرباباً مطاعين؟ وهذا من أقوى الحجة وأوضح البرهان {وَإِنْ يَسْلُبْهُمْ الذُّبَابُ شَيْئًا لا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ} أي لو اختطف الذباب وسلب شيئاً من الطيب الذي كانوا يضمخون به الأصنام لما استطاعت تلك الآلهة استرجاعه منه رغم ضعفه وحقارته {ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ} أي ضعف العابد الذي يطلب الخير من الصنم، والمطلوب الذي هو الصنم، فكل منهما حقير ضعيف {مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} أي ما عظموه حق تعظيمه حيث جعلوا الأصنام - على حقارتها - شركاء للقوي العزيز ولهذا قال {إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} أي هو تعالى قادر لا يعجزه شيء، غالب لا يغلب، فكيف يسوون بين القوي العزيز والعاجز الحقير؟! {اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنْ النَّاسِ} أي الله يختار رسلاً من الملائكة ليكونوا وسطاء لتبليغ الوحي إلى أنبيائه، ويختار رسلاً من البشر لتبليغ شرائع الدين لعباده، والآية ردٌّ على من أنكر أن يكون الرسول من البشر {إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} أي يسمع ما يقولون ويرى ما يفعلون {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ} أي يعلم ما قدموا وما أخَّروا من الأفعال والأقوال والأعمال { وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأُمورُ} أي إليه وحده جل وعلا ترد أمور العباد فيجازيهم عليها.



أوامر الله للمؤمنين



{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ(77)وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ(78)}.



{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا} أي صلوا لربكم خاشعين، وإِنما عبر عن الصلاة بالركوع والسجود لأنهما أشرف أركان الصلاة {وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ} أي أفردوه بالعبادة ولا تعبدوا غيره {وَافْعَلُوا الْخَيْرَ} أي افعلوا ما يقربكم من الله من أنواع الخيرات والمبرات كصلة الأرحام، ومواساة الأيتام، والصلاة بالليل والناس نيام { لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} أي لتفوزوا وتظفروا بنعيم الآخرة {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ} أي جاهدوا بأموالكم وأنفسكم لإِعلاء كلمة الله حقَّ الجهاد باستفراغ الوسع والطاقة {هُوَ اجْتَبَاكُمْ} أي هو اختاركم من بين الأمم لنصرة دينه، وخصكم بأكمل شرع وأكرم رسول {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} أي وما جعل عليكم في هذا الدين من ضيق ولا مشقة، ولا كلفكم ما لا تطيقون بل هي الحنيفية السمحة ولهذا قال {مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ} أي دينكم الذي لا حرج فيه هو دين إبراهيم فالزموه لأنه الدين القيم كقوله {دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا} {هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا} أي الله سماكم المسلمين في الكتب المتقدمة وفي هذا القرآن، ورضي لكم الإِسلام ديناً قال الإِمام الفخر الرازي: المعنى أنه سبحانه في سائر الكتب المتقدمة على القرآن، وفي القرآن أيضاً بيَّن فضلكم على الأمم وسمَّاكم بهذا الاسم الأكرم، لأجل الشهادة المذكورة، فلما خصكم بهذه الكرامة فاعبدوه ولا تردوا تكاليفه {لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} أي ليشهد عليكم الرسول بتبليغه الرسالة لكم وتشهدوا أنتم على الخلائق أنَّ رسلهم قد بلَّغتهم {فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} أي وإذْ قد اختاركم الله لهذه المرتبة الجليلة فاشكروا الله على نعمته بأداء الصلاة ودفع الزكاة {وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ} أي استمسكوا بحبله المتين وثقوا واستعينوا بالله في جميع أموركم {فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ} أي فتمام الفضل والمنّة أن يكون الله تعالى معيناً لكم وناصركم في جميع أموركم.

yacine414
2011-03-26, 17:53
سورة المؤمنون



فوز المؤمنين المتحلين بصفات الطاعة

مراحل خلق الإنسان

خلق السماوات وإنزال الأمطار وتسخير الأنعام

قصة نوح عليه السلام

قصة هود عليه السلام

قصص صالح وإبراهيم ولوط وشعيب عليهم السلام

قصة موسى وهارون عليهما السلام

قصة عيسى وأمه مريم عليهما السلام

أوامر ربانية عامة

صفات المسارعين بالخيرات

إنكار أعمال الكفار ومشركي قريش وأسبابها

بعضٌ من نعمه تعالى على عباده

إنكار المشركين البعث وإثبات حدوثه بالأدلة القاطعة

نفي الولد والشريك لله تعالى

توجيهات إلى النبي صلى الله عليه وسلم

تمنى الإنسان العودة إلى الدنيا إذا حضره الموت

النفخ في الصور والحساب في الآخرة

قصر مدة البقاء في الدنيا، وخلق الخلائق ليس لعباً







بَين يَدَي السُّورَة



* سورة "المؤمنون" من السور المكية التي تعالج أصول الدين من "التوحيد والرسالة، والبعث" سميت بهذا الاسم الجليل "المؤمنون" تخليداً لهم وإِشادةً بمآثرهم وفضائلهم الكريمة التي استحقوا بها ميراث الفردوس الأعلى في جنات النعيم.





* عرضت السورة الكريمة لدلائل القدرة والوحدانية مصورة في هذا الكون العجيب، في الإِنسان، والحيوان، والنبات، ثم في خلق السماوات البديعة ذات الطرائق، وفي الآيات الكونية المنبثة فيما يشاهده الناس في العالم المنظور من أنواع النخيل والأعناب، والزيتون والرمان، والفواكه والثمار، والسفن الكبيرة التي تمخر عباب البحار، وغير ذلك من الآيات الكونية الدالة على وجود الله جل وعلا.



* وقد عرضت السورة لقصص بعض الأنبياء تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم عمّا يلقاه من أذى المشركين، فذكرت قصة نوح، ثم قصة هود، ثم قصة موسى، ثم قصة مريم البتول وولدها عيسى، ثم عرضت لكفار مكة وعنادهم ومكابرتهم للحق بعدما سطع سطوع الشمس في رابعة النهار، وأقامت الحجج والبراهين على البعث والنشور، وهو المحور الذي تدور عليه السورة، وأهم ما يجادل فيه المبطلون، فقصمت ببيانها الساطع ظهر الباطل.



*وتحدثت السورة عن الأهوال والشدائد التي يلقاها الكفار وقت الاحتضار وهم في سكرات الموت، وقد تمنوا العودة إلى الدنيا ليتداركو ما فاتهم من صالح العمل، ولكن هيهات فقد انتهى الأجل، وضاع الأمل. وختمت السورة بالحديث عن يوم القيامة حيث ينقسم الناس إلى فريقين: سعداء، وأشقياء، وينقطع الحسب والنسب فلا ينفع إِلا الإيمان والعمل الصالح، وسجلت المحاورة بين الملك الجبار وبين أهل النار وهم يصطرخون فيها فلا يغاثون ولا يجابون !!.



فوز المؤمنين المتحلين بصفات الطاعة



{قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ(1)الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ(2)وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ(3)وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ(4)وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ(5)إِلا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ(6)فَمَنْ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْعَادُونَ(7)وَالَّذِينَ هُمْ لأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ(8) وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ(9)أُوْلَئِكَ هُمْ الْوَارِثُونَ(10)الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ(11)}.



{قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} أي فاز وسعد وحصل على البغية والمطلوب المؤمنون المتصفون بهذه الأوصاف الجليلة، و{قَدْ} للتأكيد والتحقيق فكأنه يقول لقد تحقَّق ظفرهم ونجاحهم بسبب الإِيمان والعمل الصالح، ثم عدَّد تعالى مناقبهم فقال {الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ} قال ابن عباس: خاشعون: خائفون ساكنون أي هم خائفون متذللون في صلاتهم لجلال الله وعظمته لاستيلاء الهيبة على قلوبهم {وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ} أي عن الكذب والشتم والهزل قال ابن كثير: اللغو: الباطل وهو يشمل الشرك، والمعاصي، وما لا فائدة فيه من الأقوال والأفعال {وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ} أي يؤدون زكاة أموالهم للفقراء والمساكين، طيبة بها نفوسهم طلباً لرضى الله {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ} هذا هو الوصف الرابع أي عفَّوا عن الحرام وصانوا فروجهم عمَّا لا يحل من الزنا واللواط وكشف العورات {إِلا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ } أي هم حافظون لفروجهم في جميع الأحوال إِلا من زوجاتهم وإِمائهم المملوكات {فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ} أي فإِنهم غير مؤاخذين {فَمَنْ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ} أي فمن طلب غير الزوجات والمملوكات { فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْعَادُونَ} أي هم المعتدون المجاوزون الحدَّ في البغي والفساد {وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ} أي قائمون عليها بحفظها وإِصلاحها، لا يخونون إِذا ائتمنوا، ولا ينقضون عهدهم إِذا عاهدوا قال أبو حيان: والظاهر عموم الأمانات فيدخل فيها ما ائتمن الله تعالى عليه العبد من قولٍ وفعلٍ واعتقاد، وما ائتمنه الإِنسان من الودائع والأمانات {وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ} هذا هو الوصف السادس أي يواظبون على الصلوات الخمس ويؤدونها في أوقاتها قال ابن جزي : فإِن قيل كيف كرّر ذكر الصلوات أولاً وآخراً ؟ فالجواب أنه ليس بتكرار، لأنه قد ذكر أولاً الخشوع فيها، وذكر هنا المحافظة عليها فهما مختلفان {أُوْلَئِكَ هُمْ الْوَارِثُونَ} أي أولئك الجامعون لهذه الأوصاف الجليلة هم الجديرون بوراثة جنة النعيم {الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ} أي الذين يرثون أعالي الجنة التي تتفجر منها أنهار الجنة وفي الحديث (إذا سألتم الله فسلوه الفردوس، فإِنه أوسط الجنة وأعلى الجنة، ومنه تفجر أنهار الجنة) {هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} أي هم دائمون فيها لا يخرجون منها أبداً، ولا يبغون عنها حولاً.



مراحل خلق الإنسان



{وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ(12)ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ(13)ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ(14)ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ(15)ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ(16)}.



ثم ذكر الله تعالى الأدلة والبراهين على قدرته ووحدانيته فقال {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ} اللام جواب قسم أي والله لقد خلقنا جنس الإِنسان من صفوة وخلاصة استلت من الطين قال ابن عباس: هو آدم لأنه انسلَّ من الطين {ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً} أي ثم جعلنا ذرية آدم وبنيه منيّاً ينطف من أصلاب الرجال {فِي قَرَارٍ مَكِينٍ} أي في مستقرٍ متمكن هو الرحم {ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً} أي ثم صيرَّنا هذه النطفة - وهي الماء الدافق - دماً جامداً يشبه العلقة {فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً} أي جعلنا ذلك الدم الجامد مضغة أي قطعة لحم لا شكل فيها ولا تخطيط {فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا} أي صيَّرنا قطعة اللحم عظاماً صلبة لتكون عموداً للبدن { فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا} أي سترنا العظام باللحم وجعلناه كالكسوة لها {ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ} أي ثم بعد تلك الأطوار نفخنا فيه الروح فصيرناه خلقاً آخر في أحسن تقويم قال الرازي: أي جعلناه خلقاً مبايناً للخلق الأول حيث صار إِنساناً وكان جماداً، وناطقاً وكان أبكم، وسميعاً وكان أصم، وبصيراً وكان أكمه، وأودع كل عضو من أعضائه عجائب فطرة، وغرائب حكمة لا يحيط بها وصف الواصفين {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} أي فتعالى الله في قدرته وحكمته أحسن الصانعين صنعاً {ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ} أي ثم إِنكم أيها الناس بعد تلك النشأة والحياة لصائرون إلى الموت {ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ} أي تبعثون من قبوركم للحساب والمجازاة.



خلق السماوات وإنزال الأمطار وتسخير الأنعام



{وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ(17)وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ(18)فَأَنشَأْنَا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ لَكُمْ فِيهَا فَوَاكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ(19)وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلآكِلِينَ(20)وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهَا وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ(21) وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ(22) }.



ولما ذكر تعالى الأطوار في خلق الإِنسان وبدايته ونهايته ذكر خلق السماوات والأرض وكلها أدلة ساطعة على وجود الله فقال {وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ} أي والله لقد خلقنا فوقكم سبع سموات، سميت طرائق لأن بعضها فوق بعض {وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ} أي وما كنا مهملين أمر الخلق بل نحفظهم وندبر أمرهم {وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ} أي أنزلنا من السحاب القطر والمطر بحسب الحاجة، لا كثيراً فيفسد الأرض، ولا قليلاً فلا يكفي الزروع والثمار {فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ} أي جعلناه ثابتاً مستقراً في الأرض لتنتفعوا به وقت الحاجة {وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ} وعيدٌ وتهديدٌ أي ونحن قادرون على إِذهابه بالتغوير في الأرض فتهلكون عطشاً أنتم ومواشيكم قال ابن كثير: لو شئنا لجعلناه إِذا نزل يغور في الأرض إِلى مدى لا تصلون إِليه ولا تنتفعون به لفعلنا، ولكن بلطفه تعالى ورحمته ينزل عليكم المطر من السحاب عذباً فراتاً، فيسكنه في الأرض، ويسلكه ينابيع فيها فيفتح العيون والأنهار، ويسقى الزروع والثمار، فتشربون منه أنتم ودوابكم وأنعامكم {فَأَنشَأْنَا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ} أي فأخرجنا لكم بذلك الماء حدائق وبساتين فيها النخيل والأعناب { لَكُمْ فِيهَا فَوَاكِهُ كَثِيرَةٌ} أي لكم في هذه البساتين أنواع الفواكه والثمار تتفكهون بها {وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ} أي ومن ثمر الجنات تأكلون صيفاً وشتاءً كالرطب والعنب والتمر والزبيب، وإِنما خصَّ النخيل والأعناب بالذكر لكثرة منافعهما فإِنهما يقومان مقام الطعام، ومقام الإِدام، ومقام الفواكه رطباً ويابساً وهما أكثر فواكه العرب {وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ} أي وممَّا أنشأنا لكم بالماء أيضاً شجرة الزيتون التي تخرج حول جبل الطور وهو الجبل الذي كلَّم الله عليه موسى {تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ} أي تُنبت الدهن أي الزيت الذي فيه منافع عظيمة {وَصِبْغٍ لِلآكِلِينَ} أي وإِدام للآكلين سمي صبغاً لأنه يلون الخبز إذا غُمس فيه، جمع الله في هذه الشجرة بين الأُدم والدهن، وفي الحديث (كلوا الزيت وادهنوا به فإِنه من شجرةٍ مباركة) {وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأَنْعَامِ لَعِبْرَةً} أي وإِن لكم أيها الناس فيما خلق لكم ربكم من الأنعام وهي "الإِبل والبقر والغنم" لعظةً بالغةً تعتبرون بها {نُسقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهَا} أي نسقيكم من بين فرثٍ ودمٍ لبناً خالصاً سائغاً للشاربين { وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ} أي ولكم في هذه الأنعام منافع عديدة: تشربون من ألبانها، وتلبسون من أصوافها وتركبون ظهورها، وتحملون عليها الأحمال الثقال {وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ} أي وتأكلون لحومها كذلك {وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ} أي وتحملون الإِبل في البر كما تحملون على السُّفن أبو حيّان ، فإِنَّ الإِبل سفائن البر كما أن الفلك سفائن البحر.





قصة نوح عليه السلام



{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ(23)فَقَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا هَذَا إِلا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لأنزَلَ مَلائِكَةً مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الأَوَّلِينَ(24)إِنْ هُوَ إِلا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ(25)قَالَ رَبِّ انصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ(26)فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا فَإِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ وَلا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ(27)فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلْ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانَا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ(28)وَقُلْ رَبِّ أَنزِلْنِي مُنْزَلا مُبَارَكًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنزِلِينَ(29)إِنَّ فِي ذَلِكَ لايَاتٍ وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ(30)}.



المنَاسَبَة:

لما ذكر تعالى دلائل التوحيد في خلق الإِنسان، والحيوان، والنبات، وفي خلق السماوات والأرض، وعدّد نعمه على عباده، ذكر هنا أمثالاً لكفار مكة من المكذبين من الأمم السابقة وما نالهم من العذاب، فابتدأ بقصة نوح، ثم بقصة هود، ثم بقصة موسى وفرعون، ثم بقصة عيسى بن مريم، كلُّها عبر وعظات للمكذبين بالرسل والآيات.



{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ} أي والله لقد أرسلنا رسولنا نوحاً إلى قومه داعياً لهم إلى الله قال المفسرون: هذه تعزية لرسول الله صلى الله عليه وسلم بذكر هذا الرسول، ليتأسى به في صبره، وليعلم أنَّ الرسل قبله قد كُذبوا {فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} أي اعبدوه وحده فليس لكم ربٌّ سواه {أَفَلا تَتَّقُونَ} زجرٌ ووعيد أي أفلا تخافون عقوبته بعبادتكم غيره ؟ {فَقَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ} أي فقال أشراف قومه ورؤساؤهم الممعنون في الكفر والضلال {مَا هَذَا إِلا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ} أي ما هذا الذي يزعم أنه رسول إلا رجلٌ من البشر يريد أن يطلب الرياسة والشرف عليكم بدعواه النبوة لتكونوا له أتباعاً .. واعجبْ بضلال هؤلاء استبعدوا أن تكون النبوة لبشر، وأثبتوا الربوبية لحجر {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لأنزَلَ مَلائِكَةً} أي لو أراد الله أن يبعث رسولاً لبعث ملكاً ولم يكن بشراً {مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الأَوَّلِينَ} أي ما سمعنا بمثل هذا الكلام في الأمم الماضية، والدهور الخالية {إِنْ هُوَ إِلا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ} أي ما هو إلا رجلٌ به جنون {فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ} أي انتظروا واصبروا عليه مدة حتى يموت {قَالَ رَبِّ انصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ} أي قال نوح بعد ما يئس من إيمانهم: ربِّ انصرني عليهم بإهلاكهم عامةً بسبب تكذيبهم إياي {فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا} أي فأوحينا إليه عند ذلك أن اصنع السفينة بمرأى منا وحفظنا {وَوَحْيِنَا} أي بأمرنا وتعليمنا {فَإِذَا جَاءَ أَمْرُنَا} أي فإذا جاء أمرنا بإنزال العذاب {وَفَارَ التَّنُّورُ} أي فار الماء في التنور الذي يخبز فيه قال المفسرون: جعل الله ذلك علامة لنوح على هلاك قومه {فَاسْلُكْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ} أي فأدخل في السفينة من كل صنفٍ من الحيوان زوجين"ذكر وأنثى" لئلا ينقطع نسل ذلك الحيوان {وَأَهْلَكَ إِلا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ} أي واحمل أهلك أيضاً إلا من سبق عليه القول بالهلاك ممن لم يؤمن كزوجته وابنه {وَلا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ} أي ولا تسألني الشفاعة للظالمين عند مشاهدة هلاكهم فقد قضيت أنهم مغرقون محكوم عليهم بالغرق {فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ} أي فإذا علوت أنت ومن معك من المؤمنين على السفينة {فَقُلْ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانَا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} أي احمدوا الله على تخليصه إياكم من الغرق وإنما قال {فَقُلْ} ولم يقل فقولوا لأن نوحاً كان نبياً لهم وإماماً فخطابه خطابٌ لهم {وَقُلْ رَبِّ أَنزِلْنِي مُنْزَلا مُبَارَكًا} أي أنزلني إنزالاً مباركاً يحفظني من كل سوء وشر قال ابن عباس: هذا حين خرج من السفينة {وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنزِلِينَ} أي أنت يا رب خير المنزلين لأوليائك والحافظين لعبادك {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ} أي إنَّ فيما جرى على أمة نوح لدلائل وعبر يستدل بها أولوا الأبصار {وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ} أي وإنَّ الحال والشأن كنا مختبرين للعباد بإرسال المرسلين.



قصة هود عليه السلام



{ثُمَّ أَنشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ(31)فَأَرْسَلْنَا فِيهِمْ رَسُولا مِنْهُمْ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ(32)وَقَالَ الْمَلأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاءِ الآخِرَةِ وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا مَا هَذَا إِلا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ(33)وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَرًا مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ(34)أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنتُمْ تُرَابًا وَعِظَامًا أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ(35) هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ(36)إِنْ هِيَ إِلا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ(37)إِنْ هُوَ إِلا رَجُلٌ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا وَمَا نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ(38)قَالَ رَبِّ انصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ(39)قَالَ عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نَادِمِينَ(40)فَأَخَذَتْهُمْ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ فَجَعَلْنَاهُمْ غُثَاءً فَبُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ(41)}



{ثُمَّ أَنشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ} أي ثم أوجدنا من بعد قوم نوح قوماً آخرين يخلفونهم وهم قوم عاد {فَأَرْسَلْنَا فِيهِمْ رَسُولا مِنْهُمْ} أي أرسلنا إليهم رسولاً من عشيرتهم هو هود عليه السلام {أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} أي اعبدوه وحده ولا تشركوا به أحداً لأنه ليس لكم ربٌّ سواه {أَفَلا تَتَّقُونَ} أي أفلا تخافون عذابه وانتقامه إن كفرتم؟ {وَقَالَ الْمَلأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاءِ الآخِرَةِ} أي قال أشراف قومه الكفرة المكذبون بالآخرة وما فيها من الثواب والعقاب {وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} أي وسَّعنا عليهم نعم الدنيا حتى بطروا نعمهم في هذه الحياة {مَا هَذَا إِلا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ} أي قالوا لأتباعهم مضلين لهم: ما هذا الذي يزعم أنه رسول إِلا إِنسان مثلكم {يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ} أي يأكل مثلكم ويشرب مثلكم فلا فضل له عليكم لأنه محتاج إِلى الطعام والشراب {وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَرًا مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ} أي ولئن أطعتموه وصدقتموه فإِنكم لخاسرون حقاً حيث أذللتم أنفسكم باتّباعه قال أبو السعود: انظر كيف جعلوا اتباع الرسول الحق الذي يوصلهم إلى سعادة الدارين خسراناً دون عبادة الأصنام التي لا خسران وراءها ؟ قاتلهم الله أنَّى يؤفكون {أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنتُمْ تُرَابًا وَعِظَامًا} استفهام على وجه الاستهزاء والاستبعاد أي أيعدكم بالحياة بعد الموت بعد أن تصبحوا رفاتاً وعظاماً بالية؟ {أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ} أي أنكم ستخرجون أحياء من قبوركم وكرَّر لفظ {أَنَّكُمْ} تأكيداً لأنه لمّا طال الكلام حسن التكرار {هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ} أي بَعُدَ بَعُدَ هذا الذي توعدونه من الإِخراج من القبور، وغرضهم بهذا الاستبعاد أنه لا يكون أبداً {إِنْ هِيَ إِلا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا} أي لا حياة إِلا هذه الحياة الدنيا {نَمُوتُ وَنَحْيَا} أي يموتُ بعضنا ويُولد بعضنا إِلى انقراض الدهر {وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ} أي لا بعث ولا نشور {إِنْ هُوَ إِلا رَجُلٌ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} أي ما هو إِلا رجل كاذب يكذب على الله فيما جاءكم به من الرسالة، والإِخبار بالمعاد {وَمَا نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ} أي ولسنا بمصدقين فيما يقوله {قَالَ رَبِّ انصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ} لما يئس نبيُّهم من إِيمانهم ورأى إِصرارهم على الكفر دعا عليهم بالهلاك والمعنى ربّ انصرني عليهم بسبب تكذيبهم إِياي {قَالَ عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نَادِمِينَ} أي عن قريب من الزمان سيصيرون نادمين على كفرهم {فَأَخَذَتْهُمْ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ} أي أخذتهم صيحة العذاب المدمر عدلاً من الله لا ظلماً {فَجَعَلْنَاهُمْ غُثَاءً} أي هلكى كغثاء السيل قال المفسرون: صاح بهم جبريل صيحة رجفت لها الأرض من تحتهم فصاروا لشدتها غثاءً كغثاء السيل وهو الشيء التافه الحقير الذي لا ينتفع منه بشيء {فَبُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} أي فسحقاً وهلاكاً لهم بكفرهم وظلمهم، وهي جملة دعائية كأنه قال: بعداً لهم من رحمة الله وهلاكاً ودماراً لهم.



قصص صالح وإبراهيم ولوط وشعيب عليهم السلام



{ثُمَّ أَنشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قُرُونًا آخَرِينَ(42)مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ(43)ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَى كُلَّ مَا جَاءَ أُمَّةً رَسُولُهَا كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضًا وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ فَبُعْدًا لِقَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ(44)}.



{ثُمَّ أَنشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قُرُونًا آخَرِينَ} أي أوجدنا من بعد هلاك هؤلاء أمماً وخلائق آخرين كقوم صالح وإِبراهيم وقوم لوط وشعيب قال ابن عباس: هم بنو إِسرائيل، وفي الكلام حذفٌ تقديره: فكذبوا أنبياءهم فأهلكناهم دلَّ عليه قوله {مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ} أي ما تتقدم أمةٌ من الأمم المهلكة عن الوقت الذي عُيّن لهلاكهم ولا تتأخر عنه {ثُمَّ أَرْسَلنَا رُسُلَنَا تَتْرَى} أي بعثنا الرسل متتالين واحداً بعد واحد قال ابن عباس: يتبع بعضهم بعضاً {كُلَّ مَا جَاءَ أُمَّةً رَسُولُهَا كَذَّبُوهُ} تشنيع عليهم بكمال ضلالهم أي أنهم سلكوا في تكذيب أنبيائهم مسلك من سبقهم من الضالين المكذبين ولهذا قال {فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضًا} أي ألحقنا بعضهم في إِثر بعض بالهلاك والدمار {وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ} أي أخباراً تُروى وأحاديث تُذكر، يتحدث الناس بما جرى عليهم تعجباً وتسلية {فَبُعْدًا لِقَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ} أي فهلاكاً ودماراً لقومٍ لا يصدّقون الله ورسله.

yacine414
2011-03-26, 17:55
قصة موسى وهارون عليهما السلام



{ثُمَّ أَرْسَلْنَا مُوسَى وَأَخَاهُ هَارُونَ بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ(45)إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا عَالِينَ(46)فَقَالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ(47)فَكَذَّبُوهُمَا فَكَانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ(48)وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ(49)}.



{ثُمَّ أَرْسَلْنَا مُوسَى وَأَخَاهُ هَارُونَ بِآيَاتِنَا} أي أرسلناهما بآياتنا البينات قال ابن عباس: هي الآيات التسع "العصا، اليد، الجراد" إلخ {وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ} أي وحجة واضحة ملزمة للخصم {إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ} أي أرسلناهما إِلى فرعون الطاغية وأشراف قومه المتكبرين {فَاسْتَكْبَرُوا} أي عن الإِيمان بالله وعبادته {وَكَانُوا قَوْمًا عَالِينَ} أي متكبرين متمردين، قاهرين لغيرهم بالظلم {فَقَالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا} أي أنصدق رجلين مثلنا ونتَّبعهما؟ {وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ} أي والحال أن قوم موسى وهارون منقادون لنا كالخدم والعبيد؟ {فَكَذَّبُوهُمَا فَكَانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ} أي فكذبوا رسولينا فكانوا من المغرقين أبو حيّان {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ} أي أعطينا موسى التوراة بعد غرق فرعون وملائه ليهتدي بها بنو إِسرائيل.



قصة عيسى وأمه مريم عليهما السلام



{وَجَعلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ(50)}.



{وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً} أي وجعلنا قصة مريم وابنها عيسى معجزةً عظيمة تدل على كمال قدرتنا {وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ} أي وجعلنا منزلهما ومأواهما إِلى مكانٍ مرتفع من أرض بيت المقدس قال ابن عباس: الربوة المكان المرتفع من الأرض، وهو أحسن ما يكون فيه النبات {ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ} أي مستوية يستقر عليها وماءٍ جارٍ ظاهر للعيون قال الرازي: القرار: المستقر كل أرض مستوية مبسوطة، والمعين: الماء الظاهر الجاري على وجه الأرض، وعن قتادة: ذات ثمارٍ وماء، يعني أنه لأجل الثمار يستقر فيها ساكنوها.



أوامر ربانية عامة



{يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ(51)وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ(52)فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ(53)فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ(54)أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ(55)نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لا يَشْعُرُونَ(56)}.



{يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا} أي قلنا يا أيها الرسل كلوا من الحلال وتقربوا إِلى الله بالأعمال الصالحة، والنداء لكل رسولٍ في زمانه وصّى به كل رسول إِرشاداً لأمته كما تقول تخاطب تاجراً: يا تجار اتقوا الربا { إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} وعيدٌ وتحذير أي إِني عالم بما تعملون لا يخفى علىَّ شيء من أمركم، قال القرطبي: شمل الكل في الوعيد وإِذا كان هذا مع الرسل والأنبياء، فما ظنُّ كل الناس بأنفسهم؟ {وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً } أي دينكم يا معشر الأنبياء دين واحد، وملتكم ملة واحدة وهي دين الإِسلام {وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ} أي وأنا ربكم لا شريك لي فخافوا عذابي وعقابي.

{فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا} أي تفرقت الأمم في أمر دينهم فرقاً عديدة وأدياناً مختلفة هذا مجوسي، وهذا يهودي، وهذا نصراني بعدما أُمروا بالاجتماع {كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} أي كل فريق منهم مغتبط بما اتخذه ديناً لنفسه معجب به، يرى أنه المحقُّ الرابح، وأنَّ غيره المبطل الخاسر {فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ} الخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم والضمير لكفار مكة أي فاترك يا محمد هؤلاء المشركين في غفلتهم وجهلهم وضلالهم {حَتَّى حِينٍ} أي إِلى حين موتهم، وهذا تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم ووعيدٌ للمشركين {أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ} أي أيظن هؤلاء الكفار أنَّ الذي نعطيهم في الدنيا من الأموال والأولاد {نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ} أي هو تعجيل ومسارعة لهم في الإِحسان؟ كلاَّ ليس الأمر كما يظنون بل هو استدراجٌ لهم، واستجرارٌ إلى زيادة الإِثم ولهذا قال {بَل لا يَشْعُرُونَ} أي بل هم أشباه البهائم، لا فطنة لهم ولا شعور حتى يتفكروا في الأمر، أهو استدراج أم مسارعة في الخير؟ والآية ردٌّ على المشركين في زعمهم أن أموالهم وأولادهم دليلُ رضى الله عنهم كما حكى الله عنهم {وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالا وَأَوْلادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ} وفي الحديث (إن الله يعطي الدنيا لمن يحُبُّ ولمن لا يحب، ولا يعطي الدين إِلا لمن أحبَّ).



صفات المسارعين بالخيرات



{إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ(57)وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ(58)وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ(59)وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ(60)أُوْلَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ(61)وَلا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ(62)}.



ولمّا ذمَّ المشركين وتوعَّدهم عقَّب ذلك بمدح المؤمنين وذكرهم بأبلغ صفاتهم فقال {إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ} أي هم من جلال الله وعظمته خائفون، ومن خوف عذابه حذرون {وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ} أي يصدِّقون بآيات الله القرآنية، وآياته الكونية وهي الدلائل والبراهين الدالة على وجوده سبحانه

وفي كل شيءٍ له آيةٌ تدلُّ على أنه واحد

{وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ} أي لا يعبدون معه غيره، بل يوحدونه ويخلصون العمل لوجهه قال الإِمام الفخر الرازي: وليس المراد منه الإِيمان بالتوحيد ونفي الشريك لله فإِن ذلك داخل في الآية السابقة، بل المراد منه نفيُ الشرك الخفي وذلك بأن يخلص في العبادة لوجه اللهوطلباً لرضوانه {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ} هذه هي الصفة الرابعة من أوصاف المؤمنين أي يعطون العطاء من زكاةٍ وصدقة، ويتقربون بأنواع القربات من أفعال الخير والبر وهم يخافون أن لا تقبل منهم أعمالهم قال الحسن: إِن المؤمن جمع إِحساناً وشفقة، وإِن المنافق جمع إِساءةً وأمناً {أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ} أي لخوفهم أن يكونوا قد قصَّروا في القيام بشروط الطاعات والأعمال الصالحة ولاعتقادهم أنهم سيرجعون إِلى ربهم للحساب، روي أن عائشة سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الآية الكريمة فقالت {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ} أهو الذي يزني، ويسرق، ويشرب الخمر وهو يخاف الله عزَّ وجل؟ فقال لها: (لا يا بنت الصِّديق! ولكنه الذي يصلي، ويصوم، ويتصدق وهو مع ذلك يخاف الله عزَّ وجل) {أُوْلَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ} أي أولئك المتصفون بتلك الصفات الجليلة هم الذين يسابقون في الطاعات لنيل أعلى الدرجات لا أولئك الكفرة المجرمون {وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ} أي هم الجديرون بها والسابقون إِليها قال الإِمام الفخر الرازي: واعلم أن ترتيب هذه الصفات في نهاية الحسن، فالصفة الأولى دلت على حصول الخوف الشديد، الموجب للاحتراز عما ينبغي، والثانية: دلت على التصديق بوحدانية الله، والثالثة: دلت على ترك الرياء في الطاعات، والرابعة: دلت على أن المستجمع لتلك الصفات الثلاثة يأتي بالطاعات مع الوجل والخوف من التقصير، وذلك هو نهاية مقامات الصدّيقين رزقنا الله الوصول إِليها{وَلا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا} أي لا نكلّف أحداً من العباد ما لا يطيق تفضلاً منّا ولطفاً. أتى بهذه الآية عقب أوصاف المؤمنين إِشارةً إِلى أن أولئك المخلصين لم يُكلفوا بما ليس في قدرتهم وأن جميع التكاليف في طاقة الإِنسان {وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنطِقُ بِالْحَقِّ} أي وعندنا صحائف أعمال العباد التي سطر فيها ما عملوا من خير أو شر نجازيهم في الآخرة عليها ولهذا قال {وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} أي لا يظلمون من أعمالهم شيئاً بنقص الثواب أو زيادة العقاب قال القرطبي: والآية تهديد وتأمين من الحيف والظلم.





إنكار أعمال الكفار ومشركي قريش وأسبابها



{بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هَذَا وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِنْ دُونِ ذَلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ(63)حَتَّى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذَابِ إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ(64)لا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِنَّا لا تُنصَرُونَ(65)قَدْ كَانَتْ ءاياتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنكِصُونَ(66)مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِرًا تَهْجُرُونَ(67)أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءهُمْ الأَوَّلِينَ(68)أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ(69)أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ(70)وَلَوْ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءهُمْ لَفَسَدَتْ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ(71)أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجًا فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ(72)وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ(73)وَإِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ(74)وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ(75) وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ(76)حَتَّى إِذَا فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا ذَا عَذَابٍ شَدِيدٍ إِذَا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ(77)}.



سَبَبُ النّزول:

عن ابن عباس قال: نزلت في قصة "ثمامة بن أُثال" لما أسرته السرية وأسلم وخلى رسول الله صلى الله عليه وسلم سبيله، حال بين مكة وبين الميرة وقال: والله لا يأتيكم من اليمامة حبَّة حنطة حتى يأذن فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأخذ اللهُ قريشاً بالقحط والجوع حتى أكلوا الميتة والكلاب والعلهز قيل وما العلهز؟ قال كانوا يأخذون الصوف والوبر فيبلونه بالدم ثم يشوونه ويأكلونه فقال أبو سفيان: أنشدك الله والرَّحم، أليس تزعم أنَّ الله بعثك رحمة للعالمين؟ قال: بلى، قال فوالله ما أراك إِلا قتلت الآباء بالسيف، وقتلت الأبناء بالجوع فنزل قوله تعالى {وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} الآيات.



{بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هَذَا } بل قلوب الكفرة المجرمين في غطاءٍ وغفلةٍ وعماية عن هذا القرآن {وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِنْ دُونِ ذَلِكَ} أي ولهم أعمال سيئة كثيرة غير الكفر والإِشراك {هُمْ لَهَا عَامِلُونَ} أي سيعملونها في المستقبل لتحقَّ عليهم الشقاوة فقد جمعوا بين الكفر وسوء الأعمال فحقت عليهم كلمة العذاب {حَتَّى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذَابِ} أي حتى إِذا أخذنا أغنياءهم وكبراءهم المتنعمين في هذه الحياة بالعذاب العاجل كالجوع والقتل والأسر { إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ} أي إذا هم يصيحون ويرفعون أصواتهم بالاستغاثة قال ابن عباس: هو الجوع الذي عذبوا به سبع سنين {لا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ} أي لا تستغيثوا اليوم من العذاب { إِنَّكُمْ مِنَّا لا تُنصَرُونَ} أي لا تمنعون من عذابنا فلا ينفعكم صراخ ولا استغاثة {قَدْ كَانَتْ ءاياتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ} أي لقد كنتم تسمعون ءايات القرآن تقرأ عليكم {فَكُنتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنكِصُونَ} أي كنتم تنفرون عن تلك الآيات كما يذهب الناكص على عقبيه بالرجوع إِلى ورائه، وهذا تمثيلٌ لإِعراضهم عن الحق بالراجع إلى الخلف {مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ} أي مستكبرين بسبب القرآن عن الإِيمان قال ابن كثير: الضمير للقرآن كانوا يسمرون ويذكرون القرآن بالهُجْر من الكلام يقولون إِنه سحر، شعر، كهانة إِلى غير ذلك من الأقوال الباطلة وقال ابن الجوزي: الضمير عائد إلى البيت الحرام وهي كناية عن غير مذكور لشهرة الأمر والمعنى: إِنكم تستكبرون وتفتخرون بالبيت والحرم لأمنكم فيه مع خوف سائر الناس في مواطنهم، تقولون: نحن أهل الحرم فلا نخاف أحداً، ونحن أهل بيت الله وولاته، هذا مذهب ابن عباس وغيره {سَامِرًا تَهْجُرُونَ} أي متحدثين ليلاً، تقولون في سمركم الهجر وهو القول الفاحش من الطعن في القرآن وسبّ النبي عليه السلام {أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ} أي أفلم يتدبروا هذا القرآن العظيم ليعرفوا بما فيه من إِعجاز النظم أنه كلام الله فيصدقوا به؟ {أَمْ جَاءهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءهُمْ الأَوَّلِينَ} أي أم جاءهم من الله تعالى بشيء مبتدع لم يأت مثله في آبائهم السابقين؟ قال أبو السعود: يعني أن مجيء الكتب من جهته تعالى إلى الرسل سنة قديمة لا يكاد يتسنى إنكاره، وأن مجيء القرآن على طريقته فمن أين ينكرونه؟ {أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ} توبيخ آخر لهم أي أم لم يعرفوا محمدا صلى الله عليه وسلم بالأمانة والصدق وحسن الأخلاق؟ وبَّخهم أوّلاً بترك الانتفاع بالقرآن، وثانياً بأن ما جاءهم قد جاء مثله لآبائهم الأولين، وثالثاً بأنهم يعرفون محمداً صلى الله عليه وسلم ونسبه وصدقه وأمانته ورابعاً اتهامهم له بالجنون وقد علموا أنه عليه السلام أرجحهم عقلاً وأثقبهم ذهناً ولهذا قال بعده {أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ} أي أم يقولون إِن محمداً مجنون، وهذا توبيخ آخر وتعجيبٌ من تفننهم في العناد، وتلونهم في الجحود {بَلْ جَاءهُمْ بِالْحَقِّ} {بَلْ} للإِضراب أي ليس الأمر كما زعموا بل جاءهم محمد بالحقِّ الساطع الذي لا مدخل فيه للباطل بوجه من الوجوه، وبالقرآن المشتمل على التوحيد وشرائع الإِسلام {وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ} أي ومع وضوح الدعوة فإِنَّ أكثر المشركين يكرهون الحقَّ لما في قلوبهم من الزيغ والانحراف {وَلَوْ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءهُمْ} أي لو كان ما كرهوه من الحقّ - الذي هو التوحيد والعدل - موافقاً لأهوائهم الفاسدة، ومتمشياً مع رغباتهم الزائغة {لَفَسَدَتْ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ} أي لفسد نظام العالم أجمع علويُّه وسفليُّه، وفسد من فيه من المخلوقات لفساد أهوائهم واختلافهم قال ابن كثير: وفي هذا كله تبيين عجز العباد، واختلاف آرائهم وأهوائهم، وأنه تعالى هو الكامل في جميع صفاته وأفعاله وتدبيره لخلقه {بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ} أي بل أتيناهم بما فيه فخرهم وشرفهم، وهو هذا القرآن العظيم الذي أكرمهم الله تعالى به {فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ} أ ي فهم معرضون عن هذا القرآن وكان اللائق بهم الانقياد له وتعظيمه لأنه شرفهم وعزُّهم، وأعاد لفظ " الذكر" تعظيماً للقرآن {أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجًا} أي أم تسألهم يا محمد أجراً على تبليغ الرسالة فلأجل ذلك لا يؤمنون، وفي هذا تشنيعٌ عليهم لعدم الإِيمان فمحمد لا يطلب منهم أجراً فلماذا إِذاً يكذبونه ويعادونه؟ {فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ} أي رزق الله وعطاؤه خيرٌ لك يا محمد {وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} أي هو تعالى أفضلُ من أعطى ورزق لأنه يعطي لا لحاجة، وغيره يعطي لحاجة {وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} أي وإِنك يا محمد لتدعوهم إِلى الطريق المستقيم وهو الإِسلام الموصل إلى جنات النعيم {وَإِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ} أي وإِنَّ الذين لا يصدقون بالبعث والثواب والعقاب لعادلون عن الطريق المستقيم منحرفون عنه.



{وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ} أي لو رحمنا هؤلاء المشركين الذين كذبوك وعاندوك ورفعنا عنهم ما أصابهم من قحطٍ وجدب وكشفنا عنهم البلاء {لَلَجُّوا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} أي لاستمروا وتمادوا في ضلالتهم وتجاوزهم الحدَّ يتردَّدون ويتخبطون حيارى {وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ} أي ابتليناهم بالمصائب والشدائد، وبالقحط والجوع {فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ} أي ما خضعوا لله ولا تواضعوا لجلاله {وَمَا يَتَضَرَّعُونَ} أي وما دعوا ربهم لكشف البلاء بل استمروا على العتوّ والاستكبار، والغرضُ أنه لم يحصل منهم تواضع ورجوع إِلى الله في الماضي، ولا التجاءٌ إِلى الله في المستقبل لشدة جبروتهم وطغيانهم {حَتَّى إِذَا فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا ذَا عَذَابٍ شَدِيدٍ} أي حتى إِذا جاءتهم أهوال الآخرة وأتاهم من عذاب الله ما لم يكونوا يحتسبون {إِذَا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ} أي إِذا هم آيسون من كل خير قال أبو السعود: المراد بالعذاب عذاب الآخرة كما ينبئ عنه التهويل والوصف بالشدة والمعنى أنا محناهم بكل محنة من القتل، والأسر، والجوع وغير ذلك فما رئيَ منهم لين ولا توجهٌ إِلى الإِسلام إلى أن يروا عذاب الآخرة فحينئذٍ يبلسون وتخضع رقابهم.



بعضٌ من نعمه تعالى على عباده



{وَهُوَ الَّذِي أَنشَأَ لَكُمْ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ قَلِيلا مَا تَشْكُرُونَ(78)وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ(79)وَهُوَ الَّذِي يُحْيِ وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ أَفَلا تَعْقِلُونَ(80)}.



ثم ذكَّرهم تعالى بنعمه ودلائل وحدانيته فقال {وَهُوَ الَّذِي أَنشَأَ لَكُمْ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ} أي خلق لكم هذه الحواس لتسمعوا وتبصروا وتفقهوا، وفيه توبيخٌ للمشركين حيث لم يصرفوا النعم في مصارفها، لأن السمع خلق ليسمع به ما يرشده، والبصر ليشاهد به الآيات على كمال أوصاف الله، والعقل ليتأمل به في مصنوعات الله وباهر قدرته فمن لم يصرف تلك النعم في مصارفها فهو بمنزلة عادمها كما قال تعالى {فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصَارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ} وخصَّ هذه الثلاثة بالذكر لعظم المنافع التي فيها {قَلِيلا مَا تَشْكُرُونَ} أي قليلاً تشكرون ربكم، و{مَا} لتأكيد القلة أي ما أقل شكركم لله على كثرة إِفضاله وإِنعامه عليكم؟ {وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الأَرْضِ} أي خلقكم وبثكم في الأرض بطريق التناسل {وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} أي وإِليه وحده تجمعون للجزاء والحساب {وَهُوَ الَّذِي يُحْيِ وَيُمِيتُ} أي يُحيي الرِّمم ويميت الخلائق والأمم {وَلَهُ اخْتِلافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} أي إِن اختلاف الليل والنهار بالزيادة والنقصان بفعله سبحانه وحده ليقيم الدليل على وجوده وقدرته {أَفَلا تَعْقِلُونَ} أي أفليس لكم عقول تدركون بها دلائل قدرته، وآثار قهره، فتعلمون أن من قدر على ذلك ابتداءً، قادرٌ على إِعادة الخلق بعد الفناء؟.



إنكار المشركين البعث وإثبات حدوثه بالأدلة القاطعة



{بلْ قَالُوا مِثْلَ مَا قَالَ الأَوَّلُونَ(81)قَالُوا أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ(82)لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا هَذَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ(83)قُلْ لِمَنْ الأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ(84) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ(85)قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ(86)سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ(87)قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ(88)سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ(89)بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ(90)}.



{بَلْ قَالُوا مِثْلَ مَا قَالَ الأَوَّلُونَ} {بَلْ} للإِضراب أي ليس لهم عقل ولا نظر في هذه الآيات والعِبر، بل قال هؤلاء المشركون - من كفار مكة - مثل ما قال الأمم المتقدمون {قَالُوا أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ}؟ أي أئذا بلينا وصرنا ذراتٍ ناعمة، وعظاماً نخرة أئنا لمخلوقون ثانية؟ هذا لا يتصور ولا يكون أبداً {لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا هَذَا مِنْ قَبْلُ} أي لقد وعدنا بهذا نحن ومن سبقنا فلم نر له حقيقة {إِنْ هَذَا إِلا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ} أي ما هذا إِلا أكاذيب وأباطيل المتقدمين ولما أنكروا البعث والنشور أمر تعالى رسوله أن يفحمهم بالحجة الدامغة التي تقصم ظهر الباطل فقال {قُلْ لِمَنْ الأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا}؟ أي قل يا محمد جواباً لهم عما قالوه: لمن الأرض ومن فيها من المخلوقات؟ ومن مالكها والمتصرف فيها بالإِيجاد والإِفناء؟ {إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} أي إِن كان عندكم علمٌ فأخبروني بذلك، وفيه استهانةٌ بهم وتقريرٌ لجهلهم قال القرطبي: يخبر تعالى في الآية بربوبيته ووحدانيته، وملكه الذي لا يزول، وقدرته التي لا تحول، ودلت هذه الآيات - وما بعدها - على جواز جدال الكفار وإِقامة الحجة عليهم، ونبَّهت على أنَّ من ابتدأ بالخلق والإِيجاد، والإِبداع، هو المستحقُّ للألوهية والعبادة { سَيَقُولُونَ لِلَّهِ} أي فسيقولون الله خالقها وموجدها ولا بدَّ لهم من الاعتراف بذلك {قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ}؟ أي أفلا تعتبرون فتعلمون أن من ابتدأ ذلك قادر على إِعادته؟ {قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ}؟ أي من هو خالق السماوات الطباق بما فيها الشموس، والكواكب والأقمار، ومن هو خالق العرش الكبير الذي تحمله الملائكة الأطهار؟ {سَيَقُولُونَ لِلَّهِ} أي سيقولون: اللهُ خالقه وهو لله {قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ} أي أفلا تخافون من عذابه فتوحّدونه وتتركون عبادة غيره من الأوثان والأصنام {قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ} الملكُوت من صفات المبالغة أي من بيده الملك الواسع التام؟ ومن بيده خزائن كل شيء؟ ومن هو المتصرف في هذه الأكوان بالخلق والإِيجاد والتدبير؟ {وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ} أي يحمي من استجار به والتجأ إِليه، ولا يغيث أحدٌ منه أحداً {إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} أي إِن كنتم تعلمون فأخبروني عن ذلك {سَيَقُولُونَ لِلَّهِ} أي سيقولون: الملك كله والتدبيرُ لله جلَّ وعلا {قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ} أي قل لهم: فكيف تُخدعون وتُصرفون عن طاعته وتوحيده مع اعترافكم وعلمكم بأنه وحده المتصرف المالك؟ قال أبو حيان: والسحر هنا مستعار وهو تشبيه لما يقع منهم من التخليط، ووضع الأفعال والأقوال غير مواضعها بما يقع للمسحور من التخبط والتخليط رتَّب هذه التوبيخات الثلاثة بالتدريج فقال أولاً {أَفَلا تَذَكَّرُونَ}؟ ثم قال ثانياً {أَفَلا تَتَّقُونَ}؟ وذلك أبلغ لأن فيه زيادة تخويف، ثم قال ثالثاً {فَأَنَّى تُسْحَرُونَ} وفيه من التوبيخ ما ليس في غيره {بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِالْحَقِّ} أي بل جئناهم بالقول الصدق في أمر التوحيد والبعث والجزاء {وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} أي كاذبون فيما ينسبون لله من الشركاء والأولاد. لمَّا بالغ في الحِجاج عليهم بالآيات السابقة أعقبها بهذه الآية كالوعيد والتهديد.



نفي الولد والشريك لله تعالى





{مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ(91)عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ(92)}.



ثم بيَّن بطلان الشريك والولد بالبرهان القاطع فقال {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ} أي ما اتخذ الله ولداً مطلقاً لا من الملائكة ولا من البشر {وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ} أي وليس معه من يشاركه في الألوهية والربوبية {إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ} أي لو كان معه إِله - كما زعم عبدة الأوثان - لانفرد كل إِلهٍ بخلقه الذي خلق واستبدَّ به، وتميَّز ملك كلِّ واحد عن ملك الآخر {وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ} أي ولغلب بعضهم على بعض كحال ملوك الدنيا قال ابن كثير: المعنى لو قدر تعدُّد الآلهة لأنفرد كلٌ منهم بما خلق، ثم لكان كلٌ منهم يطلب قهر الآخر وخلافه فيعلو بعضهم على بعض وما كان ينتظم الوجود، والمشاهد أن الوجود منتظمٌ متَّسقٌ غاية الكمال فدل على تنزه الله عن الولد والشريك ولهذا قال {سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ} أي تنزّه الله وتقدَّس عما يصفه به الظالمون {عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ} أي هو تعالى العالم بما غاب عن الأنظار، وبما تدركه الأبصار، لا تخفى عليه خافية من شؤون الخلق {فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} أي تقدَّس وتنزَّه عن الشريك والولد.



توجيهات إلى النبي صلى الله عليه وسلم



{قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي مَا يُوعَدُونَ(93)رَبِّ فَلا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ(94)وَإِنَّا عَلَى أَنْ نُرِيَكَ مَا نَعِدُهُمْ لَقَادِرُونَ(95)ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ(96)وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ(97)وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ(98)}.



{قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي مَا يُوعَدُونَ} أي قل يا ربِّ إِن كان ولا بدَّ من أن تُريَني ما تعدهم من العذاب في الدنيا {رَبِّ فَلا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} هذا جواب الشرط {إِمَّا} وكرَّر قوله {رَبِّ} مبالغةً في الدعاء والتضرع أي ربّ فلا تجعلني في جملة الظالمين فأهلك بهلاكهم قال أبو حيان: ومعلوم أنه عليه السلام معصومٌ مما يكون سبباً لجعله مع الظالمين ولكنه أُمر أن يدعو بذلك إِظهاراً للعبودية وتواضعاً لله {وَإِنَّا عَلَى أَنْ نُرِيَكَ مَا نَعِدُهُمْ لَقَادِرُونَ} أي ونحن قادرون على أن نريك العذاب الذي وعدناهم به ولكن نؤخره لحكمه {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ} أي ادفع إِساءتهم بالصفح عنهم وتجمَّل بمكارم الأخلاق قال ابن كثير: أرشده إلى الترياق النافع في مخالطة الناس وهو الإِحسان إلى من يسيء إِليه ليستجلب خاطره، فتعود عدواته صداقةً، وبغضه محبة {نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ} أي نحن أعلم بحالهم وبما يكون منهم من التكذيب والاستهزاء وسنجازيهم عليه {وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ} أي أعتصم بك من نزعات الشياطين ووساوسهم المغرية على الباطل والمعاصي {وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ} أي وأعتصم وأحتمي بك يا رب من أن يصيبوني بسوء أو يكونوا معي في أموري، كرَّر ذلك للمبالغة والاعتناء بشأن الاستعاذة.



تمنى الإنسان العودة إلى الدنيا إذا حضره الموت



{حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمْ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ(99)لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ(100)}.



{حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمْ الْمَوْتُ} عاد الكلام عن المشركين أي حتى إِذا حضر الموتُ أحدهم وعاين أهواله وشدائده {قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ} أي قال تحسراً على ما فرط منه: ربِّ ردَّني إلى الدنيا، وصيغة الجمع للتعظيم {لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ } أي لكي أعمل صالحاً فيما ضيَّعت من عمري {كَلا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا} {كَلا} كلمةُ ردع وزجر أي لا رجوع إِلى الدنيا فليرتدع عن ذلك فإِن طلبه للرجعة كلام لا فائدة فيه ولا جدوى منه وهو ذاهبٌ أدراج الرياح {وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} أي وأمامهم حاجزٌ يمنعهم عن الرجوع إِلى الدنيا - هو عالم البرزخ - الذي يحول بينهم وبين الرجعة يلبثون فيه إِلى يوم القيامة قال مجاهد: البرزخُ: الحاجز ما بين الدنيا والآخرة.



النفخ في الصور والحساب في الآخرة



{فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ(101)فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ(102)وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ(103)تَلْفَحُ وُجُوهَهُمْ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ(104)أَلَمْ تَكُنْ ءاياتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ(105)قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ(106)رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ(107) قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ(108)إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ(109)فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ(110)إِنِّي جَزَيْتُهُمْ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمْ الْفَائِزُونَ(111)}.



{فَلا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ} أي فلا قرابة ولا نسب ينفعهم يوم القيامة لزوال التراحم والتعاطف من شدة الهول والدهشة بحيث يفر المرء من أخيه وأُمه وأبيه وصاحبته وبنيه {وَلا يَتَسَاءَلُونَ} أي لا يسأل بعضهم بعضاً عن شأنه لاشتغال كل واحد بنفسه، ولا تنافي بينها وبين قوله {وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ} لأن يوم القيامة طويل وفيه مواقف ومواطن، ففي بعضها يتكلمون وفي بعضها لا ينطقون {فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ} أ ي فمن رجحت حسناته على سيئاته ولو بواحدة {فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ} أي فهم السعداء الذين فازوا فنجوا من النار وأُدخلوا الجنة {وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ} أي زادت سيئاته على حسناته {فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ} أي فهم الأشقياء الذين خسروا سعادتهم الأبدية بتضييع أنفسهم وتدنيسها بالكفر والمعاصي {فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ} أي هم مقيمون في جهنم لا يخرجون منها أبداً {تَلْفَحُ وُجُوهَهُمْ النَّارُ} أي تحرقها بشدة حرِّها، وتخصيص الوجوه بالذكر لأنها أشرف الأعضاء {وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ} أي وهم في جهنم عابسون مشوَّهو المنظر قال ابن مسعود: قد بدتْ أسنانهم وتقلَّصت شفاههم كالرأس المُشيَّط بالنار، وفي الحديث (تشويه النارُ فتقلص شفته العليا حتى تبلغ وسط رأسه، وتسترخي شفته السفلى حتى تبلغ سُرَّته) {أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ} أي يقال لهم تعنيفاً وتوبيخاً: ألم تكن ءايات القرآن الساطع تقرأ عليكم في الدنيا؟ {فَكُنتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ} أي فكنتم لا تصدّقون بها مع وضوحها {قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا} أي غلبت علينا شقاوتنا {وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ} أي وكنَّا ضالين عن الهدى بسبب اتباعنا للملذّات والأهواء {رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا} أي أخرجنا من النار ورُدَّنا إلى الدنيا {فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ} أي فإِن رجعنا إلى الكفر والمعاصي بعد ذلك نكون قد تجاوزنا الحدَّ في الظلم والعدوان. أقروا أولاً بالإِجرام ثم تدرجوا من الإِقرار إلى الرغبة والتضرع فجاء الجواب بالتيئيس والزجر {قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ} أي ذلوا في النار وانزجروا كما تُزجر الكلاب ولا تكلموني في رفع العذاب قال ابن جزي : اخسئوا: كلمة تستعمل في زجر الكلاب ففيها إِهانةٌ وإِبعاد {إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ} قال مجاهد: هم بلال، وخباب، وصهيب وغيرهم من ضعفاء المسلمين كان أبو جهل وأصحابه يهزؤون بهم {فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا} أي فسخرتم منهم واستهزأتم بهم {حَتَّى أَنسَوْكُمْ ذِكْرِي} أي حتى نسيتم بتشاغلكم بهم واستهزائكم عليهم عن طاعتي وعبادتي {وَكُنتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ} أي وكنتم تضحكون عليهم في الدنيا {إِنِّي جَزَيْتُهُمْ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا} أي جزيتهم بسبب صبرهم على أذاكم أحسن الجزاء {أَنَّهُمْ هُمْ الْفَائِزُونَ} أي أنهم هم الفائزون بالنعيم المقيم.



قصر مدة البقاء في الدنيا، وخلق الخلائق ليس لعباً



{قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ(112)قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ(113)قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلا قَلِيلا لَوْ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ(114)أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ(115)فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلَهَ إِلا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ(116)وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ(117)وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ(118)}.



{قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ} أي قال تعالى للكفار على سبيل التبكيت والتوبيخ: كم مكثتم في الدنيا وعمرَّتم فيها من السنين؟ {قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ } أي مكثنا يوماً أو أقل من يوم {فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ} أي الحاسبين المتمكنين من العدِّ قال ابن عباس: أنساهم ما كانوا فيه من العذاب المدة التي لبثوها {قالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلا قَلِيلا} أي ما أقمتم حقاً في الدنيا إِلا قليلاً قال الرازي: كأنه قيل لهم: صدقتم ما لبثتم فيها إِلا قليلاً فقد انقضت ومضت، والغرضُ تعريفهم قلة أيام الدنيا في مقابلة أيام الآخرة { لَوْ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} أي لو كان لكم علمٌ وفهم لعرفتم حقارة الدنيا ومتاعها الزائل {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا} أي أظننتم - أيها الناس - أنما خلقناكم باطلاً وهملاً بلا ثواب ولا عقاب كما خلقت البهائم {وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ} أي وأنه لا رجوع لكم إِلينا للجزاء؟ لا ليس الأمر كما تظنون وإِنما خلقناكم للتكليف والعبادة ثم الرجوع إِلى دار الجزاء {فَتَعَالَى اللَّهُ} أي فتنزَّه وتقدَّس الله الكبير الجليل {الْمَلِكُ الْحَقُّ} أي صاحب السلطان، المتصرف في ملكه بالإِيجاد والإعدام، والإِحياء والإِفناء، تنزَّه عن العبث والنقائص وعن أن يخلق شيئاً سفهاً لأنه حكيم {لا إِلَهَ إِلا هُوَ} أي لا ربَّ سواه ولا خالق غيره {رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ} أي خالق العرش العظيم، وصفه بالكريم لأن الرحمة والخير والبركة تنزل منه، ولنسبته إلى أكرم الأكرمين {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ} أي ومن يجعل لله شريكاً ويعبد معه سواه {لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ} أي لا حجة له به ولا دليل {فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ} أي جزاؤه وعقابه عند الله {إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} أي لا يفوز ولا ينجح من جحد وكذب بالله ورسله، افتتح السورة بقوله {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} وختمها بقوله {إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} ليظهر التفاوت بين الفريقين فشتان ما بين البدء والختام. {وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ} أمر رسوله بالاستغفار والاسترحام تعليماً للأمة طريق الثناء والدعاء، اللهم اغفر لنا وارحمنا برحمتك التي وسعت كل شيء، يا أرحم الراحمين، اللهم آمين

yacine414
2011-03-26, 17:56
سورة النور



حد الزنى وحكم الزناة

حد القذف

حد اللعان

قصة الإفك

الجزاء الأخروي للقاذف

آية غض البصر والحجاب

التزوج بالأحرار، مكاتبة الأرقاء، والإكراه على الزنى

نور الله يملأ السماوات والأرض

المؤمنون المهتدون بنور الله تعالى

أعمال الكفار في الدنيا لا تنفعهم في الآخرة

التفكر في مخلوقات الله يدل على وجوده

ادعاء المنافقين الإيمان

الطاعة والامتثال من دأب المؤمنين

وعد الله المؤمنين بالاستخلاف في الأرض

حالات الاستئذان داخل البيت، وتخفيف الثياب الظاهرة عن العجائز

إباحة الأكل في بيوت معينة دون إذن أهلها

الاستئذان عند الخروج، وأدب مخاطبة النبي صلى الله عليه وسلم والتحذير من مخالطة آمره



بَين يَدَي السُّورَة



* سورة النور من السور المدنية، التي تتناول الأحكام التشريعية، وتُعنى بأمور التشريع والتوجيه والأخلاق، وتهتم بالقضايا العامة والخاصة التي ينبغي أن يُربى عليها المسلمون أفراداً وجماعات، وقد اشتملت هذه السورة على أحكام هامة وتوجيهات عامة تتعلق بالأسرة، التي هي النواة الأولى لبناء المجتمع الأكبر.



*وضحَّت السورة الآداب الاجتماعية التي يجب أن يتمسك بها المؤمنون في حياتهم الخاصة والعامة، كالاستئذان عند دخول البيوت، وغض الأبصار، وحفظ الفروج، وحرمة اختلاط الرجال بالنساء الأجنبيات، وما ينبغي أن تكون عليه الأسرة المسلمة و"البيت المسلم" من العَفاف والستر، والنزاهة والطهر، والاستقامة على شريعة الله، صيانةً لحرمتها، وحفاظاً عليها من عوامل التفكك الداخلي، والانهيار الخلقي، الذي يهدم الأمم والشعوب.



* وقد ذكرت في هذه السورة الكريمة بعض الحدود الشرعية التي فرضها الله كحد الزنى، وحد القذف، وحد اللعان، وكل هذه الحدود إنما شرعت تطهيراً للمجتمع من الفساد والفوضى، واختلاط الأنساب، والانحلال الخلقي، وحفظاً للأمة من عوامل التردي في بؤرة الإِباحية والفساد، التي تُسبب ضياع الأنساب، وذهاب العرض والشرف.



*وباختصار فإن هذه السورة الكريمة عالجت ناحية من أخطر النواحي الاجتماعية هي "مسألة الأسرة" وما يحفها من مخاطر، وما يعترض طريقها من عقبات ومشاكل، تودي بها إلى الانهيار ثم الدمار، عما فيها من آداب سامية، وحكم عالية، وتوجيهات رشيدة، إلى أسس الحياة الفاضلة الكريمة، ولهذا كتب أمير المؤمنين عمر بن الخطاب إلى أهل الكوفة يقول لهم : علّموا نساءكم سورة النور.



التسمَية:

سُميت سورة النور لما فيها من إشعاعات النور الرباني، بتشريع الأحكام والآداب، والفضائل الإنسانية التي هي قبسٌ من نور الله على عباده، وفيضٌ من فيوضات رحمته وجوده {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} اللهم نور قلوبنا بنور كتابك المبين يا رب العالمين.



حد الزنى وحكم الزناة



{سُورَةٌ أَنزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنزَلْنَا فِيهَا ءاياتٍ بَيِّنَاتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ(1)الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ(2)الزَّانِي لا يَنكِحُ إلا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنكِحُهَا إِلا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ(3)}



{سُورَةٌ أَنزَلْنَاهَا} أي هذه سورة عظيمة الشأن من جوامع سور القرآن أوحينا بها إليك يا محمد {وَفَرَضْنَاهَا} أي أوجبنا ما فيها من الأحكام إيجاباً قطعياً {وَأَنزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ} أي أنزلنا فيها ءاياتٍ تشريعية، واضحات الدلالة على أحكامها، لتكون لكم -أيها المؤمنون- قبساً ونبراساً، وتكريرُ لفظ الإِنزال لإِبراز كمال العناية بشأنها فكأنه يقول: ما أنزلتها عليكم لمجرد التلاوة وإنما أنزلتها للعمل والتطبيق {لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} أي لكي تعتبروا وتتعظوا بهذه الأحكام وتعملوا بموجبها، ثم شرع تعالى بذكر الأحكام وبدأ بحد الزنى فقال {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} أي فيما شرعت لكم وفرضت عليكم أن تجلدوا كل واحدٍ من الزانيين- غير المحصنين- مائة ضربة بالسوط عقوبة لهما على هذه الجريمة الشنيعة {وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ} أي لا تأخذكم بهما رقة ورحمة في حكم الله تعالى فتخففوا الضرب أو تنقصوا العدد بل أوجعوهما ضرباً قال مجاهد: لا تعطلوا حدود الله ولا تتركوا إقامتها شفقة ورحمة {إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} هذا من باب الإلهاب والتهييج أي إن كنتم مؤمنون حقاً تصدقون بالله وباليوم الآخر، فلا تعطلوا الحدود ولا تأخذكم شفقة بالزناة، فإن جريمة الزنى أكبر من أن تستدر العطف أو تدفع إلى الرحمة { وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ} أي وليحضر عقوبة الزانيين جماعةً من المؤمنين، ليكون أبلغ في زجرهما، وأنجع في ردعهما، فإنَّ الفضيحة قد تنكل أكثر مما ينكل التعذيب {الزَّانِي لا يَنكِحُ إلا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً} أي الزاني لا يليق به أن يتزوج العفيفة الشريفة، إنما ينكح مثله أو أخسَّ منه كالبغيّ الفاجر، أو المشركة الوثنية {وَالزَّانِيَةُ لا يَنكِحُهَا إِلا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ} أي والزانية لا يليق أن يتزوج بها المؤمن العفيف، إنما يتزوجها من هو مثلها أو أخسَّ منها، كالزاني الخبيث أو المشرك الكافر، فإن النفوس الطاهرة تأبى الزواج بالفواجر الفاسقات، قال الإمام الفخر الرازي: "من أحسن ما قيل في تفسير هذه الآية: أنَّ الفاسقَ الخبيث- الذي من شأنه الزنى والفِسق -لا يرغب في نكاح الصوالح من النساء، وإنما يرغب في فاسقةٍ خبيثةٍ مثله أو مشركة، والفاسقة الخبيثة لا يرغب في نكاحها الصلحاء من الرجال وينفرون عنها، وإنما يرغب فيها من هو من جنسها من الفسقة والمشركين، وهذا على الأعم الأغلب كما يقال: لا يفعل الخير إلا الرجل التقي، وقد يفعل بعض الخير من ليس بتقيٍّ فكذا هنا" {وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} أي وحرم الزنى على المؤمنين لشناعته وقبحه، أو حرم نكاح الزواني على المؤمنين لما فيه من الأضرار الجسيمة.



حد القذف



{وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ(4)إِلا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ(5)}.



ثم شرع تعالى في بيان حد القذف فقال {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ} أي يقذفون بالزنى العفيفات الشريفات {ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} أي ثم لم يأتوا على دعواهم بأربعة شهود عدول يشهدون عليهن بما نسبوا إليهن من الفاحشة {فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً } أي اضربوا كل واحدٍ من الرامين ثمانين ضربةً بالسوط ونحوه، لأنهم كذبة يتهمون البريئات، ويخوضون في أعراض الناس {وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا} أي وزيدوا لهم في العقوبة بإهدار كرامتهم الإِنسانية فلا تقبلوا شهادة أي واحدٍ منهم ما دام مصراً على كذبه وبهتانه {وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ} أي هم الخارجون عن طاعة الله عز وجل لإِتيانهم بالذنب الكبير، والجرم الشنيع قال ابن كثير: أوجب تعالى على القاذف إذا لم يُقم البينة على صحة ما قال ثلاثة أحكام: أحدها أن يجلد ثمانين جلدة والثاني: أن ترد شهادته أبداً الثالث: أن يكون فاسقاً ليس بعدل لا عند الله ولا عند الناس.

{إِلا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ} أي إلا الذين تابوا وأنابوا وندموا على ما فعلوا من بعد ما اقترفوا ذلك الذنب العظيم {وَأَصْلَحُوا} أي أصلحوا أعمالهم فلم يعودوا إلى قذف المحصنات قال ابن عباس: أي أظهروا التوبة { فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} أي فاعفوا عنهم واصفحوا وردُّوا إِليهم اعتبارهم بقبول شهادتهم، فإن الله غفور رحيم يقبل توبة عبده إذا تاب وأناب واصلح سيرته وحاله.

حد اللعان



{وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلا أَنفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنْ الصَّادِقِينَ(6)وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ(7)وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنْ الْكَاذِبِينَ(8)وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ(9)وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ(10)}.



ثم ذكر تعالى حكم من قذف زوجته وهو المعروف باللعان فقال {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} أي يقذفون زوجاتهم بالزنى {وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلا أَنفُسُهُمْ } أي وليس لهم شهود يشهدون بما رموهنَّ به من الزنى سوى شهادة أنفسهم {فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ} أي فشهادة أحدهم التي تزيل عنه حدَّ القذف أربع شهادات بالله تقوم مقام الشهداء الأربعة {إِنَّهُ لَمِنْ الصَّادِقِينَ} أي إنه صادقٌ فيما رمى به زوجته من الزنى {وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ} أي وعليه أيضاً أن يحلف في المرة الخامسة بأن لعنة الله عليه {إِنْ كَانَ مِنْ الْكَاذِبِينَ} أي إن كان كاذباً في قذفه لها بالزنى {وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ} أي ويدفع عن الزوجة المقذوفة حدَّ الزنى الذي ثبت بشهادة الزوج {أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنْ الْكَاذِبِينَ} أي أن تحلف أربع مرات إنه لمن الكاذبين فيما رماها به من الزنى {وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنْ الصَّادِقِينَ} أي وتحلف في المرة الخامسة بأنَّ غضب الله وسخطه عليها إن كان زوجها صادقاً في اتهامه بالزنى {وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ} أي ولولا فضل الله عليكم ورحمته بكم بالستر في ذلك، وجوابُ {وَلَوْلا} محذوف لتهويل الأمر تقديره: لهلكتم أو لفضحكم أو عاجلكم بالعقوبة، ورب مسكوتٍ عنه أبلغ من المنطوق {وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ} أي وأنه تعالى مبالغ في قبول التوبة، حكيم في ما شرع من الأحكام ومن جملتها حكم اللعان قال أبو السعود: وجواب لولا محذوف لتهويله كأنه قيل: ولولا تفضله تعالى عليكم ورحمته بكم لكان ما كان ممّا لا يحيط به نطاق البيان، ومن جملته أنه تعالى لو لم يشرع لهم ذلك لوجب على الزوج حدُّ القذف مع أن الظاهر صدقه لاشتراكه في الفضيحة، ولو جعل شهاداته موجبةً لحد الزنى عليها لفات النظر لها، ولو جعل شهاداتها موجبة لحد القذف عليه لفات النظر له، فسبحان ما أعظم شأنه، وأوسع رحمته، وأدقَّ حكمته.



قصة الإفك



{إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ(11)لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ(12)لَوْلا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُوْلَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمْ الْكَاذِبُونَ(13) وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ(14)إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ(15)وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ(16)يَعِظُكُمْ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ(17)وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ(18) إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ(19)وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ(20)يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ(21) وَلا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُوْلِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ(22)}.



ثم بيَّن تعالى "قصة الإِفك" التي اتهمت فيها العفيفة البريئة الطاهرة أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها بالكذب والبهتان فقال {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإِفْكِ} أي جاءوا بأسوء الكذب وأشنع صور البهتان وهو قذف عائشة بالفاحشة قال الإِمام الفخر الرازي: الإِفك أبلغ ما يكون من الكذب والافتراء، وقد أجمع المسلمون على أن المراد ما أُفك به على عائشة وهي زوجة الرسول المعصوم {عُصْبَةٌ مِنْكُمْ} أي جماعة منكم أيها المؤمنون وعلى رأسهم "ابن سلول" رأس النفاق {لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ} أي لا تظنوا هذا القذف والاتهام شراً لكم يا آل أبي بكر {بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} لما فيه من الشرف العظيم بنزول الوحي ببراءة أم المؤمنين، وهذا غاية الشرف والفضل قال المفسرون: والخير في ذلك من خمسة أوجه: تبرئة أم المؤمنين، وكرامة الله لها بإنزال الوحي في شأنها، والأجر الجزيل لها في الفِرية عليها، وموعظة المؤمنين، والانتقام من المفترين {لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنْ الإِثْمِ} أي لكل فردٍ من العُصبة الكاذبة جزاء ما اجترح من الذنب على قدر خوضه فيه {وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ} أي والذي تولى معظمه وأشاع هذا البهتان وهو "ابن سلول" رأس النفاق {لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ} أي له في الآخرة عذاب شديد في نار جهنم {لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ} أي هلاً حين سمعتم يا معشر المؤمنين هذا الافتراء وقذف الصديقة عائشة {ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْرًا} أي هلاّ ظنوا الخير ولم يسرعوا إلى التهمة فيمن عرفوا فيها النزاهة والطهارة؟ فإن مقتضى الإِيمان ألاّ يصدق مؤمنٌ على أخيه قولة عائب ولا طاعن قال ابن كثير: هذا تأديبٌ من الله تعالى للمؤمنين في قصة عائشة حين أفاض بعضهم في ذلك الكلام السُّوء، وهلا قاسوا ذلك الكلام على أنفسهم فإن كان لا يليق بهم فأمُ المؤمنين أولى بالبراءة منه بطريق الأولى والأحرى، روي أن امرأة "أبي أيوب" قالت له: أما تسمع ما يقول الناسُ في عائشة! قال: نعم وذلك الكذب، أكنت فاعلةً ذلك يا أم أيوب؟ قالت: لا والله قال فعائشة والله خير منك. {وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ} أي قالوا في ذلك الحين هذا كذبٌ ظاهر مبين {لَوْلا جَاءوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} أي هلاّ جاء أولئك المفترون بأربعة شهود يشهدون على ما قالوا {فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ} أي فإن عجزوا ولم يأتوا على دعواهم بالشهود {فَأُوْلَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ} أي فأولئك هم المفسدون الكاذبون في حكم الله وشرعه، وفيه توبيحٌ وتعنيف للذين سمعوا الإِفك ولم ينكروه أول وهلة {وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ} أي لولا فضله تعالى عليكم - أيها الخائضون في شأن عائشة - ورحمته بكم في الدنيا والآخرة حيث أمهلكم ولم يعاجلكم بالعقوبة {لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ} أي لأصابكم ونالكم بسبب ما خضتم فيه من حديث الإِفك {عَذَابٌ عَظِيمٌ} أي عذاب شديد هائل يُستحقر دونه الجلد والتعنيف قال القرطبي: هذا عتابٌ من الله بليغٌ لمن خاضوا في الإِفك، ولكنه برحمته ستر عليكم في الدنيا، ويرحم في الآخرة من أتاه تائباً {إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ } أي وذلك حين تتلقونه ويأخذه بعضكم من بعض بالسؤال عنه قال مجاهد: أي يرويه بعضُكم عن بعض، يقول هذا سمعته من فلان، وقال فلانٌ كذا {وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْم} أي تقولون ما ليس له حقيقة في الواقع، وإنما هو محض كذبٍ وبهتان {وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا} أي وتظنونه ذنباً صغيراً لا يلحقكم فيه إثم {وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ} أي والحال أنه عند الله من أعظم الموبقات والجرائم لأنه وقوع في أعراض المسلمين قال في التسهيل: عاتبهم تعالى على ثلاثة أشياء: الأول: تلقيه بالألسنة أي السؤال عنه والثاني: التكلم به والثالث: استصغاره حيث حسبوه هيناً وهو عند الله عظيم، وفائدة قوله بألسنتكم وبأفواهكم الإِشارة إلى أنَّ ذلك الحديث كان باللسان دون القلب لأنهم لم يعلموا حقيقته بقلوبهم {وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا} عتابٌ لجميع المؤمنين أي كان ينبغي عليكم أن تنكروه أول سماعكم له وتقولوا لا ينبغي لنا أن نتفوه بهذا الكلام ولا نذكره لأحد {سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ} أي سبحان الله أن يقال هذا الكلام على زوجة رسول الله الطاهرة البريئة فإن هذا الافتراء كذبٌ واضح، عظيم الجرم قال الزمخشري: هو بمعنى التعجب من عظيم الأمر والاستبعاد له، والأصل في ذلك أن يُسبَّح الله عند رؤية العجائب {يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا} أي يذكركم الله ويعظكم بالمواعظ الشافية لكي لا تعودوا إلى مثل هذا العمل أبداً {إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ} أي إن كنتم حقاً مؤمنين فإن الإِيمان وازع عن مثل هذا البهتان، وفيه حثٌ لهم على الاتعاظ وتهييج {وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ} أي ويوضح لكم الآيات الدالة على الشرائع ومحاسن الآداب، لتتعظوا وتتأدبوا بها {وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} أي عالم بما يصلح العباد، حكيم في تدبيره وتشريعه { إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الفَاحِشَةُ} أي يريدون أن ينتشر الفعل القبيح المفرط في القبح كإشاعة الرذيلة والزنى وغير ذلك من المنكرات {فِي الَّذِينَ آمَنُوا} أي في المؤمنين الأطهار {لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ} أي لهم عذاب موجع مؤلم في الدنيا بإقامة الحدِّ، وفي الآخرة بعذاب جهنم قال الحسن: عنى بهذا الوعيد واللعن المنافقين فإنهم أحبوا وقصدوا إذاية الرسول صلى الله عليه وسلم وذلك كفرٌ وملعون صاحبه {وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} أي هو تعالى عالمٌ بالخفايا والنوايا وأنتم لا تعلمون ذلك قال الإمام الفخر الرازي: وهذه الجملة فيها حسنُ الموقع بهذا الموضع، لأن محبة القلب كامنةٌ ونحن لا نعلمها إلاّ بالأمارات أما الله سبحانه فهولا يخفى عليه شيء، فصار هذا الذكر نهايةً في الزجر لأن من أحبَّ إشاعة الفاحشة وإن بالغَ في إخفاء تلك المحبة فهو يعلم أن الله تعالى يعلمذلك منه ويعلم قدر الجزاء عليه {وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} جواب {وَلَوْلا} محذوف لتهويل الأمر أي لولا فضله تعالى على عباده ورحمته بهم لأهلكهم وعذَّبهم، وكان ما كان مما لا يكاد يتصوره الإِنسان لأنه فوق الوصف والبيان.



المنَاسَبَة:

لما ذكر تعالى حادثة الإِفك، أتبعها بالتحذير من سلوك طريق الشيطان المتربص بالإِنسان الذي يدعو إلى السوء والشر والفساد، ثم ذكر تعالى آداب الاستئذان والزيارة لأن أهل الإِفك إنما وجدوا السبيل إلى بهتانهم من حيث اتفقت الخلوة فصارت طريقاً للتهمة، فأوجب تعالى ألا يدخل إنسان بيت غيره إلا بعد الاستئذان والسلام، ثم أتبعها بآيات غضِّ البصر.



سَبَبُ النّزول:

أ- كان أبو بكر الصدّيق ينفق على "مسطح بن أُثاثة" لمسكنته وقرابته، فلما وقع أمر الإِفك وقال فيه مسطحٌ ما قال، حلف أبو بكر ألا ينفق عليه ولا ينفعه بنافعةٍ أبداً فأنزل الله {وَلا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ..} الآية فقال أبو بكر: واللهِ إني لأحبُ أن يغفر الله لي، فرجع إلى مسطح النفقة التي كان ينفق عليه وقال: والله لا أنزعها منه أبداً.

ب- عن علي كرم الله وجهه قال: مرَّ رجل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في طريقٍ من طرقات المدينة، فنظر إلى امرأةٍ ونظرت إِليه، فوسوس لهما الشيطان أنه لم ينظر أحدهما إلى الآخر إلا إعجاباً به، فبينما الرجل يمشي إلى جانب حائط ينظر إليها إذ استقبله الحائط "أي صدمه الحائط" فشقَّ أنفه فقال: والله لا أغسل الدم حتى آتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فأُعلمه أمري، فأتاه فقصَّ عليه قصته فقال النبي صلى الله عليه وسلم: هذا عقوبة ذنبك فأنزل الله {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ..} الآيات.



{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ} أي يا من صدَّقتم بالله ورسوله لا تتبعوا آثار الشيطان ولا تسلكوا مسالكه بإِشاعة الفاحشة، والإصغاء إِلى الإِفك والقول به {وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ} أي ومن يتبع سيرة الشيطان وطريقته {فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} أي فإِن الشيطان يضل الإِنسان ويغويه لأنه يأمر بالفحشاء وهي ما أفرط قبحه، والمنكر وهو ما ينكره الشرع وتنفر منه العقول السليمة {وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ} أي لولا فضل الله عليكم أيها المؤمنون بالتوفيق للتوبة الماحية للذنوب، وبشرع الحدود المكفرة للخطايا {مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا} أي ما تطهر أحدٌ منكم من الأوزار أبد الدهر { وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ} أي ولكن الله بفضله ورحمته يطهر من يشاء بتوفيقه للتوبة النصوح وقبولها منه قال القرطبي: والغرض أن تزكيته لكم، وتطهيره وهدايته إنما هي بفضله لا بأعمالكم {وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} أي سميع لأقوالكم عليم بنياتكم وضمائركم {وَلا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ} أي لا يحلف أهل الفضل في الدين وأصحاب الغنى واليسار {أَنْ يُؤْتُوا أُوْلِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} أي أن لا يؤتوا أقاربهم من الفقراء والمهاجرين ما كانوا يعطونهم إيَّاه من الإِحسان لذنب فعلوه {وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا} أي وليعفوا عمّا كان منهم من جرم، وليصفحوا عما بدر منهم من إساءة، وليعودوا إلى ما كانوا عليه من الإِنعام والإِحسان {أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ} أي ألا تحبون أيها المؤمنون أن يغفر الله لكم على عفوكم وصفحكم وإحسانكم إلى من أساء إليكم؟ روي أن أبا بكر لما سمع الآية قال: بل أحب أن يغفر الله لي وأعاد النفقة إلى مسطح وكفَّر عن يمينه وقال: والله لا أنزعها منه أبداً!! قال المفسرون: والآية دالة على فضل أبي بكر فإن الله تعالى امتدحه بقوله {وَلا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ} وكفى به دليلاً على فضل الصدّيق رضي الله عنه وأرضاه {وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} أي مبالغ في المغفرة والرحمة مع كمال قدرته على العقاب.





الجزاء الأخروي للقاذف



{إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ(23)يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ(24)يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمْ اللَّهُ دِينَهُمْ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ(25) الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُوْلَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ(26)}.



سبب النزول:

أخرج الطبراني عن الضحَّاك بن مزاحم قال: نزلت هذه الآية في نساء النبي صلى الله عليه وسلم خاصة: {إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ} الآية.

وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: نزلت هذه الآية في عائشة خاصة.

وأخرج ابن جرير عن عائشة قالت: رُميتُ بما رُميتُ به، وأنا غافلة، فبلغني بعد ذلك، فبينا رسول الله صلى الله عليه وسلم عندي إذ أُوحي إليه، ثم استوى جالساً، فمسح وجهه وقال: يا عائشة، أبشري، فقلت: بحمد الله، لا بحمدك، فقرأ: {إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ الْمُؤْمِنَاتِ} حتى بَلَغ {أُوْلَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ}.

وأخرج الطبراني عن الحكم بن عتيبة قال: لما خاض الناس في أمر عائشة أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عائشة، فقال: يا عائشة، ما يقول الناس، فقالت: لا أعتذر بشيء حتى ينزل عذري من السماء، فأنزل الله فيها خمس عشرة آية من سورة النور، ثم قرأ حتى بلغ {الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ} الآية، وهو مرسل صحيح الإِسناد.



ثم توعَّد تعالى الذين يرمون العفائف الطاهرات فقال: {إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ} أي يقذفون بالزنى العفيفات، السليمات الصدور، النقيات القلوب عن كل سوء وفاحشة {الْمُؤْمِنَاتِ} أي المتصفات بالإِيمان مع طهارة القلب {لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ} أي طردوا وابعدوا من رحمة الله في الدنيا والآخرة قال ابن عباس: هذا اللعن فيمن قذف زوجات النبي صلى الله عليه وسلم إذْ ليس له توبة، ومن قذف مؤمنة جعل الله له توبة وقال أبو حمزة: نزلت في مشركي مكة، كانت المرأة إذا خرجت إلى المدينة مهاجرة قذفوها وقالوا خرجت لتفجر {وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} أي ولهم مع اللعنة عذاب هائل لا يكاد يوصف بسبب ما ارتكبوا من إثم وجريمة {يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} أي وذلك العذاب الشديد في ذلك اليوم الرهيب - يوم القيامة - حين تشهد على الإِنسان جوارحه فتنطق الألسنة والأيدي والأرجل بما اقترف من سيء الأعمال {يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمْ اللَّهُ دِينَهُمْ الْحَقَّ} أي يوم القيامة ينالهم حسابهم وجزاؤهم العادل من أحكم الحاكمين {وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ} أي ويعلمون حينئذٍ أن الله هو العادل الذي لا يظلم أحداً، الظاهر عدله في تشريعه وحكمه ... ثم ذكر تعالى بالدليل القاطع، والبرهان الساطع براءة عائشة ونزاهتها، فهي زوجة رسول الله الطيب الطاهر وقد جرت سنة الله أن يسوق الجنس إلى جنسه، فلو لم تكن عائشة طيبة لما كانت زوجة لأفضل الخلق صلى الله عليه وسلم ولهذا قال {الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ} أي الخبيثات من النساء للخبيثين من الرجال، والخبيثون من الرجال للخبيثات من النساء، وكذلك الطيبات من النساء للطيبين من الرجال والطيبون من الرجال للطيبات من النساء، وهذا كالدليل على براءة عائشة لأنها زوجة أشرف رسول وأكرم مخلوق على الله، وما كان الله ليجعلها زوجة لأحبِّ عباده لو لم تكن عفيفة طاهرة شريفة { أُوْلَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ} أي أولئك الفضلاء منزهون ممَّا تقوَّله أهل الإِفك في حقهم من الكذب والبهتان {لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} أي لهم على ما نالهم من الأذى مغفرة لذنوبهم، ورزقٌ كريم في جنات النعيم قال ابن كثير: وفيه وعدٌ بأن تكون زوجة رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجنة.





الاستئذان لدخول البيوت



{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ(27)فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا فَلا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمْ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ(28)لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ(29)}.



سبب النزول:

نزول الآية (27):

أخرج الفريابي وابن جرير عن عدي بن ثابت قال: جاءت امرأة من الأنصار، فقالت: يا رسول الله، إني أكون في بيتي على حال لا أحب أن يراني عليها أحد، وإنه لا يزال يدخل عليّ رجل من أهلي، وأنا على تلك الحال، فكيف أصنع؟ فنزلت: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا } الآية.



نزول الآية (29):

أخْرج ابن أبي حاتم عن مقاتل بن حيان قال: لما نزلت آية الاستئذان في البيوت، قال أبو بكر: يا رسول الله، فكيف بتجار قريش الذين يختلفون بين مكة والمدينة والشام، ولهم بيوت معلومة على الطريق، فكيف يستأذنون ويسلمون، وليس فيها سكان؟ فنزل: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ }الآية.



{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ} لما حذَّر تعالى من قذف المحصنات وشدد العقاب فيه، وكان طريق هذا الاتهام مخالطة الرجال للنساء، ودخولهم عليهن في أوقات الخلوات أرشد تعالى إلى الآداب الشرعية في دخول البيوت فأمر بالاستئذان قبل الدخول وبالتسليم بعده {حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا} أي لا تدخلوا بيوت الغير حتى تستأذنوا وتسلموا على أهل المنزل {ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ} أي ذلك الإستئذان والتسليم خير لكم من الدخول بغتة {لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} أي لتتعظوا وتعملوا بموجب هذه الآداب الرشيدة قال القرطبي: المعنى إن الاستئذان والتسليم خير لكم من الهجوم بغير إذن ومن الدخول على الناس بغتة أو من تحية الجاهلية فقد كان الرجل منهم إذا دخل بيتاً غير بيته قال: حُيّيتم صباحاً، وحُييتم مساءً ودخل فربما أصاب الرجل مع امرأته في لحافٍ، وروي أن رجلاً قال للنبي صلى الله عليه وسلم أأستأذن على أمي؟ قال نعم، قال ليس لها خادمٌ غيري، أأستأذن عليها كلما دخلتُ؟ قال: أتحب أن تراها عريانة؟ قال: لا، قال: فاستأذن عليها {فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا} أي فإن لم تجدوا في البيوت أحداً يأذن لكم بالدخول إليها { فَلا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ } أي فاصبروا ولا تدخلوها حتى يسمح لكم بالدخول، لأن للبيوت حرمة ولا يحل دخولها إلا بإذن أصحابها {وَإِنْ قِيلَ لَكُمْ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا} أي وإن لم يؤذن لكم وطلب منكم الرجوع فارجعوا ولا تلحُّوا {هُوَ أَزْكَى لَكُمْ} أي الرجوع أطهر وأكرم لنفوسكم وهو خير لكم من اللجاج والانتظار على الأبواب {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} أي هو تعالى عالم بالخفايا والنوايا وبجميع أعمالكم فيجازيكم عليها قال القرطبي: وفيه توعدٌ لأهل التجسس على البيوت، ثم إنه تعالى لما ذكر حكم الدور المسكونة ذكر بعده حكم الدور غير المسكونة فقال {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ} أي ليس عليكم إثمٌ وحرج { أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ } أي أن تدخلوا بغير استئذان بيوتاً لا تختص بسكنى أحد كالرباطات والفنادق والخانات قال مجاهد: هي الفنادق التي في طرق السابلة لا يسكنها أحد بل هي موقوفة ليأوي إليها كل ابن سبيل {فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ} أي فيها منفعة لكم أو حاجة من الحاجات كالاستظلال من الحر، وإيواء الأمتعة والرحال {وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ} أي يعلم ما تظهرون وما تُسرون في نفوسكم فيجازيكم عليه قال أبو السعود: وهذا وعيدٌ لمن يدخل مدخلاً لفسادٍ أو اطلاع على عورات.





آية غض البصر والحجاب

{قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (30)وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوْ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُوْلِي الإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوْ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ(31)}



سبب النزول:

أخرج ابن أبي حاتم عن مقاتل قال: بلغنا عن جابر بن عبد الله، حدّث أن أسماء بنت مرثد كانت في نخل لها، فجعل النساء يدخلن عليها غير متأزرات، فيبدو ما في أرجلهن، تعني الخلاخل، وتبدو صدورهن وذوائبهن، فقالت أسماء: ما أقبح هذا! فأنزل الله في ذلك: {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ}. وأخرج ابن مردويه عن علي كرم الله وجهه أن رجلاً مرَّ على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في طريق من طرقات المدينة، فنظر إلى امرأة ونظرت إليه، فوسوس لهما الشيطان أنه لم ينظر أحدهما إلى الآخر إلا إعجاباً به، فبينما الرجل يمشي إلى جنب حائط وهو ينظر إليها إذا استقبله الحائط فشق أنفه، فقال: والله لا أغسل الدم حتى آتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره أمري، فأتاه فقص عليه قصته، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "هذا عقوبة ذنبك" وأنزل الله تعالى: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} الآية.

وأخرج ابن جرير عن حضرمي أن امرأة اتخذت بُرَتَين من فضة، واتخذت جَزْعاً (سلسلة خرز) فمرت على قوم، فضربت برجلها، فوقع الخلخال على الْجَزْع، فصوَّت، فأنزل الله {وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ} الآية.



ثم أرشد تعالى إلى الآداب الرفيعة من غض البصر، وحفظ الفروج فقال {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} أي قل يا محمد لأتباعك المؤمنين يكفوا أبصارهم عن النظر إلى الأجنبيات من غير المحارم، فإن النظرة تزرع في القلب الشهوة، ورُبَّ شهوة أورثت حزناً طويلاً

كم نظرةٍ فتكت في قلب صاحبها فتك السهام بلا قوس ولا وتر

{وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ} أي يصونوا فروجهم عن الزنى وعن الإِبداء والكشف {ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ} أي ذلك الغضُّ والحفظ أطهرُ للقلوب، وأتقى للدين، وأحفظ من الوقوع في الفجور {إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} أي هو تعالى رقيبٌ عليهم، مطلعٌ على أعمالهم، لا تخفى عليه خافية من أحوالهم، فعليهم أن يتقوا الله في السر والعلن قال الإمام الفخر الرازي: فإن قيل فلم قدم غضَّ الأبصار على حفظ الفروج؟ قلنا: لأن النظر بريد الزنى، ورائد الفجور، والبلوى فيه أشدُّ وأكثر، ولا يكاد يُحترس منه {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ} أي وقل أيضاً للمؤمنات يكففن أبصارهن عن النظر إلى ما لا يحل لهن النظر إليه، ويحفظن فروجهن عن الزنى وعن كشف العورات، قال المفسرون: أكد تعالى الأمر للمؤمنات بغض البصر وحفظ الفروج، وزادهن في التكليف على الرجل بالنهي عن إبداء الزينة إلا للمحارم والأقرباء فقال {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} أي ولا يكشفن زينتهن للأجانب إلا ما ظهر منها بدون قصدٍ ولا نية سيئة قال ابن كثير: أي لا يظهرن شيئاً من الزينة للأجانب إلا ما لا يمكن إخفاؤه، كما قال ابن مسعود: الزينة زينتان: فزينةٌ لا يراها إلا الزوج: الخاتم والسوار، وزينةٌ يراها الأجانب وهي الظاهر من الثياب، وقيل: المراد به الوجه والكفان فإنهما ليسا بعورة قال البيضاوي: والأظهر أن هذا في الصلاة لا في النظر، فإن كل بدن الحرة عورة لا يحل لغير الزوج والمحرم النظر إلى شيء منها إلا لضرورة كالمعالجة وتحمل الشهادة {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ} أي وليلقين الخمار وهو غطاء الرأس على صدورهن لئلا يبدو شيء من النحر والصدر، وفي لفظ الضرب مبالغة في الصيانة والتستر، عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: يرحم الله النساء المهاجرات الأُول لما أنزل الله {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ} شققن مروطهن فاختمرن لها قال المفسرون: كانت المرأة في الجاهلية - كما هي اليوم في الجاهلية الحديثة - تمر بين الرجال مكشوفة الصدر، بادية النحر، حاسرة الذراعين، وربما أظهرت مفاتن جسمها وذوائب شعرها لتغري الرجال، وكنَّ يسدلن الخُمُر من ورائهن فتبقى صدروهن مكشوفة عارية، فأمرت المؤمنات بأن يلقينها من قدامهن حتى يغطينها ويدفعن عنهن شر الأشرار {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ} أي ولا يظهرن زينتهن الخفية التي حرم الله كشفها إلا لأزواجهن أو آبائهن أو آباء أزواجهن وهو أبو الزوج فإنهما من المحارم، فإن الأب يصون عرض ابنته، ووالد الزوج يحفظ على ابنه ما يسوءه، ثم عدد بقية المحارم فقال {أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ} فذكر تعالى الأبناء، وأبناء الأزواج، والإِخوة، وأبناء الأخوات وكلهم من المحارم الذين يحرم الزواج بهم لما جبل الله في الطباع من النفرة من مماسة القريبات ونكاحهن {أَوْ نِسَائِهِنَّ} أي المسلمات وخرج بذلك النساء الكافرات قال مجاهد: المراد نساؤهن المسلمات، ليس المشركات من نسائهن، وليس يحل للمرأة المسلمة أن تنكشف بين يدي مشركة وقال ابن عباس: هن المسلمات ولا تبدي زينتها أمام يهودية أو نصرانية {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ } أي من الإِماء المشركات قال ابن جرير: يعني من نساء المشركين فيجوز لها أن تظهر زينتها لها وإن كانت مشركة لأنها أمتها {أَوْ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُوْلِي الإِرْبَةِ مِنْ الرِّجَالِ} أي الخدام غير أولي الميل والشهوة والحاجة إلى النساء كالبُلْهِ والحمقى والمغفلين الذين لا يدركون من أمور الجنس شيئاً قال مجاهد: هو الأبله الذي يريد الطعام ولا يريد النساء ولا يهمه إلا بطنه {أَوْ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ} أي الأطفال الصغار الذين لم يبلغوا حدَّ الشهوة، ولا يعرفون أمور الجماع لصغرهم فلا حرج أن تظهر المرأة زينتها أمامهم {وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ} أي ولا يضربن بأرجلهن الأرض لئلا يسمع الرجال صوت الخلخال فيطمع الذي في قلبه مرض قال ابن عباس: كانت المرأة تمر بالناس وتضرب برجلها ليسمع صوت خلخالها، فنهى الله تعالى عن ذلك لأنه من عمل الشيطان {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}أي ارجعوا أيها المؤمنون إلى ربكم بامتثال الطاعات، والكفّ عن الشهوات، لتنالوا رضاه وتفوزوا بسعادة الدارين.

yacine414
2011-03-26, 17:57
التزوج بالأحرار، مكاتبة الأرقاء، والإكراه على الزنى



{وَأَنكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ(32)وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَنْ يُكْرِهُّنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ(33)وَلَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ ءاياتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَمَثَلا مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ(34)}.



سبب النزول:

نزول الآية (33):

{وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ}: أخرج ابن السكن أنها نزلت في غلام لحُوَيْطب بن عبد العُزّى يقال له: صبيح، سأله مولاه (عبده) أن يكاتبه، فأبى عليه، فأنزل الله تعالى هذه الآية، وكاتبه حويطب على مائة دينار، ووهب له منها عشرين ديناراً فأداها، وقتل يوم حُنَيْن في الحرب.



نزول آية: {وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ }:

أخرج مسلم وأبو داود عن جابر رضي الله عنه أنه كان لعبد الله بن أبي جاريتان: مُسَيْكة وأُميمة، فكان يكرههما على الزنى، فشكتا ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله: {وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ } الآية.

وقال مقاتل: كانت إماء أهل الجاهلية يساعين على مواليهن، وكان لعبد الله بن أبي رأس النفاق ست جوار: معاذة، ومُسَيْكة، وأميمة، وعمرة، وأروى، وقُتَيْلة، يكرههن على البغاء، وضرب عليهن ضرائب، فجاءت إحداهن ذات يوم بدينار، وجاءت أخرى بدونه، فقال لهما: ارجعا فازنيا، فقالتا: والله لا نفعل، قد جاءنا الله بالإسلام وحرَّم الزنى، فأتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم وشكيتا إليه، فأنزل الله تعالى هذه الآية.



{وَأَنكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ} أي زوجوا أيها المؤمنون من لا زوج له من الرجال والنساء من أحرار رجالكم ونسائكم قال الطبري: الأيامي جمع أَيِّم، يوصف به الذكر والأنثى يقال: رجل أَيِّم وامرأة أَيمِّة إذا لم يكن لها زوج {وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ } أي وأنكحوا كذلك أهل التقوى والصلاح من عبيدكم وجواريكم قال البيضاوي: وتخصيص الصالحين لأن إحصان دينهم والاهتمام بشأنهم أهمُّ، وفيه إشارة إلى مكانة التقى والصلاح في الإِنسان {إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} أي إن يكن هؤلاء الذين تزوجونهم أهل فاقةٍ وفقر فلا يمنعكم فقرهم من إنكاحهم، ففي فضل الله ما يغنيهم {وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} أي واسع الفضل، جواد كريم، يعطي الرزق من يشاء وهو عليم بمصالح العباد قال القرطبي: وهذا وعدٌ بالغنى للمتزوجين طلباً لرضى الله، واعتصاماً من معاصيه وقال ابن مسعود: التمسوا الغنى في النكاح وتلا هذه الآية وفي الحديث (ثلاثة حقٌّ على الله عونهم: الناكح يريد العفاف، والمكاتب يريد الأداء، والغازي في سبيل الله) {وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكَاحًا} أي وليجتهد في العفة وقمع الشهوة الذين لا تتيسر لهم سبل الزواج لأسباب مادية {حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} أي حتى يوسع الله عليهم ويسهل لهم أمر الزواج، فإن العبد إذا اتقى الله جعل له من أمره فرجاً ومخرجاً {وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم} أي والذين يريدون أن يتحرروا من رقِّ العبودية بمكاتبة أسيادهم من العبيد والأرقاء {فَكَاتِبُوهمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا} أي فكاتبوهم على قدر من المال إن عرفتم منهم الأمانة والرشد ليصيروا أحراراً {وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ }أي أعطوهم مما أعطاكم الله من الرزق ليكون لهم عوناً على فكاك أنفسهم {وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ} ولا تكرهوا أي لا تجبروا إماءكم على الزنى {إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا} أي إن أردن التعفف عن مقارفة الفاحشة، وليس هذا للقيد أو الشرط وإنما هو لبيان فظاعة الأمر وشناعته، فالأصل في المملوكة أن يُحصنها سيدها أمّا أن يأمرها بالزنى وتمتنع وتريد العفة فذلك منتهى الخسة والدناءة منه قال المفسرون: نزلت في "عبد الله بن سلول" المنافق كان له جاريتان إحداهما تسمى "مُسَيْكة" والثانية تسمى "أميمة" فكان يأمرهما بالزنى للكسب ويضربهما على ذلك فشكتا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت الآية {لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} أي لأجل أن تنالوا حطام هذه الحياة الزائل، وتحصلوا على المال بطريق الفاحشة والرذيلة {وَمَنْ يُكْرِهُّنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ} أي ومن يجبرهن على الزنى فإن الله غفور لهن رحيم بهن لا يؤاخذهن بالزنى لأنهن أُكرهن عليه وسينتقم ممن أكرههن شر انتقام {وَلَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ} أي والله لقد أنزلنا إليكم أيها المؤمنون آيات واضحات وأحكاماً مفصلات {وَمَثَلا مِنْ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ} وضربنا لكم الأمثال بمن سبقكم من الأمم لتتعظوا وتعتبروا {وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ} أي وعظة وذكرى للمتقين.



المنَاسَبَة:

لما وصف تعالى نفسه بأنه أنزل آياتٍ مبينات، وأقام دلائل واضحات على وحدانيته، واختصاصه بتشريع الأحكام التي بها سعادة المجتمع، عقَّبه بذكر مثلين: أحدهما في بيان أنَّ دلائل الوحدانية والإِيمان في غاية الظهور والثاني: في بيان أن أديان الكفرة في نهاية الظلمة والخفاء، وبالمقارنة بين المثلين يتضح الصبح لذي عينين.



نور الله تعالى يملأ السماوات والأرض



{اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونِةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ(35)}



{اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} أي الله جلَّ وعلا منور السماوات والأرض، أنار السماواتِ بالكواكب المضيئة، والأرض بالشرائع والأحكام وبعثة الرسل الكرام قال الطبري: أي هادي أهل السماوات والأرض فهم بنوره إلى الحق يهتدون، وبهداه من حيرة الضلالة يعتصمون وقال القرطبي: النور عند العرب: الضوء المدرك بالبصر واستعمل مجازاً في المعاني فيقال كلامٌ له نور قال الشاعر:

نسبٌ كأن عليه من شمس الضحى نوراً ومن فلق الصباح عمودا

وقال جرير "وأنتَ لنا نورٌ وغيثٌ وعصمة" يقولون: فلانٌ نور البلد، وشمسُ العصر وقمره، فيجوز أن يقال: نور على جهة المدح لأن جميع الأشياء منه ابتداؤها، وعنه صدورها، وبقدرته استقامت أمورها، وقال ابن عطاء الله: "الكون كله ظلمة أناره ظهور الحق فيه، إذ لولا وجود الله ما وجد شيء من العالم" وفي الحديث (اللهم لك الحمد أنت نور السماوات والأرض ومن فيهن" وقال ابن مسعود: "ليس عند ربكم ليلٌ أو نهار، نور السماوات والأرض نور وجهه" وقال ابن القيم: سمَّى الله سبحانه نفسه نوراً، وجعل كتابه نوراً، ورسوله نوراً، واحتجب عن خلقه بالنور، وقد فسرت الآية بأنه منور السماوات والأرض، وهادي أهل السماوات والأرض، وأما من فسرها بأنه منور السماوات والأرض فلا تنافي بينه وبين قول ابن مسعود {مَثَلُ نُورِهِ} أي مثل نور الله سبحانه في قلب عبده المؤمن {كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ } أي ككوة في الحائط لا منفذ لها ليكون أجمع للضوء وضع فيها سراج ثاقب ساطع قال ابن جزي: المعنى صفةُ نور الله في وضوحه كصفة مشكاةٍ فيها مصباح على أعظم ما يتصوره البشر من الإِضاءة والإِنارة، وإنما شبه بالمشكاة - وإن كان نورُ الله أعظم - لأن ذلك هو ما يدركه الناس من الأنوار ضرب لهم به المثل{الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ} أي في قنديل من الزجاج الصافي {الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ} أي تشبه الكواكب الدري في صفائها وحسنها {يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ} أي يشعل ذلك المصباح من زيت شجرة مباركة {زَيْتُونِةٍ} أي هي من شجرة الزيتون الذي خصه الله بمنافع عديدة {لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ} أي ليس في جهة الشرق ولا في جهة الغرب، وإنما هي في صحراء منكشفة تصيبها الشمس طول النهار لتكون ثمرتها أنضج، وزيتُها أصفى قال ابن عباس: هي شجرة بالصحراء لا يظلها شجر، ولا جبلٌ، ولا كهف، ولا يواريها شيء وهو أجود لزيتها {يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ} مبالغة في وصف صفاء الزيت وحسنه وجودته أي يكاد زيتُ هذه الزيتونة يضيء من صفاته وحسن ضيائه ولو لم تمسَّه نار، فكيف إذا مسته النار؟ {نُورٌ عَلَى نُورٍ} أي نور فوق نور فقد اجتمع نور السراج، وحسن الزجاجة، وصفاء الزيت، فاكتمل النور الممثل به {يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ} أي يوفق الله لاتباع نوره - وهو القرآن - من يشاء من عباده {وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ} أيّ يبين لهم الأمثال لأفهامهم ليعتبروا ويتعظوا بما فيها من الأسرار والحكم {وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} أي هو سبحانه واسع العلم لا يخفى عليه شيء من أمر الخلق، وفيه وعدٌ ووعيد قال الطبري: ذلك مثلٌ ضربه الله للقرآن في قلب أهل الإِيمان به فقال: مثل نور الله الذي أنار به لعباده سبيل الرشاد مثل كوة في الحائط لا منفذ لها فيها مصباح أي سراج، وجعل السراج مثلاً لما في قلب المؤمن من القرآن والآيات البينات ثم قال {الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ} وذلك مثلٌ للقرآن في قلب المؤمن الذي أنار الله صدره فخلص من الكفر والشك، ثم قال {الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ} أي كأن الزجاجة في صفائها وضيائها كوكب يشبه الدر في الصفاء والضياء والحسن {يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونِةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ} أي تَوقَدَّ هذا المصباح من دهن شجرة مباركة هي شجرة الزيتون، ليست شرقية تطلع عليها الشمس بالعشي دون الغداة، ولكن الشمس تشرق عليها وتغرب فيكون زيتها أجود وأصفى وأضوأ {يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ} أي يكاد زيت هذه الزيتونة يضيء من صفائه وحسن ضيائه وعنى بها أن حجج الله على خلقه تكاد من بيانها ووضوحها تضيء لمن فكر فيها ونظر لو لم يزدها الله بياناً ووضوحاً بنزول هذا القرآن، فكيف وقد نبههم به وذكرهم بآياته فزادهم به حجة! وذلك بيانٌ من الله ونور على البيان.



المؤمنون المهتدون بنور الله تعالى



{فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ(36)رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ(37)لِيَجْزِيَهُمْ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ(38)}.



ثم لما ذكر تعالى هدايته لمن يشاء من عباده، ذكر مواطن هذه العبادة وهي المساجد أحبُّ البقاع إلى الله فقال {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ} أي أمر تعالى أن تبنى وتشاد على اسمه خاصة، وان تعظَّم ويرفع شأنها لتكون مناراتٍ للهدى ومراكز للإِشعاع الروحي قال ابن عباس: المساجد بيوتُ الله في الأرض، تضيء لأهل السماء كما تضيء النجوم لأهل الأرض {وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} أي يعبد فيها الله بتوحيده، وذكره، وتلاوة آياته {يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ} أي يصلي لله تعالى في هذه المساجد في الصباح والمساء المؤمنون قال ابن عباس: كلُ تسبيح في القرآن فهو صلاة {رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ} أي لا تشغلهم الدنيا وزخرفتها وزينتها عن ذكر ربهم، ولا يلهيهم البيع والشراء عن طاعة الله قال المفسرون: نزلت هذه الآية في أهل الأسواق من الصحابة رضوان الله عليهم، كانوا إذا سمعوا النداء تركوا كل شغل وبادروا لطاعة الله {وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ} أي ولا تشغلهم الدنيا عن إقامة الصلاة في أوقاتها، ودفع الزكاة للفقراء والمستحقين بحدودها وشروطها {يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ} أي يخافون يوماً رهيباً تضطرب من شدة هوله وفزعه قلوب الناس وأبصارهم {لِيَجْزِيَهُمْ اللهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا} أي ليكافئهم على أعمالهم في الدنيا بأحسن الجزاء، ويجزيهم على الإِحسان إحساناً، وعلى الإِساءة عفواً وغفراناً {وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ} أي يتفضل عليهم فوق ذلك الجزاء بما لا عينٌ رأت، ولا أذنٌ سمعت، ولا خطر على قلب بشر { وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} أي يعطي من شاء من خلقه عطاءً واسعاً بدون حدٍّ ولا عدٍّ يقال فلان ينفق بغير حساب أي يوسع كأنه لا يحسب ما ينفقه قال الإِمام الفخر الرازي: نبه به على كمال قدرته، وكمال جوده، وسعة إحسانه، فإنه سبحانه يعطيهم الثواب العظيم على طاعاتهم، ويزيدهم الفضل الذي لا حد له في مقابلة خوفهم.





أعمال الكفار في الدنيا لا تنفعهم في الآخرة



{وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ(39)أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلْ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ(40)}.



سبب النزول:

نزول الآية (39):

{وَالَّذِينَ كَفَرُوا}: روي أنها نزلت في عتبة بن ربيعة بن أمية، قد كان تعبَّد في الجاهلية، ولبس المسوح، والتمس الدِّين، فلما جاء الإسلام كفر. وقيل: في شيبة بن ربيعة. وكلاهما مات كافراً.



ولما ذكر تعالى حال المؤمن وسعادته، ذكر حال الكافر وخسارته، وضرب لذلك مثلين: الأول لعمله والثاني لاعتقاده وتخبطه في الظلمات فقال {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ} أي إن أعمال الكفار التي عملوها في الدنيا وظنوها أعمالاً صالحة نافعة لهم في الآخرة كالسراب الذي يرى في القيعان وهو ما يرى في الفَلوات من ضوء الشمس في الهجيرة حتى يظهر كأنه ماء يجري على وجه الأرض {يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً} أي يظنه العطشان من بعيد ماءً جارياً {حَتَّى إِذَا جَاءَهُ} أي حتى إذا وصل إليه {لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا} أي لم ير ماءً ولا شراباً، وإنما رأى سراباً فعظمت حسرته {وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ} أي وجدَ الله له بالمرصاد فوفّاه جزاء عمله، فكذلك الكافر يحسب أن عمله ينفعه حتى إذا مات وقدم على ربه لم يجد شيئاً من الأعمال لأنها ذهبت هباءً منثوراً {وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ} أي يعجل الحساب لأنه لا يشغله محاسبة واحد عن آخر {أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ} هذا المثل الثاني لضلال الكفار والمعنى أو مثلهم كظلماتٍ متكاثفة في بحرٍ عميقٍ لا يدرك قعره {يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ} أي يغطي ذلك البحر ويعلوه موجٌ متلاطمٌ بعضه فوق بعض {مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ} أي من فوق ذلك الموج الثاني سحاب كثيف {ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ} أي هم ظلمات متكاثفة متراكمة بعضها فوق بعض قال قتادة: الكافر يتقلب في خمسٍ من الظلم: فكلامه ظلمة، وعمله ظلمة، ومدخله ظلمة، ومخرجه ظلمة، ومصيره إلى الظلمات يوم القيامة إلى النار { إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا} هذا من تتمة التمثيل أي إذا أخرج ذلك الإِنسان الواقع في هذه الظلمات يده لم يقارب رؤيتها فإن ظلمة البحر، وظلمة الموج، وظلمة السحاب قد تكاثفت حتى حجبت عنه رؤية أقرب شيء إليه من شدة الظلمة فكذلك شأن الكافر يتخبط في ظلمات الكفر والضلال {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلْ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} أي ومن لم يهده الله للإيمان وينور قلبه بنور الإِسلام لم يهتد أبد الدهر، ذكر تعالى لعمل الكافر مثالين: الأول لعمله الصالح ومثَّل له بالسراب الخادع، والثاني لاعتقاده السيء ومثَّل له بالظلمات المتراكم بعضُها فوق بعض ثم ختم الآية الكريمة ذلك الختام الرائع {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلْ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} مقابل قوله في المؤمن {نُورٌ عَلَى نُورٍ} فكان هذا التمثيل والبيان في غاية الحسن والجمال، فلله ما أروع تعبير القرآن!!



التفكر في مخلوقات الله يدل على وجوده



{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ(41)وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ(42)أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالأَبْصَارِ(43) يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لأُوْلِي الأَبْصَارِ(44)وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ(45)لَقَدْ أَنزَلْنَا ءاياتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ(46)}.



ولما وصف سبحانه أنوار قلوب المؤمنين وظلمات قلوب الجاهلين أتبع ذلك بدلائل التوحيد فقال {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} أي ألم تعلم يا محمد علماً يقيناً أنَّ الله العظيم الكبير يسبح له كل من في الكون من ملك، وإنس، وجن، ينزهه ويقدسه ساكنوه؟ {وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ} أي والطير باسطاتٍ أجنحتهن حال الطيران تسبح ربها وتعبده كذلك بتسبيح ألهمها وأرشدها إليه تعالى {كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ} أي كلٌّ من الملائكة والإِنس والجن والطير قد أرشد وهدي إلى طريقته ومسلكه في عبادة الله، وما كلف به من الصلاة والتسبيح {وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ} أي لا تخفى عليه طاعتهم ولا تسبيحهم {وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} أي هو المالك والمتصرف في الكون، وجميعُ المخلوقات تحت ملكه يتصرف فيهم تصرف القاهر الغالب {وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ} أي وإليه مرجع الخلائق فيجازيهم على أعمالهم وهو تذكير يتضمن الوعيد، ثم أشار تعالى إلى ظاهرة كونية تدل على قدرته ووحدانيته فقال {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا} أي يسوق بقدرته السحاب إلى حيث يشاء {ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ} أي يجمعه بعد تفرقه {ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا} أي يجعله كثيفاً متراكماً بعضه فوق بعض {فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ} أي فترى المطر يخرج من بينالسحاب الكثيف {وَيُنَزِّلُ مِنْ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ} أي وينزل من السحاب الذي هو كأمثال الجبال برداً {فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ} أي فيصيب بذلك البرد من شاء من العباد فيضره في زرعه وثمرته وماشيته {وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ} أي ويدفعه عمن يشاء فلا يضره قال الصاوي: كما ينزل المطر من السماء وهو نفعٌ للعباد كذلك ينزل منها البرد وهو ضرر للعباد، فسبحان من جعل السماء منشأً للخير والشر {يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ} أي يقرب ضوء برق السحاب {يَذْهَبُ بالأَبْصَارِ} أي يخطف أبصار الناظرين من شدة إضاءته وقوة لمعانه { يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ} أي يتصرف فيهما بالطول والقصر، والظلمة والنور، والحر والبرد { إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً} أي إن فيما تقدم ذكره لدلالة واضحة، وعظة بليغة على وجود الصانع المبدع {لأُوْلِي الأَبْصَارِ} أي لذوي البصائر المستنيرة، وخصهم بالذكر لأنهم المنتفعون حيث يتأملون فيجدون الماء والبرد، والظلمة والنور تخرج من شيء واحد، فسبحان القادر على كل شيء {وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ} استدل على وحدانيته بتسبيح أهل السماء والأرض، ثم بتصريف السحاب وإنزال المطر، ثم بأحوال الحيوانات قال ابن كثير: يذكر تعالى قدرته التامة وسلطانه العظيم في خلقه أنواع المخلوقات على اختلاف أشكالها وألوانها وحركاتها وسكناتها من ماء واحد {فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ} أي فمنهم من يزحف على بطنه كالحية والزواحف {وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ} كالإِنسان والطير {وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ} كالأنعام وسائر الدواب قال أبو حيان: قدم ما هو أظهر في القدرة وأعجب وهو الماشي بغير آلة من رجل وقوائم، ثم الماشي على رجلين، ثم الماشي على أربع {يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} أي يخلق تعالى بقدرته ما يشاء من المخلوقات { إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} أي هو قادر على ما يشاء لا يمنعه مانع، ولا يدفعه دافع قال الفخر الرازي: واعلم أنَّ العقول قاصرة عن الإِحاطة بأحوال أصغر الحيوانات على الكمال، والاستدلال بها على الصانع ظاهرٌ، لأنه لو كان الأمر بتركيب الطبائع الأربع لكان في الكل على السويّة، فاختصاص كل واحدٍ من هذه الحيوانات بأعضائها وأعمارها ومقادير أبدانها لا بدَّ وأن يكون بتدبير قاهرٍ حكيم، سبحانه وتعالى عما يقول الجاحدون {لَقَدْ أَنزَلْنَا آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ} أي لقد أنزلنا إليكم أيها الناس آياتٍ واضحاتٍ، دالات على طريق الحق والرشاد {وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} أي يرشد من خلقه إلى الدين الحق وهو الإِسلام.





ادعاء المنافقين الإيمان



{وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ(47)وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ(48)وَإِنْ يَكُنْ لَهُمْ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ(49)أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمْ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ(50)}.



سبب النزول:

قال المفسرون: هذه الآيات نزلت في بِشْر المنافق وخصمه اليهودي حين اختصما في أرض، فجعل اليهودي يجرّه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليحكم بينهما، وجعل المنافق يجرّه إلى كعب بن الأشرف، ويقول: إن محمداً يحيف علينا. وقد سبق بيان قصتهما في سورة النساء.

وأخرج ابن أبي حاتم من مرسل الحسن البصري قال: كان الرجل إذا كان بينه وبين الرجل منازعة، فدعي إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وهو محق أذعن، وعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم سيقضي له بالحق، وإذا أراد أن يَظْلم، فدعي إلى النبي صلى الله عليه وسلم أعرض، فقال: انطلق إلى فلان، فأنزل الله: {وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ } الآية.

وقال مقاتل: نزلت هذه الآية في بِشْر المنافق، دعاه يهودي في خصومة بينهما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودعا هو اليهودي إلى كعب بن الأشرف، ثم تحاكما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحكم لليهودي، لأنه صاحب الحق، فلم يرض المنافق بقضائه صلى الله عليه وسلم. وقال: نتحاكم إلى عمر رضي الله عنه، فلما ذهبا إليه، قال له اليهودي: قضى لي النبي صلى الله عليه وسلم، فلم يرض بقضائه، فقال عمر للمنافق: أكذلك؟ قال: بلى، فقال: مكانكما حتى أخرج إليكما، فدخل رضي الله عنه بيته، وخرج بسيفه، فضرب به عنق المنافق حتى برد، وقال: هكذا أقضي لمن لم يرض بقضاء الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.



ولما ذكر دلائل التوحيد حذَّر من النفاق والمنافقين فقال {وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا} أي يقول المنافقون صدقنا بالله وبالرسول وأطعنا الله ورسوله {ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ} أي ثم يعرض جماعة منهم عن قبول حكمه {مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ} أي من بعدما صدر منهم ما صدر من دعوى الإِيمان {وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ} أي وليس أولئك الذي يدعون الإِيمان والطاعة بمؤمنين على الحقيقة قال الحسن: نزلت هذه الآية في المنافقين الذين كانوا يظهرون الإِيمان ويسرون الكفر {وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ} أي وإذا دعوا إلى حكم الله أو حكم رسوله { إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ} أي استنكفوا وأعرضوا عن الحضور إلى مجلس الرسول {وَإِنْ يَكُنْ لَهُمْ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ} أي وإن كان الحقُّ بجانبهم جاؤوا إلى رسول الله طائعين منقادين لعلمهم أنه عليه السلام يحكم بالحقِّ قال الفخر الرازي: نبّه تعالى على أنهم إنما يعرضون متى عرفوا أن الحقَّ لغيرهم، أما إذا عرفوه لأنفسهم عدلوا عن الإِعراض وأذعنوا ببذل الرضا {أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمْ ارْتَابُوا} أي هل في قلوبهم نفاقٌ؟ أم شكوا في نبوته عليه السلام؟ {أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ} أي أم يخافون أن يظلمهم رسول الله في الحكم، والاستفهام للمبالغة في التوبيخ والذم كقول الشاعر:

ألستَ من القوم الذين تعاهدوا على اللؤم والفحشاء في سالف الدهر

{بَلْ أُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ} أي بل هم الكاملون في الظلم والعناد لإِعراضهم عن حكم رسول الله.



الطاعة والامتثال من دأب المؤمنين



{إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ(51)وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَائِزُونَ(52)وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ قُلْ لا تُقْسِمُوا طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ(53)قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلا الْبَلاغُ الْمُبِينُ(54)}.



{إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} أي كان الواجب عليهم عندما يُدعون إلى رسول الله للفصل بينهم وبين خصومهم أن يسرعوا ويقولوا سمعاً وطاعة، فلو كان هؤلاء مؤمنين لفعلوا ذلك قال الطبري: ولم يقصد به الخبر ولكنه تأنيبٌ من الله للمنافقين وتأديب منه لآخرين {وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ} أي وأولئك المسارعون إلى مرضاة الله هم الفائزون بسعادة الدارين {وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} أي ومن يطع أمر الله وأمر رسوله في كل فعلٍ وعمل {وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ} أي ويخاف الله تعالى لما فرط منه من الذنوب، ويمتثل أوامره ويجتنب زواجره {فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَائِزُونَ} أي هم السعداء الناجون من عذاب الله الفائزون برضوانه .. ذكر أن بعض بطارقة الروم سمع هذه الآية فأسلم وقال: إنها جمعت كل ما في التوراة والإِنجيل.



المنَاسَبَة:

لما ذكر تعالى المنافقين وما هم عليه من صفاتٍ قبيحة، أعقبه بذكر ما انطوت عليه نفوسهم من المكر والاحتيال والحلف الكاذب بأغلظ الأيمان، وختم السورة الكريمة بالتحذير من سلوك طريق المنافقين.



سبب النزول:

روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث غلاماً من الأنصار يقال له: مُدْلج إلى عمر ابن الخطاب وقت الظهيرة ليدعوه فوجده نائما، فدقَّ عليه الغلام الباب ودخل، فاستيقظ عمر وجلس فانكشف منه شيء فقال: وددت أنَّ الله نهى أبناءنا ونساءنا وخدمنا عن الدخول في هذه الساعات إلا بإذن، ثم انطلق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجد الآية قد أنزلت {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمْ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ.. } فخرَّ ساجداً شكراً لله تعالى.



{وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ} أي حلف المنافقون بغاية الأيمان المغلَّظة {لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ} أي لئن أمرتهم بالخروج إلى الجهاد ليخرجن معك قال مقاتل: لما بيَّن الله إعراض المنافقين وامتناعهم عن قبول حكمه عليه السلام أتوه فقالوا: لو أمرتنا أن نخرج من ديارنا وأموالنا ونسائنا لخرجنا، وإن أمرتنا بالجهاد لجاهدنا فنزلت {قُلْ لا تُقْسِمُوا} أي لا تحلفوا فإن أيمانكم كاذبة {طَاعَةٌ مَعْرُوفةٌ} أي طاعتُكم لله ورسوله معروفة فإنها باللسان دون القلب، وبالقول دون العمل {إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} أي بصير لا يخفى عليه شيء من خفاياكم ونواياكم {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} أي أطيعوا الله بإخلاص النية وترك النفاق، وأطيعوا الرسول بالاستجابة لأمره والتمسّك بهديه {فَإِنْ تَوَلَّوا} أي فإن تتولَّوْا وتعرضوا عن طاعته {فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ} أي على الرسول ما كلف به من تبليغ الرسالة {وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ} أي وعليكم ما كلفتم به من السمع والطاعة واتباع أمره عليه السلام {وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} أي وإن أطعتم أمره فقد اهتديتم إلى طريق السعادة والفلاح {وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلا الْبَلاغُ الْمُبِينُ} أي ليس عليه إلا التبليغ الواضح للأمة، ولا ضرر عليه إن خالفتم وعصيتم فإنه قد بلَّغ الرسالة وأدى الأمانة.



وعد الله المؤمنين بالاستخلاف في الأرض



{وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمْ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ(55)وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ(56)لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الأَرْضِ وَمَأْوَاهُمْ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ(57)}.



{وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} أي وعد الله المؤمنين المخلصين الذين جمعوا بين الإِيمان والعمل الصالح {لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ } أي وعدهم بميراث الأرض وأن يجعلهم خلفاء متصرفين فيها تصرف الملوك في ممالكهم، كما استخلف المؤمنين قبلهم فملكهم ديار الكفار قال المفسرون: لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه المدينة رمتهم العرب عن قوسٍ واحدة، فكانوا لا يبيتون إلا في السلاح، ولا يصبحون إلاّ في لأَمتهم - أي سلاحهم - فقالوا أترون أنّا نعيش حتى نبيت آمنين مطمئنين لا نخاف إلاّ الله عز وجل!! فنزلت الآية، وهذا وعدٌ ظهر صدقُه بفتح مشارق الأرض ومغاربها لهذه الأمة وفي الحديث بشارة كذلك فقد قال صلى الله عليه وسلم: (إنَّ الله زوى لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها، وإن ملك أمتي سيبلغ ما زوي لي منها) {وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمْ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ} أي وليجعلنَّ دينهم - الإِسلام - الذي ارتضاه لهم عزيزاً مكيناً عالياً على كل الأديان {وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا} أي وليغيرن حالهم التي كانوا عليها من الخوف والفزع إلى الأمن والاستقرار كقوله {وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ} {يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا} استئنافٌ بطريق الثناء عليهم كالتعليل للاستخلاف في الأرض أي يوحدونني ويخلصون لي العبادة، لا يعبدون إلهاً غيري {وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ} أي فمن جحد شكر هذه النعم {فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ} هم الخارجون عن طاعة الله، العاصون أمر الله قال أبو العالية: أي من كفر بهذه النعمة وليس يعني الكفرَ بالله قال الطبري: وهو أشبه بتأويل الآية لأن اللهَ وعد الإِنعام على هذه الأمة بما أخبر في هذه الآية بأنه منعم به عليهم ثم قال {وَمَنْ كَفَرَ} أي كفر هذه النعمة {فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ} {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاة} أي أقيموا أيها المؤمنون الصلاة وأدوا الزكاة على الوجه الأكمل الذي يُرضي الله {وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} أي أطيعوا الرسول في سائر ما أمركم به رجاء الرحمة {لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الأَرْضِ} تسليةٌ للنبي صلى الله عليه وسلم ووعدٌ له بالنُّصرة أي لا تظننَّ يا محمد الكافرين الذين عاندوك وكذبوك معجزين لله في هذه الحياة بل الله قادرٌ عليهم في كل حين {وَمَأْوَاهُمْ النَّارُ} أي مرجعهم نار جهنم {وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ} أي بئس المرجع والمال الذي يصيرون إليه.





حالات الاستئذان داخل البيت، وتخفيف الثياب الظاهرة عن العجائز



{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمْ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشَاءِ ثَلاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ الآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ(58)وَإِذَا بَلَغَ الأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ ءاياتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ(59)وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللاتِي لا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ(60) }.



سبب النزول:

قال ابن عباس: وجَّه رسول الله صلى الله عليه وسلم غلاماً من الأنصار يقال له: مُدْلج ابن عمرو إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه وقت الظهيرة ليدعوه، فدخل فرأى عمر بحالة كره عمر رؤيته ذلك، فقال: يا رسول الله وَدِدْت لو أن الله تعالى أمرنا ونهانا في حال الاستئذان، فأنزل الله تعالى هذه الآية: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمْ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ.. }.



وقال مقاتل: نزلت في أسماء بنت أبي مَرْثَد كان لها غلام كبير، فدخل عليها في وقت كرهته، فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: إن خدمنا وغلماننا يدخلون علينا في حال نكرهها، فأنزل الله تبارك وتعالى هذه الآية.

وفي رواية: ثم انطلق - أي عمر - إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوجد هذه الآية قد أنزلت، فخرَّ ساجداً، شكراً لله. وهذه إحدى موافقات رأي عمر للوحي.

وأخرج ابن أبي حاتم عن السدّي أنه قال: كان أناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يعجبهم أن يباشروا نساءهم في هذه الساعات، فيغتسلوا، ثم يخرجوا إلى الصلاة، فأمرهم الله تعالى أن يأمروا المملوكين والغلمان ألا يدخلوا عليهم في تلك الساعات إلا بإذن بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمْ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} الآية.

فإذا صح أن سبب النزول قصة أسماء المتقدمة، كان قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} خطاباً للرجال والنساء بطريق التغليب، لأن دخول سبب النزول في الحكم قطعي، كما هو الراجح في الأصول.



{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمْ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} أي يا أيها المؤمنون الذين صدَّقوا الله ورسوله وأيقنوا بشريعة الإِسلام نظاماً وحكماً ليستأذنكم في الدخول عليكم العبيدُ والإِماء الذين تملكونهم ملك اليمين {وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ} أي والأطفال الذين لم يبلغوا مبلغ الرجال الأحرار ليستأذنوا أيضاً {ثَلاثَ مَرَّاتٍ} أي في ثلاثة أوقات {مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ} أي في الليل وقت نومكم وخلودكم إلى الراحة {وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنْ الظَّهِيرَةِ} أي وقت الظهر حين تخلعون ثيابكم للقيلولة {وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشَاءِ} أي ووقت إرادتكم النوم واستعدادكم له {ثَلاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ} أي هي ثلاثة أوقات يختل فيها تستركم، العوراتُ فيها بادية والتكشف فيها غالب، فعلِّموا عبيدكم وخدمكم وصبيانكم ألاّ يدخلوا عليكم في هذه الأوقات إلا بعد الاستئذان {لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَليْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ} أي ليس عليكم ولا على المماليك والصبيان حرجٌ في الدخول عليكم بغير استئذان بعد هذه الأوقات الثلاثة {طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ} أي لأنهم خدمكم يطوفون عليكم للخدمة وغير ذلك قال أبو حيان: أي يمضون ويجيثون ويدخلون عليكم في المنازل غدوةً وعشية بغير إذن إلا في تلك الأوقات {كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ الآيَاتِ} أي مثل ذلك التوضيح والبيان يبيّن الله لكم الأحكام الشرعية لتتأدبوا بها {وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} أي عالمٌ بأمور خلقه، حكيمٌ في تدبيره لهم {وَإِذَا بَلَغَ الأَطفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ} أي وإذا بلغ هؤلاء الأطفال الصغار مبلغ الرجال وأصبحوا في سنّ التكليف {فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} أي فعلموهم الأدب السامي أن يستأذنوا في كل الأوقات كما يستأذن الرجال البالغون {كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ} أي يفصّل لكم أمور الشريعة {وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} أي عليم بخلقه حكيم في تشريعه قال البيضاوي: كرره تأكيداً ومبالغة في الأمر بالاستئذان {وَالْقَوَاعِدُ مِنْ النِّسَاءِ} أي والنساء العجائز اللواتي قعدن عن التصرف وطلب الزواج لكبر سنهن {اللاتِي لا يَرْجُونَ نِكَاحًا} أي لا يطمعن في الزواج ولا يرغبن فيه لانعدام دوافع الشهوة فيهن {فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ} أي لا حرج ولا إثم عليهنَّ في أن تخفّف في ملابسها {غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ} أي غير متظاهرات بالزينة لينظر إليهن قال أبو حيان: وحقيقة التبرج إظهار ما يجب إخفاؤُه، وربَّ عجوزٍ شمطاء يبدو منها الحرصُ على أن يظهر بها جمال {وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ} أي وأن يستترن بارتداء الجلباب ولبس الثياب كما تلبسه الشابات من النساء، مبالغةً في التستر والتعفف خيرٌ لهنَّ وأكرم، وأزكى عند الله وأطهر {وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} أي يعلم خفايا النفوس ويجازي كل إنسان بعمله، وفيه وعدٌ وتحذير.



إباحة الأكل في بيوت معينة دون إذن أهلها



{لَيْسَ عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلا عَلَى أَنفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالاتِكُمْ أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ(61) }.



{لَيْسَ عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ} أي ليس على أهل الأعذار "الأعمى، والأعرج، والمريض" حرج ولا إثم في القعود عن الغزو لضعفهم وعجزهم {وَلا عَلَى أَنفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ } أي وليس عليكم أيها الناس إثم أن تأكلوا من بيوت أزواجكم وعيالكم قال البيضاوي: فيدخل فيها بيوت الأولاد لأن بيت الولد كبيته لقوله عليه السلام: إن أطيبَ ما يأكل المرءُ من كسبه، وإنَّ ولده من كسبه {أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالاتِكُمْ} أي لا حرج في الأكل من بيوت هؤلاء الأقارب قال الرازي: والظاهر أن إباحة الأكل لا تتوقف على الاستئذان لأن العادة أن هؤلاء القوم تطيب أنفسهم بأكل الأقارب {أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ} أي البيوت التي توكّلون عليها وتملكون مفاتيحها في غياب أهلها قالت عائشة: كان المسلمون يذهبون مع رسول الله في الغزو ويدفعون مفاتحهم إلى ضمنائهم ويقولون: قد أحللنا لكم الأكل منها فكانوا يقولون: إنه لا يحل لنا أن نأكل، إنهم أذنوا لنا من غير طيب أنفسهم وإنما نحن أمناء فأنزل الله {أَوْ مَا مَلكْتُمْ مَفَاتِحَهُ} {أَوْ صَدِيقِكُمْ} أي أو بيوت أصدقائكم وأصحابكم قال قتادة: إذا دخلت بيت صديقك فلا بأس أن تأكل بغير إذنه {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا} أي ليس عليكم إثم أو حرج أن تأكلوا مجتمعين أو متفرقين قال المفسرون: نزلت في حيٍ من كنانة كان الرجل منهم لا يأكل وحده، يمكث يومه فإن لم يجد من يؤاكله لم يأكل شيئاً: وربما كانت معه الإِبل الحُفَّل فلا يشرب من ألبانها حتى يجد من يشاربه فأخبرهم تعالى بأن الرجل إذا أكل وحده لا حرج عليه {فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّموا عَلَى أَنفُسِكُمْ} أي إذا دخلتم بيوتاً مسكونة فسلموا على من فيها من الناس {تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً} أي حيُّوهم بتحية الإِسلام "السلام عليكم" وهي التحية المباركة الطيبة التي شرعها الله لعباده المؤمنين قال القرطبي: وصفها بالبركة لأن فيها الدعاء واستجلاب المودة، ووصفها بالطيب لأن سامعها يستطيبها {كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} قال ابن كثير: لما ذكر تعالى في هذه السورة الكريمة من الأحكام المحكمة، والشرائع المُبْرمة، نبَّه عباده على أنه يبين لهم الآيات بياناً شافياً ليتدبروها لعلهم يعقلون.





الاستئذان عند الخروج، وأدب مخاطبة النبي صلى الله عليه وسلم والتحذير من مخالطة آمره



{ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ(62) لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ(63)أَلا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ(64)}.



سبب النزول:

أخرج ابن إسحاق والبيهقي في الدلائل عن عروة ومحمد بن كعب القرظي وغيرهما قالوا: لما أقبلت قريش عام الأحزاب، نزلوا بمجمع الأسيال من رومة - بئر بالمدينة - قائدها أبو سفيان، وأقبلت غَطَفان، حتى نزلوا بنعمى إلى جانب أُحُد، وجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم الخبر، فضرب الخندق على المدينة، وعمل فيه، وعمل المسلمون فيه، وأبطأ رجال من المنافقين، وجعلوا يأتون بالضعيف من العمل، فيتسللون إلى أهليهم بغير علم من رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا إذن، وجعل الرجل من المسلمين إذا نابته النائبة من الحاجة التي لا بدّ منها، يذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ويستأذنه في اللحوق لحاجته، فيأذن له، وإذا قضى حاجته رجع، فأنزل الله في أولئك المؤمنين: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ} إلى قوله: {والله بكل شيء عليم}.



وقال الكلبي: كان النبي صلى الله عليه وسلم يعرّض في خطبته بالمنافقين ويعيبهم، فينظر المنافقون يميناً وشمالاً، فإذا لم يرهم أحد انسلوا وخرجوا ولم يصلوا، وإن أبصرهم أحد ثبتوا وصلوا خوفاً، فنزلت هذه الآية، فكان بعد نزول هذه الآية لا يخرج المؤمن لحاجته ، حتى يستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان المنافقون يخرجون بغير إذن.



نزول الآية (63):

{لا تَجْعَلُوا} الآية: أخرج أبو نعيم في الدلائل عن ابن عباس قال: كانوا يقولون: يا محمد، يا أبا القاسم، فأنزل الله: {لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا} فقالوا: يا نبي الله، يا رسول الله.



{ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} أي إنما المؤمنون الكاملون في الإِيمان الذين صدقوا الله ورسوله تصديقاً جازماً لا يخالجه شك {وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ} أي وإذا كانوا مع الرسول في أمرٍ هام فيه مصلحة للمسلمين {لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ} أي لم يتركوا مجلسه حتى يستأذنوه فيأذن لهم قال المفسرون: نزلت هذه الآية في وقت حفر الخندق، فإن بعض المؤمنين كانوا يستأذنون في الانصراف لضرورة، وكان المنافقون يذهبون بغير استئذان فنزلت تمدح المؤمنين الخالصين، وتُعرِّض بذم المنافقين {إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} هذا توكيدٌ لما تقدم ذكره تفخيماً وتعظيماً لشأن الرسول صلى الله عليه وسلم أي إن الذين يستأذنونك يا محمد أولئك هم المؤمنون حقاً قال البيضاوي: أعاده مؤكداً على أسلوب أبلغ فإِن جعل المستأذنين هم المؤمنين عكس الأسلوب الأول وفيه تأكيد للأول بذكر لفظ الله ورسوله فيكون مصدقاً ودليلاً على صحة الإِيمان {فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ} أي فإِذا استأذنك هؤلاء المؤمنون لبعض شئونهم ومهامهم {فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ} أي فاسمح لمن أحببت بالانصراف إن كان فيه حكمة ومصلحة {وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ اللَّهَ} أي وادع الله لهم بالعفو والمغفرة فإِن الاستئذان ولو لعذرٍ قصورٌ لأنه تقديم لأمر الدنيا على أمر الدين {إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} أي عظيم العفو واسع الرحمة {لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا} أي لا تنادوا الرسول باسمه كما ينادي بعضكم بعضاً باسمه بل قولوا : يا نبيَّ الله ويا رسول الله تفخيماً لمقامه وتعظيماً لشأنه قال أبو حيان: لمّا كان التداعي بالأسماء على عادة البداوة أُمروا بتوقير رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعائه بأحسن ما يدعى به نحو يا رسول الله، يا نبيَّ الله، ألا ترى إِلى بعض جفاةِ من أسلم كان يقول يا محمد فنهوا عن ذلك قال قتادة: أمرهم تعالى أن يفخموه ويشرّفوه {قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا} أي قد علم الله الذين ينسلُّون قليلاً قليلاً ويخرجون من الجماعة في خفية يستتر بعضهم ببعض قال الطبري: واللواذ هو أن يلوذ القوم بعضُهم ببعض، يستتر هذا بهذا وهذا بهذا {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ} أي فليخف الذين يخالفون أمر الرسول ويتركون سبيله ومنهجه وسنته {أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} أي تنزل بهم محنة عظيمة في الدنيا أو ينالهم عذاب شديد في الآخرة {أَلا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} أي له جل وعلا ما في الكون ملكاً وخلقاً وعبيداً {قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ} أي قد علم ما في نفوسكم من الإِيمان أو النفاق، والإِخلاص أو الرياء {وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا} أي ويوم القيامة يرجعون إِليه فيخبرهم بما فعلوا في الدنيا من صغيرٍ وكبيرٍ، وجليل وحقير ويجازي كلا بعمله {وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} أي لا تخفى عليه خافية لأن الكل خلقه وملكه.

yacine414
2011-03-26, 17:58
سورة الفرقان



تنزيل القرآن وإثبات وحدانية الله:

مزاعم المشركين في القرآن:

تساءل المشركين وطعنهم في الرسول صلى الله عليه وسلم :

تكذيب المشركين باليوم الآخر والمقارنة بينهم وبين أهل الجنة:

أحوال الكفار والمعبودين من دون الله يوم القيامة:

إثبات بشرية الرسل:

طلب المشركين إنزال الملائكةُ عليهم أو رؤية الله والإخبار بإحباط أعمالهم:

هول يوم القيامة ورهبته:

هجر الكفار للقرآن ومطالبتهم بإنزاله دفعة واحدة:

قصص بعض الأنبياء وجزاء المكذب بهم:

استهزاء المشركين بالنبي صلى الله عليه وسلم ورمي دعوته بالضلال:

دلائل وجود الله وتوحيده:

عبادة المشركين الأوثان وعبادة المؤمنين الرحمن:

صفات عباد الرحمن:



بَين يَدَي السُّورَة



* سورة الفرقان مكية وهي تعنى بشؤون العقيدة، وتعالج شبهات المشركين حول رسالة محمد صلى الله عليه وسلم وحول القرآن العظيم، ومحور السورة يدور حول إِثبات صدق القرآن، وصحة الرسالة المحمدية، وحول عقيدة الإِيمان بالبعث والجزاء، وفيها بعض القصص للعظة والاعتبار.





* ابتدأت السورة الكريمة بالحديث عن القرآن الذي تفنَّن المشركون بالطعن فيه، والتكذيب بآياته، فتارة زعموا أنه أساطير الأولين، وأُخرى زعموا أنه من اختلاق محمد أعانه عليه بعض أهل الكتاب، وثالثه زعموا أنه سحرٌ مبين، فردَّ الله تعالى عليهم هذه المزاعم الكاذبة، والأوهام الباطلة، وأقام الأدلة والبراهين على أنه تنزيل رب العالمين، ثم تحدثت عن موضوع الرسالة التي طالما خاض فيها المشركون المعاندون، واقترحوا أن يكون الرسول ملكاً لا بشراً، وأن تكون الرسالة - على فرض تسليم الرسول من البشر - خاصة بذوي الجاه والثراء، فتكون لإِنسان غني عظيم، لا لفقير يتيم، وقد ردَّ الله تعالى شبهتهم بالبرهان القاطع، والحجة الدامغة، التي تقصم ظهر الباطل.





* ثم ذكرت الآيات فريقاً من المشركين عرفوا الحقَّ وأقرّوا به، ثم انتكسوا إِلى جحيم الضلال، وذكرت منهم "عقبة بن أبي معيط" الذي أسلم ثم ارتد عن الدين بسبب صديقه الشقي "أُبي بن خلف" وقد سماه القرآن الكريم بالظالم {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ} الآية وسمَّى صديقه بالشيطان.





* وفي ثنايا السورة الكريمة جاء ذكر بعض الأنبياء إِجمالاً وجاء الحديث عن أقوامهم المكذبين، وما حلَّ بهم من النكال والدمار نتيجة لطغيانهم وتكذيبهم لرسل الله كقوم نوح، وعاد، وثمود، وأصحاب الرسّ وقوم لوط، وغيرهم من الكافرين الجاحدين، كما تحدثت السورة عن دلائل قدرة الله ووحدانيته، وعن عجائب صنعه وآثار خلقه في هذا الكون البديع، الذي هو أثر من آثار قدرة الله، وشاهد من شواهد العظمة والجلال.



* وختمت السورة ببيان صفات عباد الرحمن، وما أكرمهم الله به من الأخلاق الحميدة التي استحقوا بها الأجر العظيم في جنات النعيم.



التسمَية:

سميت السورة الكريمة "سورة الفرقان" لأن الله تعالى ذكر فيها هذا الكتاب المجيد الذي أنزله على عبده محمد صلى الله عليه وسلم، وكان النعمة الكبرى على الإِنسانية لأنه النور الساطع والضياء المبين، الذي فرق الله به بين الحق والباطل، والنور والظلام، والكفر والإِيمان، ولهذا كان جديراً بأن يسمى الفرقان.



تنزيل القرآن وإثبات وحدانية الله



{تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا(1)الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا(2)وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَمْلِكُونَ لأَنفُسِهِمْ ضَرًّا وَلا نَفْعًا وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلا حَيَاةً وَلا نُشُورًا(3)}.



{تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ} أي تمجَّد وتعظَّم وتكاثر خير الله الذي نزَّل القرآن العظيم الفارق بين الحق والباطل على عبده محمد صلى الله عليه وسلم {لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} أي ليكون محمد نبياً للخلق أجمعين مخوفاً لهم من عذاب الله {الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} أي هو تعالى المالك لجميع ما في السماوات والأرض خلقاً وملكاً وعبيداً { وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا} أي وليس له ولدٌ كما زعم اليهود والنصارى { وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ} أي وليس معه إِله كما قال عبدة الأوثان {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا} أي أوجد كل شيء بقدرته مع الإِتقان والإِحكام. قال ابن جزي: الخلق عبارة عن الإِيجاد بعد العدم، والتقدير عبارةٌ عن إتقان الصنعة وتخصيص كل مخلوقٍ بمقداره وصنعته، وزمانه ومكانه، ومصلحته وأجله وغير ذلك وقال الرازي: وصف سبحانه ذاته بأربع أنواع من صفات الكبرياء: الأول: أنه المالك للسماوات والأرض وهذا كالتنبيه على وجوده والثاني: أنه هو المعبود أبداً والثالث: أنه المنفرد بالألوهية والرابع: أنه الخالق لجميع الأشياء مع الحكمة والتدبير {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً} أي عبد المشركون غير الله من الأوثان والأصنام {لا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ} أي لا يقدرون على خلق شيء أصلاً بل هم مصنوعون بالنحت والتصوير فكيف يكونون آلهة مع الله ؟ {وَلا يَمْلِكُونَ لأَنفُسِهِمْ ضَرًّا وَلا نَفْعًا} أي لا يستطيعون دفع ضر عنهم ولا جلب نفع لهم {وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلا حَيَاةً وَلا نُشُورًا} أي لا تملك أن تُميت أحداً، ولا أن تُحيي أحداً ولا أن تبعث أحداً من الأموات قال الزمخشري: المعنى أنهم آثروا على عبادة الله عبادة آلهة لا يقدرون على شيء، وإِذا عجزوا عن دفع الضرر وجلب النفع الذي يقدر عليه العباد كانوا عن الموت والحياة والنشور الذي لا يقدر عليها إِلا الله أعجز.





مزاعم المشركين في القرآن



{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا(4)وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً(5)قُلْ أَنزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا(6)}.



سبب النزول:

قال الكلبي ومقاتل: نزلت في النضر بن الحارث، فهو الذي قال هذا القول. وعنى بقوله تعالى: {وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ} عدَّاس مولى حُوَيْطب بن عبد العُزَّى، ويسار غلام عامر بن الحضرمي، وجبر مولى عامر أو أبو فُكَيْهة الرومي، وكان هؤلاء الثلاثة من أهل الكتاب، وكانوا يقرؤون التوراة ويحدثون أحاديث منها، فلما أسلموا، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يتعهدهم، قال النضر ما قال. فرد الله تعالى عن هذه الشبهة بقوله: {فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا}.



{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلا إِفْكٌ افْتَرَاهُ} أي وقال كفار قريش ما هذا القرآن إِلا كذب اختلقه محمد من تلقاء نفسه {وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ} أي وساعده على هذا الاختلاق قومٌ من أهل الكتاب {فَقَدْ جَاءوا ظُلْمًا وَزُورًا} أي جاءوا بالظلم والبهتان حيث جعلوا العربي يتلقَّنُ من العجمي كلاماً عربياً أعجز بفصاحته جميع فصحاء العرب فكان كلامهم فيه محض الكذب والزور {وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا} أي وقالوا في حق القرآن أيضاً إِنه خرافات الأمم السابقين أمر أن تُكتب له {فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً} أي فهي تُلقى وتُقرأ عليه ليحفظها صباحاً ومساءً قال ابن عباس: والقائل هو "النضر بن الحارث" وأتباعه والإِفكُ أسوأ الكذب {قُلْ أَنزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} هذا ردٌّ عليهم في تلك المزاعم أي قل لهم يا محمد أنزله الله العليم القدير الذي لا يخفى عليه شيء في السماوات والأرض {إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا} أي إِنه تعالى لم يعجّل لكم العقوبة بل أمهلكم رحمة بكم لأنه واسع المغفرة رحيم بالعباد.





تساءل المشركين وطعنهم في الرسول صلى الله عليه وسلم



{وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الأَسْوَاقِ لَوْلا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا(7)أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلا رَجُلاً مَسْحُورًا(8)انظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً(9)تَبَارَكَ الَّذِي إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْرًا مِنْ ذَلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُورًا(10)}.



سبب النزول:

أخرج ابن أبي شيبة في مصنفه وابن جرير وابن أبي حاتم عن خيثمة قال: قيل للنبي صلى الله عليه وسلم: إن شئت أعطيناك مفاتيح الأرض وخزائنها، لا ينقصك ذلك عندنا شيئاً في الآخرة، وإن شئت جَمَعْتُهما لك في الآخرة، فقال: لا، بل اجمعْها لي في الآخرة، فنزلت: {تَبَارَكَ الَّذِي إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْرًا مِنْ ذَلِكَ} الآية. أي أن عرض الخزائن من الله. وجاء في السيرة النبوية أن عروض الإغراء بالمال والغنى، والسيادة والجاه، والملك والسلطان كانت من زعماء قريش.



{وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الأَسْوَاقِ} أي وقال المشركون ما لهذا الذي يزعم الرسالة يأكل الطعام كما نأكل، ويمشي في الأسواق لطلب المعاش كما نمشي ؟ إِنه ليس بمَلَك ولا مَلِك، لأن الملائكة لا تأكل، والملوك لا تتبذّل في الأسواق، وفي قولهم {مَالِ هَذَا الرَّسُولِ} مع إِنكارهم لرسالته تهكم واستهزاء {لَوْلا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا} أي هلاّ بعث الله معه ملكاً ليكون له شاهداً على صدق ما يدعيه ! {أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنزٌ} أي يأتيه كنزٌ من السماء فيستعين به ويستغني عن طلب المعاش {أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا} أي يكون له بستان يأكل من ثماره {وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلا رَجُلاً مَسْحُورًا} أي وقال الكافرون ما تتبعون أيها المؤمنون إِلا إِنساناً سحر فغلب على عقله فهو يزعم أنه رسول الله {انظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الأَمْثَالَ فَضَلُّوا} أي انظر كيف قالوا في حقك يا محمد تلك الأقاويل العجيبة، الجارية لغرابتها مجرى الأمثال ! وكيف اخترعوا تلك الصفات والأحوال الشاذة فضلُّوا بذلك عن الهدى! {فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً} أي فلا يجدون طريقاً إلى الحق بعد أن ضلوا عنه بتكذيبك وإِنكار رسالتك، ذكروا له عليه الصلاة والسلام خمس صفات وزعموا أنها تُخلُّ بالرسالة زعماً منهم أنَّ فضيلة الرسول على غيره تكون بأمورٍ جسمانية وهي غاية الجهالة والسفاهة فردَّ الله عليهم بأمرين: الأول: تعجيب الرسول صلى الله عليه وسلم من تناقضهم فتارة يقولون عنه شاعر، وتارة ساحر، وأُخرى يقولون إِنه مجنون حتى أصبحت تلك الأقوال الغريبة الشاذة، والأمور العجيبة جارية مجرى الأمثال والثاني: أن الله تعالى لو أراد لأعطى نبيَّه خيراً مما اقترحوا وأفضل مما يتصورون وهو المراد بقوله {تَبَارَكَ الَّذِي إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْرًا مِنْ ذَلِكَ} أي تمجَّد وتعظّم الله الكبير الجليل الذي لو أراد لجعل لك خيراً من ذلك الذي ذكروه من نعيم الدنيا {جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ} أي لو شاء لأعطاك بساتين وحدائق تسير فيها الأنهار لا جنةً واحدة كما قالوا {وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُورًا} أي ويجعل لك مع الحدائق القصور الرفيعة المشيدة كما هو حال الملوك قال الضحاك: لما عيَّر المشركون رسول الله صلى الله عليه وسلم بالفاقة حزن عليه السلام فنزل جبريل معزياً له فبينما النبي وجبريل يتحدثان إذ فُتح باب من السماء فقال جبريل: أبشرْ يا محمد هذا رضوان خازن الجنة قد أتاك بالرضى من ربك فسلَّم عليه وقال: ربك يخيرّك بين أن تكون نبياً ملكاً، وبين أن تكون نبياً عبداً - ومعه سفط من نور يتلألأ - ثم قال: هذه مفاتيح خزائن الأرض فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جبريل كالمستشير فأومأ بيده أن تواضع فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "بل نبياً عبداً" فكان عليه السلام بعد ذلك لا يأكل متكأ حتى فارق الدنيا.



تكذيب المشركين باليوم الآخر والمقارنة بينهم وبين أهل الجنة



{بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنَا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيرًا(11)إِذَا رَأَتْهُم مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا(12)وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا(13)لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا(14)قُلْ أَذَلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كَانَتْ لَهُمْ جَزَاءً وَمَصِيرًا(15)لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ خَالِدِينَ كَانَ عَلَى رَبِّكَ وَعْدًا مَسْئُولاً(16)}.



{بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ} أي بل كذبوا بالقيامة {وَأَعْتَدْنَا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيرًا} أي وهيأنا لمن كذَّب بالآخرة ناراً شديدة الاستعار قال الطبري: المعنى ما كذب هؤلاء المشركون بالله وأنكروا ما جئتهم به من الحق من أجل أنك تأكل الطعام وتمشي في الأسواق ولكنْ من أجل أنهم لا يوقنون بالمعاد تكذيباً منهم بالقيامة وأعددنا لمن كذَّب بالبعث ناراً تُسعَّر علهم وتتَّقد {إِذَا رَأَتْهُم مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ} أي إِذا رأت جهنم هؤلاء المشركين من مسافة بعيدة وهي مسير خمسمائة عام {سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا} أي سمعوا صوت لهيبها وغليانها كالغضبان إِذا غلا صدره من الغيظ وسمعوا لها صوتاً كصوت الحمار وهو الزفير قال ابن عباس: إِن الرجل ليجرُّ إِلى النار فتشهق إِليه النار شهوق البغلة إلى الشعير، وتزفر زفرةً لا يبقى أحدٌ إِلاّ خاف، وتقييد الرؤية بالبعد {مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ} فيه مزيد تهويل لأمرها {وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا} أي وإِذا أُلقوا في جهنم في مكانٍ ضيّق قال ابن عباس: تضيق عليهم ضيق الزُّج في الرُّمح - الزُّج: الحديدة التي في أسفل الرمح - {مُقَرَّنِينَ} أي مصفَّدين قد قرنت أيديهم إِلى أعناقهم بالسلاسل {دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا} أي دعوا في ذلك المكان على أنفسهم بالويل والهلاك يقولون: يا هلاكنا، نادوه نداء المتمني للهلاك ليسلموا مما هو أشدُّ منه كما قيل: أشدُّ من الموت ما يتمنى معه الموت {لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا} أي يقال لهم: لا تدعوا اليوم بالهلاك على أنفسكم مرةً واحدة بل ادعوا مراتٍ ومراتٍ، فإِن ما أنتم فيه من العذاب الشديد يستوجب تكرير الدعاء في كل حين وآن، وفيه إِقناطٌ لهم من استجابة الدعاء وتخفيف العذاب {قُلْ أَذَلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ} ؟ أي قل لهم يا محمد على سبيل التقريع والتهكم أذلك السعير خيرٌ أم جنة الخلود التي وعدها المتقون ؟ قال ابن كثير: يقول الله تعالى يا محمد : هذا الذي وصفناه لك من حال الأشقياء الذين تتلقاهم جهنم بوجهٍ عبوسٍ وتغيظٍ وزفير، ويلقون في أماكنها الضيقة مقرّنين لا يستطيعون حراكاً ولا فكاكاً مما هم فيه، أهذا خيرٌ أم جنة الخلد التي وعدها الله المتقين من عباده ؟ قال الإِمام الفخر الرازي: فإِن قيل كيف يقال العذاب خيرٌ أم جنة الخلد؟ وهل يجوز أن يقول العاقل: السُكر أحلى أم الصبر ؟ قلنا: هذا يحسن في معرض التقريع كما إِذا أعطى السيد عبده مالاً فتمرَّد وأبى واستكبر فيضربه ضرباً وجيعاً ويقول على سبيل التوبيخ: أهذا أطيب أم ذاك ؟ {كَانَتْ لَهُمْ جَزَاءً وَمَصِيرًا} أي كانت لهم ثواباً ومرجعاً {لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ} أي لهم في الجنة ما يشاؤون من النعيم {خَالِدِينَ} أي ماكثين فيها أبداً سرمداً بلا زوال ولا انقضاء {كَانَ عَلَى رَبِّكَ وَعْدًا مَسْئُولاً} أي كان ذلك الجزاء وعداً على ذي الجلال حقيقاً بأن يُسأل ويُطلب لكونه مما يتنافس فيه المتنافسون، وهو وعدٌ واجب.



أحوال الكفار والمعبودين من دون الله يوم القيامة



{وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ(17)قَالُوا سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكَانُوا قَوْمًا بُورًا(18)فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِمَا تَقُولُونَ فَمَا تَسْتَطِيعُونَ صَرْفًا وَلا نَصْرًا وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذَابًا كَبِيرًا(19)}.



{وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} أي واذكر ذلك اليوم الرهيب - يوم القيامة - حين يجمع الله الكفار والأصنام وكل من عُبد من دون الله كالملائكة والمسيح قال مجاهد: هو عيسى وعزير والملائكة {فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلاءِ} أي فيقول تعالى للمعبودين تقريعاً لعبدتهم: أأنتم دعوتم هؤلاء إِلى عبادتكم ؟ {أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ} أي أم هم ضلوا الطريق فعبدوكم من تلقاء أنفسهم ؟ {قَالُوا سُبْحَانَكَ} أي قال المعبودون تعجباً مما قيل لهم: تنزَّهت يا الله عن الأنداد {مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ} أي ما يحقُّ لنا ولا لأحدٍ من الخلق أن يعبد غيرك، ولا أن يشرك معك سواك {وَلَكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ} أي ولكن أكثرت عليهم وعلى آبائهم النعمة - وكان يجب عليهم شكرها والإِيمان بما جاءت به الرسل - فكان ذلك سبباً للإِعراض عن ذكرك وشكرك {وَكَانُوا قَوْمًا بُورًا} أي وكانوا قوماً هالكين، قال تعالى توبيخاً للكفرة {فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِمَا تَقُولُونَ} أي فقد كذبكم هؤلاء المعبودون في قولكم إِنهم آلهة {فَمَا تَسْتَطِيعُونَ صَرْفًا وَلا نَصْرًا} أي فما تستطيعون أيها الكفار دفعاً للعذاب عنكم ولا نصراً لأنفسكم من هذا البلاء {وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذَابًا كَبِيرًا} أي ومن يشرك منكم بالله فيظلم نفسه نذقه عذاباً شديداً في الآخرة.





إثبات بشرية الرسل



{وَما أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الأَسْوَاقِ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا(20)}.

yacine414
2011-03-26, 18:00
سبب النزول:

أخرج الواحدي وابن جرير عن ابن عباس قال : لما عيَّر المشركون رسول الله صلى الله عليه وسلم بالفاقة، وقالوا: {مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الأَسْوَاقِ} حزِن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنزل: {وما أرسلنا قَبْلك من المرسلين إلا إنهم ليأكلون الطعام، ويمشون في الأسواق}.



{وَما أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ الْمُرْسَلِينَ إِلا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الأَسْوَاقِ} أي وما أرسلنا قبلك يا محمد أحداً من الرسل إِلا وهم يأكلون ويشربون ويتجولون في الأسواق للتكسب والتجارة، فتلك هي سنة المرسلين من قبلك فلم ينكرون ذلك عليك ؟ وهو جواب عن قولهم {مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الأَسْوَاقِ} ؟ {وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ}أي جعلنا بعض الناس بلاءً لبعض ومحنة، ابتلى الله الغنيَّ بالفقير، والشريف بالوضيع، والصحيح بالمريض ليختبر صبركم وإِيمانكم أتشكرون أم تكفرون ؟ قال الحسن: يقول الأعمى لو شاء الله لجعلني بصيراً مثل فلان، ويقول الفقير لو شاء الله لجعلني غنياً مثل فلان، ويقول السقيم: لو شاء الله لجعلني صحيحاً مثل فلان {وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا} أي عالماً بمن يصبر أو يجزع، وبمن يشكر أو يكفر.





طلب المشركين إنزال الملائكةُ عليهم أو رؤية الله والإخبار بإحباط أعمالهم



{وَقَالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءنَا لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا لَقَدْ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا(21)يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ لا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَحْجُورًا(22)وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا(23)أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلاً(24)}.



المنَاسَبَة:

لما حكى تعالى إِنكار المشركين لنبوة محمد عليه السلام وتكذيبهم للقرآن، أعقبه بذكر بعض جرائمهم الأخرى، ثم ذكر قصص بعض الأنبياء وما حلَّ بأقوامهم المكذبين تسلية لرسول الله عليه الصلاة والسلام.



{وَقَالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءنَا} أي قال المشركون الذين لا يرجون لقاء الله، ولا يخشون عقابه لتكذيبهم بالبعث والنشور {لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكةُ} أي هلاّ نزلت الملائكة علينا فأخبرونا بصدق محمد {أَوْ نَرَى رَبَّنَا} أي أو نرى الله عياناً فيخبرنا أنك رسوله قال أبو حيان: وهذا كله على سبيل التعنت وإِلا فما جاءهم به من المعجزات كافٍ لو وُفّقوا { لَقَدْ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنفُسِهِمْ} أي تكبروا في شأن أنفسهم حين تفوهوا بمثل هذه العظيمة، وطلبوا ما لا ينبغي {وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا} أي تجاوزوا الحدَّ في الظلم والطغيان، حتى بلغوا أقصى العتو وغاية الاستكبار {يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ لا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ} أي يوم يرى المشركون الملائكة حين تنزل لقبض أرواحهم وقت الاحتضار لن يكون للمجرمين يومئذٍ بشارة تسرهم بل لهم الخيبة والخسران {وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَحْجُورًا} أي تقول الملائكة لهم: حرام ومحرم عليكم الجنة والبُشرى والغفران قال ابن كثير: وذلك يصدق على وقت الاحتضار حين تبشرهم الملائكة بالنار، فتقول للكافر عند خروج روحه: أُخرجي أيتها النفس الخبيثة في الجسد الخبيث، أُخرجي إِلى سمومٍ وحميم وظلٍ من يحموم فتأبى الخروج وتتفرق في البدن فيضربونه بمقامع الحديد، بخلاف المؤمنين حال احتضارهم فإِنهم يُبشرون بالخيرات وحصول المسرات {تَتَنَزَّلُ عَلَيْهمْ الْمَلائِكَةُ أَلا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ} أي عمدنا إِلى أعمال الكفار التي يعتقدونها براً كإِطعام المساكين وصلة الأرحام ويظنون أنها تقربهم إِلى الله {فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا} أي جعلناه مثل الغبار المنثور في الجو، لأنه لا يعتمد على أساس ولا يستند على إِيمان قال الطبري: أي جعلناه باطلاً لأنهم لم يعملوه لله، وإِنما عملوه للشيطان، والهباء هو الذي يُرى كهيئة الغبار إِذا دخل ضوء الشمس من كوة، والمنثور المتفرق وقال القرطبي: إِن الله أحبط أعمالهم بسبب الكفر حتى صارت بمنزلة الهباء المنثور {أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا} لما بيَّن تعالى حال الكفار وأنهم في الخسران الكلي والخيبة التامة، شرح وصف أهل الجنة وأنهم في غاية السرور والحبور، تنبيهاً على أن السعادة كل السعادة في طاعة الله عز وجل، ومعنى الآية: أصحابُ الجنة يوم القيامة خيرٌ من الكفار مستقراً ومنزلاً ومأوى {وَأَحْسَنُ مَقِيلاً} أي وأحسنُ منهم مكاناً للتمتع وقت القيلولة وهي الاستراحة نصف النهار، فالمؤمنون في الآخرة في الفردوس والنعيم المقيم، والكفار في دركات الجحيم قال ابن مسعود: "لا ينتصف النهار من يوم القيامة حتى يقيل أهل الجنة في الجنة، وأهل النار في النار".





هول يوم القيامة ورهبته



{وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنزِيلاً(25)الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَانِ وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرًا(26)وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً(27)يَا وَيْلَتِي لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلانًا خَلِيلاً(28)لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلإِنسَانِ خَذُولاً(29)}.



سبب النزول:

أخرج ابن جرير عن ابن عباس قال: كان أُبيّ بن خَلَف يحضر النبي صلى الله عليه وسلم، فيزجره عقبة بن أبي مُعَيط، فنزل: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ} إلى قوله: {مَخْذُولاً}.

وفي رواية: كان عقبة بن أبي مُعَيْط يكثر مجالسة النبي صلى الله عليه وسلم، فدعاه إلى ضيافته، فأبى أن يأكل طعامه حتى ينطق بالشهادتين، ففعل، وكان أبي بن خلف صديقه، فعاتبه، وقال : صبأت ؟! فقال: لا، ولكن أبى أن يأكل من طعامي، وهو في بيتي، فاستحييت منه، فشهدت له، فقال: لا أرضى منك إلا أن تأتيه، فتطأ قفاه، وتبزق في وجهه، فوجده ساجداً في دار الندوة، ففعل ذلك، فقال صلى الله عليه وسلم: "لا ألقاك خارجاً من مكة إلا علوتُ رأسَك بالسيف" فأسر يوم بدر، فأمر علياً فقتله، وطعن أُبياً بأحد في المبارزة، فرجع إلى مكة ومات يقول: {يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً}.

قال الضحاك: لما بزق عقبة في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، عاد بزاقه في وجهه، فتشعب شعبتين، فأحرق خديه، وكان أثر ذلك فيه حتى الموت.



{وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ} أي واذكر ذلك اليوم الرهيب يوم تتشقَّق السماء وتنفطر عن الغمام الذي يُسود الجو ويُظلمه ويغم القلوب مرآه لكثرته وشدة ظلمته {وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنزِيلاً} أي ونزلت الملائكة فأحاطت بالخلائق في المحشر {الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَانِ} أي الملك في ذلك اليوم لله الواحد القهار، الذي تخضع له الملوك، وتعنو له الوجوه، وتذل له الجبابرة، لا مالك يومئذٍ سواه كقوله {لِمَنْ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} {وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرًا} أي وكان ذلك اليوم صعباً شديداً على الكفار قال أبو حيان: ودل قوله {عَلَى الْكَافِرِينَ} على تيسيره على المؤمنين ففي الحديث (إِنه يهون حتى يكون على المؤمن أخف عليه من صلاةٍ مكتوبة صلاها في الدنيا) {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ} أي واذكر يوم يندم ويتحسر الظالم على نفسه لما فرَّط في جنب الله، وعضُّ اليدين كنايةٌ عن الندم والحسرة، والمراد بالظالم "عُقبة بن أبي معيط" كما في سبب النزول، وهي تعمُّ كل ظالم قال ابن كثير: يخبر تعالى عن ندم الظالم الذي فارق طريق الرسول صلى الله عليه وسلم وسلك سبيلاً غير سبيل الرسول، فإذا كان يوم القيامة ندم حيث لا نفعه الندم، وعضَّ على يديه حسرةً وأسفاً، وسواءٌ كان نزولها في "عقبة بن معيط" أو غيره من الأشقياء فإِنها عامةٌ في كل ظالم {يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً} أي يقول الظالم يا ليتني اتبعتُ الرسول فاتخذت معه طريقاً إِلى الهدى ينجيني من العذاب {يَا وَيْلَتِي لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلانًا خَلِيلاً} أي يا هلاكي وحسرتي يا ليتني لم أصاحب فلاناً واجعله صديقاً لي، ولفظ {فُلان} كناية عن الشخص الذي أضلَّه وهو "أُبي بن خلف" قال القرطبي: وكنى عنه ولم يصرّح باسمه ليتناول جميع من فعل مثل فعله {لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنْ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي} أي لقد أضلني عن الهدى والإِيمان بعد أن اهتديت وآمنت ثم قال تعالى {وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلإِنسَانِ خَذُولاً} أي يُضله ويُغويه ثم يتبرأ منه وقت البلاء فلا ينقذه ولا ينصره.





هجر الكفار للقرآن ومطالبتهم بإنزاله دفعة واحدة

{وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا(30)وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا(31)وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً(32)وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا(33)الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ إِلَى جَهَنَّمَ أُوْلَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ سَبِيلاً(34)}.



سبب النزول:

نزول الآية(32):

أخرج ابن أبي حاتم والحاكم وصححه، والضياء في المختارة عن ابن عباس قال: قال المشركون: إن كان محمد صلى الله عليه وسلم، كما يزعم نبياً، فلِمَ يعذبُه ربه، ألا ينزل عليه القرآن جملة واحدة، فينزل عليه الآية والآيتين، فأنزل الله: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً}.



{وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا} لما أكثر المشركون الطعن في القرآن ضاق صدر الرسول صلى الله عليه وسلم وشكاهم إِلى الله والمعنى: قال محمد يا رب إِنَّ قريشاً كذبت بالقرآن ولم تؤمن به وجعلته وراء ظهورها متروكاً وأعرضوا عن استماعه قال المفسرون: وليس المقصود من حكاية هذا القول الإِخبار بما قال المشركون بل المقصود منها تعظيم شكايته، وتخويف قومه، لأن الأنبياء إِذا التجأوا إِلى الله وشكوا قومهم حل بهم العذاب ولم يمهلوا {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنْ الْمُجْرِمِينَ} أي كما جعلنا لك أعداء من مشركي قومك جعلنا لكل نبي عدواً من كفار قومه، والمراد تسلية النبي صلى الله عليه وسلم بالتأسي بغيره من الأنبياء {وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا} وكفى أن يكون ربك يا محمد هادياً لك وناصراً لك على أعدائك فلا تبال بمن عاداك {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا} أي وقال كفار مكة {لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً} أي هلاَّ نزل هذا القرآن على محمد دفعة واحدة كما نزلت التوراة والإِنجيل ؟ قال تعالى ردّاً على شبهتهم التافهة {كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ} أي كذلك أنزلناه مفرقاً لنقوي قلبك على تحمله فتحفظه وتعمل بمقتضى ما فيه {وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً} أي فصَّلنا تفصيلاً بديعاً قال قتادة : أي بينَّاه وقال الرازي: الترتيلُ في الكلام أن يأتي بعضه على إِثر بعض على تُؤدة وتمهل، وأصل الترتيل في الأسنان وهو تفلجها وقال الطبري: الترتيلُ في القراءة الترسُّلُ والتثبتُ يقول: علمناكه شيئاً بعد شيء حتى تحفظه {وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ} أي ولا يأتيك هؤلاء الكفار بحجةٍ أو شبهةٍ للقدح فيك أو في القرآن إِلا أتيناك يا محمد بالحق الواضح، والنور الساطع لندمغ به باطلهم {وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا} أي أحسن بياناً وتفصيلاً، ثم ذكر تعالى حال هؤلاء المشركين المكذبين للقرآن فقال {الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ إِلَى جَهَنَّمَ} أي يُسْحبون ويجُرُّون إِلى النار على وجوههم {أُوْلَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ سَبِيلاً} أي هم شر منزلاً ومصيراً، وأخْطأ ديناً وطريقاً وفي الحديث "قيل يا رسول الله: كيف يُحشر الكافر على وجهه يوم القيامة ؟ فقال: إِن الذي أمشاه على رجليه قادر على أن يمشيه على وجهه يوم القيامة".



قصص بعض الأنبياء وجزاء المكذب بهم



{وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَا مَعَهُ أَخَاهُ هَارُونَ وَزِيرًا(35)فَقُلْنَا اذْهَبَا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَدَمَّرْنَاهُمْ تَدْمِيرًا(36)وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْنَاهُمْ وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً وَأَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ عَذَابًا أَلِيمًا(37)وَعَادًا وَثَمُودَ وَأَصْحَابَ الرَّسِّ وَقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا(38)وَكُلاً ضَرَبْنَا لَهُ الأَمْثَالَ وَكُلاً تَبَّرْنَا تَتْبِيرًا(39)وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَهَا بَلْ كَانُوا لا يَرْجُونَ نُشُورًا(40)}.



ثم ذكر تعالى قصص الأنبياء تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم وإِرهاباً للمكذبين فقال {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ} أي والله لقد أعطينا موسى التوراة {وَجَعَلْنَا مَعَهُ أَخَاهُ هَارُونَ وَزِيرًا} أي وأعنَّاه بأخيه هارون فجعلناه وزيراً يناصره ويُؤآزره {فَقُلْنَا اذْهَبَا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا} أي اذهبا إلى فرعون وقومه بالآيات الباهرات، والمعجزات الساطعات {فَدَمَّرْنَاهُمْ تَدْمِيرًا} أي فأهلكناهم إِهلاكاً لمّا كذبوا رسلنا {وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْنَاهُمْ وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً} أي وأغرقنا قوم نوح بالطوفان لمّا كذبوا رسولهم نوحاً وجعلناهم عبرةً لمن يعتبر قال أبو السعود: وإِنما قال الرسل بالجمع مع أنهم كذَّبوا نوحاً وحده لأن تكذيبه تكذيبٌ للجميع لاتفاقهم على التوحيد والإِسلام {وَأَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ عَذَابًا أَلِيمًا} أي وأعددنا لهم في الآخرة عذاباً شديداً مؤلماً سوى ما حلَّ بهم في الدنيا {وَعَادًا وَثَمُودَ وَأَصْحَابَ الرَّسِّ} أي وأهلكنا عاداً وثمود وأصحاب البئر الذين انهارت بهم قال البيضاوي: وأصحابُ الرس قومٌ كانوا يعبدون الأصنام فبعث الله إِليهم شعيباً فكذبوه فبينما هم حول الرس - وهي البئر غير المطوية - انهارت فخسفت بهم وبديارهم {وَقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا} أي وأمماً وخلائق كثيرين لا يعلمهم إِلا الله بين أولئك المكذبين أهلكناهم أيضاً {وَكُلاً ضَرَبْنَا لَهُ الْأَمْثَالَ} أي وكلاً من هؤلاء بيّنا لهم الحجج، ووضحنا لهم الأدلة إِعذاراً وإِنذاراًً {وَكُلاً تَبَّرْنَا تَتْبِيرًا} أي أهلكناه إِهلاكاً، ودمرناه تدميراً، لمّا لم تنجع فيهم المواعظ {وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ} أي ولقد مرَّت قريش مراراً في متاجرهم إِلى الشام على تلك القرية التي أُهلكت بالحجارة من السماء وهي قرية "سدوم" عُظمى قرى قوم لوط {أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَهَا}؟ توبيخٌ لهم على تركهم الاتعاظ والاعتبار أي أفلم يكونوا في أسفارهم يرونها فيعتبروا بما حلَّ بأهلها من العذاب والنكال بسبب تكذيبهم لرسولهم ومخالفتهم لأوامر الله ؟ قال ابن عباس: كانت قريشٌ في تجارتهم إلى الشام تمر بمدائن قوم لوط كقوله تعالى {وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ} {بَلْ كَانُوا لا يَرْجُونَ نُشُورًا} أي إِنهم لا يعتبرون لأنهم لا يرجون معاداً يوم القيامة.



سبب النزول:

نزول الآية(41):

روي أن هذه الآية نزلت في أبي جهل، فإنه كان إذا مرّ رسول الله صلى الله عليه وسلم مع صحبه قال مستهزئاً: {أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولاً}؟.



المنَاسَبَة:

لما ذكر تعالى شبهات المشركين حول القرآن والرسول، وردَّ عليهم بالحجج الدامغة، والبراهين القاطعة، ذكر هنا طرفاً من استهزائهم وسخريتهم بالرسول فلم يقتصروا على تكذيبه بل زادوا عليه بالاستهزاء والاحتقار، ثم ذكر الأدلة على وحدانيته تعالى وقدرته.



استهزاء المشركين بالنبي صلى الله عليه وسلم ورمي دعوته بالضلال



{وَإِذَا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولاً(41)إِنْ كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا لَوْلا أَنْ صَبَرْنَا عَلَيْهَا وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذَابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلاً(42)أَرَأَيْتَ مَنْ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً(43)أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلا كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً(44)}.



{وَإِذَا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلا هُزُوًا} أي وإِذا رآك المشركون يا محمد ما يتخذونك إِلا موضع هزء وسخرية {أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولاً} أي قائلين بطريق التهكم والاستهزاء: أهذا الذي بعثه الله إِلينا رسولاً ؟ {إِنْ كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا لَوْلا أَنْ صَبَرْنَا عَلَيْهَا} أي إِن كاد ليصرفنا عن عبادة آلهتنا لولا أن ثبتنا عليها واستمسكنا بعبادتها قال تعالى رداً عليهم {وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذَابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلاً} وعيد وتهديد أي سوف يعلمون في الآخرة عند مشاهدة العذاب من أخطأ طريقاً وأضل ديناً أَهُمْ أم محمد ؟ {أَرَأَيْتَ مَنْ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} تعجيبٌ من ضلال المشركين أي أرأيت من جعل هواه إِلهاً كيف يكون حاله ؟ قال ابن عباس: كان الرجل من المشركين يعبد حجراً فإذا رأى حجراً أحسن منه رماه وأخذ الثاني فعبده {أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً} أي حافظاً تحفظه من اتباع هواه ؟ ليس الأمر لك قال أبو حيان: وهذا تيئيسٌ من إِيمانهم، وإِشارةٌ للرسول عليه السلام ألا يتأسف عليهم، وإِعلامٌ أنهم في الجهل بالمنافع وقلة النظر في العواقب مثل البهائم {أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ}؟ أي أتظن أن هؤلاء المشركين يسمعون ما تقول لهم سماع قبول ؟ أو يعقلون ما تورده عليهم من الحجج والبراهين الدالة على الوحدانية فتهتم بشأنهم وتطمع في إِيمانهم؟ {إِنْ هُمْ إِلا كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً} أي ما هم إِلا كالبهائم بل هم أبشع حالاً، وأسوأ مالاً من الأنعام السارحة، لأن البهائم تهتدي لمراعيها، وتنقاد لأربابها وتعرف من يحسن إِليها، وهؤلاء لا ينقادون لربهم ولا يعرفون إِحسانه إِليهم.



دلائل وجود الله وتوحيده



{أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلاً(45)ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضًا يَسِيرًا(46)وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ اللَّيْلَ لِبَاسًا وَالنَّوْمَ سُبَاتًا وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا(47)وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا(48)لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَامًا وَأَنَاسِيَّ كَثِيرًا(49)وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلا كُفُورًا(50) وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيرًا(51)فَلا تُطِعْ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا(52)وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَحْجُورًا(53)وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا(54)}.



ثم ذكر تعالى أنواعاً من الدلائل الدالة على وحدانيته وكمال قدرته فقال {أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ} أي ألم تنظر إِلى بديع صنع الله وقدرته كيف بسط تعالى الظلَّ ومدَّه وقت النهار حتى يستروح الإِنسان بظل الأشياء من حرارة الشمس المتوهجة ؟ إِذ لولا الظلُّ لأحرقت الشمس الإِنسان وكدَّرت حياته {وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا} أي لو أراد سبحانه لجعله دائماً ثابتاً في مكانٍ لا يزول ولا يتحول عنه، ولكنه بقدرته ينقله من مكان إِلى مكان، ومن جهةٍ إلى جهة، فتارة يكون جهة المشرق، وتارة جهة المغرب، وأُخرى من أمام أو خلف{ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلاً} أي جعلنا طلوع الشمس دليلاً على وجود الظل، فلولا وقوع ضوئها على الأجرام لما عرف أن للظل وجوداً، ولما ظهرت آثار هذه النعمة الجليلة للعباد، والأشياء إِنما تُعرف بأضدادها فلولا الظلمة ما عُرف النور، ولولا الشمسُ ما عرف الظل "وبضدها تتميز الأشياء" {ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضًا يَسِيرًا} أي أزلنا هذا الظلَّ شيئاً فشيئاً وقليلاً قليلاً لا دفعة واحدة لئلا تختل المصالح قال ابن عباس: الظلُّ من وقت طلوع الفجر إِلى وقت طلوع الشمس قال المفسرون: الظلُّ هو الأمر المتوسط بين الضوء الخالص والظلمة الخالصة، وهو يحدث على وجه الأرض منبسطاً فيما بين ظهور الفجر إلى طلوع الشمس، ثم إِن الشمس تنسخه وتزيله شيئاً فشيئاً، إلى الزوال، ثم هو ينسخ ضوء الشمس من وقت الزوال إلى الغروب ويسمى فَيْئاً، ووجه الاستدلال به على وجود الصانع الحكيم أن وجوده بعد العدم، وعدمه بعد الوجود، وتغير أحواله بالزيادة والنقصان، والانبساط والتقلص، على الوجه النافع للعباد لا بدَّ له من صانع قادر، مدبر حكيم، يقدر على تحريك الأجرام العلوية، وتدبير الأجسام الفلكية وترتيبها على الوصف الأحسن، والترتيب الأكمل وما هو إِلا الله رب العالمين. ثم أشار تعالى إِلى آثار قدرته، وجليل نعمته الفائضة على الخلق فقال {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ اللَّيْلَ لِبَاسًا} أي هو سبحانه الذي جعل لكم الليل كاللباس يستركم بظلامه كما يستركم اللباس بزينته قال الطبري: وصف الليل باللباس تشبيهاً من حيث إنه يستر الأشياء فصار لهم ستراً يستترون به كما يستترون بالثياب التي يكسونها {وَالنَّوْمَ سُبَاتًا} أي وجعل النوم راحةً لأبدانكم بانقطاعكم عن أعمالكم {وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا} أي وقتاً لانتشار الناس فيه لمعايشهم، ومكاسبهم، وأسباب رزقهم {وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ} أي أرسل الرياح مبشرة بنزول الغيث والمطر { وَأَنزَلْنَا مِنْ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا} أي أنزلنا من السحاب الذي ساقته الرياح ماءً طاهراً مطهّراً تشربون وتتطهرون به قال القرطبي: وصيغة {طَهُور} بناء مبالغة في "طاهر" فاقتضى أن يكون طاهراً مطهّراً {لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا} أي لنحيي بهذا المطر أرضاً ميتةً لا زرع فيها ولا نبات {وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَامًا وَأَنَاسِيَّ كَثِيرًا} أي وليشرب منه الحيوان والإِنسان لأن الماء حياة كل حيّ، والناس محتاجون إِليه غاية الحاجة لشربهم وزروعهم وسقي مواشيهم قال الإِمام الفخر الرازي: وتنكير الأنعام والأناسي لأن حياة البشر بحياة أرضهم وأنعامهم، وأكثر الناس يجتمعون في البلاد القريبة من الأودية والأنهار، فهم في غنية عن شرب مياه المطر، وكثيرٌ منهم نازلون في البوادي فلا يجدون المياه للشرب إِلا عند نزول المطر ولهذا قال {أَنْعَامًا وَأَنَاسِيَّ كَثِيرًا} أي بشراً كثيرين لأن "فعيل" يراد به الكثرة {وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا} أي ضربنا الأمثال في هذا القرآن للناس وبيَّنا فيه الحجج والبراهين ليتفكروا ويتدبروا {فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلا كُفُورًا} أي أبى الكثير من البشر إِلا الجحود والتكذيب {وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيرًا} أي لو أردنا لخففنا عنك أعباء النبوة فبعثنا في كل أهل قرية نبياً ينذرهم، ولكنا خصصناك بالبعثة إلى جميع الأرض إِجلالاً لك، وتعظيماً لشأنك، فقابل هذا الإِجلال بالثبات والاجتهاد في الدعوة وإِظهار الحق {فَلا تُطِعْ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا} أي فلا تطع الكفار فيما يدعونك إِليه من الكفّ عن آلهتهم، وجاهدهم بالقرآن جهاداً كبيراً بالغاً نهايته لا يصاحبه فتور {وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ} أي هو تعالى بقدرته خلى وأرسل البحرين متجاورين متلاصقين بحيث لا يتمازجان {هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ} أي شديد العذوبة قاطع للعطش من فرط عذوبته {وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ} أي بليغ الملوحة، مرُّ شديد المرارة {وَجَعلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا} أي جعل بينهما حاجزاً من قدرته لا يغلب أحدهما على الآخر {وَحِجْرًا مَحْجُورًا} أي ومنعاً من وصول أثر أحدهما إِلى الآخر وامتزاجه به قال ابن كثير: معنى الآية أنه تعالى خلق الماءين: الحلو والمالح، فالحلو كالأنهار والعيون والآبار، والمالح كالبحار الكبار التي لا تجري، وجعل بين العذب والمالح حاجزاً وهو اليابس من الأرض، ومانعاً من أن يصل أحدهما إِلى الآخر، وهذا اختيار ابن جرير وقال الرازي: ووجه الاستدلال ههنا بينّ لأن الحلاوة والملوحة إِن كانت بسبب طبيعة الأرض أو الماء فلا بدَّ من الاستواء، وإِن لم يكن كذلك فلا بدَّ من قادر حكيم يخص كل واحد بصفة معينة {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنْ الْمَاءِ بَشَرًا} أي خلق من النطفة إِنساناً سميعاً بصيراً {فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا}أي قسمهم من نطفة واحدة قسمين: ذوي نسب أي ذكوراً ينسب إليهم لأن النسب إلى الأباء كما قال الشاعر:

" فإنما أمهات الناس أوعية مستودعات وللآباء أبناء " وإِناثاً يُصاهر بهن، فبالنسب يتعارفون ويتواصلون، وبالمصاهرة تكون المحبة والمودة واجتماع الغريب بالقريب {وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا} أي مبالغاً في القدرة حيث خلق من النطفة الواحدة ذكراً وأنثى.



عبادة المشركين الأوثان وعبادة المؤمنين الرحمن



{وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنفَعُهُمْ وَلا يَضُرُّهُمْ وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيرًا(55)وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا(56)قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلا مَنْ شَاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً(57)وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا(58)الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَانُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا(59) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَانِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَانُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُورًا(60) تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا(61)وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا(62)}.



ولما شرح دلائل التوحيد عاد إِلى تهجين سيرة المشركين في عبادة الأوثان فقال {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنفَعُهُمْ وَلا يَضُرُّهُمْ} أي يعبدون الأصنام التي لا تنفع ولا تضر لأنها جمادات لا تُحسُّ ولا تُبصر ولا تعقل {وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيرًا} أي معيناً للشيطان على معصية الرحمن، لأنَّ عبادته للأصنام معاونة للشيطان قال مجاهد: يظاهر الشيطان على معصية الله ويُعينه {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا} أي مبشراً للمؤمنين بجنات النعيم، ومنذراً للكافرين بعذاب الجحيم {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ} أي قل لهم يا محمد لا أسألكم على تبليغ الرسالة أجراً { إِلا مَنْ شَاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً} أي لكن من شاء أن يتخذ طريقاً يقربه إِلى الله بالإِيمان والعمل الصالح فليفعل كأنه يقول: لا أسألكم مالاً ولا أجراً وإِنما أسألكم الإِيمان بالله وطاعته وأجري على الله {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ} أي اعتمد في جميع أمورك على الواحد الأحد، الدائم الباقي الذي لا يموت أبداً، فإِنه كافيك وناصرك ومظهر دينك على سائر الأديان {وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ} أي نزّه الله تعالى عمّا يصفه هؤلاء الكفار مما لا يليق به من الشركاء والأولاد {وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا} أي حسبك أن الله مطَّلع على أعمال العباد لا يخفى عليه شيء منها قال الإِمام الفخر الرازي: وهذه الكلمة يراد بها المبالغة كقولهم: كفى بالعلم جمالاً، وكفى بالأدب مالاً، وهي بمعنى حسبك أي لا تحتاج معه إلى غيره لأنه خبيرٌ بأحوالهم، قادر على مجازاتهم، وذلك وعيدٌ شديد {الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ} أي هذا الإِله العظيم الذي ينبغي أن تتوكل عليه هو القادر على كل شيء، الذي خلق السماوات السبع في ارتفاعها واتساعها، والأرضين في كثافتها وامتدادها في مقدار ستة أيام من أيام الدنيا قال ابن جبير: الله قادر على أن يخلقها في لحظة ولكن علَّم خلقه الرفق والتثبت {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْش} استواءً يليق بجلالة من غير تشبيه ولا تعطيل {الرَّحْمَانُ} أي هو الرحمن ذو الجود والإِحسان {فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا} أي فسلْ عنه من هو خبيرٌ عارف بجلاله ورحمته، وقيل: الضمير يعود إلى الله أي فاسأل اللهَ الخبيرَ بالأشياء، العالم بحقائقها يطلعك على جليَّة الأمر {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَانِ} أي وإِذا قيل للمشركين اسجدوا لربكم الرحمن الذي وسعت رحمته الأكوان {قَالُوا وَمَا الرَّحْمَانُ}؟ أي من هو الرحمن؟ استفهموا عنه استفهام من يجهله وهم عالمون به { أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا} أي أنسجد لما تأمرنا بالسجود له من غير أن نعرفه؟ {وَزَادَهُمْ نُفُورًا} أي وزادهم هذا القول بعداً عن الدين ونفوراً منه.



المنَاسَبَة:

لما ذكر إعراض المشركين عن عبادة الرحمن أعقبها بذكر آياته الكونية الدالة على الوحدانية، ثم ختم السورة الكريمة بذكر صفات عباد الرحمن التي استحقوا بها دخول الجنان.

{تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا} أي تمجَّد وتعظَّم الله الذي جعل في السماء تلك الكواكب العِظام المنيرة {وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا} أي وجعل فيها الشمس المتوهجة في النهار، والقمر المضيء بالليل {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً} أي يخلف كلٌّ منهما الآخر ويتعاقبان، فيأتي النهار بضيائه ثم يعقبه الليل بظلامه {لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ} أي لمن أراد أن يتذَّكر آلاء الله، ويتفكر في بدائع صنعه {أَوْ أَرَادَ شُكُورًا} أي أراد شكر الله على أفضاله ونعمائه قال الطبري: جعل الله الليل والنهار يخلف كل واحدٍ منهما الآخر، فمن فاته شيء من الليل أدركه النهار، ومن فاته شيء من النهار أدركه بالليل.







صفات عباد الرحمن



{ وَعِبَادُ الرَّحْمَانِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا(63)وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا(64)وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا(65)إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا(66)وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا(67)وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا(68)يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا(69)إِلا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا(70)وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا(71)وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا(72) وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا(73)وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا(74)أُوْلَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلامًا(75)خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا(76)قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلا دُعَاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا(77)}.



سبب النزول:

نزول الآية(68):

{وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ}: أخرج الشيخان عن ابن مسعود قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم، أي الذنب أعظمُ ؟ قال: "أن تجعل لله نِدّاً، وهو خَلقَك"، قلتُ: ثم أي ؟ قال: "أن تقتلَ ولدَك مخافةَ أن يَطْعم معك"، قلت: ثم أي ؟ قال: "أن تُزاني حليلة جارك" فأنزل الله تصديقها: {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ} الآية.

وأخرج الشيخان عن ابن عباس: أن ناساً من أهل الشرك قَتَلوا فأكثروا، وزنوا فأكثروا، ثم أتوا محمداً صلى الله عليه وسلم، فقالوا: إن الذي تقول وتدعو إليه لحسن، لو تخبرنا أن لِما عملنا كفارة؟ فنزلت: {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ} إلى قوله: {غفوراً رحيماً}. ونزل: {قُلْ يَا عِبَادِي الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ} الآية [الزمر: 53].



سبب نزول الآية(70):

{إِلا مَنْ تَابَ}: أخرج البخاري وغيره عن ابن عباس قال: لما أنزلت في الفرقان: {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ} الآية، قال مشركو أهل مكة: قد قتلنا النفس بغير حق، ودعونا مع الله إلهاً آخر، وآتينا الفواحش، فنزلت: {إِلا مَنْ تَابَ} الآية.

{وَعِبَادُ الرَّحْمَانِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا} الإِضافة للتشريف أي العباد الذين يحبهم الله وهم جديرون بالانتساب إليه هم الذين يمشون على الأرض في لين وسكينة ووقار، لا يضربون بأقدامهم أشراً ولا بطراً، ولا يتبخترون في مشيتهم {وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا} أي وإِذا خاطبهم السفهاء بغلظةٍ وجفاءً قالوا قولاً يسْلمون من الإِثم قال الحسن: لا يجهلون على أحد، وإِن جُهل عليهم حَلُموا {وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا} أي يُحْيون الليل بالصلاة ساجدين لله على جباههم، أو قائمين على أقدامهم كقوله {كَانُوا قَلِيلاً مِنْ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ} قال الرازي: لما ذكر سيرتهم في النهار من وجهين: ترك الإِيذاء، وتحمل الأذى بيَّن هنا سيرتهم في الليالي وهو اشتغالهم بخدمة الخالق {وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ} أي يدعون ربهم أن ينجيهم من عذاب النار، ويبتهلون إليه أن يدفع عنهم عذابها {إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا} أي لازماً دائماً غير مفارق {إِنَّهَا سَاءتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا} أي بئست جهنم منزلاً ومكان إقامة قال القرطبي: المعنى بئس المستقر وبئس المقام، فهم مع طاعتهم مشفقون خائفون من عذاب الله، وقال الحسن: خشعوا بالنهار وتعبوا بالليل فرَقاً من عذاب جهنم {وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا} هذا هو الوصف الخامس من أوصاف عباد الرحمن والمعنى: ليسوا مبذرين في إِنفاقهم في المطاعم والمشارب والملابس، ولا مقصِّرين ومضيِّقين بحيث يصبحون بخلاء {وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا} أي وكان إنفاقُهم وسطاً معتدلاً بين الإِسراف والتقتير كقوله تعالى {وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ} الآية وقال مجاهد: "لو أنفقت مثل جبل أبي قُبيس ذهباً في طاعة الله ما كان سَرفاً، ولو أنفقت صاعاً في معصية الله كان سرفاً فيقال: عملت يوم كذا وكذا ، كذا وكذا فيقول: نعم. لا يستطيع أن ينكر وهو مشفق من كبار ذنوبه {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ} أي لا يعبدون معه تعالى إلهاً آخر، بل يوحّدونه مخلصين له الدين {وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ} أي لا يقتلون النفس التي حرَّم الله قتلها إلا بما يحقُّ أن تُقتل به النفوس من كفرٍ بعد إيمان، أو زنىً بعد إحصان، أو القتل قِصاصاً {وَلا يَزْنُونَ} أي لا يرتكبون جريمة الزنى التي هي أفحش الجرائم {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا} أي ومن يقترف تلك الموبقات العظيمة من الشرك والقتل والزنى يجد في الآخرة النكال والعقوبة ثم فسَّرها بقوله {يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} أي يُضاعف عقابُه ويُغلَّظ بسبب الشرك وبسبب المعاصي {وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا} أي يُخلد في ذلك العذاب حقيراً ذليلاً أبد الآبدين {إِلا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحًا} أي إلاّ من تاب في الدنيا التوبة النصوح وأحسن عمله {فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ} أي يكرمهم الله في الآخرة فيجعل مكان السيئات حسنات وفي الحديث (إني لأعلم آخر أهل الجنة دخولاً الجنة، وآخر أهل النار خروجاً منها، رجلٌ يُؤتى به يوم القيامة فيقال: اعرضوا عليه صغار ذنوبه وارفعوا عنه كبارها، فتعرض عليه صغار ذنوبه فيقال له: فإِنَّ لك مكانَ كل سيئةٍ حسنة فيقول يا رب: قد عملتُ أشياء لا أراها ههنا، قال فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بدتْ نواجذه) {وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} أي واسع المغفرة كثير الرحمة {وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا} أي ومن تاب عن المعاصي وأصلح سيرته فإِن الله يتقبل توبته ويكون مرضياً عند الله تعالى {وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ} هذا هو الوصف السابع من أوصاف عباد الرحمن أي لا يشهدون الشهادة الباطلة - شهادة الزور - التي فيها تضييعٌ لحقوق الناس {وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا} أي وإِذا مرُّوا بمجالس اللغو - وهي الأماكن التي يكون فيها العمل القبيح كمجالس اللهو، والسينما، والقمار، والغناء المحرَّم - مرُّوا معرضين مكرمين أنفسهم عن أمثال تلك المجالس قال الطبري: واللغوُ كلُّ كلامٍ أو فعلٍ باطل وكلُّ ما يُستقبح كسبّ الإِنسان، وذكر النكاح باسمه في بعض الأماكن، وسماعِ الغناءِ مما هو قبيح، كلُّ ذلك يدخل في معنى اللغو الذي يجب أن يجتنبه المؤمن {وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ} أي إِذا وُعظوا بآيات القرآن وخُوّفوا بها {لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا} أي لم يُعرضوا عنها بل سمعوها بآذانٍ واعية وقلوبٍ وجلة {وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ } أي اجعل لنا في الأزواج والبنين مسرةً وفرحاً بالتمسك بطاعتك، والعمل بمرضاتك {وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا} أي اجعلنا قُدوة يقتدي بنا المتقون، دعاةً إلى الخير هُداة مهتدين قال ابن عباس: أي أئمة يقتدى بنا في الخير {أُوْلَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا} أي أولئك المتصفون بالأوصاف الجليلة السامية ينالون الدرجات العالية، بصبرهم على أمر الله وطاعتهم له سبحانه {وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلامًا} أي ويُتلقَّون بالتحية والسلام من الملائكة الكرام كقوله تعالى {وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ* سَلامٌ عَلَيْكُمْ} الآية {خَالِدِينَ فِيهَا} أي مقيمين في ذلك النعيم لا يموتون ولا يُخْرجون من الجنَّة لأنها دار الخلود {حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا} أي ما أحسنها مقراً وأطيبها منزلاً لمن اتقى الله {قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلا دُعَاؤُكُمْ} أي قل لهم يا محمد: لا يكترثُ ولا يحفلُ بكم ربي لولا تضرعكم إليه واستغاثتكم إيّاه في الشدائد {فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا} أي فقد كذبتم أيها الكافرون بالرسول والقرآن فسوف يكون العذاب ملازماً لكم في الآخرة.

yacine414
2011-03-26, 18:01
سورة الشعراء



التِســميَـة

تكذيب المشركين للقرآن، إظهار دلائل وحدانيته تعالى

قصة موسى وهارون عليهما السلام مع فرعون

مجادلة موسى فرعون في إثبات وجود الله

وصف فرعون معجزة موسى عليه السلام بالسحر

إيمان السحرة بالله في المبارزة بينهم وبين موسى

نجاة موسى وقومه وغرق فرعون وجنوده

قصة إبراهيم عليه السلام وتنديده بعبادة الأصنام

إخلاص إبراهيم عليه السلام في دعائه

صورة شاملة ليوم القيامة، وتخاصم المشركين فيما بينهم

قصة نوح عليه السلام مع قومه

قصة هود عليه السلام

قصة صالح عليه السلام

قصة لوط عليه السلام

قصة شعيب عليه السلام

تنزيل القرآن من رب العالمين

أدب الدعاة في الدعوة

تنزُّل الشياطين على الكذبة الفَسقَة







بَين يَدَي السُّورَة



* سورة الشعراء مكية وقد عالجت أصول الدين من "التوحيد، والرسالة، والبعث" شأنها شأن سائر السور المكية، التي تهم بجانب العقيدة وأصول الإِيمان.



* ابتدأت السورة الكريمة بموضوع القرآن العظيم الذي أنزله الله هدايةً للخلق، وبلْسماً شافياً لأمراض الإِنسانية، وذكرت موقف المشركين منه، فقد كذبوا به مع وضوح آياته، وسطوع براهينه، وطلبوا معجزة أُخرى غير القرآن الكريم عناداً واستكباراً.



* ثم تحدثت السورة عن طائفةٍ من الرسل الكرام، الذين بعثهم الله لهداية البشرية، فبدأت بقصة الكليم "موسى" مع فرعون الطاغية الجبار، وما جرى من المحاورة والمداورة بينهما في شأن الإِله جلَّ وعلا، وما أيَّد به موسى من الحجة الدامغة التي تقصم ظهر الباطل، وقد ذكرت في القصة حلقات جديدة، انتهت ببيان العظة والعبرة من الفارق الهائل، بين الإِيمان والطغيان.



* ثم تناولت قصة الخليل إبراهيم عليه السلام، وموقفه من قومه وأبيه في عبادتهم للأوثان والأصنام، وقد أظهر لهم بقوة حجته، ونصاعة بيانه، بطلان ما هم عليه من عبادة ما لا يسمع ولا ينفع، وأقام لهم الأدلة القاطعة على وحدانية رب العالمين، الذي بيده النفع والضر، والإِحياء والإِماتة.



* ثم تحدثت السورة عن المتقين والغاوين، والسعداء والأشقياء، ومصير كلٍ من الفريقين يوم الدين.

* وبعد أن تابعت السورة في ذكر قصص الأنبياء "نوح، وهود، وصالح، ولوط، وشعيب" عليهم الصلاة والسلام، وبيَّنت سنة الله في معاملة المكذبين لرسله، عادت للتنويه بشأن الكتاب العزيز، تفخيماً لشأنه، وبياناً لمصدره {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ * نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ *عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنْ الْمُنذِرِينَ *بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ}.



* ثم ختمت السورة بالرد على افتراء المشركين، في زعمهم أن القرآن من تنزل الشياطين، ليتناسق البدء مع الختام في أروع تناسق والتئام ‍‍.



التِسميَة:

سميت "سورة الشعراء" لأن الله تعالى ذكر فيها أخبار الشعراء، وذلك للرد على المشركين في زعمهم أن محمداً كان شاعراً، وأن ما جاء به من قبيل الشعر، فردَّ الله عليهم ذلك الكذب والبهتان بقوله {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمْ الْغَاوُونَ * أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ * وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ}؟ وبذلك ظهر الحق وبان.



تكذيب المشركين للقرآن، إظهار دلائل وحدانيته تعالى



{طسم(1)تِلْكَ ءايات الْكِتَابِ الْمُبِينِ(2)لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ(3)إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ(4)وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمَانِ مُحْدَثٍ إِلا كَانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ(5)فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون(6) أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ(7)إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ(8)وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ(9)}.



{طسم} إشارة إلى إعجاز القرآن الكريم وأنه مركب من أمثال هذه الحروف الهجائية {تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ} أي هذه آيات القرآن الواضح الجلي، الظاهر إعجازه لمن تأمله {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} أي لعلك يا محمد مُهلِكٌ نفسك لعدم إِيمان هؤلاء الكفار، فيه تسلية للرسول عليه السلام حتى لا يحزن ولا يتأثر على عدم إيمانهم {إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنْ السَّمَاءِ آيَةً} أي لو شئنا لأنزلنا آية من السماء تضطرهم إلى الإِيمان قهراً {فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ} أي فتظل أعناقهم منقادةً خاضعة للإِيمان قسراً وقهراً، ولكنْ لا نفعل لأنا نريد أن يكون الإِيمان اختياراً لا اضطراراً قال الصاوي: المعنى لا تحزن على عدم إيمانهم فلو شئنا إيمانهم لأنزلنا معجزة تأخذ بقلوبهم فيؤمنون قهراً عليهم، ولكنْ سبق في علمنا شقاؤهم فأرحْ نفسك من التعب {وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ الرَّحْمَانِ} أي ما يأتي هؤلاء الكفار شيء من القرآن أو الوحي منزلٍ من عند الرحمن {مُحْدَثٍ} أي جديد في النزول، ينزل وقتاً بعد وقت {إِلا كَانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ} أي إلاّ كذبوا به واستهزءوا ولم يتأملوا ما فيه من المواعظ والعِبَر {فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون} أي فقد بلغوا النهاية في الإِعراض والتكذيب فسوف يأتيهم عاقبة ما كذبوا واستهزؤوا به، ثم نبّه تعالى على عظمة سلطانه، وجلالة قدره في مخلوقاته ومصنوعاته، الدالة على وحدانيته وكمال قدرته فقال {أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ} أي أولم ينظروا إلى عجائب الأرض كم أخرجنا فيها من كل صنفٍ حسنٍ محمود، كثير الخير والمنفعة ؟ والاستفهام للتوبيخ على تركهم الاعتبار {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً} أي إِنَّ في ذلك الإِنبات لآيةً باهرة تدل على وحدانية الله وقدرته {وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ} أي وما كان أكثرهم يؤمن في علم الله تعالى، فمع ظهور الدلائل الساطعة يستمر أكثرهم على كفرهم {وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} أي هو سبحانه الغالب القاهر، القادر على الانتقام ممن عصاه، الرحيم بخلقه حيث أمهلهم ولم يعجّل لهم العقوبة مع قدرته عليهم قال أبو العالية: العزيز في نقمته ممن خالف أمره وعبَد غيره، الرحيم بمن تاب إليه وأناب وقال الفخر الرازي: إنما قدم ذكر {الْعَزِيزُ} على {الرَّحِيمُ} لأنه ربما قيل: إنه رحمهم لعجزه عن عقوبتهم، فأزال هذا الوهم بذكر العزيز وهو الغالب القاهر، ومع ذلك فإنه رحيم بعباده، فإن الرحمة إذا كانت مع القدرة الكاملة كانت أعظم وقعاً.



قصة موسى وهارون عليهما السلام مع فرعون



{وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى أَنْ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ(10)قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلا يَتَّقُونَ(11)قَالَ رَبِّ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ(12)وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلا يَنْطَلِقُ لِسَانِي فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ(13)وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ(14)قَالَ كَلا فَاذْهَبَا بِآيَاتِنَا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ(15) فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ(16)أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ(17)قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ(18)وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ(19)قَالَ فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ(20)فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْمًا وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ(21)وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ(22)}.



{وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى} أي واذكر يا محمد لأولئك المعرضين المكذبين من قومك حين نادى ربك نبيَّه موسى من جانب الطور الأيمن آمراً له أن يذهب إلى فرعون وملئه {أَنْ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} أي بأن ائت هؤلاء الظالمين الذين ظلموا أنفسهم بالكفر والمعاصي، واستعباد الضعفاء من بني إسرائيل {قَوْمَ فِرْعَوْنَ} أي هم قوم فرعون، وهو عطف بيان كأن القوم الظالمين وقوم فرعون شيء واحد {أَلا يَتَّقُونَ} ؟ أي ألا يخافون عقاب الله ؟ وفيه تعجيب من غلوهم في الظلم وإِفراطهم في العدوان {قَالَ رَبِّ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ} أي قال موسى يا ربّ إني أخاف أن يكذبوني في أمر الرسالة {وَيَضِيقُ صَدْرِي} أي ويضيق صدري من تكذيبهم إياي {وَلا يَنْطَلِقُ لِسَانِي} أي ولا ينطلق لساني بأداء الرسالة على الوجه الكامل {فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ} أي فأرسلْ إلى هارون ليعينني على تبليغ رسالتك قال المفسرون: التمس موسى العذر بطلب المعين بثلاثة أعذار كلُّ واحدٍ منها مرتب على ما قبله وهي: خوف التكذيب، وضيق الصدر، وعدم انطلاق اللسان، فالتكذيبُ سببٌ لضيق القلب، وضيقُ القلب سببٌ لتعسر الكلام، وبالأخص على من كان في لسانه حُبْسة كما في قوله {وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي يَفْقَهُوا قَوْلِي} ثم زاد اعتذاراً آخر بقوله {وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ} أي ولفرعون وقومه عليَّ دعوى ذنب وهو أني قتلت منهم قبطياً فأخاف أن يقتلوني به {قالَ كَلا} أي قال الله تعالى له: كلاّ لن يقتلوك قال القرطبي: وهو ردعٌ وزجر عن هذا الظن، وأمرٌ بالثقة بالله تعالى أي ثقْ بالله وانزجر عن خوفك منهم فإنهم لا يقدرون على قتلك {فَاذْهَبَا بِآيَاتِنَا} أي اذهب أنت وهارون بالبراهين والمعجزات الباهرة {إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ} أي فأنا معكما بالعون والنصرة أسمع ما تقولان وما يجيبكما به، وصيغةُ الجمع "معكم" أريد بها التثنية فكأنهما لشرفهما عند الله عاملهما في الخطاب معاملة الجمع تشريفاً لهما وتعظماً {فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ} أي فائتيا فرعون الطاغية وقولا له: إنا مرسلان من عند رب العالمين إليك لندعوك إلى الهدى {أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ} أي أطلقْ بني إسرائيل من إسارك واستعبادك وخلِّ سبيلهم حتى يذهبوا معنا إلى الشام {قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا} في الكلام حذف يدل عليه المعنى تقديره: فأتياه فبلغاه الرسالة فقال فرعون لموسى عندئذٍ: ألم نربك في منازلنا صبياً صغيراً ؟ قصد فرعون بهذا الكلام المنَّ على موسى والاحتقار له كأنه يقول: ألست أنت الذي ربيناك صغيراً وأحسنّا إليك فمتى كان هذا الأمر الذي تدّعيه؟ {وَلَبثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ} أي ومكثت بين ظهرانينا سنين عديدة نحسن إليك ونرعاك قال مقاتل: ثلاثين سنة {وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ} أي فجازيتنا على أن ربيناك أن كفرت نعمتنا وقتلتَ منا نفساً ؟ والتعبيرُ بالفعلة لتهويل الواقعة وتعظيم الأمر، ومرادهُ قتل القبطي {وَأَنْتَ مِنْ الْكَافِرِينَ} أي وأنت من الجاحدين لإِنعامنا الكافرين بإِحساننا قال ابن عباس: من الكافرين لنعمتي إذ لم يكن فرعون يعلم ما الكفر {قَالَ فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنْ الضَّالِّينَ} أي قال موسى: فعلتُ تلك الفعلة وأنا من المخطئين لأنني لم أتعمد قتله ولكن أردت تأديبه، ولم يقصد عليه السلام الضلال عن الهدى لأنه معصوم منذ الصغر وقال ابن عباس: {وَأَنَا مِنْ الضَّالِّينَ} أي الجاهلين {فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ} أي فهربتُ إلى أرض مدين حين خفت على نفسي أن تقتلوني وتؤاخذوني بما لا أستحقه {فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْمًا} أي فأعطاني الله النبوة والحكمة {وَجَعَلَنِي مِنْ الْمُرْسَلِينَ} أي واختارني رسولاً إليك، فإن آمنتَ سلمتَ، وإِن جحدتَ هلكتَ {وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ} أي كيف تمنُّ عليَّ بإِحسانك إليَّ وقد استعبدتَ قومي ؟ فما تعدُّه نعمة ما هو إلاّ نقمة قال ابن كثير: المعنى ما أحسنتَ إليَّ وربيتني مقابل ما اسأتَ إلى بني إسرائيل فجعلتهم عبيداً وخدماً، أوف في إحسانك إلى رجل واحد منهم بما أسأت إلى مجموعهم؟ وقال الطبري: أي أتمنُّ عليَّ أن اتخذت بني إسرائيل عبيداً.



مجادلة موسى فرعون في إثبات وجود الله



{قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ(23)قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إنْ كُنتُمْ مُوقِنِينَ(24)قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلا تَسْتَمِعُونَ(25)قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمْ الأَوَّلِينَ(26)قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ(27)قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ(28)قَالَ لَئِنْ اتَّخَذْتَ إِلَهًَا غَيْرِي لاجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ(29)قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ(30)قَالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ(31)}.



{قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ} أي قال فرعون متعالياً متكبراً: من هو هذا الذي تزعم أنه ربُّ العالمين؟ هل هناك إلهٌ غيري؟ لأنه كان يجحد الصانع ويقول لقومه {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} {قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا} أي قال موسى: هو خالق السماواتِ والأرض، والمتصرف فيهما بالإِحياء والإِعدام، وهو الذي خلق الأشياء كلها من بحار وقفار، وجبالٍ وأشجار، ونباتٍ وثمار، وغير ذلك من المخلوقات البديعة {إنْ كُنتُمْ مُوقِنِينَ} أي إن كانت لكم قلوب موقنة، وأبصارٌ نافذة، فهذا أمر ظاهر جلي {قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلا تَسْتَمِعُونَ} أي قال فرعون لمن حوله من أشراف قومه على سبيل التهكم والاستهزاء: ألا تسمعون جوابه وتعجبون من أمره ؟ أسأله عن حقيقة الله فيجيبني عن صفاته، فأجاب موسى وزاد في البيان والحجة {قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمْ الأَوَّلِينَ} أي هو خالقكم وخالق آبائكم الذين كانوا قبلكم، فوجودكم دليل على وجود القادر الحكيم، عدلَ عن التعريف العام إلى التعريف الخاص لأنَّ دليل الأنفس أقرب من دليل الآفاق، وأوضح عند التأمل {وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ} فعند ذلك غضب فرعون ونسب موسى إلى الجنون {قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ} سمَّاه رسولاً استهزاءً وأضافه إلى المخاطبين استنكافاً من نسبته له أي إن هذا الرسول لمجنون لا عقل له، أسأله عن شيء فيجيبني عن شيء، فلم يحفل موسى بسخرية فرعون وعاد إلى تأكيد الحجة بتعريفٍ أوضح من الثاني {قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ} أي هو تعالى الذي يطلع الشمس من المشرق ويجعلها تغرب من المغرب، وهذا مشاهد كل يوم يبصره العاقل والجاهل ولهذا قال {إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ} أي إن كان لكم عقول أدركتم أن هذا لا يقدر عليه إلا ربُّ العالمين، وهذا من أبلغ الحجج التي تقصم ظهر الباطل كقول إبراهيم في مناظرة النمرود {قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنْ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنْ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ} ولما انقطع فرعون وأُبلس في الحجة رجع إِلى الاستعلاء متوعداَ بالبطش والعنف {قَالَ لَئِنْ اتَّخَذْتَ إِلَهًَا غَيْرِي لاجْعَلَنَّكَ مِنْ الْمَسْجُونِينَ} أي لئن اتخذت رباً غيري لألقينك في غياهب السجن قال المفسرون: وكان سجنه شديداً يحبس الشخص في مكان تحت الأرض وحده لا يبصر ولا يسمع فيه أحداً حتى يموت ولهذا لم يقل "لأسجننَّك" وإنما قال لأجعلنك من المسجونين لأن سجنه كان أشدَّ من القتل قال ابن جزي: لما أظهر فرعونُ الجهل بالله فقال {وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ} أجابه موسى بقوله { رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} فقال { أَلا تَسْتَمِعُونَ}؟ تعجباً من جوابه، فزاد موسى في إقامة الحجة بقوله {رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمْ الأَوَّلِينَ} لأن وجود الإِنسان وآبائه أظهرُ الأدلة عند العقلاء، وأعظم البراهين، فإِن أنفسهم أقرب الأشياء إليهم فيستدلون بها على وجود خالقهم، فلما ظهرت هذه الحجة حاد فرعون عنها ونسب موسى إلى الجنون مغالطةً منه، وأيّده بالازدراء والتهكم في قوله {إِنَّ رَسُولَكُمْ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ} فزاد موسى في إقامة الحجة بقوله {رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ} لأن طلوع الشمس وغروبها آية ظاهرة لا يمكن لأحدٍ جحدها ولا أن يدعيها لغير الله، فلما انقطع فرعون بالحجة رجع إلى الاستعلاء والتغلب فهدَّده بالسجن، فأقام موسى عليه الحجة بالمعجزة وذكرها له بتلطف طمعاً في إِيمانه {قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ} أي أتسجنني ولو جئتك بأمرٍ ظاهرٍ، وبرهان قاطع تعرف به صدقي؟ {قَالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنْ الصَّادِقِينَ} أي فائت بما تقول إن كنت صادقاً في دعواك.



وصف فرعون معجزة موسى عليه السلام بالسحر



{فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ(32)وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ(33)قَالَ لِلْمَلإ حَوْلَهُ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ(34)يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ(35)قَالُوا أَرْجِهِ وَأَخَاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ(36)يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ(37)}.



{فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ} أي رمى موسى عصاه فإِذا هي حية عظيمة في غاية الجلاء والوضوح، ذات قوائم وفم كبير وشكل هائل مزعج {وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ} أي وأخرج يده من جيبه فإِذا هي تتلألأ كالشمس الساطعة، لها شعاع يكادُ يعشي الأبصار ويسدُّ الأفق {قَالَ لِلْمَلإ حَوْلَهُ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ} أي قال فرعون لأشراف قومه الذين كانوا حوله : إن هذا لساحرٌ عظيم بارعٌ في فنِّ السحر .. أراد أن يُعمِّي على قومه تلك المعجزة برميه بالسحر خشية أن يتأثروا بما رأوا {يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ} أي يريد أن يستولي على بلادكم بسحره العظيم {فَمَاذَا تَأْمُرُونَ} أي فبأي شيء تأمروني وبمَ تشيرون عليَّ أن أصنع به ؟ لما رأى فرعون تلك الآيات الباهرة خاف على قومه أن يتبعوه، فتنزَّل إلى مشاورتهم بعد أن كان مستبداً بالرأي والتدبير {قَالُوا أَرْجِهِ وَأَخَاهُ} أي أخِّرْ أمرهما {وَابْعَثْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ} أي وأرسل في أطراف مملكتك من يجمع لك السحرة من كل مكان {يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ} أي يجيئوك بكل ساحر ماهر، عليم بضروب السحر قال ابن كثير: وكان هذا من تسخير الله تعالى ليجتمع الناس في صعيد واحد، وتظهر آيات الله وحججه وبراهينه على الناس في النهار جهرة.



إيمان السحرة بالله في المبارزة بينهم وبين موسى



{فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ(38)وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ(39)لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كَانُوا هُمْ الْغَالِبِينَ(40)فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالُوا لِفِرْعَوْنَ أَئِنَّ لَنَا لأجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ(41)قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذًا لَمِنْ الْمُقَرَّبِينَ(42)قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ(43)فَأَلْقَوْا حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقَالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ(44)فَأَلْقَى مُوسَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ(45)فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ(46)قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ(47)رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ(48)قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمْ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لأقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلأصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ(49)قَالُوا لا ضَيْرَ إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ(50)إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ(51)}.



{فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ} أي فاجتمع السحرة للموعد المحدَّد وهو وقت الضحى من يوم الزينة، وهو الوقت الذي حدَّده موسى، ليظهر الحق ويزهق الباطل على رؤوس الأشهاد كما قال تعالى {قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى} {وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كَانُوا هُمْ الْغَالِبِينَ} أي قيل للناس: بادروا إلى الاجتماع لكي نتبع السحرة في دينهم إن غلبوا موسى {فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالُوا لِفِرْعَوْنَ أَئِنَّ لَنَا لأجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ} أي إن غلبنا بسحرنا موسى فهل تكرمنا بالمال والأجر الجزيل ؟ {قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذًا لَمِنْ الْمُقَرَّبِينَ} أي قال لهم فرعون: نعم أعطيكم ما تريدون وأجعلكم من المقربين عندي ومن خاصة جلسائي {قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ} في الكلام إيجاز دلَّ عليه السياق تقديره: فقالوا لموسى عن ذلك إمَّا أن تُلقي وإِما أن نكون الملقين كما ذكر في الأعراف فأجابهم موسى بقوله {أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ} أي ابدءوا بإِلقاء ما تريدون فأنا لا أخشاكم، قاله ثقةً بنصرة الله له وتوسلاً لإِظهار الحقِّ {فَأَلْقَوْا حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقَالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ} أي فألقوا ما بأيديهم من الحبال والعصي وقالوا عند الإِلقاء نقسم بعظمة فرعون وسلطانه إنّا نحن الغالبون لموسى {فَأَلْقَى مُوسَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ} أي فألقى موسى العصا فانقلبت حية عظيمة فإِذا هي تبتلع وتزدرد الحبال والعصي التي اختلقوها باسم السحر حيث خيلوها للناس حياتٍ تسعى، وسمّى تلك الأشياء إفكاً مبالغةً {فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ} أي سجدوا للهِ رب العالمين، بعدما شاهدوا البرهان الساطع، والمعجزة الباهرة {قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ *رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ} أي وقالوا عند سجودهم آمنا بالله العزيز الكبير الذي يدعونا إليه موسى وهارون قال الطبري: لما تبيّن للسحرة أن الذي جاءهم به موسى حقٌّ لا سحر، وأنه مما لا يقدر عليه غيرُ الله الذي فطر السماوات والأرض، خرّوا لوجوههم سجداً لله مذعنين له بالطاعة قائلين: آمنا برب العالمين الذي دعانا موسى لعبادته، دون فرعون وملئه {قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ } أي قال فرعون للسحرة: آمنتم لموسى قبل أن تستأذنوني ؟ {إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمْ السِّحْرَ} أي إنه رئيسكم الذي تعلمتم منه السحر وتواطأتم معه ليظهر أمره، أراد فرعون بهذا الكلام التلبيس على قومه لئلا يعتقدوا أن السحرة آمنوا عن بصيرة وظهور حق قال ابن كثير: وهذه مكابرة يعلم كل أحدٍ بطلانها، فإِنهم لم يجتمعوا بموسى قبل ذلك اليوم، فكيف يكون كبيرهم الذي أفادهم صناعة السحر ؟ هذا لا يقوله عاقل، ثم توعَّدهم بقوله {فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} أي سوف تعلمون عند عقابي وبال ما صنعتم من الإِيمان به {لأقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ} أي لأقطعنَّ يد كل واحد منكم اليمنى ورجله اليسرى {وَلأصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ} أي ولأصلبنَّ كل واحد منكم على جذع شجرة وأتركه حتى الموت {قالوا لا ضير إنا إلى ربنا منقلبون} أي لا ضرر علينا في وقوع ما أوعدتنا به، ولا نبالي به لأننا نرجع إلى ربنا مؤملين غفرانه {إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا} أي إنا نرجو أن يغفر لنا الله ذنوبنا التي سلفت منا قبل إيماننا به فلا يعاقبنا بها {أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ} أي بسبب أن بادرنا قومنا إلى الإِيمان وكنا أول من آمن بموسى.



المنَاسَبَة:

ذكر الله سبحانه وتعالى في هذه السورة سبع قصص: أولها قصة موسى وهارون، وثانيها قصة إبراهيم، وثالثها قصة نوح، ورابعها قصة هود، وخامسها قصة صالح وسادسها قصة لوط وسابعها قصة شعيب، وكل تلك القصص لتسلية الرسول صلى الله عليه وسلم عما يلقاه من المشركين، ولا تزال الآيات تتحدث عن قصة موسى عليه السلام.



نجاة موسى وقومه وغرق فرعون وجنوده



{وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ(52)فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ(53)إِنَّ هَؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ(54)وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ(55)وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ(56)فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ(57)وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ(58)كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ(59)فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ(60)فَلَمَّا تَرَاءَ الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ(61)قَالَ كَلا إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ (62)فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ(63)وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الآخَرِينَ(64)وَأَنْجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ(65)ثُمَّ أَغْرَقْنَا الآخَرِينَ(66)إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ(67)وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ(68)}.



{وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي} أي أمرنا موسى بطريق الوحي أن يسير ليلاً إلى جهة البحر ببني إسرائيل قال القرطبي: أمر الله موسى أن يخرج ببني إسرائيل ليلاً، وسمّاهم عباده لأنهم آمنوا بموسى {إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ} أي يتبعكم فرعون وقومه ليردُّوكم إلى أرض مصر ويقتلوكم {فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ} أي أرسل فرعون في طلبهم حين أخبر بمصيرهم وأمر أن يُجمع له الجيش من كل المُدُن قائلاً لهم {إِنَّ هَؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ} أي طائفة قليلة قال الطبري: كان بنو إسرائيل ستمائة وسبعين ألفاً ولكنه قلَّلهم بالنسبة إلى كثرة جيشه {وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ} أي وإِنهم يفعلون أفعالاً تغيظنا وتضيق صدورنا {وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ} أي ونحن قوم متيقظون منتبهون، من عادتنا التيقظ والحذر، واستعمالُ الحزم في الأمور قال الزمخشري: وهذه معاذير اعتذر بها إلى قومه لئلا يُظنَّ به ما يكسر من قهره وسلطانه، قال تعالى {فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ} أي أخرجنا فرعون وقومه من بساتين كانت لهم وأنهار جارية {وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ} أي وأخرجناهم من الأموال التي كنزوها من الذهب والفضة، ومن المنازل الحسنة والمجالس البهية {كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ} أي مثل ذلك الإِخراج الذي وضعناه فعلنا بهم، وأورثنا بني إسرائيل ديارهم وأموالهم بعد إغراق فرعون وقومه {فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ} أي فلحقوهم وقت شروق الشمس {فَلَمَّا تَرَاء الْجَمْعَانِ} أي فلما رأى كلٌّ منهما الآخر، والمراد جمعُ موسى وجمع فرعون {قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ} أي مُلحقون يلحقنا فرعون وجنوده فيقتلوننا، قالوا ذلك حين رأوا فرعون الجبار وجنوده وراءهم، والبحر أمامهم، وساءت ظنُونهُم {قَالَ كَلا} أي قال موسى كلاَّ لن يدركوكم فارتدعوا عن مثل هذا الكلام وانزجروا {إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ} إنَّ ربي معي بالحفظ والنصرة، وسيهديني إلى طريق النجاة والخلاص قال الرازي: قوَّى نفوسهم بأمرين: أحدهما بأن ربه معه وهذا دلالة على النصرة والتكفل بالمعونة، والثاني قوله {سَيَهْدِينِ} أي إلى طريق النجاة والخلاص، وإِذا دلَّه على طريق نجاته وهلاك أعدائه فقد بلغ النهاية في النصرة {فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ} أي أمرنا موسى بطريق الوحي أن يضرب البحر بعصاه {فَانفَلَقَ} أي فضربه فانشق وانفلق {فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ} أي فكان كل جزء منه كالجبل الشامخ الثابت قال ابن عباس : صار فيه اثنا عشر طريقاً لكل سبطٍ منهم طريق {وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الآخَرِينَ} أي وقربنا هناك فرعون وجماعته حتى دخلوا البحر على إثر دخول بني إسرائيل {وَأَنْجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ} أي أنجينا موسى والمؤمنين معه جميعاً {ثُمَّ أَغْرَقْنَا الآخَرِينَ} أي أغرقنا فرعون وقومه قال المفسرون: لما انفلق البحر جعله الله يبَساً لموسى وقومه، وصار فيه اثنا عشر طريقاً ووقف الماء بينها كالطود العظيم، فلما خرج أصحاب موسى وتكامل دخول أصحاب فرعون أمر الله البحر أن يطبق عليهم فغرقوا فيه، فقال بعض أصحاب موسى: ما غرق فرعون ! فنبذ على ساحل البحر حتى نظروا إليه {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً} أي إنَّ في إغراق فرعون وقومه لعبرة عظيمة على إِنجاء الله لأوليائه، وإِهلاكه لأعدائه {وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ} أي ومع مشاهدة هذه الآية العظمى لم يؤمن أكثر البشر، وفيه تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم ووعيدٌ لمن عصاه {وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} أي المنتقم من أعدائه الرحيم بأوليائه.



قصة إبراهيم عليه السلام وتنديده بعبادة الأصنام



{وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ(69)إِذْ قَالَ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ(70)قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ(71)قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ(72)أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ(73)قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ(74)قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ(75)أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ الأَقْدَمُونَ(76)فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلا رَبَّ الْعَالَمِينَ(77)الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ(78)وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ(79)وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ(80)وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ(81)وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ(82)}.



{وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ} هذه بداية قصة إبراهيم أي اقصص عليهم يا محمد خبر إبراهيم وشأنه العظيم {إِذْ قَالَ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ} أي حين قال لأبيه وعشيرته أيَّ شيءٍ تعبدون؟ سألهم مع علمه بأنهم يعبدون الأصنام ليبيّن لهم سفاهة عقولهم في عبادة ما لا ينفع، ويقيم عليهم الحجة {قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ} أي نعبد أصناماً فنبقى مقيمين على عبادتها لا نتركها، قالوا ذلك على سبيل الابتهاج والافتخار، وكان يكفيهم أن يقولوا: نعبد الأصنام ولكنهم زادوا في الوصف كالمفتخر بما يصنع {قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ} أي قال لهم إبراهيم على سبيل التبكيت والتوبيخ: هل يسمعون دعاءكم حين تلجأون إليهم بالدعاء؟ {أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ} أي وهل يبذلون لكم منفعة، أو يدفعون عنكم مضرة؟ {قَالُوا بَلْ وَجَدْنا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ} أي وجدنا آباءنا يعبدونهم ففعلنا مثلهم قال أبو السعود: اعترفوا بأنها لا تنفع ولا تضر بالمرَّة، واضطروا إلى إظهار الحقيقة وهي أنه لا سند لهم سوى التقليد، وهذا من علامات انقطاع الحجة {قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ * أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ الأَقْدَمُونَ} أي قال إبراهيم: أفرأيتم هذه الأصنام التي عبدتموها من دون الله أنتم وآباؤكم الأولون؟ {فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلا رَبَّ الْعَالَمِينَ} أي فإِن هذه الأصنام أعداء لي لا أعبدهم، ولكن أعبد الله ربَّ العالمين فهو وليي في الدنيا والآخرة، أسند العداوة لنفسه تعريضاً بهم وهو أبلغ في النصيحة من التصريح {الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ} أي اللهُ الذي خلقني هو الذي يهديني إلى طريق الرشاد لا هذه الأصنام {وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ} أي هو تعالى الذي يرزقني الطعام والشراب فهو الخالق الرازق الذي ساق المُزْن، وأنزل المطر، وأخرج به أنواع الثمرات رزقاً للعباد {وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} أي وإِذا أصابني المرض فإِنه لا يقدر على شفائي أحدٌ غيره، وأسند الشفاء إلى الله رعايةً للأدب، وإلاّ فالمرض والشفاء من الله جل وعلا فاستعمل في كلامه حسن الأدب {وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ} أي وهو تعالى المحيي المميت لا يقدر على ذلك أحد سواه، يميتني إذا شاء ثم يحييني إذا أراد بعد مماتي {وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ} أي أرجو من واسع رحمته أن يغفر لي ذنبي يوم الحساب والجزاء حيث يُجازي العباد بأعمالهم، وفيه تعليم للأمة أن يستغفروا من ذنوبهم ويقرُّوا بخطاياهم.



إخلاص إبراهيم عليه السلام في دعائه



{رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ(83)وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخِرِينَ(84)وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ(85)وَاغْفِرْ لأَبِي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ(86)وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ(87)يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ(88)إِلا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ(89)}.



{رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} أي هب لي الفهم والعلم وألحقني في زمرة عبادك الصالحين {وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ} أي اجعل لي ذكراً حسناً وثناءً عاطراً {فِي الآخِرِينَ} أي فيمن يأتي بعدي إلى يوم القيامة، أُذكر به ويُقتدى بي قال ابن عباس: هو اجتماعُ الأمم عليه، فكلُّ أمةٍ تتمسك به وتُعظّمه {وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ} أي من السعداء في الآخرة الذين يستحقون ميراث جنات الخُلد {وَاغْفِرْ لأَبِي} أي اصفح عنه واهده إلى الإِيمان {إِنَّهُ كَانَ مِنْ الضَّالِّينَ} أي ممن ضلَّ عن سبيل الهدى قال الصاوي: وقد أجابه الله تعالى في جميع دعواته سوى الدعاء بالغفران لأبيه وقال القرطبي: كان أبوه وعده أن يؤمن به فلذلك استغفر له، فلما بان له أنه لا يفي تبرأ منه {وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ} أي لا تُذلَّني ولا تُهِنِّي يومَ تبعث الخلائق للحساب، وهذا تواضعٌ منه أمام عظمة الله وجلاله وإلا فقد أثنى الله عليه بقوله {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً} الآية {يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ} أي في ذلك اليوم العصيب لا ينفع أحداً فيه مالٌ ولا ولد {إِلا مَنْ أَتَى اللَّهَ} أي إلا من جاء ربَّه في الآخرة {بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} أي بقلب نقيٍّ طاهر، سليم من الشرك والنفاق، والحسد والبغضاء، وإِلى هنا تنتهي دعوات الخليل إبراهيم ثم قال تعالى.



صورة شاملة ليوم القيامة، وتخاصم المشركين فيما بينهم



{وَأُزْلِفَتْ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ(90)وَبُرِّزَتْ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ(91)وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ(92)مِنْ دُونِ اللَّهِ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ(93) فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ(94)وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ(95)قَالُوا وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ(96)تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ(97)إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ(98)وَمَا أَضَلَّنَا إِلا الْمُجْرِمُونَ(99)فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ(100)وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ(101)فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ(102)إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ(103)وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ(104)}.



{وَأُزْلِفَتْ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ} أي قُرِّبت الجنةُ للمتقين لربهم ليدخلوها قال الطبري: وهم الذين اتقوا عقابَ الله بطاعتهم إيّاه في الدنيا {وَبُرِّزَتْ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ} أي وأُظهرت النارُ للمجرمين الضالين حتى رأوها بارزة أمامهم مكشوفة للعيان، فالمؤمنين يرون الجنة فتحصل لهم البهجة والسرور، والغاوون يرون جهنم فتحصل لهم المساءة والأحزان {وَقِيلَ لَهُمْ} أي قيل للمجرمين على سبيل التقريع والتوبيخ {أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ *مِنْ دُونِ اللَّهِ} أي أين آلهتكم الذي عبدتموهم من الأصنام والأنداد ؟ {هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ} أي هل ينقذونكم من عذاب الله، أو يستطيعون أن يدفعوه عن أنفسهم؟ وهذا كله توبيخ {فَكُبْكِبُوا فِيهَا} أي أُلقوا على رءوسهم في جهنم قال مجاهد: دُهوروا في جهنم وقال الطبري: رُمي بعضُهم على بعض، وطُرح بعضُهم على بعض منكبين على وجوههم {هُمْ وَالْغَاوُونَ} أي الأصنامُ والمشركون والعابدون والمعبودون كقوله {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ} {وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ} أي وأتباعُ إبليس قاطبة من الإِنس والجن {قَالُوا وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ} أي قال العابدون لمعبوديهم وهم في الجحيم يتنازعون ويتخاصمون {تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} أي نقسم بالله لقد كنا في ضلالٍ واضح وبعدٍ عن الحق ظاهر {إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} أي حين عبدناكم مع ربّ العالمين وجعلناكم مثله في استحقاق العبادة {وَمَا أَضَلَّنَا إِلا الْمُجْرِمُونَ} أي وما أضلنا عن الهدى إلاّ الرؤساء والكبراء الذين زينوا لنا الكفر والمعاصي {فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ} أي ليس لنا من يشفع لنا من هول هذا اليوم {وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ} أي ولا صديقٍ خالص الود ينقذنا من عذاب الله {فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً} أي لو أن رجعنا إلى الدنيا {فَنَكُونَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ} أي فنؤمن بالله ونحسن عملنا ونطيع ربنا {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً} أي إن فيما ذكر من نبأ إبراهيم وقومه لعبرةً يعتبر بها أولو الأبصار {وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ} أي وما كان أكثر هؤلاء المشركين الذين تدعوهم إلى الإِسلام بمؤمنين {وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} أي المنتقم من أعدائه، الرحيم بأوليائه.





قصة نوح عليه السلام مع قومه



{كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ(105)إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلا تَتَّقُونَ(106)إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ(107)فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ(108)وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِي إِلا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ(109)فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ(110)قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الأَرْذَلُونَ(111)قَالَ وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ(112)إِنْ حِسَابُهُمْ إِلا عَلَى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ(113)وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الْمُؤْمِنِينَ(114)إِنْ أَنَا إِلا نَذِيرٌ مُبِينٌ(115) قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ(116)قَالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ(117)فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحًا وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِي مِنَ الْمُؤْمِنِينَ(118)فَأَنجَيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ(119)ثُمَّ أَغْرَقْنَا بَعْدُ الْبَاقِينَ(120)إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ(121)وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ(122)}.



المنَاسَبَة:

لما قصَّ تعالى على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم خبر موسى وإِبراهيم أتبعه بذكر قصة نوح، وهود، وصالح، ولوط، وشعيب، وكلُّ ذلك تسليةٌ لرسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يلقاه من قومه، وبيانٌ لسنة الله في عقاب المكذبين.



{كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ} أي كذَّب قوم نوح رسولهم نوحاً، وإِنما قال {الْمُرْسَلِينَ} لأن من كذَّب رسولاً فقد كذب الرسل {إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ} أي أخوهم في النسب لا في الدين لأنه كان منهم قال الزمخشري: وهذا من قول العرب: يا أخا بني تميم يريدون واحداً منهم ومنه بيت الحماسة "لا يسألون أخاهم حين يندبهم" {أَلا تَتَّقُونَ} أي ألا تخافون عقاب الله في عبادة الأصنام ؟ {إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ} أي إني لكم ناصح، أمينٌ في نصحي لا أخون ولا أكذب {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ} أي خافوا عذابالله وأطيعوا أمري {وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ} أي لا أطلب منكم جزاءً على نصحي لكم {إِنْ أَجْرِي إِلا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ} أي ما أطلب ثوابي وأجري إلا من الله تعالى {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ} كرره تأكيداً وتنبيهاً على أهمية الأمر الذي دعاهم إليه {قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ} أي أنصدّقك يا نوح فيما تقول {وَاتَّبَعَكَ الأَرْذَلُونَ} أي والحال أن أتباعك هم السفلة والفقراء والضعفاء ؟ قال البيضاوي: وهذا من سخافة عقلهم وقصور رأيهم، فقد قصروا الأمر على حطام الدنيا حتى جعلوا اتّباع الفقراء له مانعاً عن اتباعهم وإِيمانهم بدعوة نوح {قَالَ وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} أي ليس عليَّ أن أبحث عن خفايا ضمائرهم، وأن أُنقّب عن أعمالهم هل اتبعوني إخلاصاً أو طمعاً؟ قال القرطبي: كأنهم قالوا: إِنما اتبعك هؤلاء الضعفاء طمعاً في العزة والمال فقال في جوابهم: إني لم أقف على باطن أمرهم وإِنما لي ظاهرهم {إِنْ حِسَابُهُمْ إِلا عَلَى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ} أي ما حسابهم وجزاؤهم إلا على الله فإِنه المطّلع على السرائر والضمائر لو تعلمون ذلك {وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الْمُؤْمِنِينَ} أي لست بمبعد هؤلاء المؤمنين الضعفاء عني، ولا بطاردهم عن مجلسي قال أبو حيان: وهذا مشعرٌ بأنهم طلبوا منه ذلك كما طلب رؤساء قريش من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يطرد من آمن من الضعفاء {إِنْ أَنَا إِلا نَذِيرٌ مُبِينٌ} أي ما أنا إلا نذير لكم من عذاب الله، أخوفكم بأسه وسطوته فمن أطاعني نجا سواءً كان شريفاً أو ضيعاً، أو جليلاً أو حقيراً {قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنْ الْمَرْجُومِينَ} أي لئن لم تنته عن دعوى الرسالة وتقبيح ما نحن عليه لتكوننَّ من المرجومين بالحجارة، خوفوه بالقتل بالحجارة فعند ذلك حصل اليأس لنوحٍ من فلاحهم فدعا عليهم {قَالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ} أي قال نوح يا رب إن قومي كذبوني ولم يؤمنوا بي {فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحًا} أي فاحكم بيني وبينهم بما تشاء، واقض بيننا بحكمك العادل {وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِي مِنْ الْمُؤْمِنِينَ} أي أنقذني والمؤمنين معي من مكرهم وكيدهم {فَأَنجَيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ} أي فأنجينا نوحاً ومن معه من المؤمنين في السفينة المملوءة بالرجال والنساء والحيوان {ثُمَّ أَغْرَقْنَا بَعْدُ الْبَاقِينَ} أي أغرقنا بعد إنجائهم الباقين من قومه {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً} أي لعبرة عظيمة لمن تفكر وتدبَّر {وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ} أي وما أكثر الناس بمؤمنين {وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} أي وإِن ربك يا محمد لهو الغالب الذي لا يُقهر، الرحيم بالعباد حيث لا يعاجلهم بالعقوبة.

yacine414
2011-03-26, 18:02
قصة هود عليه السلام



{كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ(123)إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلا تَتَّقُونَ(124)إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ(125)فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ(126)وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِي إِلا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ(127)أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ(128)وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ(129)وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ(130)فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ(131)وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ(132)أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ(133) وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ(134)إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ(135)قَالُوا سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْوَاعِظِينَ(136)إِنْ هَذَا إِلا خُلُقُ الأَوَّلِينَ(137)وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ(138)فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ(139)وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ(140)}.



ثم شرع تعالى في ذكر قصة "هود" فقال {كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ} أي كذبت قبيلة عاد رسولهم هوداً، ومن كذَّب رسولاً فقد كذب جميع المرسلين {إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلا تَتَّقُونَ} أي ألا تخافون عذاب الله وانتقامه في عبادتكم لغيره ‍! {إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ} أي أمينٌ على الوحي ناصح لكم في الدين {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ} أي فخافوا عذاب الله وأطيعوا أمري {وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِي إِلا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ} أي لا أطلب منكم على تبليغ الدعوة شيئاً من المال إِنما أطلب أجري من الله، كررت الآيات للتنبيه إلى أنَّ دعوةَ الرسل واحدة {أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ} ؟ استفهامٌ إنكاري أي أتبنون بكل موضع مرتفع من الطريق بناءً شامخاً كالعَلَم لمجرد اللهو والعبث ؟ قال ابن كثير: الريعْ المكان المرتفع كانوا يبنون عند الطرق المشهورة بنياناً محكماً هائلاً باهراً لمجرد اللهو واللعب وإِظهار القوة، ولهذا أنكر عليهم نبيُهم عليه السلام ذلك لأنه تضييعٌ للزمان، وإِتعابٌ للأبدان، واشتغالُ بما لا يُجدي في الدنيا ولا في الآخرة {وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ} أي وتتخذون قصوراً مشيَّدة محكمة ترجون الخلود في الدنيا كأنكم لا تموتون ؟ {وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ} أي وإِذا اعتديتم على أحد فعلتم فعل الجبارين من البطش دون رأفةٍ أو رحمة، وإِنما أنكر عليهم ذلك لأنه صادر عن ظلم عادة الجبابرة المتسلطين قال الفخر الرازي: وصفهم بثلاثة أمور: اتخاذ الأبنية العالية وهو يدل على السرف وحب العلو، واتخاذ المصانع - القصور المشيَّدة والحصون - وهو يدل على حب البقاء والخلود، والجبارية وهي تدل على حب التفرد بالعلو، وكلُّ ذلك يشير على أن حبَّ الدنيا قد استولى عليهم بحيث استغرقوا فيه حتى خرجوا عن حد العبودية، وحاموا حول ادعاء الربوبية، وحبُّ الدنيا رأسُ كل خطيئة {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ} أي خافوا الله واتركوا هذه الأفعال وأطيعوا أمري، ثم شرع يذكّرهم بنعم الله فقال {وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ} أي أنعم عليكم بأنواع النعم والخيرات {أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ * وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ} أي أعطاكم أصول الخيرات من المواشي، والبنين، والبساتين، والأنهار، وأغدق عليكم النعم فهو الذي يجب أن يُعْبد ويُشْكر ولا يُكفر {إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} أي أخشى عليكم إن لم تشكروا هذه النعم وأشركتم وكفرتم عذاب يومٍ هائل تشيب لهوله الولدان .. دعاهم إلى الله بالترغيب والترهيب، وبلغ في دعائهم بالوعظِ والتخويفِ النهاية القصوى في البيان فكان جوابهم {قَالُوا سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنْ الْوَاعِظِينَ} أي يستوي عندنا تذكيرك لنا وعدُمه، فلا نبالي بما تقول، ولا نرعوي عمّا نحن عليه قال أبو حيان: جعلوا قوله وعْظاً على سبيل الاستخفاف وعدم المبالاة بما خوَّفهم به إذ لم يعتقدوا صحة ما جاء به، وأنه كاذبٌ فيما ادَّعاه {إِنْ هَذَا إِلا خُلُقُ الأَوَّلِينَ} أي ما هذا الذي جئتنا به إلا كذبُ وخرافاتُ الأولين {وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ} أي لا بعث ولا جزاء ولا حساب ولا عذاب {فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْنَاهُمْ} أي فكذبوا رسولهم هوداً فأهلكناهم بريحٍ صرصرٍ عاتية قال ابن كثير: وكان إهلاكهم بالريح الشديدة الهبوب، ذات البرد الشديد وهي الريح الصرصر العاتية، وكان سبب إهلاكهم من جنسهم، فإِنهم كانوا أعتى شيءٍ وأجبره، فسلَّط الله عليهم ما هو أعتى منهم وأشدَّ، فحصبت الريح كل شيء حتى كانت تأتي الرجل منهم فتقتلعه، وترفعه في الهواء ثم تنكّسه على أم رأسه، فتشدخ رأسه ودماغه {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً} أي إن في إهلاكهم لعظة وعبرة {وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ} أي وما آمن أكثر الناس مع رؤيتهم للآيات الباهرة {وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} أي وإِن ربك يا محمد لهو العزيزُ في انتقامه من أعدائه، الرحيمُ بعبادة المؤمنين.



قصة صالح عليه السلام



{كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ(141)إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صَالِحٌ أَلا تَتَّقُونَ(142)إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ(143)فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ(144)وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِي إِلا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ(145)أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَاهُنَا آمِنِينَ(146)فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ(147)وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ(148)وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا فَارِهِينَ(149)فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ(150)وَلا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ(151) الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ(152)قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ(153)مَا أَنْتَ إِلا بَشَرٌ مِثْلُنَا فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ(154)قَالَ هَذِهِ نَاقَةٌ لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ(155)وَلا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ(156)فَعَقَرُوهَا فَأَصْبَحُوا نَادِمِينَ(157)فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ(158)وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ(159)}.



ثم شرع تعالى في ذكر قصة "صالح" فقال {كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ} أي كذبت قبيلة ثمود نبيَّهم "صالحاً" ومن كذَّب رسولاً فقد كذب جميع المرسلين {إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صَالِحٌ أَلا تَتَّقُونَ} ؟ ألا تخافون عذاب الله وانتقامه في عبادتكم غيره ! {إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ * فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ* وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِي إِلا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ} كررت الآيات للتنبيه على أن دعوة الرسل واحدة، فكل رسولٍ يذكِّر قومه بالغاية من بعثته ورسالته، وأنها لصالح البشر{أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَاهُنَا آمِنِينَ} أي أيترككم ربكم في هذه الدنيا آمنين، مخلَّدين في النعيم، كأنكم باقون في الدنيا بلا موت ؟ قال ابن عباس: كانوا معمَّرين لا يقى البنيان مع أعمارهم، قال القرطبي: ودل على هذا قولُه تعالى {وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا} فقرَّعهم صالح ووبَّخهم وقال: أتظنون أنكم باقون في الدنيا بلا موت {فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ} أي في بساتين وأنهار جاريات {وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ} أي وسهولٍ فسيحة فيها من أنواع الزروع والنخيل والرطب اللين ؟ أتتركون في كل ذلك النعيم دون حساب ولا جزاء قال المفسرون: كانت أرض ثمود كثيرة البساتين والماء والنخل فذكَّرهم صالحٌ بنعم الله الجليلة من إنبات البساتين والجنات، وتفجير العيون الجاريات، وإِخراج الزروع والثمرات، ومعنى "الهضيم" اللطيف الدقيق وهو قول عكرمة، وقال ابن عباس معناه: اليانع النضيج {وَتَنْحِتُونَ مِنْ الْجِبَالِ بُيُوتًا فَارِهِينَ} أي وتبنون بيوتاً في الجبال أشرين بطرين من غير حاجةٍ لسكناها قال الرازي: وظاهر هذه الآيات يدل على أنَّ الغالب على قوم "هود" هو اللذاتُ الخيالية وهي الاستعلاء، والبقاء، والتجبر، والغالب على قوم "صالح" هو اللذاتُ الحسية وهي طلب المأكول، والمشروب، والمساكن الطيبة وقال الصاوي: كانت أعمارهم طويلة فإِن السقوف والأبنية كانت تبلى قبل فناء أعمارهم، لأن الواحد منهم كان يعيش ثلاثمائة سنة إلى ألف {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ} أي فاتقوا عقاب الله وأطيعوني في نصيحتي لكم {وَلا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ} أي ولا تطيعوا أمر الكبراء المجرمين {الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ} أي الذين عادتهم الفساد في الأرض لا الإِصلاح قال الطبري: وهم الرهط التسعة الذين وصفهم الله بقوله {وكان في المدينة تسعةُ رهطٍ يُفسدون في الأرض ولا يُصلحون} {قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنْ الْمُسَحَّرِينَ} أي من المسحورين سُحرت حتى غُلب على عقلك قال المفسرون: والمُسحَّر مبالغةٌ من المسحور {مَا أَنْتَ إِلا بَشَرٌ مِثْلُنَا} أي لستَ يا صالح إلا رجلاً مثلنا، فكيف تزعم أنك رسول الله ؟ {فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنْ الصَّادِقِينَ} أي فائتنا بمعجزة تدل على صدقك {قَالَ هَذِهِ نَاقَةٌ} أي هذه معجزتي إليكم وهي الناقة التي تخرج من الصخر الأصم بقدرة الله قال المفسرون: روي أنهم اقترحوا عليه ناقة عُشراء - حامل - تخرج من صخرة معينة وتلد أمامهم، فقعد صالح عليه السلام يتفكر فجاءه جبريل فقال: صلِّ ركعتين وسلْ ربك الناقة ففعل، فخرجت الناقة وولدت أمامهم وبركت بين أيديهم فقال لهم هذه ناقة يا قوم {لَهَا شِرْبٌ وَلَكمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ} أي تشرب ماءكم يوماً، ويوماً تشربون أنتم الماء قال قتادة: إذا كان يوم شربها شربت ماءهم كلَّه، وشربهُم في اليوم الذي لا تشرب هي فيه، وتلك آيةٌ أخرى {وَلا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ} أي لا تنالوها بأيِّ ضرر بالعقر أو بالضرب {فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ} أي فيصيبكم عذاب من الله هائل لا يكاد يوصف قال ابن كثير: حذَّرهم نقمة الله إن أصابوها بسوء، فمكثت الناقة بين أظهرهم حيناً من الدهر، تردُ الماء وتأكل الورق والمرعى، وينتفعون بلبنها يحلبون منها ما يكفيهم شرباً وريَّاً، فلما طال عليهم الأمد وحضر أشقاهم تمالؤوا على قتلها وعقرها {فَعَقَرُوهَا فَأَصْبَحُوا نَادِمِينَ} أي فقتلوها رمياً بالسهام، رماها أشقاهم - قُدار بن سالف - بأمرهم ورضاهم فأصبحوا نادمين على قتلها خوف العذاب قال الفخر الرازي: لم يكن ندمهم ندم التائبين، لكن ندم الخائفين من العذاب العاجل {فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ} أي العذاب الموعود، وكان صيحةً خمدت لها أبدانهم، وانشقت لها قلوبهم، وزُلزلت الأرض تحتهم زلزالاً شديداً، وصُبَّت عليهم حجارة من السماء فماتوا عن آخرهم {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً} أي لعظةً وعبرة لمن عقل وتدبَّر {وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} تقدم تفسيرها فيما سبق.



قصة لوط عليه السلام



{كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ(160)إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلا تَتَّقُونَ(161)إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ(162)فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ(163)وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِي إِلا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ(164)أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ(165)وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ(166)قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ(167)قَالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقَالِينَ(168)رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ(169)فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ(170)إِلا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ(171)ثُمَّ دَمَّرْنَا الآخَرِينَ(172)وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنذَرِينَ(173)إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ(174)وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ(175)}.



ثم شرع تعالى في ذكر قصة "لوط" فقال {كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ} أي كذبوا رسولهم لوطاً {إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلا تَتَّقُونَ} أي ألا تخافون عقاب الله وانتقامه في عبادتكم غيره ! {إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ * فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ* وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِي إِلا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ} نفسُ الكلمات والألفاظ التي قالها من قبلُ صالحٌ، وهودٌ، ونوح مما يؤكد أن دعوة الرسل واحدة، وغايتها واحدة، وأن منشأها هو الوحي السماوي، ثم قال لهم لوط {أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنْ الْعَالَمِينَ} استفهامُ إِنكارٍ وتوبيخٍ وتقريعٍ أي أَتنْكحون الذكور في أدبارهم، وتنفردون بهذا الفعل الشنيع من بين سائر الخلق ؟ {وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ} أي وتتركون ما أباح لكم ربكم من الاستمتاع بالإِناث؟ قال مجاهد: تركتم فروج النساء إلى أدبار الرجال {بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ} أي بل أنتم قوم مجاوزون الحدَّ في الإِجرام والفساد، وبَّخهم على إتيانهم الذكور، ثم أضرب عنه إلى ما هو أبلغ في التوبيخ كأنه يقول خرجتم عن حدود الإِنسانية إلى مرتبة البهيمية بعدوانكم وارتكابكم هذه الجريمة الشنيعة، فالذكر من الحيوان يأنف عن إتيان الذكر، وأنتم فعلتم ما يتورع عنه الحيوان {قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنْ الْمُخْرَجِينَ} أي لئن لم تترك تقبيح ما نحن عليه لنخرجنك من بين أظهرنا وننفيك من بلدنا كما فعلنا بمن قبلك، توعدوه بالنفي والطرد {قَالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنْ الْقَالِينَ} أي إني لعملكم القبيح من المبغضين غاية البغض وأنا بريء منكم {رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ} أي نجني من العذاب الذي يستحقونه بعملهم القبيح أنا وأهلي قال تعالى {فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ * إِلا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ} أي نجيناه مع أهله جميعاً إلا امرأته كانت من الهالكين، الباقين في العذاب قال ابن كثير: والمراد بالعجوز امرأته فقد كانت عجوز سوء، بقيت فهلكت مع من بقي من قومها حين أمره الله أن يسريَ بأهله إلا امرأته {ثُمَّ دَمَّرْنَا الآخَرِينَ} أي أهلكناهم أشد إهلاكٍ وأفظعه بالخسف والحَصْب {وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا} أي أمطرنا عليهم حجارة من السماء كالمطر الزاخر {فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنذَرِينَ} أي بئس هذا المطر مطر القوم المُنْذرين الذين أنذرهم نبيهم فكذبوه {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً} أي إنَّ في ذلك لعبرة وعظة لأولي البصائر {وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ *وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} تقدم تفسيره.



قصة شعيب عليه السلام



{كَذَّبَ أَصْحَابُ الأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ(176)إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلا تَتَّقُونَ(177)إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ(178)فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ(179)وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِي إِلا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ(180)أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ(181)وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ(182)وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ(183)وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الأَوَّلِينَ(184) قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ(185)وَمَا أَنْتَ إِلا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ(186)فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ(187)قَالَ رَبِّي أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ(188)فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ(189)إِنَّ فِي ذَلِكَ لايَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ(190)وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ(191)}.



ثم شرع تعالى في ذكر قصة "شعيب" فقال: {كَذَّبَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ} أي كذَّب أصحاب مدين نبيهم شعيباً قال الطبري: والأيكةُ: الشجرُ الملتف وهم أهل مدين {إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلا تَتَّقُونَ * إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ * فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ * وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِي إِلا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ} سبق تفسيره {أَوْفُوا الْكَيْلَ} أي أوفوا الناس حقوقهم في الكيل والوزن {وَلا تَكُونُوا مِنْ الْمُخْسِرِينَ} أي من المُنْقِصين المُطَفِّفين في المكيال والميزان {وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ} أي زنوا بالميزان العدل السويّ {وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ} أي لا تثنقصوا حقوق الناس بأي طريق كان بالهضم أو الغبن أو الغصب ونحو ذلك {وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ} أي ولا تُفسدوا في الأرض بأنواع الفساد من قطع الطريق، والغارة، والسلب والنهب {وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الأَوَّلِينَ} أي خافوا الله الذي خلقكم وخلق الخليقة المتقدمين قال مجاهد: الجِبِلَّة: الخليقة ويعني بها الأمم السابقين {قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنْ الْمُسَحَّرِينَ} أي ما أنت إلا من المسحورين، سُحِرت كثيراً حتى غُلب على عقلك {وَمَا أَنْتَ إِلا بَشَرٌ مِثْلُنَا} أي أنت إنسانٌ مثلنا ولست برسول {وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنْ الْكَاذِبِينَ} أي ما نظنك يا شعيب إلاّ كاذباً، تكذب علينا فتقول أنا رسول الله {فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفًا مِنْ السَّمَاءِ} أي أنزلْ علينا العذاب قِطَعاً من السماء، وهو مبالغة في التكذيب {إِنْ كُنْتَ مِنْ الصَّادِقِينَ} أي إن كنت صادقاً فيما تقول قال الرازي: وإِنما طلبوا ذلك لاستبعادهم وقوعه، فظنوا أنه إذا لم يقع ظهرَ كذبه فعندها أجابهم شعيب {قَالَ رَبِّي أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ} أي الله أعلم بأعمالكم، فإِن كنتم تستحقون ذلك جازاكم به وهو غير ظالم لكم، وإن كنتم تستحقون عقاباً آخر فإِليه الحكم والمشيئة، قال تعالى {فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ} أي فكذبوا شعيباً فأخذهم ذلك العذاب الرهيب عذابُ يوم الظُلَّة وهي السحابة التي أظلتهم قال المفسرون: بعث الله عليهم حراً شديداً فأخذ بأنفاسهم، فخرجوا من البيوت هرباً إلى البرية، بعث الله عليهم سحابةً أظلَّتهم من الشمس، فوجدوا لها برداً ونادى بعضهم بعضاً حتى إذا اجتمعوا تحتها أرسل الله عليهم ناراً فاحترقوا جميعاً، وكان ذلك من أعظم العذاب ولهذا قال {إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} أي كان عذاب يوم هائل، عظيم في الشدة والهَول {إِنَّ فِي ذَلِكَ لايَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ *وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} وإِلى هنا ينتهي آخر القصص السبع التي أوحيت لرسول الله صلى الله عليه وسلم لصرفه عن الحرص على إسلام قومه، وقطع رجائه ودفع تحسره عليهم كما قال في أول السورة {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} ففيها تسلية لرسول الله وتخفيفٌ عن أحزانه وآلامه، وإنما كرر في نهاية كل قصة قوله {إِنَّ فِي ذَلِكَ لايَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ *وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} ليكون ذلك أبلغ في الاعتبار، وأشدَّ تنبيهاً لذوي القلوب والأبصار.





تنزيل القرآن من رب العالمين



{وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ(192)نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ(193)عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ(194)بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ(195)وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الأَوَّلِينَ(196)أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ(197)وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الأَعْجَمِينَ(198)فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ مَا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ(199)كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ(200)لا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوْا الْعَذَابَ الأَلِيمَ(201) فَيَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ(202)فَيَقُولُوا هَلْ نَحْنُ مُنظَرُونَ(203)أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ(204)أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ(205)ثُمَّ جَاءهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ(206)مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ(207)وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلا لَهَا مُنذِرُونَ(208)ذِكْرَى وَمَا كُنَّا ظَالِمِينَ(209)وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ(210)وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ(211)إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ(212)}.



سبب النزول:

نزول الآية (205):

{أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ... } أخرج ابن أبي حاتم عن أبي جهضم قال : "رئي النبي صلى الله عليه وسلم، كأنه متحير، فسألوه عن ذلك، فقال: ولِمَ، ورأيت عدوي يكون من أمتي بعد ؟ فنزلت: {أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ* ثُمَّ جَاءهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ* مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ} فطابت نفسه".



{وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ} أي وإِن هذا القرآن المعجز لتنزيلُ ربّ الأرباب {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ} أي نزل به أمين السماء جبريل عليه السلام {عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنْ الْمُنذِرِينَ} أي أنزله على قلبك يا محمد لتحفظه وتُنذر بآياته المكذبين {بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} أي بلسانٍ عربي فصيح هو لسان قريش، لئلا يبقى لهم عذر فيقولوا : ما فائدة كلامٍ لا نفهمه ؟ قال ابن كثير: أنزلناه باللسان العربي الفصيح، الكامل الشامل، ليكون بيناً واضحاً، قاطعاً للعذر مقيماً للحجة، دليلاً إلى المحجة {وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الأَوَّلِينَ} أي وإِن ذكر القرآن وخبره لموجودٌ في كتب الأنبياء السابقين {أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً} الاستفهام للتوبيخ والتقريع أي أولم يكن لكفار مكة علامة على صحة القرآن {أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ} أي أن يعلم ذلك علماء بني إسرائيل الذين يجدون ذكر هذا القرآن في كتبهم كعبد الله بن سلام وأمثاله {وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الأَعْجَمِينَ} أي لو نزلنا هذا القرآن بنظمه الرائق المعجز على بعض الأعجمين الذين لا يقدرون على التكلم بالعربية {فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ مَا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ} أي فقرأه على كفار مكة قراءة صحيحة فصيحة، وانضم إعجاز القراءة إلى إعجاز المقروء ما آمنوا بالقرآن لفرط عنادهم واستكبارهم {كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ} أي كذلك أدخلنا القرآن في قلوب المجرمين، فسمعوا به وفهموه، وعرفوا فصاحته وبلاغته، وتحققوا من إعجازه ثم لم يؤمنوا به وجحدوه {لا يُؤْمِنُونَ بِهِ} أي لا يصدّقون بالقرآن مع ظهور إعجازه {حَتَّى يَرَوْا الْعَذَابَ الأَلِيمَ} أي حتى يشاهدوا عذاب الله المؤلم فيؤمنوا حيث لا ينفع الإِيمان {فَيَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً} أي فيأتيهم عذاب الله فجأة {وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} أي وهم لا يعلمون بمجيئه ولا يدرون {فَيَقُولُوا هَلْ نَحْنُ مُنظَرُونَ} أي فيقولوا حين يفجأهم العذاب - تحسراً على ما فاتهم من الإِيمان وتمنياً للإِمهال - هل نحن مؤخرون لنؤمن ونصدّق {أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ} إِنكارٌ وتوبيخ أي كيف يستعجل العذاب هؤلاء المشركون ويقولون {ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ}؟ وحاُلهم عند نزول العذاب أنهم يطلبون الإِمهال والنظرة؟ {أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ} أي أخبرني يا محمد إن متعناهم سنين طويلة، مع وفور الصحة ورغد العيش {ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ} أي ثم جاءهم العذاب الذي وُعدوا به {مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ}؟ أي ماذا ينفعهم حينئذٍ ما مضى من طول أعمارهم، وطيب معاشهم؟ هل ينفعهم ذلك النعيم في تخفيف الحزن، أو دفع العذاب؟ {وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ} أي وما أهلكنا أهل قرية من القرى، ولا أُمةً من الأمم {إِلا لَهَا مُنذِرُونَ} أي إلاّ بعدما ألزمناهم الحجة بإِرسال الرسل مبشرين ومنذرين {ذِكْرَى} أي ليكون إهلاكهم تذكرةً وعبرة لغيرهم فلا يعصوا مثل عصيانهم {وَمَا كُنَّا ظَالِمِينَ} أي وما كنا ظالمين في تعذيبهم، لأننا أقمنا الحجة عليهم وأعذرنا إليهم .. ثم إنه تعالى بعد أن نبّه على إعجاز القرآن وصدق نبوة محمد عليه السلام ردَّ على قول من زعم من الكفار أن القرآن من إلقاء الجن والشياطين كسائر ما ينزل على الكهنة فقال {وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ} أي وما تنزَّلت بهذا القرآن الشياطين، بل نزل به الروح الأمين {وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ} أي وما يصح ولا يستقيم أن يتنزل بهذا القرآن الشياطين، ولا يستطيعون ذلك أصلاً {إِنَّهُمْ عَنْ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ} أي لأنهم منعوا من استراق السمع منذ بعث محمد عليه السلام، وحيل بينهم وبين السمع بالملائكة والشهب، فكيف يستطيعون أن يتنزلوا به ؟ قال ابن كثير: ذكر تعالى أنه يمتنع ذلك عليهم من ثلاثة أوجه: أحدها أنه ما ينبغي لهم لأن سجاياهم الفساد، وإضلال العباد، وهذا فيه نورٌ وهدى وبرهان عظيم، الثاني: أنه لو انبغى لهم لما استطاعوا ذلك، وهذا من حفظ الله لكتابه وتأييده لشرعه الثالث: أنه لو انبغى لهم واستطاعوا حمله وتأديته لما وصلوا إلى ذلك لأنهم بمعزلٍ عن استماع القرآن، لأن السماء مُلئت حرساً شديداً وشهباً، فلم يخلص أحد من الشياطين لاستماع حرفٍ واحد منه لئلا يشتبه الأمر.





سبب النزول:

أخرج ابن جرير الطبري عن ابن جريج قال: لما نزلت: {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} بدأ بأهل بيته وفصيلته، فشقَّ ذلك على المسلمين فأنزل الله: {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنْ اتَّبَعَكَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ}.



أدب الدعاة في الدعوة



{فَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ(213)وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ(214)وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنْ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ(215)فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ(216)وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ(217)الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ(218)وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ(219)إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ(220)}.



{فَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ} الخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم والمراد غيره أي لا تعبد يا محمد مع الله معبوداً آخر {فَتَكُونَ مِنْ الْمُعَذَّبِينَ} أي فيعذبك الله بنار جهنم قال ابن عباس: يُحذّر به غيره يقول: أنتَ أكرمُ الخلق عليَّ، ولو اتخذت من دوني إلهاً لعذبتك، ثم أمر تعالى رسوله بتبليغ الرسالة فقال {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} أي خوِّف أقاربك الأقرب منهم فالأقرب من عذاب الله إن لم يؤمنوا، روي أنه صلى الله عليه وسلم قام حين نزلت عليه {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} فقال: "يا معشر قريشٍ اشتروا أنفسكم من اللهِ لا أُغني عنكم من الله شيئاً، يا بني عبد مناف لا أغني عنكم من الله شيئاً، يا عباسُ بن عبدِ المطلب لا أغني عنك من الله شيئاً، يا صفيةُ عمةَ رسول الله لا أُغني عنك من الله شيئاً، يا فاطمةُ بنتَ محمد سليني ما شئتِ لا أُغني عنك من الله شيئاً" قال المفسرون: وإِنما أُمر صلى الله عليه وسلم بإِنذار أقاربه أولاً لئلا يظن أحدٌ به المحاباة واللطف معهم فإِذا تشدَّد على نفسه وعلى أقاربه كان قوله أنفع، وكلامه أنجع {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنْ اتَّبَعَكَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ} أي تواضعْ وأَلِنْ جانبك لأتباعك المؤمنين {فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ} أي فإِن لم يطيعوك وخالفوا أمرك فتبرأ منهم ومن أعمالهم قال أبو حيان: لما كان الإِنذار يترتب عليه الطاعة أو العصيان جاء التقسيم عليهما فكأن المعنى: من اتبعك مؤمناً فتواضع له، ومن عصاك فتبرأ منهم ومن أعمالهم {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ} أي فوّض جميع أمورك إلى الله العزيز، الذي يقهر أعداءك بعزته، وينصرك عليهم برحمته {الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ} أي يراك حين تكون وحدك تقوم من فراشك أو مجلسك وقال ابن عباس: حين تقوم إلى الصلاة {وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ} أي ويرى تقلُّبك مع المصلين في الركوع والسجود والقيام، والمعنى يراك وحدك ويراك في الجماعة {إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} أي إنه تعالى السميع لما تقوله، العليم بما تخفيه.





تنزُّل الشياطين على الكذبة الفَسقَة



{هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ(221)تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ(222)يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ(223)وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ(224)أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ(225)وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ(226)إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ(227)}.



سبب النزول:

نزول الآية (224) وما بعدها:

{وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمْ الْغَاوُونَ}: أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : تهاجى رجلان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، أحدهما من الأنصار، والآخر من قوم آخرين، وكان مع كل واحد منهما غواة من قومه، وهم السفهاء، فأنزل الله: {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمْ الْغَاوُونَ} الآيات

وأخرج ابن أبي حاتم عن عروة قال: لما نزلت {وَالشُّعَرَاءُ} إلى قوله: {مَا لا يَفْعَلُونَ} قال عبد الله بن رَواحة: قد علم الله أني منهم، فأنزل الله: {إِلا الَّذِينَ آمَنُوا} إلخ السورة.

وأخرج ابن جرير والحاكم عن أبي حسن البرّاد قال: لما نزلت {وَالشُّعَرَاءُ} الآية، جاء عبد الله بن رواحة، كَعْب بن مالك، وحسان بن ثابت، فقالوا: يا رسول الله، والله لقد أنزل الله هذه الآية، وهو يعلم أنا شعراء، هلكنا، فأنزل الله: {إِلا الَّذِينَ آمَنُوا} الآية، فدعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتلاها عليهم.



{هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ} ؟ أي قل يا محمد لكفار مكة: هل أخبركم، على من تتنزَّل الشياطين؟ وهذا ردٌّ عليهم حين قالوا إنما يأتيه بالقرآن الشياطين {تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ} أي تتنزَّل على كل كذَّابٍ فاجر، مبالغٍ في الكذب والعدوان، لا على سيّد ولد عدنان {يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ} أي تُلقي الشياطين ما استرقوه من السمع إلى أوليائهم الكهنة، وأكثرهم يكذبون فيما يوحون به إليهم وفي الحديث (تلك الكلمةُ من الحقِّ يخطفها الجنيُّ فيقرقرها - أي يلقيها - في أُذن وليّه كقرقرة الدجاج، فيخلطون معها أكثر من مائة كذبة) قال الزمخشري: {يُلْقُونَ السَّمْعَ} هم الشياطين كانوا قبل أن يُحجبوا بالرجم يسمّعون إلى الملأ الأعلى، فيختطفون بعض ما يتكلمون به مما اطلعوا عليه من الغيوب، ثم يوحون به إلى أوليائهم من الكهنة والمتنبئة {وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ} فيما يوحون به إليهم، لأنهم يُسمعونهم ما لم يسمعوا، ثم ردَّ تعالى على من زعم أن محمداً شاعر فقال {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ} أي يتبعهم الضالون لا أهل البصيرة والرشاد {أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ} أي ألم تر أيها السامع العاقل أنهم يسلكون في المديح والهجاء كل طريق، يمدحون الشيء بعد أن ذمّوه، ويعظّمون الشخص بعد أن احتقروه قال الطبري: وهذا مثلٌ ضربه الله لهم في افتتانهم في الوجوه التي يُفتنون فيها بغير حق، فيمدحون بالباطل قوماً ويهجون آخرين {وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ} أي يكذبون فينسبون لأنفسهم ما لم يعملوه قال أبو حيان: أخبر تعالى عن الشعراء بالأحوال التي تخالف حال النبوة، إذْ أمرهُم كما ذُكر من اتّباع الغُواة لهم، وسلوكهم أفانين الكلام من مدح الشيء وذمّه، ونسبة ما لا يقع منهم إليهم، وهذا مخالف لحال النبوة فإِنها طريقة واحدة لا يتبعها إلا الراشدون، ثم استثنى تعالى فقال {إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ } أي صدقوا في إيمانهم وأخلصوا في أعمالهم {وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا} أي لم يشغلهم الشعرُ عن ذكر الله ولم يجعلوه همَّهم ودينهم {وَانتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا} أي هجوا المشركين دفاعاً عن الحق ونصرةً للإِسلام {وَسيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا} وعيدٌ عام في كل ظالم، تتفتت له القلوب وتتصدع لهوله الأكباد أي وسيعلم الظالمون المعادون لدعوة الله ومعهم الشعراء الغاوون {أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ}؟ أي أيَّ مرجع يرجعون إليه، وأي مصيرٍ يصيرون إليه؟ فإِنَّ مرجعهم إلى العقاب وهو شرُّ مرجع، ومصيرهم إلى النار وهو أقبح مصير.

yacine414
2011-03-26, 20:26
سورة النمل



التسميَة

القرآن هداية للمؤمنين

قصة موسى عليه السلام

قصة داود وسليمان عليهما السلام

قصة سليمان عليه السلام مع الهدهد

جواب بلقيس على كتاب سليمان عليه السلام

إسلام بلقيس وزيارتها لسليمان عليه السلام

قصة صالح عليه السلام

قصة لوط عليه السلام

دلائل القدرة والوحدانية

علم الغيب لله وحده

إنكار المشركين للبعث

ذكر أوصاف القرآن الكريم

إخراج دابة الأرض وحشر الأمم

النفخ في الصور وتسيير الجبال

الأمر بعبادة الله وتلاوة القرآن







بَين يَدَي السُّورَة



* سورة النمل من السور المكية التي تهتم بالحديث عن أصول العقيدة "التوحيد، والرسالة، والبعث" وهي إحدى سور ثلاث نزلت متتالية، ووضعت في المصحف متتالية وهي "الشعراء، والنمل، والقصص" ويكاد يكون منهاجها واحداً، في سلوك مسلك العظة والعبرة، عن طريق قصص الغابرين.



* تناولت السورة الكريمة القرآن العظيم، معجزة محمد الكبرى، وحجته البالغة إلى يوم الدين، فوضحت أنه تنزيل من حكيم عليم، ثم تحدثت عن قصص الأنبياء بإيجاز في البعض، وإسهابٍ في البعض، فذكرت بالإجمال قصة "موسى" وقصة "صالح" وقصة "لوط" وما نال أقوامهم من العذاب والنكال، بسبب إعراضهم عن دعوة الله، وتكذيبهم لرسله الكرام.



* وتحدثت بالتفصيل عن قصة "داود" وولده "سليمان" وما أنعم الله عليهما من النعم الجليلة، وما خصهما به من الفضل الكبير بالجمع بين النبوة والمُلْك الواسع، ثم ذكرت قصة "سليمان مع بلقيس" ملكة سبأ.



* وفي هذه القصة مغزى دقيق لأصحاب الجاه والسلطان، والعظماء والملوك، فقد اتخذ سليمان المُلْك وسيلةً للدعوة إلى الله، فلم يترك حاكماً جائراً ولا ملكاً كافراً إلا دعاه إلى الله، وهكذا كان شأنه مع "بلقيس" حتى تركت عبادة الأوثان، وأتت مع جندها خاضعةً مسلمةً، مستجيبةً لدعوة الرحمن.



* وتناولت السورة الكريمة الدلائل والبراهين على وجود الله ووحدانيته، من آثار مخلوقاته وبدائع صنعه، وساقت بعض الأهوال والمشاهد الرهيبة، التي يراها الناس يوم الحشر الأكبر، حيث يفزعون ويرهبون، وينقسمون إلى قسمين: السعداء الأبرار، والذين يكبون على وجوههم في النار.



التسميَة:

سميت سورة النمل، لأن الله تعالى ذكر فيها قصة النملة، التي وعظت بني جنسها وذكَّرت ثم اعتذرت عن سليمان وجنوده، ففهم نبيُّ الله كلامها وتبسم من قولها، وشكر الله على ما منحه من الفضل والإنعام، وفي ذلك أعظم الدلالة على علم الحيوان، وأنَّ ذلك من إلهام الواحد الديان.



القرآن هداية للمؤمنين



{طس تِلْكَ ءاياتُ الْقُرْآنِ وَكِتَابٍ مُبِينٍ(1)هُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ(2)الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ(3)إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ(4)أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذَابِ وَهُمْ فِي الآخِرَةِ هُمْ الأَخْسَرُونَ(5)وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ(6)}.



{طس} الحروف المقطعة للتنبيه على إعجاز القرآن وقد تقدم الكلام عليها {تِلْكَ ءاياتُ الْقُرْآنِ} أي هذه الآيات المنزَّلة عليك يا محمد هي ءاياتُ القرآن المعجز في بيانه، الساطع في برهانه {وَكِتَابٍ مُبِينٍ} أي وآياتُ كتابٍ واضحٍ مبين لمن تفكر فيه وتدبَّر، أبان اللهُ فيه الأحكام، وهدى به الأنام {هُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} أي تلك ءايات القرآن الهادي للمؤمنين إلى صراطٍ مستقيم، والمبشر لهم بجنات النعيم، خصَّ المؤمنين بالذكر لانتفاعهم به {الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ} أي يؤدونها على الوجه الأكمل بخشوعها، وآدابها، وأركانها {وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} أي يدفعون زكاة أموالهم طيبةً بها نفوسهم {وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} أي يصدقون بالآخرة تصديقاً جازماً لا يخالجه شك أو ارتياب قال الإمام الفخر الرازي: والجملة إعتراضية كأنه قيل وهؤلاء الذين يؤمنون ويعملون الصالحات هم الموقنون بالآخرة، فما يوقن بالآخرة حقَّ الإيقان إلاّ هؤلاء الجامعون بين الإيمان والعمل الصالح، لأن خوف العاقبة يحملهم على تحمل المشاق وقال أبو حيان: ولما كان {يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} مما يتجدَّد ولا يستغرق الأزمان جاءت الصلة فعلاً، ولما كان الإيمان بالآخرة بما هو ثابت ومستقر جاءت الجملة اسمية وأُكدت بتكرار الضمير {وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} وجاء خبر المبتدأ فعلاً ليدل على الديمومة، ولما ذكر تعالى المؤمنين الموقنين بالبعث، ذكر بعدها المنكرين المكذبين بالآخرة فقال {إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ} أي لا يصدّقون بالبعث {زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ} أي زينا لهم أعمالهم القبيحة حتى رأوها حسنة قال الرازي: والمراد من التزيين هو أن يخلق في قلبه العلم بما فيها من المنافع واللذات، ولا يخلق في قلبه العلم بما فيها من المضار والآفات {فَهُمْ يَعْمَهُونَ} أي فهم في ضلال أعمالهم القبيحة يترددون حيارى لا يميزون بين الحسن والقبيح {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذَابِ} أي لهم أشد العذاب في الدنيا بالقتل والأسر والتشريد {وَهُمْ فِي الآخِرَةِ هُمْ الأَخْسَرُونَ} أي وخسارتهم في الآخرة أشد من خسارتهم في الدنيا لمصيرهم إلى النار المؤبدة والجحيم والأغلال {وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ} أي وإنك يا محمد لتتلقى هذا القرآن العظيم وتُعطاه {مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ} أي من عند الله الحكيم بتدبير خلقه، العليم بما فيه صلاحهم وسعادتهم قال الزمخشري: وهذه الآية بسطٌ وتمهيد لما يريد أن يسوق بعدها من الأقاصيص، وما في ذلك من لطائف حكمته، ودقائق علمه.



قصة موسى عليه السلام



{إِذْ قَالَ مُوسَى لأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ نَارًا سَآتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهَابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ(7)فَلَمَّا جَاءَهَا نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ(8)يَا مُوسَى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ(9)وَأَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَامُوسَى لا تَخَفْ إِنِّي لا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ(10)إِلا مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْنًا بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ(11) وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ ءاياتٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ(12)فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ ءاياتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ(13)وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ(14)}.



{إِذْ قَالَ مُوسَى لأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ نَارًا} أي اذكر يا محمد حين قال موسى لأهله - أي زوجته - إني أبصرتُ ورأيت ناراً قال المفسرون: وهذا عندما سار من مدين إلى مصر، وكان في ليلة مظلمة باردة، وقد ضلَّ عن الطريق وأخذ زوجته الطَّلقُ {سَآتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ} أي سآتيكم بخبرٍ عن الطريق إذا وصلتُ إليها {أَوْ آتِيكُمْ بِشِهَابٍ قَبَسٍ} أي أو آتيكم بشعلةٍ مقتبسة من النار {لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ} أي لكي تستدفئوا بها {فَلَمَّا جَاءَهَا} أي فلما وصل إلى مكان النار رأى منظراً هائلاً عظيماً، حيث رأى النار تضطرم في شجرة خضراء لا تزداد النار إلا توقداً، ولا تزداد الشجرةُ إلا خضرةً ونُضْرة، ثم رفع رأسه فإِذا نورها متصلٌ بعنان السماء قال ابن عباس: لم تكن ناراً وإِنما كانت نوراً يتوهج فوقف موسى متعجباً ممّا رأى وجاءه النداء العلوي {نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ} أي نودي من جانب الطور بأن بوركتَ يا موسى وبورك من حولك من الملائكة قال ابن عباس: معنى {بُورِكَ} تقدَّس {وَمَنْ حَوْلَهَا} الملائكةُ قال أبو حيان: وبدؤه بالنداء تبشيرٌ لموسى وتأنيسٌ له ومقدمةٌ لمناجاته، وجديرٌ أن يبارك من في النار ومن حواليها إذ قد حدث أمرٌ عظيم وهو تكليم الله لموسى وتنبيئه {وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} أي تقدَّس وتنزَّه ربُّ العزة، العليُّ الشأن، الذي لا يشبهه شيء من مخلوقاته لا في ذاته، ولا في صفاته، ولا في أفعاله {يَا مُوسَى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} أي أنا الله القويُّ القادر، العزيز الذي لا يُقهر، الحكيم الذي يفعل كل شيء بحكمةٍ وتدبير{وَأَلْقِ عَصَاكَ} عطفٌ على السابق أي ونودي أن ألق عصاك لترى معجزتك بنفسك فتأنس بها {فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ} أي فلما رآها تتحرك حركة سريعة كأنها ثعبان خفيف سريع الجري {وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ} أي ولّى الأدبار منهزماً ولم يرجع لما دهاه من الخوف والفزع قال مجاهد: "لم يُعقب" لم يرجع، وقال قتادة: لم يلتفت، لحقه ما لحق طبع البشر إذا رأى أمراً هائلاً جداً وهو انقلاب العصا حيةً تسعى ولهذا ناداه ربه {يَا مُوسَى لا تَخَفْ} أي أقبل ولا تخف لأنك بحضرتي ومن كان فيها فهو آمنٌ {إِنِّي لا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ} أي فأنت رسولي ورسلي الذين اصطفيتهم للنبوة لا يخافون غيري قال ابن الجوزي: نبَّهه على أن من آمنَه الله بالنبوة من عذابه لا ينبغي أن يخاف من حيَّة {إِلا مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْنًا بَعْدَ سُوءٍ} الاستثناء منقطع أي لكنْ من ظلم من سائر الناس لا من المرسلين فإِنه يخاف إلا إذا تاب وبدَّل عمله السيء إلى العمل الحسن {فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ} أي عظيم المغفرة واسع الرحمة قال ابن كثير: وفيه بشارة عظيمةٌ للبشر وذلك أن من كان على عمل سيء، ثم أقلع ورجع وتاب وأناب فإِن الله يتوب عليه كقوله {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى} {وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ} هذه معجزةٌ أُخرى لموسى تدل على باهر قدرة الله والمعنى أدخل يا موسى يدك في فتحة ثوبك ثم أخرجها تخرج مضيئة ساطعة بيضاء تتلألأ كالبرق الخاطف دون مرضٍ أو برص {فِي تِسْعِ ءاياتٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ} أي هاتان المعجزتان "العصا واليد" ضمن تسعِ معجزاتٍ أيدتك بها وجعلتُها برهاناً على صدقك لتذهب بها إلى فرعون وقومه {إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ} أي خارجين عن طاعتنا، ممعنين في الكفر والضلال {فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ ءاياتُنَا مُبْصِرَةً} أي فلما رأوا تلك المعجزات الباهرة، واضحةً بينةً ظاهرة {قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ} أي أنكروها وزعموا أنها سحرٌ واضح {وَجَحَدُوا بِهَا} أي كفروا وكذبوا بتلك الخوارق {وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ} أي وقد أيقنوا بقلوبهم أنها من عند الله وليست من قبيل السحر {ظُلْمًا وَعُلُوًّا} أي جحدوا بها ظلماً من أنفسهم، واستكباراً عن اتباع الحق، وأيُّ ظلمٍ أفحش ممن يعتقد ويستيقن أنها ءايات بينة واضحة جاءت من عند الله، ثم يكابر بتسميتها سحراً؟ ولهذا قال {فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ} أي انظر أيها السامع وتدبر بعين الفكر والبصيرة ماذا كان مآلُ أمر الطاغين، من الإِغراق في الدنيا، والإِحراق في الآخرة ؟ قال ابن كثير: وفحوى الخطاب كأنه يقول: احذروا أيها المكذبون لمحمد، الجاحدون لما جاء به من ربه، أن يصيبكم مثلُ ما أصابهم بطريق الأولى والأحرى، فإِن محمداً صلى الله عليه وسلم أشرفُ وأعظمُ من موسى، وبرهانُه أدلُّ وأقوى من برهان موسى، عليه من ربه أفضل الصلاة والتسليم.



قصة داود وسليمان عليهما السلام



{وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا وَقَالا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ(15)وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ(16)وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ(17)حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِي النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ(18)فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِنْ قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ(19)}.



{وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا} هذه هي القصة الثانية في السورة الكريمة وهي قصة "داود وسليمان"، والمعنى: واللهِ لقد أعطينا داود وابنه سليمان علماً واسعاً من علوم الدنيا والدين، وجمعنا لهما بين سعادة الدنيا والآخرة قال الطبري: وذلك علم كلام الطير والدواب وغير ذلك مما خصَّهم الله بعلمه {وَقَالا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ} أي وقالا شكراً لله الحمد الله الذي فضلنا بما آتانا من النبوة، والعلم، وتسخير الإِنس والجن والشياطين، على كثيرٍ من عباده المؤمنين {وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ} أي ورث سليمانُ أباه في النبوة، والعلم، والمُلْك دون سائر أولاده قال الكلبي: كان لداود تسعة عشر ولداً فورث سليمانُ من بينهم نبوته وملكه، ولو كانت وراثة مال لكان جميع أولاده فيه سواء {وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطَّيْرِ} أي وقال تحدثاً بنعمة الله: يا أيها الناسُ لقد أكرمنا اللهُ فعلِّمنا منطق الطير وأصوات جميع الحيوانات {وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ} أي وأعطانا الله من كل شيء من خيرات الدنيا يعطاها العظماء والملوك {إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ} أي إن ما أُعطيناه وما خصَّنا الله به من أنواع النعم لهو الفضل الواضح الجلي، قاله على سبيل الشكر والمحمدة لا على سبيل العلوّ والكبرياء {وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ وَالطَّيْرِ} أي جمعت له جيوشه وعساكره وأُحضرت له في مسيرةٍ كبيرة فيها طوائف الجن والإِنس والطير، يتقدمهم سليمان في أُبَّهة وعظمةٍ كبيرة {فَهُمْ يُوزَعُونَ} أي فهم يُكَفُّون ويمنعون عن التقدم بين يديه قال ابن عباس: جعل على كل صنفٍ من يردُّ أولاها على أُخراها لئلا يتقدموا في المسير كما تصنع الملوك {حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِي النَّمْلِ} أي حتى إذا وصلوا إلى وادٍ بالشام كثير النمل {قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ} أي قالت إحدى النملات لرفيقاتها ادخلوا بيوتكم، خاطبتهم مخاطبة العقلاء لأنها أمرتهم بما يؤمر به العقلاء {لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ} أي لا يكسرنَّكم سليمانُ وجيوشه بأقدامهم {وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} أي وهم لا يشعرون بكم ولا يريدون حطمكم عن عمد، حذَّرت ثم اعتذرت لأنها علمت أنه نبيٌّ رحيم، فسمع سليمان كلامها وفهم مرامها {فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِنْ قَوْلِهَا} أي فتبسَّم سروراً بما سمع من ثناء النملة عليه وعلى جنوده، فإِن قولها {وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} وصفٌ لهم بالتقوى والتحفظ من مضرة الحيوان {وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ} أي ألهمني ووفقني لشكر نعمائك وأفضالك التي أنعمت بها عليَّ وعلى أبويَّ {وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ} أي ووفقني لعمل الخير الذي يقربني منك والذي تحبه وترضاه {وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ} أي وأدخلني الجنة دار الرحمة مع عبادك الصالحين.



قصة سليمان عليه السلام مع الهدهد



{وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِي لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ(20)لأعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لاذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ(21)فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ(22)إِنِّي وَجَدتُّ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ(23)وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمْ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنْ السَّبِيلِ فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ(24)أَلا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ(25)اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ(26)قَالَ سَنَنظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ(27) اذْهَب بِكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهِ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ(28)}.



{وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ} أي بحث سليمان وفتَّش عن جماعة الطير {فَقَالَ مَا لِي لا أَرَى الْهُدْهُدَ} أي لا أرى الهُدهد ههنا ؟ قال المفسرون: كانت الطير تصحبه في سفره وتظله بأجنحتها، فلما فصل سليمان عن وادي النمل ونزل في قفرٍ من الأرض، عطش الجيش فسألوه الماء، وكان الهدهد يدله على الماء فإِذا قال: ههنا الماء شقت الشياطين وفجَّرت العيون، فطلبه في ذلك اليوم فلم يجده فقال مالي لا أراه {أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ} أمْ منقطعة بمعنى "بل" أي بل هو غائب، ذهب دون إذنٍ مني {لأعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لأذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ} أي لأعاقبنه عقاباً أليماً بالسجن أو نتف الريش أو الذبح أو ليأتيني بحجة واضحة تبيّن عذره {فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ} أي فأقام الهدهد زماناً يسيراً ثم جاء إلى سليمان {فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ} أي اطلعت على ما لم تطّلع عليه وعرفت ما لم تعرفه {وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ} أي وأتيتُكَ من مدينة سبأ - باليمن - بخبرٍ هامٍ، وأمر صادقٍ خطير {إِنِّي وَجَدتُّ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ} أي من عجائب ما رأيت أن امرأة - تسمى بلقيس - هي ملكة لهم، وهم يدينون بالطاعة لها {وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ} أي وأُعطيت من كل شيء من الأشياء التي يحتاج إليها الملوك من أسباب الدنيا من سعة المال وكثرة الرجال ووفرة السلاح والعتاد {وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ} أي ولها سرير كبير مكلَّل بالدر والياقوت قال قتادة: كان عرشُها من ذهب، قوائمُه من جوهر، مكلَّل باللؤلؤ قال الطبري: وعنى بالعظيم في هذا الموضع العظيم في قدره وخطره، لا عظمه في الكبر والسعة، ولهذا قال ابن عباس: {عَرْشٌ عَظِيمٌ} أي سرير كريم حسن الصنعة، وعرشُها سريرٌ من ذهب قوائمُه من جوهرٍ ولؤلؤ، ثم أخذ يحدثه عما هو أعظم وأخطر فقال {وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ} أي وجدتهم جميعاً مجوساً يعبدون الشمس ويتركون عبادة الواحد الأحد {وَزَيَّنَ لَهُمْ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ} أي حسَّن لهم إبليس عبادتهم الشمس وسجودهم لها من دون الله {فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ} أي منعهم بسبب هذا الضلال عن طريق الحق والصواب {فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ} أي فهم بسبب إغواء الشيطان لا يهتدون إلى الله وتوحيده، ثم قال الهدهد متعجباً {أَلا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} أي أيسجدون للشمس ولا يسجدون للهِ الخالق العظيم، الذي يعلم الخفايا ويعلم كل مخبوء في العالم العلوي والسفلي؟ قال ابن عباس: يعلم كل خبيئةٍ في السماء والأرض {وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ} أي ويعلم السرَّ والعلن، ما ظهر وما بطن {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} أي هو تعالى المتفرد بالعظمة والجلال، ربُّ العرش الكريم المستحق للعبادة والسجود، وخصَّ العرش بالذكر لأنه أعظم المخلوقات، وإِلى هنا انتهى كلام الهُدهد {قَالَ سَنَنظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ} أي قال سليمان: سننظر في قولك ونتثبت هل أنت صادقٌ أم كاذب فيه ؟ قال ابن الجوزي: وإِنما شكَّ في خبره لأنه أنكر أن يكون لغيره سلطان، ثم كتب كتاباً وختمه بخاتمه ودفعه إلى الهُدهد وقال {اذْهَب بِكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهِ إِلَيْهِمْ} أي اذهب بهذا الكتاب وأوصلْه إلى ملكة سبأ وجندها {ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ} أي تنحَّ إلى مكان قريب مستتراً عنهم {فَانظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ} أي فانظر ماذا يردون من الجواب ؟ قال المفسرون: أخذ الهدهد الكتاب وذهب إلى بلقيس وقومها، فرفرف فوق رأسها ثم ألقى الكتاب في حجرها.

yacine414
2011-03-26, 20:34
جواب بلقيس على كتاب سليمان عليه السلام



{قَالَتْ يَا أَيُّهَا المَلؤا إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ(29)إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَانِ الرَّحِيمِ(30)أَلا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ(31)قَالَتْ يَا أَيُّهَا المَلا أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ(32)قَالُوا نَحْنُ أُوْلُوا قُوَّةٍ وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالأَمْرُ إِلَيْكِ فَانظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ(33)قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ(34)وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ(35)فَلَمَّا جَاءَ سُلَيْمَانَ قَالَ أَتُمِدُّونَنِي بِمَالٍ فَمَا آتَانِي اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ(36)ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ(37)}.



{قَالَتْ يَا أَيُّهَا المَلا إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ} أي قالت لأشراف قومها إنه أتاني كتاب عظيم جليل: {إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَانِ الرَّحِيمِ} أي إن هذا الكتاب مرسل من سليمان ثم فتحته فإِذا فيه: بسم الله الرحمن الرحيم وهو استفتاح شريفٌ بارع فيه إعلان الربوبية لله ثم الدعوة إلى توحيد الله والانقياد لأمره {أَلا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ} أي لا تتكبروا عليَّ كما يفعل الملوك وجيئوني مؤمنين قال ابن عباس: أي موحدين، وقال سفيان: طائعين {قَالَتْ يَا أَيُّهَا المَلأ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي} أي أشيروا عليَّ في الأمر {مَا كُنتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ} أي ما كنتُ لأقضي أمراً بدون حضوركم ومشورتكم {قَالُوا نَحْنُ أُوْلُوا قُوَّةٍ وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ} أي نحن أصحابُ كثرةٍ في الرجال والعتاد، وأصحابُ شدةٍ في الحرب {وَالأَمْرُ إِلَيْكِ فَانظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ}؟ أي وأمرنا إليكِ فمرينا بما شئتِ نمتثل أمرك، وقولهم هذا دليلٌ على الطاعة المفرطة قال القرطبي: أخذتْ في حسن الأدب مع قومها ومشاورتهم في أمرها في كل ما يعرض لها، فراجعها الملأ بما يُقر عينها من إعلامهم إياها بالقوة والبأس، ثم سلّموا الأمر إلى نظرها، وهذه محاورة حسنة من الجميع قال الحسن البصري: فوَّضوا أمرهم إلى عِجلةٍ يضطرب ثدياها، فلما قالوا لها ما قالوا كانت هي أحزم منهم رأياً وأعلم {قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا} أي إن عادة الملوك أنهم إذا استولوا على بلدةٍ عنوةً وقهراً خربوها {وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً} أي أهانوا أشرافها وأذلوهم بالقتل والأسر والتشريد {وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ} أي وهذه عادتهم وطريقتهم في كل بلدٍ يدخلونها قهراً، ثم عدلت إلى المهادنة والمسالمة فقالت {وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ} أي وإِني سأبعث إليه بهدية عظيمة تليقُ بمثله، فأنظر هل يقبلها أم يردُّها؟ قال قتادة: ما كان أعقلها في إسلامها وشركها !! علمتْ أن الهدية تقع موقعاً من الناس، وقال ابن عباس: قالت لقومها إن قبلَ الهدية فهو ملك يريد الدنيا فقاتلوه، وإِن لم يقبلها فهو نبيٌ صادق فاتبعوه {فَلَمَّا جَاءَ سُلَيْمَانَ قَالَ أَتُمِدُّونَنِي بِمَالٍ} ؟ أي فلما جاء رسل بلقيس إلى سليمان بالهدية العظيمة قال منكراً عليهم: أتصانعونني بالمال والهدايا لأترككم على كفركم وملككم ؟ {فَمَا آتَانِي اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُمْ } أي فما أعطاني الله من النبوة والمُلك الواسع خيرٌ مما أعطاكم من زينة الحياة فلا حاجة لي بهديتكم {بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ} أي أنتم تفرحون بالهدايا لأنكم أهل مفاخرةٍ ومكاثرة في الدنيا، ثم قال لرئيس الوفد {ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا} أي ارجع إليهم بهديتهم فواللهِ لنأتينَّهم بجنودٍ لا طاقة لهم بمقابلتها، ولا قدرة لهم على قتالها {وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ} أي ولنخرجنهم من أرضهم ومملكتهم أذلاء حقيرين إن لم يأتوني مسلمين قال ابن عباس: لما رجعت رسلُ بلقيس إليها من عند سليمان وأخبروها الخبر قالت قد عرفت ما هذا بملك، وما لنا به من طاقة، وبعثت إلى سليمان إني قادمة إليك بملوك قومي حتى أنظر ما أمرك، وما تدعو إليه من دينك ثم ارتحلت إلى سليمان في اثني عشر ألف قائد.



إسلام بلقيس وزيارتها لسليمان عليه السلام

{قَالَ يَا أَيُّهَا المَلؤا أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ(38)قَالَ عِفْريتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ(39)قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ(40)قَالَ نَكِّرُوا لَهَا عَرْشَهَا نَنظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لا يَهْتَدُونَ(41)فَلَمَّا جَاءتْ قِيلَ أَهَكَذَا عَرْشُكِ قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ(42)وَصَدَّهَا مَا كَانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنَّهَا كَانَتْ مِنْ قَوْمٍ كَافِرِينَ(43)قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ سَاقَيْهَا قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوَارِيرَ قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ(44)}.





{قَالَ يَا أَيُّهَا المَلؤُا أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ}؟ أي قال سليمان لأشراف من حضره من جنده: أيكم يأتيني بسريرها المرصَّع بالجواهر قبل أن تصل إليَّ مع قومها مسلمين؟ قال البيضاوي: أراد بذلك أن يريها بعض ما خصه الله به من العجائب، الدالة على عظيم القدرة، وصدقه في دعوى النبوة، ويختبر عقلها بأن ينكّر عرشها فينظر أتعرفه أم تنكره؟ {قَالَ عِفْريتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ} أي قال ماردٌ من مردة الجنِّ: أنا أحضره إليك قبل أن تقوم من مجلس الحكم - وكان يجلس من الصبح إلى الظهر في كل يوم - وغرضُه أنه يأتيه به في أقل من نصف نهار {وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ} أي وإِني على حمله لقادرٌ، وأمينٌ على ما فيه من الجواهر والدُّر وغير ذلك {قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ} قال المفسرون: هو "أصف بن برخيا" كان من الصِّديقين يعلم اسم الله الأعظم الذي إذا دُعي به أجاب، وهو الذي أتى بعرش بلقيس وقال لسليمان: أنا آتيك به قبل أن يرتدَّ إليك طرفك أي آتيك به بلمح البصر فدعا الله فحضر العرشُ حالاً {فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي} أي فلما نظر سليمان ورأى العرش - السرير - حاضراً لديه قال: هذا من فضل الله عليَّ، وإِحسانه إليَّ {لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ} ؟ أي ليختبرني أأشكر إنعامه، أم أجحد فضله وإِحسانه ؟ {وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ} أي ومن شكر فمنفعة الشكر لنفسه، لأنه يستزيد من فضل الله {لئن شكرتم لأزيدنكم}{وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ} أي ومن لم يشكر وجحد فضل الله فإن الله مستغنٍ عنه وعن شكره، كريمٌ بالإِنعام على من كفر نعمته ... ولما قرُب وصولُ ملكة سبأ إلى بلاده أمر بأن تُغيَّر بعضُ معالم عرشها امتحاناً لها {قَالَ نَكِّرُوا لَهَا عَرْشَهَا} أي غيّروا بعض أوصافه وهيئته كما يتنكر الإِنسان حتى لا يُعرف {نَنظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لا يَهْتَدُونَ} أي لننظر إذا رأته هل تهتدي إلى أنه عرشها وتعرفه أم لا ؟ أراد بذلك اختبار ذكائها وعقلها {فَلَمَّا جَاءَتْ قِيلَ أَهَكَذَا عَرْشُكِ}؟ أي أمثل هذا العرش الذي رأيتيه عرشك؟ ولم يقل: أهذا عرشك؟ لئلا يكون تلقيناً لها {قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ} أي يشبهه ويقاربه ولم تقل: نعم هو، ولا ليس هو قال ابن كثير: وهذا غاية في الذكاء والحزم {وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ} هذا من قول سليمان أي قال سليمان تحدثاً بنعمة الله: لقد أوتينا العلم من قبل هذه المرأة بالله وبقدرته وكنا مسلمين لله من قبلها، فنحن أسبقُ منها علماً وإِسلاماً {وَصَدَّهَا مَا كَانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ} أي منعها عن الإِيمان بالله عبادتُها القديمة للشمس والقمر {إِنَّهَا كَانَتْ مِنْ قَوْمٍ كَافِرِينَ} أي بسبب كفرها ونشوئها بين قوم مشركين {قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ} أي ادخلي القصر العظيم الفخم {فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ سَاقَيْهَا} أي فلما رأت ذلك الصرح الشامخ ظنته لجة ماء - أي ماءً غمراً كثيراً - وكشفت عن ساقيها لتخوض فيها {قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوَارِيرَ} أي قال سليمان: إنه قصر مملَّس من الزجاج الصافي {قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي} أي قالت بلقيس حينئذٍ: ربّ إني ظلمت نفسي بالشرك وعبادة الشمس {وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} أي وتابعتُ سليمان على دينه فدخلت في الإِسلام مؤمنةً برب العالمين، قال ابن كثير: والغرضُ أن سليمان عليه السلام اتخذ قصراً عظيماً منيفاً من زجاج لهذه الملكة، ليريها عظمة سلطانه وتمكنه، فلما رأت ما آتاه الله وجلالة ما هو فيه وتبصرت في أمره، انقادت لأمر الله تعالى وعرفت أنه نبيٌ كريم، وملِكٌ عظيم، وأسلمت لله عز وجل.



قصة صالح عليه السلام



{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا أَنْ اعْبُدُوا اللَّهَ فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ(45)قَالَ يَا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ لَوْلا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ(46)قَالُوا اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ قَالَ طَائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ(47)وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ(48)قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ(49)وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ(50)فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ(51)فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ(52)وَأَنجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ(53)}.



{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا أَنْ اعْبُدُوا اللَّهَ} اللام جواب قسم محذوف أي والله لقد أرسلنا إلى قبيلة ثمود أخاهم - في النسب لا في الدين - صالحاً عليه السلام يدعوهم إلى توحيد الله وعبادته {فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ} أي فإِذا هم جماعتان: مؤمنون وكافرون يتنازعون في شأن الدين قال مجاهد: "فريقان: مؤمنٌ، وكافر" واختصامُهم: اختلافهم وجدالهم في الدين، وجاء الفعل بالجمع {يَخْتَصِمُونَ} حملاً على المعنى {قَالَ يَا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ} أي قال لهم صالح بطريق التلطف والرفق: يا قومِ لم تطلبون العذاب قبل الرحمة ؟ ولأي شيء تستعجلون بالعذاب ولا تطلبون الرحمة ؟ {لَوْلا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} أي هلاّ تتوبون إلى الله من الشرك لكي يتوب الله عليكم ويرحمكم؟ قال المفسرون: كان الكفار يقولون لفرط الإِنكار: يا صالح ائتنا بعذاب الله فقال لهم: هلاّ تستغفرون الله قبل نزول العذاب، فإِن استعجال الخير أولى من استعجال الشر!! {قَالُوا اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ} أي تشاءمنا بك يا صالح وبأتباعك المؤمنين فإِنكم سبب ما حلَّ بنا من بلاء، وكانوا قد أصابهم القحط وجاعوا {قَالَ طَائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ} أي حظكم في الحقيقة من خيرٍ أو شر هو عند الله وبقضائه، إن شاء رزقكم وإِن شاء حرمكم .. لمّا لاطفهم في الخطاب أغلظوا له في الجواب وقالوا تشاءَمنا بك وبمن معك، فأخبرهم أن شؤمهم بسبب عملهم لا بسبب صالح والمؤمنين {بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ} أي بل الحقيقةُ أنكم جماعة يفتنكم الشيطان بوسوسته وإِغوائه ولذلك تقولون ما تقولون {وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ} أي وكان في مدينة صالح - وهي الحِجْر - تسعةُ رجالٍ من أبناء أشرافهم قال الضحاك: كان هؤلاء التسعة عظماء أهل المدينة {يُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ} أي شأنهم الإِفساد، وإِيذاء العباد بكل طريق ووسيلة قال ابن عباس: وهم الذين عقروا الناقة {قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ} أي قال بعضُهم لبعض: احلفوا باللهِ {لَنُبَيِّتَنهُ وَأَهْلَهُ} أي لنقتلنَّ صالحاً وأهله ليلاً {ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ} أي ثم نقول لوليّ دمه ما حضرنا مكان هلاكه ولا عرفنا قاتله ولا قاتل أهله {وَإِنَّا لَصَادِقُونَ} أي ونحلف لهم إنا لصادقون قال ابن عباس: أتوا دار صالح شاهرين سيوفهم، فرمتهم الملائكة بالحجارة فقتلتهم قال تعالى {وَمَكَرُوا مَكْرًا} أي دبَّروا مكيدةً لقتل صالح {وَمَكَرْنَا مَكْرًا} أي جازيناهم على مكرهم بتعجيل هلاكهم، سمَّاه مكراً بطريق المشاكلة {وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} أي من حيث لا يدرون ولا يعلمون قال أبو حيان: ومكرُهم ما أخفوه من تدبير الفتك بصالح وأهله، ومكرُ الله إهلاكُهم من حيث لا يشعرون {فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ} أي فتأملْ وتفكرْ في عاقبة أمرهم ونتيجة كيدهم، كيف أنَّا أهلكناهم أجمعين وكان مآلهم الخراب والدمار ! {فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا} أي فتلك مساكنهم ودورهم خاليةً بسبب ظلمهم وكفرهم لآن أهلها هلكوا {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} أي إن في هذا التدمير العجيب لعبرة عظيمة لقوم يعلمون قدرة الله فيتعظون {وَأَنجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} أي وأنجينا من العذاب المؤمنين المتقين الذين آمنوا مع صالح.



قصة لوط عليه السلام



{وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ(54)أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ(55)فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ(56)فَأَنجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَاهَا مِنَ الْغَابِرِينَ(57)وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنذَرِينَ(58)}.



{وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ} أي واذكر رسولنا "لوطاً" حين قال لقومه أهل سدوم {أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ} أي أتفعلون الفعلة القبيحة الشنيعة وهي اللواطة {وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ} أي أنتم تعلمون علماً يقيناً أنها فاحشة وأنها عملٌ قبيح؟ {أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ} تكريرٌ للتوبيخ أي أئنكم أيها القوم لفرط سفهكم تشتهون الرجال وتتركون النساء؟ ويكتفي الرجال بالرجال بطريق الفاحشة القبيحة {بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} أي بل أنتم قوم سفهاء ما جنون ولذلك تفضلون العمل الشنيع على ما أباح الله لكم من النساء {فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ} أي فما كان جواب أولئك المجرمين إلا أن قالوا أخرجوا لوطاً وأهله من بلدتكم {إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ} أي إنهم قوم يتنزهون عن القاذورات ويعدّون فعلنا قذراً، وهو تعليلٌ لوجوب الطرد والإخراج قال قتادة: عابوهم والله بغير؟ بأنهم يتطهرون من أعمال السوء وقال ابن عباس هو استهزاء يستهزئون بهم بأنهم يتطهرون عن أدبار الرجال {فَأَنجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلا امْرَأَتَهُ} أي فخلصناه هو وأهله من العذاب الواقع بالقوم إلا زوجته {قَدَّرْنَاهَا مِنَ الْغَابِرِينَ} أي جعلناها بقضائنا وتقديرنا من المهلكين، الباقين في العذاب {وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا} أي أنزلنا عليهم حجارة من السماء كالمطر فأهلكتْهُم {فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنذَرِينَ} أي بئس هذا العذاب الذي أُمطروا به وهو الحجارة من سجيلٍ منضود.



دلائل القدرة والوحدانية



{قُلْ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى ءَآللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ(59)أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَأَنزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَءلَهُُ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ(60)أَمَّنْ جَعَلَ الأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا أَءلَهُُ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ(61) أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ أَءلَهُُ مَعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ(62)أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَءلَهُُ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ(63)أَمَّنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَءلَهُُ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ(64)}.



ولما ذكر تعالى قصص الأنبياء أتبعه بذكر دلائل القدرة والوحدانية فقال {قُلْ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى} أي قل يا محمد الحمدُ للهِ على أفضاله وإنعامه، وسلامٌ على عباده المرسلين الذين اصطفاهم لرسالته،واختارهم لتبليغ دعوته قال الزمخشري: أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن يتلو هذه الآيات الدالة على وحدانيته، الناطقة بالبراهين على قدرته وحكمته، وأن يستفتح بتحميده والسلام على أنبيائه، وفيه تعليمٌ حسن، وتوقيفٌ على أدبٍ جميل، وهو حمد الله والصلاة على رسله، ولقد توارث العلماء والخطباء والوعاظ كابراً عن كابر هذا الأدب، فحمدوا الله وصلوا على رسوله أمام كل علم، وقبل كل عظة وتذكرة {ءآللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ} تبكيتٌ للمشركين وتهكمٌ بهم أي هل الخالق المبدع الحكيم خيرٌ أم الأصنام التي عبدوها وهي لا تسمع ولا تستجيب ؟ {أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ} برهان آخر على وحدانية الله أي أمَّن أبدع الكائنات فخلق تلك السماواتِ في ارتفاعها وصفائها، وجعل فيها الكواكب المنيرة، وخلق الأرض وما فيها من الجبال والسهول والأنهار والبحار، خيرٌ أمّا يشركون ؟ {وَأَنزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ} أي وأنزل لكم بقدرته المطر من السحاب فأخرج به الحدائق والبساتين، ذات الجمال والخضرة والنضرة، والمنظر الحسنِ البهيج {مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا} أي ما كان للبشر ولا يتهيأ لهم، وليس بمقدورهم ومستطاعهم أن يُنبتوا شجرها فضلاً عن ثمرها {أَءلَهُ مَعَ اللَّهِ} استفهام إنكار أي هل معه معبود سواه حتى تسوّوا بينهما وهو المتفرد بالخلق والتكوين؟ {بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ} أي بل هم قوم يشركون بالله فيجعلون له عديلاً ومثيلاً، ويسوّون بين الخالق الرازق والوثن {أَمَّنْ جَعَلَ الأَرْضَ قَرَارًا} برهان آخر أي جعل الأرض مستقَراً للإِنسان والحيوان، بحيث يمكنكم الإِقامة بها والاستقرار عليها {وَجَعَلَ خِلالَهَا أَنْهَارًا} أي وجعل في شعابها وأوديتها الأنهار العذبة الطيبة، تسير خلالها شرقاً وغرباً، وشمالاً وجنوباً {وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ} أي وجعل جبالاً شامخة ترسي الأرض وتثبتها لئلا تميد وتضطرب بكم {وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا} أي وجعل بين المياه العذبة والمالحة فاصلاً ومانعاً يمنعها من الاختلاط، لئلا يُفسد ماء البحار المياهَ العذبة {أَءلَه مَعَ اللَّهِ}؟ أي أمع الله معبودٌ سواه؟ {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ} أي أكثر المشركين لا يعلمون الحق فيشركون مع الله غيره {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ} برهانٌ ثالث أي أمّن يجيب المكروب المجهود الذي مسَّه الضر فيستجيب دعاءه ويلبي نداءه؟ {وَيَكْشِفُ السُّوءَ} أي ويكشف عنه الضُرَّ والبأساء؟ {وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ} أي ويجعلكم سكان الأرض تعمرونها جيلاً بعد جيل، وأُمةً بعد أُمة {أَءلَهُُ مَعَ اللَّهِ}؟ أي أءِله مع الله يفعل ذلك حتى تعبدوه؟ {قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ} أي ما أقلَّ تذكركم واعتباركم فيما تشاهدون؟ {أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ}؟ برهان رابع أي أم من يرشدكم إلى مقاصدكم في أسفاركم في الظلام الدامس، في البراري، والقفار، والبحار؟ والبلاد التي تتوجهون إليها بالليل والنهار؟ {وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ}؟ أي ومن الذي يسوق الرياح مبشرةً بنزول المطر الذي هو رحمة للبلاد والعباد ؟ {أَءلَهُُ مَعَ اللَّهِ}؟ أي أءِلهٌ مع الله يقدر على شيءٍ من ذلك؟ {تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} أي تعظَّم وتمجَّد الله القادر الخالق عن مشاركة العاجز المخلوق {أَمَّنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ} برهانٌ خامس أي أمَّنْ يبدأ خلق الإِنسان ثم يعيده بعد فنائه ؟ قال الزمخشري: كيف قال لهم ذلك وهم منكرون للإِعادة؟ والجواب أنه قد أُزيحت علَّتُهم بالتمكين من المعرفة والإِقرار، فلم يبق لهم عذرٌ من الإِنكار {وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} أي ومن يُنزل عليكم من مطر السماء، ويُنبتُ لكم من بركات الأرض الزروع والثمار؟ قال أبو حيان: لما كان إِيجاد بني آدم إنعاماً إليهم وإِحساناً عليهم، ولا تتم النعمة إلا بالرزق قال {وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ منْ السَّمَاءِ} أي بالمطر {وَالأَرْضِ} أي بالنبات {أَءلَهُُ مَعَ اللَّهِ}؟ أي أإله مع الله يفعل ذلك ؟ {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} أي أحضروا حجتكم ودليلكم على ما تزعمون إن كنتم صادقين في أنَّ مع الله إلهاً آخر.



علم الغيب لله وحده



{قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ(65)بَلْ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْهَا بَلْ هُمْ مِنْهَا عَمُونَ(66)}.



{قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلا اللَّهُ} أي هو سبحانه وحده المختص بعلم الغيب، فلا يعلم أحدٌ من ملك أو بشر الغيب إلا اللهُ علامُ الغيوب قال القرطبي: نزلت في المشركين حين سألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن قيام الساعة {وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ}؟ أي وما يدري ولا يشعر الخلائق متى يُبعثون بعد موتهم؟ {بَلْ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الآخِرَةِ} أي هل تتابع وتلاحق علمُ المشركين بالآخرة وأحوالها حتى يسألوا عن الساعة وقيامها؟ إنهم لا يصدقون بالآخرة فلماذا يسألون على قيامة الساعة؟ {بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْهَا} إضراب عن السابق أي هم شاكون في الآخرة لا يصدّقون بها ولذلك يعاندون ويكابرون {بَلْ هُمْ مِنْهَا عَمُونَ} أي بل هم في عَمىً عنها، ليس لهم بصيرةٌ يدركون بها دلائل وقوعها لأن اشتغالهم باللذات النفسانية من شهوة البطن والفرج صيّرهم كالبهائم والأنعام لا يتدبرون ولا يبصرون قال ابن كثير: هم شاكون في وقوعها ووجودها، بل هم في عماية وجهلٍ كبير في أمرها.



إنكار المشركين للبعث



{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَئِذَا كُنَّا تُرَابًا وَآبَاؤُنَا أَئِنَّا لَمُخْرَجُونَ(67)لَقَدْ وُعِدْنَا هَذَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ(68)قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ(69)وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ(70)وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ(71)قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ(72)وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ(73)وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ(74)وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِلا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ(75)}.



{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَئِذَا كُنَّا تُرَابًا وَآبَاؤُنَا أَئِنَّا لَمُخْرَجُونَ} أي قال مشركو مكة المنكرون للبعث: أئذا متنا وأصبحنا رفاتاً وعظاماً بالية، فهل سنخرج من قبورنا ونحيا مرة ثانية؟ {لَقَدْ وُعِدْنَا هَذَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ} أي لقد وَعدنا محمدٌ بالبعث كما وعَدَ من قبله آباءنا الأولين، فلو كان حقاً لحصل { إِنْ هَذَا إِلا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ} أي ما هذا إلا خرافات وأباطيل السابقين. ينكرون البعث وينسون أنهم خُلقوا من العدم، وأن الذي خلقهم أولاً قادر على أن يعيدهم ثانياً! {قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ} أي قل لهؤلاء الكفار: سيروا في أرجاء الأرض {فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ} أي فانظروا - نظر اعتبار - كيف كان مآل المكذبين للرسل؟ ألم يهلكهم الله ويدمّرهم؟ فما حدث للمجرمين من قبل، يحدث للمجرمين من بعد، والآيةُ وعيدٌ وتهديد {وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ} تسلية للرسول عليه السلام أي لا تحزن يا محمد ولا تأسف على هؤلاء المكذبين إنْ لم يؤمنوا، ولا يضقْ صدرك من مكرهم فإِن الله يعصمك منهم {وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} أي يقولون استهزاءً: متى يجيئنا العذاب إن كنتم صادقين فيما تقولون؟ والخطابُ للنبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين {قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ} أي لعلَّ الذي تستعجلون به من العذاب قد دنا وقرُب منكم بعضه قال المفسرون: هو ما أصابهم من القتل والأسر يوم بدر {وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ} أي لذو إفضالٍ وإِنعامٍ على الناس بترك تعجيل عقوبتهم على معاصيهم وكفرهم {وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ} أي ولكنَّ أكثرهم لا يعرفون حقَّ النعمة، ولا يشكرون ربهم {وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ} أي وإِنه تعالى ليعلم ما يُخْفون وما يعلنون من عداوة الرسول وكيدهم له وسيجازيهم عليه {وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِلا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} أي ليس من شيء في غاية الخفاء على الناس والغيبوبة عنهم إلا وقد علمه الله وأحاط به، وأثبته في اللوح المحفوظ عنده، فلا تخفى عليه سبحانه خافية قال ابن عباس: معناه ما من شيءٍ سرٍّ في السماوات والأرض أو علانية إلا وعند الله علمه.



ذكر أوصاف القرآن الكريم



{إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ(76)وَإِنَّهُ لَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ(77)إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ(78)فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ(79)إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ(80)وَمَا أَنْتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلا مَنْ يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ(81)}.



{إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} لما ذكر تعالى أمر المبدأ والمعاد والنبوة، وكان القرآن من أعظم الدلائل والبراهين على صدق محمد وصدق ما جاء به، أعقبه هنا بذكر القرآن المجيد وذكر أوصافه والمعنى: إن هذا القرآن المنزَّل على خاتم الرسل لهو الكتاب الحق الذي يبين لأهل الكتاب ما اختلفوا فيه من أمر الدين، ومن جملته اختلافهم في أمر المسيح وتفرقُهم فيه فرقاً كثيرة حتى لعن بعضهم بعضاً، فلو كانوا منصفين لأسلموا، لأن القرآن جاءهم بالرأي الساطع، والخبر القاطع {وَإِنَّهُ لَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} أي وإِنه لهداية لقلوب المؤمنين من الضلالة، ورحمة لهم من العذاب، قال القرطبي: وإِنما خصَّ المؤمنين بالذكر لأنهم المنتفعون به {إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ} أي إن ربك يا محمد يفصل بين بني إسرائيل يوم القيامة بحكمه العادل، وقضائه المبرم، فيجازي المحقَّ والمبطل {وَهُوَ الْعَزِيزُ} أي المنيع الغالب الذي لا يُردُّ أمره {الْعَلِيمُ} أي العليم بأفعال العباد فلا يخفى عليه شيء منهم {فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} أي فوِّضْ إليه أمرك، واعتمد عليه في جميع شؤونك فإِنه ناصرك {إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ} أي إنك يا محمد على الدين الحق، الواضح المنير، فالعاقبة لك بالنصر على الكفار {إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى} أي لا تُسمع الكفار لتركهم التدبر والاعتبار، فهم كالموتى لا حسَّ لهم ولا عقل {وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ} أي ولا تُسمعهم دعاءَك ونداءك إِذا ذكَّرتهم بالله أو دعوتهم إلى الإِيمان، لأنهم كالصُّم الذين في آذانهم وقرٌ، فلا يستجيبون الدعاء، لا سيما إذا تولَّوا عنك معرضين، فإِن الأصمَّ إذا تولى مدبراً ثم ناديته كان أبعد عن السماع حيث انضم إلى صَمَمه بعدُ المسافة {وَمَا أَنْتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ} أي وليس بوسعك يا محمد أن تصرف عُمي القلوب عن كفرهم وضلالهم {إِنْ تُسْمِعُ إِلا مَنْ يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ} أي ما تُسمع - سماع تدبر وإِفهام - إلا المؤمنين، ولا يستجيب لدعوتك إلاّ أهل الإِيمان، وهم الذين انقادوا وأسلموا وجوههم للرحمن .. شبَّه من لا يسمع ولا يعقل بالموتى في أنهم لا يسمعون وإِن كانوا أحياء، ثم شبههم ثانياً بالصم وبالعُمي وإِن كانوا سليمي الحواس، وأكَّد عدم سماعهم بقوله { إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ} لأن الأصمَّ إذا أدبر زاد صممُه أو عُدم سماعُه بالكلية، والغرضُ من الآية أنَّ هؤلاء الكفار كالموتى، وكالصُمّ، وكالعُمي، لا يفهمون ولا يسمعون ولا يبصرون، ولا يلتفتون إلى شيء من الدلائل الكونية، أو الآيات القرآنية.

إخراج دابة الأرض وحشر الأمم



{وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لا يُوقِنُونَ(82)وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجًا مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ يُوزَعُونَ(83)حَتَّى إِذَا جَاءُوا قَالَ أَكَذَّبْتُمْ بِآيَاتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِهَا عِلْمًا أَمَّاذَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ(84)وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ بِمَا ظَلَمُوا فَهُمْ لا يَنطِقُونَ(85)أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ(86)}.



{وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ} هذا بيان لما يكون بين يدي الساعة أي وإِذا قَرُبَ نزولُ العذاب وقيام الساعة، وحان وقت عذاب الكفار {أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لا يُوقِنُونَ} أي أخرجنا للكفار هذه الآية الكبيرة "دابة الأرض" تكلم الناس وتناظرهم وتقول من جملة كلامها: ألا لعنةُ الله على الظالمين، الذين لا يصدّقون ولا يؤمنون بآيات الله، وخروجُ الدابة من أشراط الساعة وفي الحديث (لا تقوم الساعةُ حتى تروا عشر ءاياتٍ .. وعدَّ منها طلوع الشمس من مغربها، وخروجَ الدابة .. ) الحديث قال ابن كثير: هذه الدابة تخرج في آخر الزمان، عند فساد الناس وتركهم أوامر الله، وتبديلهم الدين الحق، فتكلم الناس وتخاطبهم مخاطبة، قال ابن عباس وعطاء: تكلمهم كلاماً فتقول لهم: إن الناس كانوا بآياتنا لا يوقنون، وروي أن خروجها حين ينقطع الخير، ولا يُؤمر بمعروف ولا ينهى عن منكر، ولا يبقى منيبٌ ولا تائب، وهي آية خاصة خارقة للعادة، ثم ذكر بعض مشاهد القيامة فقال {وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجًا} أي واذكر يوم نجمع للحساب والعقاب من كل أمةٍ من الأمم جماعة وزمرة { مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآيَاتِنَا} أي من الجاحدين المكذبين بآياتنا ورسلنا {فَهُمْ يُوزَعُونَ} أي فهم يُجمعون ثم يُساقون بعنف {حَتَّى إِذَا جَاءُوا قَالَ أَكَذَّبْتُمْ بِآيَاتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِهَا عِلْمًا} أي حتى إذا حضروا موقف الحساب والسؤال قال لهم تعالى مُوبِخاً ومُقرِّعاً: أكذبتم بآياتي المنزلة على رسلي من غير فكر ولا نظر يؤدي إلى إحاطة العلم بكنهها، أو معرفة صدقها؟ {أَمَّاذَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} تقريع وتوبيخ آخر أيْ أيَّ شيء كنتم تعملون في الدنيا؟ وبَّخهم أولاً بقوله {أَكَذَّبْتُمْ بِآيَاتِي} ثم أضرب عنه إلى استفهام تقرير وتبكيت كأنه قيل: دَعُوا ما نسبتُه إليكم من التكذيب وقولوا لي: أيَّ شيءٍ كنتم تعملونه في الدنيا غير التكذيب؟ {وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ بِمَا ظَلَمُوا} أي بُهِتوا فلم يكن لهم جواب، وقامت عليهم الحجة وحقَّ عليهم العذاب، بسبب ظلمهم وهو تكذيبهم بآيات الله {فَهُمْ لا يَنطِقُونَ} أي فهم لا يتكلمون لأنه ليس لهم عذر ولا حجة، وقد شُغلوا بالعذاب عن الجواب .. ثم لما ذكر تعالى أهوال القيامة ذكر الأدلة والبراهين على التوحيد والحشر والنشر مبالغةً في الإِرشاد إلى الإِيمان فقال: {أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا}؟ أي ألم يروا قدرة الله فيعتبروا أنه تعالى جعل الليل مظلماً ليناموا ويستريحوا من تعب الحياة، وجعل النهار منيراً مشرقاً ليتصرفوا فيه في طلب المعاش والرزق؟ {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} أي إن في تقليب الليل والنهار من نور إلى ظلمة، ومن ظلمةٍ إلى نور لآيات باهرة، ودلائل قاطعة على قدرة الله لقومٍ يصدّقون فيعتبرون.



النفخ في الصور وتسيير الجبال



{وَيَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلا مَنْ شَاءَ اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ(87)وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ(88)مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ(89)وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ(90)}.



ثم أشار تعالى إلى أحوال الناس في الآخرة فقال {وَيَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلا مَنْ شَاءَ اللَّهُ} أي واذكر يوم ينفخ إسرافيل في الصور "نفخة الفزع" فلا يبقى أحدٌ من أهل السماواتِ والأرض إلا خاف وفزع إلا من شاء الله من الملائكة والأنبياء والشهداء قال المفسرون: هذه نفخة الفزع، ثم تتلوها نفخة الصَّعق - وهو الموت - ثم بعد ذلك نفخة النشور من القبور وهي نفخة القيام لرب العالمين، قال أبو هريرة: إن الملك له في الصور ثلاثُ نفخات: نفخةُ الفزع - وهو فزع الحياة الدنيا - وليس بالفزع الأكبر، ونفخة الصَّعْق، ونفخة القيامة من القبور {وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ} أي وكلٌّ من الأموات الذين أُحيوا أتَوْا ربَّهم صاغرين مطيعين لم يتخلف منهم أحد {وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً} أي وترى أيها المخاطب الجبال وقت النفخة الأولى تظنها ثابتة في مكانها وواقفة {وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ} أي وهي تسير سيراً سريعاً كالسحاب قال الإِمام الفخر الرازي: ووجه حسبانهم أنها جامدة أن الأجسام الكبار إذا تحركت حركة سريعة على نهجٍ واحد ظنَّ الناظر إليها أنها واقفة مع أنها تمر مراً سريعاً {صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ} أي ذلك صنعُ الله البديع، الذي أحكم كل شيء خلقه، وأودع فيه من الحكمة ما أودع {إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ} أي هو عليم بما يفعل العباد من خير وشر، وسيجازيهم عليه أتم الجزاء .. ثم بيَّن تعالى حال السعداء والأشقياء في ذلك اليوم الرهيب فقال {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا} أي من جاء يوم القيامة بحسنةٍ من الحسنات، فإِن الله يضاعفها له إلى عشر حسنات، ويعطيه بالعمل القليل الثواب الأبدي {وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ} أي وهم من خوف ذلك اليوم العصيب آمنون كما قال تعالى {لا يَحْزُنُهُمْ الْفَزَعُ الأَكْبَرُ} {وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ} قال ابن عباس: السيئة: الإِشراك بالله أي ومن جاء يوم القيامة مسيئاً لا حسنة له أو مشركاً بالله فإِنه يكبُّ في جهنم على وجهه منكوساً، ويُلقى فيها مقلوباً {هَلْ تُجْزَوْنَ إِلا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} أي يقال لهم توبيخاً: هل تُجزون إلا جزاء ما كنتم تعملون في الدنيا من سيء الأعمال؟



الأمر بعبادة الله وتلاوة القرآن



{إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ(91)وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّمَا أَنَا مِنَ الْمُنذِرِينَ(92)وَقُلْ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ(93)}.



{إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا} أي قل لهم يا محمد: لقد أُمرت أن أخصَّ الله وحده بالعبادة ربَّ البلد الأمين الذي جعل مكة حرماً آمناً لا يُسفك فيها دم، ولا يُظلم فيها أحد، ولا يصاد صيدها ولا يُختلى خلاها كما جاء في الحديث الصحيح {وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ} أي هو تعالى الخالق والمالك لكل شيء فهو رب كل شيء ومليكه {وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} أي وأُمرتُ أن أكون من المخلصين لله بالتوحيد، المنقادين لأمره، المستسلمين لحكمه {وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ} أي وأُمرتُ أيضاً بتلاوة القرآن لتنكشف لي حقائقه الرائعة، وأن أقرأه على الناس {فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ} أي فمن اهتدى بالقرآن، واستنار قلبه بالإِيمان، فإِن ثمرة هدايته راجعة إليه {وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّمَا أَنَا مِنَ الْمُنذِرِينَ} أي ومن ضلَّ عن طريق الهدى، فوبالُ ضلاله مختص به، إذْ ما على الرسول إلا البلاغ وقد بلغتكم رسالة الله {وَقُلْ الْحَمْدُ لِلَّهِ} أي قل يا محمد: الحمد لله على ما خصني به من شرف النبوة والرسالة، وما أكرمني من رفيع المنزلة والمقام {سَيُرِيكُمْ ءاياتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا} تهديد ووعيد أي سيريكم ءاياته الباهرة الدالة على عظيم قدرته وسلطانه في الأنفس والآفاق فتعرفونها حين لا تنفعكم المعرفة {وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} أي وما ربك بغافل عن أعمال العباد بل هو على كل شيء شهيد، وفيه وعدٌ ووعيد.

yacine414
2011-03-26, 20:36
سورة القصص



التسميَة

نصر المستضعفين

إلقاء موسى في اليم والبشارة بنبوته

قتل موسى القبطيَّ خطأً وخروجه من مصر

ذهاب موسى إلى أرض مدين وزواجه من ابنة شعيب

عودة موسى عليه السلام إلى مصر

تأييد موسى بنبوة أخيه هارون

ادِّعاء فرعون الأُلوهية وتكبُّرِه في الأرض

الحاجة إلى إرسال الرسل

عناد المشركين وتعنتهم في رد الحق

إيمان طوائف من أهل الكتاب بالقرآن

الرد على شبه المشركين

توبيخ المشركين يوم القيامة على مزاعمهم

الله وحده هو الخالق المتصرف العالِم بمكنونات الأنفس

دلائل قدرة الله عز وجل وتأكيد توبيخ المشركين

قصة قارون وبغيه على قوم موسى

طغيان قارون بجاهه وماله

الآخرة دار الجزاء

قصص النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه مع قومه





بَين يَدَي السُّورَة



* سورة القصص من السور المكية التي تهتم بجانب العقيدة "التوحيد، والرسالة، والبعث" وهي تتفق في منهجها ومقاصدها مع سورتي "النمل، والشعراء" كما اتفقت في جو النزول، فهي تكمِّل أو تُفصِّل ما أُجمل في السورتين قبلها.



* محور السورة الكريمة يدور حول فكرة الحق والباطل، ومنطق الإِذعان والطغيان، وتصور أشكال الصراع بين جند الرحمن، وجند الشيطان، وقد ساقت في سبيل ذلك قصتين: أولاهما قصة الطغيان بالحكم والسلطان، ممثلة في قصة فرعون الطاغية المتجبر الذي أذاق بني إسرائيل سوء العذاب، فذبح الأبناء، واستحيا النساء، بل وصل به الكبرياء إلى ادعاء الربوبية {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} والثانية: قصة الاستعلاء والطغيان بالثروة والمال ممثلة في "قارون مع قومه،" وكلا القصتين رمزٌ إلى طغيان الإِنسان في هذه الحياة، سواءً كان ذلك الطغيان بالمال، أو الجاه، أو السلطان.



* ابتدأت السورة بالحديث عن طغيان فرعون وعلوه وفساده في الأرض، ومنطق الطغيان في كل زمان ومكان.



* ثم انتقلت إلى الحديث عن ولادة موسى عليه السلام وخوف أُمه عليه من بطش فرعون، وإلهام الله تعالى لها بإلقائه في البحر ليعيش معززاً مكرماً في حجر فرعون كريحانةٍ زكية تنبتُ وسط الأشواك والأوحال.



* ثم تحدثت عن بلوغ موسى عليه السلام سن الرشد، وعن قتله للقبطيِّ، وعن هجرته إلى أرض مدين وتزوجه بابنة شعيب عليه السلام، ثم تكليف الله تعالى بالعودة إلى مصر لدعوة فرعون الطاغية إلى الله، وما كان من أمر موسى مع فرعون بالتفصيل إلى أن أغرقه الله، وتحدثت عن كفار مكة ووقوفهم في وجه الرسالة المحمدية، وبيَّنت أن مسلك أهل الضلال واحد.



* ثم انتقلت إلى الحديث عن قصة قارون، وبينت الفارق العظيم بين منطق الإيمان، ومنطق الطغيان.



*وختمت السورة الكريمة بالإرشاد إلى طريق السعادة وهو طريق الإِيمان الذي دعى إليه الرسل الكرام.



التسميَة:

سميت سورة "القصص" لأن الله تعالى ذكر فيها قصة موسى مفصلة موضحة من حين ولادته إلى حين رسالته، وفيها من غرائب الأحداث العجيبة ما يتجلى فيه بوضوح عناية الله بأوليائه وخذلانه لأعدائه.



نصر المستضعفين



{طسم(1)تِلْكَ ءايَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ(2)نَتْلُو عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ(3)إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءهُمْ وَيَسْتَحْيِ نِسَاءَهمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ(4)وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمْ الْوَارِثِينَ(5) وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ(6)}.



{طسم} الحروف المقطعة للتنبيه على إعجاز القرآن الكريم، والإِشارة إلى أن هذا الكتاب المعجز في فصاحته وبيانه مركبٌ من أمثال هذه الحروف الهجائية {تِلْكَ ءايات الْكِتَابِ الْمُبِينِ} أي هذه ءايات القرآن الواضح الجلي، الظاهر في إعجازه، الواضح في تشريعه وأحكامه {نَتْلُو عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ} أي نقرأ عليك يا محمد بواسطة الروح الأمين من الأخبار الهامة عن موسى وفرعون من الحق الذي لا يأتيه الباطل، والصدق الذي لا ريب فيه ولا كذب {لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} أي لقومٍ يصدقون بالقرآن فينتفعون .. ثم بدأ بذكر قصة فرعون الطاغية فقال {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَرْضِ} أي استكبر وتجبَّر، وجاوز الحد في الطغيان في أرض مصر {وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا} أي جعل أهلها فرقاً وأصنافاً في استخدامه وطاعته {يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ} أي يستعبد ويستذل فريقاً منهم وهم بنو إسرائيل فيسومهم سوء العذاب {يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهمْ وَيَسْتَحْيِ نِسَاءَهُمْ} أي يقتّل أبناءهم الذكور ويترك الإِناث على قيد الحياة لخدمته وخدمة الأقباط قال المفسرون: سبب تقتيله الذكور أن فرعون رأى في منامه أن ناراً عظيمةً أقبلت من بيت المقدس وجاءت إلى أرض مصر فأحرقت القبط دون بني إسرائيل، فسأل عن ذلك المنجّمين والكهنة، فقالوا له: إن مولوداً يولد في بني إسرائيل، يذهب ملكك على يديه، ويكون هلاكك بسببه فأمر أن يقتل كل ذكر من أولاد بني إسرائيل {إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} أي من الراسخين في الفساد، المتجبرين في الأرض، ولذلك ادعى الربوبية وأمعن في القتل وإذلال العباد {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ} أي ونريد برحمتنا أن نتفضل وننعم على المستضعفين من بني إسرائيل فننجيهم من بأس فرعون وطغيانه {وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً} أي ونجعلهم أئمة يقتدى بهم في الخير بعد أن كانوا أذلاء مسخرين قال ابن عباس: {أَئِمَّةً} قادة في الخير، وقال قتادة: ولاةً وملوكاً {وَنَجْعَلَهُمْ الْوَارِثِينَ} أي ونجعل هؤلاء الضعفاء وارثين لملك فرعون وقومه، يرثون ملكهم ويسكنون مساكنهم بعد أن كان القبط أسياد مصر وأعزتها {وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأَرْضِ } أي ونملكهم بلاد مصر والشام يتصرفون فيها كيف يشاءون قال البيضاوي: أصل التمكين أن تجعل للشيء مكاناً يتمكن فيه ثم استعير للتسليط وإطلاق الأمر {وَنُرِي فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ} أي ونري فرعون الطاغية، ووزيره "هامان" والأقباط من أولئك المستضعفين ما كانوا يخافونه من ذهاب ملكهم وهلاكهم على يد مولودٍ من بني إسرائيل.



إلقاء موسى في اليم والبشارة بنبوته



{وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ(7)فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ(8)وَقَالَتْ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ(9)وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ(10)وَقَالَتْ لأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ(11)وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ(12) فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ(13)وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى ءاتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ(14)}.



{وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ} أي قذفنا في قلبها بواسطة الإِلهام قال ابن عباس: هو وحيُ إلهام وقال مقاتل: أخبرها جبريل بذلك قال القرطبي: فعلى قول مقاتل هو وحيُ إعلام لا إلهام، وأجمع الكل على أنها لم تكن نبية، وإنما إرسال الملك إليها على نحو تكليم الملك للأقرع والأبرص والأعمى كما في الحديث المشهور، وكذلك تكليم الملائكة للناس من غير نبوة، وقد سلَّمت على "عمران بن حصين" فلم يكن نبياً {فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ} أي فإذا خفت عليه من فرعون فاجعليه في صندوق وألقيه في البحر - بحر النيل - {وَلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي} أي لا تخافي عليه الهلاك ولا تحزني لفراقه {إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ} أي فإنا سنرده إليك ونجعله رسولاً نرسله إلى هذا الطاغية لننجّي بني إسرائيل على يديه{فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا} أي فأخذه وأصابه أعوان فرعون لتكون عاقبة الأمر أن يصبح لهم عدواً ومصدر حزن وبلاءً وهلاك قال القرطبي: اللام في "ليكون" لام العاقبة ولام الصيرورة، لأنهم إنما أخذوه ليكون لهم قرة عين، فكان عاقبة ذلك أن صار لهم عدواً وحزناً، فذكر الحال بالمال كما قال الشاعر:

وللمنايا تُرَبِّي كلُّ مرضعةٍ ودورُنا لخراب الدهر نبْنيها

{إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ} أي كانوا عاصين مشركين آثمين، قال العلماء: الخاطئ من تعمد الذنب والإِثم، والمخطئ من فعل الذنب عن غير تعمد {وَقَالَتْ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ قُرَّةُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ} أي قالت زوجة فرعون لفرعون: هذا الغلام فرحة ومسرة لي ولك لعلنا نسر به فيكون قرة عين لنا قال الطبري: ذكر أن المرأة لما قالت هذا القول لفرعون قال لها: أمَّا لك فنعم، وأما لي فليس بقرة عين، وقال ابن عباس: لو قال قرة عين لي لهداه الله به ولآمن ولكنه أبى {لا تَقْتُلُوهُ} أي لا تقتله يا فرعون، خاطبته بلفظ الجمع كما يُخاطب الجبارون تعظيماً له ليساعدها فيما تريد {عَسَى أَنْ يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا} عسى أن ينفعنا في الكبر، أو نتبناه فنجعله لنا ولداً تقَرُّ به عيوننا قال المفسرون: وكانت لا تلد فاستوهبت موسى من فرعون فوهبه لها قال تعالى {وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} أي وهم لا يشعرون أن هلاك فرعون وزبانيته سيكون على يديه وبسببه {وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا} أي صار قلبها خالياً من ذكر كل شيء في الدنيا إلا من ذكر موسى، وقيل المعنى: طار عقلها من فرط الجزع والغم حين سمعت بوقوعه في يد فرعون {إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ} أي إنها كادت أن تكشف أمره وتظهر أنه ابنها من شدة الوجد والحزن قال ابن عباس: كادت تصيح واإبناه، وذلك حين سمعت بوقوعه في يد فرعون {لَوْلا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا} أي لولا أن ثبتناها وألهمناها الصبر {لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} أي لتكون من المصدقين بوعد الله برده عليها {وَقَالَتْ لأُخْتِهِ قُصِّيهِ } أي قالت أم موسى لأخت موسى: اتبعي أثره حتى تعلمي خبره قال مجاهد : قصي أثره وانظري ماذا يفعلون به ؟ {فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} أي فأبصرته عن بعد وهم لا يشعرون أنها أخته، لأنها كانت تمشي على ساحل البحر حتى وصل الصندوق إلى بيت فرعون وهي ترقبه مستخفيةً عنهم {وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ} أي ومنعنا موسى أن يقبل ثدي أي مرضعة من المرضعات اللاتي أحضروهن لإِرضاعه من قبل مجيء أُمه قال المفسرون: بقي أياماً كلما أُتي بمرضع لم يقبل ثديها، فأهمهم ذلك واشتد عليهم الأمر فخرجوا به يبحثون له عن مرضعة خارج القصر فرأوا أخته {فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ} أي هل أدلكم على مرضعة له تكفله وترعاه ؟ {وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ} أي لا يقصرون في إرضاعه وتربيته قال السدي: فدلتهم على أم موسى فانطلقت إليها بأمرهم فجاءت بها، والصبي على يد فرعون يعلله شفقة عليه وهو يبكي يطلب الرضاع، فدفعه إليها فلما وجد ريح أُمه قبل ثديها، فقال فرعون: من أنت منه فقد أبى كل ثديٍ إلا ثديك ؟ فقالت: إني امرأة طيبة الريح، طيبة اللبن، لا أكاد أوتى بصبي إلا قبلني فدفعه إليها، فرجعت إلى بيتها من يومها ولم يبق أحدٌ من آل فرعون إلا أهدى إليها وأتحفها بالهدايا والجواهر فذلك قوله تعالى { فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلا تَحْزَنَ} أي أعدناه إليها تحقيقا للوعد كي تسعد وتهنأ بلقائه ولا تحزن على فراقه {وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ} أي ولتتحقق من صدق وعد الله برده عليها وحفظه من شر فرعون {وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} أي ولكن أكثر الناس يرتابون ويشكون في وعد الله القاطع {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى} أي ولما بلغ كمال الرشد، ونهاية القوة، وتمام العقل والاعتدال قال مجاهد: هو سنُّ الأربعين {ءاتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا} أي أعطيناه الفهم والعلم والتفقه في الدين مع النبُوَّة {وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} أي ومثل هذا الجزاء الكريم نجازي المحسنين على إحسانهم.





قتل موسى القبطيَّ خطأً وخروجه من مصر



{وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ(15)قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ(16)قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ(17)فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفًا يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الَّذِي اسْتَنصَرَهُ بِالأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قَالَ لَهُ مُوسَى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ(18)فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُمَا قَالَ يَا مُوسَى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلا أَنْ تَكُونَ جَبَّارًا فِي الأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ(19)وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَامُوسَى إِنَّ الْمَلا يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ(20)فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ(21)}.



{وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا} أي دخل مصر وقت الظهيرة والناس يخلدون للراحة عند القيلولة {فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ} أي فوجد شخصين يتقاتلان: أحدهما من بني إسرائيل من جماعة موسى، والآخر قبطي من جماعة فرعون {فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ} فاستنجد الإسرائيلي بموسى وطلب غوثه ليدفع عنه شر القبطي {فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ} أي ضربه موسى بجمع كفه فقتله، قال القرطبي: فعل موسى ذلك وهو لا يريد قتله إنما قصد دفعه فكانت فيه نفسه وكانت القاضية {قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ } أي هذا من إغواء الشيطان فهو الذي هيَّج غضبي حتى ضربت هذا {إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ} أي إن الشيطان عدوٌ لابن آدم، مضلٌ له عن سبيل الرشاد، ظاهر العداوة قال الصاوي: نسبه إلى الشيطان من حيث إنه لم يؤمر بقتل القبطي، وظهر له أن قتله خلاف الأولى لما يترتب عليه من الفتن، والشيطان تفرحه الفتن ولذلك ندم على فعله {قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي} أي إني ظلمت نفسي بقتل القبطيِّ فاعف عني ولا تؤاخذني بخطيئتي {فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} أي إنه تعالى المبالغ في المغفرة للعباد، الواسع الرحمة لهم {قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ} أي بسبب إنعامك عليَّ بالقوة وبحق ما أكرمتني به من الجاه والعز، فلن أكون عوناً لأحد من المجرمين، وهذه معاهدة عاهد موسى ربه عليها وقيل: هو قسم وهو ضعيف {فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفًا يَتَرَقَّبُ} أي فأصبح موسى في المدينة التي قتل فيها القبطي خائفاً على نفسه يتوقع وينتظر المكروه، ويخاف أن يؤخذ بجريرته {فَإِذَا الَّذِي اسْتَنصَرَهُ بِالأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ} أي فإذا صاحبه الإِسرائيلي الذي خلَّصه بالأمس يقاتل قبطياً آخر فلما رأى موسى أخذ يصيح به مستغيثاً لينصره من عدوه {قَالَ لَهُ مُوسَى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ} أي قال موسى للإِسرائيلي: إنك لبيِّنُ الغواية والضلال، فإني وقعت بالأمس فيما وقعت فيه من قتل رجلٍ بسببك وتريد أن توقعني اليوم في ورطةٍ أخرى ؟ {فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُمَا} أي فحين أراد موسى أن يبطش بذلك القبطي الذي هو عدوٌ له وللإِسرائيلي {قَالَ يَا مُوسَى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالأَمْسِ} أي قال القبطي: أتريد قتلي كما قتلت غيري بالأمس ؟ {إِنْ تُرِيدُ إِلا أَنْ تَكُونَ جَبَّارًا فِي الأَرْضِ} أي ما تريد يا موسى إلا أن تكون من الجبابرة المفسدين في الأرض {وَمَا تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ} أي وما تريد أن تكون من الذين يصلحون بين الناس.

{وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى} أي وجاء رجل مؤمن من آل فرعون يكتم إيمانه من أبعد أطراف المدينة يشتد ويسرع في مشيه قال ابن عباس: هذا الرجل هو مؤمن من آل فرعون {قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلأ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ} أي قال له يا موسى: إن أشراف فرعون، ووجوه دولته يتشاورون فيك بقصد قتلك { فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ} أي فاخرج قبل أن يدركوك فأنا ناصحٌ لك من الناصحين {فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ} أي فخرج من مصر خائفاً على نفسه يترقب وينتظر الطلب أن يدركه فيأخذه، ثم التجأ إلى الله سبحانه بالدعاء لعلمه بأنه لا ملجأ سواه {قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} أي خلصني من الكافرين واحفظني من شرهم - والمراد بهم فرعون وملؤُه - .



ذهاب موسى إلى أرض مدين وزواجه من ابنة شعيب



{وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَآءَ السَّبِيلِ(22)وَلَمَّا وَرَدَ مآءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمْ امْرَأتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ(23) فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ(24)فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا فَلَمَّا جَاءهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ(25)قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَئْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنْ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ(26) قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ(27)قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلا عُدْوَانَ عَلَيَّ وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ(28)}.



{وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ} أي قصد بوجهه ناحية مدين وهي بلدة شعيب عليه السلام {قَالَ عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ} أي لعل الله يرشدني إلى الطريق السوي الذي يوصلني إلى مقصدي وغايتي قال المفسرون: خرج خائفاً بغير زاد ولا ظهر -مركب- وكان بين مصر ومدين مسيرةُ ثمانية أيام، ولم يكن له علمٌ بالطريق سوى حسن ظنه بربه، فبعث الله إليه ملكاً فأرشده إلى الطريق، ويروى أنه لما وصل مدين كانت خضرةُ البقل تتراءى من بطنه من الهزال، لأنه كان في الطريق يتقوت ورق الشجر {وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ} أي ولما وصل إلى مدين بلدة شعيب وجد على البئر الذي يستقي منه الرعاة جمعاً كثيفاً من الناس يسقون مواشيهم {وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمْ امْرَأتَيْنِ تَذُودَانِ} أي ووجد سوى الجماعة الرعاة امرأتين تكفَّان غنمهما عن الماء {قَالَ مَا خَطْبُكُمَا}؟ أي ما شأنكما تمنعان الغنم عن ورود الماء ؟ ولم تسقيا مع السقاة ؟ {قَالَتَا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ} أي من عادتنا التأني حتى ينصرف الرعاةُ مع أغنامهم عن الماء، فنحن لا طاقة لنا على مزاحمة الأقوياء، ولا نريد مخالطة الرجال، وأبونا رجل مُسنٌّ لا يستطيع لضعفه أن يباشر سقاية الغنم، ولذلك اضطررنا إلى أن نسقي بأنفسنا قال أبو حيان: فيه اعتذارٍ لموسى عن مباشرتهما السقي بأنفسهما، وتنبيهٌ على أن أباهما لا يقدر على السقي لشيخوخته وكبره، واستعطافٌ لموسى على إعانتهما {فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ} أي فسقى لهما غنمهما رحمة بهما، ثم تنحى جانباً فجلس تحت ظل شجرة {فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} أي إني يا ربّ محتاجٌ إلى فضلك وإحسانك، وإلى الطعام الذي أسُدُّ به جوعي، طلب من الله ما يأكله وكان قد اشتد عليه الجوع قال الضحاك: مكث سبعة أيام لم يذق فيها طعاماً إلا بقل الأرض وقال ابن عباس: سار موسى من مصر إلى "مدين" ليس له طعام إلا البقل وورق الشجر، وكان حافياً فما وصل إلى مدين حتى سقطت نعل قدميه، وجلس في الظل -وهو صفوة الله من خلقه- وإن بطنه للاصقٌ بظهره من الجوع، وإن خضرة البقل لتُرى من داخل جوفه، وإنه لمحتاجٌ إلى شق تمرة {فَجَاءتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ} في الكلام اختصار تقديره: فذهبتا إلى أبيهما سريعتين، وكان من عادتهما الإِبطاء فحدثتاه بما كان من أمر الرجل، فأمر إحداهما أن تدعوه له فجاءته تمشي .. الخ أي جاءته حال كونها تمشي مشية الحرائر بحياء وخجل قد سترت وجهها بثوبها قال عمر: لم تكن بسلفع من النساء خرَّاجة ولاَّجة {قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا} أي إنَّ أبي يطلبك ليعوضك عن أجر السقاية لغنمنا قال ابن كثير: وهذا تأدبٌ في العبارة لم تطلبه طلباً مطلقاً لئلا يوهم ريبة {فَلَمَّا جَاءهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} أي فلما جاءه موسى وذكر له ما كان من أمره وسبب هربه من مصر قال له شعيب: لا تخف فأنت في بلدٍ آمن لا سلطان لفرعون عليه وقد نجاك الله من كيد المجرمين {قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ} أي استأجره لرعي أغنامنا وسقايتها {إِنَّ خَيْرَ مَنْ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ} أي إنَّ أفضل من تستأجره من كان قوياً أميناً قال أبو حيان: وقولها كلام حكيم جامع لأنه إذا اجتمعت الكفاية والأمانة في القائم بأمرٍ من الأمور فقد تمَّ المقصود، روي أن شعيباً قال لها: وما أعلمك بقوته وأمانته ؟ فقالت: إنه رفع الصخرة التي لا يطيق حملها إلا عشرة رجال، وإني لما جئتُ معه تقدمتُ أمامه فقال لي: كوني من ورائي ودليني على الطريق، ولما أتيته خفض بصره فلم ينظر إليَّ، فرغب شعيب في مصاهرته وتزويجه بإحدى بناته {قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ} أي إني أريد أن أزوجك إحدى بنتيَّ هاتين الصغرى أو الكبرى {عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ} أي بشرط أن تكون أجيراً لي ثماني سنين ترعى فيها غنمي {فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ} أي فإن أكملتها عشر سنين فذلك تفضل منك، وليس بواجب عليك {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ} أي وما أُريد أن أوقعك في المشقة باشتراط العشر {سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ} أي ستجدني إن شاء الله حسن المعاملة، ليِّن الجانب، وفياً بالعهد قال القرطبي: في الآية عرضُ الوليّ ابنته على الرجل، وهذه سُنة قائمة، عرض شعيب ابنته على موسى، وعرض عمر ابنته حفصة على أبي بكر وعثمان، وعرضت الموهوبة نفسها على النبي صلى الله عليه وسلم، فمن الحُسْن عرض الرجل وليته على الرجل الصالح، اقتداءً بالسلف الصالح {قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلا عُدْوَانَ عَلَيَّ } أي قال موسى: إنَّ ما قلته وعاهدتني عليه قائم بيننا جميعاً لا نخرج عنه، وأيَّ المدتين الثماني أو العشر أديتها لك فلا إثم ولا حرج عليَّ {وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ} أي والله شاهد على ما تعاهدنا وتواثقنا عليه.



عودة موسى عليه السلام إلى مصر



{فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ ءانَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَارًا قَالَ لأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ(29)فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِي مِنْ شَاطِئِ الْوَادِي الأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ(30)وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَءاهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَآنٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى أَقْبِلْ وَلا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الآمِنِينَ(31)اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلإيْهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ(32)}.



{فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الأَجَلَ} أي فلما أتم موسى المدة التي اتفقا عليها قال ابن عباس: قضى أتم الأجلين وأكملهما وأوفاهما وهو عشر سنين {وَسَارَ بِأَهْلِهِ} أي ومشى بزوجته مسافراً بها إلى مصر {آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَارًا} أي أبصر من بعيد ناراً تتوهج من جانب جبل الطور {قَالَ لأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي ءانَسْتُ نَارًا} أي قال لزوجته امكثي هنا فقد أبصرت ناراً عن بعد قال المفسرون: كانت ليلةً باردة وقد أضلوا الطريق، وهبَّت ريح شديدة فرقت ماشيته، وأخذ أهله الطلق فعند ذلك أبصر ناراً بعيدة فسار إليها لعله يجد من يدله على الطريق فذلك قوله تعالى {لَعَلِّي ءاتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ} أي لعلي آتيكم بخبر الطريق وأرى من يدلني عليه {أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ} أي أو آتيكم بشعلة من النار لعلكم تستدفئون بها {فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِي مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ} أي فلما وصل إلى مكان النار لم يجدها ناراً وإنما وجدها نوراً، وجاءه النداء من جانب الوادي الأيمن في ذلك المكان المبارك من ناحية الشجرة {أَنْ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} أي نودي يا موسى إن الذي يخاطبك ويكلمك هو أنا الله العظيم الكبير، المنزه عن صفات النقص، ربُّ الإِنس والجن والخلائق أجمعين {وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ} أي ونودي بأن اطرح عصاك التي في يدك {فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ} أي فألقاها فانقلبت إلى حيّة فلما رآها تتحرك كأنها ثعبان خفيف سريع الحركة انهزم هارباً منها ولم يلتفت إليها قال ابن كثير: انقلبت العصا إلى حية وكانت كأنها جانٌّ في حركتها السريعة مع عِظَم خلقتها، واتساع فمها، واصطكاك أنيابها بحيث لا تمر بصخرة إلا ابتلعتها تنحدر في فمها تتقعقع كأنها منحدرة في واد، فعند ذلك ولَّى مدبراً ولم يلتفت، لأن طبع البشرية ينفر من ذلك {يَا مُوسَى أَقْبِلْ وَلا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الآمِنِينَ} أي فنودي يا موسى: ارجع إلى حيث كنت ولا تخف فأنت آمنٌ من المخاوف، فرجع وأدخل يده في فم الحية فتحولت إلى عصا {اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ} أي أدخل يدك في جيب قميصك - وهو فتحة الثوب مكان دخول الرأس - ثم أخرجها تخرج مضيئةً منيرة تتلألأ كأنها قطعة قمر في لمعان البرق من غير أذى ولا برص {وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ} قال ابن عباس: اضمم يدك إلى صدرك من الخوف يذهب عنك الرعب قال المفسرون: المراد بالجناح اليد لأن يدي الإِنسان بمنزلة جناحي الطائر، وإذا أدخل يده اليمنى تحت عضده اليسرى فقد ضم جناحه إليه وبذلك يذهب عنه الخوف من الحية ومن كل شيء {فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلإيْهِ} أي فهذان - العصا واليد - دليلان قاطعان، وحجتان نيرتان واضحتان من الله تعالى تدلان على صدقك، وهما آيتان إلى فرعون وأشراف قومه الطُغاة المتجبرين على صدق نبوّتك { إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ} أي خارجين عن طاعتنا، مخالفين لأمرنا.



تأييد موسى بنبوة أخيه هارون



{قَالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْسًا فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ(33)وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءاً يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ(34) قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِآيَاتِنَا أَنْتُمَا وَمَنْ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ(35)فَلَمَّا جَاءَهُمْ مُوسَى بِآيَاتِنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلا سِحْرٌ مُفْتَرًى وَمَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي ءابائِنَا الأَوَّلِينَ(36)وَقَالَ مُوسَى رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جَاءَ بِالْهُدَى مِنْ عِنْدِهِ وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ(37)}.



{قَالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْسًا فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ} أي قال موسى يا رب إني قتلت قبطياً من آل فرعون وأخشى إن أتيتهم أن يقتلوني به قال المفسرون: هو القبطي الذي وكزه فمات، فطلب من ربه ما يزداد به قوة على مجابهة فرعون بإرسال أخيه هارون معه فقال {وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا} أي هو أوضح بياناً، وأطلق لساناً، لأن موسى كان في لسانه حُبْسة من أثر الجمرة التي تناولها في صغره {فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءاً يُصَدِّقُنِي} أي فأرسلْهُ معي معيناً يبيّن لهم عني ما أُكلمهم به بتوضيح الحجج والبراهين {إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ} أي أخاف إن لم يكن لي وزير ولا معين أن يكذبوني لأنهم لا يكادون يفقهون عني، قال الرازي: والمعنى أرسل معي أخي هارون حتى يعاضدني على إظهار الحجة والبيان، وليس الغرض بتصديق هارون أن يقول له: صدقتَ، أو يقول للناس: صدقَ موسى، وإنما هو أن يُلخّص بلسانه الفصيح وجوه الدلائل، ويجيب عن الشبهات، ويجادل به الكفار {قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا} أي أجابه تعالى إلى طلبه وقال له: سنقوّيك بأخيك ونعينك به، ونجعل لكما غلبةً وتسلطاً على فرعون وقومه {فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِآيَاتِنَا} أي لا سبيل لهم إلى الوصول إلى أذاكما بسبب ما أيدتكما به من المعجزات الباهرات {أَنْتُمَا وَمَنْ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ} أي العاقبة لكما ولأتباعكما في الدنيا والآخرة، وأنتم الغالبون على القوم المجرمين كقوله تعالى {كَتَبَ اللَّهُ لاغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} {فَلَمَّا جَاءهُمْ مُوسَى بِآيَاتِنَا بَيِّنَاتٍ} أي فلما جاءهم موسى بالبراهين الساطعة، والمعجزات القاطعة، الدالة على صدقه وأنه رسولٌ من عند الله {قَالُوا مَا هَذَا إِلا سِحْرٌ مُفْتَرًى} أي ما هذا الذي جئتنا به من العصا واليد إلا سحرٌ مكذوب مختلق، افتريته من قبل نفسك وتنسبه إلى الله {وَمَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي ءابَائِنَا الأَوَّلِينَ} أي وما سمعنا بمثل هذه الدعوى -دعوى التوحيد- في ءابائنا وأجدادنا السابقين {وَقَالَ مُوسَى رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جَاءَ بِالْهُدَى مِنْ عِنْدِهِ وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ} أجمل موسى في جوابهم تلطفاً في الخطاب، وإيثاراً لأحسن الوجوه في المجادلة معهم والمعنى: إن ما جئتكم به حقٌ وهدى وليس بسحر، وربي عالمٌ بذلك يعلم أني محقٌ وأنتم مبطلون، ويعلم من تكون له العاقبة الحميدة في الدنيا والآخرة {إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} أي لا يسعد ولا ينجح من كان ظالماً فاجراً، كاذباً على الله، فعاقبة الظلم الخسران.





ادِّعاء فرعون الأُلوهية وتكبُّرِه في الأرض



{وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلأ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَل لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لاظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ(38)وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لا يُرْجَعُونَ(39)فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ(40)وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لا يُنصَرُونَ(41)وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ(42)وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الأُولَى بَصَائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ(43) }.



{وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلا مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} أي قال فرعون لأشراف قومه وسادتهم وهم حاشيته: لا أعلم لكم ربّاً سوايَ قال ابن عباس: كان بين هذه القولة الفاجرة وبين قوله {أَنا رَبُّكُمْ الأَعْلَى} أربعون سنة، وكذب عدوُّ الله بل علم أن له رباً هو خالقه وخالق قومه {فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَل لِي صَرْحًا} أي فاطبخ لي يا هامان الآجر فاجعل لي منه قصراً شامخاً رفيعاً { لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى} أي لعلي أرى وأشاهد إله موسى الذي زعم أنه أرسله، قال ذلك على سبيل التهكم ولهذا قال بعده {وَإِنِّي لأظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ} أي وإني لأظن موسى كاذباً في ادعائه أن في السماء رباً قال تعالى {وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} أي وتكبر وتعظم فرعون وقومه عن الإيمان بموسى في أرض مصر بالباطل والظلم {وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لا يُرْجَعُونَ} أي واعتقدوا أن لا بعث ولا نشور، ولا حساب ولا جزاء {فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ} أي فأخذناه مع جنوده فطرحناهم في البحر، وأغرقناهم فلم يبق منهم أحد {فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ} أي فانظر يا محمد بعين قلبك نظر اعتبار كيف كان مئال هؤلاء الظالمين الذين بلغوا من الكفر والطغيان أقصى الغايات ؟ {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ} أي وجعلناهم في الدنيا قادة وزعماء في الكفر يقتدي بهم أهلُ الضلال {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لا يُنصَرُونَ} أي ويوم القيامة ليس لهم ناصر يدفع عنهم العذاب {وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً} أي جعلنا اللعنة تلحقهم في هذه الحياة الدنيا من الله والملائكة والمؤمنين {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ} أي وفي الآخرة هم من المبعدين المطرودين من رحمة الله عز وجل.



{وَلَقَدْ ءاتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الأُولَى} اللام موطئة للقسم أي والله لقد أعطينا موسى التوراة من بعد ما أهلكنا الأمم التي كانت قبله كقوم نوحٍ وعادٍ وثمود وقوم لوطٍ وغيرهم من المكذبين لرسلهم {بَصَائِرَ لِلنَّاسِ} أي ضياءً لبني إسرائيل ونوراً لقلوبهم يتبصرون بها الحقائق، ويميزون بها بين الحق والباطل {وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} أي وهدى من الضلالة، ورحمة لمن آمن بها ليتعظوا بما فيها من المواعظ والإِرشادات الإِلهية.



الحاجة إلى إرسال الرسل



{وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الأَمْرَ وَمَا كُنتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ(44)وَلَكِنَّا أَنشَأْنَا قُرُونًا فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وَمَا كُنتَ ثَاوِيًا فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ(45)وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا وَلَكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ(46)وَلَوْلا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ(47)}.



{وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ} أي وما كنت يا محمد بجانب الجبل الغربي، وهو المكان الذي كلّم الله تعالى به موسى {إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الأَمْرَ} أي حين أوحينا إلى موسى بالنبوة وأرسلناه إلى فرعون وقومه {وَمَا كُنتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ} أي وما كنت من الحاضرين في ذلك المكان، ولكن الله أوحى إليك ذلك ليكون حجة وبرهاناً على صدقك قال ابن كثير: يقول تعالى منبهاً على برهان نبوة محمد صلى الله عليه وسلم حيث أخبر بالغيوب الماضية خبراً كأنَّ سامعه شاهد و راءٍ لما تقدَّم، وهو رجل أُميٌ لا يقرأ شيئاً من الكتب، نشأ بين قوم لا يعرفون شيئاً من ذلك، والمعنى ما كنتَ حاضراً لذلك ولكنَّ الله أوحاه إليك لتخبرهم بتلك المغيبات {وَلَكِنَّا أَنشَأْنَا قُرُونًا فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ} أي ولكنَّنا خلقنا أُمماً وأجيالاً من بعد موسى، فتطاول عليهم الزمان، وطالت الفترة فنسوا ذكر الله، وبدَّلوا وحرفوا الشرائع فأرسلناك يا محمد لتجدّد أمر الدين قال أبو السعود: المعنى ولكنا خلقنا بين زمانك وزمان موسى قروناً كثيرة، فتمادى عليهم الأمر، فتغيرت الشرائع والأحكام، وعميت عليهم الأنباء فأوحينا إليك، فحذف المستدرك اكتفاءً بذكر الموجب {وَمَا كُنتَ ثَاوِيًا فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُوا عَلَيْهِمْ ءايَاتِنَا} أي وما كنتَ يا محمد مقيماً في أهل مدين فتعلم خبر موسى وشعيب وابنتيه فتتلو ذلك على أهل مكة {وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ} أي ولكنا أرسلناك في أهل مكة وأخبرناك بتلك الأخبار، ولولا ذلك لما علمتها {وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا} أي وما كنتَ أيضاً بجانب جبل الطور وقت ندائنا لموسى وتكليمنا إياه {وَلَكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ} أي لم تشاهد شيئاً من أخبار وقصصَ الأنبياء، ولكنّا أوحيناها إليك، وقصصناها عليك، رحمةً من ربك لتخوّف قوماً ما جاءهم رسول قبلك يا محمد {لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} أي لعلهم يتعظون بما جئتهم به من الآيات البينات، فيدخلوا في دينك قال المفسرون: المراد بالقوم الذين كانوا في زمن الفترة بين عيسى ومحمد صلوات الله عليهما وهي نحوٌ من ستمائة سنة {وَلَوْلا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ } أي ولولا قولهم إذا أصابتهم عقوبة بسبب كفرهم ومعاصيهم {فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولا فَنَتَّبِعَ ءايَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} أي فيقولوا عند ذلك ربنا هلاّ أرسلت إلينا رسولاً يبلغنا آياتك فنتبعها ونكون من المصدقين بها !! قال القرطبي: وجواب {لَوْلا} محذوف تقديره لما بعثنا الرسل، وقال في التسهيل: {لَوْلا} الأولى حرف امتناع، و{لَوْلا} الثانية عرضٌ وتحضيض، والمعنى: لولا أن تصيبهم مصيبة بكفرهم لم نرسل الرسل، وإنما أرسلناهم على وجه الإِعذار وإقامة الحجة عليهم لئلا يقولوا ربَّنا لولا أرسلت إلينا رسولاً فنتَّبع آياتك ونكون من المؤمنين.



عناد المشركين وتعنتهم في رد الحق



{فَلَمَّا جَاءهُمْ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا لَوْلا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ قَالُوا سِحْرَانِ تَظَاهَرَا وَقَالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ(48) قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ(49)فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ(50)وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ(51)}.



ثم أخبر تعالى عن عناد المشركين وتعنتهم في ردِّ الحق فقال {فَلَمَّا جَاءهُمْ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا لَوْلا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى} أي فلما جاء أهل مكة الحقُّ المبين وهو محمد صلى الله عليه وسلم بالقرآن المعجز من عندنا قالوا -على وجه التعنت والعناد- هلاّ أُعطي محمد من الآيات الباهرة، والحجج القاهرة مثل ما أُعطي موسى من العصا واليد !! قال تعالى رداً عليهم {أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ} أي أولم يكفر البشر بما أوُتي موسى من تلك الآيات الباهرة ؟ ! قال مجاهد: أمرت اليهود قريشاً أن يقولوا لمحمد: ائتنا بمثل ما جاء به موسى من المعجزات، فردَّ الله عليهم بأنهم كفروا بآيات موسى، فالضمير في {أَوَلَمْ يَكْفُرُوا} لليهود، وهذا اختيار ابن جرير وقال أبو حيان: ويظهر عندي أن الضمير عائد على قريش الذين قالوا لولا أُوتي محمد مثل ما أُوتي موسى، وذلك أن تكذيبهم لمحمد صلى الله عليه وسلم تكذيبٌ لموسى، ونسبتهم السحر للرسول نسبة السحر لموسى، إذ الأنبياء من وادٍ واحدٍ فمن نسب إلى أحدٍ من الأنبياء ما لا يليق كان ناسباً ذلك إلى جميع الأنبياء، وتتناسق حينئذٍ الضمائر كلُّها {قَالُوا سِحْرَانِ تَظَاهَرَا} أي وقال المشركون ما التوراة والقرآن إلا من قبيل السحر، فهما سحران تعاونا بتصديق كل واحدٍ منهما الآخر قال السُدّي: صدَّق كل واحدٍ منهما الآخر {وَقَالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ} أي إنّا بكل من الكتابين كافرون قال أبو السعود: وهذا تصريحٌ بكفرهم بهما وذلك لغاية عتوهم وتماديهم في الكفر والطغيان {قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ} أمرٌ على وجه التعجيز أي قل لهم يا محمد إنكم إذْ كفرتم بهذين الكتابين مع ما تضمنا من الشرائع والأحكام ومكارم الأخلاق فائتوني بكتاب منزلٍ من عند الله أهدى منهما وأصلح أَتمسك به {إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} أي على قولكم بأن التوراة والقرآن سحران قال ابن كثير: وقد عُلم بالضرورة لذوي الألباب أن الله تعالى لم ينزل كتاباً من السماء أكمل ولا أشمل ولا أفصح ولا أعظم من الكتاب الذي أنزله على محمد صلى الله عليه وسلم وهو القرآن، وبعده في الشرف والعظمة الكتاب الذي أنزله على موسى، وهو الكتاب الذي قال فيه {إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ} والإِنجيلُ إنما أُنزل متمماً للتوراة ومُحلاً لبعض ما حُرم على بني إسرائيل {فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءهُمْ} أي فإن لم يجيبوك إلى ما طلبته منهم فاعلم أن كفرهم عنادٌ واتباع للأهواء لا بحجةٍ وبرهان {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ} أي لا أحد أضلُّ ممن اتبع هواه بغير رشادٍ ولا بيانٍ من الله {إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} أي لا يوفق للحق من كان معانداً ظالماً، بالانهماك في اتباع الهوى، والإِعراض عن سبيل الهدى {وَلَقَدْ وَصَّلْنا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} أي ولقد تابعنا ووالينا لقريش القرآن يتبع بعضُه بعضاً، وعداً ووعيداً، وقصصاً وعبراً، ونصائح ومواعظ ليتعظوا ويتذكروا بما فيه قال ابن الجوزي: المعنى أنزلنا القرآن يتبع بعضُه بعضاً، ويخبر عن الأمم الخالية كيف عُذبوا لعلهم يتعظون.

yacine414
2011-03-26, 20:37
إيمان طوائف من أهل الكتاب بالقرآن



{الَّذِينَ ءاتَيْنَاهُمْ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ(52)وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا ءامَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ(53)أُوْلَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ(54)وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ(55)}.



سبب النزول:

نزول الآية (52):

{وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ}: أخرج ابن جرير عن علي بن رفاعة قال: خرج عشرة رهط من أهل الكتاب، منهم رفاعة -يعني أباه- إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فآمنوا فأوذوا، فنزلت: {الَّذِينَ ءاتَيْنَاهُمْ الْكِتَابَ}. وأخرج أيضاً عن قتادة قال: كنا نتحدث أنها نزلت في ناس من أهل الكتاب كانوا على الحق، حتى بعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم، فآمنوا به، منهم سلمان الفارسي وعبد الله بن سلام.

وقال سعيد بن جُبَيْر: نزلت هذه الآية في سبعين من القسيسين بعثهم النجاشي، فلما قدموا على النبي صلى الله عليه وسلم قرأ عليه: {يس* وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ} حتى ختمها، فجعلوا يبكون، وأسلموا.

وعلى كل حال، العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.



{الَّذِينَ ءاتَيْنَاهُمْ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ} أي الذين أعطيناهم التوراة والإِنجيل من قبل هذا القرآن -من مسلمي أهل الكتاب- هم بهذا القرآن يصدقون قال ابن عباس: يعني من آمن بمحمد صلى الله عليه وسلم من أهل الكتاب {وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا ءامَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا} أي وإذا قرئ عليهم القرءان قالوا صدقنا بما فيه {إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ} أي كنا من قبل نزوله موحدين لله، مستسلمين لأمره، مؤمنين بأنه سيبعث محمد وينزل عليه القرءان قال تعالى {أُوْلَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ} أي أولئك الموصوفون بالصفات الجميلة يعطون ثوابهم مضاعفاً، مرة على إيمانهم بكتابهم، ومرةً على إيمانهم بالقرآن وفي الحديث (ثلاثة يُؤْتون أجرهم مرتين: رجل من أهل الكتاب آمن بنبيّه ثم آمن بي ..) الحديث { بِمَا صَبَرُوا} أي بسبب صبرهم على اتباع الحقِّ، وتحملهم الأذى في سبيل الله قال قتادة: نزلت في أناسٍ من أهل الكتاب، كانوا على شريعةٍ من الحق يأخذون بها وينتهون إليها، حتى بعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم فآمنوا به وصدَّقوه، فأعطاهم الله أجرهم مرتين بما صبروا، وذُكر أن منهم سلمان وعبدالله بن سلام {وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ} أي ويدفعون الكلام القبيح كالسب والشتم بالحسنة أي الكلمة الطيبة الجميلة قال ابن كثير: لا يقابلون السيء بمثله ولكن يعفون ويصفحون {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} أي ومن الذي رزقناهم من الحلال ينفقون في سبيل الخير {وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ} أي وإذا سمعوا الشتم والأذى من الكفار وسمعوا ساقط الكلام، لم يلتفتوا إليه ولم يردُّوا على أصحابه {وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ} أي لنا طريقنا ولكم طريقكم { سَلامٌ عَلَيْكُمْ} أي سلام متاركة ومباعدة، قال الزجاج: لم يريدوا التحية وإنما أرادوا بيننا وبينكم المتاركة {لا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ} أي لا نطلب صحبتهم ولا نريد مخالطتهم قال الصاوي: كان المشركون يسبون مؤمني أهل الكتاب ويقولون: تباً لكم أعرضتم عن دينكم وتركتموه ! فيعرضون عنهم ويقولون لنا أعمالنا ولكم أعمالكم. في هذه الآيات مدحَ الله تعالى أهل الكتاب السابقين بالإيمان، ثم مدحهم بالإحسان، ثم مدحهم بالعفو والصفح عن أهل العدوان، وهي خصالٌ جعلتهم يقبلون على الإسلام بقلوب مطمئنة.





الرد على شبه المشركين



{إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ(56)وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعْ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ(57)وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلا قَلِيلا وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ(58)وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولا يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ(59) وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى أَفَلا تَعْقِلُونَ(60)أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْدًا حَسَنًا فَهُوَ لاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ(61)}.



سبب النزول:

نزول الآية (56):

{إِنَّكَ لا تَهْدِي}: أخرج مسلم وعبد بن حميد والترمذي والبيهقي في الدلائل عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمه: قل: لا إله إلا الله، أشهد لك يوم القيامة، قال: لولا أن تعيرني نساء قريش، يقلن: إنه حمله على ذلك الجزع، لأقررت بها عينك، فأنزل الله: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ}.

وأخرج النسائي وابن عساكر في تاريخ دمشق بسند جيد عن أبي سعيد بن رافع قال: سألت ابن عمر عن هذه الآية: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} في أبي جهل وأبي طالب ؟ قال: نعم.



نزول الآية (57):

{وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعْ الْهُدَى مَعَكَ}: أخرج ابن جرير عن ابن عباس: أن أناساً من قريش قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: إن نتبعك تخطفنا الناس، فنزلت.

وأخرج النسائي عن ابن عباس أن الحارث بن عثمان بن عامر بن نوفل بن عبد مناف هو الذي قال ذلك، وعبارته -كما في البيضاوي-: نحن نعلم أنك على الحق، ولكنا نخاف إن تبعناك وخالفنا العرب - وإنما نحن أكلة الرأس، أي قليلو العدد -أن يتخطفونا من أرضنا، فنزل قوله تعالى: {وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعْ الْهُدَى مَعَكَ} الآية.



نزول الآية (61):

{أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ}: أخرج ابن جرير عن مجاهد في قوله: {أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ} الآية، قال : نزلت في النبي صلى الله عليه وسلم وفي أبي جهل بن هشام. وأخرج من وجه آخر عنه: أنها نزلت في حمزة وأبي جهل.



ثم قال تعالى مخاطباً رسوله {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} أي إنك يا محمد لا تقدر على هداية أحد، مهما بذلت فيه من مجهود، وجاوزت في السعي كل حدٍّ معهود {وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} أي ولكنه تعالى بقدرته يهدي من قدر له الهداية، فسلم أمرك إليه فإنه أعلم بأهل السعادة والشقاوة {وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} أي هو تعالى العالم بمن فيه استعداد للهداية والإيمان فيهديه قال المفسرون: نزلت في عمه "أبي طالب" حين عرض عليه الإِسلام عند موته فأبى قال أبو حيان: ومعنى {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} أي لا تقدر على خلق الهداية فيه، ثم قال: ولا تنافي بين هذا وبين قوله {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} لأن معنى هذا: وإنك لترشد، وقد أجمع المسلمون على أنها نزلت في "أبي طالب" ثم ذكر تعالى شبهةً من شبهات المشركين وردَّ عليها بالبيان الواضح فقال {وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعْ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا} أي وقال كفار قريش: إن اتبعناك يا محمد على دينك وتركنا ديننا نخاف أن تتخطفنا العرب فيتجمعون على محاربتنا، ويخرجوننا من أرضنا، قال المبرد: والتخطُّف الانتزاع بسرعة، قال تعالى رداً عليهم {أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا} أي أولم نعصمْ دماءهم ونجعل مكانهم حرماً ذا أمن، بحرمة البيت العتيق ؟ فكيف يكون الحرم آمناً لهم في حال كفرهم، ولا يكون آمناً لهم في حال إسلامهم؟ {يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا} أي تُجْلب إليه الأرزاق من كل مكان مع أنه بوادٍ غير ذي زرع رزقاً لهم من عندنا {وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} أي ولكن أكثرهم جهلة لا يتفكرون في ذلك ولا يتفطنون قال أبو حيان: قطع الله حجتهم بهذا البيان الناصع إذْ كانوا وهم كفارٌ بالله، عباد أصنام قد أمِنوا في حرمهم، والناسُ في غيره يتقاتلون وهم مقيمون في بلدٍ غير ذي زرع، يجيء إليهم ما يحتاجون من الأقوات، فكيف إذا آمنوا واهتدوا ؟ {وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا} أي وكثير من أهل قريةٍ طغت وأشرت وكفرت نعمة الله فدمَّر الله عليهم وخرب ديارهم {فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلا قَلِيلا} أي فتلك مساكنهم خاويةً بما ظلموا لم تسكن من بعد تدميرها إلاَّ زماناً قليلاً إذْ لا يسكنها إلا المارَّةُ والمسافرون يوماً أو بعض يومٍ {وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ} أي وكنا نحن الوارثين لأملاكهم وديارهم قال في البحر: والآية تخويف لأهل مكة من سوء عاقبة قوم كانوا في مثل حالهم، من إنعام الله عليهم بالرقود في ظلال الأمن، وخفض العيش، فكفروا النعمة وقابلوها بالشر والبطر فدمرهم الله وخرب ديارهم {وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى} أي ما جرت عادة الله جل شأنه أن يهلك أهل القرى الكافرة {حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولا يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا} أي حتى يبعث في أصلها وعاصمتها رسولاً يبلغهم رسالة الله لقطع الحجج والمعاذير {وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ} أي وما كنا لنهلك القرى إلا وقد استحق أهلها الإِهلاك، لإِصرارهم على الكفر بعد الإِعذار إليهم ببعثة المرسلين قال القرطبي : أخبر تعالى أنه لا يهلكهم إلا إذا استحقوا الإِهلاك بظلمهم، وفي هذا بيانٌ لعدله وتقدّسه عن الظلم، ولا يهلكهم - مع كونهم ظالمين - إلا بعد تأكيد الحجة والإِلزام ببعثة الرسل، ولا يجعل علمه تعالى بأحوالهم حجة عليهم {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا} أي وما أعطيتم أيها الناس من مالٍ وخيرٍ فهو متاعٌ قليل تتمتعون به في حياتكم ثم ينقضي ويفنى قال ابن كثير: يخبر تعالى عن حقارة الدنيا وما فيها من الزينة الدنيئة، والزهرة الفانية، بالنسبة إلى ما أعده الله لعباده الصالحين في الدار الآخرة، من النعيم العظيم المقيم {وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى} أي وما عنده من الأجر والثواب، والنعيم الدائم الباقي خير وأفضل من هذا النعيم الزائل {أَفَلا تَعْقِلُونَ}؟ توبيخٌ لهم أي أفلا تعقلون أن الباقي أفضل من الفاني ؟ قال الإِمام الفخر: بيَّن تعالى أن منافع الدنيا مشوبةٌ بالمضارِّ، بل المضارُّ فيها أكثر، ومنافع الآخرة غير منقطعة، بينما منافع الدنيا منقطعة، ومتى قوبل المتناهي بغير المتناهي كان عدماً، فكيف ونصيب كل أحدٍ من الدنيا كالذرة كالقياس إلى البحر، فمن لم يرجَّح منافع الآخرة على منافع الدنيا يكون كأنه خارجٌ عن حدّ العقل {أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْدًا حَسَنًا فَهُوَ لاقِيهِ} أي أفمن وعدناه وعداً قاطعاً بالجنة وما فيها من النعيم المقيم الخالد، فهو لا محالة مدركه لأن وعد الله لا يتخلف {كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا}؟ أي كمن متعناه بمتاع زائل، مشوب بالأكدار، مملوءٍ بالمتاعب، مستتبع للحسرة على انقطاعه ؟ {ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمحْضَرِينَ} أي ثم هو في الآخرة من المحضرين للعذاب، فهل يساوي العاقل بينهما ؟ قال ابن جزي: والآية ايضاحٌ لما قبلها من البون الشاسع بين الدنيا والآخرة، والمراد بمن وعدناه المؤمنين، وبمن متعناه الكافرين.



توبيخ المشركين يوم القيامة على مزاعمهم



{وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَاءي الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ(62)قَالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمْ الْقَوْلُ رَبَّنَا هَؤُلاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنَا أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ مَا كَانُوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ(63)وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكَاءكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَرَأَوْا الْعَذَابَ لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَهْتَدُونَ(64)وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمْ الْمُرْسَلِينَ(65)فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمْ الأَنْبَاءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لا يَتَسَاءلُونَ(66)فَأَمَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَعَسَى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ(67)}.



{وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِي الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ} أي واذكر حال المشركين يوم يناديهم الله فيقول لهم على سبيل التوبيخ والتقريع: أين هؤلاء الشركاء والآلهة من الأصنام والأنداد الذين عبدتموهم من دوني، وزعمتم أنهم ينصرونكم ويشفعون لكم ؟ {قَالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمْ الْقَوْلُ} أي قال رؤساؤهم وكبرؤاهم الذين وجب عليهم العذاب لضلالهم وطغيانهم {رَبَّنَا هَؤُلاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنَا} أي هؤلاء أتباعنا الذين أضللناهم عن سبيلك {أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا} أي أضللناهم كما ضللنا، لا بالقسر والإِكراه ولكن بطريق الوسوسة وتزيين القبيح فضلّوا كما ضللنا نحن {تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ مَا كَانُوا إِيَّانا يَعْبُدُونَ} أي تبرأنا إليك يا الله من عبادتهم إيانا، فما كانوا يعبدوننا وإنما كانوا يعبدون أهواءهم وشهواتهم {وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ} أي وقيل للكفار استغيثوا بآلهتكم التي عبدتموها في الدنيا لتنصركم وتدفع عنكم عذاب الله، وهذا على سبيل التهكم بهم {فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ} أي فاستغاثوا بهم فلم يجيبوهم ولم ينتفعوا بهم، وهذا من سخافة عقولهم {وَرَأَوْا الْعَذَابَ لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَهْتَدُونَ} أي وتمنَّوا حين شاهدوا العذاب لو كانوا مهتدين قال الطبري: أي فودُّوا حين رأوا العذاب لو أنهم كانوا في الدنيا مهتدين للحق {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمْ الْمُرْسَلِينَ} توبيخٌ آخر للمشركين أي ويوم يناديهم الله ويسألهم: ماذا أجبتم رسلي ؟ هل صدقتموهم أم كذبتموهم ؟ {فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمْ الأَنْبَاءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لا يَتَسَاءلُونَ} أي فخفيت عليهم الحجج، وأظلمت عليهم الأمور، فلم يعرفوا ما يقولون، فهم حيارى واجمون، لا يسأل بعضهم بعضاً عن الجواب لفرط الدهشة والحيرة {فَأَمَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَعَسَى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ} أي فأمّا من تاب من الشرك، وجمع بين الإِيمان والعمل الصالح فعسى أن يكون من الفائزين بجنات النعيم قال الصاوي: والترجي في القرآن بمنزلة التحقق، لأنه وعد كريم من ربٍّ رحيم، ومن شأنه تعالى أنه لا يخلف وعده.



الله وحده هو الخالق المتصرف العالم بمكنونات الأنفس



{وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ(68)وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ(69) وَهُوَ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الأُولَى وَالآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ(70) }.



{وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ} أي هو تعالى الخالق المتصرف، يخلق ما يشاء ويفعل ما يريد، فلا اعتراض لأحدٍ على حكمه قال مقاتل: نزلت في "الوليد بن المغيرة" حين قال {لولا نُزّل هذا القرآن على رجلٍ من القريتين عظيم}{مَا كَانَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ} أي ما كان لأحدٍ من العباد اختيار، إنما الاختيار والإِرادة لله وحده {سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} أي تنزَّه الله العظيم الجليل وتقدس أن ينازعه أحدٌ في ملكه، أو يشاركه في اختياره وحكمته قال القرطبي: المعنى وربك يخلق ما يشاء من خلقه، ويختار من يشاء لنبوته، والخيرة له تعالى في أفعاله، وهو أعلم بوجوه الحكمة، فليس لأحدٍ من خلقه، أن يختار عليه {وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ} أي هو تعالى العالم بما تخفيه قلوبهم من الكفر والعداوة للرسول والمؤمنين، وما يظهرونه على ألسنتهم من الطعن في شخص رسوله الكريم حيث يقولون: ما أنزل الله الوحي إلا على يتيم أبي طالب ! {وَهُوَ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ} أي هو جل وعلا اللهُ المستحقُ للعبادة، لا أحد يستحقها إلا هو {لَهُ الْحَمْدُ فِي الأُولَى وَالآخِرَةِ} أي له الثناء الكامل في الدنيا والآخرة، لأنه تعالى المتفضل على العباد بالنعم كلها في الدارين {وَلَهُ الْحُكْمُ} أي وله القضاء النافذ والفصل بين العباد {وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} أي إليه وحده مرجع الخلائق يوم القيامة، فيجازي كل عاملٍ بعمله.



دلائل قدرة الله عز وجل وتأكيد توبيخ المشركين



{قُلْ أَرَءَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلا تَسْمَعُونَ(71)قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلا تُبْصِرُونَ(72)وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمْ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ(73)وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِي الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ(74)وَنَزَعْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا فَقُلْنَا هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ(75)}.



{قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} أي قل يا محمد لهؤلاء الجاحدين من كفار مكة: أخبروني لو جعل الله عليكم الليل دائماً مستمراً بلا انقطاع إلى يوم القيامة {مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ} ؟ أي من هو الإِله الذي يقدر على أن يأتيكم بالنور الذي تستضيئون به في حياتكم غيرُ الله تعالى ؟ {أَفَلا تَسْمَعُونَ} أي أفلا تسمعون سماع فهمٍ وقبول فتستدلوا بذلك على وحدانية الله تعالى ؟ {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} أي أخبروني لو جعل الله عليكم النهار دائماً مستمراً بلا انقطاع {مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ} أي من هو الإله القادر على أن يأتيكم بليلٍ تستريحون فيه من الحركة والنصب غير الله تعالى ؟ { أَفَلا تُبْصِرُونَ} أي أفلا تبصرون ما أنتم عليه من الخطأ والضلال ؟ ثم نبه تعالى إلى كمال رحمته بالعباد فقال {وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمْ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ} أي ومن آثار قدرته، ومظاهر رحمته أن خلق لكم الليل والنهار يتعاقبان بدقةٍ وإحكام {لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ} أي لتستريحوا بالليل من نصب الحياة وهمومها وأكدارها، ولتلتمسوا من رزقه بالمعاش والكسب في النهار {وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} أي ولتشكروا ربكم على نعمه الجليلة التي لا تُحصى، ومنها نعمةُ الليل والنهار قال الإِمام الفخر: نبه تعالى بهذه الآية على أن الليل والنهار نعمتان يتعاقبان على الزمان، لأن المرء في الدنيا مضطر إلى أن يتعب لتحصيل ما يحتاج إليه، ولا يتم له ذلك لولا ضوء النهار، ولولا الراحة والسكون في الليل، فلا بدَّ منهما في الدنيا، وأما في الجنة فلا نصب ولا تعب فلا حاجة بهم إلى الليل، فلذلك يدوم لهم الضياء واللذات {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِي الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ} قال ابن كثير: هذا نداءٌ ثانٍ على سبيل التوبيخ والتقريع لمن عبد مع الله إلهاً آخر، يناديهم الرب على رؤوس الأشهاد: أي شركائي الذين زعمتموهم في الدنيا ؟ {وَنَزَعْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا } أي أخرجنا من كل أمةٍ شهيداً منهم يشهد عليهم بأعمالهم وهو نبيُّهم {فَقُلْنَا هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ } أي هاتوا حجتكم على ما كنتم عليه من الكفر، وهذا إعذار لهم وتوبيخٌ وتعجيز {فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ} أي فعلموا حينئذٍ أن الحقَّ لله ولرسله، وأنه لا إله إلا هو {وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} أي وغاب عنهم غيبة الشيء الضائع ما كانوا يتخرصونه في الدنيا من الشركاء والأنداد.



قصة قارون وبغيه على قوم موسى



{إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَءاتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ(76)وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الأخِرَةَ وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ(77) قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ القُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا وَلا يُسْئلُ عَنْ ذُنُوبِهِمْ الْمُجْرِمُونَ(78)}.



ثم ذكر تعالى قصة "قارون" ونتيجة الغرور والطغيان فقال {إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى} أي من عشيرته وجماعته قال ابن عباس: كان ابن عم موسى {فَبَغَى عَلَيْهِمْ} أي تجبر وتكبر على قومه، واستعلى عليهم بسبب ما منحه الله من الكنوز والأموال قال الطبري: أي تجاوز حدَّه في الكبر والتجبر عليهم {وءاتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ} أي أعطيناه من الأموال الوفيرة، والكنوز الكثيرة ما يثقل على الجماعة أصحاب القوة حمل مفاتيح خزائنه لكثرتها وثقلها فضلاً عن حمل الخزائن والأموال والآية تصويرٌ لما كان عليه قارون من كثرة المال والغنى والثراء {إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ} أي لا تأشر ولا تبطر {إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ} أي لا يحب البطرين الذين لا يشكرون الله على إنعامه، ويتكبرون بأموالهم على عباد الله {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ} أي اطلب فيما أعطاك الله من الأموال رضى الله، وذلك بفعل الحسنات والصدقات والإِنفاق من الطاعات {وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} قال الحسن: أي لا تضيّع حظك من دنياك في تمتعك بالحلال وطلبك إيّاه {وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ} أي أحسن إلى عباد الله كما أحسن الله إليك {وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ} أي لا تطلب بالمال البغي والتطاول على الناس، والإِفساد في الأرض بالمعاصي {إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} أي لا يحب من كان مجرماً باغياً مفسداً في الأرض {قال إنّما أوتيتُه على علمٍ عندي} لمَّا وعظه قومه أجابهم بهذا على وجه الرد عليهم والتكبر عن قبول الموعظة والمعنى: إنما أعُطيت هذا المال على علمٍ عندي بوجوه المكاسب، ولولا رضى الله عني ومعرفته بفضلي واستحقاقي له ما أعطاني هذا المال ! قال تعالى رداً عليه {قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ القُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا} أي أولم يعلم هذا الأحمق المغرور أنَّ الله قد أهلك من قبله من الأمم الخالية من هو أقوى منه بدناً وأكثر مالاً ؟! قال البيضاوي: والآية تعجبٌ وتوبيخ على اغتراره بقوته وكثرة ماله، مع علمه بذلك لأنه قرأه في التوراة، وسمعه من حفاظ التواريخ {وَلا يُسْئلُ عَنْ ذُنُوبِهِمْ الْمُجْرِمُونَ} أي لا حاجة أن يسألهم الله عن كيفية ذنوبهم وكميتها لأنه عالمٌ بكل شيء، ولا يتوقف إهلاكه إياهم على سؤالهم بل متى حقَّ عليهم العذاب أهلكهم بغتة.



طغيان قارون بجاهه وماله



{فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ(79)وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلا يُلَقَّاهَا إِلا الصَّابِرُونَ(80) فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ المُنْتَصِرِينَ(81)وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ(82)}.



ثم أشار تعالى إلى أن قارون لم يعتبر بنصيحة قومه، بل تمادى في غطرسته وغيِّه فقال تعالى {فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ} أي فخرج قارون على قومه في أظهر أبهى وأكملها قال المفسرون : خرج ذات يوم في زينةٍ عظيمة بأتباعه الكثيرين، ركباناً متحلين بملابس الذهب والحرير، على خيولٍ موشحةٍ بالذهب، ومعه الجواري والغلمان في موكبٍ حافلٍ باهر {قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ} أي فلما رآه ضعفاء الإِيمان ممن تخدعهم الدنيا ببريقها وزخرفها وزينتها قالوا: يا ليت لنا مثل هذا الثراء والغنى الذي أُعطيه قارون {إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} أي ذو نصيب وافرٍ من الدنيا {وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} أي وقال لهم العقلاء من أهل العلم والفهم والاستقامة {وَيْلكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا} أي ارتدعوا وانزجروا عن مثل هذا الكلام فإن جزاء الله لعباده المؤمنين الصالحين خيرٌ مما ترون وتتمنَّون من حال قارون قال الزمخشري: أصل {ويلك} الدعاء بالهلاك ثم استعمل في الزجر والردع، والبعث على ترك ما لا يرتضى {وَلا يُلَقَّاهَا إِلا الصَّابِرُونَ} أي ولا يُعطى هذه المرتبة والمنزلة في الآخرة إلا الصابرون على أمر الله قال تعالى تنبيهاً لنهايته المشئومة {فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأَرْضَ} أي جعلنا الأرض تغور به وبكنوزه، جزاءً على عتوه وبطره {فَمَا كَانَ لَهُمِنْ فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ} أي ما كان له أحد من الأنصار والأعوان يدفعون عنه عذاب الله {وَمَا كَانَ مِنَ المُنْتَصِرِينَ} أي وما كان من المنتصرين بنفسه بل كان من الهالكين {وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالأَمْسِ} أي وصار الذين تمنوا منزلته وغناه بالأمس القريب بعد أن شاهدوا ما نزل به من الخسف {يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ} أي يقولون ندماً وأسفاً على ما صدر منهم من التمني : اعجبوا أيها القوم من صنع الله، كيف أن الله يوسّع الرزق لمن يشاء من عباده - بحسب مشيئته وحكمته - لا لكرامته عليه، ويضيّق الرزق على من يشاء - لحكمته وقضائه ابتلاءً - لا لهوانه عليه !! قال الزمخشري: {وَيْكَأَنَّ} كلمتان "وَيْ" مفصولة عن "كأنَّ" وهي كلمة تنبيه على الخطأ وتندم، ومعناه أن القوم تنبهوا على خطئهم في تمنيهم منزلة قارون وتندموا وقالوا {لَوْلا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا} أي لولا أنَّ الله لطف بنا، وتفضَّل علينا بالإِيمان والرحمة، ولم يعطنا ما تمنيناه {لَخَسَفَ بِنَا} أي لكان مصيرنا مصير قارون، وخسف بنا الأرض كما خسفها به {وَيْكَأَنهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} أي أعجبُ من فعل الله حيث لا ينجح ولا يفوز بالسعادة الكافرون لا في الدنيا، ولا في الآخرة ... وإلى هنا تنتهي "قصة قارون" وهي قصة الطغيان بالمال.



الآخرة دار الجزاء



{تِلْكَ الدَّارُ الآخرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ(83) مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ إِلا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ(84)}.



بعد أن ذكر تعالى قصة الطغيان بالجاه والسلطان في قصة فرعون وموسى، جاء تقرير الحقيقة الربانية في قوله تعالى {تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا} اسم الإِشارة للتفخيم والتعظيم أي تلك الدار العالية الرفيعة التي سمعت خبرها، وبلغك وصفها هي دار النعيم الخالد السرمدي، التي فيها ما لا عينٌ رأتْ، ولا أُذنٌ سمعت، ولا خطر على قلب بشر، نجعلها للمتقين الذين لا يريدون التكبر والطغيان، ولا الظلم والعدوان في هذه الحياة الدنيا {وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} أي العاقبة المحمودة للذين يخشون الله ويراقبونه، ويبتغون رضوانه ويحذرون عقابه { مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا} أي من جاء يوم القيامة بحسنةٍ من الحسنات فإن الله يضاعفها له أضعافاً كثيرة {وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ إِلا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} أي ومن جاء يوم القيامة بالسيئات فلا يجزى إلا بمثلها، وهذا من فضل الله على عباده أنه يضاعف لهم الحسنات ولا يضاعف لهم السيئات.





قصص النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه مع قومه



{إنَّ الَّذي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جَاءَ بِالْهُدَى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ(85)وَمَا كُنتَ تَرْجُوا أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيرًا لِلْكَافِرِينَ(86)وَلا يَصُدُّنَّكَ عَنْ ءايات اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ(87) وَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لا إِلَهَ إِلا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ(88)}.



سبب النزول:

نزول الآية (85):

{إِنَّ الَّذِي فَرَضَ}: أخرج ابن أبي حاتم عن الضحاك قال: لما خرج النبي صلى الله عليه وسلم من مكة، فبلغ الجُحْفة اشتاق إلى مكة، فأنزل الله: {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ}.

وقال مقاتل: إنه صلى الله عليه وسلم خرج من الغار - غار ثور حين الهجرة - وسار في غير الطريق، مخافة الطلَب، فلما أمن رجع إلى الطريق، ونزل بالجُحْفة بين مكة والمدينة، وعرف الطريق إلى مكة، واشتاق إليها، وذكر مولده ومولد أبيه، فنزل جبريل عليه السلام، وقال له: تشتاق إلى بلدك ومولدك ؟ فقال صلى الله عليه وسلم: نعم، فقال جبريل عليه السلام: فإن الله تعالى يقول: {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ} يعني إلى مكة ظاهراً عليهم. قال الرازي: وهذا المعنى أقرب، لأن ظاهر المعاد أنه كان فيه، وفارقه وحصل العود، وذلك لا يليق إلا بمكة، وإن كان سائر الوجوه محتملاً، لكن ذلك أقرب.



{إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ} أي إن الذي أنزل عليك يا محمد القرآن وفرض عليك العمل به {لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ} أي لرادُّك إلى مكة كما أخرجك منها، وهذا وعدٌ من الله بفتح مكة ورجوعه عليه السلام إليها بعد أن هاجر منها قال ابن عباس: معناه لرادك إلى مكة، وقال الضحاك: لما خرج النبي صلى الله عليه وسلم من مكة فبلغ الجُحْفة اشتاق إلى مكة، فأنزل الله عليه هذه الآية {قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جَاءَ بِالْهُدَى وَمنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} أي قل يا محمد لهؤلاء المشركين : ربي أعلم بالمهتدي والضال هل أنا أو أنتم ؟ فهو جلَّ وعلا الذي يعلم المحسن من المسيء، ويجازي كلاً بعمله، وهو جواب لقول كفار مكة: إنك يا محمد في ضلال مبين {وَمَا كُنتَ تَرْجُوا أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ} أي وما كنت تطمع أن تنال النبوة، ولا أن ينزل عليك الكتابُ ولكن رحمك الله بذلك ورحم العباد ببعثتك قال الفراء: وهذا استثناء منقطع والمعنى إلا أنّ ربك رحمك فأنزله عليك {فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيرًا لِلْكَافِرِينَ} أي لا تكن عوناً لهم على دينهم، ومساعداً لهم على ضلالهم، بالمداراة والمجاملة ولكن نابذهم وخالفهم قال المفسرون: دعا المشركون الرسول إلى دين ءابائه، فأُمر بالتحرز منهم وأن يصدع بالحق، والخطابُ بهذا وأمثاله له عليه السلام، والمراد أمته لئلا يظاهروا الكفار ولا يوافقوهم {وَلا يَصُدُّنَّكَ عَنْ ءايَاتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنزِلَتْ إِلَيْكَ} أي ولا تلتفت إلى هؤلاء المشركين، ولا تركن إلى قولهم فيصدوك عن اتباع ما أنزل الله إليك من الآيات البينات {وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ} أي وادع الناس إلى توحيد ربك وعبادته {وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} أي بمسايرتهم على أهوائهم، فإن من رضي بطريقتهم كان منهم {وَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا ءاخَرَ} أي لا تعبد إلهاً سوى الله {لا إِلَهَ إِلا هُوَ} أي لا معبود بحقٍ إلا الله تعالى قال البيضاوي: وهذا وما قبله للتهييج وقطع أطماع المشركين عن مساعدته لهم {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلا وَجْهَهُ} أي كل شيء يفنى وتبقى ذاتُه المقدسة، أطلق الوجه، وأراد ذات الله جلَّ وعلا قال ابن كثير: وهذا إخبار بأنه تعالى الدائم الباقي، الحيُّ القيوم، الذي تموت الخلائق ولا يموت، فعبَّر بالوجه عن الذات كقوله {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} {لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} أي له القضاء النافذ في الخلق، وإليه مرجعهم جميعاً يوم المعاد لا إلى أحدٍ سواه.

yacine414
2011-03-26, 20:40
سورة العنكبوت



التـسِـمــيَة

اختبار الناس وجزاؤهم

التوصية بحسن معاملة الوالدين وبيان خسة المنافقين

قصة نوح عليه السلام

قصة إبراهيم عليه السلام مع قومه

جواب قوم إبراهيم له وإيمان لوط به

قصة لوط عليه السلام مع قومه

قصص شعيب وهود وصالح وموسى عليهم السلا:

تشبيه حال عبدة الأوثان بحال العنكبوت

فائدة خلق السماوات والأرض وتلاوة القرآن وإقامة الصلاة

مناقشة أهل الكتاب بالحسنى

بعض مطالب المشركين التعجيزية

الحض على الهجرة عند التضييق على المؤمنين

اعتراف المشركين بالإله الخالق الرازق المحيي

تبيين حال الدنيا والكفار فيها





بَين يَدَي السُّورَة



* سورة العنكبوت مكية وموضوعها العقيدة في أصولها الكبرى "الوحدانية، الرسالة، البعث والجزاء" ومحور السورة الكريمة يدور حول الإِيمان و "سنة الابتلاء" في هذه الحياة لأن المسلمين في مكة كانوا في أقسى المحنة والشدَّة، ولهذا جاء الحديث عن موضوع الفتنة والابتلاء في هذه السورة مطوَّلاً مفصلاً وبوجه خاص عند ذكر قصص الأنبياء.





* تبتدئ السورة الكريمة بهذا البدء الصريح {الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ} ؟ وتمضي السورة تتحدث عن فريق من الناس يحسبون الإِيمان كلمةً تقال باللسان، فإِذا نزلت بهم المحنة والشدة انتكسوا إِلى جحيم الضلال، وارتدوا عن الإِسلام تخلصاً من عذاب الدنيا، كأن عذاب الآخرة أهون من عذاب الدنيا {وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ..} الآيات.





* وتمضي السورة تتحدث عن "محنة الأنبياء" وما لاقوه من شدائد وأهوال في سبيل تبليغ رسالة الله، بدءاً بقصة نوح، ثم إِبراهيم، ثم لوط، ثم شعيب، وتتحدث عن بعض الأمم الطغاة والأفراد المتجبرين كعاد، وثمود، وقارون، وهامان وغيرهم وتذكر ما حلَّ بهم من الهلاك والدمار {فَكُلاً أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا} الآيات.



* وفي قصص الأنبياء دروسٌ من المحن والابتلاء، تتمثل في ضخامة الجهد وضآلة الحصيلة، فهذا نوح عليه السلام يمكث في قومه تسعمائة وخمسين سنة يدعوهم إلى الله فما يؤمن معه إلا قليل {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنةٍ إِلا خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمْ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ} وهذا أبو الأنبياء إِبراهيم الخليل يحاول هداية قومه بكل وسيلة، ويجادلهم بالحجة والبرهان فما تكون النتيجة إِلا العلو والطغيان {قَالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنجَاهُ اللَّهُ مِنْ النَّارِ..} الآيات.





* وفي قصة لوط يظهر التبجح بالرذيلة دون خجل أو حياء {وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ} الآيات وبعد ذلك الاستعراض السريع لمحنة الأنبياء، تمضي السورة الكريمة تبيّن صدق رسالة محمد صلى الله عليه وسلم فهو رجل أميٌّ لم يقرأ ولم يكتب ثم جاءهم بهذا الكتاب المعجز، وهذا من أعظم البراهين على أنه كلام رب العالمين {وَمَا كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ} وتنتقل السورة للحديث عن الأدلة والبراهين على القدرة والوحدانية منبثقة من هذا الكون الفسيح، ثم تختم ببيان جزاء الذين صبروا أمام المحن والشدائد وجاهدوا بأنواع الجهاد النفسي والمالي، ووقفوا في وجه المحنة والابتلاء {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ}.



التسِميَة:

سميت "سورة العنكبوت" لأن الله ضرب العنكبوت فيها مثلاً للأصنام المنحوتة، والآلهة المزعومة {مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا.. } الآيات.





اختبار الناس وجزاؤهم



{الم(1)أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا ءامَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ(2)وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ(3)أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَنْ يَسْبِقُونَا سَآءَ مَا يَحْكُمُونَ(4)مَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ(5)وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ(6)وَالَّذِينَ ءامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ(7)}



سبب النزول:

نزول الآية (1-7):

روي أنها نزلت في ناس من الصحابة جزعوا من أذى المشركين، وقيل: في عمار، وقد عذب في الله، فقد أخرج ابن سعد عن عبد الله بن عبيد بن عمير قال: نزلت في عمار بن ياسر إذ كان يعذب في الله: {أَحَسِبَ النَّاسُ} الآية.

وأخرج ابن أبي حاتم وابن جرير وابن المنذر عن الشعبي في قوله: {الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا} الآية قال: أنزلت في أناس كانوا بمكة، وقد أقروا بالإسلام، فكتب إليهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة أنه لا يقبل منكم حتى تهاجروا، فخرجوا عامدين إلى المدينة، فتبعهم المشركون، فردوهم، فنزلت فيهم هذه الآية، فكتبوا إليهم أنه قد نزل فيكم كذا وكذا، فقالوا: نخرج، فإن اتَّبَعنا أحد قاتلناه، فخرجوا فاتبعهم المشركون فقاتلوهم، فمنهم من قتل، ومنهم من نجا، فأنزل الله فيهم: {ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} [النحل: 110].

وأخرج ابن أبي حاتم أيضاً عن قتادة قال: أنزلت {الم * أَحَسِبَ النَّاسُ} في أناس من أهل مكة خرجوا، يريدون النبي صلى الله عليه وسلم، فعرض لهم المشركون، فرجعوا، فكتب إليهم إخوانهم بما نزل فيهم، فخرجوا فقتل من قتل، وخلص من خلص، فنزل القرآن: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ}.

وقال مقاتل: نزلت في مِهْجَع مولى عمر بن الخطاب، كان أول قتيل من المسلمين يوم بدر، رماه عامر بن الحضرمي بسهم فقتله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم يومئذ: "سيد الشهداء مِهْجَع، وهو أول من يُدعى إلى باب الجنة من هذه الأمة" فجزع عليه أبواه وامرأته، فنزلت: {الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا..} الآية.



{الم} الحروف المقطعة للتنبيه على إِعجاز القرءان { أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا ءامَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ}؟ الهمزة للاستفهام الإِنكاري أي أظنَّ الناسُ أن يُتركوا من غير افتتان لمجرد قولهم باللسان آمنا؟ لا ليس كما ظنوا بل لا بدَّ من امتحانهم ليتميز الصادق من المنافق قال ابن جزي: نزلت في قومٍ من المؤمنين كانوا بمكة مستضعفين، منهم "عمار بن ياسر" وغيره، وكان كفار قريش يؤذونهم ويعذبونهم على الإِسلام، فضاقت صدورهم بذلك فآنسهم الله بهذه الآية ووعظهم وأخبرهم أن ذلك اختبار، ليوطنوا أنفسهم على الصبر على الأذى، والثبات على الإِيمان، وأعلمهم أن تلك سيرته في عباده يسلّط الكفار على المؤمنين ليمحصهم بذلك، ويظهر الصادق في إيمانه من الكاذب {وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} أي ولقد اختبرنا وامتحنا من سبقهم بأنواع التكاليف والمصائب والمحن قال البيضاوي: والمعنى أن ذلك سنة قديمة، جارية في الأمم كلها، فلا ينبغي أن يتوقع خلافه {فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} أي فليميزنَ الله بين الصادقين في دعوى الإِيمان، وبين الكاذبين فيه، وعبَّر عن الصادقين بلفظ الفعل {الَّذِينَ صَدَقُوا} وعن الكاذبين باسم الفاعل {الْكَاذِبِينَ} للإِشارة إِلى أن الكاذبين وصفهم مستمر وأن الكذب راسخ فيهم بخلاف الصادقين فإِن الفعل يفيد التجدد، قال الإِمام الفخر: إِن اسم الفاعل يدل في كثير من المواضع على ثبوت المصدر ورسوخه فيه، والفعل الماضي لا يدل عليه كما يقال: فلانٌ شرب الخمر، وفلانٌ شاربُ الخمر، فإِنه لا يفهم من صيغة الفعل الثبوتُ والرسوخ {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَنْ يَسْبِقُونَا} أي أيظن المجرمون الذين يرتكبون المعاصي والموبقات أنهم يفوتون من عقابنا ويعجزوننا ؟ {سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} أي بئس ما يظنون قال الصاوي: والآية انتقال من توبيخ إلى توبيخ أشد، فالأول توبيخ للناس على ظنهم أنهم يفوتون عذاب الله ويفرون منه مع دوامهم على كفرهم {مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لآتٍ} لما بيَّن تعالى أن العبد لا يترك في الدنيا سُدى، بيَّن هنا أن من اعترف بالآخرة وعمل لها لا يضيع عمله، ولا يخيب أمله والمعنى من كان يرجو ثواب الله فليصبر في الدنيا على المجاهدة في طاعة الله حتى يلقى الله فيجازيه، فإِن لقاء الله قريب الإِتيان، وكلُّ ما هو آتٍ قريب، والآية تسلية للمؤمنين ووعدٌ لهم بالخير في دار النعيم {وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} أي هو تعالى السميع لأقوال العباد، العليم بأحوالهم الظاهرة والباطنة {وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ} أي ومن جاهد نفسه بالصبر على الطاعات، والكف عن الشهوات، فمنفعة جهاده إِنما هي لنفسه {إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} أي مستغنٍ عن العباد، لا تنفعه طاعة الطائعين، ولا تضره معصية العاصين {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} أي جمعوا بين الإِيمان والعمل الصالح {لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ} أي لنمحونَّ عنهم سيئاتهم التي سلفت منهم بسبب إيمانهم وعملهم الصالح {وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ} أي ونجزيهم بأحسن أعمالهم الصالحة وهي الطاعات.





التوصية بحسن معاملة الوالدين وبيان خسة المنافقين



{وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ(8)وَالَّذِينَ ءامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ(9)وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ(10)وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ(11)وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ وَمَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ(12)وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالا مَعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْئلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ(13)}.



سبب النزول:

نزول الآية (8):

{وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ}: روى مسلم وأحمد والترمذي وأبو داود والنسائي عن سعد بن أبي وقاص قال: قالت أم سعد: أليس قد أمر الله بالبر ؟ والله لا أَطعَم طعاماً، ولا أشرب شراباً حتى أموت أو تكفر، فنزلت: {وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ}.

وتوضيح ذلك في رواية الترمذي: أن الآية نزلت في سعد بن أبي وقَّاص وأمه حَمْنة بنت أبي سفيان لما أسلم، وكان من السابقين الأولين، وكان بارّاً بأُمِّه، قالت له: ما هذا الدين الذي أحدثت ؟ والله لا آكل ولا أشرب حتى ترجع إلى ما كنت عليه أو أموت، فتعيَّر بذلك أبد الدهر، يقال: يا قاتل أمه، ثم إنها مكثت يوماً وليلة، لم تأكل ولم تشرب ولم تستظل، فأصبحت وقد جَهَدت، ثم مكثت يوماً آخر وليلة لم تأكل ولم تشرب، فجاء سعد إليها وقال: يا أماه، لو كانت لك مئة نفس، فخرجت نفساً نفساً، ما تركت ديني، فكلي إن شئت، وإن شئت فلا تأكلي، فلما أيست منه أكلت وشربت، فأنزل الله هذه الآية، آمراً بالبر بالوالدين والإحسان إليهما، وعدم طاعتهما في الشرك به.

وقال ابن عباس في آية {وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي}: نزلت في عيَّاش بن أبي ربيعة أخي أبي جهل لأمه، وقد فعلت أمه مثل ذلك. وعنه أيضاً: نزلت في جميع الأمة، إذ لا يصبر على بلاء الله إلا صدّيق.



نزول الآية (10):

{وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ}: نزلت في المنافقين. قال مجاهد : نزلت في أناس كانوا يؤمنون بألسنتهم، فإذا أصابهم بلاء من الله ومصيبة في أنفسهم افتتنوا.

وقال الضحاك: نزلت في أناس من المنافقين بمكة كانوا يؤمنون، فإذا أُوذوا رجعوا إلى الشرك.

وقال ابن عباس: نزلت في المؤمنين الذين أخرجهم المشركون عن الدين فارتدُّوا، والذين نزلت فيهم: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمْ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ} الآية [النساء : 97]. وقيل: نزلت في عياش بن أبي ربيعة: أسلم وهاجر، ثم أوذي وضرب فارتد، وكان عذبه أبو جهل والحارث، وكانا أخوين لأمه، ثم عاش بعد ذلك وحسن إسلامه.



نزول الآية (12):

{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا} قال مجاهد: إن الآية نزلت في كفار قريش قالوا لمن آمن منهم: لا نبعث نحن ولا أنتم، فاتبعونا، فإن كان عليكم إثم فعلينا.



{وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا} أي أمرناه أمراً مؤكداً بالإِحسان إِلى والديه غاية الإِحسان، لأنهما سبب وجوده ولهما عليه غاية الفضل والإِحسان، الوالد بالإِنفاق والوالدة بالإِشفاق قال الصاوي: وإِنما أمر الله الأولاد ببر الوالدين دون العكس، لأن الأولاد جُبلوا على القسوة وعدم طاعة الوالدين، فكلفهم الله بما يخالف طبعهم، والآباء مجبولون على الرحمة والشفقة بالأولاد فوكلهم لما جُبلوا عليه {وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا} أي وإِن بذلا كلَّ ما في وسعهما، وحرصا كلَّ الحرص على أن تكفر بالله وتشرك به شيئاً لا يصح أن يكون إِلهاً ولا يستقيم، فلا تطعهما في ذلك لأنه لا طاعة لمخلوقٍ في معصية الله {إِلَيَّ مَرْجِعُكمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} أي إِليَّ مرجع الخلائق جميعاً، مؤمنهم وكافرهم، برهم وفاجرهم، فأجازي كلاّ بما عمل، وهذا وعدٌ حسن لمن برَّ والديه واتبع الهدى، ووعيدٌ لمن عقَّ والديه واتبع سبيل الرَّدى {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ} أي لندخلنَّهم في زمرة الصالحين في الجنة قال القرطبي: كرَّر تعالى التمثيل بحالة المؤمنين العاملين لتحريك النفوس الى نيل مراتبهم، وفي {الصَّالِحِينَ} مبالغة أي الذين هم في نهاية الصلاح وأبعد غاياته، ولما ذكر تعالى ما أعده للمؤمنين الخلَّص ذكر حال المنافقين المذبذبين فقال {وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ} أي ومن الناس فريقٌ يقولون بألسنتهم آمنا بالله، فإذا أُوذي أحدهم بسبب إيمانه ارتد عن الدين وجعل ما يصيبه من أذى الناس سبباً صارفاً له عن الإيمان كعذاب الله الشديد الذي يصرف الإنسان عن الكفر قال المفسرون: والتشبيه {كَعَذَابِ اللَّهِ} من حيث إن عذاب الله مانع للمؤمنين من الكفر، فكذلك المنافقون جعلوا أذاهم مانعاً لهم من الإيمان، وكان مقتضى إيمانهم أن يصبروا ويتشجعوا، ويروا في العذاب عذوبة، وفي المحنة منحة، فإن العاقبة للمتقين قال الامام الفخر: أقسام المكلفين ثلاثة: مؤمنٌ ظاهر بحسن اعتقاده، وكافرٌ مجاهر بكفره وعناده، ومذبذبٌ بينهما يظهر الإيمان بلسانه ويضمر الكفر في فؤاده، فلما ذكر تعالى القسمين بقوله {فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} ذكر القسم الثالث هنا {وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ} واللطيفة في الآية أن الله أراد بيان شرف المؤمن الصابر، وخسَّة المنافق الكافر، فقال هناك: أُوذي المؤمن في سبيل الله ليترك سبيله ولم يتركه، وأوذي المنافق الكافر فترك الله بنفسه، وكان يمكنه أن يظهر موافقتهم ويكون قلبه مطمئناً بالإيمان، ومع هذا لم يفعله بل ترك الله بالكلية {وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ} أي ولئن جاء نصر قريب للمؤمنين، وفتح ومغانم قال أولئك المذبذبون: إنا كنا معكم ننصركم على أعدائكم، فقاسمونا فيما حصل لكم من الغنائم قال تعالى رداً عليهم {أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ} ؟ استفهام تقرير أي أوليس الله هو العالم بما انطوت عليه الضمائر من خير وشر، وبما في قلوب الناس من إيمان ونفاق ؟ بلى إنه بكل شيء عليم، ثم أكد ذلك بقوله {وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ} أي وليُظهرنَّ الله لعباده حال المؤمنين وحال المنافقين حتى يتميزوا فيفتضح المنافق، ويظهر شرف المؤمن الصادق قال المفسرون: والمراد {وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ} إظهار علمه للناس حتى يصبح معلوماً لديهم، وإلا فالله عالم بما كان، وما يكون، وما هو كائن لا تخفى عليه خافية، فهو إذاً علمُ إظهار وإبداء، لا علمُ غيبٍ وخفاء بالنسبة لله تعالى، وقد فسَّر ابن عباس العلم بمعنى الرؤية {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ} أي قال الكفار للمؤمنين اكفروا كما كفرنا، واتَّبعوا ديننا ونحن نحمل عنكم الإثم والعقاب، إن كان هناك عقاب قال ابن كثير: كما يقول القائل: افعلْ هذا وخطيئتك في عنقي، فإن قيل {وَلْنَحْمِلْ} صيغة أمر، فكيف يصح أمر النفس من الشخص ؟ فنقول: الصيغةُ أمرٌ والمعنى شرطٌ وجزاء أي إن اتبعتمونا حملنا خطاياكم {وَمَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ مِنْ شَيْءٍ} أي وما هم حاملين شيئاً من خطاياهم، لأنه لا يحمل أحدُ وزر أحد {إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} أي وإنهم لكاذبون في ذلك، ثم قال تعالى {وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالا مَعَ أَثْقَالِهِمْ} أي وليحملُنَّ أوزارهم وأوزار من أضلوهم دون أن ينقص من أوزار أولئك شيء كما في الحديث (ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من اتبّعه من غير أن يَنْقص من آثامهم شيء) {وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} أي وليسألنَّ سؤال توبيخ وتقريع {عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ} أي عما كانوا يختلقونه من الكذب على الله عز وجل.



قصة نوح عليه السلام



{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلا خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمْ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ(14)فَأَنجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْنَاهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ(15)}.



ثم ذكر تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم قصة نوح تسليةً له عما يلقاه من أذى المشركين فقال {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلا خَمْسِينَ عَامًا} أي ولقد بعثنا نوحاً إلى قومه فمكث فيهم تسعمائة وخمسين سنة يدعوهم إلى توحيد الله جلّ وعلا، وكانوا عبدة أصنام فكذبوه { فَأَخَذَهُمْ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ} أي فأهلكهم الله بالطوفان وهم مصرّون على الكفر والضلال قال أبو السعود: والطوفان: كل ما يطوف بالشيء على كثرة وشدة، من السيل والريح والظلام، وقد غلب على طوفان الماءقال الرازي: وفيقوله {وَهُمْ ظَالِمُونَ} إشارة إلى لطيفة، وهي أن الله لا يعذب على مجرد وجود الظلم، وإنما يعذب على الإصرار على الظلم ولهذا قال {وَهُمْ ظَالِمُونَ} يعني أهلكهم وهم على ظلمهم {فَأَنجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ} أي فأنجينا نوحاً من الغرق ومن ركب معه في السفينة من أهله وأولاده وأتباعه المؤمنين {وَجَعَلْنَاهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ} أي وجعلنا تلك الحادثة الهائلة عظة وعبرة للناس بعدهم يتعظون بها.



قصة إبراهيم عليه السلام مع قومه



{وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللهَ وَاتَّقُوهُ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ(16)إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ(17)وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلا الْبَلاغُ الْمُبِينُ(18)أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ(19) قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنشِئُ النَّشْأَةَ الآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ(20)يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ(21)وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ(22)وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَلِقَائِهِ أُوْلَئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ(23)}.



{وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ} قال ابن كثير: يخبر تعالى عن عبده ورسوله وخليله "إبراهيم" إمام الحنفاء، أنه دعا قومه إلى عبادة الله وحده لا شريك له، والإخلاص له في التقوى، وطلب الرزق منه وحده، وتوحيده في الشكر فإنه المشكور على النعم لا مُسدي لها غيره {ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} أي عبادة الله وتقواه خير لكم من عبادة الأوثان إن كنتم تعلمون الخير من الشر وتفرقون بينهما {إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا} أي أنتم لا تعبدون شيئاً ينفع أو يضر، وإنما تعبدون أصناماً من حجارة صنعتموها بأيديكم {وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا} أي وتصنعون كذباً وباطلاً قال ابن عباس: تنحتون وتصورون إفكاً {إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا} أي إن هؤلاء الذين تعبدونهم لا يقدرون على أن يرزقوكم {فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ} أي فاطلبوا الرزق من الله وحده، فإنه القادر على ذلك {وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ} أي وخصوه وحده بالعبادة واخشعوا واخضعوا له، واشكروه على نعمه التي أنعم بها عليكم {إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} أي إليه لا إلى غيره مرجعكم يوم القيامة فيجازي كل عاملٍ بعمله {وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ } لما فرغ من بيان التوحيد أتى بعده بالتهديد، أي وإن تكذبوني فلن تضروني بتكذيبكم وإنما تضرون أنفسكم فقد سبق قبلكم أمم كذبوا رسلهم فحلَّ بهم عذاب الله، وسيحل بكم ما حلَّ بهم {وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلا الْبَلاغُ الْمُبِينُ} أي وليس على الرسول إلا تبليغ أوامر الله، وليس عليه هداية الناس قال الطبري: ومعنى {الْبَلاغُ الْمُبِينُ} أي الذي يبينُ لمن سمعه ما يُراد به، ويفهم منه ما يعني به {أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ} الاستفهام للتوبيخ لمنكري الحشر أي أولم ير المكذبون بالدلائل الساطعة كيف خلق تعالى الخلق ابتداءً من العدم، فيستدلون بالخلقة الأولى على الإعادة في الحشر ؟ قال قتادة: المعنى أولم يروا بالدلائل والنظر كيف يجوز أن يعيد الله الأجسام بعد الموت ؟ {إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} أي سهل عليه تعالى فكيف ينكرون البعث والنشور ؟ فإن من قدر على البدء قادرٌ على الإعادة، قال القرطبي: ومعنى الآية على ما قاله البعض: أولم يروا كيف يبدئ الله الثمار فتحيا ثم تفنى ثم يعيدها أبداً، وكذلك يبدأ خلق الإنسان ثم يهلكه بعد أن خلق منه ولداً، وخلق من الولد ولداً، وكذلك سائر الحيوان، فإذا رأيتم قدرته على الإبداء والإيجاد، فهو القادر على الإعادة لأنه إذا أراد أمراً قال له كن فيكون {قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ} أي قل لهؤلاء المنكرين للبعث سيروا في أرجاء الأرض فانظروا كيف أن الله العظيم القدير خلق المخلوقات على كثرتهم وتفاوت هيئاتهم، واختلاف ألسنتهم وألوانهم وطبائعهم، وانظروا إلى مساكن القرون الماضية وديارهم وآثارهم كيف أهلكهم الله، لتعلموا بذلك كمال قدرة الله عز وجل ! {ثُمَّ اللَّهُ يُنشِئُ النَّشْأَةَ الآخِرَةَ} أي ثم هو تعالى ينشئهم عند البعث نشأةً أخرى {إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} أي لا يعجزه تعالى شيء ومنه البدء والإعادة {يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ} أي هو الحاكم المتصرف الذي يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد، فله الخلق والأمر، لا يسأل عما يفعل وهم يُسألون {وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ} أي وإليه تُرجعون يوم القيامة {وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ} أي لا تفوتون من عذاب الله، وليس لكم مهربٌ في الأرض ولا في السماء قال القرطبي: والمعنى لو كنتم في السماء ما أعجزتم الله كقوله {وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ} {وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ} أي ليس لكم غير الله وليُّ يحميكم من بلائه، ولا نصير ينصركم من عذابه {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَلِقَائِهِ} أي كفروا بالقرآن والبعث {أُوْلَئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي} أي أولئك المنكرون الجاحدون قنطوا من رحمتي قال ابن جرير: وذلك في الآخرة عند رؤية العذاب {وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} أي لهم عذاب موجع مؤلم.



جواب قوم إبراهيم له وإيمان لوط به



{فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلا أَنْ قَالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنجَاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ(24)وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا وَمَأْوَاكُمْ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ(25)فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ(26)وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنْ الصَّالِحِينَ(27)}.



{فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلا أَنْ قالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ} أي فما كان ردُّ قومه عليه حين دعاهم إلى الله ونهاهم عن الأصنام إلا أن قال كبراؤهم المجرمون: اقتلوه لتستريحوا منه أو حرّقوه بالنار {فَأَنجَاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ} أي فألقوه في النار فجعلها برداً وسلاماً عليه {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} أي إنَّ في إِنجائنا لإِبراهيم من النار لدلائل وبراهين ساطعة على قدرة الله لقوم يصدقون بوجود الله وكمال قدرته وجلاله {وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا} أي قال إبراهيم لقومه توبيخاً لهم وتقريعاً: إنما عبدتم هذه الأوثان والأصنام وجعلتموها آلهة مع الله {مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} أي من أجل أن تدوم المحبة والألفة بينكم في هذه الحياة باجتماعكم على عبادتها {ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا} أي ثم في الآخرة ينقلب الحال فتصبح هذه الصداقة والمودة عداوةً وبغضاء حيث يقع التناكر ويتبرأ القادة من الأتباع ويلعن الأتباع القادة، لأن صداقتهم في الدنيا لم تكن من أجل الله {وَمَأْوَاكُمْ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ} أي ومصيركم جميعاً جهنم وليس لكم ناصر أو معين يخلصكم منها {فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ} أي فآمن معه لوط وصدَّقه وهو ابن أخيه وأول من آمن به لما رأى من الآيات الباهرة {وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي} أي وقال الخليل إبراهيم، إني تاركٌ وطني ومهاجر من بلدي رغبة في رضى الله قال المفسرون: هاجر من سواد العراق إلى فلسطين والشام ابتغاء إظهار الدين والتمكن من نشره { إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} أي هو العزيز الذي لا يذل من اعتمد عليه، الحكيم الذي يضع الأشياء مواضعها {وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ} أي وهبنا لإبراهيم -لما فارق قومه في الله- ولداً صالحاً هو إسحاق وولد ولدٍ وهو يعقوب بن إسحاق {وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ} أي خصصناه بهذا الفضل العظيم حيث جعلنا كل الأنبياء بعد إبراهيم من ذريته، وجعلنا الكتب السماوية نازلةً على الأنبياء من بنيه قال ابن كثير: وهذه خصلة سنية عظيمة مع اتخاذ الله إياه خليلاً، وجعله إماماً للناس، أن جعل الله في ذريته النبوة والكتاب، فلم يوجد نبيٌ بعد إبراهيم إلا وهو من سلالته، فجميع أنبياء بني إِسرائيل من سلالة ولده "يعقوب" ولم يوجد نبي من سلالة "إِسماعيل" سوى النبي العربي عليه أفضل الصلاة والتسليم {وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا} أي وتركنا له الثناء الحسن في جميع الأديان {وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنْ الصَّالِحِينَ} أي وهو في الآخرة في عداد الكاملين في الصلاح، وهذا ثناءٌ عظيم على أبي الأنبياء إبراهيم عليه السلام.

yacine414
2011-03-26, 20:42
قصة لوط عليه السلام مع قومه





{وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ(28)أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمْ الْمُنكَرَ فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلا أَنْ قَالُوا ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ إِنْ كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ(29) قَالَ رَبِّ انصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ(30)وَلَمَّا جَاءتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَالِمِينَ(31)قَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطًا قَالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ(32)وَلَمَّا أَنْ جَاءتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالُوا لا تَخَفْ وَلا تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلا امْرَأَتَكَ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ(33) إِنَّا مُنزِلُونَ عَلَى أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ(34)وَلَقَد تَرَكْنَا مِنْهَا آيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ(35)}.



{وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ} أي واذكر رسولنا لوطاً عليه السلام حين قال لقومه { إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ} أي إنكم يا معشر القوم لترتكبون الفعلة المتناهية في القبح {مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ} أي لم يسبقكم بهذه الشنيعة، والفعلة القبيحة -وهي اللواطة- أحدٌ من الخلق، ثم فسر تلك الشنيعة فقال {أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ} أي إنكم لتأتون الذكور في الأدبار وذلك منتهى القذارة والخسَّة قال المفسرون: لم يقدم أحد قبلهم عليها اشمئزازاً منها في طباعهم لإفراط قبحها حتى أقدم عليها قوم لوط، ولم ينزل ذكرٌ على ذكر قبل قوم لوط {وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ} أي وتقطعون الطريق على المارة بالقتل وأخذ المال، وكانوا قطاع الطريق قال ابن كثير: كانوا يقفون في طريق الناس يقتلونهم ويأخذون أموالهم {وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمْ الْمُنكَرَ} أي وتفعلون في مجلسكم ومنتداكم ما لا يليق من أنواع المنكرات علناً وجهاراً، أما كفاكم قبحُ فعلكم حتى ضممتم إِليه قبح الإِظهار !؟ قال مجاهد: كانوا يأتون الذكور أمام الملأ يرى بعضهم بعضاً، وقال ابن عباس: كانوا يحذفون بالحصى من مرَّ بهم مع الفحش في المزاح، وحل الإِزار، والصفير وغير ذلك من القبائح {فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ} أي فما كان ردُّ قومه عليه حين نصحهم وذكّرهم وحذَّرهم {إِلا أَنْ قَالُوا ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ} أي إِلا أن قالوا على سبيل الاستهزاء: ائتنا يا لوط بالعذاب الذي تعدنا به {إِنْ كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} أي إِن كنت صادقاً فيما تهددنا به من نزول العذاب قال الإِمام الفخر الرازي: فإِن قيل إِن الله تعالى قال ههنا {إِلا أَنْ قَالُوا ائْتِنَا} وقال في موضع آخر {إِلا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ} فكيف وجه الجمع بينهما ؟ فنقول: إِن لوطاً كان ثابتاً على الإِرشاد، مكرراً عليهم النهي والوعيد، فقالوا أولاً: ائتنا بعذاب الله، ثم لما كثر منه ذلك ولم يسكت عنهم قالوا أخرجوا آل لوط، ثم إِن لوطاً لما يئس منهم طلب النصرة من الله { قَالَ رَبِّ انصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ} أي قال لوط: ربّ أهلكهم وانصرني عليهم فإِنهم سفهاء مفسدون لا يُرجى منهم صلاح، وقد أغرقوا في الغيّ والفساد قال الرازي: واعلم أن نبياَّ من الأنبياء ما طلب هلاك قوم إِلا إِذا علم أن عدمهم خير من وجودهم كما قال نوح {إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ} فكذلك لوط لما رأى أنهم يفسدون في الحال، ولا يرجى منهم صلاح في المآل طلب لهم العذاب {وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى} المراد بالرسل هنا "الملائكة" والبشرى هي تبشير إبراهيم بالولد، أي لما جاءت الملائكة تبشّر إِبراهيم بغلام حليم {قَالُوا إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ} أي جئنا لنهلك قرية قوم لوط {إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَالِمِينَ} أي لأنَّ أهلها ممعنون في الظلم والفساد، طبيعتهم البغيُ والعناد قال المفسرون: لما دعا لوط على قومه، استجاب الله دعاءه، وأرسل ملائكته لإِهلاكهم، فمرُّوا بطريقهم على إِبراهيم أولاً فبشروه بغلامٍ وذرية صالحة، ثم أخبروه بما أُرسلوا من أجله، فجادلهم بشأن ابن أخيه لوط {قَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطًا} أي كيف تهلكون أهل القرية وفيهم هذا النبي الصالح "لوط" ؟ {قَالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيهَا} أي نحن أعلم به وبمن فيها من المؤمنين قال الصاوي: وهذا بعد المجادلة التي تقدمت فيها سورة هود {يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ} حيث قال لهم: أتهلكون قريةً فيها ثلاثمائة مؤمن؟ قالوا لا، إِلى أن قال: أفرأيتم إِن كان فيها مؤمن واحد ؟ قالوا لا فقال لهم {قَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطًا} فأجابوه بقولهم {قَالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيهَا} ثم بشروه بإِنجاء لوط والمؤمنين {لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ} أي سوف ننجيه مع أهله من العذاب، إِلا امرأته فستكون من الهالكين لأنها كانت تمالئهم على الكفر، ثم ساروا من عنده فدخلوا على "لوط" في صورة شبان حسان {وَلَمَّا أَنْ جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا} أي ولما دخلوا على لوط حزن بسببهم، وضاق صدره من مجيئهم لأنهم حسان الوجوه في صورة أضياف، فخاف عليهم من قومه، فأعلموه أنهم رسل ربه {وَقَالُوا لا تَخَفْ وَلا تَحْزَنْ} أي لا تخف علينا ولا تحزن بسببنا، فلن يصل هؤلاء المجرمون إِلينا {إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلا امْرَأَتَكَ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ} أي كانت من الهالكين الباقين في العذاب {إِنَّا مُنزِلُونَ عَلَى أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} أي منزلون عليهم عذاباً من السماء بسبب فسقهم المستمر قال ابن كثير: وذلك أن جبريل عليه السلام اقتلع قراهم من قرار الأرض، ثم رفعها إلى عنان السماء ثم قلبها عليهم، وأرسل عليهم حجارة من سجيل منضود، وجعل الله مكانها بحيرةً خبيثةً منتنة، وجعلهم عبرةً إلى يوم التناد، وهم من أشد الناس عذاباً يوم المعاد {وَلَقَد تَرَكْنَا مِنْهَا آيَةً بَيِّنَةً} أي ولقد تركنا من هذه القرية علامةً بينةً واضحة، هي آثار منازلهم الخربة {لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} أي لقومٍ يتفكرون ويتدبرون ويستعملون عقولهم في الاستبصار والاعتبار.



قصص شعيب وهود وصالح وموسى عليهم السلام



{وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الآخِرَ وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ(36)فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمْ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ(37)وَعَادًا وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَسَاكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمْ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ(38)وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الأَرْضِ وَمَا كَانُوا سَابِقِينَ(39) فَكُلا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ(40)}.



ثم أخبر تعالى عن قصة شعيب فقال {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا} أي وأرسلنا إلى قوم مدين أخاهم شعيباً {فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الآخِرَ} أي فقال لقومه ناصحاً ومذكراً : يا قوم وحّدوا الله وخافوا عقابه الشديد في اليوم الآخر {وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ} أي لا تسعوا بالإِفساد في الأرض بأنواع البغي والعدوان {فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمْ الرَّجْفَةُ} أي فكذبوا رسولهم شعيباً فأهلكهم الله برجفةٍ عظيمة مدمرة زلزلت عليهم بلادهم، وصيحة هائلة أخرجت القلوب من حناجرها {فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ} أي فأصبحوا هلكى باركين على الركب ميتين {وَعَادًا وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَسَاكِنِهِمْ} أي وأهلكنا عاداً وثمود، وقد ظهر لكم يا أهل مكة من منازلهم بالحجاز واليمن آيتنا في هلاكهم أفلا تعتبرون ؟ {وَزَيَّنَ لَهُمْ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ} أي وحسَّن لهم الشيطان أعمالهم القبيحة من الكفر والمعاصي حتى رأوها حسنة {فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ} أي فمنعهم عن طريق الحق، وكانوا عقلاء متمكنين من النظر والاستدلال، لكنهم لم يفعلوا تكبراً وعناداً {وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ} أي وأهلكنا كذلك الجبابرة الظالمين، {وَقَارُونَ} صاحب الكنوز الكثيرة {وَفِرْعَوْنَ} صاحب الملك والسلطان، ووزيره {وَهَامَانَ} الذي كان يُعينُه على الظلم والطغيان {وَلَقَدْ جَاءهُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ} أي ولقد جاءهم موسى بالحجج الباهرة، والآيات الظاهرة {فَاسْتَكْبَرُوا فِي الأَرْضِ} أي فاستكبروا عن عبادة الله وطاعة رسوله {وَمَا كَانُوا سَابِقِينَ} أي وما كانوا ليفلتوا من عذابنا قال الطبري: أي ما كانوا ليفوتونا بل كنا مقتدرين عليهم {فَكُلا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ} أي فكلاً من هؤلاء المجرمين أهلكناه بسبب ذنبه وعاقبناه بجنايته قال ابن كثير: أي وكانت عقوبته بما يناسبه {فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا} أي ريحاً عاصفة مدمرة فيها حصباء "حجارة" كقوم لوط {وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ} أي ومنهم من أخذته صيحةُ العذاب مع الرجفة كثمود {وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الأَرْضَ} أي خسفنا به وبأملاكه الأرض حتى غاب فيها كقارون وأصحابه {وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا} أي أهلكناه بالغرق كقوم نوح وفرعون وجنده {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ} أي وما كان الله ليعذبهم من غير ذنب فيكون لهم ظالماً {وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} أي ولكن ظلموا أنفسهم فاستحقوا العذاب والدمار.



تشبيه حال عبدة الأوثان بحال العنكبوت



{مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ(41)إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ(42)وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلا الْعَالِمُونَ(43)}.



ثم ضرب تعالى مثلاً للمشركين في اتخاذهم آلهة من دون الله فقال {مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا} أي مثل الذي اتخذوا من دون الله أصناماً يعبدونها في اعتمادهم عليها ورجائهم نفعها كمثل العنكبوت في اتخاذها بيتاً لا يغني عنها في حر ولا برد، ولا مطر ولا أذى قال القرطبي: هذا مثل ضربه الله سبحانه لمن اتخذ من دونه آلهة لا تنفعه ولا تضره، كما أن بيت العنكبوت لا يقيها حراً ولا برداً {وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} أي وإِن أضعف البيوت لبيتُ العنكبوت لتفاهته وحقارته، لو كانوا يعلمون أن هذا مثلهم ما عبدوها {إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ} أي هو تعالى عالم بما عبدوه من دونه لا يخفى عليه ذلك، وسيجازيهم على كفرهم {وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} أي وهو جل وعلا العزيز في ملكه، الحكيم في صنعه {وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ} أي وتلك الأمثال نبينها للناس في القرآن لتقريبها إلى أذهانهم {وَمَا يَعْقِلُهَا إِلا الْعَالِمُونَ} أي وما يدركها ويفهمها إِلا العالمون الراسخون، الذين يعقلون عن الله عز وجل مراده.



فائدة خلق السماوات والأرض وتلاوة القرآن وإقامة الصلاة



{خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ(44)اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمْ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ(45) }.



{خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ} أي خلقهما بالحق الثابت لا على وجه العبث واللعب {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ} أي إِن في خلقهما بذلك الشكل البديع، والصنع المحكم لعلامة ودلالة للمصدقين بوجود الله ووحدانيته {اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ} أي اقرأ يا محمد هذا القرآن المجيد الذي أوحاه إِليك ربك، وتقرّب إِليه بتلاوته وترداده، لأن فيه محاسن الآداب ومكارم الأخلاق {وَأَقِمْ الصَّلاةَ} أي دم على إِقامتها بأركانها وشروطها وآدابها فإِنها عماد الدين { إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} أي إِنَّ الصلاة الجامعة لشروطها وآدابها، المستوفية لخشوعها وأحكامها، إِذا أداها المصلي كما ينبغي، وكان خاشعاً في صلاته، متذكراً لعظمة ربه، متدبراً لما يتلو، نهته عن الفواحش والمنكرات {وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ} أي ولذكر الله أكبر من كل شيء في الدنيا، وهو أن تتذكر عظمته وجلاله، وتذكره في صلاتك وفي بيعك وشرائك، وفي أمور حياتك ولا تغفل عنه في جميع شؤونك {وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ} أي يعلم جميع أعمالكم وأفعالكم فيجازيكم عليها أحسن المجازاة، قال أبو العالية: إن الصلاة فيها ثلاث خصال: الإِخلاص، والخشية، وذكر الله، فالإخلاص يأمره بالمعروف، والخشية تنهاه عن المنكر، وذكر الله - القرآن - يأمره وينهاه فكل صلاة لا يكون فيها شيء من هذه الخلال فليست بصلاة.



مناقشة أهل الكتاب بالحسنى



{وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ(46)وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ فَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمِنْ هَؤُلاء مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلا الْكَافِرُونَ(47)وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ(48)بَلْ هُوَ ءاياتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلا الظَّالِمُونَ(49)}.



{وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ } أي لا تدعوا أهل الكتاب إلى الإِسلام وتناقشوهم في أَمر الدين إلا بالطريقة الحسنى كالدعاء إلى الله بآياته، والتنبيه على حججه وبيناته {إِلا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} أي إلا من كان ظالماً، محارباً لكم، مجاهداً في عداوتكم، فجادلوهم بالغلظة والشدة، قال الإِمام الفخر: إن المشرك لما جاء بالمنكر الفظيع كان اللائق أن يُجادل بالأخشن، ويُبالغ في توهين شبهه وتهجين مذهبه، وأما أهل الكتاب فإنهم آمنوا بإنزال الكتب وإرسال الرسل إلا الاعتراف بالنبي عليه السلام، فلمقابلة إحسانهم يُجادلون بالأحسن إلا الذي ظلموا منهم بإثبات الولد لله، والقول بثالث ثلاثة فإنهم يُجادلون بالأخشن من تهجين مقالتهم، وتبيين جهالتهم {وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ} أي وقولوا لهم: آمنا بالقرآن الذي أُنزل إلينا وبالتوراة والإِنجيل التي أنزلت إليكم، قال أبو هريرة: كان أهل الكتاب يقرءون التوراة بالعبرانية ويفسرونها بالعربية لأهل الإِسلام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تصدّقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم" وقولوا آمنا بالذي أُنزل إلينا وأُنزل إليكم {وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} أي ربنا وربكم واحد لا شريك له في الألوهية، ونحن له مطيعون، مستسلمون لحكمه وأمره {وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ} أي وكما أنزلنا الكتاب على من قبلك يا محمد أنزلناه عليك {فَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتَابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ} أي فالذين أعطيناهم الكتاب كعبد الله بن سلام وأمثاله ممن أسلم من اليهود والنصارى يؤمنون بالقرآن {وَمِنْ هَؤُلاء مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ} أي ومن أهل مكة من يؤمن بالقرآن كذلك {وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلا الْكَافِرُونَ} أي وما يكذب بآياتنا وينكرها مع ظهورها وقيام الحجة عليها إلا المتوغلون في الكفر، المصرّون على العناد، قال قتادة: وإنما يكون الجحود بعد المعرفة {وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ} أي وما كنتَ يا محمد تعرف القراءة ولا الكتابة قبل نزول هذا القرآن لأنك أميٌ، قال ابن عباس: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أمياً لا يقرأ شيئاً ولا يكتب { إِذًا لارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ} أي لو كنت تقرأ أو تكتب إذاً لشك الكفار في القرآن، وقالوا لعله التقطه من كتب الأوائل ونسبه إلى الله، والآيةُ احتجاجٌ على أن القرآن من عند الله، لأن النبي أميٌ وجاءهم بهذا الكتاب المعجز، المتضمن لأخبار الأمم السابقة، والأمور الغيبية، وذلك أكبر برهان على صدقه صلى الله عليه وسلم، قال ابن كثير: المعنى قد لبثت في قومك يا محمد -من قبل أن تأتي بهذا القرآن- عمراً لا تقرأ كتاباً، ولا تحسن الكتابة، بل كل أحد من قومك يعرف أنك أميٌ لا تقرأ ولا تكتب، وهكذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم دائماً إلى يوم الدين لا يحسن الكتابة، ولا يخط حرفاً ولا سطراً بيده، بل كان له كتَّاب يكتبون له الوحي {بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} {بَلْ} للإِضراب أي ليس الأمر كما حسب الظالمون والمبطلون بل هو آياتٌ واضحاتُ الإِعجاز، ساطعات الدلالة على أنها من عند الله، محفوظة في صدور العلماء، قال المفسرون: من خصائص القرآن العظيم أنَّ الله حفظه من التبديل والتغيير بطريقين: الأول: الحفظُ في السطور، والثاني: الحفظُ في الصدور، بخلاف غيره من الكتب فإنها مسطّرة لديهم غير محفوظة في صدورهم ولهذا دخلها التحريف، وقد جاء في صفة هذه الأمة "أنا جيلُهم في صدورهم" وقال الحسن: أُعطيت هذه الأمة الحفظ، وكان من قبلها لا يقرءون كتابهم إلا نظراً، فإذا أطبقوه لم يحفظ ما فيه إلا النبيّون {وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلا الظَّالِمُونَ} أي وما يكذب بها إلا المتجاوزون الحد في الكفر والعناد.





بعض مطالب المشركين التعجيزية



{وَقَالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ ءاياتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ(50)أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ(51) قُلْ كَفَى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيدًا يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْبَاطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمْ الْخَاسِرُونَ(52)وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَوْلا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجَاءَهُمْ الْعَذَابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ(53)يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ(54)يَوْمَ يَغْشَاهُمْ الْعَذَابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَيَقُولُ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ(55)}.



سبب النزول:

نزول الآية (51):

{أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ }: أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم والدارمي في مسنده وأبو داود عن يحيى بن جَعْدة قال: جاء ناس من المسلمين بكتب كتبوها، فيها بعض ما سمعوه من اليهود، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "كفى بقوم حُمْقاً أو ضلالة أن يرغبوا عما جاء به نبيهم إليهم إلى ما جاء به غيره إلى غيرهم"، فنزلت: {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ}.



وأخرج البخاري عند تفسير الآية قوله صلى الله عليه وسلم: "ليس منا من لم يتغنَّ بالقرآن" أي يستغني به عن غيره.



وأخرج عبد الرزاق عن عبد الله بن الحارث الأنصاري قال: دخل عمر بن الخطاب على النبي صلى الله عليه وسلم بكتاب فيه مواضع من التوراة، فقال: هذه أصبتها مع رجل من أهل الكتاب أعرضها عليك، فتغير وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم تغيراً شديداً لم أر مثله قط، فقال عبد الله بن الحارث لعمر: أما ترى وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال عمر: رضينا بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد نبيّاً، فسُرِّي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: "لو نزل موسى فاتبعتموه وتركتموني لضللتم، أنا حظكم من النبيين، وأنتم حظي من الأمم".



{وَقَالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ ءاياتٌ مِنْ رَبِّهِ} أي وقال كفار مكة: هلاَّ أُنزل على محمد آيات خارقة من ربه تدل على صدقه مثل ناقة صالح، وعصا موسى، ومائدة عيسى!! {قُلْ إِنَّمَا الآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ} أي قل لهم يا محمد: إنما أمر هذه الخوارق والمعجزات لله وليست بيدي، إن شاء أرسلها، وإن شاء منعها. وليس لأحدٍ دخلٌ فيها {وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ} أي وإنما أنا منذر أخوفكم عذاب الله، وليس من شأني أن آتي بالآيات {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ}؟ الاستفهام للتوبيخ أي أولم يكف المشركين من الآيات هذا الكتاب المعجز الذي لا يزال يقرع أسماعهم؟ وكيف يطلبون آيةً والقرآن أعظم الآيات وأوضحها دلالة على صحة نبوتك؟ قال ابن كثير: بيَّن تعالى كثرة جهلهم، وسخافة عقلهم، حيث طلبوا آياتٍ تدل على صدق محمد صلى الله عليه وسلم، وقد جاءهم بالكتاب العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، الذي هو أعظم من كل معجزة، إذ عجزت الفصحاء والبلغاء عن معارضته، بل عن معارضة سورة منه، أولم يكفهم أنا أنزلنا عليك هذا الكتاب العظيم وأنت رجلٌ أميٌ لا تقرأ ولا تكتب، وجئتهم بأخبار ما في الصحف الأولى؟ ولهذا قال بعده {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} أي إن في إنزال هذا القرآن لنعمةً عظيمة على العباد بإنقاذهم من الضلالة، وتذكرة بليغة لقوم غرضهم الإِيمان لا التعنت {قُلْ كَفَى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيدًا} أي قل لهم: كفى أن يكون الله جلَّ وعلا شاهداً على صدقي، يشهد لي أني رسولُه {يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} أي لا تخفى عليه خافية من أمر العباد، فلو كنتُ كاذباً عليه لانتقم مني {وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْبَاطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمْ الْخَاسِرُونَ} أي والذين آمنوا بالأوثان وكفروا بالرحمن، أولئك هم الكاملون في الخسران حيث اشتروا الكفر بالإيمان {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ} أي يستعجلك يا محمد المشركون بالعذاب يقولون {أَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ} وهو استعجال على جهة التكذيب والاستهزاء {وَلَوْلا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجَاءهُمْ الْعَذَابُ} أي لولا أن الله قدَّر لعذابهم وهلاكهم وقتاً محدوداً لجاءهم العذاب حين طلبوه {وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} أي وليأتينهم فجأةً وهم ساهون لاهون لا يشعرون بوقت مجيئه {يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ} تعجبٌ من قلة فطنتهم ومن تعنتهم وعنادهم والمعنى: كيف يستعجلون العذاب والحال أن جهنم محيطةٌ بهم يوم القيامة كإحاطة السوار بالمعصم، لا مفرَّ لهم منها؟ ثم ذكر كيفية إحاطة جهنم بهم فقال {يَوْمَ يَغْشَاهُمْ الْعَذَابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ} أي يوم يجللهم العذاب ويحيط بهم من فوقهم ومن تحتهم، ومن جميع جهاتهم {وَيَقُولُ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} أي ويقول الله عز وجل لهم: ذوقوا جزاء ما كنتم تعملونه في الدنيا من الاستهزاء والإجرام، وسيء الأعمال.







الحض على الهجرة عند التضييق على المؤمنين



{يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ(56)كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ(57)وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفًا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ(58)الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ(59)وَكَأَيِّن مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ(60)}.



سبب النزول:

نزول الآية (56):

{يا عباد}: نزلت في ضعفاء مسلمي مكة، كانوا في ضيق من إظهار الإسلام بها. قال مقاتل والكلبي: هذه الآية نزلت في تحريض المؤمنين الذين كانوا بمكة على الهجرة، أي في قوم تخلفوا عن الهجرة وقالوا: نخشى إن هاجرنا من الجوع وضيق المعيشة.



نزول الآية (60):

{وَكَأَيِّن مِنْ دَابَّةٍ}: عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للمؤمنين بمكة حين آذاهم المشركون: اخرجوا إلى المدينة وهاجروا، ولا تجاوروا الظلمة، قالوا: ليس لنا بها دار ولا عقار، ولا من يطعمنا، ولا من يسقينا، فنزلت الآية: {وَكَأَيِّن مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ} أي ليس معها رزقها مدخراً، وكذلك أنتم يرزقكم الله في دار الهجرة.

ثم لما بيَّن تعالى حال المكذبين الجاحدين، أعقبه بذكر حال الأبرار المتقين فقال {يَا عِبَادِي الَّذِينَ ءامَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ} خطابُ تشريفٍ للتحريض على الهجرة من دار الكفر إلى دار الإِسلام أي يا من شرفكم الله بالعبودية له هاجروا من مكة إن كنتم في ضيق من إظهار الإِيمان فيها، ولا تجاوروا الظلمة فأرضُ الله واسعة، قال مقاتل: نزلت في ضعفاء مسلمي مكة {فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ} أي فخصوني بالعبادة ولا تعبدوا أحداً سواي {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} أي أينما كنتم يدرككم الموتُ، فكونوا دائماً وأبداً في طاعة الله، وحيث أُمرتم فهاجروا فإن الموت لا بدَّ منه ولا محيد عنه، ثم إلى الله المرجع والمآب {وَالَّذِينَ ءامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} أي جمعوا بين إخلاص العقيدة وإخلاص العمل {لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفًا} أي لنزلنَّهم أعالي الجنة ولنسكننهم منازل رفيعة فيها {تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ} أي تجري من تحت أشجارها وقصورها أنهار الجنة {خَالِدِينَ فِيهَا} أي ماكثين فيها إلى غير نهاية لا يخرجون منها أبداً {نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ} أي نعمت تلك المساكن العالية في جناتِ النعيم أجراً للعاملين {الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} هذا بيانٌ للعاملين أي هم الذين صبروا على تحمل المشاقّ من الهجرة والأذى في سبيل الله، وعلى ربهم يعتمدون في جميع أمورهم، قال في البحر: وهذان جماع الخير كله: الصبر، وتفويض الأمر إليه تعالى {وَكَأَيِّن مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا} أي كم من دابة ضعيفة لا تقدر على كسب رزقها ولكنَّ الله يرزقها مع ضعفها {اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ} أي الله تعالى يرزقها كما يرزقكم، وقد تكفل برزق جميع الخلق، فلا تخافوا الفقر إن هاجرتم، فالرازق هو الله، قال في التسهيل: والقصدُ بالآية التقوية لقلوب المؤمنين إذا خافوا الفقر والجوع في الهجرة من أوطانهم، فكما يرزق الله الحيوانات الضعيفة كذلك يرزقكم إذا هاجرتم من بلدكم {وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} أي هو السميع لأقوالكم، العليمُ بأحوالكم.



اعتراف المشركين بالإله الخالق الرازق المحيي



{وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ(61)اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ(62)وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ(63)}.



ثم عاد الحديث إلى توبيخ المشركين في عبادة غير الله فقال {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} أي ولئن سألت المشركين من خلق العالم العلوي والسفلي وما فيهما من العجائب والغرائب؟ ومن ذلَّل الشمس والقمر وسخرهما لمصالح العباد يجريان بنظام دقيق؟ ليقولون: الله خالق ذلك {فَأَنَّا يُؤْفَكُونَ} أي فكيف يُصرفون عن توحيده بعد إقرارهم بذلك؟ {اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ} أي هو جلَّ وعلا الخالق وهو الرازق، يوسّع الرزق لمن يشاء من عباده امتحاناً، ويضيّق الرزق على من يشاء ابتلاءً، ليظهر الشاكر والصابر {إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} أي إنه تعالى واسع العلم يفعل ما تقتضيه الحكمة والمصلحة {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} توبيخٌ آخر وإقامة حجة أخرى عليهم أي ولئن سألت المشركين من الذي أنزل المطر من السماء فأخرج به أنواع الزروع والثمار بعد جدب الأرض ويبسها؟ ليقولون: الله فاعلُ ذلك{قُلْ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ} أي قل يا محمد: حمداً لله على ظهور الحجة، بل أكثرهم لا يعقلون، حيث يقرون بأن الله هو الخالق الرازق ويعبدون غيره.





تبيين حال الدنيا والكفار فيها



{وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ(64)فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوْا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ(65)لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ(66)أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ(67)وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ(68)وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ(69)}.



سبب النزول:

نزول الآية (67):

{أَوَلَمْ يَرَوْا..} أخرج جويبر عن ابن عباس أنهم قالوا: يا محمد، ما يمنعنا أن ندخل في دينك إلا مخافة أن يتخطفنا الناس لقتلنا، والأعراب أكثر منا، فمتى ما يبلغهم أنا قد دخلنا في دينك اختطفنا، فكنا أكلة رأس، فأنزل الله: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا}.



{وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلا لَهْوٌ وَلَعِبٌ} أي وما الحياة في هذه الدنيا إلا غرور ينقضي سريعاً ويزول، كما يلعب الصبيان ساعة ثم يتفرقون {وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ} أي وإن الآخرة لهي دار الحياة الحقيقية التي لا موت فيها ولا تنغيص {لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} أي لو كان عندهم علم لم يُؤْثروا دار الفناء على دار البقاء، لأن الدنيا حقيرة لا تزن عند الله جناح بعوضة، ولقد أحسن من قال:

تأملْ في الوجـود بعين فـكر ترى الدنـيا الــدنيَّة كالخيال

ومَنْ فيها جميعاً سوف يفنى ويبقى وجهُ ربك ذو الجلال



{فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوْا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} إقامة حجة ثالثة على المشركين في دعائهم الله عند الشدائد، ثم يشركون به في حال الرخاء والمعنى إذا ركبوا في السفن وخافوا الغرق دعوا الله مخلصين له الدعاء، لعلمهم أنه لا يكشف الشدائد عنهم إلاّ هو، وفي لفظ {مُخْلِصِينَ} ضربٌ من التهكم {فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ} أي فلما خلَّصهم من أهوال البحر، ونجاهم إلى جانب البر إذا هم يعودون إلى كفرهم وإشراكهم، ناسين ربهم الذي أنقذهم من الشدائد والأهوال {لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} أمرٌ على وجه التهديد أي فليكفروا بما أعطيناهم من نعمة الإِنجاء من البحر، وليتمتعوا في هذه الحياة الدنيا بباقي أعمارهم، فسوف يعلمون عاقبة أمرهم {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ} أي أولم ير هؤلاء الكفار، رؤية تفكر واعتبار، أنا جعلنا بلدهم "مكة" حرماً مصوناً عن السلب والنهب، آمناً أهله من القتل والسبي، والناسُ حولهم يُسبون ويُقتلون؟ قال الضحاك: {ويتخطف الناس من حولهم} أي يقتل بعضُهم بعضاً، ويسبي بعضهم بعضاً { أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ} أي أفبعد هذه النعم الجليلة يؤمنون بالأوثان ويكفرون بالرحمن؟ {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءهُ} أي لا أحد أظلم ممن عبد غير الله وكذَّب بالقرآن حين جاءه {أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ}؟ أي أليس في جهنم مأوى وموضع إقامة للكافرين بآيات الله جزاء افترائهم وكفرهم؟ {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} أي والذين جاهدوا النفس والشيطان والهوى والكفرة أعداء الدين ابتغاء مرضاتنا لنهدينهم طريق السير إلينا {وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} أي مع المؤمنين بالنصر والعون

الطيب 1963
2011-03-27, 11:41
جـــزاك الــلــه خــــيـــــرا

yacine414
2011-04-01, 17:24
سورة الروم



التســميَـــة

الإخبار عن غيب المستقبل

التفكر بمخلوقات الله يدل على وجوده

إنشاء خلق الإنسان عند قيام الساعة

تنزيه الله وحمده

أدلة وجود الله وربوبيته

إثبات الوحدانية وبطلان الشريك لله

الأمر باتباع الدين الحق: الإسلام

التجاء الناس إلى الله عند الشدة وإعراضهم عند زوالها

الحث على الإنفاق لذوي الأرحام والتحذير من المال الحرام

جزاء المفسدين والمؤمنين

الرياح والأمطار دليل على قدرة الله تعالى

تسلية الله نبيه صلى الله عليه وسلم وتشبيه الكفار بالموتى والأصماء والعميان

مقارنة المجرمين مُكثهم في الدنيا بيوم البعث

أطوار حياة الإنسان

ضرب الأمثال للعبرة والموعظة، وأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالصبر على الأذى والدعوة



بَين يَدَي السُّورَة



* سورة الروم مكية، وأهدافها نفس أهداف السور المكية، التي تعالج قضايا العقيدة الإِسلامية في إطارها العام وميدانها الفسيح "الإِيمان بالوحدانية، وبالرسالة، وبالبعث والجزاء".



* ابتدأت السورة الكريمة بالتنبؤ بحدثٍ غيبي هام، أخبر عنه القرآن الكريم قبل حدوثه، ألا وهو انتصار الروم على الفرس في الحرب التي ستقع قريباً بينهما، وقد حدث كما أخبر عنه القرآن، وبذلك تحققت النبوءة، وذلك أظهر الدلائل على صدق محمد صلى الله عليه وسلم فيما جاء به من الوحي، ومن أعظم معجزات القرآن.



* ثم تحدثت السورة عن حقيقة المعركة بين حزب الرحمن، وحزب الشيطان، وأنها معركة قديمة قدم هذه الحياة، فالحرب لا تهدأ ما دام هناك حقٌّ وباطل، وخير وشرٌّ، وما دام الشيطان يحشد أعوانه وأنصاره لإِطفاء نور الله، ومحاربة دعوة الرسل الكرام، وقد ساقت الآيات دلائل وشواهد على انتصار الحق على الباطل، في شتَّى العصور والدهور، وتلك هي سنة الله ولن تجد لسنة الله تبديلاً.



* ثم تناولت السورة الحديث عن الساعة والقيامة، وعن المصير المشئوم لأهل الكفر والضلال في ذلك اليوم العصيب، حيث يكون المؤمنون في روضات يُحبرون، ويكون المجرمون في العذاب محضرين، وتلك نهاية المطاف للأبرار والفجار، والعاقبة المؤكدة للمحسنين والمجرمين.



* وتناولت السورة بعد ذلك بعض المشاهد الكونية، والدلائل الغيبية، الناطقة بقدرة الله ووحدانيته لإِقامة البرهان على عظمة الواحد الديان، الذي تخضع له الرقاب، وتعنو له الوجوه، وضربت بعض الأمثلة للتفريق والتمييز بين من يعبد الرحمن، وبين من يعبد الأوثان.



* وختمت السورة بالحديث عن كفار قريش، إذ لم تنفعهم الآيات والنُّذر ومهما رأوا من الآيات الباهرة، والبراهين الساطعة، لا يعتبرون ولا يتعظون، لأنهم كالموتى لا يسمعون ولا يبصرون، وكلُّ ذلك بقصد التسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم عما يلقاه من أذى المشركين، والصبر حتى يأتي النصر.

التسميَة:

سميت "سورة الروم" لذكر تلك المعجزة الباهرة، التي تدل على صدق أنباء القرآن العظيم {الم * غُلِبَتْ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ } وتلك هي بعض معجزات القرآن.



سبب النزول:

أخرج الترمذي عن أبي سعيد الخدري قال: لما كان يوم بدر، ظهرت الروم على فارس، فأعجب ذلك المؤمنين، فنزلت {الم* غُلِبَتْ الرُّومُ}.

وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن شهاب الزهري قال: بلغنا أن المشركين كانوا يجادلون المسلمين، وهم بمكة، قبل أن يخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيقولون: الروم يشهدون أنهم أهل كتاب، وقد غلبتهم المجوس، وأنتم تزعمون أنكم ستغلبوننا بالكتاب الذي أنزل على نبيكم، فكيف غلب المجوس الروم، وهم أهل كتاب؟! فسنغلبكم كما غلب فارس الروم، فأنزل الله: {الم* غُلِبَتْ الرُّومُ}.



وأخرج الترمذي والنسائي وابن جرير وابن أبي حاتم والبيهقي: أن فارساً غَزوا الروم، فوافَوْهم بأذْرِعات وبُصرى من أرض الشام، فغلبوا عليهم، وبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وهو بمكة، فشق ذلك عليهم، من قِبَل أن الفرس مجوس، والروم أهل كتاب، وفرح المشركون بمكة وشَمِتوا، ولَقُوا أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وهم فرحون، وقالوا: إنكم أهل كتاب، والنصارى أهل كتاب، وقد ظهر إخواننا من أهل فارس على أخوانكم من أهل الكتاب، وإنكم إن قاتلتمونا لنظهرَنَّ عليكم، فأنزل الله هؤلاء الآيات.

فخرج أبو بكر رضي الله عنه إلى المشركين، فقال: أفرِحْتم بظهور إخوانكم على إخواننا؟ فلا تفرحوا، ولا يَقَرَّنَّ اللهُ أعينكم، فوالله لتَظْهَرَنَّ الروم على فارس، كما أخبرَنا بذلك نبينا صلى الله عليه وسلم، فقام إليه أبيّ بن خلَف، فقال: كذبت، فقال: أنت أكذب يا عدو الله، اجعل بيننا أجلاً أناحِبك عليه على عشر قلائص مني، وعشر قلائص منك، فإن ظهرت الروم على فارس غرِمتَ، وإن ظهرت فارس غرمتُ إلى ثلاث سنين، فناحبه، ثم جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره، فقال صلى الله عليه وسلم: "زايده في الخَطَر وماده في الأجل" فخرج أبو بكر، فلقي أُبياً، فقال: لعلك ندمت، فقال: لا، تعال أزايدك في الخطر، وأمادّك في الأجل، فاجعلها مئة قلوص إلى تسع سنين، قال: قد فعلت، فلما أراد أبو بكر الهجرة، طلب منه أُبَي كفيلاً بالخطر إن غُلِب، فكفل به ابنه عبد الرحمن، فلما أراد أُبيّ الخروج إلى أحُد، طلبه عبد الرحمن بالكفيل، فأعطاه كفيلاً، ومات أُبيّ من جرح جرحه إياه النبي صلى الله عليه وسلم في الموقعة، وظهرت الروم على فارس لما دخلت السنة السابعة، فأخذ أبو بكر الخطر من ورثة أبيّ، وجاء به إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "تصدّقْ به". وقد كان هذا قبل تحريم القمار، لأن السورة مكية، وتحريم الخمر والميسر بالمدينة. واستدل به الحنفية على جواز العقود الفاسدة في دار الحرب.

والآية من دلائل النبوة، لأنها إخبار عن الغيب.



الإخبار عن غيب المستقبل



الم(1)غُلِبَتِ الرُّومُ(2)فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ(3)فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ(4)بِنَصْرِ اللَّهِ يَنصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ(5)وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ(6)يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنْ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ(7)}.



{الم} الحروف المقطعة للتنبيه على إِعجاز القرآن {غُلِبَتْ الرُّومُ فِي أَدْنَى الأَرْضِ} أي هُزم جيش الروم في أقرب أرضهم إلى فارس {وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ} أي وهم من بعد انهزامهم وغلبة فارس لهم سيغلبون الفرس وينتصرون عليهم {فِي بِضْعِ سِنِينَ} أي في فترة لا تتجاوز بضعة أعوام، والبضع: ما بين الثلاث إلى التسع، قال المفسرون: كان بين فارس والروم حربٌ، فغلبت فارس الروم، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه فشقَّ ذلك عليهم، وفرح المشركون بذلك لأن أهل فارس كانوا مجوساً لم يكن لهم كتاب، والرومُ أصحاب كتاب فقال المشركون لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إِنكم أهل كتاب، والروم أهل كتاب، ونحن أُميون، وقد ظهر إِخواننا من أهل فارس على إِخوانكم من الروم، فلنظهرنَّ عليكم، فقال أبو بكر: لا يقرُّ الله أعينكم، فأنزل الله {وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ} وقد التقى الجيشان في السنة السابعة من الحرب، وغلبت الرومُ فارس وهزمتهم، وفرح المسلمون بذلك، قال أبو السعود: وهذه الآياتُ من البينات الباهرة، الشاهدة بصحة النبوة، وكون القرآن من عند الله عز وجل حيث أخبر عن الغيب الذي لا يعلمه إِلا العليم الخبير، ووقع كما أخبر، وقال البيضاوي: والآية من دلائل النبوة لأنها إِخبارٌ عن الغيب {لِلَّهِ الأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ} أي لله عز وجل الأمر أولاً وآخراً، من قبل الغلبة ومن بعد الغلبة، فكل ذلك بأمر الله وإرادته، ليس شيء منهما إِلا بقضائه، قال ابن الجوزي: المعنى إِن غلبة الغالب، وخذلان المغلوب، بأمر الله وقضائه {وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ} أي ويوم يهزم الروم الفرس ويتغلبون عليهم، ويحل ما وعده الله من غلبتهم يفرح المؤمنون بنصر الله لأهل الكتاب على المجوس، لأن أهل الكتاب أقرب إلى المؤمنين من المجوس، وقد صادف ذلك اليوم يوم غزوة بدر، قال ابن عباس: كان يوم بدر هزيمة عبدة الأوثان، وعبدة النيران {يَنصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} أي ينصر من يشاء من عباده، وهو العزيز بانتقامه من أعدائه، الرحيمُ بأوليائه وأحبابه {وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ} أي ذلك وعدٌ مؤكد وعد الله به فلا يمكن أن يتخلف، لأن وعده حق وكلامه صدق {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} أي لا يعلمون ذلك لجهلهم وعدم تفكرهم {يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} أي يعلمون أمور الدنيا ومصالحها وما يحتاجون إِليه فيها من أمور الحياة كالزراعة والتجارة والبناء ونحو ذلك، قال ابن عباس: يعلمون أمر معايشهم متى يزرعون، ومتى يحصدون، وكيف يغرسون، وكيف يبنون {وَهُمْ عَنْ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} أي وهم عميٌ عن أمر الآخرة، ساهون غافلون عن التفكر فيها والعمل لها، قال الإِمام الفخر: ومعنى الآية أن علمهم منحصرٌ في الدنيا، وهم مع ذلك لا يعلمون الدنيا كما هي وإِنما يعلمون ظاهرها، وهي ملاذها وملاعبها، ولا يعلمون باطنها وهي مضارُّها ومتاعبها، ويعلمون وجودها الظاهر ولا يعلمون فناءها وهم عن الآخرةغافلون،ولعل في التعبير بقوله {ظَاهِرًا} إِشارة إلى أنهم عرفوا القشور، ولم يعرفوا اللباب فكأن علومهم إِنما هي علوم البهائم.



التفكر بمخلوقات الله يدل على وجوده



{أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ(8)أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ(9)ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسئُوا السُّوأى أَنْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِئُون(10)}.



{أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى} أي أولم يتفكروا بعقولهم فيعلموا أن الله العظيم الجليل ما خلق السماوات والأرض عبثاً، وإِنما خلقهما بالحكمة البالغة لإِقامة الحق لوقتٍ ينتهيان إِليه وهو يوم القيامة؟ قال القرطبي: وفي هذا تنبيه على الفناء، وعلى أن لكل مخلوقٍ أجلاً، وعلى ثواب المحسن وعقاب المسيء {وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ} أي وأكثر الناس منكرون جاحدون للبعث والجزاء {أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} أي أولم يسافروا في أرجاء العالم فينظروا مصارع الأمم قبلهم كيف أُهلِكوا بتكذيبهم رسلهم فيعتبروا!! {كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً} أي كانوا أقوى منهم أجساداً، وأكثر أموالاً وأولاداً {وَأَثَارُوا الأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا} أي وحرثوا الأرضَ للزراعة، وحفروها لاستخراج المعادن، وعمروها بالأبنية المشيدة، والصناعات الفريدة أكثر مما عمرها هؤلاء، قال البيضاوي: وفي الآية تهكم بأهل مكة من حيث إِنهم مغترون بالدنيا، مفتخرون بها، وهم أضعف حالاً فيها، إِذ مدار أمرها على السعة في البلاد، والتسلط على العباد، والتصرف في أقطار الأرض بأنواع العمارة، وهم ضعفاء ملجئون إلى دار لا نفع فيها {وَجَاءتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ} أي وجاءتهم الرسل بالمعجزات الواضحات والآيات البينات فكذبوهم {فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ} أي فما كان الله ليهلكهم بغير جُرم {وَلَكِنْ كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} أي ولكن ظلموا أنفسهم بالكفر والتكذيب فاستحقوا الهلاك والدمار {ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسئوا السُّوأى} أي ثم كان عاقبة المجرمين العقوبة التي هي أسوأ العقوبات وهي نار جهنم {أَنْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِئُون} أي لأجل أنهم كذبوا بآياتنا المنزلة على رسلنا واستهزءوا بها.



إنشاء خلق الإنسان عند قيام الساعة



{اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ(11)وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ(12)وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكَائِهِمْ شُفَعَاؤُ وَكَانُوا بِشُرَكَائِهِمْ كَافِرِينَ(13)وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ(14)فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ(15) وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الآخِرَةِ فَأُوْلَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ(16)}



{اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ} أي الله جل وعلا بقدرته ينشئ خلق الناس ثم يعيد خلقهم بعد موتهم {ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} أي ثم إِليه مرجعكم للحساب والجزاء {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ} أي ويوم تقوم القيامة ويُحْشر الناس للحساب يسكت المجرمون وتنقطع حجتهم، فلا يستطيعون أن ينبسوا ببنت شفة، قال ابن عباس: {يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ} ييأس المجرمون، وقال مجاهد: يفتضح المجرمون، قال القرطبي: والمعروف في اللغة: أبلس الرجل إِذا سكت وانقطعت حجته {وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكَائِهِمْ شُفَعَاءُ} أي ولم يكن لهم من الأصنام التي عبدوها شفعاء يشفعون لهم {وَكَانُوا بِشُرَكَائِهِمْ كَافِرِينَ} أي تبرءوا منها وتبرأت منهم {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ} كرر لفظ قيام الساعة للتهويل والتخويف لأن قيام الساعة أمر عظيم أي ويوم تقوم القيامة يؤمئذٍ يتفرق المؤمنون والكافرون، ويصبحون فريقين: فريقٌ في الجنة، وفريقٌ في السعير، ولهذا قال {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} أي فأما المؤمنون المتقون الذين جمعوا بين الإِيمان والعمل الصالح {فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ} أي فهم في رياض الجنة يُسرون وينعمون {وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الآخِرَةِ} أي وأما الذين جحدوا بالقرآن وكذبوا بالبعث بعد الموت {فَأُوْلَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ} أي فأولئك في عذاب جهنم مقيمون على الدوام.



تنزيه الله وحمده



{فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ(17)وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ(18)يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ(19)}.



{فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ} أي سبحوا الله ونزّهوه عما لا يليق به من صفات النقص، حين تدخلون في المساء، وحين يبزغ نور الصباح {وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ} أي وهو جل وعلا المحمود في السماوات والأرض، قال ابن عباس: يحمده أهل السماواتِ وأهلُ الأرض ويُصلون له، قال المفسرون: {وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} جملة اعتراضية وأصل الكلام: {فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ} {وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ} والحكمة في ذلك الإِشارة إلى أن التوفيق للعبادة نعمةٌ ينبغي أن يحمد عليها، والعشي: من صلاة المغرب إلى العتمة، { تُظْهِرُونَ} أي تدخلون وقت الظهر {يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ} أي يخرج المؤمن من الكافر، والكافر من المؤمن، والنبات من الحب، والحبّ من النبات، والحيوان من النطفة، والنطفة من الحيوان {وَيُحْيِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} أي ويحيي الأرض بالنبات بعد يبسها وجدبها {وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ} أي كما يخرج الله النبات من الأرض كذلك يخرجكم من قبوركم للبعث يوم القيامة، قال القرطبي: بيَّن تعالى كمال قدرته، فكما يحيي الأرض بإِخراج النبات بعد همودها كذلك يحييكم بالبعث.



أدلة وجود الله وربوبيته





{وَمِنْ ءاياتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنتَشِرُونَ(20)وَمِنْ ءاياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ(21)وَمِنْ ءاياتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ(22)وَمِنْ ءاياتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ(23) وَمِنْ ءاياتِهِ يُرِيكُمْ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَيُحْيِ بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ(24)وَمِنْ ءاياتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الأَرْضِ إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ(25)وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ(26)وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ(27)}.



{وَمِنْ ءاياتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ} أي ومن ءاياته الباهرة الدالة على عظمته وكمال قدرته أن خلق أصلكم "آدم" من تراب، وإِنما أضاف الخلق إِلى الناس {خَلَقَكُمْ} لأن آدم أصل البشر {ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنتَشِرُونَ} أي ثم أنتم تتطورون من نطفة إِلى علقة إِلى مضغة إِلى بشر عقلاء، تتصرفون فيما هو قوام معايشكم، قال ابن كثير: فسبحان من خلقهم وسيَّرهم وسخّرهم وصرّفهم في فنون المعايش والمكاسب، وفاوت بينهم في العلوم والفكر، والحسن والقبح، والغنى والفقر، والسعادة والشقاوة!! {وَمِنْ ءاياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا} أي من ءاياته الدالة على عظمته وكمال قدرته أن خلق لكم من صنفكم وجنسكم نساءً آدميات مثلكم، ولم يجعلهن من جنسٍ آخر، قال ابن كثير: ولو أنه تعالى جعل الإِناث من جنسٍ آخر، من جان أو حيوان، لما حصل هذا الائتلاف بينهم وبين الأزواج، بل كانت تحصل النفرة، وذلك من تمام رحمته ببني آدم {لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا} أي لتميلوا إِليهن وتألفوهن {وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً} أي وجعل بين الأزواج والزوجات محبة وشفقة، قال ابن عباس: المودة: حب الرجل امرأته، والرحمةُ شفقته عليها أن يصيبها بسوء {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} أي إِنَّ فيما ذكر لعبراً عظيمة لقوم يتفكرون في قدرة الله وعظمته، فيدركون حكمته العلية {وَمِنْ ءاياتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ} أي ومن ءاياته العظيمة الدالة على كمال قدرته خلق السماوات في ارتفاعها واتساعها، وخلق الأرض في كثافتها وانخفاضها، واختلاف اللغات من عربيةٍ وأعجمية، وتركية، ورومية، واختلاف الألوان من أبيض وأسود وأحمر، حتى لا يشتبه شخص بشخص، ولا إِنسان بإِنسان، مع أنهم جميعاً من ذرية آدم {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ} أي لمن كان من ذوي العلم والفهم والبصيرة {وَمِنْ ءاياتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} أي ومن ءاياته الدالة على كمال قدرته نومكم في ظلمة الليل، ووقت الظهيرة بالنهار راحةً لأبدانكم {وَابْتِغَاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ} أي وطلبكم للرزق بالنهار {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ} أي يسمعون سماع تفهم واستبصار {وَمِنْ ءاياتِهِ يُرِيكُمْ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا} أي ومن ءاياته العظيمة الدالة على قدرته ووحدانيته أنه يريكم البرق خوفاً من الصواعق، وطمعاً في الغيث والمطر، قال قتادة: خوفاً للمسافر، وطمعاً للمقيم {وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَيُحْيِ بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} أي وينزل المطر من السماء فينبت به الأرض بعد أن كانت هامدة جامدة لا نبات فيها ولا زرع { إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} أي إِن في ذلك المذكور لعبراً وعظاتٍ لقومٍ يتدبرون بعقولهم آلاء الله {وَمِنْ ءاياتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ بِأَمْرِهِ} أي ومن ءاياته الباهرة الدالة على عظمته أن تستمسك السماواتُ بقدرته بلا عمد، وأن تثبت الأرض بتدبيره وحكمته فلا تنكفئ، بسكانها ولا تنقلب بأهلها {ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنْ الأَرْضِ إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ} أي ثم إِذا دعيتم إِلى الخروج من القبور، إِذا أنتم فوراً تخرجون للجزاء والحساب، لا يتأخر خروجكم طرفة عين، قال المفسرون: وذلك حين ينفخ إِسرافيل في الصور النفخة الثانية ويقول: يا أهل القبور قوموا، فلا تبقى نسمةٌ من الأولين والآخرين، إِلا قامت تنظر {وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ } أي وله جل وعلا كل من في السماوات والأرض من الملائكة والإِنس والجن ملكاً وخلقاً وتصرفاً لا يشاركه فيها أحد {كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ} أي جميعهم خاشعون خاضعون منقادون لأمره تعالى {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ} أي وهو تعالى يُنشئ الخلق من العدم، ثم يعيدهم بعد موتهم للحساب والجزاء {وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} أي إِعادة الخلق أهون عليه من بدئه، قال ابن عباس: يعني أيسر عليه، وقال مجاهد: الإِعادة أهون عليه من البداءة، والبداءة عليه هيّنة، قال المفسرون: خاطب تعالى العباد بما يعقلون، فإِذا كانت الإِعادة أسهل من الابتداء في تقديركم وحكمكم، فإِن من قدر على الإِنشاء كان البعث أهون عليه حسب منطقكم وأصولكم { وَلَهُ الْمَثَلُ الأَعْلَى} أي له الوصف الأعلى الذي ليس لغيره ما يدانيه فيه من الجلال والكمال، والعظمة والسلطان {فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} أي يصفه به من فيهما وهو أنه الذي ليس كمثله شيء {وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} أي القاهر لكل شيء الحكيم الذي كل أفعاله على مقتضى الحكمة والمصلحة.

yacine414
2011-04-01, 17:25
إثبات الوحدانية وبطلان الشريك لله



{ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلاً مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنفُسَكُمْ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ(28)بَلْ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ(29)}.



سبب النزول:

أخرج الطبراني عن ابن عباس قال: كان يلبي أهل الشرك: لبَّيْكَ اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك إلا شريكاً هو لك تملكه وما ملَك، فأنزل الله: {هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ}.



ثم وضّح تعالى بطلان عبادتهم للأوثان بمثل فقال: {ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلا مِنْ أَنْفُسِكُمْ } أي ضرب لكم أيها القوم ربكم مثلاً واقعياً من أنفسكم {هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ} أي هل يرضى أحدكم أن يكون عبده ومملوكه شريكاً له في ماله الذي رزقه الله تعالى؟ فإِذا لم يرض أحدكم لنفسه ذلك فكيف ترضون لله شريكاً له وهو في الأصل مخلوق وعبدٌ لله؟ {فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنفُسَكُمْ } هذا من تتمة المثل أي لستم وعبيدكم سواءٌ في أموالكم، ولستم تخافونهم كما تخافون الأحرار مثلكم، وأنتم لا ترضون أن يكون عبيدكم شركاء لكم في أموالكم، فكيف رضيتم لله شريكاً في خلقه وملكه؟ {كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} أي مثل ذلك البيان الواضح نبيّن الآيات لقومٍ يستعملون عقولهم في تدبر الأمثال {بَلْ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ } بلْ للإِضراب أي ليس لهم حجة ولامعذرة في إِشراكهم بالله بل ذلك بمجرد هوى النفس بغير علم ولا برهان، قال القرطبي: لما قامت عليهم الحجة ذكر أنهم يعبدون الأصنام باتباع أهوائهم في عبادتها، وتقليد الأسلاف في ذلك {فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ} أي لا أحد يستطيع أن يهدي من أراد الله إِضلاله {وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ} أي ليس لهم من عذاب الله منقذٌ ولا ناصرٌ.



الأمر باتباع الدين الحق: الإسلام:



{فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ(30)مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ(31)مِنْ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ(32)}.



{فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ } أي أخلص دينك لله وأقبل على الإِسلام بهمة ونشاط {حَنِيفًا} أي مائلاً عن كل دين باطل إلى الدين الحق وهو الإِسلام {فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} أي هذا الدين الحق الذي أمرناك بالاستقامة عليه هو خلقة الله التي خلق الناس عليها وهو فطرة التوحيد كما في الحديث (كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه) الحديث {لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} أي لا تغيير لتلك الفطرة السليمة من جهته تعالى، قال ابن الجوزي: لفظه لفظ النفي ومعناه النهي أي لا تبدلوا خلق الله فتغيّروا الناس عن فطرتهم التي فطرهم الله عليها {ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ} أي ذلك هو الدين المستقيم {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} أي أكثر الناس جهلة لا يتفكرون فيعلمون أن لهم خالقاً معبوداً {مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ} أي أقيموا وجوهكم أيها الناس على الدين الحق حال كونكم منيبين إِلى ربكم أي راجعين إِليه بالتوبة وإِخلاص العمل، وخافوه وراقبوه في أقوالكم وأفعالكم، وأقيموا الصلاة على الوجه الذي يُرضي الله {وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} أي ولا تكونوا ممن أشرك بالله وعبد غيره ثم فسَّرهم بقوله {مِنْ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا} أي من الذين اختلفوا في دينهم وغيّروه وبدَّلوه فأصبحوا شيعاً وأحزاباً، كلٌ يتعصب لدينه، وكلٌ يعبد هواه {كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} أي كل جماعة وفرقة متمسكون بما أحدثوه، مسرورون بما هم عليه من الدين المعوج، يحسبون باطلهم حقاً، قال ابن كثير: أي لا تكونوا من المشركين الذين فرقوا دينهم أي بدلوه وغيروه، وآمنوا ببعض وكفروا ببعض، كاليهود والنصارى والمجوس وعبدة الأوثان، وسائر أهل الأديان الباطلة -مما عدا أهل الإِسلام- فأهل الأديان قبلنا اختلفوا فيما بينهم على آراء ومذاهب باطلة، وكل فرقة منهم تزعم أنهم على شيء.



لجؤ الناس لله عند الشدة وإعراضهم عند زوالها



{وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ(33)لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ(34)أَمْ أَنزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِمَا كَانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ(35)وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ(36)أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ(37)}.



{وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ} أي وإذا أصاب الناس شدة وفقر ومرض وغير ذلك من أنواع البلاء {دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ} أي أفردوه تعالى بالتضرع والدعاء لينجوا من ذلك الضر، وتركوا أصنامهم لعلمهم أنه لا يكشف الضر إلا الله تعالى، فلهم في ذلك الوقت إِنابة وخضوع {ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ} أي ثم إِذا أعطاهم السعة والرخاء والصحة وخلّصهم من ذلك الضر والشدة، إذا جماعة منهم يشركون بالله ويعبدون معه غيره، والغرض من الآية التشنيعُ على المشركين، فإِنهم يدعون الله في الشدائد، ويشركون به في الرخاء {لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} أمرٌ على وجه التهديد أي ليكفروا بنعم الله، وليتمتعوا في هذه الدنيا فسوف تعلمون أيها المشركون عاقبة تمتعكم بزينة الحياة ونعيمها الفاني {أَمْ أنزلنا عليهِم سلطاناً فهُوَ يتكلَّم بما كانوا به يُشْرِكُون} الاستفهام للإِنكاروالتوبيخ والمعنى: هل أنزلنا على هؤلاء المشركين حجة واضحة قاهرة علىشركهم، أو كتاباً من السماء فهو ينطق ويشهد بشركهم وبصحة ما هم عليه؟ ليس الأمر كما يتصورون، والمراد ليس لهم حجة بذلك {وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِهَا} أي وإِذا أنعمنا على الناس بالخصب والسعة والعافية استبشروا وسروا بها {وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ} أي وإِن أصابهم بلاءٌ وعقوبة بسبب معاصيهم إِذا هم ييأسون من الرحمة والفرج، قال ابن كثير: وهذا إِنكار على الإِنسان من حيث هو إِلا من عصمه الله، إِذا أصابته نعمة بطر، وإِذا أصابته شدة قنط وأيس {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ} أي أولم يروا قدرة الله في البسط والقبض، وأنه تعالى يوسّع الخير في الدنيا لمن يشاء ويضيّق على من يشاء؟ فلا يجب أن يدعوهم الفقر إِلى القنوط من رحمته تعالى {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} أي إِن في المذكور لدلالة واضحة على قدرة الله لقومٍ يصدقون بحكمة الخالق الرازق.



الحث على الإنفاق لذوي الأرحام والتحذير من المال الحرام



{فَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذَلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ(38)وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَا فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللَّهِ وَمَا ءاتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُضْعِفُونَ(39)اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ(40)}.



{فَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ} أي فأعط القريب حقَّه من البر والصلة وكذلك المسكين والمسافر الذي انقطع في سفره اعطه من الصَّدقة والإِحسان، قال القرطبي: لما تقدم أنه سبحانه يبسط الرزق ويقدر، أمر من وسَّع عليه الرزق أن يعطي الفقير كفايته، ليمتحن شكر الغني، والخطاب للنبي عليه السلام والمراد هو وأُمته {ذَلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ} أي ذلك الإِيتاء والإِحسان خيرٌ للذين يبتغون بعملهم وجه الله ويريدون ثوابه {وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ} أي وأولئك هم الفائزون بالدرجات العالية {وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَا فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللَّهِ} أي وما أعطيتم من أموالكم يا معشر الأغنياء على وجه الربا ليزيد مالكم ويكثر به، فلا يزيد ولا يزكو ولا يضاعف عند الله لأنه كسبٌ خبيثٌ لا يبارك الله فيه، قال الزمخشري: هذه الآية كقوله تعالى {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ} سواءً بسواء {وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ} أي وما أعطيتم من صدقةٍ أو إِحسان خالصاً لوجه الله الكريم {فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُضْعِفُونَ} أي فأولئك هم الذين لهم الضعف من الأجر والثواب، الذين تضاعف لهم الحسنات {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ} أي الله جل وعلا هو الخالق الرازق للعباد، يُخرج الإِنسان من بطن أمه عُرياناً لا علم له ولا سمع ولا بصر، ثم يرزقه بعد ذلك المال والمتاع والأملاك {ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ } أي ثم يميتكم بعد هذه الحياة، ثم يحييكم يوم القيامة، ليجازيكم على أعمالكم {هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ}؟ أي هل يستطيع أحد ممن تعبدونهم من دون لله أن يفعل شيئاً من ذلك؟ بل الله تعالى هو المستقل بالخلق والرزق والإِحياء والإِماتة {سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} أي تنزَّه جل وعلا وتقدس عن أن يكون له شريك أو مثيل، أو ولد أو والد، وتعالى عما يقول المشركون علواً كبيراً.



جزاء المفسدين والمؤمنين





{ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ(41)قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ(42)فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ(43)مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلأَنفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ(44)لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ(45)}.



{ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ} أي ظهرت البلايا والنكبات في بر الأرض وبحرها بسبب معاصي الناس وذنوبهم، قال البيضاوي: المراد بالفساد الجدب وكثرة الحرق والغرق، ومحق البركات، وكثرةُ المضار بشؤم معاصي الناس أو بكسبهم إِياه، وقال ابن كثير: أي بانَ النقص في الزروع والثمار بسبب المعاصي لأن صلاح الأرض والسماء بالطاعة {لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا} أي ليذيقهم وبال بعض أعمالهم في الدنيا قبل أن يعاقبهم بها جميعاً في الآخرة {لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} أي لعلهم يتوبون ويرجعون عمّا هم عليه من المعاصي والآثام {قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ} أي قل يا محمد لهؤلاء المشركين: سيروا في البلاد فانظروا إلى مساكن الذين ظلموا كيف كان آخر أمرهم وعاقبة تكذيبهم للرسل، ألم يخرب الله ديارهم ويجعلهم عبرةً لمن يعتبر {كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ} أي كانوا كافرين بالله فأُهلكوا {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ} أي فتوجَّه بكليتك إلى الدين المستقيم دين الإِسلام، واستقم عليه في حياتك، قال القرطبي: أي أقم قصدك واجعلْ جهتك اتباع الدين القيم يعني الإِسلام {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ} أي من قبل أن يأتي ذلك اليوم الرهيب، الذي لا يقدر أحدٌ على ردِّه، لأن الله قضى به وهو يوم القيامة {يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ} أي يومئذٍ يتفرقون، فريقٌ في الجنة وفريقٌ في السعير {مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ} أي من كفر بالله فعليه أوزار كفره مع خلوده في النار المؤبدة {وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلأَنفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ} أي ومن فعل خيراً وأطاع الله فلأنفسهم يقدّمون الخير ويلقون ما تقربه أعينهم في دار النعيم، قال القرطبي: أي يوطئون لأنفسهم في الآخرة فراشاً ومسكناً وقراراً بالعمل الصالح، ومهَّدت الفراش أي بسطته ووطأته {لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْ فَضْلِهِ} أي يمهدون لأنفسهم ليجزيهم الله من فضله الذي وعد به عباده المتقين {إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ} أي لا يحب الكافرين بل يمقتهم ويبغضهم، يجازي المؤمنين بفضله، والكافرين بعدله.



الرياح والأمطار دليل على قدرة الله تعالى



{وَمِنْ ءاياتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ(46)وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلاً إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَانتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ(47)اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ(48)وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ(49)فَانظُرْ إِلَى ءاثَارِ رَحْمتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ(50) وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحًا فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ(51)}.





{وَمِنْ ءاياتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ} أي ومن ءاياته الدالة على كمال قدرته أن يرسل الرياح تسوق السحاب مبشرة بنزول المطر والإِنبات والرزق { وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ} أي ولينزل عليكم من رحمته الغيث الذي يحيي به البلاد والعباد {وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ} أي ولتسير السفن في البحر عند هبوب الرياح بإِذنه وإرادته {وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ} أي ولتطلبوا الرزق بالتجارة في البحر {وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} أي ولتشكروا نعم الله الجليلة عليكم {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلاً إِلَى قَوْمِهِمْ} تسلية للرسول وتأنيساً له بقرب النصر أي ولقد أرسلنا من قبلك يا محمد رسلاً كثيرين إلى قومهم المكذبين كما أرسلناك رسولاً إلى قومك {فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ} أي جاءوهم بالمعجزات الواضحات والحجج الساطعات الدالة على صدقهم {فَانتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا} أي فكذبوهم فانتقمنا من الكفرة المجرمين {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} أي كان حقاً واجباً علينا أن ننصر المؤمنين على الكافرين، والآية اعتراضية جاءت بين الآيات المفصّلة لأحكام الرياح تسليةً للنبي عليه السلام، قال أبو حيان: والآية اعتراضٌ بين قوله {وَمِنْ ءاياتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ} وبين قوله {اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا} جاءت تأنيساً للرسول صلى الله عليه وسلم وتسلية له، ووعداً له بالنصر، ووعيداً لأهل الكفر ثم ذكر تعالى الحكمة من هبوب الرياح وهي إِثارة السحب وإِخراج الماء منه فقال {اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا} أي يبعث الرياح فتحرك السحاب وتسوقه أمامها {فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ} أي فينشره في أعالي الجو كيف يشاء خفيفاً أو كثيفاً، مطبقاً أو غير مطبق {وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا} أي ويجعله أحياناً قطعاً متفرقة {فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ} أي فترى المطر يخرج من بين السحاب {فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} أي فإِذا أنزل ذلك الغيث على من يشاء من خلقه إِذا هم يسرون ويفرحون بالمطر {وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ} أي وإِن كانوا قبل نزول المطر عليهم يائسين قانطين، قال البيضاوي: والتكرير للتأكيد والدلالة على تطاول عهدهم بالمطر واستحكام يأسهم {فَانظُرْ إِلَى ءاثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} أي فانظر أيها العاقل نظر تدبر واستبصار إلى ما ينشأ عن آثار نعمة الله بالمطر من خضرة الأشجار، وتفتح الأزهار، وكثرة الثمار، وكيف أن الله يجعل الأرض تنبت بعد أن كانت هامدة جامدة؟ {إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتَى} أي إِنَّ ذلك القادر على إِحياء الأرض بعد موتها هو الذي يحيي الناس بعد موتهم {وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} أي مبالغ في القدرة على جميع الأشياء، لا يعجزه شيء {وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحًا فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا} أي ولئن أرسلنا على الزرع بعد خضرته ونموه ريحاً ضارة مفسدة فرأوا الزرع مصفراً من أثر تلك الريح {لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ} أي لمكثوا بعد اصفراره يجحدون النعمة، فشأنهم أنهم يفرحون عند الخصب، فإِذا جاءتهم مصيبة في زرعهم جحدوا سابق نعمة الله عليهم.



تسلية الله نبيه صلى الله عليه وسلم وتشبيه الكفار بالموتى والأصماء والعميان





{فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ(52)وَمَا أَنْتَ بِهَادِ الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلا مَنْ يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ(53)}.



ثم نبه تعالى إِلى أن هؤلاء الكفار كالأموات لا ينفع معهم نصح ولا تذكير فقال {فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ} أي فإِنك يا محمد لا تسمع الأموات ولا تسمع من كان في أذنيه صممٌ تلك المواعظ المؤثرة، ولو أن أصمَّ ولّى عنك مدبراً ثم ناديته لم يسمع فكذلك الكافر لا يسمع، ولا ينتفع بما يسمع، قال المفسرون: هذا مثلٌ ضربه الله للكفار فشبههم بالموتى وبالصم والعمي {وَمَا أَنْتَ بِهَادِ الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ} أي ولست بمرشد من أعماه الله عن الهدى {إِنْ تُسْمِعُ إِلا مَنْ يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ} أي ما تسمع إِلا من يصدق بآياتنا فهم الذين ينتفعون بالموعظة لخضوعهم وانقيادهم لطاعة الله.





أطوار حياة الإنسان



{اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ(54)}.



{اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ} أي الله الذي خلقكم أيها الناس من أصل ضعيف وهو النطفة، وجعلكم تتقلبون في أطوار "الجنين، الوليد، الرضيع، المفطوم" وهي أحوال في غاية الضعف، فصار كأن الضعف مادة خلقتكم {ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً} أي ثم جعل من بعد ضعف الطفولة قوة الشباب {ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً} أي ثم جعل من بعد قوة الشباب ضعف الهرم والشيخوخة، {يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ} أي يخلق ما يشاء من ضعف وقوة، وشبابٍ وشيب {وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ} أي وهو العليم بتدبير الخلق، القدير على ما يشاء، قال أبو حيان: وجعل الخلق من ضعف لكثرة ضعف الإنسان أول نشأته وطفولته، ثم حال الشيخوخة والهرم، والترداد في هذه الهيئات شاهد بقدرة الصانع وعلمه.



مقارنة المجرمين مُكثهم في الدنيا بيوم البعث



{وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ كَذَلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ(55)وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلَكِنَّكُمْ كُنتُمْ لا تَعْلَمُونَ(56)فَيَوْمَئِذٍ لا يَنفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ(57)}.



{وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ} أي ويوم تقوم القيامة ويُبعث الناس للحساب يحلف الكافرون المجرمون بأنهم ما مكثوا في الدنيا غير ساعة، قال البيضاوي: وإِنما استقلوا مدة لبثهم في الدنيا بالنسبة إلى مدة عذابهم في الآخرة أو نسياناً منهم {كَذَلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ} أي كذلك كانوا في الدنيا يصرفون من الحق إلى الباطل، ومن الصدق إلى الكذب {وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ} أي وقال العقلاء من أهل الإِيمان والعلم رداً عليهم وتكذيباً لهم: لقد مكثتم فيما كتبه الله في سابق علمه إِلى يوم البعث الموعود {فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلَكِنَّكُمْ كُنتُمْ لا تَعْلَمُونَ} أي فهذا يوم البعث الذي كنتم تنكرونه، ولكنكم لم تصدقوا به لتفريطكم في طلب الحق واتباعه، قال تعالى {فَيَوْمَئِذٍ لا يَنفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ} أي ففي ذلك اليوم لا ينفع الظالمين اعتذارهم {وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ} أي لا يقال لهم أرضوا ربكم بتوبة أو طاعة، لأنه قد ذهب أوان التوبة.



ضرب الأمثال للعبرة والموعظة، وأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالصبر على الأذى والدعوة



{وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلا مُبْطِلُونَ(58)كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ(59)فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ(60)}.





{وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ} أي ولقد بينا في هذا القرآن العظيم ما يحتاج الناس إِليه من المواعظ والأمثال والأخبار والعبر مما يوضّح الحقَّ ويزيل اللبس {وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلا مُبْطِلُونَ} أي ووالله لئن جئتهم يا محمد بما اقترحوا من الآيات كالعصا والناقة واليد ليقولنَّ المشركون من قومك لفرط عنادهم ما أنت وأصحابك إِلا قوم مبطلون، تُدجلون علينا وتكذبون {كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} أي مثل ذلك الطبع على قلوب الجهلة المجرمين، يختم الله على قلوب الكفرة الذين لا يعلمون توحيد الله ولا صفاته {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ} أي فاصبر يا محمد على تكذيبهم وأذاهم فإِن وعد الله بنصرتك وإِظهار دينك حقٌ لابدَّ من إِنجازه {وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ} أي لا يحملنك على الخفة والقلق جزعاً مما يقوله أولئك الضالون الشاكون، ولا تترك الصبر بسبب تكذيبهم وإِيذائهم.

yacine414
2011-04-01, 17:27
سورة لقمان



مميزات القرآن الكريم، ووصف المؤمنين به:

حال الكفار المعرضين عن القرآن وبمقابلتهم المؤمنين:

خلق السماوات والأرض دليل على وحدانية الله:

وصية لقمان الحكيم لابنه:

توبيخ المشركين على شركهم بالرغم من مشاهدتهم دلائل التوحيد:

المُقبلون على الله هم الناجون والمعرضون عنه هم المعذبين:

إثبات وجود الله وسعة علمه وشمول قدرته على البعث وكل شيء:

الأمر بتقوى الله، وبيان مفاتيح الغيب:



بَين يَدَي السُّورَة



* هذه السورة الكريمة "سورة لقمان" من السور المكية، التي تعالج موضوع العقيدة، وتعنى بالتركيز على الأصول الثلاثة لعقيدة الإِيمان وهي "الوحدانية، والنبوة، والبعث والنشور" كما هو الحال في السور المكية.



* ابتدأت السورة الكريمة بذكر الكتاب الحكيم، معجزة محمد الخالدة، الباقية الدائمة على مدى الزمان، وأقامت الحجج والبراهين على وحدانية ربّ العالمين، وذكرت دلائل القدرة الباهرة، والإِبداع العجيب، في هذا الكون الفسيح، المحكم النظام المتناسق في التكوين، في سمائه وأرضه، وشمسه وقمره، ونهاره وليله، وفي جباله وبحاره، وأمواجه وأمطاره، ونباته وأشجاره، وفي سائر ما يشاهده المرء من دلائل القدرة والوحدانية، مما يأخذ بالقلب، ويبهر العقل، ويواجه الإِنسان مواجهةً جاهرة لا يملك معها إِلا التسليم بقدرة الخالق العظيم.



* كما لفتت أنظار المشركين إِلى دلائل القدرة والوحدانية منبثة في هذا الكون البديع، وهزت كيانهم هزاً {هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلْ الظَّالِمُونَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ}.



* وختمت السورة الكريمة بالتحذير من ذلك اليوم الرهيب الذي لا ينفع فيه مال ولا بنون {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا..} الآية.



التسميَة:

سميت سورة لقمان لاشتمالها على قصة "لقمان الحكيم" التي تضمنت فضيلة الحكمة وسرّ معرفة الله تعالى وصفاته، وذم الشرك، والأمر بمكارم الأخلاق، والنهي عن القبائح والمنكرات وما تضمنته كذلك من الوصايا الثمينة التي أنطقه الله بها، وكانت من الحكمة والرشاد بمكان!.



مميزات القرآن الكريم، ووصف المؤمنين به



{الم(1)تِلْكَ ءاياتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ(2)هُدًى وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ(3)الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ(4)أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ(5)}.



{الم} الحروف المقطعة للتنبيه على إِعجاز القرآن، وللإِشارة إِلى أن هذا الكتاب المعجز الذي أفحم العلماء والأدباء والفصحاء والبلغاء منظوم من أمثال هذه الحروف الهجائية "ألف، لام، ميم" وهي في متناول أيدي الناطقين بالعربية، وهم عاجزون أن يؤلفوا منها كتاباً مثل هذا الكتاب بعد التحدي والإِفحام، وهذا من أظهر الدلائل وأوضح البراهين على أنه تنزيل الحكيم العليم {تِلْكَ ءاياتُ الْكِتَابِ} أي هذه ءايات الكتاب البديع، الذي فاق كل كتاب في بيانه، وتشريعه، وأحكامه {الْحَكِيمِ} أي ذي الحكمة الفائقة، والعجائب الرائقة، الناطق بالحكمة والبيان، والإِشارة بالبعيد عن القريب "تلك" للإِيذان ببعد منزلته في الفضل والشرف {هُدًى وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ} أي هداية ورحمة للمحسنين الذين أحسنوا العمل في الدنيا، وإِنما خُصوا بالذكر لأنهم هم المنتفعون بما فيه، ثم وضح تعالى صفاتهم فقال {الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ} أي يؤدونها على الوجة الأكمل بأركانها وخشوعها وآدابها {وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} أي يدفعونها إلى مستحقيها طيبةً بها نفوسهم ابتغاء مرضاة الله {وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} أي يصدّقون بالدار الآخرة ويعتقدون بها اعتقاداً جازماً لا يخالطه شك ولا ارتياب، وكرَّر الضمير "هم" للتأكيد وإِفادة الحصر {أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ} أي أولئك الموصوفون بتلك الصفات الجليلة على نور وبصيرة، ومنهج واضح سديد، من الله العزيز الحميد {وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ} أي هم الفائزون السعداء في الدنيا والآخرة، قال أبو حيان: وكرر الإِشارة {وَأُوْلَئِكَ} تنبيهاً على عظم قدرهم وفضلهم.





حال الكفار المعرضين عن القرآن وبمقابلتهم المؤمنين



{وَمنْ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ(6)وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ ءاياتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ(7)إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ(8)خَالِدِينَ فِيهَا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ(9)}.



سبب النزول:

نزول الآية (6):

أخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله: {وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ} قال: نزلت في رجل من قريش اشترى جارية مغنية. وأخرج جويبر عن ابن عباس قال: نزلت في النضر بن الحارث اشترى قَيْنة (مغنية) وكان لا يسمع بأحد يريد الإسلام، إلا انطلق به إلى قينته، فيقول: أطعميه واسقيه وغنيه، هذا خير مما يدعوك إليه مُحمَّد من الصلاة والصيام، وأن تقاتل بين يديه، فنزلت.



وقال مقاتل: نزلت في النضر بن الحارث، كان يخرج تاجراً إلى فارس، فيشتري كتب الأعاجم، فيرويها ويحدِّث بها قريشاً، ويقول لهم : إن محمداً صلى الله عليه وسلم يحدثكم حديث عاد وثمود، وأنا أحدثكم حديث رُسْتُم واسِفنْديار، وأخبار الأكاسرة، فيستملحون حديثه، ويتركون سماع القرآن.



ولما ذكر تعالى حال السعداء، الذين اهتدوا بكتاب الله وانتفعوا بسماعه، عطف عليهم بذكر حال الأشقياء، الذي أعرضوا عن الانتفاع بسماع كلام الله، وأقبلوا على استماع الغناء والمزامير فقال {وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ} أي ومن الناس من يشتري ما يُلهي عن طاعة الله، ويَصُد عن سبيله، مما لا خير ولا فائدة فيه، قال الزمخشري: واللهو كل باطلٍ ألهى عن الخير، نحو السمر بالأساطير، والتحدث بالخرافات المضحكة، وفضول الكلام وما لا ينبغي، وروى ابن جرير عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه سئل عن الآية فقال: والله الذي لا إِله إِلا هو -يكررها ثلاثاً- إِنما هو الغناء، وقال الحسن البصري: نزلت هذه الآية في الغناء والمزامير {لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ} أي ليُضل الناس عن طريق الهدى، ويُبعدهم عن دينه القويم، بغير حجة ولا برهان {وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا} أي ويتخذ ءايات الكتاب المجيد سخرية واستهزاءً، وهذا أدْخَلُ في القبح، وأعْرَقُ في الضلال {أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ} أي لهم عذاب شديد مع الذلة والهوان {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ ءاياتُنَا} أي وإِذا قرئت عليه ءايات القرآن {وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا} أي أعرض وأدبر متكبراً عنها كأنه لم يسمعها، شأن المتكبر الذي لا يلتفت إلى الكلام، ويجعل نفسه كأنها غافلة {كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا} أي كأن في أذنيه ثقلاً وصمماً يمنعانه عن استماع ءايات الله {فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} أي أنذره يا محمد بعذاب مؤلمٍ، مفرطٍ في الشدة والإِيلام، ووضْع البشارة مكان الإِنذار تهكم وسخرية، قال أبو حيّان: تضمنت هذه الآية ذمَّ المشتري من وجوه: التولية عن الحكمة، ثم الاستكبار عن الحق، ثم عدم الالتفات إلى سماع الآيات، ثم الإِيغال في الإِعراض مشبهاً حال من لم يسمعها، لكونه لا يلقي لها بالاً ولا يلتفت إِليها، ثم التهكم به بالبشارة بأشد العذاب .. ولما ذكر ما وعد به الكفار من العذاب الأليم، ذكر ما وعد به المؤمنين من جنات النعيم فقال {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} أي جمعوا بين الإِيمان والعمل الصالح، وبين حسن النيّة وإِخلاص العمل {لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ} أي لهم على إِيمانهم واستقامتهم على شريعة الله جناتُ الخلد يتنعمون فيها بأنواع الملاذّ، من المآكل والمشارب والملابس، والنساء والحور العين، وسائر ما أكرمهم الله به من الفضل والإِنعام، مما لا عينٌ رأتْ ولا أُذُنٌ سمعت، ولا خطر على قلب بشر {خَالِدِينَ فِيهَا} أي دائمين في تلك الجنات، لا يخرجون منها أبداً، ولا يبغون عنها حولاً {وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا} أي وعداً من الله قاطعاً، كائناً لا محالة، لا خلف فيه لأن الله لا يخلف الميعاد {وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} أي هو تعالى العزيز الذي لا يغلبه شيء ليمنعه عن إِنجاز وعده، الحكيم الذي لا يفعل إِلا ما تقتضيه الحكمة والمصلحة.



خلق السماوات والأرض دليل على وحدانية الله



{خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَى فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ(10)هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلْ الظَّالِمُونَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ(11)}.



ثم نبّه تعالى إِلى دلائل قدرته، وآثار عظمته وجلاله لإِقامة البراهين على وحدانيته فقال {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا} أي خلق السماوات في سعتها وعظمتها وإِحكامها بدون دعائم ترتكز عليها، حال كونكم تشاهدونها كذلك واقفة من غير أن تستند على شيء، ولا تمسكها إِلا قدرة الله العليّ الكبير {وَأَلْقَى فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ} أي جعل فيها جبالاً ثوابت لئلا تتحرك وتضطرب بكم فتهلككم بأن تقلبكم عن ظهرها، أو تهدم بيوتكم بتزلزلها، قال الإِمام الفخر الرازي: واعلم أن الأرض ثباتُها بسبب ثقلها، وإِلا كانت تزول عن موضعها بسبب المياه والرياح، ولو خلقها تعالى مثل الرمل لما كانت تثبتُ للزراعة، كما نرى الأراضي الرملية ينتقل الرمل الذي فيها من موضع إلى موضع، فهذه هي حكمة إِرسائها بالجبال، فسبحان الكبير المتعال {وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ} أي ونشر وفرَّق في أرجاء الأرض من كل أنواع الحيوانات والدواب من مأكول ومركوب، مما لا يعلم عدد أشكالها وألوانها إِلا الذي خلقها {وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً} أي وأنزلنا لحفظكم وحفظ دوابكم المطر من السحاب {فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ} أي فأنبتنا في الأرض من كل نوعٍ من النبات، ومن كل صنفٍ من الأغذية والأدوية {كَرِيمٍ} أي كثير المنافع، بديع الخلق والتكوين {هَذَا خَلْقُ اللَّهِ} أي هذا الذي تشاهدونه وتعاينونه أيها المشركون هو من مخلوقات الله، فانظروا في السماوات والأرض، والإِنسان، والنبات، والحيوان، وسائر ما خلق الله ثم تفكروا في آثار قدرته، وبديع صنعته، ثم أخبروني {فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ}؟ أي أيَّ شيءٍ خلقته آلهتكم التي عبدتموها من دون الله من الأوثان والأصنام؟ وهو سؤال على جهة التهكم والسخرية بهم وبآلهتهم المزعومة، ثم أضرب عن تبكيتهم إلى التسجيل عليهم بالضلال الواضح فقال {بَلْ الظَّالِمُونَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} أي بل المشركون في خسران ظاهر، وضلالٍ واضح ما بعده ضلال، لأنهم وضعوا العبادة في غير موضعها، وعبدوا ما لا يسمع ولا يبصر ولا ينفع ولا يضر، فهم أضل من الحيوان الأعجم، لأن من عبد صنماً جامداً، وترك خالقاً عظيماً مدبراً، يكون أحطَّ شأناً من الحيوان.



وصية لقمان الحكيم لابنه



{وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنْ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ(12)وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ(13)وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ(14) وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ(15)يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُنْ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ(16)يَا بُنَيَّ أَقِمْ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ(17) وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ(18)وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنكَرَ الأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ(19)}.



{وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ} أي والله لقد أعطينا لقمان الحكمة وهي الإصابة في القول، والسَّداد في الرأي، والنطق بما يوافق الحق، قال مجاهد: الحكمة: الفقه والعقل، والإِصابة في القول، ولم يكن نبياً إِنما كان حكيماً {أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ} أي وقلنا له: اشكر الله على إِنعامه وإِفضاله عليك حيث خصَّك بالحكمة وجعلها على لسانك، قال القرطبي: والصحيح الذي عليه الجمهور أن "لقمان" كان حكيماً ولم يكن نبياً وفي الحديث (لم يكن لقمان نبياً، ولكن كان عبداً كثير التفكر، حسن اليقين، أحبَّ الله تعالى فأحبَّه، فمنَّ عليه بالحكمة) {وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ} أي ومن يشكر ربه فثواب شكره راجع لنفسه، وفائدته إنما تعود عليه، لأن الله تعالى لا ينفعه شكر من شكر، ولا يضره كفر من كفر ولهذا قال بعده {وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ} أي ومن جحد نعمة الله فإِنما أساء إلى نفسه، لأن الله مستغنٍ عن العباد، محمودٌ على كل حال، مستحقٌ للحمد لذاته وصفاته، قال الرازي: المعنى أن الله غير محتاج إِلى شكر حتى يتضرَّر بكفر الكافر، فهو في نفسه محمود سواء شكره الناس أم لم يشكروه، ثم ذكر تعالى بعض نصائح لقمان لابنه وبدأ بالتحذير له من الشرك، الذي هو نهاية القبح والشناعة فقال {وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَابُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ} أي واذكر لقومك موعظة لقمان الحكيم لولده، حين قال له واعظاً ناصحاً مرشداً: يا بني كن عاقلاً ولا تشرك بالله أحداً، بشراً أو صنماً أو ولداً {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} أي إِن الشرك قبيح، وظلم صارخ لأنه وضعٌ للشيء في غير موضعه، فمن سوَّى بين الخالق والمخلوق، وبين الإِله والصنم فهو -بلا شك- أحمق الناس، وأبعدهم عن منطق العقل والحكمة، وحري به أن يوصف بالظلم ويجعل في عداد البهائم {وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ} أي أمرناه بالإِحسان إِليهما لا سيما الوالدة {حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ} أي حملته جنيناً في بطنها وهي تزداد كل يوم ضعفاً على ضعف، من حين الحمل إِلى حين الولادة، لأن الحمل كلما ازداد وعظم، إِزدادت به ثقلاً وضعفاً {وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ} أي وفطامه في تمام عامين {أَنْ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ} أي وقلنا له: اشكر ربك على نعمة الإِيمان والإِحسان، واشكر والديك على نعمة التربية { إِلَيَّ الْمَصِيرُ} أي إِليَّ المرجع والمآب فأجازي المحسن على إِحسانه، والمسيء على إِساءته، قال ابن جزي: وقوله {أَنْ اشْكُرْ} تفسيرٌ للوصية، واعترض بينها وبين تفسيرها بقوله {حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ} ليبيّن ما تكابده الأم بالولد مما يوجب عظيم حقها، ولذلك كان حقها أعظم من حق الأب { وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} أي وإِن بذلا جهدهما، وأقصى ما في وسعهما، ليحملاك على الكفر والإِشراك بالله فلا تطعهما، إذ لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق {فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} أي وصاحبهما في الحياة الدنيا بالمعروف والإِحسان إِليهما -ولو كانا مشركين- لأن كفرهما بالله لا يستدعي ضياع المتاعب التي تحمَّلاها في تربية الولد، ولا التنكر بالجميل {وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ} أي واسلك طريق من رجع إلى الله بالتوحيد والطاعة والعمل الصالح {ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} أي مرجع الخلق إِلى الله فيجازيهم على أعمالهم، والحكمةُ من ذكر الوصية بالوالدين -ضمن وصايا لقمان- تأكيد ما أفادته الآية الأولى من تقبيح أمر الشرك {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} فكأنه تعالى يقول: مع أننا وصينا الإِنسان بوالديه، وأمرناه بالإِحسان إِليهما والعطف عليهما، وألزمناه طاعتهما بسبب حقهما العظيم عليه، مع كل هذا فقد نهيناه عن طاعتهما في حالة الشرك والعصيان، لأن الإِشراك بالله من أعظم الذنوب، وهو في نهاية القبح والشناعة .. ثم رجع الكلام إِلى وصايا لقمان فقال تعالى {يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُنْ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ} أي يا ولدي إِن الخطيئة والمعصية مهما كانت صغيرة حتى ولو كانت وزن حبة الخردل في الصغر {فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ} أي فتكن تلك السيئة -مع كونها في أقصى غايات الصغر- في أخفى مكان وأحرزه، كجوف الصخرة الصماء، أو في أعلى مكان في السماء أو في الأرض يحضرها الله سبحانه ويحاسب عليها، والغرض التمثيلُ بأن الله لا تخفى عليه خافية من أعمال العباد { إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ} أي هو سبحانه لطيف بالعباد خبير أي عالم ببواطن الأمور {يَا بُنَيَّ أَقِمْ الصَّلاةَ} أي حافظ على الصلاة في أوقاتها وبخشوعها وآدابها {وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ} أي وأمر الناس بكل خير وفضيلة، وانههم عن كل شر ورذيلة {وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ} أي اصبر على المحن والبلايا، لأنَّ الداعي إِلى الحق معرَّض لإِيصال الأذى إِليه، قال أبو حيان: لما نهاه أولاً عن الشرك، وأخبره ثانياً بعلمه تعالى وباهر قدرته، أمره بما يتوسل به إِلى الله من الطاعات، فبدأ بأشرفها وهي الصلاة، ثم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ثم بالصبر على ما يصيبه من المحن بسبب الأمر بالمعروف، فكثيراً ما يُؤذى فاعل ذلك {إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ} أي إِن ذلك المذكور مما عزمه الله وأمر به، قال ابن عباس: من حقيقة الإِيمان الصبر على المكاره، وقال الرازي: معناه إِن ذلك من الأمور الواجبة المعزومة أي المقطوعة، فالمصدر بمعنى المفعول {وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ} أي لا تمل وجهك عنهم تكبراً عليهم، قال القرطبي: أي لا تمل خدك للناس كبراً عليهم وإِعجاباً، وتحقيراً لهم، وهو قول ابن عباس {وَلا تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا} أي لا تمش متبختراً متكبراً {إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} تعليلٌ للنهي أي لأن الله يكره المتكبر الذي يرى العظمة لنفسه، ويتكبر على عباد الله، المتبختر في مشيته، والفخور الذي يفتخر على غيره، ثم لما نهاه عن الخُلُق الذميم، أمره بالخُلُق الكريم فقال {وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ} أي توسَّط في مشيتك واعتدل فيها بين الإِسراع والبطء {وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ} أي اخفض من صوتك فلا ترفعه عالياً فإِنه قبيح لا يجمل بالعاقل {إِنَّ أَنكَرَ الأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ} أي إِن أوحش الأصوات صوتُ الحمير فمن رفع صوته كان مماثلاً لهم،وأتى بالمنكر القبيح، قال الحسن: كان المشركون يتفاخرون برفع الأصوات فرد عليهم بأنه لو كان خيراً لفضلتهم به الحمير، وقال قتادة: أقبح الأصوات صوت الحمير، أوله زفير وآخره شهيق.



توبيخ المشركين على شركهم بالرغم من مشاهدتهم دلائل التوحيد



{أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدًى وَلا كِتَابٍ مُنِيرٍ(20)وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ ءاباءَنَا أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ(21)}.



{أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ} أي ألم تعلموا أيها الناس أن الله العظيم الجليل سخر لكم ما في السماوات من شمس وقمر ونجوم لتنتفعوا بها، وسخَّر لكم ما في الأرض من جبالٍ وأشجار وثمارٍ وأنهار وغير ذلك مما لا تُحصى {وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً} أي وأتمَّ عليكم أيها الناس نعمه العديدة، الظاهرة المرئية كنعمة السمع والبصر والصحة والإِسلام، والباطنة الخفية كالقلب والعقل والفهم والمعرفة وما أشبه ذلك، قال البيضاوي: أي أسبغ عليكم نعمه المحسوسة والمعقولة، ما تعرفونه وما لا تعرفونه {وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدًى وَلا كِتَابٍ مُنِيرٍ} أي ومن الناس فريق جاحدون يخاصمون ويجادلون في توحيد الله وصفاته بغير علم ولا فهم، ولا حجة ولا برهان، ولا كتاب منزل من عند الله، قال القرطبي: نزلت في يهودي جاء إِلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا محمد: أخبرني عن ربك من أيّ شيء هو؟ فجاءت صاعقةٌ فأخذته، والمنيرُ: الواضح البيّن المنقذ من ظلمة الجهل والضلال {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ} أي وإِذا قيل لهؤلاء المجادلين بالباطل اتبعوا ما أنزل الله على رسوله، وصدّقوا به فإِنه يفرق بين الحق والباطل، والهدى والضلال {قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ ءابائَنَا} أي قالوا نسير على طريقة ءابائنا ونقتدي بهم في عبادة الأوثان والأصنام {أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ} الاستفهام للإِنكار والتوبيخ أي أيتبعونهم ولو كانوا ضالين، حتى ولو كان الشيطان يدعوهم إلى النار المستعرة ذات العذاب الشديد؟



المُقبلون على الله هم الناجون والمعرضون عنه هم المعذبين



{وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ(22)وَمَنْ كَفَرَ فلا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ(23)نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ(24)}.



{وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ} أي ومن يقبل على طاعة الله وينقاد لأوامره، ويخلص قصده وعبادته لله {وَهُوَ مُحْسِنٌ} أي وهو مؤمن موحد، قال القرطبي: لأن العبادة من غير احسانٍ ولا معرفة القلب لا تنفع، ونظير الآية {وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ} فلا بدَّ من الإِيمان والإِحسان {فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} أي تمسك بحبلٍ لا انقطاع له، وتعلق بأوثق ما يتعلق به من الأسباب، قال الزمخشري: هذا من باب التمثيل، مثلت حال المتوكل بحال من تدلى من شاهق فاحتاط لنفسه بأن استمسك بأوثق عروة، من حبلٍ متين مأمونٍ انقطاعه، وقال الرازي: أوثق العرى جانب الله، لأن كل ما عداه هالك منقطع، وهو باق لا انقطاع {وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ} أي إِلى الله وحده -لا إِلى أحدٍ سواه- مرجع ومصير الأمور كلها فيجازي العامل عليها أحسن الجزاء {وَمَنْ كَفَرَ فَلا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ} تسلية للرسول صلى الله عليه وسلم أي لا يهمنك يا محمد كفر من كفر، ولا ضلال من ضلَّ، ولا تذهب نفسك عليهم حسرات، فإِنا سننتقم منهم إِن عاجلاً أو آجلاً {إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا} أي إِلينا رجوعهم، فنخبرهم بأعمالهم التي عملوها في الدنيا {إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} أي عليم بما في قلوبهم من المكر والكفر والتكذيب فيجازيهم عليها {نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلا} أي نبقيهم في الدنيا مدة قليلة يتمتعون بها {ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ} أي ثم نلجئهم في الآخرة إِلى عذاب شديد هو عذاب النار، الفظيع الشاق على النفس.





إثبات وجود الله وسعة علمه وشمول قدرته على البعث وكل شيء

{وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ(25) لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ(26)وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ(27)مَا خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ(28)أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَأَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ(29)ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ(30)أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ لِيُرِيَكُمْ مِنْ ءاياتِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ(31)وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوْا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ(32)}.



سبب النزول:

نزول الآية (27):

{وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأَرْضِ}: أخرج ابن جرير عن عكرمة قال: سأل أهل الكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الروح، فأنزل الله {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلْ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلا قَلِيلا} [الإسراء: 85] فقالوا: تزعم أنا لم نؤت من العلم إلا قليلاً، وقد أوتينا التوراة وهي الحكمة، {وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا} [البقرة: 269]، فنزلت: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ} الآية.



وأخرج ابن إسحاق وابن أبي حاتم عن عطاء بن يسار قال: نزلت بمكة: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلا قَلِيلا} [الإسراء: 85] فلما هاجر إلى المدينة أتاه أحبار يهود، فقالوا: ألم يبلغنا عنك أنك تقول: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلا قَلِيلا} إيانا تريد أم قومك؟ فقال: كُلاًّ عَنَيتُ، قالوا: فإنك تتلو أنا قد أوتينا التوراة فيها تبيان كل شيء، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هي في علم الله قليل، فأنزل الله: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ}.



وأخرج أبو الشيخ ابن حيان الأنصاري في كتاب العظمة وابن جرير عن قتادة قال: قال المشركون: إنما هذا كلام يوشك أن ينفد، فنزل: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأَرْضِ} الآية.



نزول الآية (28):

{مَا خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ}: نزلت الآية في أبيّ بن خلَف وأبي بن الأسدين، ومُنَبِّه ونبيه ابني الحجاج بن السباق، قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: إن الله تعالى قد خلقنا أطواراً، نطفة ثم علقة ثم مضغة، ثم عِظاماً، ثم تقول: إنا نُبعث خَلْقاً جديداً جميعاً في ساعة واحدة! فأنزل الله تعالى: {مَا خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ}.



ثم لما بيَّن تعالى استحقاقهم للعذاب، بيَّن تناقضهم في الدنيا وهو اعترافهم بأن الله خالق السماوات والأرض، ومع هذا يعبدون معه شركاء يعترفون أنها ملك له وأنها مخلوقاته فقال: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} أي ولئن سألت يا محمد هؤلاء المشركين من كفار مكة من خلق السماوات والأرض؟ ليقولنَّ -لغاية وضوح الأمر- الله خلقهن فقد اضطروا إِلى الاعتراف به {قُلْ الْحَمْدُ لِلَّهِ} أي قل لهم: الحمد لله على ظهور الحجة عليكم، وعلى أن دلائل الإِيمان ظاهرة للعيان {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ} أي بل أكثر هؤلاء المشركين لا يفكّرون ولا يتدبرون فلذلك لا يعلمون، ثم قال تعالى { لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} أي له جلَّ وعلا ما في الكائنات ملكاً وخلقاً وتدبيراً {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} أي المستغني عن خلقه وعن عبادتهم، المحمود في صنعه وآلائه {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ} أي ولو أنَّ جميع أشجار الأرض جعلت أقلاماً {وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ} أي وجعل البحر بسعته حبراً ومداداً وأمده سبعة أبحر معه فكتبت بها كلمات الله الدالة على عظمته وصفاته وجلاله {مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ} أي لانتهت وفنيت تلك الأقلام والبحار وما انتهت كلمات الله، لأن الأشجار والبحار متناهية، وكلمات الله غير متناهية، قال القرطبي: لما ذكر تعالى أنه سخر لهم ما في السماوات وما في الأرض، وأنه أسبغ النعم، نبّه على أن الأشجار لو كانت أقلاماً، والبحار لو كانت مداداً، فكتب بها عجائب صنع الله، الدالة على قدرته ووحدانيته لم تنفد تلك العجائب، وقال ابن الجوزي: وفي الكلام محذوف تقديره: فكتب بهذه الأقلام وهذهالبحوركلمات الله، لتكسرت الأقلام ونفدت البحور ولم تنفد كلمات الله أي لم تنقطع {إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} أي غالب لا يعجزه شيء، حكيم لا يخرج عن علمه وحكمته أمر {مَا خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ} أي ما خلقكم أيها الناس ابتداءً، ولا بعثكم بعد الموت انتهاءً إِلا كخلق نفس واحدة وبعثها، لأنه إِذا أراد شيئاً قال له: كن فيكون، قال الصاوي: المعنى أن الله لا يصعب عليه شيء، بل خلق العالم وبعثه برُمته كخلق نفسٍ واحدةٍ وبعثها { إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} أي سميع لأقوال العباد، بصير بأعمالهم، ثم أشار تعالى إلى دلائل قدرته في الآفاق فقال {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ} أي ألم تعلم أيها المخاطب علماً قوياً جارياً مجرى الرؤية، أن الله العظيم الجليل يدخل ظلمة الليل على ضوء النهار، ويدخل ضوء النهار على ظلمة الليل، ويزيد في هذا ويُنقص من هذا حسب الحكمة الأزلية {وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} أي ذلّلهما بالطلوع والأفول تقديراً للآجال، وإِتماماً للمنافع، كلٌ منهما يسير في فلكه إِلى غاية محدودة هي يوم القيامة {وَأَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} أي وأنه تعالى عالم بأحوالكم وأعمالكم لا تخفى عليه خافية، فإِن من شاهد مثل ذلك الصنع الرائق، والتدبير الفائق، لا يكاد يغفل عن كون صانعه جل وعلا محيطاً بكل أعماله {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ} أي ذلك الذي شاهدتموه من عجائب الصنع وباهر القدرة، لتتأكدوا أن الله هو الإِله الحق الذي يجب أن يعبد وحده {وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْبَاطِلُ} أي وأن كل ما يعبدون من دون الله من الأوثان والأصنام باطل لا حقيقة له كما قال لبيد: "ألا كل شيءٍ ما خلا الله باطل" فالجميع خلقه وعبيده، ولا يملك أحدٌ منهم تحريك ذرةٍ إِلا بإِذنه {وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} أي وأنه تعالى هو العليُّ في صفاته، الكبير في ذاته {أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ} تذكيرٌ بنعمة أُخرى أي ألم تر أيها العاقل أن السفن العظيمة تسير في البحر بقدرة الله، وبتسخيره ولطفه بالناس وإِحسانه إِليهم، لتهيئة أسباب الحياة، قال ابن كثير: يخبر تعالى أنه هو الذي سخَّر البحر لتجري فيه الفلك بأمره أي بلطفه وتسخيره، فإنه لولا ما جعل في الماء من قوةٍ يحمل بها السفن ما جرت، ولهذا قال بعده {لِيُرِيَكُمْ مِنْ ءاياتِهِ} أي ليريكم عجائب صنعه، ودلائل قدرته ووحدانيته {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} أي إِن في تسخير هذه السفن وما تحمله من الطعام والأرزاق والتجارات، لآيات باهرة، وعبراً جليلة لكل عبد منيب، صبَّار في الضراء، شكور في الرخاء. ولفظة "صبَّار" و"شكور" مبالغة في الصبر والشكر {وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ} أي وإِذا علا المشركين وغطّاهم وهم في البحر موج كثيف كالجبال {دَعَوْا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} أي أخلصوا دعاءهم لله حين علموا أنه لا منجي لهم غيره فلا يدعون لخلاصهم سواه {فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ} أي فلما أنقذهم من شدائد البحر، وأخرجهم إِلى شاطئ النجاة في البر {فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ} في الآية حذف تقديره فمنهم مقتصد، ومنهم جاحد، ودلَّ عليه قوله {وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا} والمقتصد: المتوسط في العمل، قال ابن كثير: وهذا من باب الإِنكار على من شاهد تلك الأهوال، والأمور العظام، ورأى الآيات الباهرة في البحر، ثم بعدما أنعم الله عليه بالخلاص كان ينبغي أن يقابل ذلك بالعمل التام، والمبادرة إِلى الخيرات، والدؤوب في العبادات، فمن اقتصد بعد ذلك كان مقصّراً {وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ} أي وما يكذب بآياتنا إِلا كل غدَّار، مبالغ في كفران نعم الله تعالى.





الأمر بتقوى الله، وبيان مفاتيح الغيب



{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمْ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ(33)إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ(34)}.



سبب النزول:

نزول الآية (34):

أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن مجاهد قال: جاء رجل من أهل البادية هو الحارث بن عمرو، فقال: إن امرأتي حبلى فأخبرني بما تلد، وبلادنا مُجْدِبة فأخبرني متى ينزل الغيث، وقد علمتُ متى وُلدتُ فأخبرني متى أموتُ؟ فأنزل الله: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ} الآية.



{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ } أي اتقوا ربكم بامتثال أوامره، واجتناب نواهيه {وَاخْشَوْا يَوْمًا لا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ} أي وخافوا يوماً رهيباً عصيباً لا ينفع والد فيه ولده، ولا يدفع عنه مضرةً، أو يقضي عنه شيئاً مما تحمَّله {وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا} أي ولا ولدٌ يغني أو يدفع عن والده شيئاً، أو يقضي عنه شيئاً من جنايته ومظالمه، قال الطبري: المعنى لا يغني ولا تنفع عنده الشفاعة والوسائل، إلا وسيلة من صالح الأعمال التي أسلفها في الدنيا {إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ} أي وعده بالثواب والعقاب، والبعث والجزاء حقٌ لا يتخلف {فَلا تَغُرَّنَّكُمْ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا} أي لا تخدعكم الحياة الدنيا بمفاتنها ولذاتها فتركنوا إِليها {وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ} أي ولا يخدعنكم الشيطان الماكر الذي يغر الخلق ويمنيهم بأباطيله ويلهيهم عن الآخرة {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ} هذه هي مفاتح الغيب التي اختص الله بعلمها وهي خمس كما جاء في الحديث الصحيح (مفاتح الغيب خمسٌ لا يعلمهن إِلا الله وتلا الآية) أي عنده تعالى معرفة وقت قيام الساعة التي تقوم فيها القيامة {وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ} أي وعنده معرفة وقت نزول المطر ومحل نزوله { وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ} أي من ذكرٍ أو أنثى، شقي أو سعيد {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا} أي ما يدري أحد ماذا يحدث له في غد، وماذا يفعل من خير أو شر {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ} أي كما لا يدري أحدٌ أين يموت. ولا في أي مكانٍ يُقبر {إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} أي مبالغ في العلم، يعلم كل الأمور، خبير بظواهر الأشياء وبواطنها لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء.

yacine414
2011-04-01, 17:29
السجدة



التسميَــــة

إثبات تنزيل القرآن على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم

دلائل توحيد الله تعالى وقدرته

إثبات البعث، ووصف الكفار يوم القيامة

صفة المؤمنين في الدنيا وجزاؤهم في الآخرة

لا يستوي المؤمنون والفاسقون

إنزال التوراة على موسى عليه السلام

إهلاك الأمم الماضية وسوق الماء إلى الأرض اليابسة دليل على قدرة الله، وحماقة المشركين في استعجال العذاب







بَين يَدَي السُّورَة



سورة السجدة مكية، وهي كسائر السور المكية تعالج أصول العقيدة الإِسلامية "الإِيمان بالله واليوم الآخر، والكتب والرسل، والبعث والجزاء" والمحور الذي تدور عليه السور الكريمة هو موضوع "البعث بعد الفناء" الذي طالما جادل المشركون حوله، واتخذوه ذريعةً لتكذيب الرسول عليه الصلاة والسلام.



* تبتدئ السورة الكريمةُ بدفع الشك والارتياب عن القرآن العظيم، المعجزة الكبرى لرسول الله صلى الله عليه وسلم، الذي لا تحوم حول ساحته الشبهات والأباطيل، ومع وضوح إِعجازه، وسطوع آياته، وإشراقة بيانه، وسموّ أحكامه، اتهم المشركون الرسول بأنه افترى هذا القرآن، واختلقه من تلقاء نفسه، فجاءت السورة الكريمة تردُّ هذا البهتان، بروائع الحجة والبرهان.



* ثم تحدثت السورة عن دلائل القدرة والوحدانية، ببيان آثار قدرة الله في الكائنات العلوية والسفلية، على طريقة القرآن في لفت الأنظار إِلى إِبداع الواحد القهار.



* ثم ذكر القرآن شبهة المشركين السخيفة في إِنكارهم للبعث والنشور، وردَّ عليها بالحجج القاطعة، والأدلة الساطعة، التي تنتزع الحجة من الخصم الجاحد العنيد، فلا يلبث أن يقر على نفسه بالهزيمة أمام قوارع القرآن، وروائع الحجة والبيان.



* وختمت السورة بالحديث عن يوم الحساب، وما أعدَّ الله فيه للمؤمنين المتقين من النعيم الدائم في جنات الخلد، وما أعده للمجرمين من العذاب والنكال في دار الجحيم.



التسميَــــة:

سميت "سورة السجدة" لما ذكر تعالى فيها من أوصاف المؤمنين الأبرار، الذين إذا سمعوا آيات القرآن العظيم {خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ}.





إثبات تنزيل القرآن على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم



{الم(1)تَنزِيلُ الْكِتَابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ(2)أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ(3)}.



{الم} الحروف المقطعة للتنبيه على إِعجاز القرآن {تَنزِيلُ الْكِتَابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} أي هذا الكتاب الموحى به إِليك يا محمد هو القرآن الذي لا شك أنه من عند الله عز وجل، تنزيلٌ من رب العالمين {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ} الضمير يعود لكفار قريش و{أَمْ} بمعنى بل والهمزة أي بل أيقول المشركون اختلق محمد القرآن وافتراه من تلقاء نفسه؟ لا ليس الأمر كما يدَّعون {بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ} أي بل هو القول الحق، والكلام الصدق المنزل من ربك، قال البيضاوي: أشار أولاً إِلى إِعجازه، ثم رتَّب عليه أنه تنزيلٌ من رب العالمين، وقرر ذلك بنفي الريب عنه، ثم أضرب عن ذلك إِلى ما يقولون فيه على خلاف ذلك، إنكاراً له وتعجباً منه، ثم بين المقصود من إِنزاله بقوله {لِتُنذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ} أي أنزله إليك لتنذر به قوماً ما جاءهم رسول قبلك يا محمد، قال المفسرون: هم أهل الفترة بين عيسى ومحمد عليهما السلام، وقد جاء الرسل قبل ذلك كإِبراهيم وهود وصالح، ولكنْ لما طالت الفترة على هؤلاء أرسل الله إِليهم محمداً صلى الله عليه وسلم لينذرهم عذاب الله، ويقيم عليهم الحجة بذلك {لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ} أي كي يهتدوا إِلى الحق ويؤمنوا بالله العزيز الحميد.



دلائل توحيد الله تعالى وقدرته



{اللَّهُ الذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ(4) يُدَبِّرُ الأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ(5)ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ(6)الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الإِنسَانِ مِنْ طِينٍ(7)ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ(8)ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمْ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ قَلِيلا مَا تَشْكُرُونَ (9)}.



ثم شرع تعالى في ذكر أدلة التوحيد فقال {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ} أي الله جلَّ وعلا هو الذي خلق السماوات في ارتفاعها وإِحكامها، والأرض في عجائبها وإِبداعها، وما بينهما من المخلوقات في مقدار ستة أيام، قال الحسن: من أيام الدنيا ولو شاء لخلقها بلمح البصر ولكن أراد أن يعلّم عباده التأني في الأمور، قال القرطبي: عرَّفهم تعالى كمال قدرته ليسمعوا القرآن ويتأملوه، ومعنى {خَلَقَ} أبدع وأوجد بعد العدم، وبعد أن لم تكن شيئاً {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} استواءً يليق بجلاله من غير تشبيه ولا تمثيل {مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ} أي ليس لكم أيها الناسُ من غير الله ناصرٌ يمنعكم من عذابه، ولا شفيع يشفع لكم عنده إِلا بإِذنه، بل هو الذي يتولى مصالحكم ويدبر أموركم {أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ}؟ أي أفلا تتدبرون هذا فتؤمنون؟ { يُدَبِّرُ الأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الأَرْضِ} أي يدبّر أمر الخلائق جميعاً في العالم العلوي والسفلي، لا يُهمل شأن أحد، قال ابن عباس: أي ينزل القضاء والقدر من السماء إِلى الأرض، ويُنزل ما دبره وقضاه {ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ} أي ثم يصعد إِليه ذلك الأمر كله يوم القيامة ليفصل فيه {فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} أي في يومٍ عظيم -هو يوم القيامة- طوله ألف سنة من أيام الدنيا لشدة أهواله {ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ} أي ذلك المدبر لأمور الخلق هو العالم بكل شيء، يعلم ما هو غائب عن المخلوقين، وما هو مشاهد لهم، قال القرطبي: وفي الآية معنى التهديد والوعيد، كأنه يقول: أخلصوا أعمالكم وأقوالكم فإِني مجازيكم عليها، ومعنى "الغيب والشهادة" ما غاب من الخلق وما حضرهم {الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} أي الغالب على أمره، الرحيم بعباده في تدبيره لشئونهم {الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ} أي أتقن وأحكم كل شيءٍ أوجده وخلقه، قال أبو حيان: وهذا أبلغ في امتنان ومعناه أنه وضع كل شيء في موضعه، ولهذا قال ابن عباس: ليست القردة بحسنة، ولكنها متقنة محكمة، قال بعض العلماء: لو تصورت مثلاً أن للفيل مثل رأس الجمل وأن للأرنب مثل رأس الأسد، وأنَّ للإِنسان مثل رأسِ الحمار، لوجدت في ذلك نقصاً كبيراً، وعدم تناسب وانسجام، ولكنك إِذا علمت أن طول عنق الجمل، وشقَّ شفته ليسهل تناوله الكلأ عليه أثناء السير، وأن الفيل لولا خرطومه الطويل لما استطاع أن يبرك بجسمه الكبير لتناول طعامه وشرابه، لو علمتَ كل هذا لتيقنتَ أنه صنع الله الذي أتقن كل شيء، ولقلت: تبارك الله أحسن الخالقين. {وَبَدَأَ خَلْقَ الإِنسَانِ مِنْ طِينٍ} أي خلق أبا البشر آدم من طين {ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ} أي جعل ذريته يتناسلون من خلاصة من ماءٍ ضعيف حقير هو المنيُّ {ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ} أي قوَّم أعضاءه، وعدَّل خلقته في رحم أُمه، ونفخ بعد ذلك فيه الروح، فإِذا هو في أكمل صورةٍ وأحسن تقويم، قال أبو السعود: وأضاف الروح إِليه تعالى تشريفاً للإِنسان، وإِيذاناً بأنه خلقٌ عجيب، وصنعٌ بديع، وأن له شأناً جليلةً مناسبةً إِلى حضرة الربوبية {وَجَعَلَ لَكُمْ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ} أي وخلق لكم هذه الحواس: السمع لتسمعوا به الأصوات، والبصر لتبصروا به الأشخاص، والعقل لتدركوا به الحق والهدى {قَلِيلا مَا تَشْكُرُونَ} أي إنّ شكركم لنعم ربكم لقليل و {مَا} لتأكيد القلة.



إثبات البعث، ووصف الكفار يوم القيامة



{وَقَالُوا أَئِذَا ضَلَلْنَا فِي الأَرْضِ أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ كَافِرُونَ(10)قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ(11)وَلَوْ تَرَى إِذْ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُوا رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ(12)وَلَوْ شِئْنَا لآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ(13)فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا إِنَّا نَسِينَاكُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ(14)}.



{وَقَالُوا أَئِذَا ضَلَلْنَا فِي الأَرْضِ} أي وقال كفار مكة المنكرون للبعث والنشور: أئذا هلكنا وصارت عظامنا ولحومنا تراباً مختلطاً بتراب الأرض حتى غابت فيه ولم تتميز عنه {أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ} أي سوف نخلق بعد ذلك خلقاً جديداً، ونعود إِلى الحياة مرةً ثانية؟ وهو استبعادٌ للبعث مع الاستهزاء ولهذا قال تعالى {بَلْ هُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ كَافِرُونَ} أي بل هناك ما هو أبلغ وأشنع من الاستهزاء، وهو كفرهم وجحودهم بلقاء الله في دار الجزاء {قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِالَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ} أي قل لهم رداً على مزاعمهم الباطلة: يتوفاكم ملك الموت الذي وكّل بقبض أرواحكم هو وأعوانه {ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ} أي ثم مرجعكم إِلى الله يوم القيامة للحساب والجزاء، قال ابن كثير: والظاهر أنَّ ملك الموت شخص معين، وقد سُمي في بعض الآثار بـ "عزرائيل" وهو المشهور، وله أعوان -كما ورد في الحديث- ينتزعون الأرواح من سائر الجسد، حتى إِذا بلغت الحلقوم تناولها ملك الموت وقال مجاهد: جُمِعت له الأرض فجعلت مثل الطست يتناول منها حيث يشاء، ثم أخبر تعالى بحال المجرمين يوم القيامة وما هم فيه من الذل والهوان فقال {وَلَوْ تَرَى إِذْ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُوا رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ} أي ولو ترى أيها المخاطب حال المجرمين يوم القيامة وهم مطرقو رءوسهم أمام ربهم من الخجل والحياء لرأيت العجب العجاب، قال أبو السعود: وجواب {لَوْ} محذوفٌ تقديره لرأيت أمراً فظيعاً لا يُقادر قدره من هوله وفظاعته {رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا} أي يقولون ربنا أبصرنا حقيقة الأمر وسمعنا ما كنا ننكر من أمر الرسل، وكنا عُمياً وصُماً {فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا} أي فردنا إِلى دار الدنيا لنعمل صالحاً {إِنَّا مُوقِنُونَ} أي فنحن الآن مصدقون تصديقاً جازماً، وموقنون أن وعدك حق، ولقاءك حق، قال الطبري: أي أيقنا الآن بوحدانيتك، وأنه لا يصلح أن يُعبد سواك، ولا ينبغي أن يكون رب سواك، وأنك تحيي وتميت وتفعل ما تشاء، قال تعالى رداً عليهم {وَلَوْ شِئْنَا لآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا} أي لو أردنا هداية جميع الخلق لفعلنا ولكنَّ ذلك ينافي حكمتنا، لأنا نريد منهم الإِيمان بطريق الاختيار، لا بطريق الإِكراه والإِجبار {وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي} أي ولكن ثبت ووجب قولي بعذاب المجرمين، وتقرر وعيدي {لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} أي لأملأنَّ جهنم بالعصاة من الجِنّ والإِنس جميعاً {فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا} أي يقال لأهل النار على سبيل التقريع والتوبيخ: ذوقوا -بسبب نسيانكم الدار الآخرة وانهماككم في الشهوات -هذا العذاب المخزي الأليم {إِنَّا نَسِينَاكُمْ} أي نترككم اليوم في العذاب كما تركتم العمل بآياتنا {وَذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} أي وذوقوا العذاب الدائم الخالد في جهنم بسبب كفركم وتكذيبكم.





صفة المؤمنين في الدنيا وجزاؤهم في الآخرة



{إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ(15)تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ(16)فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (17)}.



سبب النزول:

نزول الآية (16):

قال الحسن البصري ومجاهد ومالك والأوزاعي: نزلت في المتهجدين الذين يقومون الليل إلى الصلاة.

ويدل على صحة هذا السبب ما أخرجه أحمد والترمذي والنسائي وابن ماجه في سننهم، وابن جرير والحاكم وابن مردويه عن معاذ بن جبل قال: "كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر، فأصبحت يوماً قريباً منه، ونحن نسير، فقلت: يا نبي الله، أخبرني عما يدخلني الجنة، ويباعدني عن النار، قال: لقد سألت عن عظيم، وإنه ليسير على من يسَّره الله تعالى عليه: تعبد الله ولا تشرك به شيئاً، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحجّ البيت، ثم قال:

ألا أدلك على أبواب الخير ؟ الصوم جُنَّة، والصدقة تطفئ الخطيئة، وصلاة الرجل في جوف الليل، ثم قرأ: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ } -حتى بلغ- {جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}.

ثم قال: ألا أخبرك برأس الأمر وعموده وذِرْوة سنامه؟ فقلت: بلى، يا رسول الله، فقال: رأس الأمر الإسلام، وعمودُه الصلاة، وذروة سنامه الجهاد في سبيل الله، ثم قال: ألا أخبرك بمِلاك ذلك كله؟ فقلت: بلى، يا نبي الله، فأخذ بلسانه، ثم قال: كُفَّ عليك هذا، فقلت: يا رسول الله، وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به؟ فقال: ثكلتك أمُّك يا مُعاذ، وهل يكبُّ الناسَ في النار على وجوههم -أو قال على مناخرهم- إلا حصائد ألسنتهم".



ثم لما ذكر حال الأشقياء وعاقبتهم الوخيمة، أتبعه بذكر حال السعداء وما أعدَّه لهم من النعيم المقيم في دار الجزاء، ليظل العبد بين الرهبة والرغبة فقال {إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا} أي إِنما يصدّق بآياتنا المؤمنون المتقون الذين إِذا وعظوا بآياتنا سقطوا على وجوههم ساجدين لله تعظيماً لآياته {وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ} أي وسبحوا ربهم على نعمائه وهم لا يستكبرون عن طاعته وعبادته {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ} أي تتنحى وتتباعد أطرافهم عن الفرش ومواضع النوم، والغرض أن نومهم بالليل قليلٌ لانقطاعهم للعبادة كقوله {كَانُوا قَلِيلا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} قال مجاهد: يعني بذلك قيام الليل {يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا} أي يدعون ربهم خوفاً من عذابه وطمعاً في رحمته وثوابه {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} أي ومما أعطيناهم من الرزق ينفقون في وجوه البر والحسنات {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ} أي فلا يعلم أحد من الخلق مقدار ما يعطيهم الله من النعيم، مما لا عينٌ رأتْ، ولا أذنٌ سمعت، ولا خطر على قلب بشر {جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} أي ثواباً لما قدموه في الدنيا من صالح الأعمال.





لا يستوي المؤمنون والفاسقون



{أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لا يَسْتَوُونَ (18)أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَى نُزُلا بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ(19) وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمْ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ(20)وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ(21)وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنتَقِمُونَ(22)}.



سبب النزول:

نزول الآية (18):

أخرج الواحدي وابن عساكر عن ابن عباس قال: قال الوليد بن عقبة بن أبي مُعَيط لعلي ابن أبي طالب: أنا أحَدُّ منك سناناً، وأبسط منك لساناً، وأملأ للكتيبة منك، فقال له علي: اسكت، فإنما أنت فاسق، فنزلت {أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لا يَسْتَوُونَ} قال: يعني بالمؤمن علياً، وبالفاسق الوليد بن عقبة.



{أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا}؟ أي أفمن كان في الحياة الدنيا مؤمناً متقياً لله، كمن كان فاسقاً خارجاً عن طاعة الله؟ {لا يَسْتَوُونَ} أي لا يستوون في الآخرة بالثواب والكرامة، كما لم يستووا في الدنيا بالطاعة والعبادة، وهذه الآية كقوله تعالى {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ}؟ قال ابن كثير: يخبر تعالى عن عدله وكرمه، أنه لا يساوي في حكمه يوم القيامة، من كان مؤمناً بآياته متبعاً لرسله، بمن كان فاسقاً أي خارجاً عن طاعة ربه، مكذباً رسل الله، ثم فصَّل تعالى جزاء الفريقين فقال {أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} أي أما المتقون الذين جمعوا بين الإِيمان والعمل الصالح {فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَى} أي لهم الجنات التي فيها المساكن والدور والغرف العالية يأوون إِليها ويستمتعون بها، قال البيضاوي: فالجنة هي المأوى الحقيقي، والدنيا منزل مرتحلٌ عنه لا محالة {نُزُلا بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} أي ضيافةً مهيأةً ومعدةً لإِكرامهم كما تهيأ التُحف للضيف وذلك بسبب ما قدموه من صالح الأعمال {وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمْ النَّارُ} أي وأمّا الذين خرجوا عن طاعة الله فملجؤهم ومنزلهم نار جهنم {كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا} أي إِذا دفعهم لهب النار إِلى أعلاها ردُّوا إِلى موضعهم فيها، قال الفُضيل بن عياض: والله إِن الأيدي لموثقة، وإِنَّ الأرجل لمقيَّدة، وإِنَّ اللهب ليرفعهم والملائكة تقمعهم {وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ} أي وتقول لهم خزنة جهنم تقريعاً وتوبيخاً: ذوقوا عذاب النار المخزي الذي كنتم تكذبون به في الدنيا وتهزءون منه، ثم توعدهم بعذاب عاجلٍ في الدنيا فقال {وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الأَدْنَى} أي ولنذيقنَّهم من العذاب الأقرب وهو عذاب الدنيا من القتل والأسر والبلايا والمحن، قال الحسن: العذاب الأدنى: مصائب الدنيا وأسقامها مما يُبتلى به العبيد حتى يتوبوا، وقال أبو مجاهد: القتل والجوع {دُونَ الْعَذَابِ الأَكْبَرِ} أي قبل العذاب الأكبر الذي ينتظرهم وهو عذاب الآخرة {لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} أي لعلهم يتوبون عن الكفر والمعاصي، ثم بعد أن توعدهم وهددهم بيَّن استحقاقهم للعذاب فقال {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا} أي لا أحد أظلم لنفسه ممَّن وعظ وذكر بآيات الرحمن، ثم ترك الإِيمان وتناساها؟ {إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنتَقِمُونَ} أي سأنتقم ممن كذَّب بآياتي أشدَّ الانتقام، ووضع الاسم الظاهر مكان الضمير لتسجيل الإِجرام عليهم.



إنزال التوراة على موسى عليه السلام



{ وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَائِهِ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ(23)وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ(24)إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ(25)}.



{وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ} أي أعطينا موسى التوراة {فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَائِهِ} أي فلا تكن يا محمد في شكٍ من تلقي القرآن كما تلقَّى موسى التوراة، والمقصود تقرير رسالته عليه السلام، وتحقيق أن ما معه من الكتاب وحيٌ سماويٌ وكتابٌ إِلهي {وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ} أي جعلنا التوراة هدايةً لبني إِسرائيل من الضلالة {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً} أي جعلنا منهم قادةً وقدوة يقتدى بهم في الخير {يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا} أي يدعون الخلق إِلى طاعتنا ويرشدونهم إِلى الدين بأمرنا وتكليفنا {لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} أي حين صبروا على تحمل المشاقّ في سبيل الله، وكانوا يصدقون بآياتنا أشد التصديق وأبلغه، قال ابن الجوزي: وفي هذا تنبيه لقريش أنكم إِن أطعتم وآمنتم جعلت منكم أئمة {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} أي إِن ربك يا محمد يقضي ويحكم بين المؤمنين والكفار، فيميز بين المحقِّ والمبطل يوم القيامة، ويجازي كلاً بما يستحق، فيما اختلفوا فيه من أمور الدين، قال الطبري: فيما كانوا فيه يختلفون من أمور الدين، والبعث، والثواب والعقاب.





إهلاك الأمم الماضية وسوق الماء إلى الأرض اليابسة دليل على قدرة الله، وحماقة المشركين في استعجال العذاب



{أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ أَفَلا يَسْمَعُونَ(26)أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى الأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنفُسُهُمْ أَفَلا يُبْصِرُونَ(27)وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ(28)قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لا يَنفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمَانُهُمْ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ(29)فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنتَظِرُونَ(30)}.



سبب النزول:

نزول الآية (29):

{قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ}: أخرج ابن جرير عن قتادة: قال الصحابة: إن لنا يوماً يوشك أن نستريح فيه وننعم، فقال المشركون: متى هذا الفتح إن كنتم صادقين؟ فنزلت.



ثم نبه تعالى على آثار قدرته في مخلوقاته، وأقام الحجة على الكفار بالأمم السالفة الذين كفروا فأُهلكوا فقال {أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ} أي أغفل هؤلاء المشركون ولم يتبيَّن لهم كثرة من أهلكناهم من الأمم الماضية الذين كذبوا رسل الله؟ {يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ} أي حال كون أهل مكة يسيرون في دورهم، ويشاهدون في أسفارهم منازل هؤلاء المهلكين أفلا يعتبرون؟ قال ابن كثير: أي وهؤلاء المكذبون يمشون في مساكن أولئك الظالمين، فلا يرون فيها أحداً ممن كان يسكنها ويعمرها {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ أَفَلا يَسْمَعُونَ} أي إِن في إِهلاكهم لدلالات عظيمة على قدرتنا، أفلا يسمعون سماع تدبر واتعاظ؟ ثم ذكر تعالى دلائل الوحدانية فقال {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى الأَرْضِ الْجُرُزِ} أي أولم يشاهدوا كمال قدرتنا في سوقنا الماء إِلى الأرض اليابسة التي لا نبات فيها من شدة العطش لنحييها؟ {فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنفُسُهُمْ} أي فنخرج بذلك الماء أنواع الزروع والثمار، تأكل منه دوابهم من الكلأ والحشيش، وأنفسهم من الحب والخضر والفواكه والبقول {أَفَلا يُبْصِرُونَ} أي أفلا يبصرون ذلك فيستدلون به على كمال قدرته تعالى وفضله، ويعلمون أن الذي أحيا الأرض الميتة قادر على إِعادتهم بعد وفاتهم؟ {وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} أي ويقول كفار مكة للمسلمين على سبيل السخرية والتهكم: متى ستنصرون علينا ويكون لكم الغلبة والفتح علينا ؟ إِن كنتم صادقين في دعواكم، قال الصاوي: كان المسلمون يقولون إِن الله سيفتح لنا على المشركين، ويفصل بيننا وبينهم، وكان أهل مكة إِذا سمعوهم يقولون بطريق الاستعجال تكذيباً واستهزاءً: متى هذا الفتح فنزلت {قلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لا يَنفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمَانُهُمْ} أي قل لهم يا محمد توبيخاً وتبكيتاً: إن يوم القيامة هو يوم الفتح الحقيقي الذي يفصل تعالى فيه بيننا وبينكم، ولا ينفع فيه الإِيمان ولا الاعتذار فلماذا تستعجلون؟ {وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ} أي ولا هم يؤخرون ويمهلون للتوبة، قال البيضاوي: ويوم الفتح هو يوم القيامة فإِنه يوم نصر المؤمنين على الكافرين والفصل بينهم، وقيل هو يوم بدر {فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ } أي فأعرضْ يا محمد عن هؤلاء الكفار ولا تبالِ بهم {وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنتَظِرُونَ} أي وانتظر ما يحل بهم من عذاب الله، إِنهم منتظرون كذلك ما يحل بكم قال القرطبي: أي ينتظرون بكم حوادث الزمان

yacine414
2011-04-01, 17:31
سورة الأحزاب



التسميَـــة

أمر النبي صلى الله عليه وسلم بتقوى الله واتباع الوحي والتوكل على الله

إبطال الظهار الجاهلي والتبني

شفقة الرسول صلى الله عليه وسلم على أمته، والميراث بقرابة الرحم

غزوة الأحزاب

تخيير زوجات الرسول صلى الله عليه وسلم بين الدنيا والآخرة

خصائص أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم

مساواة الرجال والنساء في الجزاء والثواب

إبطال التبني وقصة زيد بن حارثة وزينب بنت جحش

الحث على ذكر الله وتسبيحه صباحاً ومساءً ورحمته تعالى بعبادته

أوصاف النبي صلى الله عليه وسلم، وحكم الطلاق قبل المساس

النساء اللاتي أحلّ الله لنبيّه الزواج بهنّ

آداب الدخول لبيت النبي صلى الله عليه وسلم وحجاب نسائه

الأمر بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم وجزاء من يؤذيه ويؤذي المؤمنين

نزول آية الحجاب

تهديد المنافقين وجزاؤهم

قرب الساعة وبيان أهوالها

تحذير المؤمنين من إيذاء الرسول صلى الله عليه وسلم كما آذى اليهود موسى عليه السلام، والأمر بتقوى الله

التكاليف الشرعية التي كلف الله بها البشرية وأثرها في الجزاء





بَين يَدَي السُّورَة



* سورة الأحزاب من السور المدنية، التي تتناول الجانب التشريعي لحياة الأمة الإِسلامية، شأن سائر السور المدنية، وقد تناولت حياة المسلمين الخاصة والعامة، وبالأخص أمر الأسرة فشرعت الأحكام بما يكفل للمجتمع السعادة والهناء، وأبطلت بعض التقاليد والعادات الموروثة مثل: "التبني، والظهار، واعتقاد وجود قلبين لإِنسان" وطهرت من رواسب المجتمع الجاهلي، ومن تلك الخرافات والأساطير الموهومة التي كانت متفشية في ذلك الزمان.



* ويمكن أن نلخص المواضيع الكبرى لهذه السورة الكريمة في نقاط ثلاث:

أولاً: التوجيهات والآداب الإِسلامية.

ثانياً: الأحكام والتشريعات الإِلهية.

ثالثاً: الحديث عن غزوتي "الأحزاب، وبني قريظة".



* أما الأولى: فقد جاء الحديث عن بعض الآداب الاجتماعية كآداب الوليمة، وآداب الستر والحجاب وعدم التبرج، وآداب معاملة الرسول صلى الله عليه وسلم واحترامه إلى آخر ما هنالك من آداب اجتماعية.



* وأما الثانية: فقد جاء الحديث عنها في بعض الأحكام التشريعية مثل حكم الظهار والتبني، والإِرث، وزواج مطلقة الابن من التبني، وتعدد زوجات الرسول الطاهرات والحكمة منه، وحكم الصلاة على الرسول صلى الله عليه وسلم وحكم الحجاب الشرعي، والأحكام المتعلقة بأمور الدعوة إلى الوليمة إلى غير ما هنالك من أحكام تشريعية.



* وأما الثالثة: فقد تحدثت السورة بالتفصيل عن غزوة الخندق التي تسمى "غزوة الأحزاب" وصوَّرتها تصويراً دقيقاً بتآلب قوى البغي والشر على المؤمنين، وكشفت عن خفايا المنافقين، وحذرت من طرقهم في الكيد والتخذيل والتثبيط، وأطالت الحديث عنهم في بدء السورة وفي ختمها، حتى لم تُبق لهم ستراً، ولم تخف لهم مكراً، وذكرت المؤمنين بنعمة الله العظمى عليهم في ردّ كيد أعدائهم بإرسال الملائكة والريح، كما تحدثت عن غزوة بني قريظة ونقض اليهود عهدهم مع الرسول صلى الله عليه وسلم.



التسميَة:

سميت سورة الأحزاب لأن المشركين تحزبوا على المسلمين من كل جهة، فاجتمع كفار مكة مع غطفان وبني قريظة وأوباش العرب على حرب المسلمين، ولكن الله ردَّهم مدحورين وكفى المؤمنين القتال بتلك المعجزة الباهرة.





أمر النبي صلى الله عليه وسلم بتقوى الله واتباع الوحي والتوكل على الله



{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا(1)وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا(2)وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلا(3)}.



سبب النزول:

أخرج ابن جرير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: إن أهل مكة، ومنهم الوليد بن المغيرة، وشيبة بن ربيعة دَعُوا النبي صلى الله عليه وسلم أن يرجع عن قوله، على أن يعطوه شطر أموالهم، وخوّفه المنافقون واليهود بالمدينة إن لم يرجع قتلوه، فنزلت الآيات.

وذكر الواحدي في أسباب النزول: أن الآيات نزلت في أبي سفيان وعِكْرمة بن أبي جهل وأبي الأعور السُّلَمي قَدِموا المدينة بعد قتال أُحُد، فنزلوا على عبد الله بن أُبَيّ (زعيم المنافقين) وقد أعطاهم النبي صلى الله عليه وسلم الأمان على أن يكلموه، فقام معهم عبد الله بن سعد بن أبي سرح وطُعْمة بن أُبَيرق، فقالوا للنبي صلى الله عليه وسلم، وعنده عمر بن الخطاب: ارفض ذكر آلهتنا اللات والعُزّى ومناة، وقل: إن لها شفاعة ومنفعة لمن عبدها وندعك وربَّك، فشقّ على النبي صلى الله عليه وسلم قولهم، فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: ائذن لنا يا رسول الله في قتلهم، فقال: "إني قد أعطيتهم الأمان" فقال عمر: اخرجوا في لعنة الله وغضبه، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يخرجهم من المدينة، فأنزل الله عز وجل هذه الآية.



{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ} النداء على سبيل التشريف والتكرمة لأن لفظ النبوة مشعر بالتعظيم والتكريم أي اثبتْ على تقوى الله ودُمْ عليها، قال أبو السعود: في ندائه صلى الله عليه وسلم بعنوان النبوة تنويهٌ بشأنه، وتنبيهٌ على سمو مكانه، والمراد بالتقوى المأمور به الثباتُ عليه والازديادُ منه، فإِنَّ له باباً واسعاً ومكاناً عريضاً لا يُنال مداه {وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ} أي ولا تطع أهل الكفر والنفاق فيما يدعونك إليه من اللين والتساهل، وعدم التعرض لآلهتهم بسوء، ولا تقبل أقوالهم وإِن أظهروا أنها نصيحة، قال المفسرون: دعا المشركون رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يرفض ذكر آلهتهم بسوء، وأن يقول إن لها شفاعة فكره صلى الله عليه وسلم ذلك ونزلت الآية { إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا} أي إنه تعالى عالم بأعمال العباد وما يضمرونه في نفوسهم، حكيم في تدبير شئونهم {وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} أي واعمل بما يوحيه إليك ربك من الشرع القويم، والدين الحكيم، واستمسك بالقرآن المنزل عليك {إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} أي خبيرٌ بأعمالكم لا تخفى عليه خافية من شئونكم، وهو مجازيكم عليها {وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} أي اعتمد عليه، والجأ في جميع أمورك إليه {وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلا} أي وحسبك أن يكون الله حافظاً وناصراً لك ولأصحابك.





إبطال الظهار الجاهلي والتبني



{مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمْ اللائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءكُمْ أَبْنَاءكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ(4)ادْعُوهُمْ لآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا ءاباءهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا(5)}.



سبب النزول:

نزول الآية (4):

{مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ}: أخرج الترمذي وحسنه عن ابن عباس قال: قام النبي صلى الله عليه وسلم يوماً يصلي، فخطر خطرة، فقال المنافقون الذي يصلون معه: ألا ترى أن له قلبين، قلباً معكم وقلباً معه، فأنزل الله: {مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ}.



{وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ} {ادْعُوهُمْ لآبَائِهِمْ}: أخرج البخاري ومسلم والترمذي والنسائي عن ابن عمر قال: ما كنا ندعو زيد بن حارثة إلا زيد بن محمد، حتى نزلت في القرآن: {ادْعُوهُمْ لآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ} فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أنت زيد بن حارثة بن شَرَاحيل.



ثم ردَّ تعالى مزاعم الجاهليين ببيان الحق الساطع فقال {مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ} أي ما خلق الله لأحدٍ من الناس أياً كان قلبين في صدره، قال مجاهد: نزلت في رجلٍ من قريش كان يُدعى "ذا القلبين" من دهائه، وكان يقول: إنَّ في جوفي قلبين أعقل بكلِ واحدٍ منهما أفضل من عقل محمد {وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمْ اللائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ} أي وما جعل زوجاتكم اللواتي تظاهرون منهنَّ أمهاتكم، قال ابن الجوزي: أعلمَ تعالى أن الزوجة لا تكونُ أُماً، وكانت الجاهلية تُطلّق بهذا الكلام وهو أن يقول لها: أنتِ عليَّ كظهر أمي {وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءكُمْ أَبْنَاءكُمْ } أي وما جعل الأبناء من التبني الذين ليسوا من أصلابكم أبناءً لكم حقيقةً {ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ } أي دعاؤهم أبناء مجرد قول بالفم لا حقيقة له من الواقع {وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ} أي والله تعالى يقول الحقَّ الموافق للواقع، والمطابق له من كل الوجوه { وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ} أي يرشد إلى الصراط المستقيم، والغرضُ من الآية التنبيهُ على بطلان مزاعم الجاهلية، فكما لا يكون للشخص الواحد قلبان في جوفه، فكذلك لا يمكن أن تصبح الزوجة المظاهر منها أماً، ولا الولد المتبنَّى ابناً، لأن الأم الحقيقية هي التي ولدته، والابن الحقيقي هو الذي وُلد من صلب الرجل، فكيف يجعلون الزوجات المظاهر منهن أمهات؟ وكيف يجعلون أبناء الآخرين أبناءً لهم مع أنهم ليسوامن أصلابهم؟ثم أمر تعالى بردّ نسب هؤلاءإلى ءابائهم فقال {ادْعُوهُمْ لآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ} أي انسبوا هؤلاء الذين جعلتموهم لكم أبناء لآبائهم الأصلاء {هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ} أي هو أعدلُ وأقسط في حكم الله وشرعه، قال ابن جرير: أي دعاؤكم إياهم لآبائهم هو أعدل عند الله وأصدقُ وأصوب من دعائكم إياهم لغير ءابائهم {فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا ءاباءهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ} أي فإِن لم تعرفوا ءاباءهم الأصلاء فتنسبوهم إليهم فهم إخوانكم في الإِسلام {وَمَوَالِيكُمْ} أي أولياؤكم في الدين، فليقل أحدكم: يا أخي ويا مولاي يقصد أخوَّة الدين وولايته، قال ابن كثير: أمر تعالى بردّ أنساب الأدعياء إلى ءابائهم إن عُرفوا، فإِن لم يُعرفوا فهم إخوانهم في الدين ومواليهم، عوضاً عما فاتهم من النسب، ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لزيد بن حارثة: "أنت أخونا ومولانا" وقال ابن عمر: ما كنا ندعو "زيد بن حارثة" إلا زيد بن محمد حتى نزلت {ادْعُوهُمْ لآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ} {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ} أي وليس عليكم أيها المؤمنون ذنبٌ أو إثم فيمن نسبتموهم إلى غير ءابائهم خطأً {وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ} أي ولكنَّ الإِثم فيما تقصدتم وتعمدتم نسبته إلى غير أبيه {وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} أي واسع المغفرة عظيم الرحمة، يعفو عن المخطئ ويرحم المؤمن التائب.



شفقة الرسول صلى الله عليه وسلم على أمته، والميراث بقرابة الرحم



{النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ وَأُوْلُوا الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا(6)وَإِذْ أَخَذْنَا مِنْ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا(7)لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا أَلِيمًا(8)}.



ثم بيَّن تعالى شفقة الرسول صلى الله عليه وسلم على أمته ونصحه لهم فقال {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ} أي هو عليه السلام أرأف بهم وأعطف عليهم، وأحقُّ بهم من أنفسهم في كل شيء من أمور الدين والدنيا، وحكمه أنفذ وطاعته أوجب {وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ } أي وزوجاتُه الطاهرات أمهات للمؤمنين في وجوب تعظيمهن واحترامهن، وتحريم نكاحهنَّ، قال أبو السعود: أي منزّلات منزلة الأمهات، في التحريم واستحقاق التعظيم، وأما فيما عدا ذلك فهنَّ كالأجنبيات {وَأُوْلُو الأَرْحَامِ} أي أهل القرابات {بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ} أي أحقُّ بالإِرث من المهاجرين والأنصار في شرع الله ودينه {إِلا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا} أي إلاّ أن تحسنوا إلى إخوانكم المؤمنين والمهاجرين في حياتكم، أو توصوا إِليهم عند الموت فإِن ذلك جائز، وبسط اليد بالمعروف مما حثَّ الله عباده عليه، قال المفسرون: وهذا نسخٌ لما كان في صدر الإِسلام من توارث المسلمين من بعضهم بالأخوة الإِيمانية وبالهجرة ونحوها {كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا} أي كان حكم التوارث بين ذوي الأرحام مكتوباً مسطراً في الكتاب العزيز لا يبدل ولا يُغير، قال قتادة: أي مكتوباً عند الله عز وجل ألا يرث كافر مسلماً {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ} أي اذكر وقت أخذنا من النبيين عهدهم المؤكد باليمين، أن يفوا بما التزموا، وأن يصدِّق بعضهم بعضاً، وأن يؤمنوا برسالة محمد صلى الله عليه وسلم ورسالاتهم {وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ} أي وأخذنا منك يا محمد الميثاق ومن نوح وإِبراهيم وموسى وعيسى، وهؤلاء هم أولو العزم ومشاهير الرسل، وإِنما قدَّمه صلى الله عليه وسلم في الذكر لبيان مزيد شرفه وتعظيمه، قال البيضاوي: خصَّهم بالذكر لأنهم مشاهير أرباب الشرائع، وقدَّم نبينا عليه الصلاة والسلام تعظيماً له وتكريماً لشأنه، وقال ابن كثير: بدأ بالخاتم لشرفه صلوات الله عليه، وبياناً لعظم مكانته، ثم رتبهم بحسب وجودهم في الزمان {وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا} أي وأخذنا من الأنبياء عهداً وثيقاً عظيماً على الوفاء بما التزموا به من تبليغ الرسالة {لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ } أي ليسأل الله يوم القيامة الأنبياء الصادقين عن تبليغهم الرسالة إلى قومهم، قال الصاوي: والحكمة في سؤال الرسل مع علمه تعالى بصدقهم هو التقبيح على الكفار يوم القيامة وتبكيتهم، وقال القرطبي: وفي الآية تنبيه على أن الأنبياء إذا كانوا يُسألون يوم القيامة فيكف بمن سواهم؟ وفائدة سؤالهم توبيخ الكفار كما قال تعالى لعيسى {أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلَهَيْنِ} {وَأَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا أَلِيماً} أي وقد هيَّا الله تعالى يوم القيامة للمشركين الجاحدين عذاباً مؤلماً موجعاً، بسبب كفرهم وإِعراضهم عن قبول الحق.





غزوة الأحزاب



{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا(9)إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا(10)هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالا شَدِيدًا(11)وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلا غُرُورًا(12)وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلا فِرَارًا(13)وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لآتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلا يَسِيرًا(14)وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْئُولا(15)قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمْ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوْ الْقَتْلِ وَإِذًا لا تُمَتَّعُونَ إِلا قَلِيلا(16)قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءاً أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا(17)قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلا قَلِيلا(18)أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُوْلَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا(19)يَحْسَبُونَ الأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِنْ يَأْتِ الأَحْزَابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِي الأَعْرَابِ يَسْأَلُونَ عَنْ أَنْبَائِكُمْ وَلَوْ كَانُوا فِيكُمْ مَا قَاتَلُوا إِلا قَلِيلا(20)لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا(21)وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا(22) مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلا(23)لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا(24)وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا(25) وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمْ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا (26) وَأَوْرَثَكُمْ أَرَضهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَ أَرْضاً لَمْ تَطَئُوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً(27)}.



سبب النزول:

نزول الآية (9):

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ }: أخرج البيهقي في الدلائل عن حذيفة قال: لقد رأيتنا ليلة الأحزاب، ونحن صافون قعوداً، وأبو سفيان ومن معه من الأحزاب فوقنا، وقريظة أسفل منا، نخاف على ذرارينا، وما أتت قط علينا ليلة أشد ظلمة، ولا أشد ريحاً منها، فجعل المنافقون يستأذنون النبي صلى الله عليه وسلم إن بيوتنا عورة، وما هي بعورة، فما يستأذن أحد منهم إلا أّذن له، فيتسللون، إذ استقبلنا النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً رجلاً حتى أتى علي، فقال: ائتني بخبر القوم، فجئت، فإذا الريح في عسكرهم، ما تجاوز عسكرهم شبراً، فوالله إني لأسمع صوت الحجارة في رحالهم وفُرُشهم، الريح تضربهم، وهم يقولون: الرحيل الرحيل، فجئت، فأخبرته خبر القوم، وأنزل الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ} الآية.



نزول الآية (12):

{وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ }: أخرج ابن أبي حاتم والبيهقي في الدلائل عن عمرو المزني قال: خطّ رسول الله صلى الله عليه وسلم الخندق عام الأحزاب، فأخرج الله من بطن الخندق صخرة بيضاء مدورة، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم المعول، فضربها ضربة، صدعها، وبرق منها برق أضاء ما بين لابتي المدينة، فكبَّر، وكبَّر المسلمون، ثم ضربها الثانية، فصدعها وبرق منها برق أضاء ما بين لابتيها، فكبَّر وكبر المسلمون، ثم ضربها الثالثة، فكسرها، وبرق منها برق أضاء ما بين لابتيها، فكبَّر، وكبَّر المسلمون، فسئل عن ذلك، فقال: ضربت الأولى، فأضاءت لي قصور الحيرة ومدائن كسرى، وأخبرني جبريل أن أمتي ظاهرة عليهم، ثم ضربت الثانية، فأضاءت لي قصور الحمر من أرض الروم، وأخبرني جبريل أن أمتي ظاهرة عليها، ثم ضربت الثالثة، فأضاءت لي قصور صنعاء، وأخبرني جبريل أن أمتي ظاهرة عليها، فقال المنافقون: ألا تعجبون؟ ويحدّثكم، يُمنِّيكم ويَعدُكم الباطل، ويخبركم أنه يبصر من يثرب قصور الحيرة ومدائن كسرى، وأنها تفتح لكم، وأنتم إنما تحفرون الخندق من الفَرَق، لا تستطيعون أن تَبْرُزوا، فنزل القرآن: {وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلا غُرُورًا}.



نزول الآية (23):

{مِنْ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ }: أخرج مسلم والترمذي وغيرهما عن أنس قال: غاب عمي أنس بن النضر عن بدر، فكبُر عليه، فقال: أول مشهد قد شهده رسول الله صلى الله عليه وسلم غِبتُ عنه، لئن أراني الله مشهداً مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليريَنَّ الله ما أصنعُ، فشهد يوم أحد، فقاتل حتى قُتل، فوجد في جسده بضع وثمانون من بين ضربة وطعنة ورمية، ونزلت هذه الآية: {صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ} الآية.



ثم شرع تعالى في ذكر "غزوة الأحزاب" وما فيها من نِعَمٍ فائضة، و ءايات باهرة للمؤمنين فقال {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ} أي اذكروا فضله وإِنعامه عليكم {إِذْ جَاءتْكُمْ جُنُودٌ} أي وقت مجيء جنود الأحزاب وتألبهم عليكم، قال أبو السعود: والمراد بالجنود الأحزاب وهم قريش، وغطفان، ويهود قريظة وبني النضير، وكانوا زهاء اثني عشر ألفاً، فلما سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بإِقبالهم ضرب الخندق على المدينة بإِشارة "سلمان الفارسي" ثم خرج في ثلاثة آلاف من المسلمين، فضرب معسكره والخندقُ بينه وبين المشركين، واشتد الخوف وظنَّ المؤمنون كل ظن، ونجم النفاق في المنافقين حتى قال "معتب بن قشير" يعدنا محمد كنوز كسرى وقيصر ولا نقدر أن نذهب إلى الغائط {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا} أي فأرسلنا على الأحزاب ريحاً شديدة وجنوداً من الملائكة لم تروهم وكانوا قرابة ألف، قال المفسرون: بعث الله عليهم ريحاً عاصفاً وهي ريح الصبا في ليلة شديدة البرد والظلمة، فقلعت بيوتهم، وكفأت قدورهم، وصارت تلقي الرجل على الأرض، وأرسل الله الملائكة فزلزلتهم -ولم تقاتل- بل ألقت في قلوبهم الرعب {وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا} أي وهو تعالى مطلع على ما تعملون من حفر الخندق، والثبات على معاونة النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك الوقت {إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ} أي حين جاءتكم الأحزاب من فوق الوادي يعني أدناه قبل المغرب، ومنه جاءت أسد وغطفان {وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ } أي ومن أسفل الوادي يعني أدناه قبل الغرب، ومنه جاءت قريش وكنانة وأوباش العرب، والغرضُ أن المشركين جاءوهم من جهة المشرق والمغرب، وأحاطوا بالمسلمين إحاطة السوار بالمعصم، وأعانهم يهود بني قريظة فنقضوا العهد مع الرسول وانضموا إلى المشركين، فاشتد الخوف، وعظُم البلاء ولهذا قال تعالى {وَإِذْ زَاغَتِ الأَبْصَارُ} أي وحين مالت الأبصار عن سننها ومستوى نظرها حيرةً وشخوصاً لشدة الهول والرعب {وَبَلَغتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ} أي زالت عن أماكنها من الصدور حتى كادت تبلغ الحناجر، وهذا تمثيلٌ لشدة الرعب والفزع الذي دهاهم، حتى كأن أحدهم قد وصل قلبه إلى حنجرته من شدة ما يلاقي من الهول {وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا} أي وكنتم في تلك الحالة الشديدة تظنون الظنون المختلفة، قال الحسن البصري: ظن المنافقون أن المسلمين يُستأصلون، وظنَّ المؤمنون أنهم يُنصرون، فالمؤمنون ظنوا خيراً، والمنافقون ظنوا شراً، وقال ابن عطية: كاد المؤمنون يضطربون ويقولون: ما هذا الخُلف للوعد؟ وهذه عبارة عن خواطر خطرت للمؤمنين لا يمكن للبشر دفعها، وأما المنافقون فتعجلوا ونطقوا وقالوا: ما وعدنا الله ورسوله إلا غروراً {هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ} أي في ذلك الزمان والمكان امتحن المؤمنون واختبروا، ليتميز المخلص الصادق من المنافق، قال القرطبي: وكان هذا الابتلاءُ بالخوف والقتال، والجوع والحصر والنزال {وَزُلْزِلُوا زِلْزَالا شَدِيدًا} أي وحرّكوا تحريكاً عنيفاً من شدة ما دهاهم، حتى لكأن الأرض تتزلزل بهم وتضطرب تحت أقدامهم، قال ابن جزي: وأصل الزلزلة شدةُ التحريك وهو هنا عبارة عن اضطراب القلوب وتزعزعها {وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} أي واذكر حين يقول المنافقون، والذين في قلوبهم مرض النفاق، لأن الإِيمان لم يخالط قلوبهم {مَا وَعدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلا غُرُورًا} أي ما وعدنا الله ورسوله إلا باطلاً وخداعاً، قال الصاوي: والقائل هو "معتب بن قشير" الذي قال: يعدنا محمدٌ بفتح فارس والروم، وأحدُنا لا يقدر أن يتبرز فرقاً، ما هذا إلا وعد غرور، يغرنا به محمد {وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ} أي واذكر حين قالت جماعة من المنافقين وهم: أوس بن قيظي وأتباعه، وأُبيُّ بن سلول وأشياعه {يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقَامَ لَكُمْ} أي يا أهل المدينة لا قرار لكم ههنا ولا إقامة {فَارْجِعُوا} أي فارجعوا إلى منازلكم واتركوا محمداً وأصحابه {وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ النَّبِيَّ} ويستأذن جماعة من المنافقين النبي صلى الله عليه وسلم في الانصراف متعللين بعلل واهية {يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ} أي غير حصينة فنخاف عليها العدوَّ والسُّراق {وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ} تكذيب من الله تعالى لهم أي ليس الأمر كما يزعمون {إِنْ يُرِيدُونَ إِلا فِرَارًا} أي ما يريدون بما طلبوا من الرسول صلى الله عليه وسلم إلا الهرب من القتال، والفرار من الجهاد، والتعبيرُ بالمضارع {وَيَسْتَأْذِنُ} لاستحضار الصورة في النفس، فكأن السامع يبصرهم الآن وهم يستأذنون، ثم فضحهم تعالى وبيَّن كذبهم ونفاقهم فقال {وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطَارِهَا} أي ولو دخل الأعداء على هؤلاء المنافقين من جميع نواحي المدينة وجوانبها {ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لآتَوْهَا} أي ثم طلب إليهم أن يكفروا وأن يقاتلوا المسلمين لأعطوها من أنفسهم {وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلا يَسِيرًا} أي لفعلوا ذلك مسرعين، ولم يتأخروا عنه لشدة فسادهم، وذهاب الحق من نفوسهم، فهم لا يحافظون على الإِيمان ولا يستمسكون به مع أدنى خوف وفزع، وهذا ذمٌ لهم في غاية الذم {وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الأَدْبَارَ} أي ولقد كان هؤلاء المنافقون أعطوا ربهم العهود والمواثيق من قبل غزوة الخندق وبعد بدر ألا يفروا من القتال {وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْئُولا} أي وكان هذا العهد منهم جديراً بالوفاء لأنهم سيسألون عنه، وفيه تهديدٌ ووعيد، قال قتادة: لما غاب المنافقون عن بدر، ورأوا ما أعطى الله أهل بدرٍ من الكرامة والنصر، قالوا لئن أشهدنا الله قتالاً لنقاتلن {قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمْ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنْ الْمَوْتِ أَوْ الْقَتْلِ} أي قل يا أيها النبي لهؤلاء المنافقين، الذين يفرون من القتال طمعاً في البقاء وحرصاً على الحياة، إن فراركم لن يطوّل أعماركم ولن يؤخر آجالكم، ولن يدفع الموت عنكم أبداً {وَإِذًا لا تُمَتَّعُونَ إِلا قَلِيلا} أي ولئن هربتم وفررتم فإِذاً لا تمتعون بعده إلا زمناً يسيراً، لأن الموت مآل كل حي، ومن لم يمت بالسيفِ مات بغيره {قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ} أي من يستطيع أن يمنعكم منه تعالى {إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً} أي إن قدَّر هلاككم ودماركم، أو قدَّر بقاءكم ونصركم؟ {وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا} أي وليس لهم من دون الله مجير ولا مغيث، فلا قريب ينفعهم ولا ناصر ينصرهم {قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ} أي لقد علم الله تعالى ما كان من أمر أولئك المنافقين، المثبطين للعزائم، الذين يعوّقون الناس عن الجهاد، ويصدونهم عن القتال {وَالْقَائِلِينَ لإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا} أي والذين يقولون لإِخوانهم في الكفر والنفاق: تعالوا إلينا واتركوا محمداً وصحبه يهلكوا ولا تقاتلوا معهم، قال تعالى {وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلا قَلِيلا} أي ولا يحضرون القتال إلا قليلاً منهم رياءً وسمعة، قال الصاوي: لأن شأن من يثبّط غيره عن الحرب ألاّ يفعله إلا قليلاً لغرضٍ خبيث، وقال في البحر: المعنى: لا يأتون القتال إلا إتياناً قليلاً، يخرجون مع المؤمنين يوهمونهم أنهم معهم، ولا تراهم يقاتلون إلا شيئاً قليلاً إذا اضطروا إليه، فقتالهُم رياء ليس بحقيقة {أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ} أي بخلاء عليكم بالمودة والشفقة والنصح لأنهم لا يريدون لكم الخير {فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ} أي فإِذا حضر القتال رأيت أولئك المنافقين في شدة رعب لا مثيل لها، حتى إنهم لتدور أعينهم في أحداقهم كحال المغشي عليه من معالجة سكرات الموت حَذراً وخَوراً، قال القرطبي: وصفهم بالجبن، وكذا سبيل الجبان ينظر يميناً وشمالاً محدّداً بصره، وربما غُشي عليه من شدة الخوف {فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ} أي فإِذا ذهب الخوف عنهم وانجلت المعركة آذوكم بالكلام بألسنة سليطة، وبالغوا فيكم طعناً وذماً، قال قتادة: إذا كان وقت قسمة الغنيمة بسطوا ألسنتهم فيكم، يقولون: أعطونا أعطونا فإِنا قد شهدنا معكم، ولستم أحقَّ بها منا، فأما عند البأس فأجبن قومٍ وأخذلهم للحق، وأمّا عند الغنيمة فأشح قوم وأبسطهم لساناً {أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ} أي خاطبوكم بما خاطبوكم به حال كونهم أشحة أي بخلاء على المال والغنيمة { أُوْلَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا} أي أولئك الموصوفون بما ذكر من صفات السوء، لم يؤمنوا حقيقةً بقلوبهم وإِن أسلموا ظاهراً {فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ} أي أبطلها بسبب كفرهم ونفاقهم، لأن الإِيمان شرط في قبول الأعمال {وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا} أي وكان ذلك الإِحباط سهلاً هيناً على الله، ثم أخبر تعالى عنهم بما يدل على جبنهم فقال {يَحْسَبُونَ الأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا} أي يحسب المنافقون من شدة خوفهم وجبنهم أن الأحزاب -وهم كفار قريش ومن تحزب معهم- بعد انهزامهم لم ينصرفوا عن المدينة وهم قد انصرفوا {وَإِنْ يَأْتِ الأَحْزَابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِي الأَعْرَابِ } أي وإِن يرجع إليهم الكفار كرة ثانية للقتال يتمنوا لشدة جزعهم أن يكونوا في البادية مع الأعراب -لا في المدينة معكم- حذراً من القتل وتربصاً للدوائر {يَسْأَلُونَ عَنْ أَنْبَائِكُمْ} أي يسألون عن أخباركم وما وقع لكم فيقولون: أهلك المؤمنون؟ أغلب أبو سفيان؟ ليعرفوا حالكم بالاستخبار لا بالمشاهدة {وَلَوْ كَانُوا فِيكُمْ مَا قَاتَلُوا إِلا قَلِيلا} أي ولو أنهم كانوا بينكم وقت القتال واحتدام المعركة ما قاتلوا معكم إلا قتالاً قليلاً لجبنهم وذلتهم وحرصهم على الحياة.



{لَقدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ } أي لقد كان لكم أيها المؤمنون في هذا الرسول العظيم قدوةٌ حسنة، تقتدون به صلى الله عليه وسلم في إخلاصه، وجهاده، وصبره، فهو المثل الأعلى الذي يجب أن يُقتدى به، في جميع أقواله وأفعاله وأحواله، لأنه لا ينطق ولا يفعل عن هوى، بل عن وحيٍ وتنزيل، فلذلك وجب عليكم تتبع نهجه، وسلوك طريقه {لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ} أي لمن كان مؤمناً مخلصاً يرجو ثواب الله، ويخاف عقابه {وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} أي وأكثر من ذكر ربه، بلسانه وقلبه، قال ابن كثير: أمر تبارك وتعالى الناسَ بالتأسي بالنبي صلى الله عليه وسلم في صبره ومصابرته، ومجاهدته ومرابطته، ولهذا قال للذين تضجروا وتزلزلوا، واضطربوا يوم الأحزاب {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} والمعنى: هلاّ اقتديتم به وتأسيتم بشمائله صلى الله عليه وسلم ‍‍‍‍ ثم حكى تعالى موقف المؤمنين الصادقين في غزوة الأحزاب أثناء رؤيتهم جنود قريش ومن تحزب معهم، وما صدر عن المؤمنين من إخلاصٍ ويقين، تُظهر بوضوح روح الإِيمان والتضحية فقال {وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ} أي ولَّما رأى المؤمنون الكفار قادمين نحوهم، وقد أحاطوا بهم من كل جانب إحاطة السوار بالمعصم، قالوا: هذا ما وعدنا به الله ورسولُه، من المحنة والابتلاء، ثم النصر على الأعداء {وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ} أي صدق الله في وعده، ورسولُه فيما بشرنا به، قال المفسرون: لما كان المسلمون يحفرون الخندق اعترضتهم صخرة عظيمة عجزوا عن تكسيرها، فأخبروا الرسول صلى الله عليه وسلم بها فجاء وأخذ المعول وضربها ثلاث ضربات أضاءت له منها مدائن كسرى، وقصور الروم، فقال: أبشروا بالنصر، فلما أقبلت جموع المشركين ورأوهم قالوا {هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ} {وَمَا زَادَهُمْ إِلا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا} أي وما زادهم ما رأوه من كثرة جند الأحزاب، ومن شدة الضيق والحصار، إلا إيماناً قوياً عميقاً بالله، واستسلاماً وانقياداً لأوامره {مِنْ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ} أي ولقد كان من أولئك المؤمنين رجالٌ صادقون، نذروا أنهم إذا أدركوا حرباً مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثبتوا وقاتلوا حتى يستشهدوا {فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ} أي فمنهم من وفىّ بنذره وعهده حتى استشهد في سبيل الله كأنس بن النضر وحمزة {وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ} أي ومنهم من ينتظر الشهادة في سبيل الله { وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلا} أي وما غيَّروا عهدهم الذي عاهدوا عليه ربهم أبداً {لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ} أي ليجزي الله الصادقين بسبب صدقهم وحسن صنيعهم أحسن الجزاء في الآخرة {وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ} أي ويعذّب المنافقين الناقضين للعهود بأن يميتهم على النفاق فيعذبهم، أو يتوب عليهم فيرحمهم {إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا} أي واسع المغفرة رحيماً بالعباد، قال ابن كثير: ولما كانت رحمته ورأفته تبارك وتعالى هي الغالبة لغضبه ختم بها الآية الكريمة {وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ} أي وردَّ الله الأحزاب الذين تألبوا على غزو المدينة خائبين خاسرين، مغيظين محنقين، لم يشف صدورهم بنيل ما أرادوا {لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا} أي حال كونهم لم ينالوا أيَّ خير لا في الدنيا ولا في الآخرة، بل قد اكتسبوا الآثام في مبارزة الرسول عليه السلام وهمّهم بقتله {وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ} أي كفاهم شرَّ أعدائهم بأن أرسل عليهم الريح والملائكة حتى ولّوا الأدبار منهزمين {وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا} أي قادراً على الانتقام من أعدائه، عزيزاً غالباً لا يُقهر، ولهذا كان عليه السلام يقول: (لا إله إلا الله وحده، نصر عبده، وأعزَّ جنده، وهزم الأحزاب وحده) {وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ } أي وأنزل اليهود -وهم بنو قريظة- الذين أعانوا المشركين ونقضوا عهدهم وانقلبوا على النبي وأصحابه، أنزلهم من حصونهم وقلاعهم التي كانوا يتحصنون فيها {وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمْ الرُّعْبَ} أي ألقى الله في قلوبهم الخوف الشديد حتى فتحوا الحصون واستسلموا، قال ابن جزي: نزلت الآية في يهود "بني قريظة" وذلك أنهم كانوا معاهدين لرسول الله صلى الله عليه وسلم فنقضوا عهده وصاروا مع قريش، فلما انهزم المشركون وانصرفت قريش عن المدينة حاصر رسول الله صلى الله عليه وسلم بني قريظة حتى نزلوا على حكم "سعد بن معاذ" فحكم بأن يُقتل رجالهم، وتُسبى نساؤهم وذريتهم فذلك قوله تعالى {فَرِيقًا تَقْتُلُونَ} يعني الرجال وقد قتل منهم يومئذٍ ما بين الثمانمائة والتسعمائة {وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا} يعني النساء والذرية {وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ} أي وأورثكم يا معشر المؤمنين أرض بني قريظة وعقارهم وخيلهم ومنازلهم وأموالهم التي تركوها {وَأَرْضًا لَمْ تَطَئُوهَا} أي وأرضاً أخرى لم تطؤوها بعدُ بأقدامكم، وهي خيبر لأنها أخذت بعد قريظة، وكل أرض فتحها المسلمون بعد ذلك {وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا} أي قادراً على كل ما أراد، لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، قال أبو حيان: ختم تعالى هذه الآية ببيان قدرته على كل شيء، وكأن في ذلك إشارة إلى فتحه على المسلمين الفتوح الكثيرة، فكما ملَّكهم هذه الأراضي فكذلك هو قادر على أن يملّكهم غيرها من البلاد.





تخيير زوجات الرسول صلى الله عليه وسلم بين الدنيا والآخرة



{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلا(28)وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا(29)يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا(30)}.



سبب النزول:

نزول الآية (28):

{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ}: روى أحمد ومسلم والنسائي عن جابر رضي الله عنه قال: "أقبل أبو بكر رضي الله عنه يستأذن على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم يؤذن له، ثم أقبل عمر، فاستأذن، فلم يؤذن له، ثم أذن لهما، فدخلا، والنبي صلى الله عليه وسلم جالس، وحوله نساؤه، وهو ساكت، فقال عمر: لأُكلمنَّ النبي صلى الله عليه وسلم لعله يضحك، فقال عمر: يا رسول الله، لو رأيت ابنة زيد -امرأة عمر- سألتني النفقة آنفاً، فوجأت عنقها، فضحك النبي صلى الله عليه وسلم حتى بدا ناجذه، وقال: هن حولي يسألنني النفقة، فقام أبو بكر إلى عائشة ليضربها، وقام عمر إلى حفصة، كلاهما يقول: تسألان النبي صلى الله عليه وسلم ما ليس عنده، وأنزل الله الخيار، فبدأ بعائشة،فقال: إني ذاكر لك أمراً ما أحب أن تعجلي فيه، حتى تستأمري أبويك، قالت: ما هو؟ فتلا عليها: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ} الآية. قالت: أفيك أستأمر أبوي؟ بل أختار الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وأسألك ألا تذكر لامرأة من نسائك ما اخترتُ، فقال صلى الله عليه وسلم: إن الله تعالى لم يبعثني مُعَنِّفاً، ولكن بعثني مُعَلِّماً ميسراً، لا تسألني امرأة منهن عما اخترتِ إلا أخبرتها".



{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ} أي قل لزوجاتك اللاتي تأذيتَ منهن بسبب سؤالهن إياك الزيادة في النفقة {إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا} أي إن رغبتُنَّ في سعة الدنيا ونعيمها، وبهرجها الزائل {فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ} أي فتعالينَ حتى أدفع لكنَّ متعة الطلاق {وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلا} أي وأطلقكُنَّ طلاقاً من غير ضرار {وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الآخِرَةَ} أي وإِن كنتُنَّ ترغبن في رضوان الله ورسوله، والفوز بالنعيم الوافر في الدار الآخرة {فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا} جواب الشرط أي فإِن الله تعالى قد هيأ للمحسنات منكنَّ بمقابلة إحسانهن ثواباً كبيراً لا يوصف، وهو الجنة التي فهيا ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، قال في البحر: لما نصر الله نبيه، وفرَّق عنه الأحزاب، وفتح عليه قريظة والنضير، ظنَّ أزواجه أنه اختصَّ بنفائس اليهود وذخائرهم، فقعدن حوله وقلن يا رسول الله: بناتُ كسرى وقيصر في الحُليّ والحُلَل، ونحن علىما تراه من الفاقة والضيق!! وآلمن قلبه بمطالبتهن له بتوسعة الحال، وأن يعاملهنَّ بما يعامل به الملوك والأكابر أزواجهم، فأمره الله أن يتلو عليهن ما نزل في أمرهنَّ، وأزواجه إذ ذاك تسع زوجات {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} أي من تفعل منكن كبيرةً من الكبائر، أو ذنباً تجاوز الحدَّ في القبح، قال ابن عباس: يعني النشوز وسوء الخلق {يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ} أي يكون جزاؤها ضعف جزاء غيرها من النساء، لأن زيادة قبح المعصية تتبع زيادة الفضل والمرتبة {وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا} أي كان ذلك العقاب سهلاً يسيراً على الله، لا يمنعه منه كونهنَّ أزواج ونساء النبي صلى الله عليه وسلم، وفي الآية تلوينٌ للخطاب، فبعد أن كانت المخاطبة لهن على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم وجَّه الخطاب إليهنَّ هنا مباشرةً لإِظهار الاعتناء بأمرهن ونصحهن، قال الصَّاوي: وهذه الآيات خطاب من الله لأزواج النبي صلى الله عليه وسلم إظهاراً لفضلهن، وعظم قدرهن عند الله تعالى، لأن العتاب والتشديد في الخطاب مشعر برفعة رتبتهن، لشدة قربهن من رسول الله صلى الله عليه وسلم ولأنهن أزواجه في الجنة، فبقدر القرب من رسول الله يكون القرب من الله.



خصائص أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم





{وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا كَرِيمًا(31)يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنْ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلا مَعْرُوفًا(32)وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمْ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا(33) وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ ءاياتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا(34)}.



{وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ} أي ومن تواظب منكنَّ على طاعة الله وطاعة رسوله {وَتَعْمَلْ صَالِحًا} أي وتتقرب إلى الله بفعل الخير وعمل الصالحات { نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ} أي نعطها الثواب مضاعفاً ونثيبها مرتين: مرة على الطاعة والتقوى، وأخرى على طلبهنَّ رضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقناعة وحسن المعاشرة {وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا كَرِيمًا} أي وهيأنا لها في الجنة -زيادة على ما لها من أجر- رزقاً حسناً مرضياً لا ينقطع، ثم أظهر فضيلتهنَّ على النساء فقال {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ} أي أنتن تختلفن عن سائر النساء من جهة أنكنَّ أفضل وأشرف من غيركن، لكونكن زوجات خاتم الرسل، وأفضل الخلق محمد عليه أفضل الصلاة والتسليم، فليست الواحدة منكنَّ كالواحدة من آحاد النساء {إِنْ اتَّقَيْتُنَّ} شرطٌ حذف جوابه لدلالة ما قبله أي إن اتقيتنَّ اللهَ فأنتُنَّ بأعلى المراتب، قال القرطبي: بيَّن تعالى أن الفضيلة إنما تتم لهن بشرط التقوى، لما منحهنَّ الله من صحبة رسوله سيد الأولين والآخرين، وقال ابن عباس: يريد في هذه الآية: ليس قدركنَّ عندي مثل قدر غيركن من النساء الصالحات، أنتُنَّ أكرمُ عليَّ وثوابكنَّ أعظم إن اتقيتُن، فشرط عليهن التقوى بياناً أن فضيلتهن إنما تكون بالتقوى، لا بنفس اتصالهن برسول الله صلى الله عليه وسلم {فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ} أي فلا ترققن الكلام عند مخاطبة الرجال {فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ} أي فيطمع من كان في قلبه فجور وريبة، وحبٌ لمحادثة النساء {وَقُلْنَ قَوْلا مَعْرُوفًا} أي وقلن قولاً حسناً عفيفاً لا ريبة فيه، ولا لين ولا تكسر عند مخاطبتكنَّ للرجال، قال ابن كثير: ومعنى هذا أنها تخاطب الأجانب بكلامٍ ليس فيه ترخيم، ولا تخاطب الأجنبيَّ كما تخاطب زوجها {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ} أي الزَمْنَ بيوتكنَّ ولا تخرجن لغير حاجة، ولا تفعلن كما تفعل الغافلات، المتسكعات في الطرقات لغير ضرورة {وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى} أي لا تظهرن زينتكن ومحاسنكنَّ للأجانب مثل ما كان نساء الجاهلية يفعلن، حيث كانت تخرج المرأة إلى الأسواق مظهرةً لمحاسنها، كاشفة ما لا يليق كشفه من بدنها، قال قتادة: كانت لهن مشية فيها تكسُّرٌ وتغنج فنهى الله تعالى عن ذلك {وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ} أي حافظن على إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، قال ابن كثير: نهاهنَّ أولاً عن الشر، ثم أمرهن بالخير، من إقامة الصلاة وهي عبادة الله وحده، وإيتاء الزكاة وهي الإِحسان إلى المخلوقين {وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} أي أطعن الله ورسوله في جميع الأوامر والنواهي لتنلن مرتبة المتقيات { إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمْ الرِّجْسَ} أي إنما يريد الله أن يخلصكنَّ من دنس المعاصي، ويطهركنَّ من الآثام، التي يتدنس بها عرض الإِنسان كما يتلوث بدنه بالنجاسات {أَهْلَ الْبَيْتِ} أي يا أهل بيت النبوة {وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} أي ويطهركم من أوضار الذنوب والمعاصي تطهيراً بليغاً {وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ ءاياتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ} أي واقرأن ءايات القرآن، وسنة النبي عليه الصلاة والسلام، فإِن فيهما الفلاح والنجاح، قال الزمخشري: ذكّرهن أن بيوتهن مهابط الوحي، وأمرهنَّ ألا ينسين ما يُتلى فيها من الكتاب الجامع بين أمرين: آيات بينات تدل على صدق النبوة، وحكمة وعلوم وشرائع سماوية {إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا} أي عالماً بما يصلح لأمر العباد، خبيراً بمصالحهم ولذلك شرع للناس ما يسعدهم في دنياهم وآخرتهم.

yacine414
2011-04-01, 17:32
مساواة الرجال والنساء في الجزاء والثواب



{إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا(35)}.



ثم أخبر تعالى أن المرأة والرجل في الجزاء والثواب سواء فقال {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ} هم المتمسكون بأوامر الإِسلام المتخلقون بأخلاقه رجالاً ونساءً {وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} أي المصدِّقين بالله وآياته، وما أنزل على رسله وأنبيائه {وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ} أي العابدين الطائعين، المداومين على الطاعة {وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ} أي الصادقين في إيمانهم، ونياتهم، وأقوالهم، وأعمالهم {وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ} أي الصابرين على الطاعات وعن الشهوات في المكره والمنشط {وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ} أي الخاضعين الخائفين من الله جل وعلا، المتواضعين له بقلوبهم وجوارحهم { وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ} أي المتصدقين بأموالهم على الفقراء، بالإِحسان وأداء الزكوات {وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ} أي الصائمين لوجه الله شهر رمضان وغيره من الأيام، فالصوم زكاة البدن يزكيه ويطهّره {وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ} أي عن المحارم والآثام، وعما لا يحل من الزنى وكشف العورات {وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ} أي المديمين ذكر الله بألسنتهم وقلوبهم في كل الأوقات والأمكنة {أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} أي أعدَّ لهؤلاء المتقين الأبرار، المتصفين بالصفات الجليلة أعظم الأجر والثواب وهو الجنة، مع تكفير الذنوب بسبب ما فعلوه من الأعمال الحسنة، وهذا تمام المساواة في الثواب يوم القيامة.





إبطال التبني وقصة زيد بن حارثة وزينب بنت جحش



{وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالا مُبِينًا(36)وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولا(37)مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا(38)الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا(39)مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا(40) }.



نزول الآية (37):

{وَإِذْ تَقُولُ}: أخرج البخاري عن أنس أن هذه الآية نزلت في زينب بنت جحش وزيد بن حارثة. وأخرج الحاكم عن أنس قال: جاء زيد بن حارثة يشكو إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من زينب بنت جحش، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أمسك عليك أهلك، فنزلت: {وَتُخْفِي في نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ}.



نزول الآية (40):

{مَا كَانَ مُحَمَّدٌ..}: أخرج الترمذي عن عائشة قالت: لما تزوج النبي صلى الله عليه وسلم قالوا : تزوج حليلة ابنه، فأنزل الله: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ} الآية.



{وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ} أي لا ينبغي ولا يصح ولا يليق بأي واحدٍ من المؤمنين والمؤمنات {إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا} أي إذا أمر الله عز وجل وأمر رسوله بشيءٍ من الأشياء، قال الصاوي: ذكرُ اسم الله للتعظيم وللإِشارة إلى أن قضاء رسول الله هو قضاء الله لكونه لا ينطق عن الهوى {أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} أي أن يكون لهم رأيٌ أو اختيار، بل عليهم الانقياد والتسليم، قال ابن كثير: وهذه الآية عامة في جميع الأمور، وذلك أنه إذا حكم الله ورسولُه بشيءٍ فليس لأحدٍ مخالفته، ولا اختيار لأحدٍ ولا رأي ولا قول، ولهذا شدَّد النكير فقال {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالا مُبِينًا} أي ومن يخالف أمر الله وأمر رسوله فقد حاد عن الطريق السوي، وأخطأ طريق الصواب، وضلَّ ضلالاً بيناً واضحاً {وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ} أي اذكر أيها الرسول وقت قولك للذي أنعم الله عليه بالهداية للإِسلام {وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ} بالتحرير من العبودية والإِعتاق، قال المفسرون: هو "زيد بن حارثة" كان من سبي الجاهلية اشترته "خديجة" ووهبته لرسول الله صلى الله عليه وسلم فكان مملوكاً عنده ثم أعتقه وتبنَّاه، وزوَّجه ابنة عمته "زينب بنت جحش" رضي الله عنها {أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ} أي أمسك زوجتك زينب في عصمتك ولا تطلقها واتّقِ الله في أمرها {وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ} أي وتضمر يا محمد في نفسك ما سيظهره الله وهو إرادة الزواج بها(1)، قال في التسهيل: الذي أخفاه رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر جائزٌ مباح لا إثم فيه ولا عتب، ولكنه خاف أن يقول الناس تزوج امرأة ابنه إذ كان قد تبناه، فأخفاه حياءً وحشمة وصيانة لعرضه من ألسنتهم، فالذي أخفاه صلى الله عليه وسلم هو إرادة تزوجها ليبطل حكم التبني فأبدى الله ذلك بأن قضى له بتزوجها {وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ} أي تهاب أن يقول الناسُ تزوج محمد حليلة ابنه، واللهُ أحقُّ أن تخشاه وحده، وأن تجهر بما أوحاه إليك من أنك ستتزوج بها بعد أن يطلقها زيدُ، قال ابن عباس: خشي أن يقول المنافقون: تزوج محمد امرأة ابنه {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا} أي فلما قضى زيدٌ حاجته من نكاحها وطلَّقها زوجناك إياها يا محمد، وهذا نصٌ قاطع صريح على أن الذي أخفاه رسول الله صلى الله عليه وسلم هو إرادة الزواج بها بعد تطليق زيدٍ لها تنفيذاً لأمر الوحي، لا حبُّه لها كما زعم الأفَّاكون، ومعنى {زَوَّجْنَاكَهَا} جعلناها زوجةً لك، قال المفسرون: إنَّ الذي تولّى تزويجها هو الله جل وعلا، فلما انقضت عدتها دخل عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم بلا إذنٍ ولا عقدٍ ولا مهرٍ ولا شهود، وكان ذلك خصوصية للرسول صلى الله عليه وسلم، روى البخاري عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: "كانت زينبُ تفخَر على أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وتقول: زوَّجكُنَّ أهاليكُنَّ، وزوَّجني ربي من فوقِ سبع سماوات" ثم ذكر تعالى الحكمة من هذا الزواج فقال {لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا} أي لئلا يكون في تشريع الله على المؤمنين ضيق ومشقة وتأثم في حق تزوج مطلقات الأبناء من التبني، إذا لم يبق لأزواجهن حاجة فيهن، قال ابن الجوزي: المعنى زوجناك زينب -وهي امرأة زيد الذي تبنَّيته- لكيلا يُظنَّ أن امرأة المتبنَّى لا يحل نكاحها {وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولا} أي وكان أمر الله لك، ووحيه إليك بتزوج زينب مقدَّراً محتماً كائناً لا محالة، ولما نفى الحرج عن المؤمنين، نفى الحرج عن سيد المرسلين بخصوصه على سبيل التكريم والتشريف فقال {مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ} أي لا حرج ولا إثم ولا عتاب على النبي فيما أباح الله له وقسم من الزوجات، قال الضحاك: كان اليهود عابوه بكثرة النكاح، فردَّ الله عليهم بقوله {سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ} أي هذه سنة الله في جميع الأنبياء السابقين حيث وسَّع عليهم فيما أباح لهم، قال القرطبي: أي سنَّ لمحمد صلى الله عليه وسلم في التوسعة عليه في النكاح، سنة الأنبياء الماضية كداود وسليمان، فكان لداود مائة امرأة ولسليمان ثلاثمائة امرأة، عدا السُّريات {وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا} أي قضاءً مقضياً، وحكماً مقطوعاً به من الأزل، لا يتغيَّر ولا يتبدَّل، ثم أثنى تعالى على جميع الأنبياء والمرسلين بقوله:{الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاتِ اللَّهِ} أي هؤلاء الذين أخبرتك عنهم يا محمد، وجعلتُ لك قدوة بهم، هم الذين يبلّغون رسالات الله إلى من أُرسلوا إليه {وَيَخْشَوْنهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلا اللَّهَ} أي يخافون الله وحده ولا يخافون أحداً سواه، فاقتد يا محمد بهم {وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا} أي يكفي أن يكون الله محاسباً على جميع الأعمال والأفعال، فينبغي أن لا يُخْشى غيره، ثم أبطل تعالى حكم التبني الذي كان شائعاً في الجاهلية فقال {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ} قال المفسرون: لما تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم زينب قال الناس: إن محمداً قد تزوج امرأة ابنه فنزلت هذه الآية، قال الزمخشري: أي لم يكن أبا رجلٍ منكم على الحقيقة، حتى يثبت بينه وبينه ما يثبت بين الأب وولده من حرمة الصهر والنكاح {وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} أي ولكنّه عليه السلام آخر الأنبياء والمرسلين، ختم الله به الرسالات السماوية، فلا نبيَّ بعده، قال ابن عباس: يريد: لو لم أختم به النبيّين لجعلتُ له ولداً يكون بعده نبياً {وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا} أي هو العالم بأقوالكم وأفعالكم، لا تخفى عليه خافية من أحوالكم.

(1) يتثبّت بعض أعداء الإِسلام بروايات ضعيفة واهية، للطعن في الرسول الكريم والنيل من مقامه العظيم، وجدت في بعض كتب التفسير!! من هذه الروايات الباطلة التي تلقفها "المستشرقون" وخبّوا فيها وأوضعوا، أن الرسول صلى الله عليه وسلم رأى "زينب" وهي متزوجة بزيد بن حارثة فأحبَّها ووقعت في قلبه، فقال "سبحان مقلب القلوب" فسمعتها زينب فأخبرت بها زيداً، فأراد أن يطلقها فقال له الرسول {أمسكْ عليك زوجك} حتى نزل القرآن يعاتبه على إخفائه ذلك .. الخ وهذه رواياتٌ باطلة لم يصح فيها شيء كما قال العلامة "أبو بكر بن العربي" رحمه الله، والآية صريحة في الردِّ على هذا البهتان، فإِن الله سبحانه أخبر بأنه سيظهر ما أخفاه الرسول {وتخفي في نفسك ما الله مُبديه} فماذا أظهر الله تعالى ؟ هل أظهر حب الرسول وعشقه لزينب، أم أن الذي أظهره هو أمره عليه السلام بالزواج بها لحكمة عظيمة جليلة هي إبطال "حكم التبني" الذي كان شائعاً في الجاهلية ولهذا صرح تعالى بذلك وأبداه علناً وجهاراً {فلما قضى زيدٌ منها وطراً زوجناكها لكيلا يكون على المؤمنين حرج في أزواج أدعيائهم} يا قوم اعقلوا وفكروا، وتفهموا الحق لوجه الحق بلا تلبيس ولا تشويش وتبصروا فيما تقولون فمن غير المعقول أن يعاتب الشخص لأنه لم يجاهر بحبه لزوجة جاره ؟ وحاشا الرسول الطاهر الكريم أن يتعلق قلبه، بامرأةٍ هي في عصمة رجل، وأن يخفي هذا الحب حتى ينزل القرآن يعاتبه على إخفائه، فإن مثل هذا لا يليق بأي رجل عادي، فضلاً عن أشرف الخلق عليه أفضل الصلاة والتسليم، وغاية ما في الأمر -كما نقل أبو حيّان- عن علي بن الحسين أنه قال : "أعلم الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن زينب ستكون من أزواجه قبل أن يتزوجها، فلما أتاه زيد يشكوها إليه وقال له : اتق الله وأمسك عليك زوجك، عاتبه الله وقال له : أخبرتك أني مزوجكها وتخفي في نفسك ما اللهُ مبديه"!!! انظر رد الفرية في كتابنا النبوة والأنبياء ص99.





الحث على ذكر الله وتسبيحه صباحاً ومساءً ورحمته تعالى بعبادته



{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا(41)وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلا(42)هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا(43) تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْرًا كَرِيمًا(44)}.



سبب النزول:

نزول الآية (43):

{هُوَ الَّذِي يُصَلِّي..}: أخرج عبد بن حميد عن مجاهد قال: لما نزلت: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ} [الأحزاب: 56] قال أبو بكر رضي الله عنه: يا رسول الله، ما أنزل عليك خيراً إلا أشركنا فيه، فنزلت: {هُوَ الذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ}.



{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا} أي اذكروا الله بالتهليل والتحميد، والتمجيد والتقديس ذكراً كثيراً، بالليل والنهار، والسفر والحضر {وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً} أي وسبحوا ربكم في الصباح والمساء، قال العلماء: خصهما بالذكر لأنهما أفضل الأوقات بسب تنزل الملائكة فيهما {هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ} أي هو جل وعلا يرحمكم على الدوام، ويعتني بأمركم، وبكل ما فيه صلاحكم وفلاحكم {وَمَلائِكَتُهُ} أي وملائكتُه يصلون عليكم أيضاً بالدعاء والاستغفار وطلب الرحمة، قال ابن كثير: والصلاةُ من الله سبحانه ثناؤه على العبد عند الملائكة، وقيل: الصلاة من الله الرحمةُ، ومن الملائكة: الدعاءُ والاستغفار { لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} أي لينقذكم من الضلالة إلى الهدى، ومن ظلمات العصيان إلى نور الطاعة والإِيمان {وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا} أي واسع الرحمة بالمؤمنين، حيث يقبل القليل من أعمالهم، ويعفو عن الكثير من ذنوبهم، لإِخلاصهم في إيمانهم {تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ} أي تحية هؤلاء المؤمنين يوم يلقون ربهم السلامُ والإِكرام في الجنة من الملك العلاّم كقوله تعالى {سَلامٌ قَوْلا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ}{وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْرًا كَرِيمًا} أي وهيأ لهم ثواباً حسناً وهو الجنة وما فيها من النعيم المقيم، قال ابن كثير: والمراد بالأجر الكريم الجنةُ وما فيها من المآكل والمشارب، والملابس والمساكن، والملاذّ والمناظر، مما لا عينٌ رأتْ، ولا أذنٌ سمعتْ، ولا خطر على قلب بشر.





أوصاف النبي صلى الله عليه وسلم، وحكم الطلاق قبل المساس





{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا(45)وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا(46)وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلا كَبِيرًا(47)وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلا(48) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمْ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلا(49)}.



سبب النزول:

نزول الآية (47):

{وَبَشِّرْ الْمُؤْمِنِينَ}: أخرج ابن جرير عن عكرمة والحسن البصري قالا: لما نزل {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} [الفتح: 2] قال رجال من المؤمنين: هنيئاً لك يا رسول الله، قد علمنا بما يُفعل بك، فماذا يُفعل بنا، فأنزل الله {لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ} الآية [الفتح:5]. وأنزل في سورة الأحزاب {وَبَشِّرْ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلا كَبِيرًا}.



ثم لما بيَّن تعالى أنه أخرج المؤمنين من ظلمات الكفر والضلال إلى أنوار الهداية والإِيمان، عقَّبه بذكر أوصاف السراج المنير الذي أضاء الله به الأكوان فقال {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا} أي شاهداً على أمتك وعلى جميع الأمم بأن أنبياءهم قد بلغوهم رسالة ربهم {وَمُبَشِّرًا} أي مبشراً للمؤمنين بجنات النعيم {وَنَذِيرًا} أي ومنذراً للكافرين من عذاب الجحيم {وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ} أي وداعياً للخلق إلى توحيد الله وطاعته وعبادته، بأمره جل وعلا لا من تلقاء نفسك {وَسِرَاجًا مُنِيرًا} أي وأنت يا محمد كالسراج الوهَّاج المضيء للناس، يُهْتدى بك في الدهماء، كما يُهْتدى بالشهاب في الظلماء، قال ابن كثير: أي أنت يا محمد كالشمس في إشراقها وإضاءتها لا يجحدها إلا معاند، وقال الزمخشري: شبَّهه بالسراج المنير لأن الله جلى به ظلمات الشركِ، واهتدى به الضالون، كما يُجلى ظلام الليل بالسراج المنير ويُهْتدى به، فقد وصفه تعالى بخمسة أوصاف كلُّها كمالٌ وجمال، وثناءٌ وجلال، وختمها بأنه صلوات الله عليه هو السراج الوضاء الذي بدَّد الله به ظلمات الضلال، فصلواتُ ربي وسلامه عليه في كل حين وآن {وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلا كَبِيرًا} أي وبشر يا محمد المؤمنين خاصة بأنَّ لهم من الله العطاء الواسع الكبير في جنات النعيم {وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ} أي لا تطعهم فيما يطلبونه منك من المساهلة والملاينة في أمر الدين، بل اثبت على ما أُوحي إليك {وَدَعْ أَذَاهُمْ} أي ولا تكترث بإِذايتهم لك، وصدّهم الناسَ عنك {وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} أي واعتمد في جميع أمورك وأحوالك على الله {وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلا} أي إن الله يكفي من توكل عليه في أمور الدنيا والآخرة، قال الصاوي: وفي الآية إشارة إلى أن التوكل أمره عظيم، فمن توكل على الله كفاه ما أهمَّه من أمور الدنيا والدين، ولما كان الحديث عن نساء النبي صلى الله عليه وسلم وقصة زيد وتطليقه لزينب، جاء الحديث عن نساء المؤمنين والطريقة المثلى في تطليقهن فقال تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمْ الْمُؤْمِنَاتِ} أي يا أيها المؤمنون الذين صدَّقوا بالله ورسوله إذا عقدتم عقد الزواج على المؤمنات وتزوجتموهن { ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ} أي ثم طلقتموهنَّ من قبل أن تجامعوهنَّ، وإِنما خصَّ المؤمنات بالذكر مع أن الكتابيات يدخلن في الحكم، للتنبيه على أن الأليق بالمسلم أن يتخيَّر لنطفته، وألاّ ينكح إلا مؤمنة عفيفة {فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا} أي فليس لكم عليهم حق في العدة تستوفون عددها عليهن، لأنكم لم تعاشروهن فليس هناك احتمال للحمل حتى تحتبسوا المرأة من أجل صيانة نسبكم {فَمَتِّعُوهُنَّ} أي فالواجب عليكم إكرامهن بدفع المتعة بما تطيب نفوسكم به من مالٍ أو كسوةٍ، تطييباً لخاطرهن، وتخفيفاً لشدة وقع الطلاق عليهن {وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلا} أي وخلّوا سبيلهنَّ تخليةً بالمعروف، من غير إضرار ولا إيذاء، ولا هضمٍ لحقوقهن، قال أبو حيان: والسراحُ الجميلُ هو كلمة طيبة دون أذى ولا منع واجب.





النساء اللاتي أحلَّ الله لنبيه الزواج بهنّ



{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالاتِكَ اللاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ لِكَيْلا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا(50)تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ وَمَنْ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكَ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلا يَحْزَنَّ وَيَرْضَينَ بِمَا آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَلِيمًا(51)لا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلا مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيبًا(52)}.



سبب النزول:

نزول الآية (50):

{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ}: أخرج الترمذي وحسنه والحاكم وصححه عن ابن عباس عن أم هانئ بنت أبي طالب قالت: خطبني رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاعتذرت إليه، فعذَرني، فأنزل الله: { إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ} إلى قوله: {اللاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ} فلم أكن أحل له، لأني لم أهاجر.



وأخرج ابن أبي حاتم عن أم هانئ قالت: نزلت فيّ هذه الآية: {وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالاتِكَ اللاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ}. أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يتزوجني، فنُهي عني، إذ لم أهاجر.



وقوله تعالى: {وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً}: أخرج ابن سعد عن عكرمة في قوله: {وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً} الآية قال: نزلت في أم شريك الدوسية. وأخرج ابن سعد عن منير بن عبد الله الدؤلي أن أم شريك غزية بنت جابر بن حكيم الدوسية عرضت نفسها على النبي صلى الله عليه وسلم، وكانت جميلة، فقبلها، فقالت عائشة: ما في امرأة حين تهب نفسها لرجل خير، قالت أم شريك: فأنا تلك، فسماها الله مؤمنة، فقال: {وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ} فلما نزلت هذه الآية، قالت عائشة: إن الله يسارع لك في هواك.



نزول الآية (51):

{تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ}: أخرج الشيخان عن عائشة: أنها كانت تقول: أما تستحي المرأة أن تهب نفسها ‍‍‍ فأنزل الله: {تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ} الآية، فقالت عائشة: أرى ربك يسارع لك في هواك.



نزول الآية (52):

{لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ}: أخرج ابن سعد عن عكرمة قال: لما خيَّر رسول الله صلى الله عليه وسلم أزواجه اخترن الله ورسوله، فأنزل الله: {لا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ}.



ثم ذكر تعالى ما يتعلق بأحوال زوجات الرسول صلى الله عليه وسلم فقال{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ} أي إنا قد أبحنا لك يا محمد عدداً من النساء، توسعة عليك وتيسيراً لك في تبليغ الدعوة، فمن ذلك أننا أبحنا لك زوجاتك اللاتي تزوجتهن بصداقٍ مُسمَّى، وهُنَّ في عصمتك{وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ} أي وأبحنا لك أيضاً النساء اللاتي يملكن في الحرب بطريق الانتصار على الكفار، وإنما قيَّدهن بطريق الغنائم لأنهن أفضلُ من اللائي يُمْلكهن بالشراء، فقد بدل في إحرازهنَّ جهدٌ ومشقة لم يكن في الصنف الثاني{وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالاتِكَ اللاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ} أي وأبحنا لك قريباتك من بنات الأعمام والعمات، والأخوال والخالات بشرط الهجرة معك{وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ} أي وأحللنا لك النساء المؤمناتِ الصالحات اللواتي وهبن أنفسهن لك، حباً في الله ورسوله وتقرباً لك{إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنكِحَهَا} أي إن أردت يا محمد أن تتزوج من شئت منهن بدون مهر{خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} أيخاصة لك يا محمد دون سائر المؤمنين، فإنه لا يحل لهم التزوج بدون مهر، ولا تصح الهبة، بل يجب مهر المثل{قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} أي قد علمنا ما أوجبنا على المؤمنين من نفقةٍ، ومهر، وشهود في العقد، وعدم تجاوز أربع من النساء، وما أبحنا لهم من ملك اليمين عدا الحرائر، وأما أنت فقد خصصناك بخصائص تيسيراً لك{لِكَيْلا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ} أي لئلا يكون عليك مشقة أو ضيق{وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} أي عظيم المغفرة واسع الرحمة{تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ} أي ولك-أيها النبي-الخيار في أن تطلق من تشاء من زوجاتك، وتمسك من تشاء منهن{وَمَنْ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكَ} أي وإذا أحببتَ أن تؤوي إليك امرأة ممن عزلتَ من القسمة فلا إثم عليك ولا عتب{ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ تَقَرَّ أَعْينُهُنَّ وَلا يَحْزَنَّ وَيَرْضينَ بِمَا آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ} أي ذلك التخيير الذي خيرناك في أمرهنَّ أقرب أن ترتاح قلوبهن فلا يحزنَّ، ويرضين بصنيعك، لأنهن إذا علمن أن هذا أمرٌ من الله، كان أطيب لأنفسهن فلا يشعرن بالحزن والألم{وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِكُمْ } خطابٌ للنبي على جهة التعظيم أي يعلم ما في قلبك يا محمد وما في قلب كل إنسان، من عدل أوميل، ومن حب أو كراهية، وإنما خيرناك فيهن تيسيراً عليك فيما أردت{وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَلِيمًا} أي واسع العلم يعلم جميع ما تظهرون وما تخفون، حليماً يضع الأمور في نصابها ولا يعالج بالعقوبة، بل يُؤخر ويمهل لكنه لا يُهْمل، روى البخاري عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: "كنتُ أغار من اللاتي وهبن أنفسهن للنبي صلى الله عليه وسلم، وأقول: أتهبُ المرأة نفسها؟ فلما نزلت {تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ وَمَنْ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكَ} قلت: ما أرى ربك إلاّ يسارع في هواك"، ثم قال تعالى {لا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ} أي لا يحل لك أيها النبي النساء من بعد هؤلاء التسع اللاتي في عصمتك {وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ} أي ولا يحلّ لك أن تطلّق واحدة منهن وتنكح مكانها أُخرى {وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ} أي ولو أعجبك جمال غيرهن من النساء {إِلا مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ} أي إلا ما كان من الجواري والإِماء فلا بأس في ذلك لأنهن لسن زوجات {وَكَانَ اللَّهُ عَلَىكُلِّ شَيْءٍ رَقِيبًا} أي مطلعاً على أعمالكم شاهداً عليها، وفيه تحذير من مجاوزة حدوده، وتخطي حلاله وحرامه. قال المفسرون: أباح الله لرسوله أصنافاً أربعة "الممهورات، المملوكات، المهاجرات، الواهبات أنفسهن" توسعة عليه صلى الله عليه وسلم وتيسيراً له في نشر الرسالة وتبليغ الدعوة، ولما نزلت آية التخيير {قُلْ لأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا..} الآية وخيَّرهن عليه السلام، واخترن الله ورسوله والدار الآخرة، أكرمهن الله تعالى بأن قصره عليهن، وحرَّم عليه أن يتزوج بغيرهن.





آداب الدخول لبيت النبي صلى الله عليه وسلم وحجاب نسائه



{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْييِ مِنْكُمْ وَاللَّهُ لا يَسْتَحْييِ مِنْ الْحَقِّ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمًا(53)إِنْ تُبْدُوا شَيْئًا أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا(54)لا جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِي ءابائِهِنَّ وَلا أَبْنَائِهِنَّ وَلا إِخْوَانِهِنَّ وَلا أَبْنَاءِ إِخْوَانِهِنَّ وَلا أَبْنَاءِ أَخَوَاتِهِنَّ وَلا نِسَائِهِنَّ وَلا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ وَاتَّقِينَ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا(55)}.



سبب النزول:

نزول الآية (53):

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا}: أخرج أحمد والشيخان وابن جرير والبيهقي وابن مردويه عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: "لما تزوج النبي صلى الله عليه وسلم زينب بنت جَحْش، دعا القوم، فطَعِمُوا، ثم جلسوا يتحدثون، فإذا كأنه يتهيأ للقيام، فلم يقوموا، فلما رأى ذلك قام وقام من القوم من قام، وقعد ثلاثة، ثم انطلقوا، فجئت، فأخبرت النبي صلى الله عليه وسلم أنهم انطلقوا، فجاء حتى دخل، وذهبت أدخل، فألقى الحجاب بيني وبينه، وأنزل الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ} إلى قوله: {إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمًا}.



{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ} الإِضافة للتشريف والتكريم، والآية توجيه للمؤمنين لهذا الأدب السامي العظيم، والمعنى لا تدخلوا بيوت النبي في حالٍ من الأحوال إلا في حال الإِذن لكم منه عليه السلام، مراعاةً لحقوق نسائه، وحرصاً على عدم إيذائه والإِثقال عليه { إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ} أي إلاّ حين يدعوكم إلى طعام غير منتظرين نُضْجه {وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا} أي ولكنْ إذا دُعيتم وأُذن لكم في الدخول فادخلوا {فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا} أي فإِذا انتهيتم من الطعام فتفرقوا إلى دوركم ولا تمكثوا {وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ} معطوف على "غير ناظرين" أي لا تدخلوا بيوته منتظرين للطعام، ولا مستأنسين لحديث بعضكم بعضاً، قال أبو حيان: نهُوا أن يطيلوا الجلوسَ يستأنس بعضهم ببعض لحديثٍ يحدثه به {إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ} أي إن صنيعكم هذا يؤذي الرسول، ويضايقه ويثقل عليه، ويمنعه من قضاءِ كثيرٍ من مصالحه وأموره {فَيَسْتَحْيِ مِنْكُمْ} أي فيستحيي من إخراجكم، ويمنعه حياؤه أن يأمركم بالانصراف، لخُلقه الرفيع، وقلبه الرحيم {وَاللَّهُ لا يَسْتَحْيِ مِنْ الْحَقِّ} أي واللهُ جل وعلا لا يترك بيان الحق، ولا يمنعه مانع من إظهار الحق وتبيانه لكم، قال القرطبي: هذا أدبٌ أدَّب الله به الثقلاء، وفي كتاب الثعلبي: حسبك من الثقلاء أن الشرع لم يحتملهم {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} أي وإِذا أردتم حاجةً من أزواجه الطاهرات فاطلبوه من وراء حاجزٍ وحجاب {ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ} أي سؤالكم إياهنَّ المتاع من وراء حجاب أزكى لقلوبكم وقلوبهن وأطهر، وأنفى للريبة وسوء الظن {وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ} أي وما ينبغي لكم ولا يليق بكم أن تؤذوا رسولكم الذي هداكم الله به في حياته {وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا} أي ولا أن تتزوجوا زوجاته من بعد وفاته أبداً، لأنهن كالأمهات لكم، وهو كالوالد فهل يليق بكم أن تؤذوه في نفسه أو أهله؟ { إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمًا} أي إن إيذاءه ونكاح أزواجه من بعده أمر عظيم، وذنب كبير لا يغفره الله لكم، قال أبو السعود: وفيه من تعظيمه تعالى لشأن رسوله صلى الله عليه وسلم وإِيجاب حرمته حياً وميتاً ما لا يخفى ثم قال تعالى: {إِنْ تُبْدُوا شَيْئًا أَوْ تُخْفُوهُ} أي إن تظهروا أمراً من الأمور أو تخفوه في صدوركم {فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا} أي فإِن الله عالم به وسيجازيكم عليه، قال البيضاوي: وفي هذا التعميم مع البرهان على المقصود مزيد تهويلٍ ومبالغة في الوعيد، ثم لما أنزل تعالى الحجاب استثنى المحارم فقال {لا جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِي ءابائِهِنَّ وَلا أَبْنَائِهِنَّ وَلا إِخْوَانِهِنَّ وَلا أَبْنَاءِ إِخْوَانِهِنَّ وَلا أَبْنَاءِ أَخَوَاتِهِنَّ وَلا نِسَائِهِنَّ وَلا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ} أي لا حرج ولا إثم على النساء في ترك الحجاب أمام المحارم من الرجال، قال القرطبي: لما نزلت آية الحجاب قال الآباء والأبناء لرسول الله صلى الله عليه وسلم: ونحنُ أيضاً نكلمهنَّ من وراء حجاب؟ فنزلت هذه الآية، والمراد بـ {نِسَائِهِنَّ} نساءُ المؤمنين قال ابن عباس، لأن نساء اليهود والنصارى يصفن لأزواجهن النساء المسلمات، فلا يحل للمسلمة أن تُبدي شيئاً منها لئلا تصفها لزوجها الكافر {وَاتَّقِينَ اللَّهَ} أي اتَّقين يا معشر النساء اللهَ، واخشينه في الخلوة والعلانية {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا} أي لا تخفى عليه خافية من أموركن، يعلم خطرات القلوب كما يعلم حركات الجوارح، قال الرازي: وهذا في غاية الحسن في هذا الموضع، لأن ما سبق إشارة إلى جواز الخلوة بهم والتكشف لهم، فختمها بأن الله شاهد عند اختلاء بعضهم ببعض، فالخلوة عنده مثل الجلوة فعليهم أن يتقوا الله.





الأمر بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم وجزاء من يؤذيه ويؤذي المؤمنين



{إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا(56)إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمْ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا(57)وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا(58)}.



سبب النزول:

نزول الآية (57):

{إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ}: أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} الآية قال:نزلت في الذين طعنوا النبي صلى الله عليه وسلم حين اتخذ صفية بنت حُييّ زوجة له.



نزول الآية (58):

{وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ} قال ابن عباس: أنزلت في عبد الله بن أبي وناس ومَنْ معه قذفوا عائشة رضي الله عنها، فخطب النبي صلى الله عليه وسلم وقال: "من يَعْذِرني من رجل يؤذيني، ويجمع في بيته من يؤذيني".



ثم بيَّن تعالى قدر الرسول العظيم فقال {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ} أي إن الله جل وعلا يرحم نبيَّه، ويعظّم شأنه، ويرفع مقامه، وملائكتُه الأبرار يدعون للنبي ويستغفرون له، ويطلبون من الله أن يمجّد عبده ورسوله ويُنيله أعلى المراتب، قال القرطبي: والصلاةُ من الله رحمتُه ورضوانه، ومن الملائكة الدعاء والاستغفار، ومن الأمة الدعاءُ والتعظيمُ لأمره، وقال الصاوي: وهذه الآية فيها أعظم الدليل على أنه صلى الله عليه وسلم مهبط الرحمات، وأفضل الأولين والآخرين على الإِطلاق، إذ الصلاة من الله على نبيه رحمتُه المقرونة بالتعظيم، ومن اللهِ على غير النبي مطلقُ الرحمة كقوله {هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ} فانظر الفرق بين الصلاتين، والفضل بين المقامين، وبذلك صار منبع الرحمات، ومنبعَ التجليات {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} أي فأنتم أيها المؤمنون أكثروا من الصلاة عليه والتسليم، فحقه عليكم عظيم، فقد كان المنقذ لكم من الضلالة إلى الهدى، والمخرج لكم من الظلمات إلى النور، فقولوا كلما ذُكر اسمه الشريف "اللهم صلّ على محمد وآله وسلم تسليماً كثيراً"، عن كعب بن عُجرة قلنا: يا رسول الله: قد عرفنا التسليم عليك فكيف الصلاة عليك؟ فقال: "قولوا اللهم صلّ على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم.." الحديث، قال الصاوي: وحكمةُ صلاةِ الملائكةِ والمؤمنين على النبي صلى الله عليه وسلم تشريفُهم بذلك، حيث اقتدوا بالله جل وعلا في الصلاة عليه وتعظيمه، ومكافأةٌ لبعض حقوقه على الخلق، لأنه الواسطة العظمى في كل نعمةٍ وصلت لهم، وحقٌ على من وصل له نعمة من شخص أن يكافئه، ولما كان الخلق عاجزين عن مكافأته صلى الله عليه وسلم طلبوا من القادر الملك أن يكافئه، وهذا هو السر في قولهم "اللهم صلى علىمحمد" {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} أي يؤذون الله بالكفر ونسبة الصاحبة والولد له، ووصفه بما لا يليق به جل وعلا كقول اليهود {يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ} وقول النصارى "المسيحُ بنُ الله" ويؤذون الرسول بالتكذيب برسالته، والطعن في شريعته، والاستهزاء بدعوته، قال ابن عباس: نزلت في الذين طعنوا على الرسول صلى الله عليه وسلم حين اتخذ صفية بنت حُيي {لَعَنَهُمْ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ} أي طردهم من رحمته، وأحل عليهم سخطه وغضبه في الدنيا بالهوان والصغار، وفي الآخرة بالخلود في عذاب النار {وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا} أي هيأ لهم عذاباً شديداً، بالغَ الغاية في الإِهانة والتحقير {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا} أي يؤذون أهل الإِيمان بغير ما فعلوه، وبغير جنايةٍ واستحقاقٍ للأذى {فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا} أي فقد حمَّلوا أنفسهم البهتان والكذب، والزور، والذنب الواضح الجلي، قال القرطبي: أطلق إيذاء الله ورسوله، وقيَّد إيذاء المؤمنين والمؤمنات، لأن إيذاء الله ورسوله لا يكون إلا بغير حق أبداً، وأما إيذاء المؤمنين والمؤمنات فمنه ومنه.





نزول آية الحجاب



{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا(59)}.



سبب النزول:

نزول الآية (59):

أخرج البخاري عن عائشة قالت: خرجت سَوْدة بعدما ضرب الحجاب لحاجتها، وكانت امرأة جسيمة لا تخفى على من يعرفها، فرآها عمر، فقال: يا سودة، أما والله ما تخفين علينا، فانظري كيف تخرجين، قالت: فانكفأت راجعة ورسول الله صلى الله عليه وسلم في بيتي، وإنه ليتعشى، وفي يده عِرْق، فدخلت، فقالت: يا رسول الله، إني خرجت لبعض حاجتي، فقال لي عمر كذا وكذا، قالت: فأوحى الله إليه، ثم رفع عنه، وإن العِرْق في يده ما وضعه، فقال: إنه قد أُذن لكن أن تخرجن لحاجتكن.



ولما حرَّم تعالى الإِيذاء، أمر نبيه الكريم أن يوجه النداء إلى الأمة جمعاء، للتمسك بالإِسلام وتعاليمه الرشيدة، وبالأخص في أمرٍ اجتماعي خطير وهو "الحجاب" الذي يصون للمرأة كرامتها، ويحفظ عليها عفافها، ويحميها من النظرات الجارحة، والكلمات اللاذعة، والنوايا الخبيثة لئلا تتعرض لأذى الفساق فقال {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ} أي قل يا محمد لزوجاتك الطاهرات -أمهات المؤمنين- وبناتك الفضليات الكريمات، وسائر نساء المؤمنين، قل لهنَّ يلبسن الجلباب الواسع، الذي يستر محاسنهن وزينتهن، ويدفع عنهن ألسنة السوء، ويميزهن عن صفاتِ نساء الجاهلية، روى الطبري: عن ابن عباس أنه قال في هذه الآية: أمر اللهُ نساء المؤمنين إذا خرجن من بيوتهن في حاجة أن يغطين وجوههن من فوق رءوسهن بالجلابيب ويبدين عيناً واحدة، وروى ابن كثير عن محمد بن سيرين قال: سألت عبيدة السلماني عن قول الله عز وجل {يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ} فغطّى وجهه ورأسه وأبرز عينه اليسرى {ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ} أي ذلك التستر أقرب بأن يُعْرفن بالعفة والتستر والصيانة، فلا يطمع فيهن أهل السوء والفساد، وقيل: أقرب بأن يُعرفن أنهن حرائر، ويتميزن عن الإِماء، {وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} أي إنه تعالى غفور لما سلف منهن من تفريط، رحيم بالعباد حيث راعى مصالحهم وشئونهم تلك الجزئيات.



تهديد المنافقين وجزاؤهم



{لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلا قَلِيلا(60)مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلا(61)سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلا(62)}.



ثم هدَّد المولى جل وعلا كل المؤذين من جميع الأصناف بأنواع العقاب فقال {لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} أي لئن لم يترك هؤلاء المنافقون - الذين يُظهرون الإِيمان ويبطنون الكفر - نفاقهم، والزناةُ - الذين في قلوبهم مرض - فجورهم {وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ} أي الذين ينشرون الأراجيف والأكاذيب لبلبلة الأفكار، وخلخلة الصفوف، ونشر أخبار السوء {لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ} أي لنسلطنك عليهم يا محمد {ثُمَّ لا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلا قَلِيلا} أي ثم يخرجون من المدينة فلا يعودون إلى مجاورتك فيها إلا زمناً قليلاً، ريثما يتأهبوا للخروج، قال الرازي: وعد الله نبيه أن يخرج أعداءه من المدينة وينفيهم على يده، إظهاراً لشوكته {مَلْعُونِينَ} أي مبعدين عن رحمته تعالى {أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلا} أي أينما وجدوا وأُدركوا أُخذوا على وجه الغلبة والقهر ثم قُتِّلوا لكفرهم بالله تقتيلاً {سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ} أي هذه سنة الله في المنافقين وعادتُه فيمن سبق منهم أن يُفعل بهم ذلك، قال القرطبي: أي سنَّ الله عز وجل فيمن أرجف بالأنبياء وأظهر نفاقه أن يُؤخذ ويُقتل {وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلا} أي ولن تتغير أو تتبدل سنة الله، لكونها بُنيت على أساسٍ متين، قال الصاوي: وفي الآية تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم أي فلا تحزن على وجود المنافقين يا محمد، فإِن ذلك سنة قديمة لم يخل منهم زمن من الأزمان.



قرب الساعة وبيان أهوالها



{يَسْأَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا(63)إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا(64)خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا(65)يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولا(66)وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا(67)رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنْ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا(68)}.



ثم ذكر تعالى الساعة وأهوالها فقال {يَسْأَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ} أي يسألك يا محمد المشركون على سبيل الاستهزاء والسخرية عن وقت قيام الساعة {قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ} أي قل لهم: لست أعرف وقتها وإنما يعلم ذلك علاّم الغيوب، فإِن الله أخفاها لحكمة ولم يُطلع عليها مَلكاً مقرباً، ولا نبياً مرسلاً {وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا} أي وما يُعلمك أن الساعة تكون في وقت قريب؟ قال أبو السعود: وفيه تهديدٌ للمستعجلين، وتبكيتٌ للمتعنّتين، والإِظهارُ في موضع الإِضمار للتهويل وزيادة التقرير {إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ } أي طرد الكافرين وأبعدهم عن رحمته {وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا} أي وهيأ لهم ناراً شديدة مستعرة {خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا} أي مقيمين في السعير أبد الآبدين {لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا} أي لا يجدون لهم من ينجيهم وينقذهم من عذاب الله {يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ} أي يوم تتقلب وجوههم من جهة إلى جهة كاللحم يُشوى بالنار {يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولا} أي يقولون متحسرين على ما فاتهم: يا ليتنا أطعنا الله ورسوله حتى لا نبتلى بهذا العذاب المهين {وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا} أي أطعنا القادة والأشراف فينا فأضلونا طريق الهدى والإِيمان {رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنْ الْعَذَابِ} أي اجعل عذابهم ضعفي عذابنا، لأنهم كانوا سبب ضلالنا {وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا} أي والعنهم أشد أنواع اللعن وأعظمه.



تحذير المؤمنين من إيذاء الرسول صلى الله عليه وسلم كما آذى اليهود موسى عليه السلام، والأمر بتقوى الله تعالى



{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا(69)يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلا سَدِيدًا(70)يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا(71)}.



ثم حذر تعالى من إيذاء الرسول كما آذى اليهود نبيهم فقال {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا} أي لا تكونوا أمثال بني إسرائيل الذين آذوا نبيهم موسى واتهموه ببرصٍ في جسمه أو أُدْرةٍ لفرط تستره وحيائه، فأظهر الله براءته وأكذبهم فيما اتهموه به روى البخاري عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إنَّ موسى كان رجلاً حيياً ستِّيراً، لا يُرى من جلده شيء استحياء منه، فآذاه من آذاه من بني إسرائيل، فقالوا: ما يتستر هذا التستر إلا من عيبٍ بجلده، إمّا برص وإِما أُدرة - انتفاخ الخصية - وإِما آفة، وإِن الله أراد أن يبرئه مما قالوا لموسى، فخلا يوماً وحده فوضع ثيابه على الحجر ثم اغتسل، فلما فرغ أقبل على ثيابه ليأخذها وإِن الحجَر عدا بثوبه، فأخذ موسى عصاه وطلب الحجر فجعل يقول: ثوبي حجر، ثوبي حجر، حتى مرَّ على ملأٍ من بني إسرائيل فرأوه أحسنَ ما خلق الله عرياناً، وأبرأه مما يقولون) الحديث {وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا} أي وكان موسى ذا وجاهة ورفعة ومكانة عند ربه، قال ابن كثير: أي له وجاهة وجاه عند ربه، لم يسأل شيئاً إلا أعطاه {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلا سَدِيدًا} أي راقبوا الله في جميع أقوالكم وأفعالكم، وقولوا قولاً مستقيماً مرضياً لله، قال الطبري: أي قولاً قاصداً غير جائر، حقاً غير باطل {يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ} أي يوفقكم لصالح الأعمال ويتقبلها منكم، قال ابن عباس: يتقبل حسناتكم {وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ } أي يمحو عنكم الذنوب والأوزار {وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} أي ومن أطاع الله والرسول فقد نال غاية مطلوبه.



التكاليف الشرعية التي كلف الله بها البشرية وأثرها في الجزاء

{إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولا(72) لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا(73)}.



ثم لما أرشدهم إلى مكارم الأخلاق، نبّههم على قدر التكاليف الشرعية التي كلّف الله بها البشرية فقال {إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا} أي عرضنا الفرائض والتكاليف الشرعية على السماواتِ والأرض والجبال الراسيات فأعرضن عن حملها وخفن من ثقلها وشدتها، والغرض تصوير عظم الأمانة وثقل حملها، قال أبو السعود: والمعنى أن تلك الأمانة في عظم الشأن بحيث لو كلفت هاتيك الأجرام العظام - التي هي مثل في القوة والشدة - وكانت ذا شعور وإِدراك على مراعاتها لأبين قبولها وأشفقن منها، وقال ابن جزي: الأمانةُ هي التكاليف الشرعية من التزام الطاعات، وترك المعاصي، وقيل: هي الأمانةُ في الأموال، والصحيحُ العموم في التكاليف، وعرضُها يحتمل وجهين أحدهما: أن يكون اللهُ خلق لها إدراكاً فعرضت عليها الأمانة حقيقةً فأشفقت منها وامتنعت من حملها، والثاني: أن يكون المراد تعظيم شأن الأمانة وأنها من الثقل بحيث لو عُرضت على السماوات والأرضِ والجبال، لأبين حملها وأشفقن منها، فهذا ضربٌ من المجاز كقولك: عرضتُ الحمل العظيم على الدابة فأبتْ أن تحمله، والمراد أنها لا تقدر على حمله {وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولا} أي وتحمَّلها الإِنسان إنه كان شديد الظلم لنفسه، مبالغاً في الجهل بعواقب الأمور، قال ابن الجوزي: لم يرد بقوله {أَبَيْنَ} المخالفة، وإِنما أبين للخشية والمخافة، لأن العَرض كان تخييراً لا إلزاماً { لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ} قال ابن كثير: أي إنما حمَّل بني آدم الأمانة وهي التكاليف ليعذب الله المنافقين الذين يظهرون الإِيمان ويبطنون الكفر، والمشركين الذين ظاهرهم وباطنهم على الكفر {وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} أي ويرحم أهل الإِيمان، ويعود عليهم بالتوبة والمغفرة والرضوان {وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} أي واسع المغفرة للمؤمنين حيث عفا عما سلف منهم، رحيماً بهم حيث أثابهم وأكرمهم بأنواع الكرامات.

yacine414
2011-04-01, 17:34
سورة سبأ



الثناء الكامل لله، وبيان قدرته تعالى

إنكار البعث، وجزاء المطيعين والمعاندين

أساليب المشركين في الصد عن دين الله، وسخريتهم بالرسول صلى الله عليه وسلم

قصة داود وما خصه الله من النعم

نِعم الله عز وجل على سليمان

بطلان قول من ادعى شفاعة الآلهة

توبيخ المشركين في عبادتهم غير الخالق الرازق

إنكار المشركين القرآن، وحوارهم يوم القيامة مع بعضهم

ظاهرة الكفر بين المترفين، واعتدادهم بالأموال والأولاد

تقريع الكفار بسؤال الملائكة عن عبادة هؤلاء

لما يستحق الكفار العقوبة؟

حال الكفار بعد خروجهم من القبور



بَين يَدَي السُّورَة



* سورة سبأ من السورة المكية، التي تهتم بموضوع العقيدة الإِسلامية، وتتناول أصول الدين من إثبات الوحدانية، والنبوة، والبعث والنشور.



* ابتدأت السورة الكريمة بتمجيد الله جل وعلا، الذي أبدع الخلق، وأحكم شئون العالم، ودبَّر الكون بحكمته، فهو الخالق المبدع الحكيم، الذي لا يغيب عن علمه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض، وهذا من أعظم البراهين على وحدانية رب العالمين.



*وتحدثت السورة عن قضيةٍ هامة، هي إنكار المشركين للآخرة، وتكذيبهم بالبعث

بعد الموت، فأمرت الرسول صلى الله عليه وسلم أن يقسم بربه العظيم، على وقوع المعاد بعد فناء الأجساد {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ..} الآية.



* وتناولت السورة قصص بعض الرسل، فذكرت "داود" وولده "سليمان" عليهما السلام، وما سخَّر الله لهما من أنواع النعم، كتسخير الريح لسليمان، وتسخير الطير والجبال تسبّح مع "داود" إظهاراً لفضل الله عليهما في ذلك العطاء الواسع.



* وتناولت السورة بعض شبهات المشركين، حول رسالة خاتم الأنبياء والمرسلين، ففندتها بالحجة الدامغة والبرهان الساطع، كما أقامت الأدلة والبراهين على وجود الله ووحدانيته.



* وختمت السورة بدعوة المشركين إِلى الإِيمان بالواحد القهار، الذي بيده تدبير أمور الخلق أجمعين.



التسميَة:

سميت سورة "سبأ" لأن الله تعالى ذكر فيها قصة سبأ، وهم ملوك اليمن، وقد كان أهلها في نعمة ورخاء، وسرور وهناء، وكانت مساكنهم حدائق وجنات، فلما كفروا النعمة دمَّرهم الله بالسيل العرم، وجعلهم عبرة لمن يعتبر.





الثناء الكامل لله، وبيان قدرته تعالى



{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ(1)يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ(2)}.



{الْحَمْدُ لِلهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ} أي الثناء الكامل على جهة التعظيم والتبجيل لله الذي له كل ما في الكون خلقاً وملكاً وتصرفاً، فله الحمد في الدنيا لكمال قدرته، وفي الآخرة لواسع رحمته {وَلَهُ الْحمْدُ فِي الآخِرَةِ} أي وله الحمد بأجمعه لا يستحقه أحد سواه، لأنه المنعم المتفضل على أهل الدنيا والآخرة {وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ} أي الحكيم في صنعه، الخبير بخلقه، فلا اعتراض عليه في فعلٍ من أفعاله {يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا} أي يعلم ما يدخل في جوف الأرض من المطر والكنوز والأموات، وما يخرج من الأرض من الزروع والنباتات وماء العيون والآبار { وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا} أي وما ينزل من السماء من المطر والملائكة والرحمة، وما يصعد إِليها من الأعمال الصالحات، والدعوات الزاكيات {وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ} أي الرحيم بعباده، الغفور عن ذنوب التائبين حيث لا يعاجلهم بالعقوبة.



إنكار البعث، وجزاء المطيعين والمعاندين



{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَالِمِ الْغَيْبِ لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَرُ إِلا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ(3)لِيَجْزِيَ الَّذِينَ ءامنوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ(4)وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي ءايَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ(5)وَيَرَى الَّذِينَ أُوتوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ(6)}.



ثم حكى تعالى مقالة المنكرين للبعث والقيامة فقال {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ} أي وقال المشركون من قومك لا قيامة أبداً ولا بعث ولا نشور، قال البيضاوي: وهو إِنكار لمجيئها أو استبطاء استهزاءً بالوعد به {قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ} أي قل لهم يا محمد: أقسم بالله العظيم لتأتينكم الساعة، فإِنها واقعة لا محالة، قال ابن كثير: هذه إِحدى الآيات الثلاث التي أمر الله رسوله أن يقسم بربه العظيم على وقوعها، والثانية في يونس {قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ} والثالثة في التغابن {قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ} {عَالِمِ الْغَيْبِ لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ} أي هو جل وعلا العالمُ بما خفي عن الأبصار، وغاب عن الأنظار، لا يغيب عنه مقدار وزن الذرة في العالم العلوي أو السفلي {وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَرُ} أي ولا أصغر من الذرة ولا أكبر منها {إِلا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} أي إِلا ويعلمه الله تعالى وهو في اللوح المحفوظ، والغرضُ أن الله تعالى لا تخفى عليه ذرة في الكون فكيف يخفى عليه البشر وأحوالهم؟ فالعظام وإِن تلاشت وتفرقت وتمزقت، فهو تعالى عالمٌ أين ذهبت وتفرقت، ثم يعيدها يوم القيامة {لِيَجْزِيَ الَّذِينَ ءامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} أي أثبت ذلك في الكتاب المبين لكي يثيب المؤمنين الذين أحسنوا في الدار الدنيا بأحسن الجزاء {أُوْلَئِكَ لَهُمْ مغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} أي لهم مغفرة لذنوبهم، ورزق حسن كريم في دار النعيم {وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ} أي وأما الذين بذلوا جهدهم وجدّوا لإِبطال القرآن مغالبين لرسولنا، يظنون أنهم يعجزونه بما يثيرونه من شبهات حول رسالته والقرآن {أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ} أي فهؤلاء المجرمون لهم عذاب من أسوأ العذاب، شديد الإِيلام، قال قتادة: الرجزُ: سوء العذاب {وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} أي ويعلم أولوا العلم من أصحاب النبي عليه السلام ومن جاء بعدهم من العلماء العاملين {الَّذِي أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ} أي يعلمون أن هذا القرآن، الذي أُنزل عليك يا محمد هو الحق الذي لا يأتيه الباطل {وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} أي ويرشد من تمسك به إِلى طريق الله الغالب الذي لا يُقهر، الحميد أي المحمود في ذاته وصفاته وأفعاله.



أساليب المشركين في الصد عن دين الله، وسخريتهم بالرسول صلى الله عليه وسلم



{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ(7)أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَمْ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ فِي الْعَذَابِ وَالضَّلالِ الْبَعِيدِ(8)أَفَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ(9)}.



ثم ذكر تعالى أساليب المشركين في الصدِّ عن دين الله، والسخرية برسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا} أي وقال الكافرون من أهل مكة المنكرون للبعث والجزاء {هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ} أي هل نرشدكم إلى رجلٍ يحدثكم بأعجب الأعاجيب؟ - يعنون محمداً صلى الله عليه وسلم- {إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ} أي إِذا بليتم في القبور، وتفرقت أجسادكم في الأرض، وذهبت كل مذهب بحيث صرتم تراباً ورفاتاً { إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ}؟ أي إنكم ستخلقون خلقاً جديداً بعد ذلك التمزيق والتفريق؟ والغرضُ من هذا المقال هو السخرية والاستهزاء، قال أبو حيان: والقائلون هم كفار قريش قالوه على جهة التعجب والاستهزاء، كما يقول الرجل لمن يريد أن يعجبه: هل أدلك على قصة غريبة نادرة؟ ولما كان البعث عندهم من المحال جعلوا من يخبر عن وقوعه في حيز من يتعجب منه، ونكّروا اسمه عليه {هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ} بطريق الاستهزاء مع أن اسمه أشهر علم في قريش {أَفْترَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَمْ بِهِ جِنَّةٌ} أي هل اختلق الكذب على الله، أم به جنون فهو يتكلم بما لا يدري؟ قال تعالى رداً عليهم {بَلْ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ} {بَلْ} للإِضراب أي ليس الأمر كما يزعمون من الكذب والجنون، بل الذين يجحدون البعث ولا يصدّقون بالآخرة {فِي الْعَذَابِ وَالضَّلالِ الْبَعِيدِ} أي بل هؤلاء الكفار في ضلالٍ وحيرةٍ عن الحق توجب لهم عذاب النار، فهم واقعون في الضلال وهم لا يشعرون وذلك غاية الجنون والحماقة، ولما ذكر تعالى ما يدل على إِثبات الساعة، ذكر دليلاً آخر يتضمن التوحيد مع التهديد فقال {أَفَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ} أي ألم يشاهدوا ما هو محيط بهم من جميع جوانبهم من السماء والأرض؟ فإِن الإِنسان أينما توجه وحيثما نظر رأى السماء والأرض أمامه وخلفه، وعن يمينه وشماله، وهما يدلان على وحدانية الصانع، أفلا يتدبرون ذلك فيعلمون أن الذي خلقهما قادر على بعث الناس بعد موتهم؟ ثم هددهم بقوله {إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ} أي لو شئنا لخسفنا بهم الأرض كما فعلنا بقارون، أو أسقطنا عليهم قطعاً من السماء كما فعلنا بأصحاب الأيكة، فمن أين لهم المهرب؟ قال ابن الجوزي: المعنى أنهم أين كانوا فأرضي وسمائي محيطة بهم، وأنا القادر عليهم، إن شئتُ خسفتُ بهم الأرض، وإن شئتُ أسقطت عليهم قطعة من السماء { إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ} أي إن فيما يشاهدون من آثار القدرة والواحدانية لدلالة وعبرة لكل عبد تائب رجّاع إلى الله، متأمل فيما يرى، قال ابن كثير: يريد أن من قدر على خلق هذه السماوات في ارتفاعها واتساعها، وهذه الأرضين في انخفاضها وأطوالها وأعرضها، قادر على إِعادة الأجسام، ونشر الرميم من العظام.



قصة داود عليه السلام وما خصه الله من النعم



{وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلا يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ(10)أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ(11)}.



ثم ذكر تعالى قصة داود وما خصَّه الله به من الفضل العظيم فقال {وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلا} اللام موطئة لقسم محذوف تقديره وعزة الله وجلاله لقد أعطينا داود منا فضلاً عظيماً واسعاً لا يُقدر، قال المفسرون: الفضل هو النبوة، والزبور، وتسخير الجبال، والطير، وإِلانة الحديد، وتعليمه صنع الدروع إِلى غير ذلك { يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ} أي وقلنا يا جبال سبحي معه ورجّعي التسبيح إِذا سبَّح وكذلك أنت يا طيور، قال ابن عباس: كانت الطير تسبح معه إِذا سبَّح، وكان إِذا قرأ لم تبق دابةٌ إِلا استمعت لقراءته وبكت لبكائه {وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ} أي جعلنا الحديد ليناً بين يديه حتى كان كالعجين، قال قتادة: سخر الله الحديد فكان لا يحتاج أن يدخله ناراً، ولا يضربه بمطرقة، وكان بين يديه كالشمع والعجين {أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ} أي اعمل منه الدروع السابغة التي تقي الإِنسان شر الحرب، قال المفسرون: كان يأخذ الحديد بيده فيصير كأنه عجين يعمل به ما يشاء، ويصنع الدرع في بعض يوم يساوي ألف درهم فيأكل ويتصدق، والسابغات صفة لموصوف محذوف تقديره دروعاً سابغات، وهي الدروع الكوامل التي تغطي لابسها حتى تفضل عنه فيجرها على الأرض {وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ} أي وقدر في نسج الدروع بحيث تتناسب حلقاتها، قال الصاوي: أي اجعل كل حلقة مساوية لأختها ضيقة لا ينفذ منها السهم لغلظها، ولا تثقل حاملها واجعل الكل بنسبةٍ واحدة {وَاعْمَلُوا صَالِحًا} أي واعملوا يا آل داود عملاً صالحاً ولا تتكلوا على عز أبيكم وجاهه {إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} أي إِني مطلع على أعمالكم مراقب لها وسأجازيكم بها، قال الامام الفخر الرازي: ألان الله لداود الحديد حتى كان في يده كالشمع وهو في قدرة الله يسير، فإِنه يَلين بالنار حتى يصبح كالمداد الذي يكتب به، فأي عاقلٍ يستبعد ذلك على قدرة الله؟ وهو أول من صنع الدروع حلقاً وكانت قبل ذلك صفائح ثقالاً كما قال تعالى {وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ }.



نِعم الله عز وجل على سليمان



{وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنْ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ(12)يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِي الشَّكُورُ(13)فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلا دَابَّةُ الأَرْضِ تَأْكُلُ مِنسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ(14)}.



ثم ذكر تعالى ما أنعم به على ولده "سليمان" من النبوة والملك والجاه العظيم فقال {وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ} أي وسخرنا لسليمان الريح تسير بأمره، وسيرها من الصباح إِلى الظهر مسيرة شهر للسائر المجد، ومن الظهر إلى الغروب مسيرة شهر، قال المفسرون: سخّر الله له الريح تقطع به المسافات الشاسعة في ساعات معدودات، تحمله مع جنده فتنتقل به من بلدٍ إلى بلد، تغدو به مسيرة شهر إِلى نصف النهار، وترجع به مسيرة شهر إلى آخر النهار، فتقطع به مسيرة شهرين في نهار واحد {وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ} أي وأذبنا له النحاس حتى كان يجري كأنه عين ماء متدفقة من الأرض، قال المفسرون: أجرى الله لسليمان النحاس، كما ألان لداود الحديد، آية باهرة، ومعجزة ظاهرة {وَمِنْ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ} أي وسخرنا له الجن تعمل بأمره وإِرادته ما شاء مما يعجز عنه البشر، وكل ذلك بأمر الله وتسخيره {وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا} أي ومن يعدل منهم عّما أمرناه به من طاعة سليمان {نذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ} أي نذقه النار المستعرة في الآخرة، ثم أخبر تعالى عما كلف به الجنُّ من الأعمال فقال {يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ} أي يعمل هؤلاء الجن لسليمان ما يريد من القصور الشامخة {وَتَمَاثِيلَ} أي والتماثيل العجيبة من النحاس والزجاج، قال الحسن: ولم تكن يومئذٍ محرمة، وقد حرمت في شريعتنا سداً للذريعة لئلا تُعبد من دون الله {وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ} أي وقصاعٍ ضخمة تشبه الأحواض، قال ابن عباس: "كالجواب" أي كالحياض {وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ} أي وقدورٍ كبيرة ثابتات لا تتحرك لكبرها وضخامتها، قال ابن كثير: والقدور الراسياتُ أي الثابتات في أماكنها لا تتحرك ولا تتحول عن أماكنها لعظمها {اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا} أي وقلنا لهم اشكروا يا آل داود ربكم على هذه النعم الجليلة، فقد خصكم بالفضل العظيم والجاه العريض، واعملوا بطاعة الله شكراً له جل وعلا {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِي الشَّكُورُ} أي وقليل من العباد من يشكر الله على نعمه، قال ابن عطية: وفيه تنبيه وتحريض على شكر الله، ثم أخبر تعالى عن كيفية موت سليمان فقال {فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ} أي حكمنا على سليمان بالموت ونزل به الموت { مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلا دَابَّةُ الأَرْضِ تَأْكُلُ مِنسَأَتَهُ} أي ما دلَّ الجنَّ على موته إِلا تلك الحشرة وهي الأرضة -السوسة التي تأكل الخشب- تأكل عصا سليمان {فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ} أي فلما سقط سليمان عن عصاه ظهر للجن واتضح لهم أنهم لو كانوا يعرفون الغيب كما زعموا {مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ} أي ما مكثوا في الأعمال الشاقة تلك المدة الطويلة، قال المفسرون: كانت الإِنس تقول: إِن الجن يعلمون الغيب الذي يكون في المستقبل، فوقف سليمان في محرابه يصلي متوكئاً على عصاه، فمات ومكث على ذلك سنةً والجنُّ تعمل تلك الأعمال الشاقة ولا تعلم بموته، حتى أكلت الأرَضةُ عصا سليمان فسقط على الأرض فعلموا موته، وعلم الإِنس أن الجنَّ لا تعلم الغيب لأنهم لو علموه لما أقاموا هذه المدة الطويلة في الأعمال الشاقة وهم يظنون أنه حي وهو عليه السلام ميت.

yacine414
2011-04-01, 17:35
قصة سبإ وظلمهم لأنفسهم



{لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ(15)فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَي أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ(16)ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلا الْكَفُورَ(17)وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِي وَأَيَّامًا ءامنينَ(18)فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفارِنَا وَظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ(19)وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ(20)وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ(21)}.



سبب النزول:

أخرج ابن أبي حاتم أن فَرْوة بن مُسَيْك الغَطَفاني رضي الله عنه قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا نبي الله، إن سبأ قوم كان لهم في الجاهلية عز، وإني أخشى أن يرتدوا عن الإسلام، أفأقاتلهم؟ فقال: ما أمرت فيهم بشيء بعد، فأنزلت هذه الآية: {لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ} الآيات.



{لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ} اللام موطئة للقسم أي والله لقد كان لقوم سبأ في موضع سكناهم باليمن آية عظيمة دالة على الله جل وعلا وعلى قدرته على مجازاة المحسن بإِحسانه، والمسيء بإِساءته، فإِن قوم سبأ لما كفروا نعمة الله خرَّب الله ملكهم، وشتَّت شملهم، ومزَّقهم شرَّ ممزَّق، وجعلهم عبرةً لمن يعتبر، ثم بيَّن تعالى وجه تلك النعمة فقال {جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ}أي حديقتان عظيمتان فيهما من كل أنواع الفواكه والثمار عن يمين الوادي بساتين ناضرة، وعن شماله كذلك، قال قتادة: كانت بساتينهم ذات أشجار وثمار، تسرُّ الناس بظلالها، وكانت المرأة تمشي تحت الأشجار وعلى رأسها مكتل أو زنبيل، فيتساقط من الأشجار ما يملؤه من غير كلفةٍ ولا قطاف لكثرته ونضجه، وقال البيضاوي: ولم يرد بستانين اثنين فحسب، بل أراد جماعتين من البساتين، جماعة عن يمين بلدهم، وجماعة عن شماله سميت كل جماعة منها جنة لكونها في تقاربها وتضامها كأنها جنة واحدة {كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ} أي وقلنا لهم على لسان الرسل: كلوا من فضل الله وإِنعامه واشكروا ربكم على هذه النعم { بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ} أي هذه بلدتكم التي تسكنونها بلدةٌ طيبة، كريمة التربة، حسنة الهواء، كثيرة الخيرات، وربكم الذي رزقكم وأمركم بشكره ربٌ غفورٌ لمن شكره {فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ} أي فأعرضوا عن طاعة الله وشكره، واتباع أوامر رسله، فأرسلنا عليهم السيل المدمّر المخرب الذي لا يطاق لشدته وكثرته، فغرَّق بساتينهم ودورهم قال الطبري: وحين أعرضوا عن تصديق الرسل، ثقب ذلك السدُّ الذي كان يحبس عنهم السيول، ثم فاض الماء على جناتهم فغرَّقها، وخرَّب أرضهم وديارهم {وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَي أُكُلٍ خَمْطٍ} أي وأبدلناهم بتلك البساتين الغناء، بساتين قاحلة جرداء، ذات أُكل مرٍّ بشع {وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ} وشيء من الأشجار التي لا ينتفع بثمرها كشجر الأثل والسدِّر، قال الرازي: أرسل الله عليهم سيلاً غرَّق أموالهم، وخرَّب دورهم، والخمطُ كلُّ شجرة لها شوك وثمرتها مرة، والأثلُ نوع من الطرفاء ولا يكون عليه ثمرة إِلا في بعض الأوقات، يكون عليه شيء كالعفص أو أصغر منه في طعمه وطبعه، والسدر معروف وقال فيه {قَلِيلٍ} لأنه كان أحسن أشجاره، وقد بيَّن تعالى بالآية طريقة الخراب، وذلك لأن البساتين التي فيها الناس تكون فيها الفواكه الطيبة بسبب العمارة، فإِذا تركت سنين تصبح كالغيضة والأجمة تلتفُّ الأشجار بعضها ببعض وتنبتُ المفسدات فيها، فتقل الثمار وتكثر الأشجار، قال المفسرون: وتسمية البدل "جنتين" فيه ضربٌ من التهكم، لأن الأثل والسدر وما كان فيه خمط لا يسمى جنة، لأنها أشجار لا يكاد ينتفع بها، وإِنما جاء التعبير على سبيل المشاكلة {ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا} أي ذلك الجزاء الفظيع الذي عاقبناهم به إِنما كان بسبب كفرهم {وَهَلْ نُجَازِي إِلا الْكَفُورَ}؟ أي وما نجازي بمثل هذا الجزاء الشديد إِلا الكافر المبالغ في كفره، قال مجاهد: أي ولا يعاقب إِلا الكفور، لأن المؤمن يكفِّر الله عنه سيئاته، والكافر يُجازى بكل سوءٍ عمله {وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً} هذا من تتمة ذكر ما أنعم الله به عليهم أي وجعلنا بين بلاد سبأ وبين القرى الشامية التي باركنا فيها للعالمين قرى متواصلة من اليمن إِلى الشام، يُرى بعضها من بعض لتقاربها، ظاهرة لأبناء السبيل {وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ} أي جعلنا السير بين قراهم وبين قرى الشام سيراً مقدراً من منزل إِلى منزل، ومن قرية إِلى قرية {سِيرُوا فِيهَا لَيَالِي وَأَيَّامًا ءامنينَ} أي وقلنا لهم سيروا بين هذه القرى متى شئتم لا تخافون في ليل ولا في نهار قال الزمخشري: كان الغادي منهم يقيل في قرية، والرائح يبيت في قرية إلى أن يبلغ الشام، لا يخاف جوعاً ولا عطشاً ولا عدواً، ولا يحتاج إِلى حمل زاد ولا ماء، وكانوا يسيرون آمنين لا يخافون شيئاً {فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا} إِخبارٌ بما قابلوا به النعم من الكفران أي أنهم حين بطروا النعمة، وملوا العافية، وسئموا الراحة طلبوا من الله أن يباعد بين قراهم المتصلة ليمشوا في المفاوز ويتزودوا للأسفار، فعجَّل الله إِجابتهم بتخريب تلك القرى وجعلها مفاوز قفاراً {وَظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ} أي وظلموا أنفسهم بكفرهم وجحودهم النعمة {فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ} أي جعلناهم أخباراً تُروى للناس بعدهم {وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ} أي وفرقناهم في البلاد شذر مذر {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} أي إن فيما ذكر من قصتهم لعبراً وعظات لكل عبد صابرٍ على البلاء، شاكر في النعماء، والمقصود من ذكر قصة سبأ تحذير الناس من كفران النعمة لئلا يحل بهم ما حل بمن قبلهم، ولهذا أصبحت قصتهم يضرب بها المثل فيقال: "ذهبوا أيدي سبأ" ثم ذكر تعالى سبب ضلال المشركين فقال {وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ} أي تحقق ظن إِبليس اللعين في هؤلاء الضالين، حيث ظنَّ أنه يستطيع أن يغويهم بتزيين الباطل لهم، وأقسم بقوله {لأغوينهم أجمعين} فتحقق ما كان يظنه، قال مجاهد: ظنَّ ظناً فكان كما ظن فصدَّق ظنَّه {فَاتَّبَعُوهُ إِلا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} أي فاتبعه الناس فيما دعاهم إِليه من الضلالة إِلا فريقاً هم المؤمنون فإِنهم لم يتبعوه، قال القرطبي: أي ما سلم من المؤمنين إِلا فريق، وعن ابن عباس أنهم المؤمنون كلُّهم فتكون {مِن} على هذا للتبيين لا للتبعيض، وإِنما علم إِبليس صدق ظنه وهو لا يعلم الغيب، لأنه لمَّا نفذ له في آدم ما نفذ، غلب على ظنه أنه ينفذ له مثل ذلك في ذريته وقد وقع له تحقيق ما ظنَّ {وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطَانٍ} أي وما كان لإِبليس تسلط واستيلاء عليهم بالوسوسة والإِغواء {إِلا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ} أي إِلا لحكمة جليلة وهي أن نظهر علمنا للعباد بمن هو مؤمن مصدِّق بالآخرة، ومن هو شاك مرتاب في أمرها، فنجازي كلاً بعمله، قال القرطبي: أي لم يقهرهم إِبليس على الكفر، وإِنما كان منه الدعاء والتزيين، وقال الحسن: واللهِ ما ضربهم بعصا، ولا أكرههم على شيء، وما كان إِلا غروراً وأماني دعاهم إِليها فأجابوه {وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ} أي وربك يا محمد على كل شيء رقيب، لا تخفى عليه خافية من أفعال العباد، فهو الذي يحفظ عليهم أعمالهم، ويعلم نياتهم وأحوالهم، قال الصاوي: الشيطان سبب الإِغواء لا خالق الإِغواء، فمن أراد الله حفظه منع الشيطان عنه، ومن أراد إِغواءه سلَّط عليه الشيطان، والكل فعل الله تعالى، وإِنما سبقت حكمته بتسليط الشيطان على الإِنسان ابتلاءً وامتحاناً ليميز الله الخبيث من الطيب، والمراد بقوله {لِنَعْلَمَ} أي لنظهر للخلق علمنا، وإِلا فالله تعالى عالم بما كان وما يكون.



بطلان قول من ادعى شفاعة الآلهة



{قُلْ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ(22)وَلا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ(23)}.



{قُلْ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ} أي قل يا محمد لهؤلاء المشركين ادعوا شركاءكم الذين عبدتموهم من الأصنام، وزعمتم أنهم آلهة من دون الله، أُدعوهم ليجلبوا لكم الخير، ويدفعوا عنكم الضر، قال أبو حيان: والأمر بدعاء الآلهة للتعجيز وإِقامة الحجة عليهم {لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ} أي لا يملكون وزن ذرة من خيرٍ أو نفعٍ أو ضر {فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ} أي في العالم العلوي أو السفلي، وليسوا بقادرين على أمرٍ من الأمور في الكون بأجمعه {وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ} أي وليس لتلك الآلهة شركة مع الله لا خلقاً ولا ملكاً ولا تصرفاً {وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ} أي وليس له تعالى من الآلهة معينٌ يُعينه في تدبير أمرهما، بل هو وحده الخالق لكل شيء، المنفرد بالإِيجاد والإِعدام، ثم لما نفى عنها الخلق والملك، نفى عنها الشفاعة أيضاً فقال {وَلا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} أي لا تكون الشفاعة لأحدٍ عند الله من ملكٍ أو نبي، حتى يُؤذن له في الشفاعة، فكيف يزعمون أن آلهتهم يشفعون لهم؟ قال ابن كثير: أي أنه تعالى لعظمته وجلاله وكبريائه لا يجترئ أحدٌ أن يشفع عنده في شيءٍ إِلا بعد إِذنه له في الشفاعة كقوله {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلا بِإِذْنِهِ} وقوله {وَلا يَشْفَعُونَ إِلا لِمَنْ ارْتَضَى} وإِنما كانت الشفاعة لسيد ولد آدم إِظهاراً لمقامه الشريف، فهو أكبر شفيع عند الله، وذلك حين يقوم المقام المحمود ليشفع في الخلق كلهم {حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ } أي حتى إِذا زال الفزع والخوف عن قلوب الشفعاء، من الملائكة والأنبياء {قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ} أي قال بعضهم لبعض: ماذا قال ربكم في أمر الشفاعة؟ فأجابوهم بقولهم: قد أذن فيها للمؤمنين، قال القرطبي: إِن الله تعالى يأذن للأنبياء والملائكة في الشفاعة، وهم على غاية الفزع من الله، لما يقترن بتلك الحال من الأمر الهائل، والخوف الشديد أن يقع منهم تقصير، فإذا سُرِّي عنهم قالوا للملائكة فوقهم: ماذا قال ربكم؟ أي بماذا أمر الله؟ قالوا الحقَّ أي إِنه أذن لكم في الشفاعة للمؤمنين {وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} أي هو تعالى المتفرد بالعلو والكبرياء، العظيم في سلطانه وجلاله، قال أبو السعود: وهذا من تمام كلام الشفعاء، قالوه اعترافاً بغاية عظمة جناب الله عز وجل، فليس لأحدٍ أن يتكلم إِلا بإِذنه.



توبيخ المشركين في عبادتهم غير الخالق الرازق





{قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماوَاتِ وَالأَرْضِ قُلْ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ(24)قُلْ لا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ(25)قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ(26)قُلْ أَرُونِي الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكَاءَ كَلا بَلْ هُوَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ(27)وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ(28)وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ(29)قُلْ لَكُمْ مِيعَادُ يَوْمٍ لا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ سَاعَةً وَلا تَسْتَقْدِمُونَ(30) }.



ثم وبَّخ تعالى المشركين في عبادتهم غير الخالق الرازق فقال {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} أي قل لهم يا محمد من الذي يرزقكم من السماوات بإِنزال المطر، ومن الأرض بإِخراج النبات والثمرات؟ {قُلْ اللَّهُ} أي قل لهم: اللهُ الرازق لا آلهتكم، قال ابن الجوزي: وإِنما أُمر عليه السلام أن يسأل الكفار عن هذا احتجاجاً عليهم بأن الذي يرزق هو المستحق للعبادة، وهم لا يثبتون رازقاً سواه، ولهذا جاء الجواب {قُلْ اللَّهُ} لأنهم لا يجيبون بغير هذا {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} أي وأحد الفريقين منا أو منكم لعلى هدى أو ضلال بيِّن، وهذا نهاية الإِنصاف مع الخصم، قال أبو حيان: أخرج الكلام مخرج الشك، ومعلوم أن من عبد الله وحده كان مهتدياً، ومن عبد غيره من جماد كان ضالاً، وفي هذا إِنصافٌ وتلطفٌ في الدعوى، وفيه تعريضٌ بضلالهم وهو أبلغ من الردّ بالتصريح، ونحوه قول العرب: أخزى الله الكاذب مني ومنك، مع تيقن أن صاحبه هو الكاذب {قُلْ لا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ} أي لا تؤاخذون على ما ارتكبنا من إِجرام، ولا نؤاخذ نحن بما اقترفتم، وإِنما يعاقب كل إِنسان بجريرته، وهذه ملاطفة وتنزُّلٌ في المجادلة إِلى غاية الإِنصاف، قال الزمخشري: وهذا أدخل في الإِنصاف وأبلغ من الأول، حيث اسند الإِجرام لأنفسهم والعمل إِلى المخاطبين {قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ} أي يجمع الله بيننا وبينكم يوم القيامة ثم يحكم بيننا ويفصل بالحقِّ {وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ} أي وهو الحاكم العادل الذي لا يظلم أحداً، العالم بأحوال الخلق، فيدخل المحقَّ الجنة، والمبطل النار {قُلْ أَرُونِي الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكَاءَ} توبيخٌ آخر على إِشراكهم وإِظهارٌ لخطئهم العظيم أي أروني هذه الأصنام التي ألحقتموها بالله وجعلتموها شركاء معه في الألوهية، لأنظر بأي صفةٍ استحقت العبادة مع الذي ليس كمثله شيء؟ قال أبو السعود: وفيه مزيد تبكيتٍ لهم بعد إِلزام الحجة عليهم {كَلا بَلْ هُوَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} ردعٌ لهم وزجر أي ليس الأمر كما زعمتم من اعتقاد شريك له، بل هو الإِله الواحد الأحد، الغالب على أمره، الحكيم في تدبيره لخلقه، فلا يكون له شريك في ملكه أبداً {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا} أي وما أرسلناك يا محمد للعرب خاصة وإِنما أرسلناك لعموم الخلق، مبشراً للمؤمنين بجنات النعيم، ومنذراً للكافرين من عذاب الجحيم {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ الناسِ لا يَعْلَمُونَ} أي ولكنَّ هؤلاء الكافرين لا يعلمون ذلك فيحملهم جهلهم على ما هم عليه من الغيّ والضلال {وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} أي ويقول المشركون على سبيل الاستهزاء والسخرية: متى هذا العذاب الذي تخوفوننا به إِن كنتم صادقين فيما تقولون؟ والخطاب للنبي والمؤمنين {قُلْ لَكُمْ مِيعَادُ يَوْمٍ لا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ سَاعَةً وَلا تَسْتَقْدِمُونَ} أي لكم زمان معيَّن للعذاب يجيء في أجله الذي قدَّره الله له، لا يستأخر لرغبة أحد، ولا يتقدم لرجاء أحد، فلا تستعجلوا عذاب الله فهو آتٍ لا محالة.



إنكار المشركين القرآن، وحوارهم يوم القيامة مع بعضهم



{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهَذَا الْقُرْآنِ وَلا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَوْ تَرَى إِذْ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ(31)قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءكُمْ بَلْ كُنتُمْ مُجْرِمِينَ(32)وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَندَادًا وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوْا الْعَذَابَ وَجَعَلْنَا الأَغْلالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ(33)}.



ثم أخبر تعالى عن تمادي المشركين في العناد والتكذيب فقال {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهَذَا الْقُرْآنِ وَلا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ} أي لن نصدِّق بالقرآن ولا بما سبقه من الكتب السماوية الدالة على البعث والنشور {وَلَوْ تَرَى إِذْ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ} أي ولو شاهدت يا محمد حال الظالمين المنكرين للبعث في موقف الحساب {يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ} أي يلوم بعضهم بعضاً ويؤنب بعضهم بعضاً، وجواب {لَوْ} محذوف للتهويل تقديره لرأيت أمراً فظيعاً مهولاً { يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ} أي يقول الأتباع للرؤساء: لولا إِضلالكم لنا لكنا مؤمنين مهتدين {قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءكُمْ}؟ أي قال الرؤساء جواباً للمستضعفين: أنحن منعناكم عن الإِيمان بعد أن جاءكم؟ لا، ليس الأمر كما تقولون {بَلْ كُنتُمْ مُجْرِمِينَ} أي بل أنتم كفرتم من ذات أنفسكم، بسب أنكم كنتم مجرمين راسخين في الإِجرام {وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} أي وقال الأتباع للرؤساء: بل مكركم بنا في الليل والنهار هو الذي صدَّنا عن الإِيمان {إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَندَادًا} أي وقت دعوتكم لنا إِلى الكفر بالله، وأن نجعل له شركاء، ولولا تزيينكم لنا الباطل ما كفرنا {وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوْا الْعَذَابَ} أي أخفى كل من الفريقين الندامة على ترك الإِيمان حين رأوا العذاب، أخفوها مخافة التعيير {وَجَعَلْنَا الأَغْلالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا} أي وجعلنا السلاسل في رقاب الكفار زيادةً على تعذيبهم بالنار {هَلْ يُجْزَوْنَ إِلا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} أي لا يجزون إِلا بأعمالهم التي عملوها ولا يعاقبون إِلا بكفرهم وإِجرامهم.







ظاهرة الكفر بين المترفين، واعتدادهم بالأموال والأولاد



{وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ(34)وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالاً وَأَوْلادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ(35)قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ(36)وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلا مَنْ ءامن وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ(37)وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُوْلَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ(38)قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَمَا أَنفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ(39)}.



سبب النزول:

نزول الآية (34):

{وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ..}: أخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن أبي رَزِين قال: "كان رجلان شريكان، خرج أحدهما إلى الشام، وبقي الآخر، فلما بعث النبي صلى الله عليه وسلم كتب إلى صاحبه يسأله ما عمل، فكتب إليه أنه لم يتبعه أحد من قريش إلا رذالة الناس ومساكينهم، فترك تجارته، ثم أتى صاحبه، فقال: دُلّني عليه، وكان يقرأ الكتب، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: إلامَ تدعو؟ فقال: إلى كذا وكذا، فقال: أشهد أنك رسول الله، فقال: وما علمك بذلك؟ قال: إنه لم يبعث نبي إلا اتبعه رذالة الناس ومساكينهم، فنزلت هذه الآية: {وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ} فأرسل إليه النبي صلى الله عليه وسلم: إن الله قد أنزل تصديق ما قلت".

{وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ} أي لم نبعث في أهل قريةٍ رسولاً من الرسل ينذرهم عذابنا {إِلا قَالَ مُتْرَفُوهَا} أي إِلا قال أهل الغنى والتنعم في الدنيا { إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ} أي لا نؤمن برسالتكم ولا نصدقكم بما جئتم به، قال قتادة: المترفون هم جبابرتهم وقادتهم ورؤساؤهم في الشر، وهم الذين يبادرون إِلى تكذيب الأنبياء، والقصد بالآية تسلية النبي صلى الله عليه وسلم على تكذيب أكابر قريش له {وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالا وَأَوْلادًا} أي وقال مشركو مكة: نحن أكثر أموالاً وأولاداً من هؤلاء الضعفاء المؤمنين {وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ} أي إِن الله لا يعذبنا لأنه راضٍ عنا، ولو لم يكن راضياً عنا لما بسط لنا في الرزق، قاسوا أمر الدنيا على الآخرة، وظنوا أن الله كما أعطاهم الأموال والأولاد في الدنيا لا يعذبهم في الآخرة، قال أبو حيان: نصَّ تعالى على المترفين لأنهم أول المكذبين للرسل، لما شُغلوا به من زخرف الدنيا، وما غلب على عقولهم منها، فقلوبهم أبداً مشغولة منهمكة، بخلاف الفقراء فإِنهم خالون من مستلذات الدنيا، فقلوبهُم أقبل للخير ولذلك كانوا أكثر أتباع الأنبياء {قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ} أي قل لهم يا محمد: إِن توسعة الرزق وتضييقه ليس دليلاً على رضى الله، فقد يوسّع الله على الكافر والعاصي، ويضيق على المؤمن والمطيع ابتلاءً وامتحاناً، فلا تظنوا أن كثرة الأموال والأولاد دليل المحبة والسعادة، بل هي تابعة للحكمة والمشيئة {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} أي ولكنَّ أكثر هؤلاء الكفرة لا يعلمون الحقيقة، فيظنون أن كثرة الأموال والأولاد للشرف والكرامة، وكثيراً ما يكون للاستدراج كما قال تعالى {سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ} ولهذا أكَّد ذلك بقوله {وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى } أي ليست أموالكم ولا أولادكم التي تفتخرون بها وتكاثرون هي التي تقربكم من الله قربى، وإِنما يقرّب الإِيمان والعمل الصالح، قال الطبري: الزلفى: القربى، ولا يعتبر الناس بكثرة المال والولد، ولهذا قال تعالى بعده {إِلا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا} أي إِلا المؤمن الصالح الذي ينفق ماله في سبيل الله، ويعلّم ولده الخير ويربيه على الصلاح فهذا الذي يقرّبه من الله {فَأُوْلَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا} أي تُضاعف حسناتهم، الحسنة بعشر أمثالها وبأكثر إِلى سبعمائة ضعف {وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ} أي وهم في منازل الجنة العالية آمنون من كل عذاب ومكروه، ولما ذكر جزاء المؤمنين، ذكر عقاب الكافرين، ليظهر التباين بين الجزاءين فقال {وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ} أي يسعون في الصدِّ عن سبيل الله، واتباع آياته ورسله، معاندين لنا يظنون أنهم يفوتوننا بأنفسهم {أُوْلَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ} أي فهم مقيمون في العذاب، محضرون يوم القيامة للحساب {قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ} أي قل يا محمد: إِن ربي يوسّع الرزق لمن يشاء من خلقه، ويقتَر على من يشاء، فلا تغتروا بالأموال التي رزقكم الله إِيَّاها، قال في التسهيل: كررت الآية لاختلاف القصد، فإِنَّ القصد بالأول الكفار، والقصد هنا ترغيب المؤمنين بالإِنفاق {وَمَا أَنفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ} أي وما أنفقتم في سبيل الله قليلاً أو كثيراً فإِن الله تعالى يعوّضه عليكم إِما عاجلاً أو آجلاً { وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} أي هو تعالى خير المعطين، فإِنَّ عطاء غيره بحساب، وعطاؤه تعالى بغير حساب، قال المفسرون: لما بيَّن أنَّ الإِيمان والعمل الصالح هو الذي يقرب العبد إِلى ربه، ويكون مؤدياً إِلى مضاعفة حسناته، بيَّن أن نعيم الآخرة لا ينافي سعة الرزق في الدنيا، بل الصالحون قد يبسط لهم الرزق في الدنيا، مع ما لهم في الآخرة من الجزاء الأوفى والمثوبة الحسنى بمقتضى الوعد الإِلهي.



تقريع الكفار بسؤال الملائكة عن عبادة هؤلاء



{وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهَؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ(40)قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ(41)فَالْيَوْمَ لا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعًا وَلا ضَرًّا وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّتِي كُنتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ(42)}.



{وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا} أي واذكر يوم يحشر الله المشركين جميعاً من تقدم ومن تأخر للحساب والجزاء {ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهَؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ}؟ الاستفهام للتقريع والتوبيخ للمشركين، أي أهؤلاء عبدوكم من دوني وأنتم أمرتموهم بذلك؟ قال الزمخشري: هذا الكلام خطاب للملائكة وتقريع للكفار، وارد على المثل السائر "إِيَّاك أعني واسمعي يا جارة" ونحوه قوله تعالى {أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إِلهين من دون الله}؟ وقد علم سبحانه أن الملائكة وعيسى منزهون عما نُسب إليهم، والغرض من السؤال والجواب أن يكون تقريع المشركين أشد، وخجلهم أعظم {قالوا سبحانك أنت وليُّنا من دونهم} أي تعاليت وتقدست يا ربنا عن أن يكون معك إِله، أنت ربنا ومعبودنا الذي نتولاه ونعبده ونخلص له العبادة، ونحن نتبرأ إِليك منهم {بل كانوا يعبدون الجن} أي بل كانوا يعبدون الشياطين لأنهم هم الذين زينوا لهم عبادة غير الله فأطاعوهم {أكثرهم بهم مؤمنون} قال الطبري: أي أكثرهم بالجنّ مصدقون يزعمون أنهم بنات الله، تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً ثمّ قال تعالى رداً على مزاعم المشركين {فَالْيَوْمَ لا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعًا وَلا ضَرًّا} أي ففي هذا اليوم -يوم الحساب- لا ينفع العابدون ولا المعبودون بعضهم لبعضٍ، لا بشفاعة ونجاة، ولا بدفع عذاب وهلاك، قال أبو السعود: يخاطبون بذلك على رؤوس الأشهاد إِظهاراً لعجزهم وقصورهم عن نفع عابديهم، وإِظهاراً لخيبة رجائهم بالكلية، ونسبة عدم النفع والضر إِلى البعض للمبالغة في المقصود، كأن نفع الملائكة لعبدتهم في الاستحالة كنفع العبدة لهم {وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا} أي ونقول للظالمين الذين عبدوا غير الله {ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّتِي كُنتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ} أي ذوقوا عذاب جهنم التي كذبتم بها في الدنيا فها قد وردتموها.



لما يستحق الكفار العقوبة؟



{وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلا رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ ءاباؤُكُمْ وَقَالُوا مَا هَذَا إِلا إِفْكٌ مُفْتَرًى وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءهُمْ إِنْ هَذَا إِلا سِحْرٌ مُبِينٌ(43)وَمَا آتَيْنَاهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ(44)وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَمَا بَلَغُوا مِعْشَارَ مَا آتَيْنَاهُمْ فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ(45)قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ(46)قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِي إِلا عَلَى اللَّهِ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ(47)قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلامُ الْغُيُوبِ(48)قُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ(49)قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنْ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ(50)}.



ثم بيَّن تعالى لوناً آخر من كفرهم وضلالهم فقال؟ {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ} أي وإِذا تُليت على هؤلاء المشركين آيات القرآن واضحات المعاني، بينات الإِعجاز، وسمعوها غضة طريةً من لسان رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم {قَالُوا مَا هَذَا إِلا رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ ءاباؤُكُمْ} أي ما هذا الذي يزعم الرسالة إِلا رجلٌ مثلكم يريد أن يمنعكم عمَّا كان يعبد أسلافكم من الأوثان والأصنام {وَقَالُوا مَا هَذَا إِلا إِفْكٌ مُفْتَرًى} أي ما هذا القرآن إِلا كذبٌ مختلق على الله {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءهُمْ إِنْ هَذَا إِلا سِحْرٌ مُبِينٌ} أي وقال أولئك الكفرة المتمردون بجراءتهم على الله ومكابرتهم للحقِّ النيّر: ما هذا القرآن إِلا سحرٌ واضح ظاهر لا يخفى على لبيب، قال الزمخشري: وفيه تعجيب من أمرهم بليغ، حيث بتّوا القضاء على أنه سحر، ثم بتّوه على أنه بيِّن ظاهر، كل عاقلٍ تأمله سمَّاه سحراً وفي قوله {لَمَّا جَاءهُمْ} المبادهة بالكفر من غير تأمل، ثم بيَّن تعالى أنهم لم يقولوا ذلك عن بينة، ولم يكذبوا محمداً عن يقين، بل عن ظنٍّ وتخمين، فقال {وَمَا آتَيْنَاهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا} أي وما أنزلنا على أهل مكة كتاباً قبل القرآن يقرؤون فيه ويتدارسونه {وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ} أي وما بعثنا إِليهم قبلك يا محمد رسولاً ينذرهم عذاب الله، فمن أين كذبوك؟ قال الطبري: أي ما أنزل الله على العرب كتاباً قبل القرآن، ولا بعث إِليهم نبياً قبل محمد صلى الله عليه وسلم {وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَمَا بَلَغُوا مِعْشَارَ مَا آتَيْنَاهُمْ} أي وكذَّب قبلهم أقوام من الأمم السابقين وما بلغ كفار مكة عشر ما آتينا الأمم التي كانت قبلهم من القوة والمال وطول العمر، قال ابن عباس: {مِعْشَارَ مَا آتَيْنَاهُمْ} أي من القوة في الدنيا {فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ} أي فلمّا كذبوا رسلي جاءهم عذابي بالتدمير والاستئصال، ولم يغن عنهم ما كانوا فيه من القوة، فكيف حال هؤلاء إِذا جاءهم العذاب والهلاك؟ وفيه تهديدٌ لقريش {قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ} أي قل يا محمد لهؤلاء المشركين إِنما أنصحكم وأوصيكم بخصلةٍ واحدة ثم فسرها بقوله {أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى} أي هي أن تتحرَّوا الحق لوجه الله والتقرب له مجتمعين ووحداناً، أو اثنين اثنين وواحداً واحداً، قال القرطبي: وهذا القيام معناه القيام إِلى طلب الحق، لا القيام الذي هو ضدُّ القعود {ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ} أي ثم تتفكروا في أمر محمد لتعلموا أن من ظهر على يديه هذا الكتاب المعجز لا يمكن أن يكون به مسٌّ من الجنون أو يكون مجنوناً، قال أبو حيان: ومعنى الآية: إِنما أعظكم بواحدة فيها إِصابتكم الحقَّ وهي أن تقوموا لوجه الله متفرقين اثنين اثنين، وواحداً واحداً، ثم تتفكروا في أمر محمد وما جاء به، وإِنما قال {مَثْنَى وَفُرَادَى} لأن الجماعة يكون مع اجتماعهم تشويش الخاطر والمنع من التفكر، كما يكون في الدروس التي يجتمع بها الجماعة، وأما الاثنان إِذا نظرا نظر إِنصاف وعرض كل واحدٍ منهما على صاحبه ما ظهر له فلا يكاد الحقُّ أن يعدوهما، وإِذا كان الواحد جيّد الفكر عرف الحق، فإِذا تفكروا عرفوا أن نسبته عليه السلام للجنون لا يمكن، ولا يذهب إلى ذلك عاقل {إِنْ هُوَ إِلا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ} أي ما هو إِلا رسول منذر لكم إِن كفرتم من عذاب شديدٍ في الآخرة {قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ} أي لا أسألكم على تبليغ الرسالة أجراً، قال الطبري: المعنى إِني لم أسألكم على ذلك جعلاً فتتهموني وتظنوا أني إِنما دعوتكم إِلى اتباعي لمالٍ آخذه منكم {إِنْ أَجْرِي إِلا عَلَى اللَّهِ} أي ما أجري وثوابي إِلا على الله رب العالمين {وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} أي هو تعالى رقيب وحاضر على أعمالي وأعمالكم، لا يخفى عليه شيء وسيجازي الجميع، قال أبو السعود: أي هو مطلع يعلم صدقي وخلوص نيتي {قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ} أي يبيِّن الحجة ويظهرها، قال ابن عباس: يقذف الباطل بالحق كقوله {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ} {عَلامُ الْغُيُوبِ} أي هو تعالى الذي أحاط علماً بجميع الغيوب التي غابت وخفيت عن الخلق {قُلْ جَاءَ الْحَقُّ} أي جاء نور الحق وسطع ضياؤه وهو الإِسلام {وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ} أي ذهب الباطل بالمرَّة فليس له بدءٌ ولا عودٌ، قال الزمخشري: إِذا هلك الإنسان لم يبق له إِبداءٌ ولا إِعادة، فجعلوا قولهم {لا يبدئ ولا يعيد} مثلاً في الهلاك والمعنى: جاء الحق وهلك الباطل كقوله تعالى {وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ} {قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي} أي قل يا محمد لهؤلاء المشركين إِن حصل لي ضلالٌ -كما زعمتم- فإِن إِثم ضلالي على نفسي لا يضر غيري {وَإِنْ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي} أي وإِن اهتديتُ إِلى الحق فبهداية الله وتوفيقه {إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ} أي سميعٌ لمن دعاه، قريب الإِجابة لمن رجاه، قال أبو السعود: يعلم قول كلٍ من المهتدي والضال وفعله وإِن بالغ في إِخفائهما.



حال الكفار بعد خروجهم من القبور





{وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ(51)وَقَالُوا ءامنّا بِهِ وَأَنَّى لَهُمْ التَّنَاوُشُ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ(52)وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ (53)وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِمْ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ(54)}.





{وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا} أي ولو ترى يا محمد حال المشركين عند فزعهم إِذا خرجوا من قبورهم {فَلا فَوْتَ} أي فلا مخلص لهم ولا مهرب {وَأُخِذُوا مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ} أي أخذوا من الموقف -أرض المحشر- إِلى النار، وجواب {لَوْ} محذوف تقديره: لرأيت أمراً عظيماً وخطباً جسيماً ترتعد له الفرائص {وَقَالُوا ءامنّا بِهِ} أي وقالوا عندما عاينوا العذاب ءامنّا بالقرآن وبالرسول {وَأَنَّى لَهُمْ التَّنَاوُشُ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ} أي ومن أين لهم تناول الإِيمان وهم الآن في الآخرة ومحل الإِيمان في الدنيا، وقد ذهبت الدنيا فصارت منهم بمكان بعيد؟ قال أبو حيان: مثَّل حالهم بحال من يريد أن يتناول الشيء من بعدٍ كما يتناوله الآخر من قرب {وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ} أي والحال أنهم قد كفروا بالقرآن وبالرسول من قبل ذلك في الدنيا، فكيف يحصل لهم الإِيمان بهما في الآخرة ‍{وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ} أي يرمون بظنونهم في الأمور المغيبة فيقولون: لا بعث ولا حساب، ولا جنة ولا نار، قال القرطبي: والعربُ تقول لكل من تكلم بما لا يعرف هو يقذف ويرجم بالغيب، على جهة التمثيل لمن يرمي ولا يصيب {وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ} أي وحيل بينهم وبين الإِيمان ودخول الجنان {كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِمْ مِنْ قَبْلُ} أي كما فعل بأشباههم في الكفر من الأمم السابقة {إِنَّهُمْ كَانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ} أي كانوا في الدنيا في شك وارتياب من أمر الحساب والعذاب، وقوله {مُرِيبٍ} من باب التأكيد كقولهم عجبٌ عجيب.

yacine414
2011-04-01, 17:36
سورة فاطر

بعض مظاهر القدرة الإلهية، والتذكير بنعم الله

تحقق الوعد بالبعث، وعداوة الشيطان، وجزاء الكافرين والمؤمنين

بعض دلائل قدرة الله إثباتاً للبعث

مثل المؤمن والكافر، وآيات قدرته تعالى

تذكير المؤمنين بنعم الله، والمسؤولية الفردية

مثال آخر للمؤمن والكافر، وإرسال الرسل إلى الأمم

إثبات وحدانية الله بالأدلة السماوية والأرضية

تصديق القرآن للكتب السابقة، وأنواع ورثته، وجزاء المؤمنين

جزاء الكافرين وأحوالهم في النار

توبيخ المشركين على عبادتهم الأوثان

إنكار المشركين الرسالة النبوية وتهديدهم بالإهلاك



بَين يَدَي السُّورَة

* سورة فاطر مكية نزلت قبل هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهي تسير في الغرض العام الذي نزلت من أجله الآيات المكية، والتي يرجع أغلبها إلى المقصد الأول من رسالة كل رسول، وهو قضايا العقيدة الكبرى "الدعوة إلى توحيد الله، وإِقامة البراهين على وجوده، وهدم قواعد الشرك، والحثّ على تطهير القلوب من الرذائل، والتحلي بمكارم الأخلاق".



* تحدثت السورة الكريمة في البدء عن الخالق المبدع، الذي فطر الأكوان، وخلق الملائكة والإِنس والجان، وأقامت الأدلة والبراهين على البعث والنشور، في صفحات هذا الكون المنظور، بالأرض تحيا بعد موتها، بنزول الغيث، وبخروج الزروع والفواكه والثمار، وبتعاقب الليل والنهار، وفي خلق الإِنسان في أطوار، وفي إيِلاج الليل في النهار، وغير ذلك من دلائل القدرة والوحدانية.



* وتحدثت عن الفارق الكبير بين المؤمن والكافر، وضربت لهما الأمثال بالأعمى والبصير، والظلمات والنور، والظل والحرور.



* ثم تحدثت عن دلائل القدرة في اختلاف أنواع الثمار، وفي سائر المخلوقات من البشر والدواب والأنعام، وفي اختلاف أشكال الجبال والأحجار، وتنوعها ما بين أبيض وأسود وأحمر، وكلها ناطقة بعظمة الواحد القهار.



* وتحدثت بعد ذلك عن ميراث هذه الأمة المحمدية لأشرف الرسالات السماوية، بإِنزال هذا الكتاب المجيد الجامع لفضائل كتب الله، ثم انقسام الأمة إلى ثلاثة أنواع: "المقصِّر، والمحسن، والسابق بالخيرات".



* وختمت السورة بتقريع المشركين في عبادتهم للأوثان والأصنام والأحجار.



التسميــَة:

سميت "سورة فاطر" لذكر هذا الاسم الجليل، والنعت الجميل في طليعتها، لما في هذا الوصف من الدلالة على الإِبداع والاختراع والإِيجاد لا على مثالٍ سابق، ولما فيه من التصوير الدقيق، المشير إلى عظمة ذي الجلال، وباهر قدرته، وعجيب صنعه، فهو الذي خلق الملائكة وأبدع تكوينهم بهذا الخلق العجيب.



* * *



بعض مظاهر القدرة الإلهية، والتذكير بنعم الله

{الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ(1)مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ(2)يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لا إِلَهَ إِلا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ(3)وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ(4)}



{الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} أي الثناء الكامل، والذكر الحسن، مع التعظيم والتبجيل لله جلَّ وعلا، خالق السماوات والأرض ومنشئها من غير مثالٍ سبق، قال البيضاوي: {فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} أي مبدعهما وموجدهما على غير مثال {جَاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً} أي جاعل الملائكة وسائط بين الله وأنبيائه لتبليغهم أوامر الله، قال ابن الجوزي: يرسلهم إِلى الأنبياء وإِلى ما شاء من الأمور {أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ} أي أصحاب أجنحة، قال قتادة: بعضهم له جناحان، وبعضهم له ثلاثة، وبعضهم له أربعة، ينزلون بها من السماء إلى الأرض، ويعرجون بها إلى السماء {يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ} أي يزيد في خلق الملائكة كيف يشاء، من ضخامة الأجسام، وتفاوت الأشكال، وتعدد الأجنحة، وقد رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم جبريل ليلة الإِسراء وله ستمائة جناح، بين كل جناحين كما بين المشرق والمغرب، وقال قتادة: {يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ}: الملاحةُ في العينين، والحسنُ في الأنف، والحلاوة في الفم {إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} أي هو تعالى قادر على ما يريد، له الأمر والقوة والسلطان، لا يمتنع عليه فعل شيءٍ أراده، ولا يتأبى عليه خلق شيء أراده، وصف تعالى نفسه في هذه الآيات بصفتين جليلتين تحمل كل منهما صفة القدرة وكمال الإِنعام الأولى: أنه فاطر السماوات والأرض أي خالقهما ومبدعهما من غير مثالٍ يحتذيه، ولا قانون ينتحيه، وفي ذلك دلالة على كمال قدرته، وشمول نعمته، فهو الذي رفع السماء بغير عمد، وجعلها مستويةً من غير أوّد، وزينها بالكواكب والنجوم، وهو الذي بسط الأرض، وأودعها الأرزاق والأقوات، وبثَّ فيها البحار والأنهار، وفجَّر فيها العيون والآبار، إلى غير ما هنالك من آثار قدرته العظيمة، وآثار صنعته البديعة، وعبَّر عن ذلك كله بقوله {فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} والثانية: اختيار الملائكة ليكونوا رسلاً بينه وبين أنبيائه، وقد أشار إلى طرفٍ من عظمته وكمال قدرته جل وعلا بأن خلق الملائكة بأشكال عجيبة، وصور غريبة، وأجنحة عديدة، فمنهم من له جناحان ومنهم من له ثلاثة، ومنهم من له أربعة، ومنهم من له ستمائة جناح، ما بين كل جناحين كما بين المشرق والمغرب، كما هو وصف جبريل عليه السلام، ومنهم من لا يعلم حقيقة خلقته وضخامة صورته إلا الله جل وعلا، فقد روى الزهري أن جبريل قال للنبي صلى الله عليه وسلم: (يا محمد كيف لو رأيت إسرافيل! إِنَّ له لاثنيْ عشر ألف جناح، منها جناح بالمشرق وجناح بالمغرب، وإِن العرش لعلى كاهله) ولو كشف لنا الحجاب لرأينا العجب العجاب، فسبحان الله ما أعظم خلقه، وما أبدع صنعه!! ثم بيَّن تعالى نفاذ مشيئته، ونفوذ أمره في هذا العالم الذي فطره ومن فيه، وأخضعه لإِرادته وتصرفه فقال: {مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا} أيْ أيُّ شيء يمنحه الله لعباده ويتفضل به عليهم من خزائن رحمته، من نعمةٍ، وصحةٍ، وأمنٍ، وعلمٍ، وحكمةٍ، ورزقٍ، وإرسال رسلٍ لهداية الخلق، وغير ذلك من صنوف نعمائه التي لا يحيط بها عدٌّ، فلا يقدر أحدٌ على إِمساكه وحرمان خلق الله منه، فهو الملك الوهاب الذي لا مانع لما أعطى، ولا معطي لِما منع {وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ} أيْ وأيُّ شيء يمسكه ويحبسه عن خلقه من خيري الدنيا والآخرة، فلا أحد يقدر على منحه للعباد بعد أن أمسكه جل وعلا {وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} أي هو تعالى الغالب على كل شيء، الحكيم في صنعه، الذي يفعل ما يريد على مقتضى الحكمة والمصلحة، قال المفسرون: والفتحُ والإِمساك عبارة عن العطاء والمنع، فهو الذي يضر وينفع، ويعطي ويمنع، وفي الحديث "أحقُّ ما قال العبد وكلُّنا لك عبد: اللهم لا مانع لما أعطيتَ، ولا معطي لما منعتَ، ولا ينفع ذا الجدَّ منك الجد" ثم ذكَّرهم تعالى بنعمه الجليلة عليهم فقال {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ} أي اشكروا ربكم على نعمه التي لا تُعدُّ ولا تُحْصى التي أنعم بها عليكم، قال الزمخشري: ليس المراد بذكر النعمة ذكرها باللسان فقط، ولكن المراد حفظها من الكفران، وشكرها بمعرفة حقها، والاعتراف بها، وإِطاعة موليها، ومنه قول الرجل لمن أنعم عليه: أذكرْ أياديَّ عندك {هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ} استفهام إِنكاري بمعنى النفي أي لا خالق غيره تعالى، لا ما تعبدون من الأصنام {يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ} أي حال كونه تعالى هو المنعم على العباد بالرزق والعطاء، فهو الذي ينزل المطر من السماء، ويخرج النبات من الأرض، فكيف تشركون معه ما لا يخلق ولا يرزق من الأوثان والأصنام؟ ولهذا قال تعالى بعده {لا إِلَهَ إِلا هُوَ} أي لا ربَّ ولا معبود إلا اللهُ الواحد الأحد {فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ} أي فكيف تُصرفون بعد هذا البيان، ووضوح البرهان، إلى عبادة الأوثان؟ والغرض: تذكير الناس بنعم الله، وإِقامة الحجة على المشركين، قال ابن كثير: نبه تعالى عباده وأرشدهم إلى الاستدلال على توحيده، بوجوب إِفراد العبادة له، فكما أنه المستقل بالخلق والرزق، فكذلك يجب أن يُفرد بالعبادة، ولا يُشرك به غيره من الأصنام والأوثان {وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ} تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم على تكذيب قومه له والمعنى: وإِن يكذبك يا محمد هؤلاء المشركون فلا تحزن لتكذيبهم، فهذه سنة الله في الأنبياء من قبلك، فقد كُذّبوا وأُوذوا حتى أتاهم نصرنا، فلك بهم أسوة، ولا بدَّ أن ينصرك الله عليهم {وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ} أي إلى الله تعالى وحده مرجع أمرك وأمرهم، وسيجازي كلاً بعمله، وفيه وعيد وتهديد للمكذبين.





تحقق الوعد بالبعث، وعداوة الشيطان، وجزاء الكافرين والمؤمنين

{يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ(5)إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ(6)الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَالَّذِينَ ءامنوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ(7)أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ(8)}



سبب النزول:

نزول الآية (8):

{أفمن زيِّن له سوء عمله}: أخرج جويبر عن الضحاك عن ابن عباس قال: أنزلت هذه الآية: {أفمن زُيِّن له سوء عمله} حيث قال النبي صلى الله عليه وسلم: "اللهم أعِزَّ دينك بعمر بن الخطاب، أو بأبي جهل بن هشام" فهدى الله عمر، وأضلّ أبا جهل، ففيهما أنزلت.



ثم ذكَّرهم تعالى بذلك الموعد المحقَّق فقال {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ} أي إِن وعده لكم بالبعث والجزاء حقٌّ ثابتٌ لا محالة لا خُلف فيه {فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا} أي فلا تلهكم الحياة الدنيا بزخرفها ونعيمها عن الحياة الآخرة، قال ابن كثير: أي لا تتلهَّوا عن تلك الحياة الباقية، بهذه الزهرة الفانية {وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ} أي ولا يخدعنكم الشيطان المبالغ في الغرور فيطمعكم في عفو الله وكرمه، ويمنيكم بالمغفرة مع الإِصرار على المعاصي. ثم بيَّن تعالى عداوة الشيطان للإِنسان فقال: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا} أي إِن الشيطان لكم أيها الناس عدوٌ لدود، وعداوته قديمة لا تكاد تزول فعادوه كما عاداكم ولا تطيعوه، وكونوا على حذرٍ منه، قال بعض العارفين: يا عجباً لمن عصى المحسن بعد معرفته بإِحسانه، وأطاع اللعين بعد معرفته بعداوته {إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ} أي إِنما غرضه أن يقذف بأتباعه في نار جهنم المستعرة التي تشوي الوجوه والجلود، لا غرض له إِلا هذا، فهل يليق بالعاقل أن يستجيب لنداء الشيطان اللعين؟ قال الطبري: أي إِنما يدعو شيعته ليكونوا من المخلدين في نار جهنم التي تتوقد على أهلها {الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ} أي الذين جحدوا بالله ورسله لهم عذاب دائم شديد لا يُقدر قدره، ولا يوصف هولُه {وَالَّذِينَ ءامنوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} أي جمعوا بين الإِيمان والعمل الصالح {لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ} أي لهم عند ربهم مغفرةٌ لذنوبهم، وأجر كبير وهو الجنة، وإِنما قرن الإِيمان بالعمل الصالح ليشير إِلى أنهما لا يفترقان، فالإِيمان تصديقٌ، وقول، وعمل {أَفمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا} الاستفهام للإِنكار وجوابه محذوف والتقدير أفمن زيَّن له الشيطان عمله السيء حتى رآه حسناً واستحسن ما هو عليه من الكفر والضلال، كمن استقبحه واجتنبه واختار طريق الإِيمان؟ ودلَّ على هذا الحذف قوله تعالى {فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} أي الكلُّ بمشيئة الله، فهو تعالى الذي يصرف من يشاء عن طريق الهدى، ويهدي من يشاء بتوفيقه للعمل الصالح والإِيمان {فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ} أي فلا تغتمَّ يا محمد ولا تُهلك نفسك حسرةً على تركهم الإِيمان {إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} أي هو جل وعلا العالم بما يصنع هؤلاء من القبائح ومجازيهم عليها، وفيه وعيد لهم بالعقاب على سوء صنيعهم.



بعض دلائل قدرة الله إثباتاً للبعث

{وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِكَ النُّشُورُ(9)مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُوْلَئِكَ هُوَ يَبُورُ(10)وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجًا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلا تَضَعُ إِلا بِعِلْمِهِ وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلا فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ(11)}



{وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ} أي والله تعالى بقدرته هو الذي أرسل الرياح مبشرة بنزول المطر {فَتُثِيرُ سَحَابًا} أي فحركت السحاب وأهاجته، والتعبيرُ بالمضارع عن الماضي {فَتُثِيرُ} لاستحضار تلك الصورة البديعة، الدالة على كمال القدرة والحكمة {فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ} أي فسقنا السحاب الذي يحمل الغيث إلى بلدٍ مجدب قاحل {فَأَحْيَيْنَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} فيه حذفٌ تقديره فأنزلنا به الماء فأحيينا به الأرض بعد جدبها ويبسها {كَذَلِكَ النُّشُورُ} أي كما أحيا الله الأرض الميتة بالماء، كذلك يحيي الموتى من قبورهم، روى الإِمام أحمد عن أبي رزين العقيلي قال قلت يا رسول الله: كيف يُحْيي اللهُ الموتى؟ وما آيةُ ذلك في خلقه؟ فقال: (أما مررتَ بوادي أهلك مُمْحلاً، ثم مررتَ به يهتز خضراً؟ قلت: نعم يا رسول الله، قال: فكذلك يُحْيي اللهُ الموتى، وتلك آيتُه في خلقه) قال ابن كثير: كثيراً ما يستدل تعالى على المعاد بإِحيائه الأرض بعد موتها، فإِن الأرض تكون ميتة هامدة لا نبات فيها، فإِذا أرسل الله إِليها السحاب تحمل الماء وأنزله عليها {اهتزّتْ وربتْ وأنبتت من كل زوج بهيج} كذلك الأجساد إِذا أراد الله بعثها ونشورها، ثمَّ نبَّه تعالى عباده إِلى السبيل الذي تُنال به العزة فقال {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا} أي من كان يطلب العزة الكاملة، والسعادة الشاملة، فليطلبها من الله تعالى وحده، فإِن العزة كلَّها لله جل وعلا، قال بعض العارفين: من أراد عزَّ الدارين فليطع العزيز {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} أي إليه جلَّ وعلا يرتفع كل كلام طيب من ذكر، ودعاءٍ، وتلاوة قرآن، وتسبيح وتمجيد ونحوه، قال الطبري: إلى الله يصعد ذكرُ العبد إِيَّاه وثناؤه عليه {وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} أي والعمل الصالح يتقبله الله تعالى ويثيب صاحبه عليه، قال قتادة: لا يقبل الله قولاً إلاَّ بعمل، من قال وأحسن العمل قبل الله منه، نقله الطبري {وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ} هذا بيانٌ للكلم الخبيث بعد بيان حال الكلام الطيب أي والذين يحتالون بالمكر والخديعة لإِطفاء نور الله، والكيد للإِسلام والمسلمين، لهم في الآخرة عذاب شديد في نار جهنم {وَمَكْرُ أُوْلَئِكَ هوَ يَبُورُ} أي ومكر أولئك المجرمين هالكٌ وباطل، لأنه ما أسرَّ أحد سوءاً ودبَّره إلا أبداه الله وأظهره {ولا يحيق المكر السيء إلا بأهله} قال المفسرون: والإِشارة هنا إلى مكر قريشٍ برسول الله صلى الله عليه وسلم حين اجتمعوا في دار الندوة وأرادوا أن يقتلوه، أو يحبسوه، أو يخرجوه كما حكى القرآن الكريم {وإِذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يُخْرجوك} ثم ذكَّرهم تعالى بدلائل التوحيد والبعث، بعد أن ذكَّرهم بآيات قدرته وعزته فقال {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ} أي خلق أصلكم وهو آدم من تراب {ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ} أي ثم خلق ذريته من ماءٍ مهين وهو المنيُّ الذي يُصبُّ في الرحم {ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجًا} أي خلقكم ذكوراً وإِناثاً، وزوَّج بعضكم من بعضٍ ليتم البقاء في الدنيا إلى انقضائها، قال الطبري: أي زوَّج منهم الأنثى من الذكر {وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلا تَضَعُ إِلا بِعِلْمِهِ} أي وما تحمل أنثى في بطنها من جنين، ولا تلد إِلاَّ بعلمه تعالى، يعلم أذكر هو أو أُنثى، ويعلم أطوار هذا الجنين في بطن أمه، لا يخفى عليه شيء من أحواله {وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلا فِي كِتَابٍ} أي وما يطول عُمر أحدٍ من الخلق فيصبح هرماً، ولا يُنقص من عُمر أحد فيموت وهو صغير أو شاب، إِلا وهو مسجَّل في اللوح المحفوظ، لا يُزاد فيما كتب الله ولا يُنقص {إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} أي سهلٌ هيّن، لأن الله قد أحاط بكل شيء علماً.

yacine414
2011-04-01, 17:37
مثل المؤمن والكافر، وآيات قدرته تعالى

{وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ(12)يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُسَمًّى ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ(13)إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ(14)}



ثم ضرب تعالى مثلاً للمؤمن والكافر فقال: {وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ} أي وما يستوي ماء البحر وماء النهر {هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ} أي هذا ماء حلوٌ شديد الحلاوة يكسر وهج العطش، ويسهل انحداره في الحلق لعذوبته {وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ} أي وهذا ماءٌ شديد الملوحة، يُحرق حلق الشارب لمرارته وشدة ملوحته، فكما لا يتساوى البحران: العذبُ، والملح، فكذلك لا يتساوى المؤمن مع الكافر، ولا البرُّ مع الفاجر، قال أبو السعود: هذا مثلٌ ضرب للمؤمن والكافر، والفراتُ الذي يكسر العطش، والسائغ الذي يسهل انحداره لعذوبته، والأُجاج الذي يُحرق بملوحته {وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا} أي ومن كل واحدٍ منهما تأكلون سمكاً غضاً طرياً، مختلف الأنواع والطعوم والأشكال {وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا} أي وتستخرجون منهما اللؤلؤ والمرجان للزينة والتحلي {وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ} أي وترى أيها المخاطب السفن العظيمة، تمخرُ عُباب البحر مقبلة ومدبرة، تحمل على ظهرها الأثقال والبضائع والرجال، وهي لا تغرق فيه لأنها بتسخير الله جل وعلا {لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ} أي لتطلبوا بركوبكم هذه السفن العظيمة من فضل الله بأنواع التجارات، والسفر إلى البلدان البعيدة في مدة قريبة {وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} أي ولكي تشكروا ربكم على إنعامه وإِفضاله في تسخير ذلك لكم، ثم انتقل إلى آية أخرى من ءايات قدرته وسلطانه في الآفاق فقال {يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ} أي يدخل الليلَ في النهار، ويدخل النهار في الليل، فيضيف من هذا إلى هذا وبالعكس، فيتفاوت بذلك طول الليل والنهار بالزيادة والنقصان، حسب الفصول والأمصار، حتى يصل النهار صيفاً -في بعض البلدان- إلى ستة عشرة ساعة، وينقص الليل حتى يصل إلى ثماني ساعات -آيةٌ من ءايات الله تُشاهد لا يستطيع إِنكارها جاحد أو مؤمن، ويحس بآثارها الأعمى والبصير .. آيةٌ شاهدة على قدرة الله، ودقة تصرفه في خلقه، وهذه الظاهرة الكونية دستور لا يتغيَّر، ونظام محكم لا يأتي بطريق الصدفة، وإِنما هو من صنع الله الذي أتقن كل شيء خلقه، فسبحان المدبر الحكيم العليم!! {وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُسَمًّى} أي ذلَّلهما لمصالح العباد، كل منهما يسير ويدور في مداره الذي قدَّره الله له لا يتعداه، إِلى أجلٍ معلوم هو يوم القيامة {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ} أي ذلكم الفاعل لهذه الأمور البديعة، هو ربكم العظيم الشأن، الذي له المُلك والسلطان والتصرف الكامل في الخلق {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ} أي والذين تعبدون من دون الله من الأوثان والأصنام لا يملكون شيئاً ولو بمقدار القطمير، وهو القشرة الرقيقة التي بين التمرة والنواة، قال المفسرون: وهو مثلٌ يضرب في القلة والحقارة، والأصنامُ لضعفها، وَهَوان شأنها وعجزها عن أي تصرف صارت مضرب المثل في حقارتها بأنها لا تملك فتيلاً ولا قطميراً، ثم أكد تعالى ذلك بقوله {إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ} أي إن دعوتم هذه الأصنام لم يسمعوا دعاءكم ولم يستجيبوا لندائكم، لأنها جمادات لا تسمع ولا تفهم {وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ} أي ولو سمعوا لدعائكم -على الفرض والتسليم- ما استجابوا لكم لأنها ليست ناطقة فتجيب {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ} أي وفي الآخرة حين ينطقهم الله يتبرءون منكم ومن عبادتكم إياهم {وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} أي ولا يخبرك يا محمد على وجه اليقين أحدٌ إلا أنا - الله - الخالق العليم الخبير، قال قتادة: يعني نفسه عز وجل.



تذكير المؤمنين بنعم الله، والمسؤولية الفردية

{يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمْ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ(15)إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ(16)وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ(17)وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى إِنَّمَا تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالغَيْبِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ(18)}

{

يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمْ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ} الخطاب لجميع البشر لتذكيرهم بنعم الله الجليلة عليهم أي أنتم المحتاجون إليه تعالى في بقائكم وكل أحوالكم، وفي الحركات والسكنات {وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} أي وهو جل وعلا الغنيُّ عن العالم على الإِطلاق، المحمودُ على نعمه التي لا تُحْصى، قال أبو حيان: هذه آيةُ موعظة وتذكير، وأن جميع الناس محتاجون إلى إحسان الله تعالى وإِنعامه، في جميع أحوالهم، لا يستغني أحدٌ عنه طرفة عين، وهو الغنيُّ عن العالم على الإِطلاق، المحمود على ما يسديه من النعم، المستحق للحمد والثناء، ثم قرر استغناءه عن الخلق بقوله {إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ} أي لو شاء تعالى لأهلككم وأفناكم وأتى بقومٍ آخرين غيركم، وفي هذا وعيدٌ وتهديد {وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ} أي وليس ذلك بصعبٍ أو ممتنع على الله، بل هو سهل يسير عليه سبحانه، لأنه يقول للشيء كنْ فيكون {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} أي لا تحمل نفسٌ آثمةٌ إثم نفسٍ أخرى، ولا تعاقب بذنبٍ غيرها كما يفعل جبابرة الدنيا من أخذ الجار بالجار، والقريب بالقريب {وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى} أي وإِن تدع نفس مثقلةٌ بالأوزار أحداً ليحمل عنها بعض أوزارها لا يتحمل عنها ولو كان المدعو قريباً لها كالأب والابن، فلا غياث يومئذٍ لمن استغاث، وهو تأكيد لما سبق في أن الإِنسان لا يتحمل ذنب غيره، قال الزمخشري: فإِن قلت فما الفرق بين الآيتين؟ قلت: الأول في الدلالة على عدل الله تعالى في حكمه، وأنه تعالى لا يؤاخذ نفساً بغير ذنبها، والثاني: في أنه لا غياث يومئذٍ لمن استغاث {إِنَّمَا تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالغَيْبِ} أي إِنما تنذر يا محمد بهذا القرآن الذين يخافون عقاب ربهم يوم القيامة {وَأَقامُوا الصَّلاةَ} أي وأدوا الصلاة على الوجه الأكمل، فضموا إلى طهارة نفوسهم طهارة أبدانهم بالصلاة المفروضة في أوقاتها {وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ} أي ومن طهَّر نفسه من أدناس المعاصي فإِنما ثمرة ذلك التطهر عائدة عليه، فصلاحه وتقواه مختص به ولنفسه {وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ} أي إليه تعالى وحده مرجع الخلائق يوم القيامة فيجازي كلاً بعمله، وهو إخبار متضمنٌ معنى الوعيد.



مثال آخر للمؤمن والكافر، وإرسال الرسل إلى الأمم

{وَمَا يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ(19)وَلا الظُّلُمَاتُ وَلا النُّورُ(20)وَلا الظِّلُّ وَلا الْحَرُورُ(21)وَمَا يَسْتَوِي الأَحْيَاءُ وَلا الأَمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ(22)إِنْ أَنْتَ إِلا نَذِيرٌ(23)إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلا خلا فِيهَا نَذِيرٌ(24)وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتَابِ الْمُنِيرِ(25)ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ(26)}



{وَمَا يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ} هذا مثلٌ ضربه الله للمؤمن والكافر أي كما لا يتساوى الأعمى مع البصير فكذلك لا يتساوى المؤمن المستنير بنور القرآن، والكافر الذي يتخبط في الظلام، {وَلا الظُّلُمَاتُ وَلا النُّورُ} أي لا يتساوى كذلك الكفر والإِيمان، كما لا يتساوى النور والظلام {وَلا الظِّلُّ وَلا الْحَرُورُ} أي وكذلك لا يستوي الحقُّ والباطل، والهدى والضلال كما لا يستوي الظل الظليل مع شدة حر الشمس المتوهجة، قال المفسرون: ضرب الله الظل مثلاً للجنة وظلها الظليل، وأشجارها اليانعة تجري من تحتها الأنهار، كما جعل الحرور مثلاً للنار وسعيرها، وشدة أوراها وحرها، وجعل الجنة مستقراً للأبرار، والنار مستقراً للفجار كما قال تعالى {لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة} ثم أكد ذلك فقال {وَمَا يَسْتَوِي الأَحْيَاءُ وَلا الأَمْوَاتُ} أي كما لا يستوي العقلاء والجهلاء، قال أبو حيان: وترتيب هذه الأشياء في بيان عدم الاستواء جاء في غاية الفصاحة، فقد ذكر الأعمى والبصير مثلاً للمؤمن والكافر، فذكر ما عليه الكافر من ظلمة الكفر، وما عليه المؤمن من نور الإِيمان، ثم ذكر مآلهما وهو الظلُّ والحرور، فالمؤمن بإِيمانه في ظل وراحة، والكافر بكفره في حر وتعب، ثم ذكر مثلاً آخر على أبلغ وجه وهو الحيُّ والميت، فالأعمى قد يكون فيه بعض النفع بخلاف الميت، وجمع الظلمات لأن طرق الكفر متعددة، وأفرد النور لأن التوحيد والحق واحدٌ لا يتعدد، وقدَّم الأشرف في المثلين الأخيرين وهما "الظل، والحيُّ" وقدَّم الأوضح في المثلين الأولين وهما "الأعمى، والظلمات" ليظهر الفرق جلياً، ولا يقال ذلك لأجل السجع لأن معجزة القرآن ليست في مجرد اللفظ، بل في المعنى أيضاً، فلله سرُّ القرآن، ثم زاد في الإِيضاح والبيان فقال {إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ} أي إن الله يسمع من يشاء إسماعه دعوة الحق، فيحبِّبه بالإِيمان ويشرح صدره للإِسلام، وما أنت يا محمد بمسمع هؤلاء الكفار، لأنهم أموات القلوب لا يدركون ولا يفقهون، قال ابن الجوزي: أراد بمن في القبور الكفار، وشبههم بالموتى، أي فكما لا يقدر أن يسمع من في القبور كتاب الله وينتفع بمواعظه، فكذلك من كان ميّت القلب لا ينتفع بما يسمع {إِنْ أَنْتَ إِلا نَذِيرٌ} أي ما أنتَ إلا رسول منذر، تخوّف هؤلاء الكفار من عذاب النار {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا} أي بعثناك بالهدى ودين الحق، بشيراً للمؤمنين ونذيراً للكافرين {وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلا خلا فِيهَا نَذِيرٌ} أي ما من أمةٍ من الأمم في العصور والأزمنة الخالية إلا وقد جاءها رسول {وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم للتأسي بالأنبياء في الصبر على تحمل الأذى والبلاء، قال الطبري: أي وإِن يكذبك يا محمد هؤلاء المشركون من قومك فقد كذب الذين من قبلهم من الأمم السابقة رسلهم {جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ} أي جاءتهم الرسل بالمعجزات البينات، والحجج الواضحات فكذبوهم وأنكروا ما جاءوا به من عند الله {وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتَابِ الْمُنِيرِ} أي وجاءوهم بالزُّبُر أي الصحف المنزلة على الأنبياء، وبالكتب السماوية المقدسة المنيرة الموضحة وهي أربعة "التوراة، والإِنجيل، والزبور، والفرقان" ومع ذلك كذبوهم وردّوا عليهم رسالتهم فاصبر كما صبروا {ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا} أي ثم بعد إمهالهم أخذتُ هؤلاء الكفار بالهلاك والدمار {فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ} أي فكيف كانت عقوبتي لهم وإِنكاري عليهم؟ ألم آخذهم أخذ عزيز مقتدر؟ ألم أبدِّل نعمتهم نقمة، وسعادتهم شقاوة، وعمارتهم خراباً؟ وهكذا أفعل بمن كذَّب رسلي.



إثبات وحدانية الله بالأدلة السماوية والأرضية

{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنْ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ(27)وَمِنْ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ(28)إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ(29)لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ(30)}



سبب نزول الآية (29):

{إن الذين يتلون ..}: أخرج عبد الغني بن سعيد الثقفي في تفسيره عن ابن عباس أن حصين بن الحارث بن عبد المطلب بن عبد مناف القرشي نزلت فيه: {إن الذين يتلون كتاب الله وأقاموا الصلاة} الآية.



ثم عاد إلى تقرير وحدانية الله بالأدلة السماوية والأرضية فقال {أَلَمْ تَرَى أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً} أي ألم تر أيها المخاطب أن الله العظيم الكبير الجليل أنزل من السحاب المطر بقدرته؟ {فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا} أي فأخرجنا بذلك الماء أنواع النباتات والفواكه والثمار، المختلفات الأشكال والألوان والطعوم، قال الزمخشري: أي مختلف أجناسها من الرمان والتفاح والتين والعنب وغيرها مما لا يُحصر، أو هيئاتها من الحمرة والصفرة والخضرة ونحوها {وَمِنْ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا} أي وخلق الجبال كذلك فيها الطرائق المختلفة الألوان -وإِن كان الجميع حجراً أو تراباً- فمن الجبال جُدَد -أي طرائق- مختلفة الألوان، بيضٌ مختلفة البياض، وحمر مختلفة في حمرتها {وَغَرَابِيبُ سُودٌ} أي وجبال سودٌ غرابيب أي شديدة السواد، قال ابن جزي: قدَّم الوصف الأبلغ وكان حقه أن يتأخر، وذلك لقصد التأكيد وكثيراً ما يأتي مثلُ هذا في كلام العرب، والغرضُ بيان قدرته تعالى، فليس اختلاف الألوان قاصراً على الفواكه والثمار بل إن في طبقات الأرض وفي الجبال الصلبة ما هو أيضاً مختلف الألوان، حتى لتجد الجبل الواحد ذا ألوانٍ عجيبة، وفيه عروق تشبه المرجان، ولا سيما في صخور "المرمر" فسبحان القادر على كل شيء {وَمِنْ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ} أي وخلق من الناس، والدواب، والأنعام، خلقاً مختلفاً ألوانه كاختلاف الثمار والجبال، فهذا أبيض، وهذا أحمر، وهذا أسود، والكلُّ خلق الله فتبارك الله أحسن الخالقين .. ثم لما عدَّد ءاياتِ الله، وأعلام قدرته، وآثار صنعه، وما خلق من الفطر المختلفة الأجناس أتبع ذلك بقوله {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} أي إِنما يخشاه تعالى العلماء لأنهم عرفوه حقَّ معرفته، قال ابن كثير: أي إِنما يخشاه حقَّ خشيته العلماء العارفون به، لأنه كلما كانت المعرفة للعظيم القدير أتم، والعلم به أكمل، كانت الخشية له أعظم وأكثر {إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ} أي غالب على كل شيء بعظمته، غفور لمن تاب وأناب من عباده، ثم أخبر عن صفات هؤلاء الذين يخافون الله ويرجون رحمته فقال {إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ} أي يداومون على تلاوة القرآن آناء الليل وأطراف النهار {وَأَقَامُوا الصَّلاةَ} أي أدوها على الوجه الأكمل في أوقاتها، بخشوعها وآدابها، وشروطها وأركانها {وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً} أي وأنفقوا بعض أموالهم في سبيل الله وابتغاء رضوانه في السر والعلن {يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ} أي يرجون بعملهم هذا تجارة رابحة، لن تكسد ولن تهلك بالخسران أبداً {لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ} أي ليوفيهم الله جزاء أعمالهم، وثواب ما فعلوا من صالح الأعمال، ويزيدهم -فوق أجورهم- من فضله وإِنعامه وإِحسانه، قال ابن جزي: توفية الأجور هو ما يستحقه المطيع من الثواب، والزيادة: التضعيف فوق ذلك أو النظر إِلى وجه الله {إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ} أي مبالغ في الغفران لأهل القرآن، شاكر لطاعتهم، قال ابن كثير: كان مطرف إذا قرأ هذه الآية قال: هذه آية القراء.







تصديق القرآن للكتب السابقة، وأنواع ورثته، وجزاء المؤمنين

{وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللَّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ(31)ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ(32)جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ(33)وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ(34)الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ(35)}



سبب النزول:

نزول الآية (35):

{الذي أحلنا دار المقامة}: أخرج البيهقي وابن أبي حاتم عن عبد الله بن أبي أوفى قال: "قال رجل للنبي صلى الله عليه وسلم: إن النوم مما يُقِرُّ الله به أعيننا في الدنيا، فهل في الجنة من نوم؟ قال: لا، إن النوم شريك الموت، وليس في الجنة موت، قال: فما راحتهم؟ فاعظم ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: ليس فيها لغوب، كل أمرهم راحة، فنزلت: {لا يمسنا فيها نصب، ولا يمسنا فيها لغوب}".

{وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنْ الْكِتَابِ هُوَ الْحَقُّ} أي والذي أوحيناه إليك يا محمد من الكتاب المنزَّل -القرآن العظيم- هو الحق الذي لا شك فيه، ولا ريب في صدقه {مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ} أي حال كونه مصدقاً لما سبقه من الكتب الإِلهية المنزلة كالتوراة والإِنجيل والزبور، قال أبو حيان: وفي الآية إِشارة إلى كونه وحياً، لأنه عليه السلام لم يكن قارئاً ولا كاتباً وأتى ببيان ما في كتب الله، ولا يكون ذلك إلا من الله {إِنَّ اللَّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ} أي هو جل وعلا خبير بعباده محيط ببواطن أمورهم وظواهرها، بصيرٌ بهم لا تخفى عليه خافية من شئونهم.

{ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا} أي ثم أورثنا هذا القرآن العظيم لأفضل الأمم -وهم أمة محمد عليه السلام- الذين اخترناهم على سائر الأمم، وخصصناهم بهذا الفضل العظيم، القرآن المعجز خاتمة الكتب السماوية، قال الزمخشري: والذين اصطفاهم الله هم أمة محمد من الصحابة والتابعين ومن بعدهم إلى يوم القيامة.. ثم قسمهم إلى ثلاثة أصناف فقال {فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ} أي فمن هؤلاء الذين أورثناهم الكتاب من هو مقصِّر في عمل الخير، يتلو القرآن ولا يعمل به وهو الظالم لنفسه، ومنهم من متوسط في فعل الخيرات والصالحات، يعمل بالقرآن في أغلب الأوقات، ويقصِّر في بعض الفترات وهو المقتصد، ومنهم من هو سبَّاق في العمل بكتاب الله، يستبق الخيرات وقد أحرز قصب السبق في فعل الطاعات بتوفيق الله وتيسيره وهو السابق بالخيرات بإِذن الله، قال ابن جزي: وأكثر المفسرين أن هذه الأصناف الثلاثة في أمة محمد صلى الله عليه وسلم فالظالم لنفسه: العاصي، والسابق: التقيُّ، والمقتصد: بينهما، وقال الحسن البصري: السابقُ من رجحت حسناته على سيئاته، والظالم لنفسه من رجحت سيئاته، والمقتصد من استوت حسناته وسيئاته، وجميعهم يدخلون الجنة {ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ} أي ذلك الإِرث والاصطفاء لأمة محمد عليه السلام لحمل أشرف الرسالات والكتب السماوية هو الفضل العظيم الذي لا يدانيه فضل ولا شرف، فقد تفضل الله عليهم بهذا القرآن المجيد، الباقي مدى الدهر، وأنعم به من فضل! ثم أخبر تعالى عما أعده للمؤمنين في جنات النعيم فقال {جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا} أي جنات إِقامة ينعَّمون فيها بأنواع النعيم، وهي مراتب ودرجات متفاوتة حسب تفاوت الأعمال، وإِنما جمع {جنات} لأنها جنات كثيرة وليست جنة واحدة، فهناك جنة الفردوس، وجنة عدن، وجنة النعيم، وجنة المأوى، وجنة الخلد، وجنة السلام، وجنة عليين، وفي كل جنة مراتبُ ونُزلُ بحسب مراتب العاملين {يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا} أي يزينون في الجنة بأساور من ذهب مرصَّعة باللؤلؤ {وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ} أي وجميع ما يلبسونه في الجنة من الحرير، بل فرشهم وستورهم كذلك، قال القرطبي: لما كانت الملوك تلبس في الدنيا الأساور والتيجان، جعل الله ذلك لأهل الجنة، وليس أحد من أهل الجنة إلا في يده ثلاثة أسورة: سوارٌ من ذهب، وسوار من فضة، وسوار من لؤلؤ {وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ} أي وقالوا عند دخولهم الجنة الحمدُ لله الذي أذهب عنا جميع الهموم والأكدار والأحزان، قال المفسرون: عبرَّ بالماضي {وَقَالُوا} لتحقق وقوعه، والحزن يعمُّ كل ما يكدِّر صفو الإِنسان من خوف المرض، والفقر، والموت، وأهوال القيامة، وعذاب النار وغير ذلك {إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ} أي واسع المغفرة للمذنبين، شكور لطاعة المطيعين، وكلا اللفظتين للمبالغة أي واسع الغفران عظيم الشكر والإِحسان {الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامةِ مِنْ فَضْلِهِ} أي أنزلنا الجنة وأسكننا فيها، وجعلها مقراً لنا وسكناً، لا نتحول عنها أبداً، وكل ذلك من إِنعامه وتفضله علينا {لا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ} أي لا يصيبنا فيها تعب ولا مشقة {وَلا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ} أي ولا يصيبنا فيها إِعياءٌ ولا فتور، قال ابن جزي:وإِنما سميت الجنة {دَارَ الْمُقَامَةِ} لأنهم يقومون فيها ويمكثون ولا يُخرجون منها، والنَّصبُ تعبُ البدن، واللغوبُ تعب النفس الناشئ عن تعب البدن.



جزاء الكافرين وأحوالهم في النار

{وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ(36)وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمْ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ(37)إِنَّ اللَّهَ عَالِمُ غَيْبِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ(38)هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ فِي الأَرْضِ فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَلا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلا مَقْتًا وَلا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلا خَسَارًا(39)}



ولما ذكر تعالى حال السعداء الأبرار، ذكر حال الأشقياء الفجار فقال {وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ} أي والذين جحدوا بآيات الله وكذبوا رسله فإِنَّ لهم نار جهنم المستعرة جزاءً وفاقاً على كفرهم {لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا} أي لا يحكم عليهم بالموت فيها حتى يستريحوا من عذاب النار {وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا} أي ولا يخفف عنهم شيء من العذاب، بل هم في عذاب دائم مستمر لا ينقطع كقوله {كلما خبتْ زدناهم سعيراً} {كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ} أي مثل ذلك العذاب الشديد الفظيع، نجازي ونعاقب كل مبالغ في الكفر والعصيان {وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا} أي وهم يتصارخون في جهنم ويستغيثون برفع أصواتهم قائلين: ربنا أخرجنا من النار وردنا إلى الدنيا لنعمل عملاً صالحاً يقربنا منك، غير الذي كنا نعمله، قال القرطبي: أي نؤمن بدل الكفر، ونطيع بدل المعصية، ونمتثل أمر الرسل .. وفي قولهم {غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ} اعترافٌ بسوء عملهم، وتندُّمٌ عليه وتحسر، قال تعالى رداً عليهم وموبخاً لهم {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ} أي أولم نترككم ونمهلكم في الدنيا عمراً مديداً يكفي لأن يتذكر فيه من يريد التذكر والتفكر؟ فماذا صنعتم في هذه المدة التي عشتموها؟ وما لكم تطلبون عُمراً آخر؟ وفي الحديث "أعذر الله إلى امرئٍ أخَّر أجله حتى بلغ ستين سنة" ومعنى "أعذر" أي بلغ به أقصى العذر {وَجَاءَكُمْ النَّذِيرُ} أي وجاءكم الرسول المنذر وهو محمد عليه السلام الذي بعث بين يدي الساعة، وقيل: {النَّذِيرُ} هو الشيبُ، والأول أظهر {فذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ} أي فذوقوا العذاب يا معشر الكافرين، فليس لكم اليوم ناصر ولا معين يدفع عنكم عذاب الله، قال الإِمام الفخر: والأمرُ أمرُ إِهانة {فَذُوقُوا} وفيه إشارة إلى الدوام، وإِنما وضعَ الظاهر {لِلظَّالِمِين} موضع الضمير "لكم" لتسجيل الظلم عليهم، وأنهم بكفرهم وظلمهم ليس لهم نصيرٌ أصلاً لا من الله ولا من العباد، ثم قال تعالى {إِنَّ اللَّهَ عَالِمُ غَيْبِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} أي هو تعالى العالم الذي أحاط علمه بكل ما خفي في الكون من غيب السماوات والأرض، لا يخفى عليه شأن من شئونهما {إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} أي يعلم جلَّ وعلا مضمرات الصدور، وما تخفيه من الهواجس والوساوس، فكيف لا يعلم أعمالهم الظاهرة؟ قال المفسرون: والجملة لتأكيد ما سبق من دوام عذاب الكفار في النار، لأن الله تعالى يعلم من الكافر أنه تمكَّن الكفر في قلبه بحيث لو دام في الدنيا إلى الأبد ما ءامن بالله ولا عبَده، فالعذابُ الأبديُّ مساوٍ لكفرهم الأبدي، فلا ظلم ولا زيادة {ولا يظلم ربك أحداً} قال القرطبي: والمعنى في الآية علم أنه لو ردكم إلى الدنيا لم تعملوا صالحاً كما قال تعالى {ولو ردُّوا لعادوا لما نهُوا عنه} {هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ فِي الأَرْضِ} أي هو تعالى جعلكم أيها الناس خلائف في الأرض، بعد عاد وثمود ومن مضى قبلكم من الأمم، تخلفونهم في مساكنهم جيلاً بعد جيل، وقرناً بعد قرن {فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ} أي فمن كفر بالله فعليه وبال كفره، لا يضر بذلك إلا نفسه {وَلا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلا مَقْتًا} أي ولا يزيدهم كفرهم إلا طرداً من رحمة الله وبعداً وبغضاً شديداً من الله {وَلا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلا خَسَارًا} أي ولا يزيدهم كفرهم إلا هلاكاً وضلالاً وخسران العمر الذي ما بعده شر وخسار!! قال أبو حيان: وفي الآية تنبيه على أنه تعالى استخلفهم بدل من كان قبلهم، فلم يتعظوا بحال من تقدمهم من المكذبين للرسل وما حلَّ بهم من الهلاك، ولا اعتبروا بمن كفر، ولا اتعظوا بمن تقدم، والمقتُ أشد الاحتقار والبغض، والخسارُ خسارُ العمر، كأنَّ العمر رأس مال الإِنسان فإِذا انقضى في غير طاعة الله فقد خسره، واستعاض به بدل الربح سخط الله وغضبه، بحيث صار إلى النار المؤبدة.



توبيخ المشركين على عبادتهم الأوثان

{قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكَاءَكُمْ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا فَهُمْ عَلَى بَيِّنتٍ مِنْهُ بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا إِلا غُرُورًا(40)إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا(41)}



ثم وبَّخ تعالى المشركين في عبادتهم ما لا يسمع ولا ينفع فقال {قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكَاءَكُمْ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ}؟ قال الزمخشري: {أَرَأَيْتُمْ} معناها أخبروني كأنه قال: أخبروني عن هؤلاء الشركاء وعما استحقوا به الإِلهية والشركة، ومعنى الآية: قل يا محمد تبكيتاً لهؤلاء المشركين: أخبروني عن شأن آلهتكم - الأوثان والأصنام - الذين عبدتموهم من دون الله، وأشركتموهم معه في العبادة، بأي شيء استحقوا هذه العبادة؟ {أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الأَرْضِ} أي أروني أيَّ شيء خلقوه في هذه الدنيا من المخلوقات حتى عبدتموهم من دون الله؟ {أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ} أي أم شاركوا اللهَ في خلق السموات فاستحقوا بذلك الشركة معه في الألوهية؟ {أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا فَهُمْ عَلَى بَيِّنَتٍ مِنْهُ} أي أم أنزلنا عليهم كتاباً ينطق بأنهم شركاء الله فهم على بصيرة وحجة وبرهان في عبادة الأوثان {بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا إِلا غُرُورًا} إضرابٌ عن السابق وبيانٌ للسبب الحقيقي أي إِنما اتخذوهم آلهة بتضليل الرؤساء للأتباع بقولهم: الأصنام تشفع لهم، وهو غرور باطل وزور، قال أبو السعود: لما نفى أنواع الحجج أضرب عنه بذكر ما حملهم عليه، وهو تغرير الأسلاف للأخلاف، وإِضلال الرؤساء للأتباع بأنهم يشفعون لهم عند الله .. ثم ذكر تعالى دلائل قدرته ووحدانيته فقال {إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ أَنْ تَزُولا} أي هو جل وعلا بقدرته وبديع حكمته، يمنع السماوات والأرض من الزوال، والسقوط، والوقوع قال القرطبي: لما بيَّن أن آلهتم لا تقدر على خلق شيء من السماوات والأرض، بيَّن أن خالقهما وممسكهما هو الله، فلا يوجد حادث إلا بإِيجاده، ولا يبقى إِلا ببقائه {وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ} أي ولئن زالتا عن أماكنهما - فرضاً - ما أمسكهما أحدٌ بعد الله، بمعنى أنه لا يستطيع أحدٌ على إِمساكهما، إِنما هما قائمتان بقدرة الواحد القهار {إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا} أي إِنه تعالى حليم لا يعاجل العقوبة للكفار مع استحقاقهم لها، واسع المغفرة والرحمة لمن تاب منهم وأناب.





إنكار المشركين الرسالة النبوية وتهديدهم بالإهلاك

{وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الأُمَمِ فَلَمَّا جَاءهُمْ نَذِيرٌ مَا زَادَهُمْ إِلا نُفُورًا(42)اسْتِكْبَارًا فِي الأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلا بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلا سُنَّتَ الأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً(43)أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا(44)وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا(45)}



سبب النزول:

نزول الآية (42):

{وأقسموا بالله}: أخرج ابن أبي حاتم عن أبن أبي هلال أنه بلغه: أن قريشاً كانت تقول: لو أن الله بعث منا نبياً، ما كانت أمة من الأمم أطوع لخالقها، ولا أسمع لنبيها، ولا أشد تمسكاً بكتابها منا، فأنزل الله: {وإن كانوا ليقولون: لو أن عندنا ذِكْراً من الأولين} [الصافات: 168] {ولو أنا أنزل علينا الكتاب لكنا أهدى منهم} [الأنعام: 157] {وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءهم نذير ليكونن أهدى من إحدى الأمم} وكانت اليهود تستفتح عل النصارى به، فيقولون: إنا نجد نبياً يخرج.



{وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ} أي حلف المشركون بالله أشدَّ الأيمان وأبلغها، قال الصاوي: كانوا يحلفون بآبائهم وأصنامهم فإِذا أرادوا التأكيد والتشديد حلفوا بالله {لَئِنْ جَاءَهُمْ نَذِيرٌ} أي لئن جاءهم رسول منذر {لَيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الأُمَمِ} أي ليكونُنَّ أهدى من جميع الأمم الذين أرسل الله إليهم الرسل من أهل الكتاب، قال أبو السعود: بلغ قريشاً قبل مبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم أنَّ أهل الكتاب كذبوا رسلهم فقالوا: لعن اللهُ اليهودَ والنصارى، أتتهم الرسلُ فكذبوهم، فواللهِ لئن أتانا رسول لنكوننَّ أهدى من اليهود والنصارى وغيرهم { فَلَمَّا جَاءهُمْ نَذِيرٌ} أي فلما جاءهم محمد صلى الله عليه وسلم أشرف المرسلين {مَا زَادَهُمْ إِلا نُفُورًا} أي ما زادهم مجيئه إلا تباعداً عن الهدى والحق وهرباً منه {اسْتِكْبَارًا فِي الأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ} أي نفروا منه بسبب استكبارهم عن اتباع الحق، وعتوهم وطغيانهم في الأرض، ومن أجل المكر السيء بالرسول وبالمؤمنين، ليفتنوا ضعفاء الإِيمان عن دين الله، قال أبو حيان: أي سبب النفور هو الاستكبار والمكر السيء يعني أن الحامل لهم على الابتعاد من الحق هو الاستكبار، والمكرُ السيءُ وهو الخداع الذي يرومونه برسول الله صلى الله عليه وسلموالكيد له، قال تعالى رداً عليهم {وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلا بِأَهْلِهِ} أي ولا يحيط وبال المكر السيء إلا من مكره ودبَّره كقولهم "من حفر حفرة لأخيه وقع فيها" {فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلا سُنَّتَ الأَوَّلِينَ} أي فهل ينتظر هؤلاء المشركون إلا عادة الله وسنته في الأمم المتقدمة، من تعذيبهم وإِهلاكهم بتكذيبهم للرسل؟ {فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلاً} أي لن تتغير ولن تتبدل سنته تعالى في خلقه {وَلَنْ تَجِدَ لِسُنّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً} أي ولا يستطيع أحد أن يحوّل العذاب عنهم إلى غيرهم، قال القرطبي: أجرى الله العذاب على الكفار، فلا يقدر أحد أن يُبدّل ذلك، ولا أن يُحوّل العذاب عن نفسه إلى غيره، والسُّنة هي الطريقة .. ثم حثهم تعالى على مشاهدة آثار من قبلهم من المكذبين ليعتبروا فقال {أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ}؟ أولم يسافروا ويمروا على القرى المهلكة فيروا آثار دمار الأمم الماضية حين كذبوا رسلهم ماذا صنع الله بهم؟ {وَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً} أي وكانوا أقوى من أهل مكة أجساداً، وأكثر منهم أموالاً وأولاداً {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ} أي أنه سبحانه لا يفوته شيء، ولا يصعب عليه أمر في هذا الكون {إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا} أي بالغ العلم والقدرة، عالم بشئون الخلق، قادر على الانتقام ممن عصاه {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ} بيانٌ لحلم الله ورحمته بعباده أ ي لو آخذهم بجميع ذنوبهم ما ترك على ظهر الأرض أحداً يدب عليها من إنسان أو حيوان، قال ابن مسعود: يريد جميع الحيوان مما دبَّ ودرج {وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} أي ولكنه تعالى من رحمته بعباده، ولطفه بهم، يمهلهم إلى زمن معلوم وهو يوم القيامة فلا يعجل لهم العذاب {فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا} أي فإِذا جاء ذلك الوقت جازاهم بأعمالهم، إن خيراً فخير، وإِن شراً فشر، لأنه تعالى العالم بشئونهم المطلع على أحوالهم، قال ابن جرير: بصيراً بمن يستحق العقوبة، وبمن يستوجب الكرامة، وفي الآية وعيدٌ للمجرمين ووعد للمتقين.

yacine414
2011-04-01, 17:38
سورة يس



القَسَم بالقرآن، وحال الرسول مع قومه

قصة أصحاب قرية أنطاكية

بعض ءايات من قدرة الله عز وجل

تعامي الكفار عن الحق وإعراضهم عن الهدى

إنكار المشركين البعث واستبعادهم قيام الساعة

جزاء الأبرار المتقين

جزاء المجرمين الأشقياء

إثبات وجود الله ووحدانيته

إقامة الدليل القاطع على قيام البعث والنشور





بَين يَدَي السُّورَة



* سورة يس مكية وقد تناولت مواضيع أساسية ثلاثة وهي: "الإِيمان بالبعث والنشور، وقصة أهل القرية، والأدلة والبراهين على وحدانية رب العالمين".



* ابتدأت السورة الكريمة بالقسم بالقرآن العظيم على صحة الوحي، وصدق رسالة محمد صلى الله عليه وسلم ثم تحدثت عن كفار قريش، الذين تمادوا في الغي والضلال، وكذبوا سيد الرسل محمد بن عبد الله، فحقَّ عليهم عذاب الله وانتقامه.



* ثم ساقت قصة أهل القرية "أنطاكية" الذين كذبوا الرسل، لتحذر من عاقبة التكذيب بالوحي والرسالة، على طريقة القرآن في استخدام القصص للعظة والاعتبار.



* وذكرت موقف الداعية المؤمن "حبيب النَّجار" الذي نصح قومه فقتلوه فأدخله الله الجنة، ولم يمهل المجرمين بل أخذهم بصيحة الهلاك والدمار.



* وتحدثت السورة عن دلائل القدرة والواحدانية، في هذا الكون العجيب، بدءاً من مشهد الأرض الجرداء تدب فيها الحياة، ثم مشهد الليل ينسلخ عنه النهار، فإِذا هو ظلامٌ دامسٌ، ثم مشهد الشمس الساطعة تدور بقدرة الله في فلكٍ لا تتخطاه، ثم مشهد القمر يتدرج في منازله، ثم مشهد الفلك المشحون يحمل ذرية البشر الأولين، وكلها دلائل باهرة على قدرة الله جل وعلا.



* وتحدثت عن القيامة وأهوالها، وعن نفخة البعث والنشور، التي يقوم الناس فيها من القبور، وعن أهل الجنة وأهل النار، والتفريق بين المؤمنين والمجرمين في ذلك اليوم الرهيب، حتى يستقر السعداء في روضات النعيم، والأشقياء في دركات الجحيم.



* وختمت السورة الكريمة بالحديث عن الموضوع الأساسي، وهو موضوع "البعث والجزاء"، وأقامت الأدلة والبراهين على حدوثه.



التسميَة:

سميت السورة "سورة يس" لأن الله تعالى افتتح السورة الكريمة بها، وفي الافتتاح بها إشارة إلى إعجاز القرآن الكريم.



فضلهَا:

قال صلى الله عليه وسلم: (إن لكل شيء قلباً وقلبُ القرآن يس، ووَدِدْتُ أنها في قلب كل إنسانٍ من أمتي).







القَسَم بالقرآن، وحال الرسول مع قومه

{يس(1)وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ(2)إِنَّكَ لَمِنْ الْمُرْسَلِينَ(3)عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ(4)تَنزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ(5)لِتُنذِرَ قَوْمًا مَا أُنذِرَ ءاباؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ(6)لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ(7)إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلالاً فَهِيَ إِلَى الأذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ(8)وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ(9)وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ ءأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ(10)إِنَّمَا تُنذِرُ مَنْ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَانَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ(11)إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ(12)}



سبب النزول:

نزول الآية (1-7):

{يس * والقرآن الحكيم}: أخرج أبو نعيم في الدلائل عن ابن عباس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في السجدة، فيجهر بالقراءة حتى يتأذى به ناس من قريش، حتى قاموا ليأخذوه، وإذا أيديهم مجموعة إلى أعناقهم، وإذا بهم عُمْي لا يبصرون، فجاؤوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: ننشدك الله والرحم يا محمد، فدعا حتى ذهب ذلك عنهم. فنزلت: {يس والقرآن الحكيم} إلى قوله: {أم لم تنذرهم لا يؤمنون} فلم يؤمن من ذلك النفر أحد.



نزول الآية (8):

{إنا جعلنا في أعناقهم أغلالاً}: أخرج ابن جرير الطبري عن عكرمة قال: قال أبو جهل: لئن رأيتُ محمداً لأفعلن، فأنزل الله: {إنا جعلنا في أعناقهم أغلالاً} إلى قوله: {لا يبصرون} فكانوا يقولون: هذا محمد، فيقول: أين هو، أين هو؟ لا يبصر.



نزول الاية (12):

{إنا نحن نحي الموتى}: أخرج الترمذي وحسنه، والحاكم وصححه عن أبي سعيد الخدري قال: كانت بنو سَلِمة في ناحية المدينة، فأرادوا النُّقْلَة إلى قرب المسجد، فنزلت هذه: {إنا نحن نحي الموتى ونكتب ما قدموا وآثارهم} فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن آثاركم تُكْتبُ، فلا تنتقلوا". وأخرج الطبراني عن ابن عباس مثله.



{يس} الحروف المقطعة في أوائل بعض السور الكريمة للتنبيه على إعجاز القرآن، وأنه مصوغ من جنس هذه الحروف الهجائية التي يعرفونها ويتكلمون بها، ولكنَّ نظمه البديع المعجز آيةٌ على كونه من عند الله، وقال ابن عباس: معنى "يس" يا إنسان في لغة طيء، وقيل: هو اسم من أسماء النبي صلى الله عليه وسلم بدليل قوله بعده {إِنَّكَ لَمِنْ الْمُرْسَلِينَ} وقيل معناه: يا سيد البشر قاله أبو بكر الوراق {وَالْقرْآنِ الْحَكِيمِ} قسم من الله تعالى بالقرآن، والحكيم معناه المحكم، الذي لا يلحقه تغيير ولا تبديل، ولا يعتريه تناقض أو بطلان، قال القرطبي: أُحكم في نظمه ومعانيه فلا يلحقه خلل، وقال أبو السعود: أي المتضمن للحكمة أو الناطق بالحكمة من حيث نظُمه المعجزُ، المنطوي على بدائع الحكم .. والخلاصة فقد أقسم تعالى بهذا الكتاب المحكم، المعجز في نظمه، وبديع معانيه، المتقن في تشريعه وأحكامه، الذي بلغ أعلى طبقات البلاغة، على أن محمداً رسوله، وفي هذا القسم من التعظيم والتفخيم لشأن الرسول ما فيه {إِنَّكَ لَمِنْ الْمُرْسَلِينَ} جواب القسم أي إنك يا محمد لمن المبعوثين من رب العالمين لهداية الخلق، قال ابن عباس: قالت كفار قريش: لست يا محمد مرسلاً، وما أرسلك الله إلينا، فأقسم الله بالقرآن العظيم المحكم أن محمداً صلى الله عليه وسلم من المرسلين {عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} أي على طريق ونهج مستقيم، لا انحراف فيه ولا اعوجاج، هو الإِسلام دين الرسل قبلك، الذين جاءوا بالإِيمان والتوحيد، قال الطبري: أي على طريق لا اعوجاج فيه من الهدى وهو الإِسلام كما قال قتادة، والتنكير للتفخيم والتعظيم {تَنزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ} أي هذا القرآن الهادي المنير، تنزيلٌ من ربّ العزة جل وعلا، العزيز في ملكه، الرحيم بخلقه {لِتُنذِرَ قَوْمًا مَا أُنذِرَ ءاباؤُهُمْ} أي لتُحَذِّرَ يا محمد بهذا القرآن العرب، الذين ما جاءهم رسولٌ ولا كتاب، لتطاول زمن الفترة عليهم، والمراد بالإِنذار تخويفهم من عذاب الله {فَهُمْ غَافِلُونَ} أي فهم بسبب ذلك غافلون عن الهدى والإِيمان، يتخبطون في ظلمات الشرك وعبادة الأوثان .. ثم بيَّن تعالى استحقاقهم للعذاب بإِصرارهم على الكفر والتكذيب فقال {لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} اللام موطئة للقسم أي والله لقد وجب عذاب النار على أكثر هؤلاء المشركين، بسبب إصرارهم على الكفر والإِنكار، وعدم تأثرهم بالتذكير والإِنذار، فهم لذلك لا يؤمنون بما جئتهم به يا محمد .. ثم بيَّن تعالى سبب تركهم الإِيمان فقال {إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلالاً فَهِيَ إِلَى الأذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُون} تمثيلٌ وتصوير لحال المشركين في ضلالهم بحال الذي جعل في يده غلٌّ وجمعت يده إلى عنقه، فبقي رافعاً رأسه لا يخفضه، قال في الجلالين: وهذا تمثيل والمراد أنهم لا يُذعنون للإِيمان، ولا يخفضون رؤوسهم له، قال ابن كثير: ومعنى الآية: إنا جعلنا هؤلاء المحتوم عليهم بالشقاء، كمن جُعل في عُنقه غلٌّ، وجمعت يداه مع عنقه تحت ذقنه، فارتفع رأسه فصار مُقمحاً، والمُقمح هو الرافع رأسه، واكتفى بذكر الغُلِّ في العنق عن ذكر اليدين، لأن الغُلَّ إِنما يُعرف فيما جمع اليدين مع العنق، وقال أبو السعود: مثَّل حالهم بحال الذين غُلَّت أعناقهم {فَهِيَ إِلَى الأذْقَانِ} أي فالأغلال منتهيةٌ إلى أذقانهم، فلا تدعهم يلتفتون إلى الحق، ولا يعطفون أعناقهم نحوه، ولا يُطأطئون رؤوسهم، غاضون أبصارهم، بحيث لا يكادون يرون الحقَّ، أو ينظرون إلى جهته {وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا} قال أبو السعود: وهذا تتمةٌ للتمثيل وتكميلٌ له أي وجعلنا من أمامهم سداً عظيماً، ومن ورائهم سداً كذلك {فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ} أي فغطينا بهما أبصارهم فهم بسبب ذلك لا يبصرون شيئاً أصلاً، لأنهم أصبحوا محصورين بين سدين هائلين، وهذا بيان لكمال فظاعة حالهم وكونهم محبوسين في مطمورة الغيِّ والجهالات، محرومين عن النظر في الأدلة والآيات، قال المفسرون: وهذا كله تمثيل لسدِّ طرق الإِيمان عليهم، بمن سُدَّت عليه الطرق فهو لا يهتدي لمقصوده {وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ ءأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ} أي يستوي عندهم إنذارك يا محمد وتخويفك لهم وعدمه، لأن من خيَّم على عقله ظلام الضلال، وعشعشت في قلبه شهوات الطغيان، لا تنفعه القوارع والزواجر {لا يُؤْمِنُونَ} أي فهم بسبب ذلك لا يؤمنون، لأنَّ الإِنذار لا يخلق القلوب الميتة، إِنما يوقظ القلب الحيَّ المستعد لتلقي الإِيمان، وهذا تسلية له صلى الله عليه وسلم وكشف لحقيقة ما انطوت عليه قلوبهم من الطغيان {إِنَّمَا تُنذِرُ مَنْ اتَّبَعَ الذِّكْرَ} أي إِنما ينفع إِنذارك يا محمد من آمن بالقرآن وعمل بما فيه {وَخَشِيَ الرَّحْمَانَ بِالْغَيْبِ} أي وخاف الله دون أن يراه، قال أبو حيان: {وَخَشِيَ الرَّحْمَانَ} أي المتصف بالرحمة، والرحمةُ تدعو إلى الرجاء، لكنه مع علمه برحمته يخشاه جل وعلا، خوفاً من أن يسلبه ما أنعم به عليه ومعنى "بالغيب" أي بالخلوة عند مغيب الإِنسان عن عيون البشر {فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ} لما انتفع بالإِنذار كان جديراً بالبشارة أي فبشره يا محمد بمغفرةٍ عظيمة من الله لذنوبه، وأجر كريمٍ في الآخرة في جنات النعيم، قال ابن كثير: الأجر الكريم هو الكثير الواسع، الحسن الجميل وذلك إِنما يكون في الجنة .. ولما ذكر تعالى أمر الرسالة ذكر بعدها أمر البعث والنشور فقال {إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتَى} أي نبعثهم من قبورهم بعد موتهم للحساب والجزاء {وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا} قال الطبري: أي ونكتب ما قدَّموا في الدنيا من خير وشر، ومن صالح الأعمال وسيئها {وَآثَارَهُمْ} أي وآثار خطاهم بأرجلهم إلى المساجد، وفي الحديث عن جابر قال "أراد بنو سَلمة أن يتحولوا إلى قرب المسجد -والبقاع خالية- فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "يا بني سلمة دياركم تُكتب آثارُكم، دياركم تُكتب آثاركم" فقالوا: ما كان يسرنا أنا كنا تحولنا" {وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ} أي وكل شيء من الأشياء أو أمرٍ من الأمور جمعناه وضبطناه في كتاب مسطور هو صحائف الأعمال كقوله تعالى {يوم ندعو كل أناسٍ بإِمامهم} أي بكتاب أعمالهم، الشاهد عليهم بما عملوه من خيرٍ أو شر، وقال مجاهد وقتادة: هو اللوح المحفوظ، وقال أبو حيان: "ونكتب ما قدَّموا" أي ونحصي، فعبَّر عن إحاطة علمه جل وعلا بأعمالهم بالكتابة التي تُضبط بها الأشياء.

قصة أصحاب قرية أنطاكية

{وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ(13)إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ(14)قَالُوا مَا أَنْتُمْ إِلا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَمَا أَنزَلَ الرَّحْمَانُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلا تَكْذِبُونَ(15)قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ(16)وَمَا عَلَيْنَا إِلا الْبَلاغُ الْمُبِينُ(17)قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ(18)قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَئِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ(19)وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ(20)اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ(21)وَمَا لِي لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ(22)ءأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِي الرَّحْمَانُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلا يُنقِذُونِ(23)إِنِّي إِذًا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ(24)إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ(25)قِيلَ ادْخُلْ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ(26)بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ(27)وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُندٍ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا كُنَّا مُنزِلِينَ(28)إِنْ كَانَتْ إِلا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ(29)يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزءُون(30)أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لا يَرْجِعُونَ(31)وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ(32)}



ثم ذكر تعالى للمشركين قصة أهل القرية الذين كذبوا الرسل فأهلكهم الله بصيحةٍ من السماء فقال {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ} أي واذكر يا محمد لقومك الذين كذبوك قصة أصحاب القرية "إنطاكية" التي هي في الغرابة كالمثل السائر والقول العجيب {إِذْ جَاءهَا الْمُرْسَلُونَ} أي حين جاءهم رسلنا الذين أرسلناهم لهدايتهم، قال القرطبي: وهذه القرية هي "إنطاكية" في قول جميع المفسرين أرسل الله إليهم ثلاثة رسل وهم "صادق" و "مصدوق" و "شمعون" أُمر صلى الله عليه وسلم بإِنذار هؤلاء المشركين أن يحل بهم ما حلَّ بكفار أهل القرية المبعوث إليهم ثلاثة رسل من الله، وقيل: هم رسل عيسى {إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا} أي حين بعثنا إليهم رسولين فبادروهما بالتكذيب {فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ} أي قوَّيناهما وشددنا أزرهما برسولٍ ثالث {فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ} أي نحن رسل الله مرسلون لهدايتكم {قَالُوا مَا أَنْتُمْ إِلا بَشَرٌ مِثْلُنَا} أي ليس لكم فضلٌ علينا وما أنتم إلا بشر مثلنا، فكيف أوحى الله إليكم دوننا؟ {وَمَا أَنزَلَ الرَّحْمَنُ مِنْ شَيْءٍ} أي لم ينزل الله شيئاً من الوحي والرسالة {إِنْ أَنْتُمْ إِلا تَكْذِبُونَ} أي ما أنتم إلا قوم تكذبون في دعوى الرسالة {قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ} أي أجابهم الرسل بقولهم الله يعلم أننا رسله إليكم، ولو كنا كذبة لانتقم منا أشدَّ الانتقام، قال ابن جزي: أكدوا الخبر هنا باللام {لَمُرْسَلُونَ} لأنه جواب المنكرين، بخلاف الموضع الأول فإِنه إخبارٌ مجرد {وَمَا عَلَيْنَا إِلا الْبَلاغُ الْمُبِينُ} أي وليس علينا إلا أن نبلغكم رسالة الله بلاغاً واضحاً جلياً لا غموض فيه، فإِن آمنتم فلكم السعادة، وإِن كذبتم فلكم الشقاوة، قال أبو حيان: وفي هذا وعيدٌ لهم، ووصف البلاغ بـ {الْمُبِينُ} لأنه الواضح بالآيات الشاهدة بصحة الإِرسال، كما روي في هذه القصة من المعجزات الدالة على صدق الرسل، من إبراء الأكمه والأبرص وإِحياء الميت {قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ} أي قال لهم أهل القرية: إنّا تشاءمنا بكم وبدعوتكم القبيحة لنا إلى الإِيمان، وترك عبادة الأوثان، قال المفسرون: ووجه تشاؤمهم بالرسل أنهم دعوهم إلى دينٍ غير ما يدينون به، فاستغربوه واستقبحوه ونفرت عنه طبيعتهم المعوجة، فتشاءموا بمن دعا إليه كأنهم قالوا: أعاذنا الله مما تدعوننا إليه، ثم توعَّدُوا الرسل بقولهم {لَئِنْ لَمْ تَنتَهُوا} أي والله لئن لم تمتنعوا عن قولكم، ودعوتكم لنا إلى التوحيد، ورفض ديننا {لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ} أي لنرجمنَّكم بالحجارة حتى تموتوا، ولنقتلنَّكم شرَّ قِتلة {قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ} أي قالت الرسل لهم: ليس شؤمكم بسببنا، وإِنما شؤمكم بسببكم، وبكفركم، وعصيانكم، وسوء أعمالكم {أَئِنْ ذُكِّرْتُمْ}؟ شرطٌ جوابه محذوف لدلالة السياق عليه أي لأئنا ذكرناكم ووعظناكم ودعوناكم إلى توحيد الله، تشاءمتم بنا وتوعدتمونا بالرجم والتعذيب؟ {بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ} أي ليس الأمر كما زعمتم بل أنتم قومٌ عادتكم الإِسرافُ في العصيان والإِجرام، وهو توبيخٌ لهم مع الزجر والتقريع {وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى} أي وجاء من أبعد أطراف المدينة رجل يعدو، يسرع في مشيه وهو "حبيب النجار"، قال ابن كثير: إن أهل القرية همُّوا بقتل رسلهم، فجاءهم رجل من أقصى المدينة يسعى لينصرهم من قومه، وهو -حبيب النجار- كان يعمل الحرير وهو الحباك، وكان كثير الصدقة يتصدق بنصف كسبه، وقال القرطبي: كان حبيب مجذوماً ومنزله عند أقصى أبواب المدينة، وكان يعكف على عبادة الأصنام سبعين سنة يدعوهم لعلهم يرحمونه ويكشفون ضُرَّه، فما استجابوا له، فلما أبصر الرسل ودعوه إلى الله قال: هل من آية؟ قالوا: نحن ندعو ربنا القادر فيفرج عنك ما بك! فقال إن هذا لعجيبٌ، إني أدعو هذه الآلهة سبعين سنة لتفرج عني فلم تستطع فكيف يفرجه ربكم في غداة واحدة؟ قالوا نعم ربنا على ما يشاء قدير، وهذه لا تنفع شيئاً ولا تضر، فآمن ودعوا ربهم فكشف الله ما به، فلمَّا همَّ قومه بقتل الرسل جاءهم مسرعاً وقال ما قصه القرآن {قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ} أي اتبعوا الرسل الكرام الداعين إلى توحيد الله، وإِنما قال {يَا قَوْمِ} تأليفاً لقلوبهم واستمالة لها لقبول النصيحة، ثم كرر القول تأكيداً وبياناً للسبب فقال {اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ} أي اتبعوا هؤلاء الرسل الصادقين المخلصين، الذين لا يسألونكم أُجرة على الإِيمان، وهم على هدى وبصيرة فيما يدعونكم إليه من توحيد الله {وَمَا لِي لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} تلطفٌ في الإِرشاد لهم كأنه ينصح نفسه، ويختار لهم ما يختار لنفسه، وفيه نوع تقريع على ترك عبادة خالقهم، والمعنى أيُ شيء يمنعني من أن أعبد خالقي الذي أبدع خلقي؟ وإِليه مرجعكم بعد الموت فيجازي كلاً بعمله؟ {ءأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً} إستفهام إنكاري أي كيف اتخذ من دون الله آلهة لا تسمع ولا تنفع ولا تغني عن عابدها شيئاً؟ {إِنْ يُرِدْنِي الرَّحْمَانُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا} أي هي في المهانة والحقارة بحيث لو أراد الله أن يُنزل بي شيئاً من الضر والأذى وشفعت لي لم تنفع شفاعتهم ولم يقدروا على إِنقاذي، فكيف وهي أحجار لا تسمع ولا تنفع ولا تشفع؟ {وَلا يُنقِذُونِ} أي ولا يقدرون على إنقاذي من عذاب الله {إِنِّي إِذًا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} أي إني إن عبدت غير الله واتخذت الأصنام آلهة لفي خسران ظاهر جلي .. وبعد النصح والتذكير أعلن إسلامه، وأشهر إيمانه، فقال {إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ} أي إني آمنت بربكم الذي خلقكم، فاسمعوا قولي واعملوا بنصيحتي، قال المفسرون: لما قال لهم ذلك ونصحهم وأعلن إيمانه، وثبوا عليه وثبة رجلٍ واحد فقتلوه، ولم يكن له أحد يمنع عنه أذاهم، قال الطبري: وثبوا عليه فوطئوه بأقدامهم حتى مات، وقيل: رموه بالحجارة حتى مات {قِيلَ ادْخُلْ الْجَنَّةَ} أي فلما مات قال الله له: ادخل الجنة مع الشهداء الأبرار، جزاءً على صدق إِيمانك وفوزك بالشهادة، قال ابن مسعود: إنهم وطئوه بأرجلهم حتى خرجت أمعاؤه من دبره، وقال الله له {ادْخُلْ الْجَنَّةَ} فدخلها فهو يُرزق فيها، قد أذهب الله عنه سقم الدنيا وحُزنها ونَصبَها {قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ * بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ} أي فلمادخل الجنة وعاين ماأكرمه الله بها لإِيمانه وصبره تمنى أن يعلم قومه بحاله، ليعلموا حسن مآله أي يا ليتهم يعلمون بالسبب الذي من أجله غفر لي ربي ذنوبي، وأكرمني بدخول جنات النعيم، قال ابن عباس: نصح قومه في حياته، ونصحهم بعد مماته، قال أبو السعود: وإِنما تمنَّى علم قومه بحاله ليحملهم ذلك على اكتساب الثواب والأجر، بالتوبة عن الكفر والدخول في الإِيمان، جرياً على سنن الأولياء في الترحم على الأعداء {وما أَنزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُندٍ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا كُنَّا مُنزِلِينَ} هذا تحقيرٌ لهم وتصغيرٌ لشأنهم {إِنْ كَانَتْ إِلا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ} أي ما كانت عقوبتهم إلا صيحةً واحدة صاح بهم جبريل، فإِذا هم ميتون لا حراك بهم، قد أُخمدت أنفاسهم حتَّى صاروا كالنار الخامدة، قال المفسرون: وفي الآية استحقار لإِهلاكهم فإِنهم أذل وأهون على الله من أن يرسل الملائكة لإِهلاكهم، وقد روي أنه لما قتل "حبيب النجار" غضب الله تعالى له، فعجَّل لهم النقمة فأمر جبريل فصاح بهم صيحة واحدة، فماتوا عن آخرهم، فجعل طريق استئصالهم بالصيحة، ثم قال تعالى {يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُون} أي يا أسفاً على هولاء المكذبين لرسل الله المنكرين لآياته ويا حسرةً عليهم، ما جاءهم رسولٌ إلا كذبوه واستهزءوا به، وهكذا عادة المجرمين في كل زمان ومكان، قال في حاشية البيضاوي: إنهم أحقاء بان يتحسروا على أنفسهم أو يُتحسر عليهم، فإن الأمر لفخامته وشدته، بلغ بهم مبلغاً عظيماً حيث إنّ كل من يتأتى منه التلهف إذا نظر إلى حال استهزائهم بالرسل تحسَّر عليهم، وقال: يا لها من حسرةٍ وخيبة على هؤلاء المحرومين، حيث بدَّلوا الإِيمان بالكفر، والسعادة بالشقاوة، وفي الآية تعريضٌ بكفار قريش حيث كذبوا سيد المرسلين. ولمّا مثل حال كفار مكة بحال أصحاب القرية وبَّخ المشركين على عدم اعتبارهم بمن سبقهم فقال {أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لا يَرْجِعُونَ} أي ألم يتعظ هؤلاء المشركون بمن أهلك الله قبلهم من المكذبين للرسل، ويعلموا أن هؤلاء المهلكين لا عودة لهم إلى الدنيا بعد هلاكهم {وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ} أي وأن جميع الأمم الماضية والآتية ستحضر للحساب والجزاء يوم القيامة بين يدي أحكم الحاكمين، فيجازيهم بأعمالهم كلها خيرها وشرها؟ قال أبو حيان: وجاءت هذه الجملة بعد ذكر الإِهلاك تبييناً إلى أن الله تعالى لا يترك المهلكين بل بعد الهلاك جمعٌ وحساب، وثواب وعقاب.



بعض ءايات من قدرة الله عز وجل

{وَآيَةٌ لَهُمْ الأرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ(33)وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ الْعُيُونِ(34)لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلا يَشْكُرُونَ(35)سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الأزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الأرْضُ وَمِنْ أَنفُسِهِمْ وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ(36)وَآيَةٌ لَهُمْ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ(37)وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ(38)وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ(39)لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ(40)وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ(41)وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ(42)وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلا صَرِيخَ لَهُمْ وَلا هُمْ يُنقَذُونَ(43)إِلا رَحْمَةً مِنَّا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ(44)}

yacine414
2011-04-01, 17:39
{وَآيَةٌ لَهُمْ الأرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا} أي ومن الآيات الباهرة، والعلامات الظاهرة الدالة على كمال قدرة الله ووحدانيته هذه الآية العظيمة، وهي الأرض اليابسة الهامدة التي لا نبات فيها ولا زرع، أحييناها بالمطر، قال المفسرون: موتُ الأرض جدبها، وإِحياؤها بالغيث، فإِذا أنزل الله عليها الماء اهتزت وربت وأنبتت من كل زوجٍ بهيج ولهذا قال تعالى بعده {وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ} أي وأخرجنا بهذا الماء أنواع الحبوب ليتغذوا به ويعيشوا، قال القرطبي: نبَّههم تعالى بهذا على إحياء الموتى، وذكَّرهم على توحيده وكمال قدرته، بالأرض الميتة أحياها بالنبات، وإِخراج الحب منها، فمن الحبِّ يأكلون وبه يتغذون {وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ} أي وجعلنا في الأرض بساتين ناضرة فيها من أنواع النخيل والعنب {وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ الْعُيُونِ} أي وجعلنا فيها ينابيع من الماء العذب، والأنهار السارحة في بلدان كثيرة {لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ} أي ليأكلوا من ثمرات ما ذُكر من الجنات والنخيل التي أنشأها لهم، ومما عملته أيديهم مما غرسوه وزرعوه بأنفسهم، قال ابن كثير: لما امتنَّ على خلقه بإِيجاد الزروع لهم، عطف بذكر الثمار وأنواعها وأصنافها، وما ذاك كله إلا من رحمة الله تعالى بهم، لا بسعيهم وكدِّهم، ولا بحولهم وقوتهم ولهذا قال {أَفَلا يَشْكُرُونَ}؟ أي أفلا يشكرونه على ما أنعم به عليهم؟ واختار ابن جرير أنَّ "ما" بمعنى الذي أي ليأكلوا من ثمره ومما عملته أيديهم أي من الذي غرسوه ونصبوه {سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الأزْوَاجَ كُلَّهَا} أي تنزّّه وتقدَّس الله العلي الجليل الذي خلق الأصناف كلها، المختلفة الألوان والطعوم والأشكال من جميع الأشياء {مِمَّا تُنْبِتُ الأرْضُ وَمِنْ أَنفُسِهِمْ وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ} أي ممَّا تُخرج الأرضُ من النخيل والأشجار، والزروع والثمار، ومن أنفسهم من الذكور والإِناث، ومما لا يعلمون من المخلوقات العجيبة والأشياء الغريبة كما قال تعالى {ومن كل شيءٍ خلقنا زوجين لعلكم تذكَّرون}. {وَآيَةٌ لَهُمْ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ} أي وعلامةٌ أخرى لهم على كمال قدرتنا الليلُ نزيل عنه الضوء ونفصله عن النهار فإِذا هم داخلون في الظلام، وفي الآية رمزٌ إلى أن الأصل في الكون هو الظلام والنور عارض وهذا ما أكّده العلم الحديث، فإِذا غربت الشمس ينسلخ النهار من الليل ويُكشف ويزول فيظهر الأصل وهو الظلمة {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا} أي وآيةٌ أخرى لهم الشمس تسير بقدرة الله في فَلك لا تتجاوزه ولا تتخطَّاه لزمنٍ تستقر فيه، ولوقتٍ تنتهي إليه وهو يوم القيامة حيث ينقطع جريانها عند خراب العالم، قال ابن كثير: وفي قوله تعالى {لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا} قولان: أحدهما: أن المراد مستقرها المكاني وهو تحت العرش مما يلي الأرض لحديث البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يا أبا ذرٍ أتدري أين تغرب الشمس؟ قلت: اللهُ ورسوله أعلم، قال: فإِنها تذهب حتى تسجد تحت العرش ..) الحديث. والثاني: أن المراد بمستقرها هو منتهى سيرها وهو يوم القيامة، حيث يبطل سيرها، وتسكن حركتها، وتُكور وينتهي هذا العالم إلى غايته، وقرئ {لا مُسْتَقَرَّ لَها} أي لا قرار لها ولا سكون، بل هي سائرة ليلاً ونهاراً، لا تفتر ولا تقف {ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} أي ذلك الجري والدوران بانتظام وبحساب دقيق هو تقدير الإِله العزيز في ملكه، العليم بخلقه {وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ} أي والقمرَ قدرنا مسيره في منازل يسير فيها لمعرفة الشهور، وهي ثمانية وعشرون منزلاً في ثمانية وعشرين ليلة، ينزل كل ليلةٍ في واحد منها لا يتخطاها ولا يتعداها، فإِذا كان في آخر منازله دقَّ واستقوس {حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ} أي حتى صار كغصن النخل اليابس، وهو عنقود التمر حين يجف ويصفر ويتقوس، قال ابن كثير: جعل الله القمر لمعرفة الشهور، كما جعل الشمس لمعرفة الليل والنهار، وفاوت بين سير الشمس وسير القمر، فالشمس تطلع كل يوم وتغرب في آخره، وتنتقل في مطالعها ومغاربها صيفاً وشتاءً، يطول بسبب ذلك النهار ويقصر الليل، ثم يطول الليل ويقصر النهار، وهي كوكبٍ نهاري، وأما القمر فقدَّره منازل يطلع في أول ليلةٍ من الشهر ضئيلاً قليل النور، ثم يزداد نوراً في الليلة الثانية ويرتفع منزلة، ثم كلما ارتفع ازداد ضياؤه حتى يتكامل نوره في الليلة الرابعة عشرة، ثم يشرع في النقص إلى آخر الشهر حتى يصير كالعرجون القديم، قال مجاهد: أي العذق اليابس وهو عنقود الرطب إذا عتق ويبس وانحنى، ثم يبدأ جديداً في أول الشهر الآخر {لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ} أي لا يمكن للشمس ولا يصح لها أن تجتمع مع القمر بالليل فتمحو نوره، لأن ذلك يُخلُّ بتلوين النبات، ومصلحة العباد، قال الطبري: أي لا الشمس يصلح لها إِدراك القمر، فيُذهب ضوءها نوره فتكون الأوقات كلها نهاراً لا ليل فيها {وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ} أي ولا الليل يسبق النهار حتى يدركه فيذهب بضيائه فتكون الأوقات كلها ليلاً {وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} أي وكلٌ من الشمس والقمر والنجوم تدور في فلك السماء، قال الحسن: الشمس والقمر والنجوم في فَلك بين السماء والأرض، غير ملصقة بشيء ولو كانت ملصقة ما جرت والغرضُ من الآية: بيانُ قدرة الله في تسيير هذا الكون بنظام دقيق، فالشمس لها مدار، والقمر له مدار، وكل كوكب من الكواكب له مدار لا يتجاوزه في جريانه أو دورانه، ولا يطغى أحدهما على الآخر -كما قال قتادة: "لكل حدٌ وعلمٌ لا يعدوه، ولا يقصر دونه"- حتى يأتي الأجل المعلوم بخراب العالم، فيجمع الله بين الشمس والقمر كما قال تعالى {وجُمع الشمس والقمر} فيختل نظام الكون، وتقوم القيامة، وتنتهي حياة البشرية عن سطح هذا الكوكب الأرضي {وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ} أي وعلامة أخرى واضحة للناس على كمال قدرتنا أننا حملنا ءاباءهم الأقدمين -وهم ذرية آدم- في سفينة نوح عليه السلام التي أمره الله أن يحمل فيها من كلٍ زوجين اثنين، قال في التسهيل: وإِنما خصَّ ذريتهم بالذكر، لأنه أبلغ في الامتنان عليهم، ولأن فيه إشارة إلى حمل أعقابهم إلى يوم القيامة {وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ} أي وخلقنا لهم من مثل سفينة نوح السفن العظيمة التي يركبونها ويبلغون عليها أقصى البلدان، وإِنما نسب الخلق إليه لأنها بتعليم الله جل وعلا للإِنسان، وقال ابن عباس: هي الإِبل وسائر المركوبات، فهي في البر مثل السفن في البحر {وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلا صَرِيخَ لَهُمْ} ولو أردنا لأغرقناهم في البحر فلا مغيث لهم {وَلا هُمْ يُنقَذُونَ} أي ولا أحد يستطيع أن ينقذهم من الغرق {إِلا رَحْمَةً مِنَّا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ} أي لا ينقذهم أحد إلا نحن لأجل رحمتنا إياهم، وتمتيعنا لهم إلى انقضاء آجالهم .. بيَّن تعالى أن ركوبهم السفن في البحر من الآيات العظيمة، فإِن سير السفينة بما فيها من الرجال والأثقال فوق سطح الماء آية باهرة فقد حملتهم قدرة الله ونواميسه التي تحكم الكون وتصرفه بحكم خواص السفن، وخواص الماء، وخواص الريح، وكلُّها من أمر الله وخلقه وتقديره، والسفينة في البحر الخضم كالريشة في مهبِّ الهواء، وإِلاّ تدركها رحمة الله فهي هالكة في لحظة من ليل أو نهار، والذين ركبوا البحار، وشاهدوا الأخطار، يدركون هول البحر المخيف، ويحسون معنى رحمة الله وأنها وحدها هي المنجي لهم من بين العواصف والتيارات، في هذا الخضم الهائل الذي تمسكه يد الرحمة يعرفون معنى قوله تعالى {إِلا رَحْمَةً مِنَّا} فسبحان الله القدير الرحيم!!.



تعامي الكفار عن الحق وإعراضهم عن الهدى

{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ اتَّقُوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَمَا خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ(45)وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ ءاياتِ رَبِّهِمْ إِلا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ(46)وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمْ اللَّهُ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلا فِي ضَلالٍ مُبِينٍ(47)}



{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ اتَّقُوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَمَا خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} لما ذكَّرهم تعالى بدلائل قدرته، وآثار رحمته، أخبر هنا عن تعاميهم عن الحق، وإِعراضهم عن الهدى والإِيمان، مع كثرة الآيات الواضحات، والشواهد الباهرات، والمعنى وإِذا قيل للمشركين احذروا سخط الله وغضبه، واعتبروا بما حلَّ بالأمم السابقين قبلكم من العذاب بسبب تكذيبهم الرسل، واحذروا ما وراءكم من عذاب الآخرة لكي تُرحموا، وجواب الشرط محذوف تقديره أعرضوا واستكبروا ودلّ عليه قوله تعالى {إِلا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ} قال القرطبي: والجواب محذوف والتقدير: إذا قيل لهم ذلك أعرضوا، ودليله الآية التي بعدها {وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ ..} فاكتفى بهذا عن ذلك {وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ ءاياتِ رَبِّهِمْ إِلا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ} أي وما تأتي هؤلاء المشركين علامة من العلامات الواضحة الدالة على صدق الرسول -كالمعجزات الباهرة التي أيده الله بها- إلا أعرضوا عنها على وجه التكذيب والاستهزاء، قال أبو السعود: وإِضافة الآيات إلى اسم الرب جل وعلا لتفخيم شأنها، المستتبع لتهويل ما اجترءوا عليه في حقها، والمراد بالآيات إما الآيات التنزيلية التي من جملتها الآيات الناطقة ببدائع صنع الله وسوابغ آلائه، أو الآيات التكوينية الشاملة للمعجزات وغيرها من تعاجيب المصنوعات، التي من جملتها ما ذُكر من شئونه الشاهدة بوحدانيته تعالى، وتفرده بالألوهية {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمْ اللَّهُ} أي وإِذا قيل لهؤلاء الكفار بطريق النصيحة أنفقوا بعض ما أعطاكم الله من فضله على الفقراء والمساكين {قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ} أي قال الكفار للمؤمنين تهكماً بهم: أننفق أموالنا على هؤلاء المساكين الذين أفقرهم الله؟ {إِنْ أَنْتُمْ إِلا فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} أي ما أنتم أيها المؤمنون إلا في ضلال ظاهر واضح حيث تأمروننا أن ننفق أموالنا على من أفقرهم الله، قال ابن عباس: كان بمكة زنادقة فإِذا أُمروا بالصدقة على المساكين قالوا: لا والله لا نفعل، أيفقره الله ونطعمه نحن؟ وغرضهم الرد على المؤمنين فكأنهم يقولون: لو كان الأمر كما تزعمون أن الله قادر، وأن الله رازق لأطعم هؤلاء الفقراء، فما بالكم تطلبون إطعامهم منا؟ وما علم هؤلاء السفهاء أن خزائن الأرزاق بيد الخلاق، وأنه تعالى أغنى بعض الخلق وأفقر بعض الخلق ابتلاءً، لينظر كيف عطف الغني، وكيف صبر الفقير، فقد منع الدنيا عن الفقير لا بخلاً، وأمر الغنيَّ بالإِنفاق عليه لا حاجة إلى ماله، ولكن للابتلاء والله يفعل ما يشاء، لا اعتراض لأحدٍ في مشيئته ولا في حكمه {لا يُسألُ عمَّا يفعلُ وهم يُسْألون}.



إنكار المشركين البعث واستبعادهم قيام الساعة

{وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ(48)مَا يَنظُرُونَ إِلا صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ(49)فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ(50)وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الأجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنسِلُونَ(51)قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ(52)إِنْ كَانَتْ إِلا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ(53)فَالْيَوْمَ لا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَلا تُجْزَوْنَ إِلا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ(54)}



ثم أخبر عن إنكار المشركين للآخرة، واستبعادهم لقيام الساعة، فقال {وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} أي متى يوم القيامة الذي تتوعدوننا به؟ ومتى هذا العذاب الذي تخوفوننا به إن كنتم صادقين في دعواكم أن هناك بعثاً ونشوراً وحساباً وعذاباً ؟ قال تعالى ردّاً عليهم {مَا يَنظُرُونَ إِلا صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأْخُذُهُمْ} أي ما ينتظرون إلا صيحةً واحدة تأخذهم مفاجأة من حيث لا يشعرون {وَهُمْ يَخِصِّمُونَ} أي وهم يتخاصمون في معاملاتهم وأسواقهم، فلا يشعرون إلا بالصيحة قد أخذتهم، فيموتون في أماكنهم، قال ابن كثير: وهذه -والله أعلم- نفخة الفزع، ينفخ إسرافيل في الصور والناسُ في أسواقهم ومعايشهم يختصمون ويتشاجرون على عادتهم، فبينما هم كذلك إذْ أمر الله إسرافيل فنفخ في الصور نفخةً يطوّلها ويمدُّها، فلا يبقى أحدٌ على وجه الأرض إلا حنى عنقه يتسمع الصوت من قبل السماء فذلك قوله تعالى {فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ} أي فلا يستطيع بعضهم أن يوصي بعضاً بأمر من الأمور، ولا يستطيعون أن يرجعوا إلى أهلهم ومنازلهم لأن الأمر أسرع منه ذلك، وفي الحديث: (لتقومنَّ الساعة وقد نشر الرجلان ثوباً بينهما فلا يتبايعانه ولا يطويانه، ولتقومنَّ الساعةُ وهو يُليط حوضه -أي يصلحه بالطين- فلا يسقي فيه، ولتقومنَّ الساعةُ وقد رفع أُكلته إلى فيه فلا يطعمها) ثم تكون هناك النفخة الثانية وهي "نفخة الصَّعق" التي يموت بها الأحياء كلهم ما عدا الحيّ القيوم، ثم تكون النفخة الثالثة وهي "نفخة البعث والنشور" التي يخرج الناسُ بها من القبور، وهي التي أشارت إليها الآية الكريمة {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الأجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنسِلُونَ} أي ونفخ في الصور فإِذا هؤلاء الأموات يخرجون من قبورهم يسرعون المشي، قال الطبري: {يَنسِلُونَ} يخرجون سراعاً، والنَّسلان: الإِسراع في المشي {قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا}؟ أي يقولون يا هلاكنا من الذي أخرجنا من قبورنا التي كنا فيها؟ قال ابن كثير: وهذا لا ينفي عذابهم في قبورهم، لأنه بالنسبة إلى ما بعده في الشدة كالرقاد، فإِذا قالوا ذلك أجابتهم الملائكة أو المؤمنون {هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَانُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ} أي هذا الذي وعدكم الله به من البعث بعد الموت والحساب والجزاء، وصدق رسله الكرام فيما أخبرونا به عن الله {إِنْ كَانَتْ إِلا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ} أي ما كان أمر بعثهم إلا صيحةً واحدة يصيح بهم فيها إسرافيل فإذا هم جميع عندنا حاضرون، قال الصَّاوي: وهذه الصيحة هي قول إسرافيل: أيتها العظام النخرة، والأوصال المتقطعة، والأجزاء المتفرقة، والشعور المتمزقة، إنَّ الله يأمركنَّ أن تجتمعن لفصل القضاء ثم ينفخ في الصور فإِذا هم مجموعون في موقف الحساب {فَالْيَوْمَ لا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَلا تُجْزَوْنَ إِلا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} أي ففي هذا اليوم -يوم القيامة- لا تُظلم نفس شيئاً، سواءً كانت هذه النفس برَّة أو فاجرة، ولا يُحَمَّل الإِنسان وزر غيره وإِنما يُجازى كلٌ بعمله، قال أبو السعود: وهذه حكاية لما سيقال لهم في الآخرة، حين يرون العذاب المُعدَّ لهم تحقيقاً للحق، وتقريعاً لهم.



جزاء الأبرار المتقين

{إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ(55)هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلالٍ عَلَى الأرَائِكِ مُتَّكِئُونَ(56)لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ(57)سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ(58)}



ولما أخبر عن مآل المجرمين أخبر عن حال الأبرار المتقين، فقال {إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ} أي إن أصحاب الجنة في ذلك اليوم -يوم الجزاء- مشغولون بما هم فيه من اللذات والنعيم عن التفكير بأهل النار، يتفكهون ويتلذذون بالحور العين، وبالأكل والشرب والسماع للأوتار، قال أبو حيان: والظاهر أن الشغل هو النعيم الذي قد شغلهمعن كل ما يخطر بالبال، وقال ابن عباس: شُغلوا بافتضاض الأبكار، وسماع الأوتار عن أهاليهممن أهل النار، لا يذكرونهم لئلا يتنغصوا {هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلالٍ عَلَى الأرَائِكِ مُتَّكِئُونَ} أي هم وزوجاتهم في ظلال الجنان الوارفة، حيث لا شمس فيها ولا زمهرير، متكئون على السرر المزيَّنة بالثياب والستور {لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ} أي لهم في الجنة فاكهة كثيرة من كل أنواع الفواكه {وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ} أي ولهم فيها ما يتمنون ويشتهون كقوله تعالى {وفيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين}{سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ} أي لهم سلامٌ كريم من ربهم الرحيم، وفي الحديث (بينا أهل الجنة في نعيمهم إذ سطع عليهم نور، فرفعوا رؤوسهم فإِذا الرب تعالى قد أشرف عليهم من فوقهم فقال: السلام عليكم يا أهل الجنة فذلك قوله تعالى {سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ} قال: فينظر إليهم وينظرون إليه، فلا يلتفتون إلى شيء من النعيم ما داموا ينظرون إليه حتى يحتجب عنهم، ويبقى نوره وبركته عليهم في ديارهم).



جزاء المجرمين الأشقياء

{وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ(59)أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ(60)وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ(61)وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلاً كَثِيرًا أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ(62)هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ(63)اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ(64)الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ(65)وَلَوْ نَشَاءُ لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّرَاطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ(66)وَلَوْ نَشَاءُ لَمَسَخْنَاهُمْ عَلَى مَكَانَتِهِمْ فَمَا اسْتَطَاعُوا مُضِيًّا وَلا يَرْجِعُونَ(67)وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلا يَعْقِلُونَ(68)}



بعد أن بيَّن تعالى حال السعداء ذكر حال الأشقياء فقال {وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ} أي تميزوا وانفصلوا يا معشر الكفرة المجرمين عن عبادي المؤمنين، انفردوا عنهم وكونوا جانباً، قال القرطبي: يقال لهم هذا عند الوقوف للسؤال، وحين يؤمر بأهل الجنة إلى الجنة {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ} الاستفهام للتوبيخ والتقريع، وهو توبيخٌ للكفرة المجرمين أي ألم أوصكم وآمركم يا بني آدم على ألسنة رسلي {أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ} أي ألاّ تطيعوا الشيطان فيما دعاكم إليه من معصيتي؟ {إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} تعليلٌ للنهي أي لأنه عدوٌ لكم ظاهر العداوة، فكيف يطيع الإِنسان عدوه؟ {وَأَنِ اعْبُدُونِي} أي وأمرتكم بأن تعبدوني وحدي، بتوحيدي وطاعتي وامتثال أمري {هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} أي هذا هو الدين الصحيح، والطريق الحقُّ المستقيم {وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلاً كَثِيرًا} تأكيد للتعليل أي ولقد أضلَّ الشيطان خلقاً منكم كثيرين، وأغواهم عن سلوك طريق الحقِّ، قال الطبري: أي صدَّ الشيطان منكم خلقاً كثيراً عن طاعتي حتى عبدوه {أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ} أي أفما كان لكم عقل يردعكم عن طاعة الشيطان ومخالفة أمر ربكم؟ وهو توبيخ آخر للكفرة الفجار.. ثم بشرهم بما ينتظرهم من العذاب، فقال {هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ} أي هذه نار جهنم التي أوعدكم بها الرسل وكذبتم بها، قال الصاوي: هذا خطاب لهم وهم على شفير جهنم، والمقصود منه زيادة التبكيت والتقريع {اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ} أي ذوقوا حرارتها وقاسوا أنواع عذابها اليوم بسبب كفركم في الدنيا، وهو أمر إهانةٍ وتحقير مثل قوله {ذقْ إنك أنت العزيز الكريم} ثم أخبر تعالى عن فضيحتهم يوم القيامة على رؤوس الأشهاد، فقال {الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ} أي في هذا اليوم -يوم القيامة- نختم على أفواه الكفار ختماً يمنعها عن الكلام {وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} أي تنطق عليهم جوارحهم أيديهم وأرجلهم بأعمالهم القبيحة، روى ابن جرير الطبري عن أبي موسى الأشعري أنه قال "يُدعى الكافر والمنافق يوم القيامة للحساب فيعرض عليه ربه عمله فيجحده، ويقول: أي ربِّ وعزتك لقد كتب عليَّ هذا الملك ما لم أعمل، فيقول الملك: أما عملت كذا في يوم كذا في مكان كذا، فيقول: لا وعزتك أي رب ما عملته، فإِذا فعل ذلك خُتم على فيه وتكلمت أعضاؤه ثم تلا {الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ} وفي الحديث (يقول العبد يا ربِّ ألم تجرني من الظلم؟ فيقول: بلى، فيقول العبد فإِني لا أجيز على نفسي إلا شاهداً مني، فيقول: كفى بنفسك اليوم عليك شهيداً، وبالكرام الكاتبين شهوداً، ثم يختم على فيه ويقال لجوارحه انطقي، فتنطق بأعماله ثم يُخلى بينه وبين الكلام فيقول: بُعداً لكنَّ وسحقاً فعنكنَّ كنت أناضل) {وَلَوْ نَشَاءُ لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّرَاطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ} أي لو شئنا لأعميناهم فابتدروا طريقهم ذاهبين كعادتهم فكيف يبصرون حينئذٍ؟ قال ابن عباس: المعنى لو نشاء لأعميناهم عن الهدى فلا يهتدون أبداً إلى طريق الحقِّ، وهو تهديد لقريش {وَلَوْ نَشَاءُ لَمَسَخْنَاهُمْ عَلَى مَكَانَتِهِمْ} أي لو نشاء لمسخناهم مسخاً يقعدهم في مكانهم {فَمَا اسْتَطَاعُوا مُضِيًّا وَلا يَرْجِعُونَ} أي إذا مسخوا في مكانهم لم يقدروا أن يذهبوا ولا أن يرجعوا، وهو تهديد آخر للكفرة المجرمين، ثم ذكر تعالى دلائل قدرته على مسخ الكفار بتطاول الأعمار، فقال {وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ} أي ومن نُطِل عمره نقلبه في أطوار منتكساً في الخلق فيصير كالطفل لا يعلم شيئاً، قال قتادة: يصير إلى حال الهرم الذي يشبه حال الصبا، فطولُ العمر يصيِّر الشباب هَرَماً، والقوة ضعفاً، والزيادة نقصاً {أَفَلا يَعْقِلُونَ}؟ أي أفلا يعقلون أن من قدر على ذلك قادر على إِعمائهم أو مسخهم؟ قال ابن جزي: والقصدُ من ذلك الاستدلال على قدرته تعالى على مسخ الكفار، كما قدر على تنكيس الإِنسان إذا هرم.



إثبات وجود الله ووحدانيته

{وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ(69)لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ(70)أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ(71)وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ(72)وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَمَشَارِبُ أَفَلا يَشْكُرُونَ(73)وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنصَرُونَ(74)لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُندٌ مُحْضَرُونَ(75)فَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ(76)}



{وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ} أي وما علمنا محمداً الشعر، ولا يصح ولا يليق به أن يكون شاعراً، قال القرطبي: هذا ردٌّ على الكفار في قولهم إِنه شاعر، وإِن ما أتى به من قبيل الشعر، فالرسول صلى الله عليه وسلم ليس بشاعر، والقرآن ليس بشعر، لأن الشعر كلام مزخرف موزون، مبني على خيالات وأوهام واهية، حتى قيل "أعذبه أكذبه" فأين ذلك من القرآن العزيز الذي تنزَّه عن مماثلة كلام البشر!! وقد أكثر الناسُ في ذم الشعر ومدحه، وإِنما الإِنصاف ما قاله الشافعي رحمه الله "الشعر كلامٌ، والكلام منه حسنٌ، ومنه قبيح" {إِنْ هُوَ إِلا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ} أي ما هذا الذي يتلوه محمد إلا عظة وتذكيرٌ من الله جل وعلا لعباده، وقرآن واضح ساطع لا يلتبس به الشعر بحالٍ من الأحوال {لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا} أي لينذر بهذا القرآن من كان حي القلب مستنير البصيرة، وهم المؤمنون لأنهم المنتفعون به {وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ} أي وتجب كلمة العذاب على الكافرين لأنهم كالأموات لا يعقلون ما يخاطبون به، قال البيضاوي: وجعلهم في مقابلة من كان حياً إشعاراً بأنهم لكفرهم، وسقوط حجتهم، وعدم تأملهم، أمواتٌ في الحقيقة .. ثم ذكَّرهم تعالى بنعمه، وأعاد ذكر دلائل القدرة والوحدانية ليستدلوا على وجوده جلَّ وعلا من آثاره، فقال {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا} الهمزة للإِنكار والتعجيب أي أولم ينظروا نظر اعتبار، ويتفكروا فيما أبدعته أيدينا -من غير واسطة، وبلا شريك ولا معين- مما خلقناه لهم ولأجلهم من الأنعام وهي الإِبل والبقر والغنم، فيستدلوا بذلك على وحدانيتنا وكمال قدرتنا؟! {فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ} أي فهم متصرفون فيها كيف يشاءون تصرف المالك بماله {وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ} قال ابن كثير: المعنى جعلهم يقهرونها وهي ذليلةٌ لهم لا تمتنع منهم، بل لو جاء صغير إلى بعيرٍ لأناخه، ولو شاء لأقامه وساقه وهو ذليل منقاد معه، وكذا لو كان القطار مائة بعير لسار الجميع بسير الصغير، فسبحان من سخر هذا لعباده!! {فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ} أي فمن هذه الأنعام ما يركبونه في الأسفار، ويحملون عليه الأثقال كالإِبل التي هي سفن البر، ومنها ما يأكلون لحمه كالبقر والغنم {وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَمَشَارِبُ} أي ولهم فيها منافع عديدة -غير الأكل والركوب- كالجلود والأصواف والأوبار، ولهم فيها مشارب أيضاً يشربون من ألبانها {من بين فرثٍ ودمٍ لبناً خالصاً سائغاً للشاربين} {أَفَلا يَشْكُرُونَ} أي أفلا يشكرون ربهم على هذه النعم الجليلة؟ والغرضُ من الآيات تعديدُ النعم وإِقامةُ الحجة عليهم .. ثم وبخهم وعنفهم في عبادة ما لا يسمع ولا ينفع من الأوثان والأصنام، وذلك نهاية الغيّ والضلال فقال {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنصَرُونَ} أي وعبد المشركون آلهة من الأحجار رجاء أن يُنصروا بها وهي صماء بكماء، لا تسمع الدعاء ولا تستجيب للنداء {لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ} أي لا تستطيع هذه الآلهة المزعومة نصرهم بحالٍ من الأحوال، لا بشفاعة ولا بنصرةٍ أو إعانة {وَهُمْ لَهُمْ جُندٌ مُحْضَرُونَ} أي وهؤلاء المشركون كالجند والخدم لأصنامهم في التعصب لهم، والذبِّ عنهم، وفدائهم بالروح والمال، مع أنهم لا ينفعونهم أيَّ نفع، قال قتادة: المشركون يغضبون للآلهة في الدنيا، وهي لا تسوق إليهم خيراً ولا تدفع عنهم شراً، إِنما هي أصنام والمشركون كأنهم خدام، وقال القرطبي: المعنى إنهم قد رأوا هذه الآيات من قدرتنا، ثم اتخذوا من دوننا آلهة لا قدرة لها على فعل شيء أصلاً، والكفار يمنعون منهم ويدفعون عنهم، فهم لهم بمنزلة الجند، والأصنام لا تستطيع أن تنصرهم {فَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ} أي لا تحزن يا محمد على تكذيبهم لك، واتهامهم بأنك شاعرٌ أو ساحر، وهذه تسليةٌ للنبي عليه السلام، وهنا تمَّ الكلام ثم قال تعالى {إِنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ} أي نحن أعلم بما يخفونه في صدورهم، وما يظهرونه من أقوالهم وأفعالهم، فنجازيهم عليه، وكفى بربك أنه على كل شيء شهيد.





إقامة الدليل القاطع على قيام البعث والنشور

{أَوَلَمْ يَرَ الإنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ(77)وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ(78)قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ(79)الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الأخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ(80)أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلاقُ الْعَلِيمُ(81)إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ(82)فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ(83)}



سبب النزول:

أخرج الحاكم وصححه عن ابن عباس قال: جاء العاص بن وائل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعظم حائل، ففتّه، فقال: يا محمد: أيُبعث هذا بعدما أرَمَّ؟ قال: نعم، يبعث الله هذا، ثم يميتك، ثم يحييك، ثم يدخلك نار جهنم، فنزلت الآيات: {أولم ير الإنسان أنا خلقناه من نطفة} إلى آخر السورة.



ثم أقام الدليل القاطع، والبرهان الساطع، على البعث والنشور، فقال {أَوَلَمْ يَرَ الإنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ} استفهامٌ إِنكاريٌ للتوبيخ والتقريع أي أولم ينظر هذا الإِنسان الكافر نظر اعتبار، ويتفكر في قدرة الله فيعلم أنّا خلقناه من شيءٍ مهينٍ حقيرٍ هو النطفة "المني" الخارج من مخرج النجاسة؟ {فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ} أي فإِذا هو شديد الخصومة والجدال بالباطل، يخاصم ربه وينكر قدرته، ويكذب بالبعث والنشور، أفليس الإِله الذي قدر على خلق الإِنسان من نطفة، قادر على أن يخلقه مرة أُخرى عند البعث؟ قال المفسرون: نزلت في "أُبي بن خلف" جاء بعظم رميم، وفتَّته في وجه النبي الكريم وقال ساخراً:أتزعم يا محمد أنَّ الله يُحيينا بعد أن نصبح رفاتاً مثل هذا؟ فقال صلى الله عليه وسلم له: نعم يبعثك ويدخلك النار {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ} أي وضرب لنا هذا الكافر المثل بالعظم الرميم، مستبعداً على الله إعادة خلق الإِنسان بعد موته وفنائه، ونسي أنا أنشأناه من نطفةٍ ميتة وركبنا فيه الحياة، نسي خلقه العجيب وبدأه الغريب، وجوابه من نفسه حاضر {قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ} أي وقال هذا الكافر: من يحيي العظام وهي بالية أشدَّ البلى، متفتتةٌ متلاشية؟ قال الصاوي: أي أورد كلاماً عجيباً في الغرابة هو كالمثل، حيث قاسَ قدرتنا على قدرة الخلق {قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ} أي قل يا محمد تخريساً وتبكيتاً لهذا الكافر وأمثاله: يخلقها ويحييها الذي أوجدها من العدم، وأبدع خلقها أول مرة من غير شيء، فالذي قدر على البداءة، قادر على الإِعادة {وَهُوَ بِكُلِّ خلْقٍ عَلِيمٌ} أي يعلم كيف يخلق ويُبدع، فلا يصعب عليه بعث الأجساد بعد الفناء {الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الأخْضَرِ نَارًا} أي الذي جعل لكم بقدرته من الشجر الأخضر ناراً تحرق الشجر، لا يمتنع عليه فعل ما أراد، ولا يعجزه إحياء العظام البالية وإعادتها خلقاً جديداً، وقال أبو حيان: ذكر تعالى لهم ما هو أغرب من خلق الإِنسان من النطفة، وهو إبراز الشيء من ضده، وذلك أبدع شيء وهو اقتداح النار من الشيء الأخضر، ألا ترى الماء يطفئ النار ومع ذلك خرجت مما هو مشتمل على الماء، والأعراب تُوري النار من المرخ والعُفار، وفي أمثالهم "في كل شيء نار، واستمجد المرخ والعُفار" ولقد أحسن القائل:

جمعُ النقيضين من أسرار قدرته هذا السَّحابُ به ماءٌ به نارُ

{فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ} أي فإِذا أنتم تقدحون النار من هذا الشجر الأخضر {أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ}؟ أي أوَليس الذي خلق السماوات والأرض مع كبر جرمهما، وعظم شأنهما قادر على أن يخلق أجساد بني آدم بعد فنائها؟ {بَلَى وَهُوَ الْخَلاقُ الْعَلِيمُ} أي بلى هو القادر على ذلك، فهو الخلاَّق المبدع في الخلق والتكوين، العليم بكل شيء {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} أي لا يصعب عليه جل وعلا شيء لأن أمره بين الكاف والنون، فمتى أراد تعالى شيئاً أوجَدَه، بدون تعب ولا جهد، ولا كلفة ولا عناء {فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ} أي تنزَّه وتمجد عن صفات النقص الإِلهُ العظيم الجليل، الذي بيده المُلك الواسع، والقدرة التامة على كل الأشياء {وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} أي وإِليه وحده مرجع الخلائق للحساب والجزاء .. ختم تعالى السورة الكريمة بهذا الختم الرائع، الدال على كمال القدرة، وعظمةِ الملك والسلطان، الذي تفرد به خالق الأكوان.

yacine414
2011-04-01, 17:40
سورة الصافات



إعلان وحدانية الله تعالى

تزيين السماء بالكواكب

إثبات المعاد: الحشر والنشر والقيامة

مسؤولية المشركين في الآخرة

جزاء كل من الكافرين والمؤمنين

عقاب الظالمين وأنواع عذابهم

قصة نوح عليه السلام

قصة إبراهيم عليه السلام وتحطيم الأصنام

إبراهيم عليه السلام والذبيح إسماعيل

قصة موسى وهارون عليهما السلام

قصة إلياس عليه السلام

قصة لوط عليه السلام

قصة يونس عليه السلام

الرد على مزاعم المشركين

جُنْد الله هم المنصورون



بَين يَدَي السُّورَة



* سورة الصافات من السور المكية التي تعنى بأصول العقيدة الإِسلامية "التوحيد، الوحي، البعث والجزاء" شأنها كشأن سائر السور المكية التي تهدف إلى تثبيت دعائم الإِيمان.



* ابتدأت السورة الكريمة بالحديث عن الملائكة الأبرار، الصافات قوائمها في الصلاة، أو أجنحتها في ارتقاب أمر الله، الزاجرين للسحاب يسوقونه حيث شاء الله .. ثم تحدثت عن الجنِّ وتعرضهم للرجم بالشهب الثاقبة، رداً على أساطير أهل الجاهلية في اعتقادهم بأن هناك قرابةً بين الله سبحانه وبين الجن، وتحدثت السورة عن البعث والجزاء وإِنكار المشركين له، واستبعادهم للحياة مرة ثانية بعد أن يصبحوا عظاماً ورفاتاً.



* وتأكيداً لعقيدة الإِيمان بالبعث ذكرت السورة قصة "المؤمن والكافر" والحوار الذي دار بينهما في الدنيا، ثم النتيجة التي آل إليها أمر كلٍ منهما بخلود المؤمن في الجنة، وخلود الكافر في النار.



* واستعرضت السورة الكريمة قصص بعض الأنبياء، بدءاً بنوح، ثم إِبراهيم، ثم إسماعيل، ثم قصة موسى وهارون، ثم إلياس ولوط، وذكرت بالتفصيل قصة "الإِيمان والابتلاء" في حادثة الذبيح إسماعيل، وما جرى من أمر الرؤيا للخليل إبراهيم حين أمر بذبح ولده ثم جاءه الفداء، تعليماً للمؤمنين كيف يكون أمر الانقياد والاستسلام لأمر أحكم الحاكمين.



* وختمت السورة الكريمة ببيان نصرة الله لأنبيائه وأوليائه في الدنيا والآخرة، وأنَّ العاقبة للمتقين.



التسميَة:

سميت السورة "سورة الصافات" تذكيراً للعباد بالملأ الأعلى من الملائكة الأطهار، الذين لا ينفكون عن عبادة الله {يسبحون الليل والنهار لا يفترون} وبيان وظائفهم التي كلفوا بها.



إعلان وحدانية الله تعالى



{وَالصَّافَّاتِ صَفًّا(1)فَالزَّاجِرَاتِ زَجْرًا(2)فَالتَّالِيَاتِ ذِكْرًا(3)إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ(4)رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ الْمَشَارِقِ(5)}



{وَالصَّافَّاتِ صَفًّا} افتتح تعالى هذه السورة بالقسم ببعض مخلوقاته، إظهاراً لعظم شأنها، وكبر فوائدها، وتنبيهاً للعباد على جلالة قدرها، والمعنى: أقسم بهذه الطوائف من الملائكة، الصافات قوائمها في الصلاة، أو أجنحتها في ارتقاب أمر الله، قال ابن مسعود: هم الملائكة تصف في السماء في العبادة والذكر صفوفاً، وفي الحديث (ألا تصفُّون كما تصف الملائكة عند ربهم؟ قلنا: وكيف يا رسول الله؟ قال: يُتمون الصفوف المتقدمة، ويتراصون في الصَف) أقسم تعالى بالملائكة تنبيهاً على جلالة قدرهم، وكثرة عبادتهم، فهم مع عظيم خلقهم ورفعة شأنهم لا ينفكون عن عبادة الله، يصطفون للعبادة كاصطفاف المؤمنين في الصلاة، مع الخشوع والخضوع للعزيز الجبار، الذي دانت له الخلائق، وخضعت لجلال هيبته الرقاب، بما فيهم حملةُ العرش والملائكة الأطهار {فَالزَّاجِرَاتِ زَجْرًا} أي الملائكة التي تزجر السحاب، يسوقونه إلى حيث شاء الله، من الزجر بمعنى السوق والحث {فَالتَّالِيَاتِ ذِكْرًا} وصفٌ ثالثٌ للملائكة الأبرار، إشادةً بذكر محاسنهم ومناقبهم العلوية أي وأقسمُ بالملائكة التالين لآيات الله على أنبيائه وأوليائه، مع التسبيح والتقديس والتحميد والتمجيد {إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ} هذا هو المقسم عليه أي إِن إِلهكم الذي تعبدونه -أيها الناس- إله واحدٌ لا شريك له، قال مقاتل: إِن الكفار بمكة قالوا: أجعل الآلهة إلهاً واحداً؟ وكيف يسع هذا الخلق إله فرد؟ فأقسم الله بهؤلاء تشريفاً، ثم بيَّن تعالى معنى وحدانيته وألوهيته فقال {رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا} أي هو تعالى خالق السماوات والأرض ومالكهما وما بينهما من المخلوقات والموجودات، فإِن وجودهما وانتظامهما على هذا النمط البديع، من أوضح الدلائل على وجود الله ووحدانيته {وَرَبُّ الْمَشَارِقِ} أي وهو رب مشارق الشمس ومقاربها في الشتاء والصيف، قال الطبري: واكتفى بذكر المشارق عن المغارب لدلالة الكلام عليه.



تزيين السماء بالكواكب



{إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ(6)وَحِفْظًا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ(7)لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلإ الأَعْلَى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ(8)دُحُورًا وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ(9)إِلاَّ مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ(10)}



ثم أخبر عن قدرته بتزيين السماء بالكواكب، بعد أن أخبر عن وحدانيته فقال {إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ} أي زينا السماء القريبة منكم بالكواكب المنيرة المضيئة، التي تبدو وكأنها جواهر تتلألأ {وَحِفْظًا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ} أي وللحفظ من كل شيطان عاتٍ متمرد، خارج عن طاعة الله، قال قتادة: خلقت النجومُ لثلاث: رجوماً للشياطين، ونوراً يُهتدى بها، وزينةً للسماء الدنيا، وقال أبو حيان: خصَّ السماء الدنيا بالذكر لأنها هي التي تُشاهد بالأبصار، وفيها وحدها يكون الحفظ من الشياطين {لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلإ الأَعْلَى} أي لا يقدرون أن يستمعوا إلى الملائكة الذين هم في العالم العلوي، وقيل المعنى: لئلا يتسمَّعوا إلى الملأ الأعلى {وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ} أي ويُرجمون بالشهب من كل جهةٍ يقصدون السماء منها {دُحُورًا} أي طرداً لهم عن السماع لأخبار السماء، قال الطبري: أي مطرودين، من الدحر وهو الدَّفعُ والإِبعاد {وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبًٌ} أي ولهم في الآخرة عذاب موصول لا ينقطع {إِلا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ} أي إلاَّ من اختلس شيئاً مسارقةً {فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ} أي فلحقه شهاب مضيءٌ، نافذ بضوئه وشعاعه فأحرقه، قال المفسرون: قد يخطف الشيطان المارد خطفةً سريعة مما يدور في الملأ الأعلى، فيتبعه شهابٌ يلاحقه في هبوطه فيصيبه ويحرقه حرقاً، قال القرطبي: وليست الشهب التي يرجم بها الشياطين من الكواكب والثوابت، لأن الثابتة تجري ولا تُرى حركاتها، وهذه الشهب تُرى حركاتها.



إثبات المعاد: الحشر والنشر والقيامة



{فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمْ مَنْ خَلَقْنَا إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ(11)بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ(12)وَإِذَا ذُكِّرُوا لا يَذْكُرُونَ(13)وَإِذَا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ(14)وَقَالُوا إِنْ هَذَا إِلا سِحْرٌ مُبِينٌ(15)أَءذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أءِنَّا لَمَبْعُوثُونَ(16)أَوَآبَاؤُنَا الأوَّلُونَ(17)قُلْ نَعَمْ وَأَنْتُمْ دَاخِرُونَ(18)فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا هُمْ يَنظُرُونَ(19)وَقَالُوا يَا وَيْلَنَا هَذَا يَوْمُ الدِّينِ(20)هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ(21)}



{فَاسْتَفْتِهِمْ} أي فسلْ يا محمد هؤلاء المنكرين للبعث {أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمْ مَنْ خَلَقْنَا}؟ أي أيهم أقوى بنيةً وأشد خلْقاً هل هم أم السماوات والأرض وما بينهما من الملائكة والمخلوقات العظيمة العجيبة؟ {إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ} أي من طينٍ رخوٍ لزج لا قوة فيه، قال الطبري: وإِنما وصفه باللزوب لأنه ترابٌ مخلوطٌ بماء، وكذلك خُلِق ابنُ آدم من ترابٍ وماء، ونار وهواء، والترابُ إِذا خُلط بماءٍ صار طيناً لازباً، والغرضُ من الآية إِقامةُ البرهان على إعادة الإِنسان، فالذي خلقه من العدم وخلق هذه الخلائق، قادرٌ على إعادة الأجسام بعد الفناء {بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ} أي بل عجبتَ يا محمد من تكذيبهم للبعث مع رؤيتهم آثار قدرة الله الباهرة، وهم يسخرون مما تقول لهم في ذلك، قال أبو السعود: المعنى عجبتَ من قدرة الله تعالى على هذه الخلائق العظيمة وإِنكارهم للبعث، وهم يسخرون من تعجبك وتقريرك للبعث {وَإِذَا ذُكِّرُوا لا يَذْكُرُونَ} أي وإِذا وُعظوا بالقرآن وخوّفوا به، لا يتعظون ولا يتدبرون {وَإِذَا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ} أي وإِذا رأوا آية باهرة، أو معجزة قاهرة تدل على صدقك كانشقاق القمر، وتكليم الشجر والحجر، يبالغون في السخرية أو يدعون غيرهم للسخرية والاستهزاء {وَقَالُوا إِنْ هَذَا إِلا سِحْرٌ مُبِينٌ} أي ما هذا الذي جئتنا به يا محمد إلا سحر واضح بيِّن، قال في البحر: والإِشارة بـ "هذا" إلى ما ظهر على يديه عليه السلام من الخارق المعجز {أَءِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَءنَّا لَمَبْعُوثُونَ} الاستفهام للإِنكار والاستهزاء أي أئذا أصبحت أجسادنا بالية، وتفتَّتت أجزاؤها إلى تراب وعظام سوف نبعث؟ {أَوَآبَاؤُنَا الأوَّلُونَ} أي أو ءاباؤنا الأولون كذلك سيُبعثون؟ قال الزمخشري: أي أيبعث أيضاً ءاباؤنا؟ وهذا زيادة في استبعاد الأمر، يعنون أنهم أقدم، فبعثُهم أبعدُ وأبطل {قُلْ نَعَمْ وَأَنْتُمْ دَاخِرُونَ} أي قل لهم نعم تُبعثون وأنتم صاغرون{فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ} أي وما هي إِلا صيحة واحدة ينفخ فيها إسرافيل في الصور للقيام من القبور {فَإِذَا هُمْ يَنظُرُونَ} أي فإِذا هم قيامٌ في أرض المحشر ينظر بعضهم إلى بعض، قال القرطبي: الزجرةُ: الصيحةُ وهي النفخةُ الثانية، وسميت زجرة لأن مقصودها الزجر، كزجر الإِبل، والخيل عند السَّوق .. ثم أخبر تعالى عن حسرتهم وندامتهم عند معاينتهم أهوال القيامة فقال {وَقَالُوا يَا وَيْلَنَا هَذَا يَوْمُ الدِّينِ} أي يا هلاكنا وخسارتنا هذا هو يوم الجزاء والحساب!! فتقول لهم الملائكة على سبيل التوبيخ والتقريع {هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ} أي هذا يوم الفصل بين الخلائق الذي كنتم تنكرون وتكذبون به، قال البيضاوي: الفصلُ: القضاءُ والتفريق بين المحسن والمسيء.



مسؤولية المشركين في الآخرة



{احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ(22)مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ(23)وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ(24)مَا لَكُمْ لا تَنَاصَرُونَ(25)بَلْ هُمْ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ(26)وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءلُونَ(27)قَالُوا إِنَّكُمْ كُنتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ(2)قَالُوا بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ(29)وَمَا كَانَ لَنَا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بَلْ كُنتُمْ قَوْمًا طَاغِينَ(30)فَحَقَّ عَلَيْنَا قَوْلُ رَبِّنَا إِنَّا لَذَائِقُونَ(31)فَأَغْوَيْنَاكُمْ إِنَّا كُنَّا غَاوِينَ(32)فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ(33)إِنَّا كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ(34)إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ(35)وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُوا آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ(36)بَلْ جَاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ(37)}



{احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ} أي اجمعوا الظالمين واشباههم من العصاة والمجرمين، كل إنسان مع نظرائه، قال القرطبي: الزاني مع الزاني، وشارب الخمر مع شارب الخمر، والسارق مع السارق، وقال ابن عباس: اجمعوا الظالمين ونساءهم الكافرات، وعنه: المراد به أشباههم من العصاة {وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ * مِنْ دُونِ اللَّهِ} أي وما كانوا يعبدون من الأوثان والأصنام، وذلك زيادةً في تحسيرهم وتخجيلهم {فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ} أي فعرفوهم طريق الجحيم ووجهوهم إليها، وفي لفظ {اهْدُوهُمْ} تهكم وسخرية، فإِذا لم يهتدوا في الدنيا إلى الصراط المستقيم، فليهتدوا اليوم إلى صراط الجحيم {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ} أي احبسوهم عند الصراط لأنهم سيسألون عن جميع أقوالهم وأفعالهم، ثم يقال لهم على سبيل التقريع والتوبيخ {مَا لَكُمْ لا َتَنَاصَرُونَ} أي ما لكم لا ينصر بعضكم بعضاً وأنتم هنا جميعاً؟ وكلكم في حاجة إلى الناصر والمعين؟ قال المفسرون: هذا إشارة إلى قول أبي جهل يوم بدر "نحن جميعٌ منتصر" وأصل {تَنَاصَرُونَ} تتناصرون حذفت إحدى التاءين تخفيفاً، قال تعالى {بَلْ هُمْ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ} أي بل هم اليوم أذلاء منقادون، عاجزون عن الانتصار، سواء منهم العابدون والمعبودون {وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ} أي أقبل الرؤساء والأتباع يتلاومون ويتخاصمون، قال أبو السعود: وسؤالهم إنما هو سؤال توبيخ بطريق الخصومة والجدال {قَالُوا إِنَّكُمْ كُنتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ} أي قال الأتباع منهم للمتبوعين: إِنكم كنتم تأتوننا من قبل الحقِّ، وتزينون لنا الباطل، وتصدوننا عن اتباع طريق الهدى، قال الطبري: أي كنتم تأتوننا من قبل الدين والحق، فتخدعوننا بأقوى الوجوه، قال: واليمين في كلام العرب: القوة والقدرة كقول الشاعر:

إِذا ما رايةٌ رفعت لمجدٍ تلقَّاها عرابةُ باليمين

وقيل: المراد تأتوننا بطريق الوسوسة عن يميننا كما هو المعتاد في حالة الوسوسة بالأسرار غالباً {قَالُوا بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} أي يقول لهم الرؤساء: لم نحملكم نحن على الضلال ولم نمنعكم من الإِيمان، بل كفرتم ولم تؤمنوا باختياركم، قال ابن كثير: أي ليس الأمر كما تزعمون، بل كانت قلوبكم منكرةً للإِيمان، قابلةً للكفر والعصيان {وَمَا كَانَ لَنَا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ} أي ما كان لنا عليكم من قوة وقدرة نقهركم بها على متابعتنا {بَلْ كُنتُمْ قَوْمًا طَاغِينَ} أي بل كان فيكم فجور وطغيان واستعداد للعصيان، فلذلك استجبتم لنا واتبعتمونا {فَحَقَّ عَلَيْنَا قَوْلُ رَبِّنَا} أي فوجب علينا جميعاً وعيد الله لنا بالعذاب {إِنَّا لَذَائِقُونَ} أي فإِنا لذائقو هذا العذاب لا محالة {فَأَغْوَيْنَاكُمْ إِنَّا كُنَّا غَاوِينَ} أي فزينا لكم الباطل، ودعوناكم إلى الغيّ لأننا كنا على غيٍّ وضلال، قال تعالى مخبراً عن حالهم {فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ} أي فإِنهم يوم القيامة مشتركون في العذاب، كما كانوا مشتركين في الغواية، ولكنْ كما قال تعالى {ولن ينفعكم اليوم إِذْ ظلمتُم أنكم في العذاب مشتركون} {إِنَّا كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ} أي مثل هذا الفعل بهؤلاء نفعل بالأشقياء المجرمين، ثم بيَّن تعالى السبب فقال {إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ} أي إِذا قيل لهم قولوا {لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ} يتكبَّرون ويتعظَّمون {وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُوا آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ} أي ويقولون عندما يُدعون إلى التوحيد: أنترك عبادة الأوثان لقول شاعرٍ مجنون؟ يعنون بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم قال تعالى رداً عليهم {بَلْ جَاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ} أي ليس الأمرَ كما يفترون بل جاءهم محمد بالتوحيد والإِسلام الذي هو الحقُّ الأبلج، وجاء بمثل ما جاء به الرسل قبله، قال أبو حيان: جمع المشركون بين إِنكار الوحدانية، وإِنكار الرسالة، ثم خلطوا في كلامهم بقولهم "شاعر مجنون" فإِن الشاعر عنده من الفهم والحذق ما ينظم به المعاني الغريبة، ويصوغها في قالب الألفاظ البديعة، ومن كان مجنوناً لا يصل إلى شيء من ذلك، فكلامهم تخليط وهذيان.



جزاء كل من الكافرين والمؤمنين



{إِنَّكُمْ لَذَائِقُو الْعَذَابِ الأَلِيمِ(38)وَمَا تُجْزَوْنَ إِلا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ(39)إِلا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ(40)أُوْلَئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ(41)فَوَاكِهُ وَهُمْ مُكْرَمُونَ(42)فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ(43)عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ(44)يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ(45)بَيْضَاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ(46)لا فِيهَا غَوْلٌ وَلا هُمْ عَنْهَا يُنزَفُونَ(47)وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ عِينٌ(48)كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ(49)فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ(50)قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ(51)يَقُولُ أَءنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ(52)أَءذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَءنَّا لَمَدِينُونَ(53)قَالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ(54)فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ(55)قَالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ(56)وَلَوْلا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنتُ مِنْ الْمُحْضَرِينَ(57)أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ(58)إِلا مَوْتَتَنَا الأولَى وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ(59)إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ(60)لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ(61)}



{إِنَّكُمْ لَذَائِقُو الْعَذَابِ الأَلِيمِ} أي إِنكم أيها المجرمون لمعذبون أشد العذاب {وَمَا تُجْزَوْنَ إِلا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} أي لا تُعاقبون إلا جزاء مثل عملكم، قال الصاوي: لأن الشر يكون جزاؤه بقدره، بخلاف الخير فجزاؤه بأضعاف مضاعفة .. ولمّا ذكر شيئاً من أحوال الكفار وعذابهم، ذكر شيئاً من أحوال المؤمنين ونعيمهم، على طريقة القرآن في الموازنة بين الفريقين ترغيباً وترهيباً فقال {إِلا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ} الاستثناء منقطع أي لكن عباد الله المُخلَصين الموحدين، فإِنهم لا يذوقون العذاب، ولا يناقشون الحساب، بل يتجاوز الله عن سيئاتهم، يُجزون الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف .. ثم أخبر عن جزائهم فقال {أُوْلَئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ} أي أولئك الأخيار الأبرار لهم رزقهم في الجنة صباحاً ومساءً كما قال تعالى {ولهم رزقُهم فيها بكرةً وعشياً} وقال أبو السعود: معلوم الخصائص من حسن المنظر، ولذة الطعم، وطيب الرائحة، ثم فسر الرزق بقوله {فَوَاكِهُ وَهُمْ مُكْرَمُونَ} أي فواكهُ متنوعة من جميع ما يشتهون، وهم في الجنة معزَّزون مكرَّمون، وخصَّ الفواكه بالذكر لأن كل ما يُؤكل في الجنة إِنما هو على سبيل التفكه والتلذذ {فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ} أي في رياضٍ وبساتين يتنعمون فيها {عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ} أي على أسرَّة مكلَّلة بالدر والياقوت، تدور بهم كيف شاؤوا، قال مجاهد: {مُتَقَابِلِين} أي لا ينظر بعضُهم إلى قفا بعض تواصلاً وتحابباً {يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ} لما ذكر الطعام أعقبه بذكر الشراب أي يطوف عليهم خدم الجنة بكأسٍ من الخمر من نهر جارٍ خارج من عيون الجنة، قال الصاوي: وصف به خمر الجنة لأنه يجري كالماء النابع، وقال ابن عباس: كل كأسٍ في القرآن فهي الخمر، والمعين هي الجارية {بَيْضَاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ} أي هذه الخمر بيضاء ذات لذةً للشاربين، يلتذ بها من شربها، قال الحسن: خمر الجنة أشد بياضاً من اللبن {لا فِيهَا غَوْلٌ وَلا هُمْ عَنْهَا يُنزَفُونَ} أي ليس فيها ما يغتال عقولهم فيفسدها، ولا هم يسكرون بشربها كما تفعل خمر الدنيا، قال ابن كثير: نزَّه الله سبحانه خمر الجنة التي هي في خمر الدنيا، من صداع الرأس، ووجع البطن، وذهاب العقل، فخمر الجنة طعمها طيب كلونها، والمراد بالغول هنا صُداع الرأس قاله ابن عباس، وقال قتادة: هو صداع الرأس ووجع البطن وتلك أجمل أوصاف الشراب، التي تحقق لذة الشُّرَّاب، وتنفي أكداره وأضراره، فلا خُمار يصدع الرؤوس،ولا سكر ولا عربدة يُذهب لذة الاستمتاع كما هي الحال في خمرة الدنيا {وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ عِينٌ} أي وعندهم الحور العين، العفيفات اللواتي قصرن أعينهن على النظر إلى أزواجهن، فلا ينظرن إلى غيرهم حياءً وعفةً، قال ابن عباس: {قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ} أي عفيفات لا ينظرن إلى غير أزواجهن {عِينٌ} أي وهنَّ مع العفة واسعات جميلات العيون، قال الطبري: أي نُجل العيون جمع عيناء وهي المرأة الواسعة العين مع الحسن والجمال، وهي أحسن ما تكون من العيون {كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ} أي كأنهن اللؤلؤ المكنون في أصدافه، قاله ابن عباس واستشهد بقوله تعالى {وحورٌ عينٌ كأمثال اللؤلؤ المكنون} وقال الحسن: {المكنون} المصون الذي لم تمسَّه الأيدي .. والغرضُ أنهنَّ مع هذا الجمال الباهر، مصونات كالدُّر في أصدافه، مع رقةٍ ولطفٍ ونعومة {كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ} لا تبتذله الأيدي ولا العيون، والعربُ تشبّه المرأة بالبيضة لصفائها وبياضها، قال أبو حيان: ذكر تعالى في هذه الآيات أولاً الرزق وهو ما تتلذذ به الأجسام، وثانياً الإِكرام وهو ما تتلذذ به النفوس، ثم ذكر المحل وهو جنات النعيم، ثم لذة التآنس والاجتماع {عَلَىسُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ} وهو أتم للسرور وآنس، ثم ذكر المشروب وهو الخمر التي تدار عليهم بالكؤوس ولا يتناولونها بأنفسهم، ثم ختم باللذة الجسدية - أبلغ الملاذ - وهي التآنس بالنساء ثم أخبر تعالى عما يتحدث به أهل الجنة للأنس والسرور، وهم على موائد الشرب يتلذذون بكل ممتع، وينعمون بتجاذب أطراف الحديث فقال {فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ} أي جلسوا يتحدثون عما جرى لهم في الدنيا، يتذاكرون نعيمهم وحال الدنيا وثمرة الإِيمان {قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ} أي قال قائل من أهل الجنة إني كان لي في الدنيا صديقّ وجليس ينكر البعث {يَقُولُ أَءنَّكَ لَمِنْ الْمُصَدِّقِينَ} أي يقول لي أتصدِّق بالبعث والجزاء؟ {أَءذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَءنَّا لَمَدِينُونَ}؟ أي هل إِذا متنا وأصبحنا ذراتٍ من التراب وعظاماً نخرة، أئنا لمحاسبون ومجزيون بأعمالنا؟ يقول ذلك على وجه التعجب والتكذّيب والاستبعاد {قَالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ}؟ أي قال ذلك المؤمن لإِخوانه في الجنة: هل أنتم مطَّلعون إلى النار لننظر كيف حال ذلك القرين؟ قال تعالى {فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ} أي فنظر فأبصر صاحبه الكافر في وسط الجحيم يتلظى سعيرها {قَالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ} أي فخاطبه المؤمن شامتاً وقال له: واللهِ لقد قاربت أن تهلكني بإِغوائك {وَلَوْلا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنتُ مِنْ الْمُحْضَرِينَ} أي ولولا فضلُ الله عليَّ بتثبيتي على الإِيمان، لكنتُ معك في النار محضراً ومعذباً في الجحيم، ثم يخاطبه مستهزءاً ساخراً كما كان ذلك الكافر يستهزئ به في الدنيا {أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ * إِلا مَوْتَتَنَا الأولَى وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ}؟ أي هل لا تزال على اعتقادك بأننا لن نموت إلا موتةً واحدة ، وأنه لا بعث ولا جزاء ولا حساب ولا عذاب؟ وهو أسلوب ساخر لاذع يظهر فيه التشفي من ذلك القرين الكافر، والتحدث بنعمة الله عليه، قال تعالى {إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} أي إن هذا النعيم الذي ناله أهل الجنة لهو الفوز العظيم {لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ} أي لمثل هذا الجزاء الكريم يجب أن يعمل العاملون ويجتهد المجتهدون. قال المفسرون: أشارت الآيات الكريمة إلى قصة شريكين كان لهما ثمانية آلاف درهم، فكان أحدهما يعبد الله ويقصِّر في التجارة والنظر إلى أمور الدنيا، وكان الآخر مقبلاً على تكثير ماله فانفصل من شريكه لتقصيره، وكان كلما اشترى داراً أو جارية أو بستاناً أو نحو ذلك عرضه على المؤمن وفخر عليه بكثرة ماله، وكان المؤمن إِذا سمع ذلك يتصدَّق بنحو من ذلك ليشتري له به قصراً في الجنة، فإِذا لقيه صديقه قال ما صنعت بمالك؟ قال: تصدقت به لله! فكان يسخر منه ويقول: أئنك لمن المصدِّقين؟ فكان أمرهما ما قصَّ الله علينا في كتابه العزيز.

yacine414
2011-04-01, 17:41
عقاب الظالمين وأنواع عذابهم



{أَذَلِكَ خَيْرٌ نُزُلاً أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ(62)إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ(63)إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ(64)طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ(65)فَإِنَّهُمْ لآكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ(66)ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْبًا مِنْ حَمِيمٍ(67)ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لإلَى الْجَحِيمِ(68)إِنَّهُمْ أَلْفَوْا ءاباءهُمْ ضَالِّينَ(69)فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ(70)وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الأوَّلِينَ(71)وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا فِيهِمْ مُنذِرِينَ(72)فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنذَرِينَ(73)إِلا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ(74)}



{أَذَلِكَ خَيْرٌ نُزُلاً أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ} أي أنعيم الجنة خيرٌ ضيافةً وعطاءً أم شجرة الزقوم التي في جهنم؟ أيهما خيرٌ وأفضل؟ فالفواكه والثمار طعام أهل الجنة، وشجرة الزقوم طعام أهل النار، والغرض منه توبيخ الكفار {إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ} أي إِنا جعلنا شجرة الزقوم فتنةً وابتلاءً لأهل الضلالة، قال المفسرون: لما سمع الكفارُ ذكر شجرة الزقوم قالوا: كيف يكون في النار شجرة، والنار تُحرق الشجر؟ وكان أبو جهل يقول لأصحابه: أتدرون ما الزقوم؟ إِنه الزُّبد والتمر، ثم يأتيهم به ويقول: تزقَّموا، هذا الذي يخوفنا به محمد {إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ} أي تنبت في قعر جهنم ثم هي متفرعة فيها {طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ} أي ثمرها وحملها كأنه رؤوس الشياطين في تناهي القبح والبشاعة، قال ابن كثير: وإِنما شبهها برؤوس الشياطين، وإِن لم تكن معروفة عند المخاطبين، لأنه قد استقر في النفوس أن الشياطين قبيحة المنظر {فَإِنَّهُمْ لآكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ} أي فإِن هؤلاء الكفار لشدة جوعهم مضطرون إلى الأكل منها حتى تمتلئ منها بطونهم، فهي طعامهم وفاكهتهم بدل رزق أهل الجنة، وفي الحديث (لو أن قطرةً من الزقوم قطرت في بحار الدنيا لأفسدت على أهل الأرض معايشهم، فكيف بمن تكون طعامه)؟ {ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْبًا مِنْ حَمِيمٍ} أي ثم إِن لهم بعدما شبعوا منها وغلبهم العطش لمزاجاً من ماء حار قد انتهت حرارته يشاب به الطعام -أي يخلط- ليجمع لهم بين مرارة الزقوم، وحرارة الحميم، تغليظاً لعذابهم {ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لإلَى الْجَحِيمِ} أي ثم مصيرهم ومرجعهم إلى دركات الجحيم، قال مقاتل: الحميم خارج الجحيم، فهم يوردون الحميم لشربه ثم يردون إلى الجحيم، وقال أبو السعود: الزقوم والحميم نُزل يُقدَّم إِليهم قبل دخولها {إِنَّهُمْ أَلْفَوْا ءاباءهُمْ ضَالِّينَ} أي وجدوهم على الضلالة فاقتدوا بهم {فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ} أي فهم يُسرعون في اتباع خطاهم من غير دليل ولا برهان، قال مجاهد: شبَّهه بالهرولة كمن يُسرع إِسراعاً نحو الشيء {وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الأوَّلِينَ} أي ضلَّ قبل قومك أكثر الأمم الماضية {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا فِيهِمْ مُنذِرِينَ} أي أرسلنا فيهم رسلاً كثيرين يخوفونهم من عذاب الله ولكنهم تمادوا في الغيّ والضلال {فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنذَرِينَ} أي فانظر يا محمد كيف كان مصير أمر هؤلاء المكذبين؟ ألم نهلكهم فنصيرهم عبرةً للعباد؟ {إِلا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ} أي لكنْ عبادَ الله المؤمنين الذي أخلصهم تعالى لطاعته فإِنهم نجوا من العذاب.



قصة نوح عليه السلام



{وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ(75)وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنْ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ(76)وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمْ الْبَاقِينَ(77)وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ(78)سَلامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ(79)إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ(80)إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ(81)ثُمَّ أَغْرَقْنَا الآخَرِينَ(82)}



ثم شرع في بيان قصة نوح فقال {وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ} اللام موطئة للقسم أي وبالله لقد استغاث بنا نوحٌ لما كذبه قومه فلنعم المجيبون نحن له، وصيغة الجمع {الْمُجِيبُونَ} للعظمة والكبرياء، قال الصاوي: ذكر تعالى في هذه السورة سبع قصص: قصة نوح، وقصة إبراهيم، وقصة الذبيح إسماعيل، وقصة موسى وهارون، وقصة إلياس، وقصة لوط، وقصة يونس، وكل ذلك تسلية له صلى الله عليه وسلم وتحذيراً لمن كفر من أمته {وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنْ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ} أي ونجيناه ومن آمن معه - أهلُه وأتباعُه - من الغرق، قال المفسرون: وكانوا ثمانين ما بين رجل وامرأة {وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمْ الْبَاقِينَ} أي وجعلنا ذرية نوح هم الذين بقوا في الأرض بعد هلاك قومه، قال ابن عباس: أهل الأرض كلُّهم من ذرية نوح، قال ابن جزي: وذلك لأنه لما غرق الناس في الطوفان، ونجا نوح ومن كان معه في السفينة، تناسل الناس من أولاده الثلاثة "سام، وحام، ويافث" {وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ} أي تركنا عليه ثناءً حسناً في كل أمة إلى يوم القيامة {سَلامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ} أي سلام عاطر من الله تعالى والخلائق على نوح باقٍ على الدوام بدون انقطاع {إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} أي هكذا نجزي من أحسن من العباد، نبقي له الذكر الجميل إلى آخر الدهر {إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ} أي كان مخلصاً في العبودية لله، كامل الإِيمان واليقين، قال في حاشية البيضاوي: علَّل هذه التكرمة السنية بكونه من أُولي الإِحسان، ثم علَّل كونه محسناً بأنه كان عبداً مؤمناً، إظهاراً لجلالة قدر الإِيمان وأصالة أمره، وجعل الدنيا مملوءةً من ذريته تبقية لذكره الجميل في ألسنة العالمين {ثُمَّ أَغْرَقْنَا الآخَرِينَ} أي أغرقنا الكافرين الذين لم يؤمنوا بنوح عن آخرهم، فلم تبق منهم عينٌ تطرف ولا ذكرٌ ولا أثر.



قصة إبراهيم عليه السلام وتحطيم الأصنام



{وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لإبْرَاهِيمَ(83)إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ(84)إِذْ قَالَ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ(85)أَئِفْكًا آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ(86)فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ(87)فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ(88)فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ(89)فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ(90)فَرَاغَ إِلَى آلِهَتِهِمْ فَقَالَ أَلا تَأْكُلُونَ(91)مَا لَكُمْ لا تَنطِقُونَ(92)فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ(93)فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ(94)قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ(95)وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ(96)قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ(97)فَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الأَسْفَلِينَ(98)وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ(99)رَبِّ هَبْ لِي مِنْ الصَّالِحِينَ(100)فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ(101)}



ثم شرع تعالى في بيان قصة إبراهيم فقال {وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لإبْرَاهِيمَ} أي وإِن من أنصار نوح وأعوانه وممن كان على منهاجه وسنته إبراهيم الخليل، قال البيضاوي: وكان بين نوح وإِبراهيم ألفان وستمائة وأربعون سنة، وكان بينهما نبيان هما "هود" و "صالح" صلوات الله عليهم أجمعين {إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} أي حين جاء ربه بقلبٍ نقي طاهر، مُخلص من الشك والشرك {إِذْ قَالَ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ} أي حين قال لأبيه آزر وقومه موبخاً إيّاهم: ما الذي تبعدونه من الأوثان والأصنام؟ وهو إِنكار لهم وتوبيخ {أَئِفْكًا آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ}؟ أي أتعبدون آلهة من دون الله من أجل الإِفك والكذب والزور؟ وإِنما قدَّم المفعول لأجله {أَئِفْكًا} على المفعول به لأجل التقبيح عليهم بأنهم على إِفكٍ وباطل في شركهم والأصل: أتريدون آلهة من دون الله إفكاً؟ قال القرطبي: والإِفكُ أسوأ الكذب وهو الذي لا يثبتُ ويضطرب {فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} استفهام توبيخ وتحذير أيْ أيَّ شيءٍ تظنون برب العالمين؟ هل تظنون أنه يترككم بلا عقاب وقد عبدتم غيره؟ قال الطبري: المعنى أي شيء تظنون أيها القوم أنه يصنع بكم إن لقيتموه وقد عبدتم غيره؟ {فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ * فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ} لما وبخهم على عبادة غير الله أراد أن يريهم أن أصنامهم لا تضر ولا تنفع، وأراد أن يخلو بها حتى يكسرها، فاحتال للبقاء وعدم الخروج معهم إلى العيد، فنظر في السماء - على عادتهم حيث كانوا نجامين - وأوهمهم أن النجوم تدل على أنه سيسقم غداً فقال: إِني سقيم أي سأمرض إِن خرجتُ معكم، وهذا ليس بكذبٍ وإِنما هو من المعاريض الجائزة لمقصد شرعي كما ورد (إِنَّ في المعاريض لمندوحةً عن الكذب) أو أراد أنه سقيم القلب من عبادتهم للأوثان {فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ} أي فتركوه إِعراضاً عنه وخرجوا إِلى عيدهم {فَرَاغَ إِلَى آلِهَتِهِمْ} أي فلما ذهبوا وتركوه توجه إلى الأصنام ومال إليها في خفية، قال ابن كثير: أي ذهب إليها بعد ما خرجوا في سرعةٍ واختفاء {فَقَالَ أَلا تَأْكُلُونَ}؟ أي ألا تأكلون من هذا الطعام؟ قال ابن كثير: وذلك أنهم كانوا قد وضعوا بين أيديها طعاماً قرباناً لتُبارك لهم فيه {مَا لَكُمْ لا تَنطِقُونَ}؟ أي ما لكم لا تجيبوني على سؤالي، قال أبو حيان: وعرضُ الأكل عليها واستفهامها عن النطق إِنما هو على سبيل الهزء، لأنها منحطةٌ عن رتبة عابديها إِذ هم يأكلوها وينطقون بخلافها {فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ} أي فأقبل على الأصنام مستخفياً يحطمها بيمينه بفأسٍ كان معه، قال البيضاوي: وتقييدُه باليمين للدلالة على قوته، وقوةُ الآلة تستدعي قوة الفعل، وقال القرطبي: خصَّ الضرب باليمين لأنها أقوى والضربُ بها أشد {فَأَقْبَلوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ} أي أقبلوا نحوه مسرعين كأن بعضهم يدفع بعضاً، فلما أدركوه قالوا: ويحكَ نحن نعبدها وأنت تكسرها؟ فأجابهم موبخاً {قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ} أي أتعبدون أصناماً نحتموها بأيديكم، وصنعتموها بأنفسكم؟ {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} أي واللهُ جل وعلا خلقكم وخلق عملكم، وكلُّ الأشياء مخلوقة له، فكيف تعبدون المخلوق وتتركون الخالق، أليس لكم عقل أيها الناسُ؟ قال ابن جزي: ذهب بعض المفسرين إلى أن {مَا} مصدرية والمعنى: اللهُ خلقكم وأعمالكم، وهذه الآية عندهم قاعدةٌ في خلق أفعال العباد، وذهب بعضهم إلى أن {ما} موصولة بمعنى الذي والمعنى: خلقكم وخلق أصنامكم التي تعملونها، وهذا أليقٌ بسياق الكلام، وأقوى في قصد الاحتجاج على الذين عبدوا الأصنام. {قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ} أي ابنوا له مكاناً وأضرموه ناراً ثم ألقوه في تلك النار المتأججة المستعرة، قال المفسرون: لما غلبهم إبراهيم عليه السلام في الحجة، مالوا إلى الغلبة بقوة البطش والشدة، وتشاوروا فيما بينهم ثم قرروا أن يطرحوه في النار انتصاراً لأصنامهم وآلهتهم {فَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الأَسْفَلِينَ} أي أرادوا المكر بإبراهيم واحتالوا لإِهلاكه، فنجيناه من النار وجعلناها برداً وسلاماً عليه، وجعلناهم الأذلين المقهورين لأنه لم ينفذ فيه مكرهم، ولا كيدهم {وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ} لما نجاه الله من النار، وخلّصه من كيد الفجار، هجر قومه واعتزلهم والمعنى إني مهاجر من بلد قومي إلى حيث أمرني ربي، قال مقاتل: هو أول من هاجر من الخلق مع سارة إلى أرض الشام {رَبِّ هَبْ لِي مِنْ الصَّالِحِينَ} أي ارزقني ولداً من الصالحين يؤنسني في غُربتي، قال ابن كثير: يريد أولاداً مطيعين يكونون عوضاً عن قومه وعشيرته الذين فارقهم {فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ} أي فاستجبنا دعاءه وبشرناه بغلامٍ يكون حليماً في كبره، قال أبو السعود: جمع الله له فيه بشارات ثلاث: بشارة أنه غلام، وأنه يبلغ أوان الحُلم، وأنه يكون حليماً، لأن الصغير لا يوصف بذلك، وأيُّ حلم يعادل حلمه عليه السلام حين عرض عليه أبوه الذبح فقال {يا أبتِ افعلْ ما تُؤمرْ ستجدني إِن شاء الله من الصابرين}!! وجمهور المفسرين على أن هذا الغلام المبشر به هو "إسماعيل" لأن الله تعالى قال بعد تمام قصة الذبيح {وبشرناه بإِسحاق نبياً من الصالحين} فدل ذلك على أن الذبيح هو إِسماعيل.



إبراهيم عليه السلام والذبيح إسماعيل



{فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنْ الصَّابِرِينَ(102)فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ(103)وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ(104)قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ(105)إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ(106)وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ(107)وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ(108)سَلامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ(109)كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ(110)إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ(111)وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنْ الصَّالِحِينَ(112)وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ(113)}



{فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ} أي فلما ترعرع وشبَّ وبلغ السنَّ الذي يمكنه أن يسعى مع أبيه في أشغاله وحوائجه، قال المفسرون: وهو سن الثالثة عشرة {قَالَ يا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ} أي إني أُمرت في المنام أنْ أذبحك، قال ابن عباس: رؤيا الأنبياء وحيٌ وتلا الآية، وقال محمد بن كعب: كانت الرسل يأتيهم الوحي من الله تعالى أيقاظاً ورقوداً، لأن الأنبياء تنام عيونهم ولا تنام قلوبهم {فَانظُرْ مَاذَا تَرَى}؟ أي فانظر في الأمر، ما رأيك فيه؟ قال ابن كثير: وإنما أعلم ابنه بذلك ليكون أهون عليه، وليختبر صبره وجلَده وعزمه على طاعة الله تعالى وطاعة أبيه. فإن قيل: لم شاوره في أمرٍ هو حتمٌ من الله؟ فالجواب: أنه لم يشاوره ليرجع إلى رأيه، ولكنْ ليعلم ما عنده فيثبت قلبه ويوطِّن نفسه على الصبر، فأجابه بأحسن جواب {قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنْ الصَّابِرِينَ} أي امض لما أمرك الله به من ذبحي، فستجدني صابراً إِن شاء الله، وهو جواب من أُوتي الحلم والصبر وامتثال الأمر، والرضا بقضاء الله {فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ} أي فلما استسلما - الأب والابن - لأمر الله، وصرعه على وجهه ليذبحه، قال ابن عباس: {تَلَّهُ لِلْجَبِينِ} أكبَّه على وجهه {وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا} هذه جواب "لمَّا" والواو مقحمة أي ناديناه يا إِبراهيم قد نفَّذْت ما أُمرت به، وحصل المقصود من رؤياك بإِضجاعك ولدك للذبح، روي أنه أمرَّ السكين بقوته على حلقه مراراً فلم يقطع، قال الصاوي: والحكمة في هذه القصة أن إبراهيم اتخذه الله تعالى خليلاً، فلما سأل ربه الولد ووهبه له تعلقت شعبةٌ من قلبه بمحبة ولده، فأمر بذبح المحبوب لتظهر صفاء الخلة، فامتثل أمر ربه وقدَّم محبته على محبة ولده، قال ابن عباس: فلما عزم على ذبح ولده ورماه على شقه قال الإِبن: يا أبتِ اشدد رباطي حتى لا أضطرب، واكفف ثيابك لئلا ينتضح عليها شيءٌ من دمي فتراه أمي فتحزن، وأحدَّ شفرتك وأسرعْ بها على حلقي ليكون الموت أهونَ عليَّ، وإِذا أتيتَ أمي فاقْرئْها مني السلام، وإِن رأيتَ أن تردَّ قميصي عليها فافعل فإِنه عسى أن يكون أسلى لها عني، فقال له إبراهيم: نعم العونُ أنت يا بني على أمر الله {إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} تعليلٌ لتفريج الكربة أي كما فرجنا شدتك كذلك نجازي المحسنين بتفريج الشدة عنهم ونجعل لهم من أمرهم فرجاً ومخرجاً {إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ} أي إِن هذا لهو الابتلاء والامتحان الشاق الواضح، الذي يتميز فيه المخلص من المنافق {وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ} أي وفديناه بكبشٍ عظيم من الجنة فداءً عنه، قال ابن عباس: كبش عظيم قد رعى في الجنة أربعين خريفاً {وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ} أي وأبقينا عليه ثناءً حسناً إلى يوم الدين {سَلامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ} أي سلام منا على إِبراهيم عاطر كريم {كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ} كرَّر ذكر الجزاء مبالغة في الثناء ثم علَّل ذلك بأنه كان من الراسخين في الإِيمان مع الإِيقان والاطمئنان {وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنْ الصَّالِحِينَ} أي وبشرناه بغلامٍ آخر بعد تلك الحادثة هو إِسحق الذي سيكون نبياً، قال ابن عباس: بُشِّرَ بنبوته حين وُلد، وحين نُبّئ، وتكاد تكون الآية صريحةً في أن الذبيح هو "إِسماعيل" لا "إِسحاق" {وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ} أي أفضنا على إِبراهيم وإِسحاق بركات الدنيا والدين {وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ} أي ومن ذريتهما محسنٌ ومسيء، قال الطبري: المحسنُ هو المؤمن، والظالم لنفسه هو الكافر، وقال أبو حيان: وفي الآية وعيدٌ لليهود ومن كان من ذريتهما ممن لم يؤمن بمحمد صلى الله عليه وسلم وفيها دليل على أن البَرَّ قد يلد الفاجر ولا يلحقه من ذلك عيب ولا منقصة.



قصة موسى وهارون عليهما السلام



{وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ(114)وَنَجَّيْنَاهُمَا وَقَوْمَهُمَا مِنْ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ(115)وَنَصَرْنَاهُمْ فَكَانُوا هُمْ الْغَالِبِينَ(116)وَآتَيْنَاهُمَا الْكِتَابَ الْمُسْتَبِينَ(117)وَهَدَيْنَاهُمَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ(118)وَتَرَكْنَا عَلَيْهِمَا فِي الآخِرِينَ(119)سَلامٌ عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ(120)إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ(121)إِنَّهُمَا مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ(122)}



{وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ} اللام موطئة للقسم أي وعزتنا وجلالنا لقد أنعمنا على موسى وهارون بأنواع النعم والمنافع الدينية والدنيوية ومنها نعمة النبوة والرسالة {وَنَجَّيْنَاهُمَا وَقَوْمَهُمَا مِنْ الْكرْبِ الْعَظِيمِ} أي ونجيناهما وقومهما -بني اسرائيل- من الغم والمكروه العظيم، وهو استعباد فرعون إياهم مع التعذيب بقتل الأبناء، واستحياء النساء {وَنَصَرْنَاهُمْ فَكَانُوا هُمْ الْغَالِبِينَ} الضمير يعود على موسى وهارون وبني إسرائيل أي ونصرناهم على أعدائهم -الأقباط- فكانوا الغالبين عليهم بعد أن كانوا تحت أيديهم مقهورين {وَآتَيْنَاهُمَا الْكِتَابَ الْمُسْتَبِينَ} أي أعطيناهما الكتاب البليغ في بيانه، الكامل في حدوده وأحكامه، وهو التوراة {وَهَدَيْنَاهُمَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} أي وهديناهما الطريق المستقيم الذي لا اعوجاج فيه، قال الطبري: وهو الإِسلام دينُ الله الذي ابتعث به أنبياءه {وَتَرَكْنَا عَلَيْهِمَا فِي الآخِرِينَ} أي تركنا عليهما الثناء الجميل، والذكر الحسن {سَلامٌ عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ} أي سلام منا على موسى وهارون {إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِين * إِنَّهُمَا مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ} أي كذلك نفعل بمن أحسن وأخلص العبودية لله.



قصة إلياس عليه السلام



{وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنْ الْمُرْسَلِينَ(123)إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَلا تَتَّقُونَ(124)أَتَدْعُونَ بَعْلاً وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ(125)اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ ءابائِكُمْ الأوَّلِينَ(126)فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ(127)إِلا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ(128)وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ(129)سَلامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ(130)إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ(131)إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ(132)}



{وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنْ الْمُرْسَلِينَ} أي وإِنَّ إلياس -أحد أنبياء بني إسرائيل- لمن الرسل الكرام الذين أرسلتهم لهداية الخلق، قال أبو السعود: هو إلياس بن ياسين من سبط هارون أخي موسى {إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَلا تَتَّقُونَ} أي حين قال لقومه من بني إسرائيل ألا تخافون الله في عبادتكم غيره؟ {أَتَدْعُونَ بَعْلاً وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ} أتعبدون هذا الصنم - المسمَّى بعلاً - وتتركون عبادة ربكم أحسن الخالقين؟ {اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ ءابائِكُمْ الأوَّلِينَ} أي تتركون عبادة أحسن الخالقين، الذي هو ربكم وربُّ ءابائكم السابقين، قال القرطبي: و "بعل" اسم صنم لهم كانوا يعبدونه وبذلك سميت مدينتهم بعلبك، والمعنى: أتدعون رباً اختلقتموه وهو هذا الصنم، وتتركون أحسن من يقال له خالق وهو "الله" ربكم وربَّ ءابائكم الأولين؟ {فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ} أي فكذبوا نبيَّهم فإِنهم لمحضرون في العذاب {إِلا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ} أي لكنْ عباد الله المؤمنين فإِنهم نجوا من العذاب {وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ} أي تركنا على إلياس الثناء الحسن الجميل إلى يوم الدين {سَلامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ} أي سلام منا عليه وعلى آل ياسين، قال المفسرون: المراد بـ {إِلْ يَاسِينَ} هو إلياس ومن آمن معه جمعوا معه تغليباً كما قالوا للمهلَّب وقومه المهلَّبون، واختار الطبري أنه اسم لإِلياس فيقال: إلياس، وإل ياسين مثل ميكال وميكائيل، وأن له اسمين فيسمى "إلياس" و{إِلْ يَاسِينَ} {إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ} تقدم تفسيره، وإِنما ختم الآيات بعد ذكر كل رسول بالسلام عليه، وبهاتين الآيتين الكريمتين لبيان فضل الإِحسان والإِيمان، وأن هؤلاء الرسل الكرام كانوا جميعاً من المتصفين بهذه الصفات، فلذلك استحقوا التحية والسلام، والذكر الحسن بين الأنام، صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.



قصة لوط عليه السلام



{وَإِنَّ لُوطًا لَمِنْ الْمُرْسَلِينَ(133)إِذْ نَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ(134)إِلا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ(135)ثُمَّ دَمَّرْنَا الآخَرِينَ(136)وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ(137)وَبِاللَّيْلِ أَفَلا تَعْقِلُونَ(138)}



{وَإِنَّ لُوطًا لَمِنْ الْمُرْسَلِينَ} أي وإِنَّ لوطاً لأحد رسلنا لهداية قومه {إِذْ نَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ} أي اذكر حين خلصناه من العذاب هو ومن امن معه من أهله وأولاده {إِلا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ} أي إلا امرأته الكافرة فإِنها لم تؤمن فكانت من الباقين في العذاب ومن الهالكين {ثُمَّ دَمَّرْنَا الآخَرِينَ} أي ثم أهلكنا المكذبين من قومه أشدَّ إهلاك وأفظعه، وذلك بقلب قراهم حيث جعلنا عاليها سافلها وأمطرنا عليهم حجارة من سجيل، ولهذا عبَّر بـ {دَمَّرْنَا} {وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ * وَبِاللَّيْلِ} أي وإِنكم يا أهل مكة لتمرون على منازلهم في أسفاركم وتشاهدون آثار هلاكهم صباحاً ومساءً، وليلاً ونهاراً {أَفَلا تَعْقِلُونَ}؟ أي أتشاهدون ذلك ثم لا تعتبرون ؟ ألا تخافون أن يصيبكم مثل ما أصابهم.



قصة يونس عليه السلام



{وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنْ الْمُرْسَلِينَ(139)إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ(140)فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنْ الْمُدْحَضِينَ(141)فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ(142)فَلَوْلا أَنَّهُ كَانَ مِنْ الْمُسَبِّحِينَ(143)لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ(144)فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ سَقِيمٌ(145)وَأَنْبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ(146)وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ(147)فَآمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ(148)}



{وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنْ الْمُرْسَلِينَ} أي وإِن يونس لأحد رسلنا المبعوثين لهداية قومه {إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ} أي اذكر حين هرب إلى السفينة المملوءة بالرجال {فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنْ الْمُدْحَضِينَ} أي فقارع أهل السفينة فكان من المغلوبين بالقرعة فألقوه في البحر، قال المفسرون: إن يونس ضاق صدراً بتكذيب قومه، فأنذرهم بعذاب قريب، وغادرهم مغضباً لأنهم كذبوه، فقاده الغضب إِلى شاطئ البحر حيث ركب سفينة مشحونة، فناوأتها الرياح والأمواج، فقال الملاحون: ههنا عبدٌ أبق من سيده، ولا بدَّ لنجاة السفينة من إلقائه في الماء لتنجو من الغرق، فاقترعوا فخرجت القُرعة على يونس فألقوه في البحر {فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ} أي فابتلعه الحوت وهو آتٍ بما يُلام عليه من تخليه عن المهمة التي أرسله الله بها، وترك قومه مغاضباً لهم، وخروجه بغير إِذنٍ من ربه {فَلَوْلا أَنَّهُ كَانَ مِنْ الْمُسَبِّحِينَ} أي لولا أنه كان من الذاكرين الله كثيراً في حياته {لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} أي لبقي في بطن الحوت إلى يوم القيامة، وأصبح بطنه قبراً له فلم ينج أبداً، ولكنه سبَّح اللهَ واستغفره وناداه وهو في بطن الحوت بقوله: لا إله إلا أنت سبحانك إني كنتُ من الظالمين فاستجاب الله تضرعه ونداءه {فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ سَقِيمٌ} أي فألقيناه من بطن الحوت على الساحل، بالأرض الفضاء التي لا شجر فيها ولا ظل، وهو سقيم مريض مما ناله من الكرب، قال عطاء: أوحى الله تعالى إلى الحوت إني قد جعلت بطنك له سجناً، ولم أجعله لك طعاماً، فلذلك بقي سالماً لم يتغير منه شيء {وَأَنْبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ} أي وأنبتنا فوقه شجرة لتظله وتقيه حرَّ الشمس، وهي شجرة القرع ذات الأوراق العريضة، قال ابن جزي: وإِنما خصَّ القرع بالذكر لأنه يجمع كبر الورق، وبرد الظل، والذبابُ لا يقربه، فإِن لحم يونس لما خرج من البحر كان لا يحتمل الذباب، وكان هذا من تدبير الله ولطفه، فلما استكمل قوته وعافيته ردَّه الله إلى قومه ولهذا قال {وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ} أي وأرسلناه بعد ذلك إلى قومه الذين هرب منهم وهم مائة ألفٍ بل يزيدون، قال المفسرون: كانوا مائة وعشرين ألفاً، وقيل: وسبعين ألفاً، وهم أهل نينوى بجهة الموصل، و "أو" بمعنى بل أي بل يزيدون {فَآمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ} أي فآمنوا بعد أن شاهدوا أمارات العذاب الذي وُعدوا به فأبقيناهم ممتعين في الدنيا إلى حين انقضاء آجالهم، قال ابن جزي: روي أنهم خرجوا بالأطفال وأولاد البهائم، وفرقوا بينهم وبين الأمهات، وناحوا وتضرعوا إلى الله، فرفع الله العذاب عنهم.





الرد على مزاعم المشركين



{فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمْ الْبَنُونَ(149)أَمْ خَلَقْنَا الْمَلائِكَةَ إِنَاثًا وَهُمْ شَاهِدُونَ(150)أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ(151)وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ(152)أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ(153)مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ(154)أَفَلا تَذَكَّرُونَ(155)أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ مُبِينٌ(156)فَأْتُوا بِكِتَابِكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ(157)وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا وَلَقَدْ عَلِمَتْ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ(158)سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ(159)إِلا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ(160)فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ(161)مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ(162)إِلا مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ(163)وَمَا مِنَّا إِلا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ(164)وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ(165)وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ(166)وَإِنْ كَانُوا لَيَقُولُونَ(167)لَوْ أَنَّ عِنْدَنَا ذِكْرًا مِنْ الأوَّلِينَ(168)لَكُنَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ(169)فَكَفَرُوا بِهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ(170)}



سبب النزول:

نزول الآية (158):

{وجعلوا بينه ..}: أخرج جويبر عن ابن عباس قال: أنزلت هذه الآيات في ثلاثة أحياء من قريش: سُليم، وخُزاعة، وجُهَيْنة: {وجعلوا بينه وبين الجنَّة نسباً}. ونقل الواحدي عن المفسرين أنهم قالوا : إن قريشاً وأجناس العرب : جُهَيْنة وبني سلمة، وخُزاعة، وبني مُلَيح قالوا: الملائكة بنات الله.

وأخرج البيهقي في شعب الإيمان عن مجاهد قال: قال كبار قريش: الملائكة بنات الله، فقال لهم أبو بكر الصديق: فمن أمهاتهم؟ قالوا، بنات سراة الجن، فأنزل الله {ولقد علمت الجنّة إنهم لمحضرون}.



نزول الآية (165):

{وإنا لنحن ..}: أخرج ابن أبي حاتم عن يزيد بن أبي مالك قال: كان الناس يصلون متبددين، فأنزل الله: {وإنا لنحن الصَّافَون} فأمرهم أن يصفوا.



ولما انتهى من الحديث عن الرسل الكرام رجع إلى الحديث عن المكذبين من كفار مكة فقال {فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمْ الْبَنُونَ}؟ أي اسأل يا محمد واستخبر كفار مكة -على سبيل التوبيخ والتقريع لهم- كيف زعموا أن الملائكة بنات الله، فجعلوا للهِ الإِناث ولأنفسهم الذكور؟ إنهم يكرهون البنات ولا يرضون نسبتهنَّ لأنفسهم، فكيف يرضونها لله عز وجل ويختصون بالبنين؟ {أَمْ خَلَقْنَا الْمَلائِكَةَ إِنَاثًا وَهُمْ شَاهِدُونَ} توبيخٌ آخر على بهتانهم واستهزاء بهم وتجهيل أي أخلقنا الملائكة الأطهار حين خلقناهم، وجعلناهم إناثاً وهم شاهدون لذلك حتى يقولوا مثل هذا البهتان؟ {أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ * وَلَدَ اللَّهُ} أي ألا فانتبهوا أيها الناس إن هؤلاء المشركين من كذبهم وافترائهم ينسبون إلى الله الذرية والولد {وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} أي وهم كاذبون قطعاً في قولهم الملائكة بناتُ الله، قال أبو السعود: والآية استئناف مسوقٌ لإِبطال أصل مذهبهم الفاسد، ببيان أن مبناه ليس إلا الإِفك الصريح، والافتراء القبيح، من غير أن يكون لهم دليلٌ قطعاً {أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ}؟ توبيخٌ وتقريع أي هل اختار جل وعلا البناتِ وفضلهن على البنين؟ {مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ}؟ تسفيهٌ لهم وتجهيل أيْ أيُّ شيء حصل لكم حتى حكمتم بهذا الحكم الجائر؟ كيف يختار لنفسه أخسَّ الجنسين على زعمكم؟ {أَفَلا تَذَكَّرُونَ}؟ أي أفليس لكم تمييز وإدراك تعرفون به خطأ هذا الكلام؟ قال أبو السعود: أي أفلا تتذكرون بطلان هذا ببديهة العقل، فإِنه مركوزٌ في عقل كل ذكي وغبي {أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ مُبِينٌ} توبيخ آخر أي أم لكم برهان بيّن وحجة واضحة على أن الله اتخذ الملائكة بناتٍ له؟ {فَأْتُوا بِكِتَابِكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} أي فأتوا بهذا الكتاب الذي يشهد بصحة دعواكم فيما تزعمون .. والغرضُ تعجيزهم وبيان أنهم لا يستندون -في أقوالهم الباطلة- على دليل شرعي، ولا منطق عقلي .. وينتقل إلى أسطورةٍ أُخرى لفَّقها المشركون، حيث زعموا أن هناك صلة بين الله سبحانه وبين الجنِّ، وأنه من التزاوج بين الله تعالى والجِنَّة ولدت الملائكة فيقول {وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا} أي جعل المشركون بين الله وبين الجنِّ قرابة ونسباً، حيث قالوا إنه نكح من الجنِّ فولدت له الملائكة {سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علواً كبيراً} ثم زعموا أن الملائكة إناث، وأنهن بنات الله {وَلَقَدْ عَلِمَتْ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ} أي لقد علمت الشياطين أنهم محضرون في العذاب، قال الصاوي: وهذا زيادة في تبكيتهم وتكذيبهم كأنه قيل: هؤلاء الذين عظمتموهم وجعلتموهم بنات الله، أعلمُ بحالكم وما يئول إليه أمركم {سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ} أي تنزَّه وتقدَّس الله عما يصفه به هؤلاء الظالمون {إِلا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ} استثناء منقطع أي لكنْ عباد الله المخلصين فإِنهم ينزهون الله تعالى عما يصفه به هؤلاء {فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ * مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ * إِلا مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ} أي فإِنكم أيها الكفار وكل ما تعبدونه من الأصنام والشياطين لستم بقادرين على أن تُضلوا أحداً من عباد الله، إلاَّ من قضى الله عليه الشقاوة، وقدَّر أنه يدخل النار ويصلاها، ثم ذكر تعالى اعتراف الملائكة بالعبودية لله فقال {وَمَا مِنَّا إِلا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ} أي وما منا ملك إلا له مرتبة ومنزلة ووظيفة لا يتعداها، فمنا الموكَّل بالأرزاق، ومنا الموكَّل بالآجال، ومنَّا من يتنزل بالوحي، ولكلٍ منزلته من العبادة، والتقريب، والتشريف {وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ} أي الواقفون في العبادة صفوفاً {وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ} أي المنزهون الله سبحانه عن كل ما لا يليق بعظمته وكبريائه، نسبّح الله في كل وقت وحين، قال ابن جزي: وفي هذا الكلام الذي قالته الملائكة ردٌّ على من قال إنهم بناتُ الله، وشركاء الله، لأنهم اعترفوا على أنفسهم بالعبودية والطاعة لله، والتنزيه له جل وعلا {وَإِنْ كَانُوا لَيَقُولُونَ * لَوْ أَنَّ عِنْدَنَا ذِكْرًا مِنْ الأوَّلِينَ * لَكُنَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ * فَكَفَرُوا بِهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} الضمير لكفار قريش و{إِنْ} هي المخففة من "إنَّ" الثقيلة أي وإِن كان الحال والشأن أن كفار مكة كانوا -قبل أن ينزل عليهم القرآن- يقولون لو نزل علينا كتاب من كتب الأولين كالتوراة والإِنجيل لكنا أعظم إِيماناً منهم، وأكثر عبادةً وإِخلاصاً للهِ منهم، فلما جاءهم القرآن كفروا به ولهذا قال {فَكَفَرُوا بِهِ} أي فكفروا وكذبوا بالقرآن أشرف الكتب السماوية {فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} أي فسوف يرون عاقبة كفرهم بآيات الله، وهو وعيد وتهديد.





جُنْد الله هم المنصورون



{وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ(171)إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ(172)وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ(173)فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ(174)وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ(175)أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ(176)فَإِذَا نَزَلَ بِسَاحَتِهِمْ فَسَاءَ صَبَاحُ الْمُنذَرِينَ(177)وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ(178)وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ(179)سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ(180)وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ(181)وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ(182)}



سبب النزول:

نزول الآية (176):

{أفبعذابنا ..}: أخرج جويبر عن ابن عباس قال: قالوا: يا محمد، أرنا العذاب الذي تخوفنا به، عجّلْه لنا، فنزلت: {أفبعذابنا يستعجلون} وهو صحيح على شرط الشيخين.



{وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ} أي سبق وعدنا وقضاؤنا للرسل الكرام {إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ} أي إِنهم هم المنصورون على أعدائهم، والإِشارة إلى قوله تعالى {كتبَ اللهُ لأغلبنَّ أنا ورسلي} {وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} أي وإن جندنا المؤمنين لهم الغالبون في الدنيا والآخرة، في الدنيا بالحجة والبرهان، وفي الآخرة بدخول الجنان، قال المفسرون: نصرُ الله للمؤمنين محقق، ولا يقدح في ذلك انهزامهم في بعض المعارك، فإِن القاعدة هي بالظفر والنصرة، وإِنما يُغلبون في بعض الأحيان بسبب تقصيرٍ منهم أو ابتلاءً ومحنة {فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ} أي أعرض عنهم يا محمد إلى مدة يسيرة، إلى أن تُؤمر بقتالهم {وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ} أي وأبصرهم حين ينزل بهم العذاب، فسوف يبصرون عاقبة كفرهم {أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ}؟ استفهام إنكاري للتهديد أي أيستعجلون بعذاب الله؟ روي أنه لما نزل {فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ} استهزءوا وقالوا متى هذا يكون؟ فنزلت الآية ثم قال تعالى {فَإِذَا نَزَلَ بِسَاحَتِهِمْ فَسَاءَ صَبَاحُ الْمُنذَرِينَ} أي لا يستبعدوا ذلك فإِن العذاب إِذا نزل بفناء المكذبين فبئس هذا الصباح صباحهم، شبهه بجيشٍ هجم عليهم وقت الصباح فقطع دابرهم {وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ* وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ} كرره تأكيداً للتهديد وتسلية للرسول صلى الله عليه وسلم {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ} أي تنزه وتقدس ذو العزة والجبروت عما يصفه به المشركون {وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ * وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} أي وسلامٌ منا على الرسل الكرام، والحمد لله في البدء والختام لله ربّ الخلائق أجمعين. نزَّه تعالى نفسه عما وصفه به الكفار مما لا يليق به سبحانه، فإِنه حكى عنهم في هذه السورة أقوالاً كثيرة شنيعة، وختم بتعميم السلام على الرسل الكرام وبحمده سبحانه، وهو تعليم للعباد.

yacine414
2011-04-01, 17:43
سورة ص



مناقشة المشركين في عقائدهم

تذكير الكفار بما نال أسلافهم من العذاب

قصة داود عليه السلام

إثبات البعث، وحال المطيعين والعاصين ، وبيان فضل القرآن

قصة سليمان عليه السلام

قصة أيوب عليه السلام

قصة إبراهيم وذريته: إسحاق ويعقوب وإسماعيل واليسع وذي الكفل عليهم السلام

عقاب الطاغين الأشقياء

بيان مهمة الرسول صلى الله عليه وسلم ، وإثبات الوحدانية

قصة آدم عليه السلام

حال الداعي والدعوة والقرآن



بَين يَدَي السُّورَة



سورة ص مكية، وهدفها نفس هدف السور المكية، التي تعالج أصول العقيدة الإِسلامية.



* ابتدأت السورة الكريمة بالقسم بالقرآن - المعجز المنزَّل على النبي الأمي، المشتمل على المواعظ البليغة، والأخبار العجيبة - على أن القرآن حق ، وأن محمداً نبيٌ مرسل.



* ثم تحدثت عن الوحدانية وإنكار المشركين لها، ومبالغتهم في العجب من دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم لهم إلى توحيد الله {اجعلَ الآلهةَ إلهاً واحداً؟ إنَّ هذا لشيء عجاب}.



* وانتقلت السورة لتضرب الأمثال لكفار مكة بمن سبقهم من الطغاة المتجبرين، الذين أسرفوا بالتكذيب والضلال، وما حل بهم من العذاب والنكال، بسبب إفسادهم وإجرامهم.



* ثم تناولت قصص بعض الرسل الكرام، تسليةً للنبي عليه الصلاة والسلام عما يلقاه من كفار مكة من الاستهزاء والتكذيب، وتخفيفاً لآلامه وأحزانه، فذكرت قصة نبي الله داود، وولده سليمان، الذي جمع الله له بين النبوة والملك، وما نال كلاً منهما من الفتنة والابتلاء، ثم أعقبتها بذكر فتنة أيوب، وإسحاق ويعقوب، وإسماعيل وذا الكفل، هكذا في عرضٍ سريع لبيان سنة الله، في ابتلاء أنبيائه وأصفيائه.



* وأشارت السورة الكريمة إلى دلائل القدرة والوحدانية، في هذا الكون المنظور وما فيه من بدائع الصنعة، للتنبيه على أن هذا الكون لم يخلق عبثاً، وأنه لا بدَّ من دار ثانية يجازى فيها المحسن والمسيء.



* وختمت السورة الكريمة ببيان وظيفة الرسول ومهمته الأساسية التي هي مهمة جميع الرسل الكرام.



التسميَة:

تسمى السورة الكريمة "سورة ص" وهو حرف من حروف الهجاء للإِشادة بالكتاب المعجز الذي تحدى الله به الأولين والآخرين، وهو المنظوم من أمثال هذه الحروف الهجائية.





مناقشة المشركين في عقائدهم



{ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ(1)بَلْ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ(2)كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنَادَوْا وَلاتَ حِينَ مَنَاصٍ(3)وَعَجِبُوا أَنْ جَاءهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ(4)أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ(5)وَانطَلَقَ الْمَلأُ مِنْهُمْ أَنْ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ(6)مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلا اخْتِلاقٌ(7)أَءنزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ(8)أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ(9)أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَلْيَرْتَقُوا فِي الأَسْبَابِ(10)جُندٌ مَا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الأَحْزَابِ(11)}



سبب النزول:

نزول الآية (5):

{أجعل الآلهة ..}: أخرج أحمد والترمذي والنسائي والحاكم وصححه عن ابن عباس قال: مرض أبو طالب، فجاءته قريش، وجاءه النبي صلى الله عليه وسلم، فشكوه إلى أبي طالب، فقال: يا ابن أخي، ما تريد من قومك؟ قال: أريد منهم كلمة، تدين لهم بها العرب، وتؤدي إليهم العجم الجزية كلمة واحدة، قال: وما هي؟ قال: لا إله إلا الله، فقالوا: إلهاً واحداً؟ إن هذا لشيء عجاب، فنزل فيهم {ص والقرآن ..} إلى قوله: {بل لَمَّا يذوقوا عذاب}.



{ص} تقدم الكلام على الحروف الهجائية، وبيّنّا أن فيها الإِشارة إلى إعجاز القرآن {وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ} قسمٌ أقسم به الباري جل وعلا أي والقرآن ذي الشرف الرفيع، وذي الشأن والمكانة، وجواب القسم محذوف تقديره إن هذا القرآن لمعجز وإن محمداً لصادق، قال ابن عباس: {ذِي الذِّكْرِ} أي ذي الشرف {بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ} أي بل الكافرون في حميةٍ وتكبرٍ عن الإِيمان، وفي خلافٍ وعداوة للرسول عليه السلام، قال البيضاوي: أي ما كفر من كفر بالقرآن لخَللٍ وجده فيه بل الذين كفروا به {فِي عِزَّةٍ} أي استكبار عن الحق {وَشِقَاقٍ} أي خلاف للهِ ولرسوله ولذلك كفروا به {كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ} أي كم أهلكنا قبل أهل مكة من أمم كثيرة من القرون الخالية، لكبرهم عن الحق ومعاداتهم لرسلهم، قال أبو السعود: والآية وعيد لأهل مكة على كفرهم واستكبارهم ببيان ما أصاب من قبلهم من المستكبرين {فَنَادَوْا وَلاتَ حِينَ مَنَاصٍ} أي فاستغاثوا واستجاروا عند نزول العذاب طلباً للنجاة، وليس الحينُ حينَ فرار أو مهرب ونجاة، قال ابن جزي: المعنى أن القرون الذين هلكوا دعوا واستغاثوا حين لم ينفعهم ذلك، إذ ليس الحين الذي دعوا فيه حين مناص أي مفر ونجاة من ناص ينوص إذا فرَّ، ولات بمعنى ليس وأصلها لا النافية زيدت عليها علامة التأنيث {وَعَجِبُوا أَنْ جَاءهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ} أي وعجب المشركون من بعثة محمد صلى الله عليه وسلم واستبعدوا أن يبعث الله رسولاً من البشر {وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ} أي وقال كفار مكة: إن محمداً ساحرٌ فيما يأتي به من المعجزات {كَذَّابٌ} أي مبالغ في الكذب في دعوى أنه رسول الله، وإِنما وضع الاسم الظاهر {الْكَافِرُونَ} مكان الضمير "وقالوا" غضباً عليهم، وذماً لهم وتسجيلاً لجريمة الكفر عليهم، فإن هذا الاتهام لا يقوله إلا المتوغلون في الكفر والفسوق {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا}؟ أي أزعم أن الربَّ المعبود واحد لا إله إلا هو؟ {إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} أي إنَّ هذا الذي يقوله محمد - إنّ الإِله واحد - شي بليغٌ في العجب، قال ابن كثير: أنكر المشركون ذلك -قبَّحهم الله- وتعجبوا من ترك الشرك بالله، فإنهم كانوا قد تلقَّوا عن ءابائهم عبادة الأوثان وأُشربته قلوبهم، فلما دعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى خلع الأوثان وإفراد الإِله بالوحدانية، أعظموا ذلك وتعجبوا وقالوا: {أجعل الآلهة إلهاً واحداً إن هذا لشيء عجاب} قال المفسرون: إن قريشاً اجتمعوا وقالوا لأبي طالب: كُفَّ ابنَ أخيك عنا، فإِنه يعيب ديننا، ويذم آلهتنا، ويسفِّه أحلامنا، فدعاه أبو طالب وكلَّمه في ذلك، فقال صلى الله عليه وسلم: يا عم إنما أريد منهم كلمةً واحدة، يملكون بها العجم، وتدين لهم بها العرب، فقال أبو جهل والمشركون: نعم نعطيكها وعشر كلمات معها!! فقال قولوا "لا إله إلا الله" فقاموا فزعين ينفضون ثيابهم ويقولون {أجعل الآلهة إلهاً واحداً ..}؟ فنزلت الآيات {وَانطَلَقَ الْمَلأُ مِنْهُمْ أَنْ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ} أي وانطلق أشراف قريش ورؤساء الضلال فيهم، وخرجوا من عند الرسول صلى الله عليه وسلم يقول بعضهم لبعض: امشوا واصبروا على عبادة آلهتكم، ولا تطيعوا محمداً فيما يدعوكم إليه من عبادة الله الواحد الأحد {إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ} أي هذا أمرٌ مدبِّر، يريد من ورائه محمد أن يصرفكم عن دين ءابائكم لتكون له العزة والسيادة عليكم، فاحذروا أن تطيعوه {مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الآخِرَةِ} أي ما سمعنا بمثل هذا القول في ملة النصرانية التي هي آخر الملل، فإنهم يقولون بالتثليث لا بالتوحيد، فكيف يزعم محمد أنَّ الله واحد؟ قال ابن عباس: يعنون بالملة الآخرة دينَ النصرانية، وقال مجاهد وقتادة: يعنون دين قريش أي ليس هذا في الدين الذي أدركنا عليه ءاباءنا {إِنْ هَذَا إِلا اخْتِلاقٌ} أي ما هذا الذي يدعيه محمد إلا كذب وافتراء، ثم أنكروا اختصاصه عليه السلام بالوحي من بينهم فقالوا {أَءنزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا}؟ الاستفهام للإِنكار أي هل تنزَّل القرآن على محمد دوننا، مع أن فينا من هو أكثر منه مالاً، وأعلى رياسةً؟ قال الزمخشري: أنكروا أن يختص صلى الله عليه وسلم بالشرف من بين أشرافهم ورؤسائهم، وهذا الإِنكار ترجمة عما كانت تغلي به صدورهم من الحسد على ما أوتي من شرف النبوة من بينهم {بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي} إضرابٌ عن مقدر تقديره: إنكارهم للذكر ليس عن علم بل هم في شك منه فلذلك كفروا {بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ} اضراب انتقالي وغرضه التهديد والمعنى سبب شكهم أنهم لم يذوقوا العذاب إلى الآن، ولو ذاقوه لأيقنوا بالقرآن وآمنوا به {أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ}؟ هذا ردٌّ على المشركين فيما أنكروا من اختصاص محمد صلى الله عليه وسلم بالنبوة والمعنى هل عندهم خزائن رحمته تعالى حتى يعطوا النبوة من شاءوا، ويمنعوها من شاءوا؟ قال البيضاوي: يريد أن النبوة عطيةٌ من الله يتفضل بها على من يشاء من عباده، فإنه {الْعَزِيزِ} أي الغالب الذي لا يغلب {الْوَهَّاب} أي الذي له أن يهب ما يشاء لمن يشاء {أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا}؟ أي هل لهم شيء من ملك السماوات والأرض؟ وهو إنكار وتوبيخ {فَلْيَرْتَقُوا فِي الأَسْبَابِ} أي ان كان لهم شيء من ذلك فليصعدوا في المراقي التي توصلهم إلى السماء، وليدبروا شئون الكون؟ وهو تهكم بهم واستهزاء، قال الزمخشري: تهكم بهم غاية التهكم، فقال: إن كانوا يصلحون لتدبير الخلائق، والتصرف في قسمة الرحمة، وكان عندهم من الحكمة ما يميزون بها بين من هو حقيقٌ بالنبوة من غيره، فليصعدوا في المعارج التي يتوصلون بها إلى العرش،حتى يستووا عليه ويدبروا أمر العالم، وينزلوا الوحي على من يختارون، وهو غاية التهكم بهم {جُندٌ مَا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الأَحْزَابِ} التنكير للتقليل والتحقير، و{مَا} لتأكيد القلة أي ما هم إلا جندٌ من الكفار، المتحزبين على رسل الله، هم عما قليلٍ يُهزمون ويُولون الأدبار، فلا تبال بما يقولون، ولا تكترث بما يهذون.



تذكير الكفار بما نال أسلافهم من العذاب



{كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الأَوْتَادِ(12)وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحَابُ الأَيْكَةِ أُوْلَئِكَ الأَحْزَابُ(13)إِنْ كُلٌّ إِلا كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقَابِ(14)وَمَا يَنظُرُ هَؤُلاءِ إِلا صَيْحَةً وَاحِدَةً مَا لَهَا مِنْ فَوَاقٍ(15)وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ(16)}



ثم أخبر تعالى عما نال أسلافهم الكفار من العذاب والدمار، فقال {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الأَوْتَادِ} أي كذب قبل كفار قريش أممٌ كثيرون منهم قوم نوح، وقوم هود وهم قبيلة "عاد" وفرعون الجبار ذو الملك الثابت بالأوتاد أو ذو الجموع الكثيرة، قال بعض المفسرين: سمي بذي الأوتاد لأنه كان يوتد من يريد تعذيبه بأربعة أوتادٍ في يديه ورجليه ويتركه حتى يموت وقيل: لأنه صاحب الإِهرامات والمباني العظيمة الثابتة التي تقوم في الأرض كالأوتاد {وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحَابُ الأَيْكَةِ} أي وكذبت ثمود وهم قوم صالح وقوم لوط، وأصحاب الأيكة أي الشجر الكثير الملتف وهم قوم شعيب {أُوْلَئِكَ الأَحْزَابُ} أي أولئك هم الكفار الذين تحزبوا على رسلهم فأهلكهم الله، فليحذر هؤلاء المكذبون لرسول الله أن يصيبهم ما أصاب أسلافهم {إِنْ كُلٌّ إِلا كَذَّبَ الرُّسُلَ} أي ما كل من هؤلاء الأحزاب والأمم إلا كذَّب رسوله الذي أُرسل إِليه { فَحَقَّ عِقَابِ} أي فثبت ووجب عليهم عقابي، وحذفت الياء مراعاة لرؤوس الآيات {وَمَا يَنظُرُ هَؤُلاءِ إِلا صَيْحَةً وَاحِدَةً} أي وما ينتظر هؤلاء المشركون كفار مكة إلا نفخة واحدة ينفخ فيها إسرافيل في الصور فيصعقون {مَا لَهَا مِنْ فَوَاقٍ} أي ليس لها من توقف ولا تكرار، قال ابن عباس: أي ما لها من رجوع، قال المفسرون: أي أن هذه الصيحة إذا جاءت لا تستأخر ولو فترة قصيرة مقدار فواق ناقة وهي المسافة بين الحلبتين لأنها تجيء في موعدها المحدد، الذي لا يتقدم ولا يتأخر، قال الزمخشري: يريد أنها نفخة واحدة فحسب لا تثنى ولا تردد {وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ} أي وقال كفار مكة على سبيل الاستهزاء والسخرية: عجّلْ لنا يا ربنا نصيبنا من العذاب الذي وعدته لنا، قبل أن يجيء يوم القيامة إن كان الأمر كما يقول محمد، قال المفسرون: وإِنما قالوا هذا على سبيل الاستهزاء كقوله تعالى {ويستعجلونك بالعذاب}.



قصة داود عليه السلام



{اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُدَ ذَا الأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ(17)إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالإِشْرَاقِ(18)وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ(19)وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ(20)وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ(21)إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُودَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ(22)إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ(23)قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ(24)فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ(25)يَادَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعْ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ(26)}

yacine414
2011-04-01, 17:45
{اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ} أي اصبر يا محمد على تكذيبهم فإن الله ناصرك عليهم، قال الصاوي: وفيه تسلية للرسول صلى الله عليه وسلم وتهديد للكفار {وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُدَ ذَا الأَيْدِ} أي وتذكرْ عبدنا داود ذلك النبي الشاكر الصابر، ذا القوة في الدين، والقوة في البدن، فقد كان يصوم يوماً ويفطر يوماً، وكان يقوم نصف الليل {إِنَّهُ أَوَّابٌ} أي كثير الرجوع والإِنابة إلى الله، والأوَّابُ: الرجَّاع إلى الله، قال أبو حيان: لما كانت مقالة المشركين تقتضي الاستخفاف بالدين، أمر تعالى نبيه بالصبر على أذاهم، وذكر قصصاً للأنبياء "داود، وسليمان، وأيوب" وغيرهم، وما عرض لهم فصبروا حتى فرج الله عنهم، وصارت عاقبتُهم أحسن عاقبة، فكذلك أنت تصبر ويؤول أمرك إلى أحسن مآل {إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالإِشْرَاقِ} أي سخرنا الجبال لداود تسبح معه في المساء والصباح، وتسبيحُ الجبال حقيقةٌ وكان معجزةً لداود عليه السلام كما قال تعالى {يا جبالُ أوّبي معه والطير} {وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ} أي وسخرنا له الطير مجموعة إليه تسبح معه، كلٌ من الجبال والطير رجَّاع إلى طاعته تعالى بالتسبيح والتقديس، قال ابن كثير: كانت الطير تسبّح بتسبيحه وترجّع بترجيعه، إذا مرَّ به الطير وهو سابح في الهواء فسمعه يترنم بقراءة الزبور يقف في الهواء ويسبّح معه، وكذلك الجبال الشامخات كانت تُرجّع معه وتسبّح تبعاً له، قال قتادة: {أَوَّابٌ} أي مطيع {وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ} أي قوينا ملكه وثبتناه بالهيبة والنصرة وكثرة الجنود {وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ} أي أعطيناه النبوَّة والفهم والإِصابة في الأمور {وَفَصْلَ الْخِطَابِ} أي الكلام البيِّن الذي يفهمه من يُخاطب به، قال مجاهد: يعني إصابة القضاء وفهمه، وقال القرطبي: البيان الفاصل بين الحق والباطل، قال المفسرون: كان مُلك داود قوياً عزيزاً، وكان يسوسه بالحكمة والحزم معاً، ويقطع ويجزم برأيٍ لا تردد فيه مع الحكمة والقوة، وذلك غاية الكمال في الحكم والسلطان {وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ} هذا الاستفهام للتعجيب وتشويق السامع إلى ما يلقى إليه كما تقول لجليسك: هل تعلم ما وقع اليوم؟ تريد تشويقه لسماع كلامك، والمعنى هل أتاك يا محمد خبر الجماعة المتنازعين الذي تسوَّروا على دواد مسجده في وقت اشتغاله بالعبادة والطاعة؟ {إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُدَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ} أي حين دخلوا عليه من أعلى السور فخاف وارتعد منهم، قال المفسرون: وإنما فزع داود منهم لأنهم دخلوا عليه بغير إذن، ودخلوا من غير الباب، في وقت كان قد خصصه للعبادة {قَالُوا لا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ} أي لا تخف منا فنحن فوجان مختصمان تعدَّى بعضنا على بعض {فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلا تُشْطِطْ} أي فاحكم بيننا بالعدل، ولا تجر ولا تظلم في الحكم {وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ} أي وأرشدنا إلى وسط الطريق يعني إِلى الطريق الحق الواضح {إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ} هذه بداية قصة الخصمين أي قال أحدهما: إن صاحبي هذا يملك تسعة وتسعين نعجة -وهي أنثى الضأن- وأملك أنا نعجة واحدة، قال المفسرون: وقد يكنى بها عن المرأة فيكون الغرض أن عنده تسعاً وتسعين امرأةً وعندي امرأة واحدة {فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا} أي ملكنِها واجعلها تحت كفالتي {وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ} أي غلبني في الخصومة، وشدَّد عليَّ في القول وأغلظ {قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ} أي قال له داود لقد ظلمك بهذا الطلب حين أراد انتزاع نعجتك منك ليكمل ما عنده إلى مائة {وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ} أي وإن الكثيرين من الشركاء ليتعدى بعضُهم على بعض {إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ} أي إلا المؤمنين الذين يعملون الصالحات فإنهم لا يبغون وهم قليل {وَظنَّ دَاوُدُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ} أي علم وأيقن أنما اختبرناه بهذه الحادثة وتلك الحكومة {فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ} أي طلب المغفرة من الله وخرَّ ساجداً لله تعالى، ورجع إليه بالتوبة والندم على ما فرط منه، قال أبو حيان: وذكر المفسرون في هذه القصة أشياء لا تناسب مناصب الأنبياء، ضربنا عن ذكرها صفحاً، والذي يدل عليه ظاهر الآية من أن المتسورين المحراب كانوا من الإِنس، دخلوا عليه من غير المدخل وفي غير وقت جلوسه للحكم، وأنه فزع منهم ظناً منه أنهم يغتالونه إذ كان منفرداً في محرابه لعبادة ربه، فلما اتضح له أنهم جاءوا في حكومة، وبرز منهم اثنان للتحاكم كما قصَّ الله تعالى فاستغفر من ذلك الظن، وخرَّ ساجداً لله عز وجل، ونحن نعلم قطعاً أن الأنبياء معصومون من الخطايا، إذ لو جوزنا عليهم شيئاً من ذلك لبطلت الشرائع ولم نثق بشيء مما يذكرون، فما حكى الله في كتابه يُمرُّ على ما أراده الله، وما حكى القُصَّاص مما فيه غضٌ من منصب النبوة طرحناه، ثم قال تعالى {فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ} أي فسامحناه وعفونا عنه ذلك الظن السيء بالرجلين، قال ابن كثير: أي غفرنا له ما كان منه مما يقال فيه: "حسناتُ الأبرار سيئات المقربين" {وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى} وإِنَّ له لقربةً وكرامة بعد المغفرة {وَحُسْنَ مَآبٍ} أي وحسنمرجع في الآخرة {يَا دَاودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ} أي استخلفناك على الناس لتدبير شئونهم ومصالحهم {فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ} أي فاحكم بينهم بالعدل وبشريعة الله التي أنزلها عليك {وَلا تَتَّبِعْ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} أي لا تتَّبع هوى النفس في الحكومات وغيرها فيضلك اتباع الهوى عن دين الله القويم، وشرعه المستقيم {إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ} أي إن الذين ينحرفون عن دين الله وشرعه لهم عذاب شديد يوم القيامة {بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ} أي بسبب نسيانهم وتركهم سلوك سبيل الله، وعدم إِيمانهم بيوم الحساب، لأنهم لو آمنوا به لأعدوا الزاد ليوم المعاد، قال أبو حيان: وجعلُه تعالى داود خليفةً في الأرض يدلُ على مكانته عليه السلام واصطفائه له، ويدفع في صدر من نسب إِليه شيئاً مما لا يليق بمنصب النبوة.



إثبات البعث، وحال المطيعين والعاصين ، وبيان فضل القرآن





{وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ(27)أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ(28)كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا ءاياتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ(29)}



{وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً} أي ما خلقنا هذا الكون البديع بما فيه من المخلوقات العجيبة عبثاً وسُدى {ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا} أي إنّ خَلْقَ الكون عبثاً لا لحكمة هو ظنُّ الكفار الفجار الذين لا يؤمنون بالبعث والنشور {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ} أي فويلٌ للكفار من عذاب النار، ثم وبخهم تعالى على هذا الظنِّ السيء فقال {أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الأَرْضِ}؟ أي هل نجعل المؤمنين المصلحين كالكفرة المفسدين؟ {أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ} أي أم نجعل الأخيار الأبرار كالأشرار الفجار؟ والغرض: أنه لا يتساوى في حكمته تعالى المحسن مع المسيء، ولا البرُّ مع الفاجر، ففي الآية استدلال على الحشر والجزاء، وفيها أيضاً وعدٌ ووعيد، قال ابن كثير: بيَّن تعالى أنه ليس من عدله وحكمته أن يساوي بين المؤمنين والكافرين، وإذا كان الأمر كذلك فلا بدَّ من جزاء يُثاب به المطيع، ويعاقب به الفاجر، وقد دلت العقول السليمة على أنه لا بدَّ من جزاء ومعاد، فإِنا نرى الظالم والباغي يزداد مالُه وولدُه ونعيمُه ويموت دون عقاب، ونرى المطيع المظلوم يموت بكمده، فلا بدَّ في حكمة الحكيم العليم إنصاف هذا من هذا، وإِذا لم يقع هذا في هذه الدار، فتعيَّن أن هناك داراً أُخرى لهذا الجزاء والمواساة وهي الدار الآخرة .. ثم بيَّن تعالى الغاية من نزول القرآن وهي العمل والتفكر فقال {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ} أي هذا الكتاب الذي أنزلناه عليك يا محمد كتابٌ عظيم جليل، كثير الخيرات والمنافع الدينية والدنيوية {لِيَدَّبَّرُوا ءاياتِهِ} أي أنزلناه ليتدبروا ءاياته ويتفكروا بما فيها من الأسرار العجيبة، والحكم الجليلة {وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} أي وليتعظ بهذا القرآن أصحاب العقول السليمة، قال الحسن البصري: واللهِ ما تدبُّره بحفظ حروفه وإِضاعة حدوده، حتى إنَّ أحدهم ليقول: واللهِ لقد قرأتُ القرآن فما أسقطتُ منه حرفاً، وقد أسقطه واللهِ كلَّه، ما يُرى للقرآن عليه أثرٌ في خُلُق ولا عمل .. اللهم اجعلنا ممن قرأه وتدبَّره وعمل بما فيه.



قصة سليمان عليه السلام



{وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ(30)إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ(31)فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ(32)رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالأَعْنَاقِ(33)وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ(34)قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لا يَنْبَغِي لأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ(35)فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ(36)وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ(37)وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الأَصْفَادِ(38)هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ(39)وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ(40)}



{وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ} شروعٌ في بيان قصة سليمان بن داود عليهما السلام أي رزقنا عبدنا داود بالولد الصالح المسمَّى سليمان وأعطيناه النبوة، قال المفسرون: المراد بالهبة هنا هبة النبوة كما قال تعالى {نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ} أي في النبوة، وإلا فقد كان له أولاد كثيرون غيره {نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ} أي نعم العبدُ سليمان فإِنه كان كثير الرجوع إلى الله بالتوبة والإِنابة {إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ} أي اذكر حين عُرض على سليمان عشية يوم من الأيام -أي بعد العصر- الخيل الواقفة على طرف الحافر، السريعة الجري، قال الرازي: وُصفت تلك الخيل بوصفين: الأول: الصفون وهو صفة دالة على فضيلة الفرس، والثاني: الجياد وهي الشديدة الجري، والمراد وصفها بالفضيلة والكمال في حالي الوقوف والحركة، فإِذا وقفت كانت ساكنة مطمئنة في مواقفها، وإِذا جرت كانت سراعاً في جريها {فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي} أي آثرت حبَّ الخيل حتى شغلتني عن ذكر الله، قال المفسرون: عُرضت عليه آلاف من الخيل تركها له أبوه، فأُجريت بين يديه عشياً فتشاغل بحسنها وجريها ومحبتها عن ذكر له خاص حتى غابت الشمس {حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ} أي حتى غابت الشمس واختفت عن الأنظار {رُدُّوهَا عَلَيَّ} أي قال سليمان ردُّوا هذه الخيل عليَّ {فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالأَعْنَاقِ} أي فشرع يذبحها ويقطع أرجلها تقرباً إلى الله، لتكون طعاماً للفقراء لأنها شغلته عن ذكر الله، قال الحسن: لما رُدَّت عليه قال: لا والله لا تشغليني عن طاعة ربي ثم أمر بها فعقرت وكذلك قال السُّدِّيُّ، وأما قول من قال: إنها شغلته عن صلاة العصر حتى غابت الشمس فضعيف، لأنه لا يتصور من نبيٍ أن يترك صلاة العصر من أجل اشتغاله بالدنيا، والنصُّ صريح {عن ذكر ربي} {وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ} هذه إشارة إلى ابتلاء آخر لسليمان ابتلي به، ثم تاب وأناب من تلك الهفوة والزلة، ولعلَّ هذه الفتنة ما روي في الصحيح عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (قال سليمان: لأطوفنَّ الليلة على سبعين امرأة، كلُّ واحدة تأتي بفارس يجاهد في سبيل الله - ولم يقل: إن شاء الله- فطاف عليهن فلم تحمل إلا امرأة واحدة جاءت بشق رجل، والذي نفسي بيده: لو قال إن شاء الله لجاهدوا في سبيل الله فرساناً أجمعون) قال ابن كثير: "وقد أورد بعضُ المفسرين آثاراً كثيرة عن جماعةٍ من السلف، وأكثرها أوكلُّها متلقاة من الإِسرائيليات، وفي كثير منها نكارة شديدة" واختار الإِمام فخر الدين الرازي أن الفتنة المذكورة في الآية الكريمة يقصد بها فتنته في جسده، حيث إن سليمان ابتلي بمرضٍ شديد نحل منه وضعف، حتى صار لشدة المرض كأنه جسد ملقى على كرسي، قال والعرب تقول في الضعيف: إنه لحم على وضم، وجسم بلا روح، ثم أناب أي رجع إلى حالة الصحة {قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لا يَنْبَغِي لأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي} أي اغفر لي ما صدر مني وأعطني ملكاً واسعاً لا يكون لأحدٍ غيري ليكون دلالة على نبوتي {إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} أي واسع الفضل كثير العطاء {فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ} أي فذللنا الريح لطاعته إجابةً لدعوته {تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ} أي تسير بأمره لينةً طيبة حيث قصد وأراد {وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ} أي وسخرنا له الشياطين كذلك تعمل بأمره، منهم من يستخدمه لبناء الأبنية الهائلة العجيبة، ومنهم من يغوص في البحار لاستخراج اللؤلؤ والمرجان {وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الأَصْفَادِ} أي وآخرين من الشياطين - وهم المردة - موثقون في الأغلال، مربوطون بالقيود والسلاسل لكفرهم وتمردهم عن طاعة سليمان {هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} أي وقلنا له: هذا عطاؤنا الواسع لك، فأعطِ من شئت وامنعْ من شئت، لا حساب عليك في ذلك، لأنك مطلق اليد فيما وهب الله لك من سلطة ومن نعمة {وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ} أي وإِنّ له عندنا لمكانة رفيعة في الدنيا، وحسن مرجع في الآخرة.



قصة أيوب عليه السلام



{وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِي الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ(41)ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ(42)وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرَى لأُوْلِي الأَلْبَابِ(43)وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ(44)}



{وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ} هذه هي القصة الثالثة في هذه السورة، والإِضافة للتشريف أي اذكر يا محمد عبدنا الصالح أيوب عليه السلام، الذي ابتلي بأنواع البلاء فصبر. {إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِي الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ} أي حين نادى ربه متضرعاً إليه قائلاً إني مسني الشيطان بتعبٍ ومشقة، وألمٍ شديد في بدني، قال المفسرون: وإِنما نسبَ ذلك إلى الشيطانتأدباً مع الله تعالى، وإِن ْكانت الأشياء كلها خيرها وشرها من الله تعالى، وكان أيوب قد أُصيب في ماله وأهله وبدنه، وبقي في البلاء ثمان عشرة سنة، وقد تقدمت قصته {ارْكُضْ بِرِجْلِكَ} أي وقلنا له اضرب برجلك الأرض فضربها فنبعت له عين ماءٍ صافية {هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ} أي وقلنا له هذا ماءٌ تغتسل به، وشراب تشرب منه، فاغتسل منها فذهب ما كان بظاهر جسده، وشرب منها فذهب كل مرضٍ كان داخل جسده، قال أبو حيان {هَذَا مُغْتَسَلٌ} أي ما يُغتسل به {وَشَرَابٌ} أي ما يشرب منه، فباغتسالك يبرأ ظاهرك، وبشربك يبرأ باطنك، والجمهور على أنه نبعت له عينان، شرب من إحداهما واغتسل من الأُخرى فشفي {وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ} أي أحيا الله من مات من أولاده ورزقه مثلهم، قال الرازي: الأقرب أن الله تعالى متعه بصحته وبماله وقوَّاه حتى كثر نسله وصار أهله ضعف ما كان وأضعاف ذلك، وعن الحسن أنه أحياهم بعد أن هلكوا، وقال أبو حيان: الجمهور على أنه تعالى أحيا له من مات من أهله، وعافى المرضى، وجمع عليه من شتت منهم {رَحْمَةً مِنَّا} أي رحمةً منَّا به لصبره وإِخلاصه {وَذِكْرَى لأُوْلِي الأَلْبَابِ} أي وعبرة لذوي العقول المستنيرة، قال ابن كثير: أي وذكرى لذوي العقول ليعلموا أن عاقبة الصبر الفرج {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ} أي وقلنا له خذْ بيدك حزمة من القضبان الرفيعة فاضرب بها زوجتك لتبرَّ بيمينك ولا تحنث، قال المفسرون: كان أيوب قد حلف أن يضرب امرأته مائة سوطٍ إِذا برئ من مرضه، وسبب ذلك أنها كانت تخدمه في حالة مرضه، فلما اشتد به البلاء وطالت به المدة وسوس إليها الشيطان: إلى متى تصبرين؟ فجاءت إلى أيوب وفي نفسها الضجر فقالت له: إلى متى هذا البلاء؟ فغضب من هذا الكلام وحلف إن شفاه الله ليضربنها مائة سوط، فأمره الله أن يأخذ حزمةً من قضبانٍ خفيفة فيها مئة عود ويضربها بها ضربة واحدةً ويبرَّ في يمينه، ورحمةً من الله به وبزوجه التي قامت على رعايته، وصبرت على بلائه، وهذا من الفرج والمخرج لمن اتقى الله وأطاعه ولهذا قال تعالى { إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا} أي ابتليناه فوجدناه صابراً على الضراء {نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ} أي نعم العبد أيوب إِنه كثير الرجوع إلى الله بالتوبة والإِنابة والعبادة.



قصة إبراهيم وذريته: إسحاق ويعقوب وإسماعيل واليسع وذي الكفل عليهم السلام



{وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُوْلِي الأَيْدِي وَالأَبْصَارِ(45)إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ(46)وَإِنَّهُمْ عِنْدَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الأَخْيَارِ(47)وَاذْكُرْ إِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِنَ الأَخْيَارِ(48)هَذَا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ(49)جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمْ الأَبْوَابُ(50)مُتَّكِئِينَ فِيهَا يَدْعُونَ فِيهَا بِفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرَابٍ(51)وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ أَتْرَابٌ(52)هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسَابِ(53)إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ(54)}



{وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُوْلِي الأَيْدِي وَالأَبْصَارِ} أي اذكر يا محمد هؤلاء الأنبياء الأخيار وتأسَّ بهم، الذين جمعوا بين القوة في العبادة، والبصائر في الدين، قال الطبري: أي أهل القوة في عبادة الله، وأهل العقول المبصرة {إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ} أي خصصناهم بخصلةٍ خالصة عظيمة الشأن، هي عدم التفاتهم إلى الدنيا وتذكرهم للدار الباقية، قال مجاهد: جعلناهم يعملون للآخرة ليس لهم همٌّ غيرها {وَإِنَّهُمْ عِنْدَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الأَخْيَارِ} أي وهم عندنا المختارون المجتبون على سائر الناس لأنها أخيار أبرار {وَاذْكُرْ إِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِنَ الأَخْيَارِ} أي واذكر يا محمد هؤلاء الرسل أيضاً وكلٌّ من خيرة الله فاقتد بهم في الصبر وتحمل الأذى في سبيل الله {هَذَا ذِكْرٌ} أي هذا الذي قصصناه عليك يا محمد من سيرة الرسل الكرام ذكرٌ جميلٌ لهم في الدنيا، وشرفٌ يذكرون به أبداً {وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ} أي وإِن لكل متقٍ لله مطيع لرسله لحسن مرجع ومنقلب، ثم فسره بقوله {جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمْ الأَبْوَابُ} أي جنات إقامة في دار الخلد والنعيم قد فتحت لهم أبوابها انتظاراً لقدومهم، قال الرازي: إن الملائكة الموكلين بالجنان إذا رأوا المؤمنين فتحوا لهم أبوابها، وحيوهم بالسلام، فيدخلون كذلك محفوفين بالملائكة على أعزِّ حال، وأجمل هيئة {مُتَّكِئِينَ فِيهَا} أي متكئين في الجنة على الأرائك وهي السرر الوثيرة { يَدْعُونَ فِيهَا بِفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرَابٍ} أي وهم متكئون على الأسرَّة يطلبون أنواع الفواكه، وألوان الشراب كعادة الملوك في الدنيا، قال ابن كثير: أي مهما طلبوا وجدوا، ومن أي أنواعه شاءوا أتتهم به الخدام، قال الصاوي: والاقتصار على دعاء الفاكهة للإِيذان بأن مطاعمهم لمحض التفكه والتلذذ دون التغذي لأنه لا جوع في الجنة {وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ أَتْرَابٌ} أي وعندهم الحور العين اللواتي لا ينظرن إلى غير أزواجهن أتراب أي في سنٍّ واحدة {هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسَاب} أي هذا جزاؤكم الذي وعدتم به في الدنيا {إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ} أي هذا النعيم عطاؤنا لأهل الجنة لا زوال له ولا انقطاع ولا انتهاء أبداً، قال في الظلال: يبدأ هذا المشهد بمنظرين متقابلين تمام التقابل في المجموع والأجزاء، وفي السِّمات والهيئات: منظر المتقين لهم {حسن مآب} ومنظر الطاغين لهم {شر مآب} فأما الأولون فلهم جنات عدن مفتحةً لهم الأبواب، ولهم فيها راحة الاتكاء، ومتعة الطعام والشراب، ولهم كذلك متعة الحوريات الشواب، وهنَّ مع شبابهن {قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ} لا يتطلعن ولا يمددن بأبصارهن، وكلهن شواب أتراب، وهو متاع دائم، ورزق من عند الله ما له من نفاد.

عقاب الطاغين الأشقياء



{هَذَا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ(55)جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمِهَادُ(56)هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ(57)وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ(58)هَذَا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ لا مَرْحَبًا بِهِمْ إِنَّهُمْ صَالُوا النَّارِ(59)قَالُوا بَلْ أَنْتُمْ لا مَرْحَبًا بِكُمْ أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنَا فَبِئْسَ الْقَرَارُ(60)قَالُوا رَبَّنَا مَنْ قَدَّمَ لَنَا هَذَا فَزِدْهُ عَذَابًا ضِعْفًا فِي النَّارِ(61)وَقَالُوا مَا لَنَا لا نَرَى رِجَالاً كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الأَشْرَارِ(62)أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الأَبْصَارُ(63)إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ(64)}



{هَذَا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ} {هَذَا} خبرٌ لمبتدأ محذوف تقديره الأمرُ هذا وهي بمنزلة أما بعد، ثم قال {وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ} أي وإِنَّ للكافرين الذين كذبوا الرسل، لشرَّ منقلب يصيرون إليه في الآخرة ثم فسَّر هذا المصير بقوله {جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمِهَادُ} أي جهنم يذوقونها ويصلون سعيرها، وبئست جهنم فراشاً ومهاداً لهم، قال ابن جزي: لما تمَّ ذكر أهل الجنة ختمه بقوله {هَذَا} ثم ابتدأ بذكر وصف أهل النار، وعنى بالطاغين الكفار {هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ} أي هذا هو العذاب الأليم فليذوقوه وهو الحميم أي الماء الحار المحرق، والغسَّاق وهو ما يسيل من صديد أهل النار، قال الطبري: في الآية تقديم وتأخير أي هذا حميم وغساق فليذوقوه، والحميمُ الذي أُغلي حتى انتهى حره، والغسَّاق ما يسيل من جلودهم من الصديد والدم {وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ} أي وعذابٌ آخر من مثل هذا العذاب المذكور كالزمهرير، والسموم، وأكل الزقوم لهم منه أنواع وأصناف .. ثم حكى ما يقال للرؤساء الطاغين إذا دخلوا النار فقال {هَذَا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ لا مَرْحَبًا بِهِمْ} أي تقول لهم خزنة جهنم: هذا جمع كثيف قد اقتحم معكم النار، ودخلوها بصحبتكم كما اقتحموا معكم في الجهل والضلال، لا أهلاً ولا مرحباً بهم {إِنَّهُمْ صَالُوا النَّارِ} أي إِنهم ذائقو النار، وداخلوها كما دخلتموها أنتم، قال الرازي: والاقتحامُ ركوبُ الشدة والدخولُ فيها، وهذا من كلام خزنة جهنم لرؤساء الكفرة عن أتباعهم، والعرب تقول لمن يدعون له: مرحباً أي أتيتَ رحباً في البلاد لا ضيِّقاً، ثم يدخلون عليها كلمة "لا" في دعاء السوء {قَالُوا بَلْ أَنْتُمْ لا مَرْحَبًا بِكُمْ} أي قال الأتباع للرؤساء الطغاة الذين أضلوهم بل أنتم لا أهلاً بكم ولا مرحباً، قال المفسرون: عندما يدخل الأتباع جهنم تتلقاهم الرؤساء بقولهم {لا مَرْحَبًا بِكُمْ } أي لا تلقون هنا رحباً ولا خيراً -وهذه تحية أهل النار- كما قال تعالى {كلما دخلت أمةٌ لعنت أختها} فعند ذلك يقول لهم الداخلون {بَلْ أَنْتُمْ لا مَرْحَبًا بِكُمْ} وهذا على قول القائل "تحيةُ بينهم ضربٌ وجيع" فكذلك أهل النار يتلقون بعضهم باللعنات والشتائم بدل التحيات والسلام، ثم يعلِّل الأتباع ذلك بقولهم {أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنَا فَبِئْسَ الْقَرَارُ} أي أنتم قدمتم لنا هذا العذاب وكنتم السبب في ضلالنا، فبئس المنزل والمستقر لنا ولكم نار جهنم {قَالُوا رَبَّنَا مَنْ قَدَّمَ لَنَا هَذَا فَزِدْهُ عَذَابًا ضِعْفًا فِي النَّارِ} هذا أيضاً من كلام الأتباع دعوا الله أن يضاعف العذاب لرؤسائهم الذين أوجبوا لهم العذاب فهو كقولهم {ربنا هؤلاء أضلونا فآتهم عذاباً ضعفاً في النار} والضعفُ زيادة المثل، قال البيضاوي: وقال الأتباع أيضاً {ربنا من قدّم لنا هذا فزده عذاباً ضعفاً} أي مضاعفاً وذلك أن يزيد على عذابه مثله فيصير ضعفين {وَقَالُوا مَا لَنَا لا نَرَى رِجَالاًكُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الأَشْرَارِ}؟ أي وقال الطغاة من رؤساء الكفر وأئمة الضلال: ما لنا لا نرى في النار هؤلاء الذين كنا نعدُّهم في الدنيا من الأشرار؟ يعنون بهم المؤمنين، قال ابن عباس: يريدون أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم يقول أبو جهل: أين بلال، أي صهيب، أين عمار؟ أولئك في الفردوس! واعجباً لأبي جهل! مسكين، أسلم ابنه عكرمة، وابنته جويرية، وأسلمت أُمه، وأسلم أخوه وكفر هو، قال ابن كثير: هذا إِخبار عن الكفار في النار، أنهم يفتقدون رجالاً كانوا يعتقدون أنهم على الضلالة وهم المؤمنون، يقول أبو جهل: ما لي لا أرى بلالاً وعماراً وصهيباً وفلاناً وفلاناً؟ وهذا ضربُ مثل وإلا فكل الكفار هذا حالهم، يعتقدون أن المؤمنين يدخلون النار، فلما دخلها الكفار افتقدوهم فلم يجدوهم، ثم قالوا {أتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الأَبْصَارُ}؟ أي يؤنبون أنفسهم قائلين: أجعلنا هؤلاء المؤمنين في الدنيا هزءاً وسخرية؟ أم هم معنا في النار ولكن لا نراهم؟ قال البيضاوي: إنكار على أنفسهم وتأنيبٌ لها في الاستسخار من المؤمنين، كأنهم قالوا: ليسوا ههنا في النار؟ أما مالت عنهم أبصارنا فلا نراهم؟ قال تعالى {إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ} أي إن هذا الذي أخبرناك به يا محمد من أقوال أهل النار وتخاصمهم، لهو الحقُّ الذي لابدَّ أن يتكلموا به، فنحن نخبرك عن تخاصمهم في جهنم، وعن أقوالهم وهم فيها، قال الرازي: وإِنما سمَّى الله تعالى تلك الكلمات تخاصماً لأن قول الرؤساء {لا مرحباً بهم} وقول الأتباع {بل أنتم لا مرحباً بكم} من باب الخصومة.



بيان مهمة الرسول صلى الله عليه وسلم ، وإثبات الوحدانية



{قُلْ إِنَّمَا أَنَا مُنذِرٌ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلاَّ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ(65)رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ(66)قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ(67)أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ(68)مَا كَانَ لِي مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلإِ الأَعْلَى إِذْ يَخْتَصِمُونَ(69)إِنْ يُوحَى إِلَيَّ إِلا أَنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ(70)}



{قُلْ إِنَّمَا أَنَا مُنذِرٌ} هذا شروع في بيان مهمة الرسول صلى الله عليه وسلم وفي إثبات الوحدانية، والمعاد والجزاء، أي قل يا محمد لهؤلاء المشركين: إِنما أنا رسولٌ من رب العالمين، أُنذركم وأخوفكم من عذابه إن لم تؤمنوا، ولستُ بساحرٍ ولا شاعر ولا كاهن {وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلا اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} أي وليس لكم ربٌ ولا معبود إلا الواحد الأحد، الغالب على خلقه، القاهر لكل شيء {رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا} أي خالق جميع ما في الكون من الخلائق والعجائب، والمتصرف فيها بالإِيجاد والإِعدام {الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ} أي الغالب على أمره الذي لا يُغلب، المبالغ في المغفرة لمن شاء من العباد، قال الرازي: لما ذكر أنه {قهار} وهذا مشعر بالترهيب والتخويف، أردفه بما يدل على الرجاء والترغيب وذكر ثلاث صفات دالة على الرحمة، والفضل والكرم وهي: "الرب، العزيز، الغفار" فكونه رباً مشعر بالتربية والإِحسان، وكونه عزيزاً مشعرٌ بأنه قادر على كل شيء ولا يعجزه شيء، وكونه غفاراً مشعر بالترغيب وأنه يرجى فضله وثوابه، فلو بقي الإِنسان على الكفر سبعين سنة، ثم تاب فإِن الله سبحانه يغفر له برحمته جميع ذنوبه، ويمحو اسمه من ديوان المذنبين، ويوصله إلى درجات الأبرار {قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ * أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ} أي قل لهم يا محمد: إن هذا القرآن الذي جئتكم به هو نبأ هام وأمر عظيم الشأن، أنتم عنه غافلون لا تلتفتون إليه ولا تعلمون قدره {مَا كَانَ لِي مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلإِ الأَعْلَى إِذْ يَخْتَصِمُونَ} أي من أين لي العلم باختلاف الملائكة في شأن خلق آدم لولا الوحي المنزل عليَّ؟ قال ابن جزي: والقصدُ الاحتجاج على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم لأنه أخبر بأمور لم يكن يعلمها قبل ذلك، والإِشارة إلى اختصام الملائكة هو ما جاء في قصة آدم حين قال تعالى لهم {إني جاعل في الأرض خليفة} حسبما تضمنته قصته في مواضع من القرآن {إِنْ يُوحَى إِلَيَّ إِلا أَنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ} أي ما يوحى إليَّ إلا لأني رسولٌ مرسل إليكم لأنذركم عذاب الله، ومعنى النذير المنذر المخوّف من عذاب الله.

قصة آدم عليه السلام



{إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ(71)فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ(72)فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ(73)إِلا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ(74)قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْعَالِينَ(75)قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ(76)قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ(77)وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ(78)قَالَ رَبِّ فَأَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ(79)قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنظَرِينَ(80)إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ(81)قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ(82)إِلا عِبَادَكَ مِنْهُمْ الْمُخْلَصِينَ(83)قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ(84)لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ(85)}



ثم شرع تعالى في ذكر قصة آدم فقال {إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ} أي اذكر حين أعلم ربك الملائكة أنه سيخلق إِنساناً من طين وهو آدم عليه السلام {فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ} أي فإِذا أتممتُ خلقه ونفخت فيه الروح فاسجدوا إكراماً له وإِعظاماً، قال القرطبي: وهذا سجود تحية لا سجود عبادة {فَسَجَدَ الْمَلائكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ} أي فسجد جميع الملائكة خضوعاً له وتعظيماً لأمر الله بالسجود له {إِلا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ} أي لكن إبليس استكبر عن طاعة الله وأبى السجود لآدم فصار من الكافرين، قال ابن كثير: امتثل الملائكة كلهم سوى إبليس، ولم يكن منهم جنساً كان من الجن، فخانه طبعه وجبلته فاستنكف عن السجود لآدم، وخاصم ربه عز وجل فيه، وادعى أنه خيرٌ من آدم، فكفر بذلك وطرده الله عن باب رحمته، ومحل أنسه، وحضرة قدسه {قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ}؟ أي قال له ربه: ما الذي صرفك وصدَّك عن السجود لمن خلقته بذاتي من غير واسطة أب وأُم؟ قال القرطبي: أضاف خلقه إلى نفسه تكريماً لآدم وإِن كان خالق كل شيء، كما أضاف إلى نفسه الروح، والبيت، والناقة، والمساجد، فخاطب الناس بما يعرفونه {أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْعَالِينَ}؟ أي استكبرتَ الآن عن السجود أم كنت قديماً من المتكبرين على ربك؟ وهذا على جهة التوبيخ له لاستنكافه عن السجود {قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ} أي قال اللعينُ أنا خير من آدم وأشرف وأفضل {خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} أي لأنني مخلوق من النار، وآدم مخلوق من الطين، والنار خيرٌ من الطين، فكيف يسجد الفاضل للمفضول؟ {قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ} أي اخرج من الجنة فإِنك لعين مطرود من كل خيرٍ وكرامة {وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ} أي وأنت مبعدٌ عن رحمتي إلى يوم الجزاء والعقوبة ثم تلقى ما هو أفظع وأشنع من اللعنة {قَالَ رَبِّ فَأَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} أي أخرني وأمهلني إلى اليوم الذي تبعث فيه الخلائق من القبور، قال أبو السعود: أراد بذلك أن يجد فسحةً لإِغوائهم، ويأخذ منهم ثأره، وينجو من الموت بالكلية إذ لا موتَ بعد البعث فأجابه الله بأنه مؤخر إلى وقت النفخة الأولى لا إلى وقت البعث الذي طلبه {قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنظَرِينَ * إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ} أي إِنك من الممهلين إلى وقت النفخة الأولى حيث يموت الناس وتنتهي مهمتك {قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلا عِبَادَكَ مِنْهُمْ الْمُخْلَصِين} أي قال اللعين: أُقسم بعزتك لأُضلنَّ بني آدم أجمعين، إلا الذين أخلصتهم لعبادتك وعصمتهم مني {قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ * لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ} أي قال تعالى أقسم بالحقِّ ولا أقول إلا الحقَّ لأملأن جهنم منك ومن أتباعك، قال السُّدي: هو قسم أقسم الله به، وجملة "والحقَّ أقول" اعتراضية لتأكيد القسم.



حال الداعي والدعوة والقرآن



{قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ(86)إِنْ هُوَ إِلا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ(87)وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ(88)}



{قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ} أي قل لهم يا محمد: لا أسألكم على تبليغ الرسالة أجراً، ولست من الذين يتصنعون ويتحيلون حتى انتحل النبوة وأتقوَّل القرآن {إِنْ هُوَ إِلا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ} أي ما هذا القرآن إلا عظة وذكرى للإِنس والجن والعقلاء {وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ} أي ولتعلمنَّ خبره وصدقه عن قريب، وهذا وعيدٌ وتهديد، قال الحسن البصري: يا ابن آدم عند الموت يأتيك الخبر اليقين.

yacine414
2011-04-01, 17:46
سورة الزُّمَر

تنزيل القرآن، والأمر بإخلاص العبادة لله

دلائل قدرته ووحدانيته وعظمته سبحانه وتعالى

حال المؤمن والكافر، لا يستويان؟

نصائح للمؤمنين ووعيد لعبدة الأصنام

إنزال الماء وإنبات الزرع

الهداية للإسلام

ضرب الأمثال للتذكير، وعربية القرآن

وعيد للمشركين ووعد للمؤمنين

تزييف طريقة عبدة الأوثان

مظاهر القدرة والعلم له عز وجل

تضرع الإنسان عند الشدة وجحوده عند النعمة

سعة مغفرة الله بغفرانه الذنوب وقبوله التوبة

حال المكذبين والمتقين يوم القيامة

دلائل الألوهية والتوحيد

نفختا الصور وأهوال الآخرة

مآل الأشقياء والسعداء

بَين يَدَي السُّورَة



* سورة الزمر مكية، وقد تحدثت عن "عقيدة التوحيد" بالإِسهاب، حتى لتكاد تكون هي المحور الرئيسي للسورة الكريمة لأنها أصل الإِيمان، وأساس العقيدة السليمة، ومنبع كل عمل صالح.



* ابتدأت السورة بالحديث عن القرآن "المعجزة الكبرى" الدائمة الخالدة لمحمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، وأمرت الرسول صلى الله عليه وسلم بإِخلاص الدين لله، وتنزيهه جل وعلا عن مشابهة المخلوقين، وذكرت شبهة المشركين في عبادتهم للأوثان واتخاذهم شفعاء، وردَّت على ذلك بالدليل القاطع.



* ثم ذكرت الأدلة والبراهين على وحدانية رب العالمين، في إبداعه لخلق السماوات والأرض، وفي ظاهرة الليل والنهار، وفي تسييره للشموس والأقمار، وفي خلق الإِنسان في أطوار في ظلمات الأرحام، وكلُّها براهين ساطعة على قدرة الله ووحدانيته.



* وتناولت السورة موضوع العقيدة بوضوح وجلاء، وكشفت عن مشهد الخسران المبين للكفرة المجرمين في دار الجزاء، حيث يذوقون ألوان العذاب، وتغشاهم ظلل من النار من فوقهم ومن تحتهم.



* وذكرت السورة مثلاً يوضّح الفارق الكبير بين من يعبد إلهاً واحداً، ومن يعبد آلهةً متعددة لا تسمع ولا تستجيب، وهو مثلٌ للعبد الذي يملكه شركاء متخاصمون، والعبد الذي يملكه سيد واحد، ثم ذكرت حالة المشركين النفسية عندما يسمعون توحيد الله تنقبض قلوبهم، وإِذا سمعوا ذكر الطواغيت هشُّوا وبشُّوا.



* ثم جاءت الآيات طريَّة نديَّة تدعو العباد إلى الإِنابة لربهم، والرجوع إليه، قبل أن يداهمهم الموت بغتة، أو يفاجئهم العذاب من حيث لا يشعرون، وحينئذٍ يتوبون ويندمون في وقتٍ لا تنفع فيه توبة ولا ندم.



* وختمت السورة الكريمة بذكر نفخة الصعق، ثم نفخة البعث والنشور، وما يعقبهما من أهوال الآخرة وشدائدها، وتحدثت عن يوم الحشر الأكبر، حيث يساق المتقون الأبرار إلى الجنة زمراً، ويساق المجرمون الأشرار إلى جهنم زمراً، في مشهد هائل يحضره الأنبياء والصديقون والشهداء الأبرار، والوجود كله يتجه إلى ربه بالحمد والثناء في خشوع واستسلام.



التسميَــة:

سميت "سورة الزمر" لأن الله تعالى ذكر فيها زمرة السعداء من أهل الجنة، وزمرة الأشقياء من أهل النار، أولئك مع الإِجلال والإِكرام، وهؤلاء مع الهوان والصغار.

* * *

تنزيل القرآن، والأمر بإخلاص العبادة لله

{تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ(1)إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ(2)أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ(3)لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا لاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ سُبْحَانَهُ هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ(4)}



سبب النزول:

نزول الآية (3):

{وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا}: أخرج جويبر عن ابن عباس في هذه الآية قال: أنزلت في ثلاثة أحياء: عامر وكنانة وبني سلمة، كانوا يعبدون الأوثان، ويقولون: الملائكة بناته، فقالوا: ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى.



{تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ} أي هذا القرآن مُنَزَّلٌ من الله جل وعلا {الْعَزِيزِ} أي القادر الذي لا يُغلب {الْحَكِيمِ} أي الذي يفعل كل شيء بحكمةٍ وتقدير وتدبير {إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ} أي نحن أنزلنا عليك يا محمد القرآن العظيم متضمناً الحق الذي لا مرية فيه، والصدق الذي لا يشوبه باطل أو هزل {فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ} أي فاعبد الله وحده مخلصاً له في عبادتك، ولا تقصد بعملك ونيتك غير ربك {أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} أي ألا فانتبهوا أيها الناس: إن الله تعالى لا يقبل إلا ما كان خالصاً لوجهه الكريم لأنه المتفرد بصفات الألوهية، المطَّلع على السرائر والضمائر، ومعنى "الخالص" الصافي من شوائب الشرك والرياء {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ} أي وهؤلاء المشركون الذين عبدوا من دونه الأوثان يقولون {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} أي ما نعبد هذه الآلهة والأصنام إلا ليقربونا إلى الله قربى ويشفعوا لنا عنده، قال الصاوي: كان المشركون إذا قيل لهم: من خلقكم؟ ومن خلق السماواتِ والأرض؟ ومن ربكم ورب آبائكم الأولين؟ فيقولون: الله، فيقال لهم: فما معنى عبادتكم الأصنام؟ فيقولون: لتقربنا إلى الله زلفى وتشفع لنا عنده {إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} أي يحكم بين الخلائق يوم القيامة فيما اختلفوا فيه من أمر الدين، فيدخل المؤمنين الجنة، والكافرين النار {إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ} أي لا يوفق للهدى، ولا يرشد للدين الحق من كان كاذباً على ربه، مبالغاً في كفره، وفي الآية إشارة إلى كذبهم في تلك الدعوى {لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا} أي لو شاء الله اتخاذ ولد على سبيل الفرض والتقدير {لاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ} أي لاختار من مخلوقاته ما يشاء ولداً على سبيل التبني - إذ يستحيل أن يكون ذلك في حقه تعالى بطريق التوالد المعروف - ولكنه لم يشأ ذلك لقوله {وما ينبغي للرحمن أن يتخذ ولداً} وقوله {مما يخلق} أي من المخلوقات التي أنشأها واخترعها {سُبْحَانَهُ هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} أي تنزه جل وعلا وتقدس عن الشريك والولد، لأنه هو الإِله الواحد الأحد، المنزَّه عن النظير والمثيل، القاهر لعباده بعظمته وجلاله، قال في التسهيل: نزَّه تعالى نفسه من اتخاذ الولد، ثم وصف نفسه بالواحد لأن الوحدانية تنافي اتخاذ الولد، لأنه لو كان له ولدٌ لكان من جنسه ولا جنس له لأنه واحد، ووصف نفسه بالقهار ليدل على نفي الشركاء والأنداد، لأن كل شيء مقهور تحت قهره تعالى، فكيف يكون شريكاً له.



دلائل قدرته ووحدانيته وعظمته سبحانه وتعالى

{خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُسَمًّى أَلا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ(5)خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنْ الأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلاثٍ ذَلِكُمْ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ(6)إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ(7)}



ثم ذكر تعالى دلائل قدرته ووحدانيته وعظمته، فقال: {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ} أي خلقهما على أكمل الوجوه وأبدع الصفات، بالحق الواضح والبرهان الساطع {يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ} أي يغشي الليل على النهار، ويغشي النهار على الليل، وكأنه يلفُّ عليه لفَّ اللباس على اللابس، قال القرطبي: وتكويرُ الليل على النهار تغشيتُه إياه حتى يُذهب ضوءه، ويغشي النهار على الليل فيذهب ظلمته وهذا منقول عن قتادة وهو معنى قوله تعالى : يُغشي الليلَ النهار يطلبه حثيثاً {وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ} أي دلَّلهما لمصالح العباد {كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُسَمًّى} أي كلٌ منهما يسير إلى مدة معلومة عند الله تعالى، ثم ينقضي يوم القيامة حين تكور الشمس وتنكدر النجوم {أَلا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ} أي هو جل وعلا كامل القدرة لا يغلبه شيء، عظيم الرحمة والمغفرة والإِحسان، قال الصاوي: صُدِّرت الجملة بحرف التنبيه "ألا" للدلالة على كمال الاعتناء بمضمونها كأنه قال: تنبهوا يا عبادي فإِني أنا الغالب على أمري، الستَّار لذنوب خلقي فأخلصوا عبادتكم ولا تشركوا بي أحداً {خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ} أي خلقكم أيها الناس من نفسٍ واحدة هي آدم، وهذا من جملة أدلة وحدانيته، وانفراده بالعزة والقهر، وجميع صفات الألوهية {ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا} أي ثم خلق من آدم حواء ليحصل التجانس والتناسل، قال الطبري: المعنى: {خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ} يعني آدم {ثم خلق منها زوجها} يعني حواء خلقها من ضلعٍ من أضلاعه {وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ} أي وأوجد لكم من الأنعام المأكولةوهي - الإِبل، والبقر، والغنم، والمعز، ثمانية أزواج من كل نوعٍ ذكراً وأنثى، قال قتادة: من الإِبل اثنين، ومن البقر اثنين، ومن الضأن اثنين، ومن المعز اثنين، كلُّ واحدٍ زوج، وسميت أزواجاً لأن الذكر زوج الأنثى، والأنثى زوج الذكر، قال المفسرون: والإِنزالُ عبارةٌ عن نزول أمره وقضائه {يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ} أي يخلقكم في بطون أمهاتكم أطواراً، فإِن الإِنسان يكون نطفة، ثم علقة، ثم مضغة إلى أن يتم خلقه، ثم ينفخ فيه الروح فيصير خلقاً آخر {فِي ظُلُمَاتٍ ثَلاثٍ} هي البطن، والرحم، والمشيمة وهو -الكيس الذي يغلّفُ الجنين- {ذَلِكُمْ اللَّهُ رَبُّكُمْ} أي ذلكم الخالق المبدع المصوّر هو الله ربُّ العالمين، ربكم وربُّ ءابائكم الأولين {لَهُ الْمُلْكُ} أي له الملك والتصرف التام، في الإِيجاد والإِعدام {لا إِلَهَ إِلا هُوَ} أي لا معبود بحقٍ إلا الله ولا ربَّ لكم سواه {فَأَنَّى تُصْرَفُونَ}؟ أي فكيف تنصرفون عن عبادته إلى عبادة غيره ؟ ثم بعد أن ذكَّرهم بآياته ونعمه، حذَّرهم من الكفر والجحود لفضله وإِحسانه فقال {إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ} أي إن تكفروا أبها الناس بعدما شاهدتم من آثار قدرته وفنون نعمائه، فإِن الله مستغنٍ عنكم وعن إيمانكم وشكركم وعبادتكم {وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ} أي لا يرضى الكفر لأحدٍ من البشر، قال الرازي: أشار تعالى إلى أنه وإِن كان لا ينفعه إيمان، ولا يضره كفران، إلا أنه يرضى بالكفر بمعنى أنه لا يمدح صاحبه ولا يثيبه عليه وإِن كان واقعاً بمشيئته وقضائه {وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ} أي وإِن تشكروا ربكم يرضى هذا الشكر منكم، لأجلكم ومنفعتكم لا لانتفاعه بطاعتكم، قال أبو السعود: عدم رضائه بكفر عباده لأجل منفعتهم ودفع مضرَّتهم، رحمة بهم لا لتضرره تعالى بذلك، ورضاه بشكرهم لأجلهم ومنفعتهم لأنه سبب فوزهم بسعادة الدارين، ولهذا فرَّق بين اللفظين فقال: "ولا يرضى لعباده الكفر" وقال هنا: "يرضه لكم" لأن المراد بالأول تعميم الحكم ثم تعليله بكونهم عباده {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} أي ولا تحمل نفسٌ ذنب نفس أخرى، بل كلٌ يؤاخذ بذنبه {ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ} أي ثم مرجعكم ومصيركم إليه تعالى {فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} أي فيحاسبكم ويجازيكم على أعمالكم {إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} أي يعلم ما تكنه السرائر وتخفيه الضمائر، وفيه تهديدٌ وبشارة للمطيع.



حال المؤمن والكافر، لا يستويان ؟

{وَإِذَا مَسَّ الإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ(8)أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ(9)}



{وَإِذَا مَسَّ الإِنْسَانَ ضُرّ} أي وإِذا أصاب الإِنسان الكافر شدة من فقر ومرضٍ وبلاء {دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ} أي تضرع إلى ربه في إزالة تلك الشدة، مقبلاً إليه مخبتاً مطيعاً {ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ} أي ثم إذا أعطاه نعمةً منه وفرَّج عنه كربته {نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ} أي نسي الضر الذي كان يدعو ربه لكشفه وتمرَّد وطغى {وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ} أي وجعل لله شركاء في العبادة ليصد عن دين الله وطاعته {قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً} أمرٌ للتهديد أي تمتع بهذه الحياة الدنيا الفانية، وتلذَّذ فيها وأنت على كفرك، عمراً قليلاً وزمناً يسيراً {إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ} أي فمصيرك إلى نار جهنم، وأنت من المخلدين فيها {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا} استفهام حذف جوابه لدلالة الكلام عليه أي أم من هو مطيع عابد في ساعات الليل يتعبد ربه في صلاته ساجداً وقائماً كمن أشرك بالله وجعل له أنداداً؟ قال القرطبي: بيَّن تعالى أن المؤمن ليس كالكافر الذي مضى ذكره {يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ} أي حال كونه خائفاً من عذاب الآخرة، راجياً رحمة ربه وهل الجنة، هل يستوي هذا المؤمن التقي مع ذلك الكافر الفاجر؟ لا يستويان عند الله، ثم ضرب مثلاً فقال {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ}؟ أي هل يتساوى العالم والجاهل؟ فكما لا يستوي هذان كذلك لا يستوي المطيع والعاصي {إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} أي إنما يعتبر ويتعظ أصحاب العقول السليمة، قال الإِمام فخر الدين الرازي: واعلم أن هذه الآية دالة على أسرار عجيبة، فأولها أنه بدأ فيها بذكر العمل، وختم فيها بذكر العلم، أما العمل فهو القنوت، والسجود، والقيام، وأما العلم ففي قوله {هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ}؟ وهذا يدل على أن كمال الإِنسان محصورٌ في هذين المقصودين، فالعمل هو البداية، والعلم والمكاشفة هو النهاية، وفي الكلام حذف تقديره أمَّنْ هو قانتٌ كغيره؟ وإِنما حسن هذا الحذف لدلالة الكلام عليه، لأنه تعالى ذكر قبل هذه الآية الكافر، ثم مثَّل بالذين يعلمون، وفيه تنبيه عظيم على فضيلة العلم.







نصائح للمؤمنين ووعيد لعبدة الأصنام

{قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ(10)قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ(11)وَأُمِرْتُ لأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ(12)قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ(13)قُلْ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي(14) فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ(15)لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ(16)وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمْ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِ(17)الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمْ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الأَلْبَابِ(18) أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنْتَ تُنقِذُ مَنْ فِي النَّارِ(19)لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِهَا غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعَادَ(20}



سبب النزول:

نزول الآية (17 - 18):

{فَبَشِّرْ عِبَادِ}: أخرج جويبر عن جابر بن عبد الله قال: لما نزلت {لها سبعة أبواب} الآية، أتى رجل من الأنصار النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، إنَّ لي سبعة مماليك، وإني قد أعتقت لكل باب منها مملوكة، فنزلت فيه الآية: {فَبَشِّرْ عِبَادِ* الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ }.



نزول الآية (17):

{وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ}: أخرج ابن أبي حاتم عن زيد بن أسلم أن هذه الآية نزلت في ثلاثة نفر، كانوا في الجاهلية يقولون: {لا إله إلا الله}: زيد بن عمرو بن نفيل، وأبي ذر الغفاري، وسلمان الفارسي.



{قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ} أي قل يا محمد لعبادي المؤمنين يجمعوا بين الإِيمان وتقوى الله وهي البعدُ عن محارم الله، قال المفسرون: نزلت في جعفر بن أبي طالب وأصحابه حين عزموا على الهجرة إلى أرض الحبشة والغرضُ منها التأنيس لهم والتنشيط إلى الهجرة ومعنى التقوى: امتثال الأوامر، واجتناب النواهي، وكأن العبد بذلك يجعل بينه وبين النار وقاية {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ} أي لمن أحسن العمل في هذه الدنيا حسنة عظيمة في الآخرة وهي الجنة دار الأبرار {وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ} أي وأرض الله فسيحة فهاجروا من دار الكفر إلى دار الإِيمان، ولا تقيموا في أرضٍ لا تتمكنون فيها من إقامة شعائر الله {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} أي إنما يعطى الصابرون جزاءهم بغير حصر، وبدون عدد أو وزن، قال الأوزاعي: ليس يوزن لهم ولا يكال إنما يغرف غرفاً {قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ} أي قل يا محمد أُمرت بإِخلاص العبادة لله وحده لا شريك له، قال المفسرون: وإِنما خص الله تعالى الرسول بهذا الأمر لينبه على أنَّ غيره بذلك أحق فهو كالترغيب للغير {وَأُمِرْتُ لأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ} أي وأُمرت أيضاً أن أكون أولَ المسلمين من هذه الأمة، قال القرطبي: وكذلك كان، فإِنه أول من خالف دين ءابائه وخلع الأصنام وحطمها، وأسلم وجهه لله وآمن به ودعا إليه {قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} أي وأخاف إِن عصيت أمره أن يعذبني يوم القيامة بنار جهنم، قال الصاوي: والمقصود منها زجر الغير عن المعاصي، لأنه صلى الله عليه وسلم إذا كان خائفاً مع كمال طهارته وعصمته فغيره أولى، وذلك سنة الأنبياء والصالحين حيث يخبرون غيرهم بما اتصفوا به ليكونوا مثلهم {قُلْ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي} أي قل لهم يا محمد لا أعبد إلا الله وحده، مخلصاً له طاعتي وعبادتي من كل شائبة، وليس هذا بتكرار لأن الأول إخبار بأنهصلى الله عليه وسلم مأمور بالعبادة، والثاني إخبار بخوفه من عذاب الله إن عصى أمره، والثالث إخبار بامتثاله الأمر مع إفادة الحصر كأنه يقول: أعبد الله ولا أعبد أحداً سواه {فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ} صيغة أمر على جهة التهديد والوعيد أي اعبدوا ما شئتم من دون الله من الأوثان والأصنام فسوف ترون عاقبة كفركم كقوله {اعملوا ما شئتم} {قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} أي حقيقة الخسران الذين خسروا أنفسهم وأهليهم، حيث صاروا إلى نار مؤبدة يصلون سعيرها يوم القيامة، فهؤلاء هم الخاسرون كل الخسران، قال ابن عباس: إنَّ لكل رجلٍ منزلاً وأهلاً وخدماً في الجنة، فإِن أطاع اللهَ أُعطي ذلك، وإِن كان من أهل النار حُرم ذلك، فخسر نفسه وأهله ومنزله {أَلا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} أي ألا فانتبهوا أيها القوم ذلك هو الخسرانُ الواضح الذي ليس بعده خسرانٌ! قال أبو حيان: بالغ في بيان الخسران بأداة التنبيه "ألاَ" وبالإِشارة إليه "ذلك" وتأكيده بأداة الحصر "هو" وتعريفه بأل ووصفه بأنه بيّن {الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} أي الواضح لمن تأمله أدنى تأمل، ثم لما ذكر خسرانهم في الدنيا ذكر حالهم ومآلهم في الآخرة فقال {لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ} أي تغشاهم نار جهنم من فوقهم ومن تحتهم، وتحيط بهم من جميع جوانبهم، ومعنى الظلل أطباقٌ من نار جهنم، وتسميتها ظُللاً تهكمٌ بهم، لأنها محرقة والظلةُ تقي من الحر {ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ} أي ذلك العذاب الشديد الفظيع، إِنما يقصه تعالى ليخوف به عباده، لينزجروا عن المحارم والمآثم {يَاعِبَادِ فَاتَّقُونِ} أي يا أوليائي خافوا عذابي ولا تتعرضوا لما يوجب سخطي، قال الزمخشري: وهذه عظة من الله تعالى لعباده ونصيحة بالغة .. والحكمة من ذكر أحوال النار تخويف المؤمنين منها ليتقوها بطاعة ربهم {وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا} لما ذكر وعيد عبدة الأوثان، ذكر وعد أهل الفضل والإِحسان، ممن احترز عن الشرك والعصيان، ليكون الوعد مقروناً بالوعيد، فيحصل كمال الترغيب والترهيب، والمعنى: والذين انتهوا عن عبادة الأوثان وطاعة الشيطان، وتباعدوا عنها كل البعد، قال أبو السعود: "الطاغوت" البالغ أقصى غاية الطغيان كالرحموت والعظموت، والمراد به الشيطان وصف به للمبالغة {وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ} أي رجعوا إلى طاعة الله وعبادته {لَهُمْ الْبُشْرَى} أي لهم البشرى السارة من الله تعالى بالفوز العظيم بجنات النعيم {فَبَشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} أي فبشِّر عبادي المتقين الذين يستمعون الحديث والكلام فيتبعون أحسن ما فيه، قال ابن عباس: هو الرجل يسمع الحسن والقبيح، فيتحدث بالحسن وينكف عن القبيح فلا يتحدث به .. وهذا ثناء من الله تعالى عليهم بنفوذ بصائرهم، وتمييزهم الأحسن من الكلام، فإِذا سمعوا قولاً تبصَّروه وعملوا بما فيه، وأحسنُ الكلام كلام الله وخير الهدي هديُ محمد صلى الله عليه وسلم وإِنما وضع الظاهر {فَبَشِّرْ عِبَادِ} بدل الضمير {فبشرهم} تشريفاً لهم وتكريماً بالإِضافة إليه سبحانه {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمْ اللَّهُ} أي أولئك المتصفون بتلك الصفات الجليلة هم الذين هداهم الله لما يرضاه، ووفقهم لنيل رضاه {وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} أي وأولئك هم أصحاب العقول السليمة، والفطر المستقيمة {أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ} أي أفمن وجبت له الشقاوة من الله تعالى، وجوابه محذوفٌ دلَّ عليه ما بعده أي هل تقدر على هدايته؟ لا، ثم قال تعالى {أَفَأَنْتَ تُنقِذُ مَنْ فِي النَّارِ}؟ أي هل تستطيع يا محمد أن تنقذ من هو في الضلال والهلاك؟ قال القرطبي: كان النبي صلى الله عليه وسلم يحرص على إِيمان قومه وقد سبقت لهم من الله الشقاوة فنزلت الآية، وقال ابن عباس: يريد "أبا لهب" وولده ومن تخلَّف من عشيرة النبي صلى الله عليه وسلم عن الإِيمان، وكرر الاستفهام "أفأنت" تأكيداً لطول الكلام والمعنى: أفمن حقَّ عليه كلمة العذاب أفأنت تنقذه؟ {لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ} أي لكنْ المؤمنون الأبرار، المتقون للهِ في الدنيا، المتمسكون بشريعته وطاعته {لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِهَا غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ} أي لهم في الجنة درجات عالية وقصورٌ شاهقة بعضها فوق بعض مبنية من زبرجدٍ وياقوت {تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ} أي تجري من تحت قصورها وأشجارها أنهار الجنة من غير أخدود {وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعَادَ} أي وعدهم الله بذلك وعداً مؤكداً لا يمكن أن يتخلف لأنه وعد العزيز القدير.

إنزال الماء وإنبات الزرع

{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَامًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لأُوْلِي الأَلْبَابِ(21)}



{ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً} أي ألم تر أيها الإِنسان العاقل أنَّ الله بقدرته أنزل المطر من السحاب {فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الأَرْضِ} أي أدخله مسالك وعيوناً في الأرض وأجراه فيها، قال المفسرون: وهذا دليلٌ على أن ماء العيون من المطر، تحبسه الأرض ثم ينبع شيئاً فشيئاً، قال ابن عباس: ليس في الأرض ماء إلا نزل من السماء، ولكنْ عروق في الأرض تغيِّره { ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ

زَرْعًا مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ} أي ثم يُخرج بهذا الماء النازل من السماء والنابع من الأرض أنواع الزروع، المختلفة الأشكال والألوان، من أحمر وأبيض وأصفر، والمختلفة الأصناف من قمح وأرز وعدس وغير ذلك، قال البيضاوي: {مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ} أي أصنافه من بر وشعير وغيرهما، أو كيفياته من خضرة وحمرة وغيرهما { ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا} أي ثم ييبس فتراه بعد خضرته مصفراً { ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَامًا} أي ثم يصبح فتاتاً وهشيماً متكسراً {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لأُوْلِي الأَلْبَابِ} أي إِنَّ فيما ذُكر لعظة وعبرة، ودلالةً على قدرة الله ووحدانيته لذوي العقول المستنيرة .. والآية فيها تمثيلٌ لحياة الإِنسان بالحياة الدنيا، فمهما طال عمر الإِنسان فلا بدَّ من الانتهاء، إلى أن يصير مصفر اللون، متحطم الأعضاء، متكسراً كالزرع بعد نضرته، ثم تكون عاقبته الموت، قال ابن كثير: هكذا الدنيا تكون خضرة ناضرة حسناء، ثم تعود عجوزاً شوهاء، وكذلك الشاب يعود شيخاً هرماً، كبيراً ضعيفاً، وبعد ذلك كله الموت، فالسعيد من كان حاله بعده إلى خير.









الهداية للإسلام

{أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ(22)اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ(23)أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا مَاكُنْتُمْ تَكْسِبُونَ(24)كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَاهُمْ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ(25)فَأَذَاقَهُمْ اللَّهُ الْخِزْيَ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ(26)}



سبب النزول:

نزول الآية (23):

{اللَّهُ نَزَّلَ}: روى الحاكم وغيره عن سعد بن أبي وقاص قال: نزل على النبي صلى الله عليه وسلم القرآن، فتلاه عليهم زماناً، فقالوا: يا رسول الله، لو حدثتنا؟ فنزل: { اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ}. وعن ابن عباس: أن قوماً من الصحابة قالوا: يا رسول الله، حَدّثنا بأحاديث حسان وبأخبار الدهر، فنزل: { اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ}.



{ أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ} أي وسَّع صدره للإِسلام، واستضاء قلبه بنوره حتى ثبت ورسخ فيه { فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ} أي فهو على بصيرة ويقين من أمر دينه، وعلى هدىً من ربه بتنوير الحق في قلبه، وفي الآية محذوفٌ دلَّ عليه سياق الكلام تقديره كمن هو أعمى القلب، معرضٌ عن الإِسلام؟ قال الطبري: وتُرك الجوابُ اجتزاءً بمعرفة السامعين وبدلالة ما بعده وتقديره: كمن أقسى اللهُ قلبه وأخلاه من ذكره حتى ضاق عن استماع الحق، واتباع الهدى؟ {فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ} أي فويلٌ للذين لا تلين قلوبهم ولا تخشع عند ذكر الله، بـ "ذكر الله" القرآن الذي أنزله الله تذكرة لعباده {أُوْلَئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} أي أولئك الذين قست قلوبهم في بعدٍ عن الحق ظاهر .. ولما بيَّن تعالى ذلك أردفه بما يدل على أنَّ القرآن سبب لحصول النور والهداية والشفاء فقال {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ} أي اللهُ نزَّل القرآن العظيم أحسن الكلام، قال أبو حيان: والابتداءُ باسم "اللهُ" وإِسناد "نزَّل" لضميره، وفيه تفخيمٌ للمُنزل، ورفعٌ من قدره كما تقول: الملكُ أكرم فلاناً، فإِنه أفخم من أكرم الملك فلاناً، وحكمةُ ذلك البداءةُ بالأشرف {كِتَابًا مُتَشَابِهًا} أي قرآناً متشابهاً يشبه بعضه بعضاً في الفصاحة، والبلاغة، والتناسب، بدون تعارضٍ ولا تناقض {مَثَانِيَ} أي تُثنَّى وتكرر فيه المواعظ والأحكام، والحلال والحرام، وتُردَّد فيه القصص والأخبار دون سأم أو ملل قال الطبري: تُثنَّى – أي تكرر – فيه الأنباء والأخبار والقضاء والأحكام والحجج {تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ} أي تعتري هؤلاء المؤمنين خشيةٌ، وتأخذهم قشعريرة عند تلاوة ءايات القرآن، هيبةً من الرحمن وإِجلالاً لكلامه { ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} أي تطمئن وتسكن قلوبهم وجلودهم إلى ذكر الله، قال المفسرون: إنهم عند سماع ءايات الرحمة والإِحسان تلين جلودهم وقلوبهم وقال العارفون: إِذا نظروا إلى عالم الجلال طاشوا، وإِن لاح لهم أثرٌ من عالم الجمال عاشوا، قال ابن كثير: هذه صفة الأبرار عند سماع كلام الجبار، إِذا قرءوا ءايات الوعد والوعيد، والتخويف والتهديد، تقشعر جلودهم من الخشية والخوف وإِذا قرءوا ءايات الرحمة لانت جلودهم وقلوبهم، لما يرجون ويؤملون من رحمته ولطفه {ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ} أي ذلك القرآن الذي تلك صفتُه هو هدى الله يهدي به من شاء من خلقه {وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} أي ومن يخذلْه اللهُ فيجعل قلبه قاسياً مظلماً، فليس له مرشدٌ ولا هاد بعد الله {أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} أي فمن يجعل وجهه وقاية من عذاب جهنم الشديد، وخبره محذوف تقديره كمن هو آمنٌ من العذاب؟ قال المفسرون: الوجه أشرف الأعضاء فإِذا وقع الإِنسان في شيء من المخاوف فإِنه يجعل يده وقاية لوجهه، وأيدي الكفار مغلولة يوم القيامة، فإِذا ألقوا في النار لم يجدوا شيئاً يتقونها به إلا وجوههم {وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ} أي وتقول خزنة جهنم للكافرين: ذوقوا وبال ما كنتم تكسبونه في الدنيا من الكفر والمعاصي {كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَاهُمْ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ} أي كذَّب من قبلهم من الأمم السالفة فأتاهم العذاب من جهةٍ لا تخطر ببالهم {فَأَذَاقَهُمْ اللَّهُ الْخِزْيَ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} أي فأذاقهم الله الذُلَّ والصغار والهوان في الدنيا {وَلَعذَابُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ} أي ولعذاب الآخرة الذي أُعدَّ لهم أعظم بكثير من عذاب الدنيا {لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} أي لو كان عندهم علمٌ وفهم ما كذبوا.





ضرب الأمثال للتذكير، وعربية القرآن

{وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ(27)قُرآناً عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ(28)ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَجُلاً فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ(29) إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ(30)ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ(31)}



{وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ} أي ولقد بينا ووضحنا للناس في هذا القرآن من كل الأمثال النافعة، والأخبار الواضحة ما يحتاجون إليه {لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} أي لعلهم يتعظون ويعتبرون بتلك الأمثال والزواجر {قُرآناً عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ} أي حال كونه قرآناً عربياً لا اختلاف فيه بوجه من الوجوه، ولا تعارض ولا تناقض {لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} أي لكي يتقوا الله ويجتنبوا محارمه .. ثم ذكر تعالى مثلاً لمن يشرك بالله ولمن يوحِّده فقال {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَجُلاً فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ} أي ضرب الله لكم أيها الناس هذا المثل: رجلٌ من المماليك اشترك فيه ملاكٌ سيئو الأخلاق، بينهم اختلاف وتنازع، يتجاذبونه في حوائجهم، هذا يأمره بأمرٍ وذاك يأمره بمخالفته، وهو متحيِّر موزّع القلب، لا يدري مَنْ يرضي؟ {وَرَجُلاً سَلَمًا لِرَجُلٍ} هذا من تتمة المثل أي ورجلاً آخر لا يملكه إلا شخص واحد، حسن الأخلاق، فهو عبد مملوك لسيد واحد، يخدمه بإِخلاص ويتفانى في خدمته، ولا يلقى من سيده إلا إِحساناً {هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً} أي هل يستوي هذا وهذا في حسن الحال، وراحة البال؟ فكذلك لا يتساوى المؤمن الموحِّد مع المشرك الذي يعبد آلهة شتى. قال ابن عباس: هذه الآية ضربت مثلاً للمشرك والمخلص، وقال الرازي: وهذا مثلٌ ضُرب في غاية الحُسن في تقبيح الشرك، وتحسين التوحيد {الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ} لما كان المثل بيناً واضحاً في غاية الجلاء والوضوح ختم به الآية والمعنى: الحمد لله على إقامة الحجة عليهم بل أكثر هؤلاء المشركين لا يعلمون الحق فهم لفرط جهلهم يشركون بالله {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} أي إنك يا محمد ستموت كما يموت هؤلاء، ولا يخلَّد أحد في هذه الدار {ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ} أي ثم تجتمعون عند الله في الدار الآخرة، وتختصمون فيما بينكم من المظالم وأمر الدنيا والدين ويفصل بينكم أحكم الحاكمين.

yacine414
2011-04-01, 17:47
وعيد للمشركين ووعد للمؤمنين

{فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ(32)وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُوْلَئِكَ هُمْ الْمُتَّقُونَ(33)لَهُمْ مَا يَشَاءونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ(34)لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ(35)أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ(36)وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُضِلٍّ أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقَامٍ(37)}



سبب النزول:

نزول الآية (36):

{وَيُخَوِّفُونَكَ}: أخرج عبد الرازق عن معمر: قال لي رجل: قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: لتكُفَّنَّ عن شتم آلهتنا أو لنأمرنها فلتُخبِّلنَّك، فنزلت: {وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ}.



{فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ} الاستفهام إِنكاري بمعنى النفي أي لا أحد أظلم ممن كذب على الله بنسبة الشريك له والولد {وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءهُ} أي وكذَّب بالقرآن والشريعة وقت مجيئه من غير تدبر ولا تأمل؟ أي لا أحد أظلم ممن حاله ذلك، فإِنه أظلم من كل ظالم {أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ}؟ أي أليس في جهنم مقام ومأوى لهؤلاء الكافرين المكذبين؟ والاستفهام هنا تقريري أي بلى لهم مأوى ومكان {وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ} أي وأما الذين جاءوا بالصدق وهم الأنبياء، والذين صدَّقوا به وهم المؤمنون أتباعُ الرسل {أُوْلَئِكَ هُمْ الْمُتَّقُونَ} أي فأولئك الموصوفون بالصفات الحميدة هم أهل التقوى والصلاح الذين يستحقون كل إحسان وإكرام {لَهُمْ مَا يَشَاءونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ} أي لهم كل ما يشتهون في الجنة من الحور، والقصور، والملاذِّ، والنعيم {ذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ} أي ذلك الذي ينالونه هو ثواب كل محسن، أحسن في هذه الحياة، قال بعض المفسرين: "الذي جاء بالصدق" هو محمد صلى الله عليه وسلم "وصدَّق به" هو أبو بكر رضي الله عنه، والاختيارُ أن يكون على العموم حتى يشترك في هذه الصفة كل الرسل الكرام، وكل من دعا إلى هذا الصدق عن عقيدة وإِيمان من أتباع الرسل، ويدل عليه {أُولئك هم المتقون} بصيغة الجمع، وهذا اختيار ابن عطية {لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا} أي هؤلاء الذين صدَّقوا الأنبياء سيغفر الله لهم ما أسلفوا من الأعمال السيئة فلا يعاقبهم بها {وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ} أي ويثيبهم على طاعاتهم في الدنيا بحساب الأحسن الذي عملوه فضلاً منه وكرماً، قال المفسرون: العدلُ أن تُحسب الحسنات وتُحسب السيئات، ثم يكون الجزاء، والفضلُ هو الذي يتجلى به الله على عباده المتقين، فيكفر عنهم أسوأ أعمالهم، فلا يبقى لها حساب في ميزانهم، وأن يجزيهم أجرهم بحساب أحسن الأعمال، فتزيد حسناتُهم وتعلو وترجّح كفة الميزان، وهذا من زيادة الكرم والإِحسان {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ}؟ الهمزة للتقرير أي أليس الله كافياً عبده ورسوله محمداً صلى الله عليه وسلم من شر من يريده بسوء؟ قال أبو السعود: هذه تسليةٌ لرسول الله صلى الله عليه وسلم عما قالت له قريش: لتكفن عن شتم آلهتنا، أو ليصبنك منها خبل أو جنون، وقال أبو حيان: قالت قريش: لئن لم ينته محمد عن سبِّ آلهتنا وتعييبنا لنسلِّطنها عليه فتصيبه بخبَل وتعتريه بسوء، فأنزل الله {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ} أي هو كافٍ عبده، وإضافته إليه تشريفٌ عظيمٌ لنبيّه {وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ} أي ويخوفونك يا محمد بهذه الأوثان التي لا تضر ولا تنفع {وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} أي ومن أشقاه الله وأضلَّه فلن يهديه أحدٌ كائناً من كان {وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُضِلٍّ} أي ومن أراد الله سعادته فهداه إلى الحق، ووفقه لسلوك طريق المهتدين، فلن يقدر أحدٌ على إضلاله {أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقَامٍ}؟ أي هو تعالى منيع الجناب لا يُضام من لجأ إلى بابه، وهو القادر على أن ينتقم من أعدائه لأوليائه، لأنه غالب لا يُغلب، ذو انتقام من أعدائه، وفي الآية وعيدٌ للمشركين، ووعد للمؤمنين.





تزييف طريقة عبدة الأوثان

{وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِي اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ(38)قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ(39)مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ(40)}



سبب النزول:

نزول الآية (38):

{وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ }: روي عن مقاتل أن النبي صلى الله عليه وسلم سألهم، فسكتوا، فنزل ذلك. وقال غيره: قالوا: لا تدفع شيئاً قدّره الله، ولكنها تشفع، فنزلت.



{وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} هذه الآية إقامة برهان على تزييف طريقة عبدة الأوثان أي ولئن سألت يا محمد هؤلاء المشركين عمَّن خلق السماوات والأرضَ ليقولُنَّ اللهُ خالقهما، لوضوح الدليل على تفرده تعالى بالخالقية قال الرازي: إنَّ العلم بوجود الإِله القادر الحكيم، لا نزاع فيه بين جمهور الخلائق، وفطرةُ العقل شاهدةٌ بصحة هذا العلم، فإِنَّ من تأمل في عجائب أحوال السماوات والأرض، وفي عجائب أحوال النبات والحيوان وفي عجائب بدن الإِنسان وما فيه من أنواع الحِكَم الغريبة، والمصالح العجيبة، علم أنه لا بدَّ من الاعتراف بالإِله القادر الحكيم الرحيم، ولهذا أقر المشركون بوجود الله {قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} أي قل لهم يا محمد توبيخاً وتبكيتاً: أخبروني - بعد أن تحققتم أن خالق العالم هو الله- عن هذه الآلهة التي تعبدونها من دون الله {إِنْ أَرَادَنِي اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ}؟ أخبروني لو أراد الله أن يصيبني بشدة أو بلاء، هل تستطيع هذه الأصنام أن تدفع عني ذلك السوء والضُّرَّ؟ {أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ}؟ أي ولو أراد الله بي نفعاً من نعمة ورخاء هل تستطيع أن تمنع عني هذه الرحمة؟ والجواب محذوفٌ لدلالة الكلام عليه يعني فسيقولون: لا، لا تكشف السوء، ولا تمنع الرحمة {قُلْ حَسْبِي اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ} أي الله كافيني فلا ألتفت إلى غيره، وعليه وحده يعتمد المعتمدون، والغرضُ الاحتجاجُ على المشركين في عبادة ما لا يضرُّ ولا ينفع، وإِقامة البرهان على الوحدانية {قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ} أي اعملوا على طريقتكم من المكر والكيد والخداع {إِنِّي عَامِلٌ} أي إني عاملٌ على طريقتي، من الدعوة إلى الله وإظهار دينه {فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ * مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ} أي فسوف تعلمون لمن سيكون العذاب الذي يذل ويخزي الإِنسان {وَيَحِلُّ علَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ} أي وينزل عليه عذاب دائمٌ لا ينقطع وهو عذاب النار، هل هذا العذاب سيصيبني أو يصيبكم؟ والغرض التهديد والتخويف، قال أبو السعود: وفي الآية مبالغة في الوعيد، وإِشعارٌ بأن حاله عليه السلام لا تزال تزداد قوةً بنصر الله وتأييده، وفي خزي أعدائه دليل غلبته عليه الصلاة والسلام، وقد عذبهم الله وأخزاهم يوم بدر.

مظاهر القدرة والعلم له عز وجل

{إِنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ فَمَنْ اهْتَدَى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ(41)اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ(42)أَمْ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلا يَعْقِلُونَ(43)قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ(44)وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ(45)قُلِ اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِي مَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ(46)وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ(47)وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُون(48)}



{إِنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ} أي نحن أنزلنا عليك يا محمد هذا القرآن المعجز في بيانه، الساطع في برهانه، لجميع الخلق، بالحقِّ الواضح الذي لا يلتبس به الباطل {فَمَنِ اهْتَدَى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا} أي فمن اهتدى فنفعه يعود عليه، ومن ضلَّ فضرر ضلاله لا يعود إلا عليه {وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ} أي لستَ بموكَّل عليهم حتى تجبرهم على الإِيمان، قال الصاوي: وفي هذا تسلية له صلى الله عليه وسلم والمعنى: ليس هداهم بيدك حتى تقهرهم وتجبرهم عليه، وإِنما هو بيدنا، فإِن شئنا هديناهم وإِن شئنا أبقيناهم على ما هم عليه من الضلال {اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا} أي يقبضها من الأبدان عند فناء آجالها وهي الوفاة الكبرى {وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا} أي ويتوفى الأنفس التي لم تمت في منامها وهي الوفاة الصغرى، قال في التسهيل: هذه الآية للاعتبار ومعناها أن الله يتوفى النفوس على وجهين: أحدهما: وفاة كاملة حقيقية وهي الموت، والآخر: وفاة النوم لأن النائم كالميت، في كونه لا يُبصر ولا يسمع، ومنه قوله تعالى {وهو الذي يتوفاكم بالليل} وفي الآية عطف والتقدير: ويتوفى الأنفس التي لم تمت في منامها، وقال ابن كثير: أخبر تعالى بأنه المتصرف في الوجود كما يشاء، وأنه يتوفى الأنفس الوفاة الكبرى، بما يرسل من الحفظة - الملائكة - الذين يقبضونها من الأبدان، والوفاة الصغرى عند المنام {فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ} أي فيمسك الروح التي قضى على صاحبها الموتَ فلا يردها إلى البدن {وَيُرْسِلُ الأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} أي ويرسل الأنفس النائمة إلى بدنها عند اليقظة إلى وقت محدود، هو أجل موتها الحقيقي، قال ابن عباس: إنَّ أرواح الأحياء والأموات تلتقي في المنام، فتتعارف ما شاء الله لها، فإِذا أرادت الرجوع إلى أجسادها، أمسك الله أرواح الأموات عنده، وأرسل أرواح الأحياء إلى أجسادها، قال القرطبي: وفي الآية تنبيه على عظيم قدرته تعالى، وانفراده بالألوهية، وأنه يحيي ويميت، ويفعل ما يشاء، لا يقدر على ذلك سواه، ولهذا قال {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} أي إن في هذه الأفعال العجيبة لعلامات واضحة قاطعة، على كمال قدرة الله وعلمه، لقومٍ يجيلون أفكارهم فيها فيعتبرون {أَمْ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ} أمْ للإِضراب أي لم يتفكروا بل اتخذوا لهم شفعاء من الأوثان والأصنام، فانظر إلى فرط جهالتهم حيث اتخذوا من لا يملك شيئاً أصلاً شفعاء لهم عند الله، قال ابن كثير: هذا ذمٌ للمشركين في اتخاذهم شفعاء من دون الله -وهي الأصنام- والأوثان التي اتخذوها من تلقاء أنفسهم، بلا دليل ولا برهان، وهي لا تملك شيئاً من الأمر، وليس لها عقل تعقل به، ولا سمعٌ تسمع به، ولا بصرٌ تبصر به، بل هي جمادات أسوأ حالاً بكثير من الحيوانات {قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلا يَعْقِلُونَ} الاستفهام توبيخي أي قل لهم يا محمد: أتتخذونهم شفعاء ولو كانوا على هذه الصفة جمادات لا تقدر على شيء، ولا عقل لها ولا شعور؟ {قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا} أي قل لهم : الشفاعة للهِ وحده، لا يملكها أحدٌ إلا الله تعالى، ولا يستطيع أحد أن يشفع إلا بإِذنه {لَهُ مُلْكُ السَّماوَاتِ وَالأَرْضِ} أي هو المتصرف في المُلك والملكوت، قال البيضاوي: أي هو تعالى مالك المُلكِ كله، لا يملك أحدٌ أن يتكلم في أمره دون إذنه ورضاه {ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} أي ثم مصيركم إليه يوم القيامة، فيحكم بينكم بعدله، ويجازي كلاً بعمله .. ثم ذكر تعالى نوعاً آخر من أفعالهم القبيحة فقال {وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ} أي وإِذا أُفرد الله بالذكر، ولم يذكر معه آلهتهم وقيل أمام المشركين: لا إِله إلا اللهُ {اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ} أي نفرت وانقبضت من شدة الكراهة قلوب هؤلاء المشركين {وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} أي وإِذا ذكرت الأوثان والأصنام إِذا هم يفرحون ويُسرون، قال الإِمام فخر الدين الرازي: هذا نوع آخر من قبائح المشركين، فإِنك إِذا ذكرتَ الله وحده وقلت: لا إِله إلا الله وحده لا شريك له، ظهرتْ آثار النفرة من وجوههم وقلوبهم، وإِذا ذكرتَ الأصنام والأوثان ظهرت آثار الفرح والبشارة في قلوبهم وصدورهم، وذلك يدل على الجهل والحماقة، لأن ذكر الله رأس السعادات وعنوان الخيرات، وذكر الأصنام الجمادات رأسُ الجهالات والحماقات، فنفرتُهم عن ذكر الله، واستبشارهم بذكر الأصنام، من أقوى الدلائل على الجهل الغليظ، والحُمق الشديد {قُلِ اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} أي قل يا الله يا خالق ومبدع السماوات والأرض {عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ} أي يا عالم السرِّ والعلانية، يا من لا تخفى عليه خافية، مما هو غائب عن الأعين أو مشاهد بالأبصار {أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِي مَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} أي أنت تفصل بين الخلائق بعدلك وقضائك، فافصل بيني وبين هؤلاء المشركين، قال أبو حيّان: لما أخبر عن سخافة عقولهم باشمئزازهم من ذكر الله، واستبشارهم بذكر الأصنام أمر رسوله أن يدعوه بأسمائه العظمى من القدرة والعلم ليفصل بينه وبين أعدائه، وفي ذلك وعيد للمشركين وتسلية للرسول عليه الصلاة والسلام، وقال الصاوي: أي التجئْ إلى ربك بالدعاء والتضرع فإِنه القادر على كل شيء {وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا} أي ولو أنَّ لهؤلاء المشركين الذين ظلموا أنفسهم بتكذيب القرآن والرسول {مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ} أي لو ملكوا كل ما في الأرض من أموال، وملكوا مثل ذلك معه {لافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} أي لجعلوا كل ما لديهم من أموال وذخائر، فديةً لأنفسهم من ذلك العقاب الشديد يوم القيامة {وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ} أي وظهر لهم من أنواع العقوبات ما لم يكن في حسابهم، قال أبو السعود: وهذه غايةٌ من الوعيد لا غاية وراءها، ونظيرها في الوعد {فلا تعلم نفسٌ ما أُخفي لهم من قُرَّة أعين} {وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا} أي وظهر لهم في ذلك اليوم المفزع سيئات أعمالهم التي اكتسبوها {وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءون} أي وأحاط ونزل بهم من كل الجوانب جزاء ما كانوا يستهزئون به، قال ابن كثير: أي أحاط بهم من العذاب والنكال ما كانوا يستهزئون به في الدنيا.





تضرع الإنسان عند الشدة وجحوده عند النعمة

{فَإِذَا مَسَّ الإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ(49)قَدْ قَالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ(50) فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هَؤُلاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ(51)أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ(52)}.



{فَإِذَا مَسَّ الإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا} أي فإِذا أصاب هذا الإِنسان الكافر شيءٌ من الشدة والبلاء، تضرَّع إلى الله وأناب إليه {ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِنَّا} أي ثم إذا أعطيناه نعمة منا تفضلاً عليه وكرماً {قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ} أي قال ذلك الإِنسان الكافر الجاحد إِنما أعطيته على علمٍ مني بوجوه المكاسب والمتاجر {بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ} أي ليس الأمر كما زعم بل هي اختبارٌ وامتحانٌ له، لنختبره فيما أنعمنا عليه أيطيع أم يعصي؟ {وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} أي ولكنَّ أكثر الناس لا يعلمون أن إعطاءهم المال اختبار وابتلاء فلذلك يبطرون {قَدْ قَالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} أي قال تلك الكلمة والمقالة الكفار قبلهم كقارون وغيره حيث قال {إنما اُوتيتُه على علمٍ عندي} {فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} أي فما نفعهم ما جمعوه من الأموال، ولا ما كسبوه من الحُطام {فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا} أي فنالهم جزاء أعمالهم السيئة {وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هَؤُلاءِ} أي والذين ظلموا من هؤلاء المشركين - كفار قريش - {سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا} أي سينالهم جزاء أعمالهم القبيحة كما أصاب أولئك، قال البيضاوي: وقد أصابهم ذلك فإِنهم قد قُحطوا سبع سنين حتى أكلوا الجيف وقُتل ببدرٍ صناديدهم {وَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ} أي وليسوا بفائتين من عذابها، لا يعجزوننا هرباً ولا يفوتوننا طلباً .. ثم ردَّ عليهم زعمهم فيما أوتوا من المال وسعة الحال فقال {أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ}؟ أي أولم يعلم هؤلاء المشركون أن الله يوسِّع الرزق على قوم، ويضيّقه على آخرين؟ فليس أمر الرزق تابعاً لذكاء الإِنسان أو غبائه، إِنما هو تابعٌ للقسمة والحكمة {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} أي إِن في الذي ذكر لعبراً وحججاً لقوم يصدِّقون بآيات الله، قال القرطبي: وخصَّ المؤمن بالذكر، لأنه هو الذي يتدبر الآيات وينتفع بها، ويعلم أن سعة الرزق قد يكون استدراجاً، وأن تقتيره قد يكون إعظاماً.



سعة مغفرة الله بغفرانه الذنوب وقبوله التوبة

{قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ(53)وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ(54)وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمْ العَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ(55)أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنْ السَّاخِرِينَ(56)أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ(57)أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ(58)بَلَى قَدْ جَاءتْكَ ءاياتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ(59)



{قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ} أخبر يا محمد عبادي المؤمنين الذين أفرطوا في الجناية على أنفسهم بالمعاصي والآثام {لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ} أي لا تيأسوا من مغفرة الله ورحمته {إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا} أي إنه تعالى يعفو عن جميع الذنوب لمن شاء، وإِن كانت مثل زبد البحر {إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} أي عظيم المغفرة واسع الرحمة، وظاهر الآية أنها دعوة للمؤمنين إلى عدم اليأس من رحمة الله لقوله {قُلْ يَا عِبَادِي} وقال ابن كثير: هي دعوة لجميع العصاة من الكفرة وغيرهم إلى التوبة والإِنابة، وإِخبارٌ بأن الله يغفر الذنوب جميعاً لمن تاب منها ورجع عنها مهما كثرت {وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ} أي ارجعوا إلى الله واستسلموا له بالطاعة والخضوع والعمل الصالح {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ} من قبل حلول نقمته تعالى بكم {ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ } أي ثم لا تجدون من يمنعكم من عذابه {وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ} أي اتبعوا القرآن العظيم، بامتثال أوامره واجتناب نواهيه، والزموا أحسن كتاب أنزل إليكم فيه سعادتكم وفلاحكم {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمْ العَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ} أي من قبل أن ينزل بكم العذاب فجأة وأنتم غافلون، لا تدرون بمجيئه لتتداركوا وتتأهبوا {أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ} أي لئلا تقول بعض النفوس التي أسرفت في العصيان {يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ} أي يا حسرتي وندامتي على تفريطي وتقصيري في طاعة الله وفي حقه، قال مجاهد: يا حسرتا على ما ضيعت من أمر الله {وَإِنْ كُنْتُ لَمِنْ السَّاخِرِينَ} أي وإِنَّ الحال والشأن أنني كنت من المستهزئين بشريعة الله ودينه، قال قتادة: لم يكفه أن ضيَّع طاعة الله حتى سخر من أهلها {أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} "أو" للتنويع أ ي يقول الكافر والفاجر هذا أو هذا، والمعنى لو أن الله هداني لاهتديت إلى الحق، وأطعت الله، وكنت من عباده الصالحين، قال ابن كثير: يتحسر المجرم ويودُّ لو كان من المحسنين المخلصين، المطيعين لله عزَّ وجل {أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} أي أو تقول تلك النفس الفاجرة حين مشاهدتها العذاب لو أنَّ لي رجعةً إلى الدنيا لأعمل بطاعة الله، وأُحسن سيرتي وعملي {بَلَى قَدْ جَاءتْكَ ءاياتِي} هو جواب قوله {لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي} والمعنى بلى قد جاءك الهدى من الله بإِرساله الرسل، وإِنزاله الكتب {فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ} أي فكذبت بالآيات، وتكبرت عن الإِيمان، وكنت من الجاحدين، قال الصاوي: إن الكافر أولاً يتحسر، ثم يحتج بحجج واهية، ثم يتمنى الرجوع إلى الدنيا، ولو رُدَّ لعاد إلى ضلاله كما قال تعالى {ولو رُدُّوا لعادوا لما نهوا عنه وإِنهم لكاذبون}.



حال المكذبين والمتقين يوم القيامة

{وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْمُتَكَبِّرِينَ(60)وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوا بِمَفَازَتِهِمْ لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ(61)}



{وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ} أي ويوم القيامة ترى أيها المخاطب الذين كذبوا على الله بنسبة الشريك له والولد وجوههم سوداء مظلمة بكذبهم وافترائهم {أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْمُتَكَبِّرِينَ} استفهام تقريري أي أليس في جهنم مقام ومأوى للمستكبرين عن الإِيمان، وعن طاعة الرحمن؟ بلى إنَّ لهم منزلاً ومأوى في دار الجحيم .. ولما ذكر حال الكاذبين على الله، ذكر حال المتقين لله فقال {وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوا بِمَفَازَتِهِمْ} أي وينجي الله المتقين بسبب سعادتهم وفوزهم بمطلوبهم وهو الجنة دار الأبرار {لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} أي لا ينالهم هلعٌ ولا جزع، ولا هم يحزنون في الآخرة، بل هم آمنون {في مقعد صدقٍ عند مليكٍ مقتدر}.





دلائل الألوهية والتوحيد

{اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ(62)لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمْ الْخَاسِرُونَ(63)قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونَي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ(64)وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ(65)بَلْ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ(66)وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ(67)}



سبب النزول:

نزول الآية (64):

{قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ...}؟: أخرج البيهقي في الدلائل عن الحسن البصري قال: قال المشركون للنبي صلى الله عليه وسلم: أتضلل ءاباءك وأجدادك يا محمد؟ فأنزل الله:{ قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ} إلى قوله:{من الشاكرين}. وروى ابن أبي حاتم عن ابن عباس أن المشركين من جهلهم دعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عبادة آلهتهم، ويعبدوا معه إلهه، فنزلت: {قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ..} الآية.



نزول الآية (67):

{وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ}: أخرج الترمذي وصححه عن ابن عباس قال: مرّ يهودي بالنبي صلى الله عليه وسلم فقال: كيف تقول يا أبا القاسم إذا وضع الله السماوات على ذه- أي على إصبع -، والأرضين على ذه - أي على إصبع -، والماء على ذه - أي على إصبع -، والجبال على ذه - أي على إصبع -، فأنزل الله: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} الآية.



ثم عاد إلى دلائل الألوهية والتوحيد، بعد أن أفاض في الوعد والوعيد فقال {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} أي الله جل وعلا خالق جميع الأشياء وموجد جميع المخلوقات، والمتصرف فيها كيف يشاء، لا إله غيره ولا ربَّ سواه {وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ} أي هو القائم بتدبير كل شيء {لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} أي بيده جل وعلا مفاتيح خزائن كل الأشياء، لا يملك أمرها ولا يتصرف فيها غيره، قال ابن عباس: "مقاليد" مفاتيح، وقال السدي: خزائن السماواتِ والأرض بيده {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمْ الْخَاسِرُونَ} أي والذين كذَّبوا بآيات القرآن الظاهرة، والمعجزات الباهرة، أولئك هم الخاسرون أشدَّ الخسران {قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونَي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ}؟ أي قل يا محمد أتأمرونني أن أعبد غير الله بعد سطوع الآيات والدلائل على وحدانيته يا أيها الجاهلون؟ قال ابن كثير: إن المشركين من جهلهم دعوا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم إلى عبادة آلهتهم، ويعبدوا معه إلهه فنزلت الآية {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ} اللام موطئة للقسم أي واللهِ لقد أوحي إليك وإِلى الأنبياء قبلك{قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} أي لئن أشركت يا محمد ليبطلنَّ ويفسدنَّ عملك الصالح {وَلَتكُونَنَّ مِنْ الْخَاسِرِينَ} أي ولتكونَنَّ في الآخرة من جملة الخاسرين بسبب ذلك .. وهذا على سبيل الفرض والتقدير، وإِلاّ فالرسول صلى الله عليه وسلم قد عصمه الله، وحاشا له أن يشرك بالله، وهو الذي جاء لإِقامة صرح الإِيمان والتوحيد، قال أبو السعود: والكلام واردٌ على طريقة الفرض لتهييج الرسل، وإِقناط الكفرة، والإِيذان بغاية شناعة الإِشراك وقبحه {بَلْ اللَّهَ فَاعْبُدْ} أي أخلص العبادة لله وحده، ولا تعبد أحداً سواه. {وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ} أي وكن من الشاكرين لإِنعام ربك {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} أي وما عرفوا الله حق معرفته، ولا عظموه حق تعظيمه، قال أبو حيان: أي ما عظموه حق تعظيمه، وما قدروه في أنفسهم حق تقديره، إذ أشركوا معه غيره، وساووا بينه وبين الحجر والخشب في العبادة .. ثم نبههم على عظمته وجلالة شأنه فقال {وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} الجملة حالية والمعنى ما عظَّموه حقَّ تعظيمه والحال أنه موصوف بهذه القدرة الباهرة، التي هي غاية العظمة والجلال. فالأرضُ مع سعتها وبسطتها يوم القيامة تحت قبضته وسلطانه {وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ } أي والسماوات مضمومات ومجموعات بقدرته تعالى قال الزمخشري: والغرض من هذا الكلام تصوير عظمته والتوقيف على كنه جلاله لا غير، من غير ذهاب بالقبضة واليمين إلى جهة وفي الحديث: " يقبض الله تعالى الأرض ويطوي السماء بيمينه، ثم يقول: أنا الملك أين ملوك الأرض؟" {سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكونَ} أي تنزَّه الله وتقدس عما يصفه به المشركون من صفاتِ العجز والنقص.



نفختا الصور وأهوال الآخرة

{وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلاَّ مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ(68)وَأَشْرَقَتِ الأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ(69)وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ(70)}



ثم ذكر تعالى أهوال الآخرة فقال {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ} هو قرنٌ ينفخ فيه إِسرافيل عليه السلام بأمر الله، والمراد بالنفخة هنا "نفخة الصَّعق" التي تكون بعد نفخة الفزع، قال ابن كثير: وهي النفخة الثانية التي يموت بها الأحياء من أهل السماواتِ والأرض {فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ} أي فخَّر ميتاً كل من في السماوات والأرض {إِلا مَنْ شَاءَ اللَّهُ} أي إلاَّ من شاء الله بقاءه كحملة العرش، والحور العين والولدان {ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى} أي نُفخ فيه نفخةٌ أخرى وهي نفخةُ الإِحياء {فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ} أي فإِذا جميع الخلائق الأموات يقومون من القبور ينظرون ماذا يؤُمرون {وَأَشْرَقَتِ الأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا} أي وأضاءت أرض المحشر بنور الله يوم القيامة، حين تجلى الباري جل وعلا لفصل القضاء بين العباد {وَوُضِعَ الْكِتابُ} أي أحضرت صحائف أعمال الخلائق للحساب {وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ} أي وجيء بالأنبياء ليسألهم رب العزة عما أجابتهم به أممهم وبالشهداء وهم الحفظة الذين يشهدون على الناس بأعمالهم، وقال السدي: هم الذين استشهدوا في سبيل الله {وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ} أي وقُضي بين العباد جميعاً بالقسط والعدل {وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} أي وهم في الآخرة لا يظلمون شيئاً من أعمالهم، لا بنقص ثواب، ولا بزيادة عقاب، قال ابن جبير: لا يُنقص من حسناتهم ولا يزاد على سيئاتهم {وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ} أي جوزي كل إنسانٍ بما عمل من خيرٍ أو شر {وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ} أي هو تعالى أعلم بما عمل كل إنسان، ولا حاجة به إلى كتاب ولا إلى شاهد، ومع ذلك تشهد الكتب إلزاماً للحجة.



مآل الأشقياء والسعداء

وَسِيقَ الَّذِينَ كفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ ءاياتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ(71)قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ(72)وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ(73)وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ(74)وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (75)}.



ثم فصَّل تعالى مآل كلٍ من الأشقياء والسعداء فقال {وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا} أي وسيق الكفرة المجرمون إلى نار جهنم جماعاتٍ جماعات، كما يساق الأشقياء في الدنيا إلى السجون {حَتَّى إِذَا جَاءوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا} أي حتى إِذا وصلوا إليها فتحت أبواب جهنم فجأة لتستقبلهم {وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ ءاياتِ رَبِّكُمْ}؟ أي وقال لهم خزنة جهنم تقريعاً وتوبيخاً: ألم يأتكم رسلٌ من البشر يتلون عليكم الكتب المنزلة من السماء؟ {وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا}؟ أي ويخوفونكم من شر هذا اليوم العصيب؟ {قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ} أي قالوا بلى قد جاءونا وأنذرونا، وأقاموا علينا الحجج والبراهين، ولكننا كذبناهم وخالفناهم لما سبق لنا من الشقاوة، قال القرطبي: وهذا اعتراف منهم بقيام الحجة عليهم، والمراد بكلمة العذاب قوله تعالى {لأملأنَّ جهنم من الجنَّة والناس أجمعين} {قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا} أي قيل لهم ادخلوا جهنَّم لتصلوا سعيرها ماكثين فيها أبداً، بلا زوال ولا انتقال {فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ} أي فبئس المقام والمأوى جهنم للمتكبرين عن الإِيمان بالله وتصديق رسله {وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا} أي وسيق الأبرار المتقون لله إلى الجنة جماعاتٍ جماعات راكبين على النجائب، قال القرطبي: سوقُ أهل النار طردُهم إليها بالخزي والهوان، كما يفعل بالمجرمين الخارجين على السلطان، وسوقُ أهل الجنان سوقُ مراكبهم إلى دار الكرامة والرضوان، لأنه لا يُذهب بهم إلا راكبين، كما يفعل بالوافدين على الملوك، فشتَّان ما بين السوقين {حَتَّى إِذَا جَاءوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا} أي حتى إِذا جاءوها وقد فتحت أبوابُها كقوله تعالى {جنّاتُ عَدْنٍ مفتَّحةً لهم الأبوابُ} قال الصاوي: والحكمةُ في زيادة الواو هنا "وفُتحت" دون التي قبلها، أن أبواب السجون تكون مغلقة إلى أن يجيئها أصحاب الجرائم، فتفتح لهم ثم تُغلق عليهم، بخلاف أبواب السرور والفرح فإِنها تفتح انتظاراً لمن يدخلها فناسب دخول الواو هنا دون التي قبلها {وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ} أي وقال لهم حراس الجنة: سلامٌ عليكم أيها المتقون الأبرار {طِبْتُمْ} أي طهرتم من دنس المعاصي والذنوب، فادخلوا الجنة دار الخلود، قال البيضاوي: وجواب "إذا" محذوف، للدلالة على أنَّ لهم من الكرامة والتعظيم، ما لا يحيط به الوصف والبيان، قال ابن كثير: وتقديره إِذا كان هذا سُعِدوا، وطابوا، وسُرّوا وفرحوا بقدر ما يكون لهم من النعيم {وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ} أي وقالوا عند دخولهم الجنة واستقرارهم فيها: الحمد لله الذي حقَّق لنا ما وعدنا به من دخول الجنة، قال المفسرون: والإِشارة إلى وعده تعالى لهم بقوله {تلك الجنة التي نورث من عبادنا من كان تقياً} {وَأَوْرَثَنَا الأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ} أي وملَّكنا أرض الجنة نتصرف فيها تصرف المالك في ملكه وننزل فيها حيث نشاء، لا ينازعنا فيها أحد {فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ} أي فنعم أجر العاملين بطاعة الله الجنة {وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ} أي وترى يا محمد الملائكة محيطين بعرش الرحمن، محدقين به من كل جانب {يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ} أي يسبحون الله ويمجدونه تلذذاً لا تعبداً {وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ} أي وقُضي بين العباد بالعدل {وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} أي وقيل الحمد لله على عدله وقضائه، قال المفسرون: القائل هم المؤمنون والكافرون، المؤمنون يحمدون الله على فضله، والكافرون يحمدونه على عدله، قال ابن كثير: نطق الكون أجمعه، ناطقه وبهيمه، لله رب العالمين بالحمد في حكمه وعدله، ولهذا لم يسند القول إلى قائل، بل أطلقه فدل على أن جميع المخلوقات شهدت له بالحمد.

yacine414
2011-04-01, 17:48
سورة غافر



التسميَــة

مصدر إنزال القرآن، وحال المجادلين فيه

حال الملائكة الأطهار والمؤمنين الأبرار

أحوال الكفار يوم القيامة، والتذكير بقدرته تعالى

وصف يوم القيامة بأوصاف مخيفة

قصة موسى عليه السلام مع فرعون وهامان وقارون

دفاع مؤمن آل فرعون عن موسى عليه السلام

تكبر فرعون بسؤاله عن إله موسى عليه السلام

متابعة الرجل المؤمن نصحه لقومه

مخاصمة الأسياد والاتباع في النار

نصرة الله لرسله على أعدائهم في الدنيا والآخرة

دلائل قدرته ووحدانيته

النهي عن عبادة غير الله، وبيان فضله على الإنسان

جزاء المجادلين بالباطل

أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالصبر على الأذى

تذكير الله بنعمه

تهديد المكذبين المجادلين في ءايات الله



بَين يَدَي السُّورَة



* سورة غافر مكية، وهي تُعنى بأمور العقيدة كشأن سائر السور المكية، ويكاد يكون موضوع السورة البارز هو المعركة بين "الحق والباطل" و"الهدى والضلال" ولهذا جاء جوُّ السورة مشحوناً بطابع العنف والشدة، وكأنه جو معركة رهيبة يكون فيها الطعن والنزال، ثم تسفر عن مصارع الطغاة فإِذا بهم حطام وركام.



* ابتدأت السورة الكريمة بالإِشادة بصفات الله الحسنى، وآياته العظمى، ثم عرضت لمجادلة الكافرين في ءايات الله، فمع وضوح الحق وسطوعه، جادل فيه المجادلون، وكابر فيه المكابرون.



* وعرضت السورة لمصارع الغابرين وقد أخذهم الله أخذ عزيز مقتدر، فلم يفلت منهم إنسان.



* وفي ثنايا هذا الجو الرهيب، يأتي مشهد حملة العرش، في دعائهم الخاشع المنيب.



* وتحدثت السورة عن بعض مشاهد الآخرة وأهوالها، فإِذا العباد واقفون للحساب، بارزون أمام الملك الديان، تغمرهم رهبة وخشوع، وإِذا القلوب لدى الحناجر تكاد لشدة الفزع والهول تنخلع، وفي ذلك الموقف الرهيب، واليوم العصيب، يلقى الإِنسان جزاءه إن خيراً فخير، وإِن شراً فشر.



* ثم يأتي الحديث عن قصة الإِيمان والطغيان، ممثلة في دعوة موسى عليه السلام لفرعون الطاغية الجبار، ففرعون يريد -بكبريائه وجبروته- أن يقضي على موسى وأتباعه خشية أن ينتشر الإِيمان بين الأقوام، وتبرز في ثنايا هذه القصة حلقة جديدة، لم تُعرض في قصة موسى من قبل، ألاَ وهي ظهور رجلٍ مؤمنٍ من آل فرعون يُخفي إِيمانه، يَصدع بكلمة الحق في تلطفٍ وحذر، ثم في صراحةٍ ووضوح، وتنتهي القصة بهلاك فرعون الطاغية الجبار بالغرق في البحر مع أعوانه وأنصاره، وبنجاة الداعية المؤمن وسائر المؤمنين.



* ثم تعرض السورة إلى بعض الآيات الكونية، الشاهدة بعظمة الله، الناطقة بوحدانيته وجلاله، الذي يشركون به ويكفرون بآياته، وتضرب مثلاً للمؤمن والكافر بالبصير والأعمى، فالمؤمن على نور من الله وبصيرة، والكافر يتخبط في الظلام.



* وتختم السورة الكريمة بالحديث عن مصارع المكذبين، والطغاة المتجبرين، ومشهد العذاب يأخذهم وهم في غفلتهم سادرون.



التسميَــة:

سميت "سورة غافر" لأن الله تعالى ذكر هذا الوصف الجليل - الذي هو من صفات الله الحسنى - في مطلع السورة الكريمة {غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ} وكرر ذكر المغفرة في دعوة الرجل المؤمن {وأنا أدعوكم إلى العزيز الغفار} وتسمى سورة المؤمن لذكر قصة مؤمن آل فرعون.





مصدر إنزال القرآن، وحال المجادلين فيه



{حم(1)تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ(2)غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لا إِلَهَ إِلا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ(3)مَا يُجَادِلُ فِي ءاياتِ اللَّهِ إِلا الَّذِينَ كَفَرُوا فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ(4)كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالأَحْزَابُ مِنْ بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ(5)وَكَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ(6)}



سبب النزول:

نزول الآية (4):

{مَا يُجَادِلُ..}: أخرج ابن أبي حاتم عن أبي مالك في قوله تعالى: {مَا يُجَادِلُ فِي ءاياتِ اللَّهِ إِلا الَّذِينَ كَفَرُوا} قال: نزلت في الحارث بن قيس السهمي.



{حم} الحروف المقطَّعة للتنبيه على إعجاز القرآن، وللإِرشاد على أن هذا القرآن المعجز منظوم من أمثال هذه الحروف الهجائية {تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ} أي هذا القرآن تنزيلٌ من الله {الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} أي العزيز في ملكه، العليم في خلقه {غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ} أي الذي يعفو عن ذنوب العباد، ويقبل توبة العصاة لمن تاب منهم وأناب {شَدِيدِ الْعِقَابِ} أي شديد العقاب لمن تكبر وطغى، وأعرض عن طاعة المولى {ذِي الطَّوْلِ} أي ذي الفضل والإِنعام {لا إِلَهَ إِلا هُوَ} أي لا معبود بحقٍ إلا الله، ولا ربَّ في الوجود سواه {إِلَيْهِ الْمَصِيرُ} أي إليه وحده مرجع الخلائق فيجازيهم بأعمالهم، وإِنما قدَّم المغفرة والتوبة على العقاب، للإِشارة إلى سعة الفضل وأن رحمته سبقت عذابه، ثم لما ذكر أن القرآن هداية الله للعالمين، أعقبه بذكر المجادلين المعاندين فقال {مَا يُجَادِلُ فِي ءاياتِ اللَّهِ إِلا الَّذِينَ كَفَرُوا} أي ما يدفع الحق ويجادل في هذا القرآن - بعد وضوح ءاياته وظهور إعجازه - إلا الجاحدون لآياتِ الله، المعاندون لرسله {فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ} أي فلا تغترَّ أيها العاقل بتصرفهم وتقلبهم في هذه الدنيا، بالمساكن والمزارع، والممالك والتجارات، فإِنهم أشقى الناس، وما هم عليه من النعيم متاعٌ قليل، وظلٌ زائل، فإِني وإِن أمهلتهم لا أهملُهم، بل آخذهم بعد ذلك النعيم أخذ عزيز مقتدر، قال ابن جزي: والآية تسليةٌ للنبي صلىالله عليه وسلم، ووعيدٌ شديد للكفار {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالأَحْزَابُ مِنْ بَعْدِهِمْ} أي كذَّب قبل كفار مكة أقوام كثيرون، منهم قوم نوح والأمم الذين تحزبوا على أنبيائهم ولم يقبلوا ما جاءوا به من عند الله كقوم عاد وثمود وفرعون وأمثالهم {وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ} أي وهمت كل أمةٍ من الأمم المكذبين أن يقتلوا رسولهم ويبطشوا به، قال ابن كثير: أي حرصوا على قتله بكل ممكن ومنهم من قتل رسوله {وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ} أي جادلوا رسلهم بالباطل ليزيلوا ويبطلوا به الحق الواضح الجلي {فَأَخَذْتُهُمْ} أي فأهلكتهم إهلاكاً مريعاً {فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ} استفهام تعجيب أي فكيف كان عقابي لهم؟ ألم يكن شديداً فظيعاً؟ {وَكَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا} أي وكذلك وجبت كلمة العذاب على هؤلاء المكذبين من قومك، كما وجبت لمن سبقهم من الكفار {أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ} أي لأنهم أهل النار، قال الطبري: أي كما حقَّ على الأمم التي كذبت رسلها وحلَّ بها عقابي، كذلك وجبت كلمة العذاب على الذين كفروا بالله من قومك لأنهم أصحاب النار.



حال الملائكة الأطهار والمؤمنين الأبرار



{الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ(7)رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُم وَمَنْ صَلَحَ مِنْ ءابائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ(8)وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ(9)}



ثم ذكر تعالى حال الملائكة الأطهار، والمؤمنين الأبرار، بعد أن ذكر الكفار والفجار فقال {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ} أي هؤلاء العباد المقربون - حملةُ العرش - ومن حول العرش من أشراف الملائكة وأكابرهم، ممن لا يُحصي عددهم إلا الله، هم في عبادة دائبة لله، ينزهونه عن صفات النقص، ويثنون عليه بصفات الكمال {وَيُؤْمِنُونَ بِهِ} أي ويصدقون بوجوده تعالى، وبأنه لا إله لهم سواه، ولا يستكبرون عن عبادته، قال الزمخشري: فإِن قلت: ما فائدة قوله {وَيُؤْمِنُونَ بِهِ} ولا يخفى أن حملة العرش وجميع الملائكة يؤمنون بالله؟ فالجواب أن ذلك إظهار لفضيلة الإِيمان وشرفه والترغيب فيه {وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا} أي وهم مع عبادتهم واستغراقهم في تسبيح الله وتمجيده، يطلبون من الله المغفرة للمؤمنين قائلين {رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا} أي يا ربنا وسعت رحمتُك وعلمك كل شيء، قال المفسرون: وفي وصف الله تعالى بالرحمة والعلم - وهو ثناءٌ قبل الدعاء - تعليمُ العباد أدب السؤال والدعاء، فهم يبدؤون دعاءهم بأدبٍ ويستمطرون إحسانه وفضله وإِنعامه {فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ} أي فاصفح عن المسيئين المذنبين، التائبين عن الشرك والمعاصي، المتبعين لسبيل الحق الذي جاء به أنبياؤك ورسلك {وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ} أي واحفظهم من عذاب جهنم {رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُم} أي أدخلهم جنات النعيم والإِقامة التي وعدتهم إياها {وَمَنْ صَلَحَ مِنْ ءابائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ} أي وأدخل الصالحين من الآباء والأزواج والأولاد في جنات النعيم أيضاً ليتم سرورهم بهم، قال ابن كثير: أي اجمع بينهم وبينهم لتقر بذلك أعينهم بالاجتماع في الجنة بمنازل متجاورة {إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} أي العزيز الذي لا يُغلب ولا يمتنع عليه شيء، الحكيم الذي لا يفعل إلا ما فيه الحكمة والمصلحة {وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ} هذا من تمام دعاء الملائكة أي احفظهم يا ربّ من فعل المنكرات والفواحش التي توبق أصحابها {وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ} أي ومن حفظته من نتائجها وعواقبها يوم القيامة، فقد لطفت به ونجيته من العقوبة {وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} أي وذلك الغفران ودخول الجنان، هو الظفر العظيم الذي لا ظفر مثله.



أحوال الكفار يوم القيامة، والتذكير بقدرته تعالى



{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الإِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ(10)قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ(11)ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ(12) هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ ءاياتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنْ السَّمَاءِ رِزْقًا وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلا مَنْ يُنِيبُ(13)فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ(14)رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ(15)يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ(16)الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ(17)}



ولما تحدث عن أحوال المؤمنين، ذكر شيئاً من أحوال الكافرين فقال {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ} أي تناديهم الملائكة يوم القيامة على جهة التوبيخ والتقريع: لبغض الله الشديد لكم في الدنيا أعظم من بغضكم اليوم لأنفسكم {إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الإِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ} أي حين كنتم تُدعون إلى الإِيمان فتكفرون كبراً وعتواً، قال قتادة: بغضُ الله لأهل الضلالة حين عُرض عليهم الإِيمان في الدنيا فأبوا أن يقبلوه، أكبرُ مما مقتوا أنفسهم حين عاينوا عذاب الله {قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ} أي قال الكفار لما رأوا الشدائد والأهوال ربَّنا أمتَّنا مرتين، وأحييتنا مرتين {فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا} أي فاعترفنا بما جنيناه من الذنوب في الدنيا {فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ} أي فهل تردنا إلى الدنيا لنعمل بطاعتك؟ وهل تخرجنا من النار لنسلك طريق الأبرار؟ قال المفسرون: الموتةُ الأولى حين كانوا في العدم، والموتة الثانية حين ماتوا في الدنيا، والحياة الأولى حياة الدنيا، والحياة الثانية حياةُ البعث يوم القيامة، فهاتان موتتان وحياتان، وإِنما قالوا ذلك على سبيل التعطف والتوسل إلى رضى الله، بعد أن عاينوا العذاب، وقد كانوا يكفرون وينكرون، ولهذا جاء الجواب {ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ} أي ذلكم العذاب والخلود في جهنم بسبب كفركم وعدم إِيمانكم بالله، فإِذا دعيتم إلى التوحيد كفرتم {وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا} وإِن دعيتم إلى اللات والعزَّى وأمثالهما من الأصنام، آمنتم وصدَّقتم بألوهيتها {فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ} أي فالقضاء لله وحده، لا للأوثان والأصنام، ولا سبيل إلى نجاتكم، لأن الله هو المتعالي على خلقه، العظيم في ملكه الذي يفعل ما يشاء، ويحكم ما يريد .. ولما ذكر تعالى ما يوجب التهديد الشديد للمشركين، أردفه بذكر ما يدل على كمال قدرته وحكمته ليصير بمنزلة البرهان على عدم جواز عبادة الأوثان فقال {هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ ءاياتِهِ} أي الله جل وعلا هو الذي يريكم أيها الناس دلائل قدرته الباهرة في مخلوقاته، في العالم العلوي والسفلي الدالة على كمال خالقها ومبدعها ومنشئها {وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنْ السَّمَاءِ رِزْقًا وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلا مَنْ يُنِيبُ} أي وينزِّل لكم من السماء المطر بهذه الآيات الباهرة، وما يتفكّر كل هذه النعم ويشكرها إلا من يرجع إلى الله بالتوبة والإِنابة، والعمل الصالح البعيد عن الرياء والنفاق {فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} أي فاعبدوا الله أيها المؤمنون مخلصين له العبادة والطاعة ولا تعبدوا معه غيره {وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} هذا للمبالغة أي اعبدوه وأخلصوا له قلوبكم، حتى ولو كره الكافرون ذلك، وغاظهم إخلاصهم وقاتلوكم عليه {رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ } أي هذا الإله الذي تدعونه عظيم الشأن والسلطان، صاحب الرفعة والمقام العالي {ذُو الْعَرْشِ} أي صاحب العرش العظيم، لا شيء يشبهه من مخلوقات الله، قال ابن كثير: أخبر تعالى عن عظمته وكبريائه، وارتفاع عرشه العظيم العالي على جميع مخلوقاته كالسقف لها، وقد ذُكر أن العرش من ياقوتةٍ حمراء ولا يعلم سعته إلا الله، وقال أبو السعود: وكونُ العرش العظيم المحيط بأكناف العالم العلوي والسفلي، تحت ملكوته وقبضة قدرته، مما يقضي بكون علو شأنه وعظم سلطانه، في غايةٍ لا غاية وراءها {يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} أي ينزل الوحي على من شاء من خلقه، ويختص بالرسالة والنبوة من أراد من عباده، وإِنما سمَّى الوحي روحاً لأنه يسري في القلوب كسريان الروح في الجسد، قال القرطبي: سمَّاه روحاً لأن الناس يحيون به من موت الكفر كما تحيا الأبدان بالأرواح {لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ} أي ليخوِّف الرسول العباد، ويذكّرهم بيوم المعاد، حيث يلتقون جميعاً ليحاسبوا على أعمالهم، ويلتقي الخلق بالخالق في ساعة الحساب، قال قتادة: يلتقي فيه أهل السماء بأهل الأرض، والخالق والخلق {يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ} أي يوم هم ظاهرون بادون للعيان، لا شيء يكنُّهم ولا يظلّهم ولا يسترهم من جبلٍ أو أكمةٍ أو بناء، لأنهم في أرض مستوية هي أرض المحشر {لا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ} أي لا يخفى على الله شيء من أحوالهم وأعمالهم ولا من سرائرهم وبواطنهم، قال الصاوي: والحكمة في تخصيص ذلك اليوم - مع أن الله لا يخفى عليه شيء في سائر الأيام - أنهم كانوا يتوهمون في الدنيا أنهم إذا استتروا بالحيطان مثلاً لا يراهم الله، وفي هذا اليوم لا يتوهمون هذا التوهم {لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ}؟ أي ينادي الله سبحانه والناسُ بارزون في أرض المحشر: لمن المُلكُ اليوم؟ ويسكت الخلائق هيبةً لله تعالى وفزعاً، فيجيب تعالى نفسه قائلاً {لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} أي لله المتفرد بالملك، الذي قهر بالغلبة كل ما سواه، قال الحسن: هو تعالى السائل وهو المجيب، لأنه يقول ذلك حين لا أحد يجيبه، فيجيب نفسه {الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ} أي في ذلك اليوم -يوم القضاء والفصل بين العباد - تُجازى كل نفسٍ بما عملت من خيرٍ أو شر {لا ظُلْمَ الْيَوْمَ} أي لا يُظلم أحد شيئاً، لا بنقص ثواب، ولا بزيادة عقاب {إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} أي سريعٌ حسابه، لا يشغله شأنٌ عن شأن، فيحاسب الخلائق جميعاً في وقتٍ واحد، قال القرطبي: كما يرزقهم في ساعةٍ واحدة، يحاسبهم كذلك في ساعةٍ واحدة، وفي الخبر: "لا ينتصف النهارُ حتى يقيل أهل الجنة في الجنة، وأهلُ النار في النار".



وصف يوم القيامة بأوصاف مخيفة



{وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الآزِفَةِ إِذْ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطَاعُ(18)يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ(19)وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ(20)أَوَ لَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ(21)ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَكَفَرُوا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ(22)}



{وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الآزِفَةِ} أي خوّفهم ذلك اليوم الرهيب يوم القيامة، قال ابن كثير: "الآزفة" اسم من أسماء القيامة، سميت بذلك لقربها كقوله تعالى {أزفت الآزفة} {إِذْ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ} أي تكاد قلوبهم لشدة الخوف والجزع تبلغ الحناجر - وهي الحلوق - مكان البلعوم {كَاظِمِينَ} أي ممتلئن غماً وحسرةً شأن المكروب، قال في التسهيل: معنى الآية أن القلوب قد صعدت من الصدور لشدة الخوف حتى بلغت الحناجر، ويحتمل أن يكون ذلك حقيقةً أو مجازاً عبَّر به عن شدة الخوف، والحنجرة هي الحلق {مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ} أي ليس للظالمين صديقٌ ينفعهم {وَلا شَفِيعٍ يُطَاعُ} أي ولا شفيع يشفع لهم لينقذهم من شدة العذاب {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ} أي يعلم جلَّ وعلا العين الخائنة بمسارقتها النظر إلى محرم، قال ابن عباس: هو الرجل يكون جالساً مع الناس، فتمرُّ المرأة فيسارقهم النظر إليها {وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} أي ويعلم السرَّ المستور تخفيه الصدور {وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ} أي يقضي ويحكم بالعدل {وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ} أي والذين يعبدونهم من دون الله من الأوثان والأصنام {لا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ} أي لا حكم لهم أصلاً فكيف يكونون شركاء لله؟ قال أبو السعود: وهذا تهكّمٌبهم لأن الجماد لا يقال في حقه يقضي أو لا يقضي {إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} أي هو السميع لأقوال العباد، البصير بأفعالهم {أَوَ لَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ}؟ أي أولم يعتبر هؤلاء المشركون في أسفارهم بما يرون من آثار المكذبين {فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ} أي فينظروا ما حلَّ بالمكذبين من العذاب والنكال؟ فإِنَّ العاقل من اعتبر بغيره {كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهمْ قُوَّةً} أي كانوا أشدَّ قوةً من هؤلاء الكفار من قومك {وَآثَارًا فِي الأَرْضِ} أي وأقوى آثاراً في الأرض من الحصون والقصور والجند الأشداء، ومع هذه القوة العظيمة والبأس الشديد أهلكهم الله لما كذبوا الرسل {فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ} أي أهلكهم الله إهلاكاً فظيعاً بسبب إجرامهم وتكذيبهم رسل الله {وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ} أي وما كان لهم أحد يدفع عنهم عذاب الله، ولا يقيهم من عقابه .. ثم ذكر تعالى سبب عقابه لهم فقال {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ} أي ذلك العذاب بسبب أنهم كانت تأتيهم رسلهم بالمعجزات الباهرات، والآيات الساطعات الواضحات {فَكَفَرُوا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ} أي فكفروا مع هذا البيان والبرهان فأهلكهم الله ودمَّرهم {إِنَّهُ قَوِيٌّ} أي إنه تعالى قويٌ لا يُقهر، ذو قوة عظيمة وبأسٍ شديد {شَدِيدُ العِقَابِ} أي إنّ عذابه أليم لمن عصاه، أعاذنا الله من عقابه وأجارنا من عذابه.



قصة موسى عليه السلام مع فرعون وهامان وقارون



{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ(23)إِلَى فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ(24)فَلَمَّا جَاءهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا اقْتُلُوا أَبْنَاءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِسَاءهُمْ وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلا فِي ضَلالٍ(25)وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الأَرْضِ الْفَسَادَ(26)وَقَالَ مُوسَى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ(27)}.



{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ} اللام موطئة للقسم أي والله لقد بعثنا رسولنا موسى بالآيات البينات، والدلائل الواضحات، وبالبرهان البيّن الظاهر وهو معجزة اليد والعصا {إِلَى فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ} أي إلى فرعون الطاغية الجبار، ووزيره هامان، وقارون صاحب الكنوز والأموال، قال أبو حيّان: وخصَّ قارون وهامان بالذكر لمكانتهما في الكفر، ولأنهما أشهر أتباع فرعون {فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ} أي فقالوا عن موسى إنه ساحر فيما أظهر من المعجزات، كذَّاب فيما ادعاه أنه من عند الله، وصيغة كذَّاب للمبالغة {فَلَمَّا جَاءهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنَا} أي فلما جاءهم بالمعجزات الباهرة التي تدل على صدقه، والتي أيَّده الله بها {قَالُوا اقْتُلُوا أَبْنَاءَ الَّذِينَ آمنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِسَاءهُمْ} أي اقتلوا الذكور لئلا يتناسلوا، واستبقوا الإِناث للخدمة، قال الصاوي: وهذا القتلُ غيرُ الأول، لأن فرعون بعد ولادة موسى أمسك عن قتل الأولاد، فلما بُعث موسى وعجز عن معارضته أعاد القتل في الأولاد ليمتنع الناس من الإِيمان، ولئلا يكثر جمعهم فيكيدوه، فأرسل الله عليهم أنواع العذاب كالضفادع والقُمَّل والدم والطوفان، إلى أن خرجوا من مصر فأغرقهم الله تعالى وجعل كيدهم في نحورهم {وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلا فِي ضَلالٍ} أي وما تدبيرهم ومكرهم إلا في خسران وهلاك، لأن الله لا يوفّقهم فيما يكيدونه للمؤمنين {وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى} أي قال فرعون الجبار: اتركوني حتى اقتلْ لكم موسى {وَلْيَدْعُ رَبَّهُ} أي وليناد ربه حتى يخلصه مني، وإِنما ذكره على سبيل الاستهزاء وكأنه يقول: لا يهولنكم ما يذكر من ربه فإِنه لا حقيقة له وأنا ربكم الأعلى، وغرضُه أن يوهمهم بأنه إِنما امتنع عن قتله رعايةً لقلوب أصحابه، قال أبو حيان: والظاهر أن فرعون لعنه الله كان قد استيقن أنه نبيٌ، وأن ما جاء به ءاياتٌ باهرة وما هو بسحر، ولكن الرجل كان فيه خبثٌ وجبروت وكان قتالاً سفاكاً للدماء لأهون شيء، فكيف لا يقتل من أحسَّ منه بأنه يهدّد عرشه ويهدم ملكه، ولكنه يخاف إن همَّ بقتله أن يُعاجل بالهلاك، وكان كلامه للتمويه على قومه وإيهامهم أنهم هم الذين يكفّونه، وما كان يكفُّه إلا شدةُ الخوف والفزع {إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ} أي إني أخشى أن يغيّر ما أنتم عليه من عبادتكم لي إلى عبادة ربه {أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الأَرْضِ الْفَسَادَ} أي أو أن يثير الفتن والقلاقل في بلدكم، ويكون بسببه الهرجُ، وهذا كما قال المثل "صار فرعون واعظاً" {وَقَالَ مُوسَى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ} أي إني استجرتُ بالله واعتصمتُ به ليحفظني {مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ} أي من شر كل جبارٍ عنيد متكبر عن الإِيمان بالله، لا يصدِّق بالآخرة، قال في التسهيل: وإِنما قال {مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ} ولم يذكره باسمه ليشمل فرعون وغيره، وليكون فيه وصفٌ لغير فرعون بذلك الوصف القبيح.

yacine414
2011-04-01, 17:49
دفاع مؤمن آل فرعون عن موسى عليه السلام



{وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّي اللَّهُ وَقَدْ جَاءكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ(28)يَا قَوْمِ لَكُمْ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الأَرْضِ فَمَنْ يَنصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءنَا قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلا سَبِيلَ الرَّشَادِ(29)وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الأَحْزَابِ(30)مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ(31)وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ(32)يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ(33)وَلَقَدْ جَاءكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءكُمْ بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولاً كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ(34)الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي ءاياتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ(35)}



{وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ} قال المفسرون: كان هذا الرجل ابن عم فرعون وكان قبطياً يخفي إيمانه عن فرعون، فلما سمع قول الجبار متوعداً موسى بالقتل نصحهم بقوله {أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّي اللَّهُ} استفهام إنكاري للتبكيت عليهم أي أتقتلون رجلاً لا ذنب له إلا لأجل أن قال: ربيَ الله من غير تفكرٍ ولا تأملٍ في أمره؟ {وَقَدْ جَاءكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ} أي والحال أنه قد أتاكم بالمعجزات الظاهرة التي شاهدتموها من عند ربكم {وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ} أي إن كان كاذباً في دعوى الرسالة فضرر كذبه لا يتعداه، قال القرطبي: ولم يكن ذلك لشكٍ منه في رسالته وصدقه، ولكنْ تلطفاً في الاستكفاف، واستنزالاً عن الأذى {وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ} أي وإِن كان صادقاً في دعواه أصابكم بعضُ ما وعدكم به من العذاب {إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ} أي لا يوفق للهداية والإِيمان من هو مسرفٌ في الضلال، مبالغ في الكذب على الله، قال الإِمام فخر الدين الراي: وفي هذا إشارة إلى رفع شأن موسى لأن الله هداه وأيده بالمعجزات، وتعريضٌ بفرعون في أنه مسرفٌ في عزمه على قتل موسى، كذَّاب في إِقدامه على ادعاء الإِلهية، والله لا يهدي من هذا شأنه وصفته، بل يبطله ويهدم أمره، وقال أبو حيّان: هذا نوعٌ من أنواع علم البيان يسميه علماؤنا "استدراج المخاطب" وذلك أنه لما رأى فرعون قد عزم على قتل موسى، وقومه على تكذيبه، أراد الانتصار له بطريق يُخفي عليهم بها أنه متعصبٌ له، وأنه من أتباعه، فجاءهم بطريق النصح والملاطفة فقال {أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً} ولم يذكر اسمه بل قال رجلاً ليوهمهم أنه لا يعرفه، ثم قال {أَنْ يَقُولَ رَبِّي اللَّهُ} ولم يقل رجلاً مؤمناً بالله أو هو نبيُ الله، إذ لو قال ذلك لعلموا أنه متعصب ولم يقبلوا قوله، ثم أتبعه بقوله {وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا} فقدَّم الكذب على الصدق موافقة لرأيهم فيه ثم تلاه بقوله {وَإِنْ يَكُ صَادِقًا} ولم يقل هو صادق وكذلك قال {يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ} ولم يقل كلُّ ما يعدكم ولو قال ذلك لعلموا أنه متعصب له، وأنه يزعم نبوته وأنه يصدّقه، ثم أتبعه بكلام يفهم منه أنه ليس بمصدِّق له وهو قوله {إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ} وفيه تعريضٌ بفرعون، إذ هو في غاية الإِسراف والكذب على الله، إذْ ادعى الألوهية والربوبية {يَا قَوْمِ لَكُمْ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الأَرْضِ} كرر النصح مع التلطف والمعنى: أنتم غالبون عالون على بني إسرائيل في أرض مصر قد قهرتموهم واستعبدتموهم اليوم {فَمَنْ يَنصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءنَا} أي فمن ينقذنا من عذاب الله وينجينا منه إن قتلتم رسوله، قال الرازي: وإِنما قال {يَنصُرُنَا}و{جَاءنَا} لأنه كان يُظهر لهم أنه منهم، وأنَّ الذي ينصحهم به هو مشارك لهم فيه .. وهنا تأخذ فرعون العزةُ بالإِثم، ويستبدُّ به الجبروت والطغيان {قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلا مَا أَرَى} أي ما أشير عليكم برأيٍ سوى ما ذكرتُه من قتل موسى حسماً لمادة الفتنة {وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلا سَبِيلَ الرَّشَادِ} أي وما أهديكم بهذا الرأي إلا طريق الصواب والصلاح {وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الأَحْزَابِ} أي أخشى عليكم مثل أيام العذاب التي عُذّب بها المتحزبون على الأنبياء {مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ} هذا تفسير للأحزاب أي مثل عادة قوم نوح وعاد وثمود وما أصابهم من العذاب والدمار بتكذيبهم لرسلهم {وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ} أي والمكذبين بعد أولئك كقوم لوط {وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ} أي لا يعاقب العباد بدون ذنب، قال الزمخشري: أي إن تدميرهم كان عدلاً وقسطاً لأنهم استوجبوه بأعمالهم، وفيه مبالغة حيث جعل المنفي إرادة الظلم، ومن كان بعيداً عن إرادة الظلم، كان عن الظلم أبعد {وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ} خوَّفهم بعذاب الآخرة بعد أن خوفهم بعذاب الدنيا والمعنى إني أخاف عليكم من ذلك اليوم الرهيب يوم الحشر الأكبر، حيث ينادي المجرمون بالويل والثبور {دعوا هنالك ثُبُوراً} {يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ} أي تولون منهزمين من هول عذاب جهنم، قال المفسرون: إن الكفار إذا سمعوا زفير النار أدبروا هاربين، فلا يأتون قطراً من الأقطار إلا وجدوا الملائكة يتلقونهم يضربون وجوههم، فيرجعون إلى مكانهم فتتلقفهم جهنم {مَا لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ} أي ليس لكم مانع ولا دافع يصرف عنكم عذاب الله {وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} أي ومن يضلله اللهُ فليس له من يهديه إلى طريق النجاة {وَلَقَدْ جَاءكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ} أي ووالله لقد جاءكم يوسف بن يعقوب من قبل موسى بالمعجزات الظاهرات {فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءكُمْ بِهِ} أي فلَم تزالوا شاكين في رسالته كافرين بما جاء به من عند الله، قال المفسرون: المراد ءاباؤكم وأصولكم {حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولاً} أي حتى إذا مات قلتم على سبيل التشهّي والتمني من غير حجة ولا برهان لن يأتي أحد يدعي الرسالة بعد يوسف، قال أبو حيان: وليس هذا تصديقاً لرسالة يوسف، كيف وما زالوا في شك منه، وإِنما المعنى لا رسول من عند الله فيبعثه إلى الخلق، ففيه نفي الرسول ونفي بعثته {كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ} أي مثل ذلك الضلال الفظيع يُضلُّ الله كل مسرفٍ في العصيان، شاكٍّ في الدين، بعد وضوح الحجج والبراهين {الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ} هذا من تتمة كلام الرجل المؤمن والمعنى الذين يجادلون في شريعة الله بغير حجة وبرهان جاءهم من عند الله {كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا} أي عظُم بغضاً عند الله وعند المؤمنين جدالُهم بغير برهان، قال أبو حيّان: عدل الواعظ عن مخاطبتهم إلى الاسم الغائب، لحسنِ محاورته لهم واستجلاب قلوبهم، لئلا يفجأهم بالخطاب، وفي قوله {كبُر مقتاً} ضربٌ من التعجب والاستعظام لجدالهم، كأنه خارج عن حدِّ أمثاله من الكبائر {كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ} أي كما ختم على قلوب هؤلاء المجادلين كذلك يختم بالضلال على قلب كل متكبر عن الإِيمان، متجبرٍ على العباد، حتى لا يعقل الرشاد، ولا يقبل الحق، وإِنما وصف القلب بالتكبر والجبروت لكونه مركزهما ومنبعهما، وهو سلطان الأعضاء، فمتى فسد فسدت.



تكبر فرعون بسؤاله عن إله موسى عليه السلام



{وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الأَسْبَابَ(36)أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لأَظُنُّهُ كَاذِبًا وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلا فِي تَبَابٍ(37)}



{وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا} أي قال فرعون لوزيره هامان ابن لي قصراً عالياً، وبناءً شامخاً منيفاً، قال القرطبي: لما قال مؤمن آل فرعون ما قال، وخاف فرعون أن يتمكن كلامه في قلوب القوم، أوهم أنه يمتحن ما جاء به موسى من التوحيد، فأمر وزيره هامان ببناء الصرح {لَعَلِّي أَبْلُغُ الأَسْبَابَ أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ} أي لعلي أصل وأنتهي إلى طرق السماوات وما يؤدي إليها، وكررها للتفخيم والبيان {فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى} أي فأنظر إلى إله موسى نظر عيان {وَإِنِّي لأَظُنُّهُ كَاذِبًا} أي وإِني لأعتقد موسى كاذباً في ادعائه أن له إلهاً غيري، قال أبو حيان: وبلوغُ أسباب السماوات غير ممكن، لكنَّ فرعون أبرزه في صورة الممكن تمويهاً على سامعيه، ولما قال {فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى} كان ذلك إقراراً بالإِله فلذلك استدرك هذا الإِقرار بقوله {وَإِنِّي لأَظُنُّهُ كَاذِبًا} {وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ} أي ومثل ذلك التزيين زُيّن لفرعون عمله السيء حتى رآه حسناً {وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ} أي ومُنع بضلاله عن طريق الهدى {وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلا فِي تَبَابٍ} أي وما تدبير فرعون ومكره إلا في خسار وهلاك، خسر ملكه في الدنيا بالغرق، وفي الآخرة بالخلود في النار.



متابعة الرجل المؤمن نصحه لقومه



{وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ(38)يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ(39)مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا يُجْزَى إِلا مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ(40)وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ(41)تَدْعُونَنِي لأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ(42)لا جَرَمَ أَنَّمَا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا وَلا فِي الآخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى اللَّهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ(43)فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ(44)فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ(45)النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ(46)}.



{وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ} كرَّر مؤمن آل فرعون نصحه لهم بعد تلك المراوغة التي لقيها من فرعون، ودعا قومه إلى الإِيمان بالله الواحد الأحد، وكشف لهم عن قيمة الحياة الزائلة، وشوَّقهم إلى نعيم الحياة الباقية، وحذَّرهم من عذاب الله، ومعنى الآية: امتثلوا يا قوم أمري واسلكوا طريقي أرشدكم إلى طريق الفوز والنجاة -طريق الجنة- {يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ} أي ليست الدنيا إلا متاعاً زائلاً، لا ثبات له ولا دوام {وَإِنَّ الآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ} أي وإِن الدار الآخرة هي دار الاستقرار والخلود، التي لا زوال لها ولا انتقال منها، فإِما خلود في النعيم، أو خلود في الجحيم، قال القرطبي: ومراده بالدار الآخرة الجنة والنار لأنهما لا يفنيان {مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا يُجْزَى إِلا مِثْلَهَا} أي من عمل في هذه الدنيا سيئةً فلا يعاقب في الآخرة إلا بمقدارها دون زيادة، رحمة منه تعالى بالعباد {وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ} أي ومن فعل في الدنيا العمل الصالح سواءً كان ذكراً أو أنثى بشرط الإِيمان {فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ} أي فأولئك المحسنون يدخلون جنات النعيم، ويعطون جزاءهم بغير تقدير، بل أضعافاً مضاعفة فضلاً من الله وكرماً، فقد اقتضى فضله تعالى أن تضاعف الحسناتُ دون السيئات، قال ابن كثير: {بِغَيْرِ حِسَابٍ} أي لا يقدّر بجزاء، بل يثيبه الله ثواباً كثيراً عظيماً، لا انقضاء له ولا نفاد {وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ} ؟ أي ما لي أدعوكم إلى الإِيمان الموصل إلى الجنان، وتدعونني إلى الكفر الموصل إلى النار ؟ والاستفهام للتعجب كأنه يقول: أنا أتعجب من حالكم هذه، أدعوكم إلى النجاة والخير، وتدعونني إلى النار والشر؟ ثم وضَّح ذلك بقوله {تَدْعُونَنِي لأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ} أي تدعونني للكفر بالله، وأن أعبد ما ليس لي علمٌ بربوبيته، وما ليس بإِلهٍ كفرعون {وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ} أي وأنا أدعوكم إلى عبادة الله الواحد الأحد، العزيز الذي لا يُغلب، الغفَّار لذنوب العباد {لا جَرَمَ أَنَّمَا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ} أي حقاً إنما تدعونني لعبادته {لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا وَلا فِي الآخِرَةِ} أي لا يصلح أن يُعبد لأنه لا يستجيب لنداء داعيه، ولا يقدر على تفريج كربته لا في الدنيا ولا في الآخرة {وَأَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى اللَّهِ} أي وأن مرجعنا إلى الله وحده فيجازي كلاً بعمله {وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ} أي وأن المسرفين في الضلال والطغيان سيخلدَّون في النار {فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ} أي فستذكرون صدق كلامي عندما يحل بكم العذاب، وهو تهديد ووعيد {وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ}أي أتوكل على الله، وأسلّم أمري إليه، قال القرطبي: وهذا يدل على أنهم هدَّدوه وأرادوا قتله {إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} أي مطلع على أعمالهم، لا تخفى عليه خافية من أحوالهم {فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا} أي فنجاه الله من شدائد مكرهم، ومن أنواع العذاب الذي أرادوا إلحاقه به {وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ} أي ونزل بفرعون وجماعته أسوأ العذاب، وهو الغرق في الدنيا، والحرق في الآخرة، ثم فسَّره بقوله {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا} أي النار يُحرقون بها صباحاً ومساء، قال المفسرون: المراد بالنار هنا نار القبر وعذابهم في القبور بدليل قوله بعده {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} أي ويوم القيامة يقال للملائكة: ادخلوا فرعون وقومه نار جهنم التي هي أشد من عذاب الدنيا.



مخاصمة الأسياد والاتباع في النار



{وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيبًا مِنْ النَّارِ(47)قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيهَا إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ(48) وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِنَ الْعَذَابِ(49)قَالُوا أَوَ لَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا بَلَى قَالُوا فَادْعُوا وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلا فِي ضَلالٍ(50)}



{وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ} أي واذكر حين يختصم الرؤساء والأتباع في نار جهنم {فَيقُولُ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا} أي فيقول الأتباع الضعفاء للرؤساء المستكبرين عن الإِيمان واتباع الرسل، إِنا كنا لكم في الدنيا أتباعاً كالخدم ننقاد لأوامركم، ونطيعكم فيما تدعوننا إليه من الكفر والضلال {فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيبًا مِنَ النَّارِ} ؟ أي فهل أنتم دافعون عنا جزءاً من هذا العذاب الذي نحن فيه؟ قال الرازي: علموا أن أولئك الرؤساء لا قدرة لهم على ذلك التخفيف، وإِنما مقصودهم من هذا الكلام المبالغة في تخجيل الرؤساء، وإِيلام قلوبهم، لأنهم سعوا في إيقاعهم في أنواع الضلالات {قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيهَا} أي قال الرؤساء جواباً لهم: إنَّا جميعاً في نار جهنم، فلو قدرنا على إزالة العذاب عنكم لدفعناه عن أنفسنا {إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ} أي قضى قضاءً مبرماً لا مردَّ له، بدخول المؤمنين الجنة، والكافرين النار، فلا نستطيع أن نفعل لكم شيئاً {وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ} لما يئس أهل النار بعضهم من بعض التجأوا إلى حراس جهنم يطلبون منهم التخفيف، قال البيضاوي: وإِنما وضع جهنم موضع الضمير {لِخَزَنَةِ جهَنَّمَ} بدلاً من "لخزنتها" للتهويل والتفظيع {ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِنَ الْعَذَابِ} أي أدعوا لنا الله أن يخفف عنا ولو مقدار يوم واحد من العذاب {قَالُوا أَوَ لَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ}؟ أي أجابتهم الملائكة على سبيل التوبيخ والتقريع: ألم تأتكم الرسل بالمعجزات الظاهرات فكفرتم بهم وكذبتموهم؟ {قَالُوا بَلَى} أي قال الكفار بل جاءونا {قَالُوا فَادْعُوا} أي قالت لهم الملائكة: فادعوا اللهَ أنتم فإِنا لا نجترئ على ذلك، قال الرازي: وليس قولهم {فَادْعُوا} لرجاء المنفعة، ولكنْ للدلالة على الخيبة، فإِن الملائكة المقربين إذا لم يُسمع دعاؤهم، فكيف يسمع دعاء الكفار؟ ثم يصرّحون لهم بأنه لا أثر لدعائهم فيقولون {وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلا فِي ضَلالٍ} أي دعاؤكم لا ينفع ولا يجدي لأن دعاء الكافرين ما هو إلا في خسار وتبار.







نصرة الله لرسله على أعدائهم في الدنيا والآخرة



{إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ(51)يَوْمَ لا يَنفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمْ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ(52)وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْهُدَى وَأَوْرَثْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ(53)هُدًى وَذِكْرَى لأُولِي الأَلْبَابِ(54)فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالإِبْكَارِ(55)إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي ءاياتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ(56)}.



سبب النزول:

نزول الآية (56):

{إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ}: أخرج ابن أبي حاتم عن أبي العالية قال: جاءت اليهود إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكروا الدجال، فقالوا: يكون منا في آخر الزمان، فعظَّموا أمره، وقالوا: يصنع كذا ويملكون به الأرض، فأنزل الله: {فِي ءاياتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} فأمر نبيه أن يتعوذ من فتنة الدجال.

ومع أن الآية نزلت في مشركي مكة منكري البعث أو في اليهود كما تبين، فهي عامة في كل مجادل مبطل. لكن قال ابن كثير عما ذكره أبو العالية: وهذا قول غريب، وفيه تعسف بعيد، وإن كان قد رواه ابن أبي حاتم. والأصح أن الآية نزلت في المشركين والكفار عامة.



{إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} أي ننصر الرسل والمؤمنين بالحجة والظفر والانتقام لهم من الكفرة المجرمين في هذه الحياة الدنيا {وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ} أي وفي الآخرة يوم يحضر الأشهاد الذين يشهدون بأعمال العباد، من مَلك ونبيٍ ومؤمن، قال الرازي: الآية وعدٌ من الله تعالى لرسوله بأن ينصره على أعدائه في الحياة الدنيا وفي الآخرة {يَوْمَ لا يَنفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ} أي لا ينفع المجرمين اعتذارهم، قال ابن جرير: لا ينفع أهل الشرك اعتذارهم، لأنهم لا يعتذرون إلا بباطل {وَلَهُمْ اللَّعْنَةُ} أي الطردُ من رحمة الله {وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ} أي ولهم جهنم أسوأ مرجع ومصير، قال ابن عباس: {سُوءُ الدَّارِ} سوءُ العاقبة {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْهُدَى} أي والله لقد أعطينا "موسى بن عمران" ما يُهتدى به في الدين، من المعجزات والصحف والشرائع {وَأَوْرَثْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ} أي أورثناهم العلم النافع والكتاب الهادي وهو "التوراة" {هُدًى وَذِكْرَى لأُولِي الأَلْبَابِ} أي هادياً وتذكرةً لأصحاب العقول السليمة {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ} أي فاصبر يا محمد على أذى المشركين، فإِن وعد الله لك ولأتباعك بالنصر على الأعداء، حقٌ لا يمكن أن يتخلف، لأن الله لا يخلف الميعاد، قال الإِمام فخر الدين الرازي: لما بيَّن تعالى أنه ينصر رسله، وضرب المثال في ذلك بحال موسى، خاطب بعده رسوله بقوله {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ} والمراد أنَّ الله ناصرك كما نصرهم، ومنجزٌ وعده لك كما أنجزه في حقهم {وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} أي واطلب المغفرة من ربك على ما فرط منك من ترك الأولى والأفضل، قال الصاوي: والمقصودُ من هذا الأمر تعليم الأمة ذلك، وإلا فرسول الله صلى الله عليه وسلم معصومٌ من الذنوب جميعاً، صغائر وكبائر قبل النبوة وبعدها على التحقيق، وقال ابن كثير: وهذا تهييجٌ للأمة على الاستغفار {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالإِبْكَارِ} أي ودمْ على تسبيح ربك في المساء والصباح، قال الرازي: والمرادُ منه الأمرُ بالمواظبة على ذكر الله، وألاَّ يفتر اللسان عنه، حتى يصبح في زمرة الملائكة الأبرار، الذين {يسبّحون الليلَ والنهار لا يفْتُرون} والمرادُ بالتسبيح تنزيهُ اللهِ على كل ما لا يليق به، ثم نبه تعالى إلى السبب الدافع للكفار إلى المجادلة بالباطل فقال {إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي ءاياتِ اللَّهِ} أي يخاصمون في الآيات المنزلة {بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ} أي بلا برهانٍ ولا حجةٍ من الله {إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلا كِبْرٌ} أي ما في قلوبهم إلا تكبرٌ وتعاظم يمنعهم من اتباعك والانقياد إليك {مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ} أي ما هم بواصلين إلى مرادهم من إطفاء نور الله، ولا بمؤملين مقصدهم بالعلو عليك {فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} أي فالتجئ وتحصَّنْ بالله من كيدهم، فإن الله يدفع عنك شرهم، لأنه هو السميعُ لأقوالهم العليمُ بأحوالهم.



دلائل قدرته ووحدانيته



{لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ(57) وَمَا يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَلا الْمُسِيءُ قَلِيلاً مَا تَتَذَكَّرُونَ(58)إِنَّ السَّاعَةَ لآتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيهَا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ(59)وَقَالَ رَبُّكُمْ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ (60)اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ(61)ذَلِكُمْ اللَّهُ رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لا إِلَهَ إِلا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ(62)كَذَلِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كَانُوا بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ(63)اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ الأَرْضَ قَرَارًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ(64)هُوَ الْحَيُّ لا إِلَهَ إِلا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ(65)}.



ثم ذكر تعالى الدلائل الدالة على قدرته ووحدانيته فقال {لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ} اللام لام الابتداء أي لخلقُ الله للسماواتِ والأرضِ وإِنشاؤُهما وابتداعهما من غير شيء أعظم من خلق البشر، فمن قدر على خلقهما مع عظمهما كيف يعجز عن خلق ما هو أحقر وأهون؟ قال ابن جزي: والغرض الاستدلال على البعث، لأن الإِله الذي خلقَ السماواتِ والأرض على كبرها، قادرٌ على إعادة الأجسام بعد فنائها {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} أي ولكنَّ أكثر الناس لا يعلمون ذلك، لأنهم لا يتأملون لغلبة الجهل عليهم، وفرط غفلتهم واتباعهم لأهوائهم {وَمَا يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ} أي لا يتساوى المؤمن والكافر {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَلا الْمُسِيءُ} أي ولا البرُّ والفاجر {قَلِيلاً مَا تَتَذَكَّرُونَ} أي لا تتعظون بهذه الأمثال إلا قليلاً قال ابن كثير: والمراد أنه كما لا يستوي الأعمى الذي لا يبصر شيئاً، والبصير الذي يرى ما انتهى إليه بصره، كذلك لا يستوي المؤمنون الأبرار، والكفرة الفجار، ما أقلَّ ما يتذكر كثيرٌ من الناس؟ {إِنَّ السَّاعَةَ لآتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيهَا} أي إن القيامة آتيةٌ لا محالة، لا شك في ذلك ولا مرية {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ} أي ولكنَّ أكثر الناس لا يصدقون بمجيئها، ولذلك ينكرون البعث والجزاء، قال الرازي: والمراد بأكثر الناس الكفار الذين ينكرون البعث والقيامة {وَقَالَ رَبُّكُمْ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} أي ادعوني أجبْكم فيما طلبتم، وأعطكم ما سألتم، قال ابن كثير: ندب تعالى عباده إلى دعائه، وتكفَّل لهم بالإِجابة فضلاً منه وكرماً {إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} أي إنَّ الذين يتكبرون عن دعاء الله سيدخلون جهنم أذلاء صاغرين .. ثم ذكر تعالى من آثار قدرته ووحدانيته، ما يلزم منه إفراده بالعبادة والشكر فقال {اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا} أي الله جل وعلا بقدرته وحكمته هو الذي جعل لكم الليل مظلماً لتستريحوا فيه من تعب وعناء العمل بالنهار، وجعل النهار مضيئاً لتتصرفوا فيه بأسباب الرزق وطلب المعاش {إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ} أي إنه تعالى متفضل على العباد، وهو صاحب الجود والإِحسان إليهم {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ} أي ولكنَّ أكثر الناس لا يشكرون الله على إحسانه، ويجحدون فضله وإِنعامه {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} أي ذلكم المتفرد بالخلق والإِنعام هو الله ربكم، خالق كل الأشياء {لا إِلَهَ إِلا هُوَ} أي لا معبود في الوجود سواه {فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ} أي فكيف تصرفون عن عبادة الخالق المالك إلى عبادة الأوثان؟ {كَذَلِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كَانُوا بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} أي كذلك يُصرف عن الهدى والحق الذين جحدوا بآيات الله وأنكروها، قال الصاوي: وهذه تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم والمعنى لا تحزن يا محمد على إِنكار قومك فإِن من قبلهم فعل ذلك، ثم زاد في البيان ودلائل القدرة فقال {اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ الأَرْضَ قَرَارًا} أي جعلها مستقراً لكم في حياتكم وبعد مماتكم، قال ابن عباس: جعلها منزلاً لكم في حال الحياة وبعد الموت {وَالسَّمَاءَ بِنَاءً} أي وجعل السماء سقفاً محفوظاً، كالقبة المبنية مرفوعة فوقكم {وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ} أي صوَّركم أحسن تصوير، وخلقكم في أحسن الأشكال، متناسبي الأعضاء، ولم يجعلكم كالبهائم منكوسين تمشون على أربع، قال الزمخشري: لم يخلق تعالى حيواناً أحسن صورةً من الإِنسان، وهذه مثل قوله تعالى {لقد خلقنا الإِنسان في أحسن تقويم}. {وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ} أي ورزقكم من أنواع اللذائذ {ذَلِكُمْ اللَّهُ رَبُّكُمْ} أي ذلكم الفاعل لهذه الأشياء والمنعم بهذه النعم هو ربكم لا إله إلا هو {فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} أي فتعالى وتمجَّد وتقدس ربُّ جميع المخلوقات الذي لا تصلح الربوبية إلاَّ له {هُوَ الْحَيُّ لا إِلَهَ إِلا هُوَ} أي هو تعالى المتفرد بالحياة الذاتية الحقيقية، الباقي الذي لا يموت، لا إله سواه {فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} أي فاعبدوه وحده مخلصين له العبادة والطاعة ظاهراً وباطناً قائلين {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} أي الثناء والشكر لله مالك جميع المخلوقات، لا للأوثان التي لا تملك شيئاً.



النهي عن عبادة غير الله، وبيان فضله على الإنسان



{قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَمَّا جَاءنِي الْبَيِّنَاتُ مِنْ رَبِّي وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ(66)هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخًا وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلاً مُسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ(67)هُوَ الَّذِي يُحْيِ وَيُمِيتُ فَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ(68)}.



سبب النزول:

نزول الآية (66):

{قُلْ إِنِّي نُهِيتُ..}: أخرج جويبر عن ابن عباس أن الوليد بن المغيرة وشيبة بن ربيعة قالا: يا محمد، ارجع عما تقول بدين ءابائك، فأنزل الله: {قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} الآية.



ولما بيَّن صفات الجلال والعظمة، نهى عن عبادة غير الله فقال {قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} أي قل يا محمد إن ربي العظيم الجليل نهاني أن أعبد هذه الآلهة التي تعبدونها من الأوثان والأصنام، قال الصاوي: أمر تعالى نبيه أن يخاطب قومه بذلك زجراً لهم، حيث استمروا على عبادة غير الله، بعد ظهور الأدلة العقلية والنقلية {لَمَّا جَاءنِي الْبَيِّنَاتُ مِنْ رَبِّي} أي حين جاءتني الآيات الواضحات من عنده، الدالة على وحدانيته، قال الرازي: والبيناتُ هي أن إله العالم قد ثبت كونه موصوفاً بصفات الجلال والعظمة، وصريح العقل يشهد بأن العبادة لا تليق إلا به، وأن جعل الحجارة المنحوتة والأخشاب المصورة، شركاء له في المعبودية مستنكرٌ في بديهة العقل {وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} أي وأمرت أن أذل وأخضع لله وحده، وأن أخلص له ديني، وأطهّر نفسي من عبادة غيره.

{هوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ} هذا بيانٌ للأطوار التي مرَّ بها خلقُ الإِنسانِ أي هو جْل وعلا بقدرته الذي أوجدكم أيها الناس من العدم، فخلق أصلكم آدم من تراب، ثم خلق ذريته من النطفة وهي المنيُّ، ثم من علقة وهي الدم الغليظ، إلى آخر تلك الأطوار {ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً} أي ثم بعد أن ينفصل الجنين من بطن الأم يكون طفلاً {ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ} أي ثم لتبلغوا كمالكم في القوة والعقل، وهو سنُّ الأربعين {ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخًا} أي ثم لتصبحوا في سنِّ الهرم والشيخوخة، قال الإِمام فخر الدين الرازي: رتَّب تعالى عمر الإِنسان على ثلاث مراتب: الطفولة، وبلوغ الأشد، والشيخوخة، وهذا ترتيب مطابق للعقل، فإِن الإِنسان في أول عمره يكون في النمَّاء والنشوء وهو المسمى بالطفولة، إلى أن يبلغ إلى كمال النشوء من غير أن يحصل له ضعف، وهذا بلوغ الأشد، ثم يبدأ بالتراجع ويبدأ فيه الضعف والنقص، وهذه مرتبة الشيخوخة {وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ} أي ومنكم من يُتوفى قبل أن يخرج إلى العالم وهو السِّقطُ، وقال مجاهد: من قبلِ سنِّ الشيخوخة {وَلِتَبْلُغُوا أَجَلاً مُسَمًّى} أي ولتصلوا إلى الزمان الذي حُدِّد لكل شخصٍ وهو الموتُ {وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} أي ولكي تعقلوا دلائل قدرته تعالى وتؤمنوا بأنه الواحد الأحد {هُوَ الَّذِي يُحْيِ وَيُمِيتُ} أي هو القادر جل وعلا على الإِحياء والإِماتة {فَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} أي فإِذا أراد أمراً من الأمور فلا يحتاج إلى تعب وعناء، وإِنما يوجد فوراً دون تأخير، قال أبو السعود: وهذا تمثيلٌ لكمال قدرته، وتصوير لسرعة وجودها من غير أن يكون هناك أمرٌ ومأمور.



جزاء المجادلين بالباطل



{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي ءاياتِ اللَّهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ(69)الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتَابِ وَبِمَا أَرْسَلْنَا بِهِ رُسُلَنَا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ(70)إِذْ الأَغْلالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ(71)فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ(72)ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ(73)مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُو مِنْ قَبْلُ شَيْئًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكَافِرِينَ(74)ذَلِكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ(75)ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ(76)}.



ثم عاد إلى ذم المجادلين في ءايات الله بالباطل فقال {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ} الاستفهام للتعجيب أي ألا ترى أيها السامع وتعجبْ من حال هؤلاء المكابرين، الذين يجادلون في آيات الله والواضحة، كيف تُصرف عقولهم عن الهدى إلى الضلال؟ ثم بيَّنهم بقوله {الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتَابِ وَبِمَا أَرْسَلْنَا بِهِ رُسُلَنَا} أي الذين كذبوا بالقرآن، وبسائر الكتب والشرائع السماوية {فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} وعيدٌ وتهديد أي سوف يعلمون عاقبة تكذيبهم {إِذْ الأَغْلالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ} أي حين يدخلون النار، وتربط أيديهم إلى أعناقهم بالأغلال والسلاسل {يُسْحَبُونَ* فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ} أي يسحبون بتلك السلاسل في الماء الحارِّ المسخّن بنار جهنم، ثم يُوقدون ويحرقون فيها، قال ابن كثير: ومعنى الآية أن السلاسل متصلة بالأغلال وهي بأيدي الزبانية، يسحبونهم على وجوههم تارةً إلى الحميم، وتارة إلى الجحيم كما قال تعالى {يطوفون بينها وبين حميم آنْ} {ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ * مِنْ دُونِ اللَّهِ} أي ثم قيل لهم تبكيتاً: أين هي الأوثان والأصنام التي كنتم تعبدونها وتجعلونها شركاء لله؟ {قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا} أي فيقولون: غابوا عن عيوننا فلا نراهم ولا نستشفع بهم {بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُو مِنْ قَبْلُ شَيْئًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكَافِرِينَ} أي بل لم نكن نعبد شيئاً، قال المفسرون: جحدوا عبادتهم، وإِنما فعلوا ذلك لحيرتهم واضطرابهم {كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكَافِرِينَ} أي مثل إضلال هؤلاء المكذبين يضلُّ الله كل كافر {ذَلِكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} أي ذلكم العذاب بما كنتم تظهرونه في الدنيا من السرور بالمعصية وكثرة المال وإِنفاقه في المحرمات {وَبِمَا كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ} أي وبسبب بطركم وأشركم وخيلائكم، قال الصاوي: وهذا وإِن كان ذماً في الكفار، إلا أنه يجرُّ بذيله على كل من توسَّع في معاصي الله، فله من هذا الوعيد نصيب {ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا} أي ادخلوا من أبواب جهنم السبعة المقسومة لكم ماكثين فيها أبداً {فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ} أي بئست جهنم مقراً وسكناً للمستكبرين عن ءايات الله، المعرضين عن دلائل الإِيمان والتوحيد، وإِنما قال {مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ} ولم يقل فبئس مدخل المتكبرين وهو مقتضى النظم، لأن الدخول لا يدوم، وإِنما يدوم المثوى ولذا خصه بالذمِّ.



أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالصبر على الأذى



{فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ(77)وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ فَإِذَا جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْمُبْطِلُونَ(78)}.



{فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ} أي فاصبر يا محمد على تكذيب قومك لك، فإِن وعد الله بتعذيبهم كائنٌ لا محالة، قال الصاوي: هذا تسلية من الله لنبيه صلى الله عليه وسلم ووعدٌ حسن بالنصر له على أعدائه {فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ} أي إنْ أريناك بعض الذي نعدهم من العذاب، وجواب الشرط محذوفٌ تقديره فذلك هو المطلوب، او لتقرَّ به عينُك {أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ} أي أو نتوفينَّك يا محمد قبل إنزال العذاب عليهم، فإِلينا مرجعهم يوم القيامة فننتقم منهم أشدَّ الانتقام، ثم أخبره تعالى بأنباء الرسل تسليةً له عليه السلام فقال {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ} أي والله لقد بعثنا يا محمد رسلاً كثيرين قبلك، وأيدناهم بالمعجزات الباهرة فجادلهم قومهم وكذبوهم فتأسَّ بهم في الصبر على ما ينالك، قال القرطبي: عزَّاه تعالى بما لقيت الرسلُ من قبله {مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ} أي من هؤلاء الرسل من أخبرناك عن قصصهم مع قومهم، ومنهم من لم نخبرك عن قصصهم وأخبارهم {وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ} أي وما صحَّ ولا استقام لرسولٍ من الرسل أن يأتي قومه بشيء من المعجزات إلا بأمر الله، وهذا ردٌ على قريش حيث قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم اجعل لنا الصفا ذهباً وغير ذلك من مقترحاتهم {فَإِذَا جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ} أي فإِذا جاء الوقت المسمّى لعذابهم أهلكهم الله {وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْمُبْطِلُونَ} أي خسر في ذلك الحين المعاندون الذين يجادلون في ءايات الله، ويقترحون المعجزات على سبيل التعنت.





تذكير الله بنعمه



{اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ الأَنْعَامَ لِتَرْكَبُوا مِنْهَا وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ(79)وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْهَا حَاجَةً فِي صُدُورِكُمْ وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ(80)وَيُرِيكُمْ ءاياتِهِ فَأَيَّ ءاياتِ اللَّهِ تُنكِرُونَ(81)}.



ثم ذكَّرهم تعالى بنعمه فقال {اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ الأَنْعَامَ} أي الله جلَّ وعلا الذي لا تصلح الألوهية إلا له، هو الذي سخَّر لكم هذه الأنعام "الإِبل والبقر والغنم" وخلقها لكم ولمصلحتكم {لِتَرْكَبُوا مِنْهَا وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ} أي لتركبوا على ظهور بعض هذه الحيوانات، وتأكلوا من لحومها وألبانها، {وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ} أي ولكم في هذه الأنعام منافع عديدة في الوبر والصوف والشعر، واللبن والزبد والسمن {وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْهَا حَاجَةً فِي صُدُورِكُمْ} أي بحمل الأثقال في الأسفار البعيدة {وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ} أي وعلى هذه الإِبل في البر، وعلى السفن في البحر تُحملون، وإِنما قرن بين الإِبل والسفن لما بينهما من شدة المناسبة حتى سميت الإِبل سفن البر أي ويريكم أيها الناس حججه وأدلته على وحدانيته في الآفاق والأنفس {فَأَيَّ ءاياتِ اللَّهِ تُنكِرُونَ} توبيخٌ لهم على إِنكارهم لوحدانيته مع ظهور ءاياته الكثيرة والمعنى أيَّ آية من تلك الآيات الباهرة والدلائل الكثيرة الساطعة تنكرون مع وضوحها وجلائها وكثرتها؟ فإِن هذه الدلائل لظهورها لا تقبل الإِنكار.



تهديد المكذبين المجادلين في ءايات الله



{أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الأَرْضِ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ(82)فَلَمَّا جَاءتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُون(83)فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ(84)فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّت اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ(85)}.



{أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} الاستفهام إنكاري أي أفلم يسر هؤلاء المشركون في أطراف الأرض ليعرفوا عاقبة المتكبرين المتمردين، وآثار الأمم السالفة قبلهم، ماذا حلَّ بهم من العذاب والدمار بسبب كفرهم وتكذيبهم ؟ {كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الأَرْضِ} أي كانوا أكثر عدداً من أهل مكة، وأقوى منهم قوة، وآثارهم لا تزال باقية بعدهم من الأبنية والقصور والمباني الضخمة {فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} أي فلم ينفعهم ما كانوا يكسبونه من الأبنية والأموال شيئاً، ولا دفع عنهم العذاب {فَلَمَّا جَاءتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ} أي فلما جاءتهم الرسل بالمعجزات الظاهرات، والآيات الواضحات {فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ} أي فرح الكفار بما هم عليه من العلم الدنيوي، الخالي عن نور الهداية والوحي، فرح بطرٍ وأشر، واغتروا بذلك العلم {وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُون} أي نزل بهم جزاء كفرهم واستهزائهم بالرسل والآيات {فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} أي فلما رأوا شدة العذاب وعاينوا أهواله وشدائده قالوا آمنا بالله الواحد الأحد {وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ} أي كفرنا بالأصنام والأوثان التي أشركناها في العبادة مع الله {فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا} أي فلم يكن ينفعهم ذلك الإِيمان حين شاهدوا العذاب، لأنه إيمانٌ عن قسر وإِلجاء {سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ} أي سنَّ الله ذلك سنةً ماضيةً في العباد، أنه لا ينفع الإِيمان إذا رأوا العذاب {وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ} أي وخسر في ذلك الوقت الكافرون بربهم، الجاحدون لتوحيد خالقهم.

yacine414
2011-04-01, 17:51
سورة فصلت



التسميَــة

إعراض المشركين عن القرآن، وإثبات بشرية الرسول صلى الله عليه وسلم

دلائل قدرته ووحدانيته

تهديد المشركين بمثل صاعقة عاد وثمود

الكفار وكيفية عقابهم في الآخرة

حال الأشقياء المجرمين الصد عن سماع القرآن

وعد الله لأهل الاستقامة

آداب الدعاة إلى الله

دلائل قدرته الباهرة وحكمته البالغة

توعد الله الملحدين بعد ظهور الأدلة والبراهين

تعنت الكافرين ومكابرتهم للحق

علم الساعة مختص بالله تعالى

الإنسان وتبدلاته وفق الظروف والأحوال

التأمل في مخلوقات الله يوصل إلى الحق



بَين يَدَي السُّورَة



هذه السورة الكريمة مكية، وهي تتناول جوانب العقيدة الإِسلامية "الوحدانية، الرسالة، البعث والجزاء" وهي الأهداف الأساسية لسائر السور المكية التي تهتم بأركان الإِيمان.



* ابتدأت السورة الكريمة بالحديث عن القرآن، المنزَّل من عند الرحمن، بالحجج الواضحة، والبراهين الساطعة، الدالة على صدق محمد عليه الصلاة والسلام، فهو المعجزة الدائمة الخالدة للنبي الكريم.



* وتحدثت السورة عن أمر "الوحي والرسالة" فقررت حقيقة الرسول، وأنه بشرٌ خصَّه الله تعالى بالوحي، وأكرمه بالنبوة، واختاره من بين سائر الخلق ليكون داعياً إلى الله، مرشداً إلى دينه المستقيم.



* ثم انتقلت السورة للحديث عن مشهد الخلق الأول للحياة، خلق السماواتِ والأرض، بذلك الشكل الدقيق المحكم، الذي يلفت أنظار المعرضين عن ءايات الله، للنظر والتفكر والتدبر، ولكنَّ ظلمات الكفر هي التي تحول بينهم وبين الإِيمان، فالكون كله ناطق بعظمة الله، شاهد بوحدانيته جل وعلا.



* وعرضت السورة للتذكير بمصارع المكذبين، وضربت على ذلك الأمثلة بأقوى الأمم وأعتاها، قوم عاد الذين بلغ من جبروتهم أن يقولوا {من أشدُّ منَّا قوة}؟ وذكرت ما حلَّ بهم وبثمود من الدمار الشامل، والهلاك المبين، حين تمادوا في الطغيان وكذبوا رسل الله.



* وبعد الحديث عن المجرمين يأتي الحديث عن المؤمنين المتقين، الذين استقاموا على شريعة الله ودينه، فأكرمهم الله بالأمن والأمان في دار الجنان، مع النبيّين والصدّيقين، والشهداء والصالحين.



* ثم تحدثت السورة عن الآيات الكونية المعروضة للأنظار، في هذا الكون الفسيح، الزاخر بالحكم والعجائب، وموقف الملحدين بآيات الله، المتعامين عن كل تلك الآيات الظاهرة الباهرة.



وختمت السورة بوعد الله للبشرية، بأن يطلعهم على بعض أسرار هذا الكون في آخر الزمان، ليستدلوا على صدق ما أخبر عنه القرآن {سنريهم ءاياتنا في الآفاق، وفي أنفسهم، حتى يتبيَّن لهم أنه الحق، أولم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد}.



التسميَــة:

سميت "سورة فصّلت" لأن الله تعالى فصَّل فيها الآيات، ووضَّح فيها الدلائل على قدرته ووحدانيته، وأقام البراهين القاطعة على وجوده وعظمته، وخلقه لهذا الكون البديع الذي ينطق بجلال الله وعظيم سلطانه!!



إعراض المشركين عن القرآن، وإثبات بشرية الرسول صلى الله عليه وسلم



{حم(1)تَنزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ(2)كِتَابٌ فُصِّلَتْ ءاياتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ(3)بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ(4)وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ(5)قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ(6)الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ(7)إِنَّ الَّذِينَ ءامنوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ(8)}



{حم} الحروف المقطعة للتنبيه على إِعجاز القرآن {تَنزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} أي هذا القرآن المجيد منزَّل من الرحمن الرحيم، أنزله جل وعلا رحمة بعباده، وإِنما خصَّ هذين الاسمين {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} إشارة إلى أن نزوله من أكبر النعم، ولا شك أن القرآن نعمة باقية إلى يوم القيامة {كِتَابٌ فُصِّلَتْ ءاياتُهُ} أي كتابٌ جامع للمصالح الدينية والدنيوية، بُيِّنت معانيه، ووُضِّحت أحكامه، بطريق القصص والمواعظ والأحكام والأمثال، في غاية البيان والكمال {قُرْآنًا عَرَبِيًّا} أي في حال كونه قرآناً عربياً، واضحاً جلياً نزل بلسان العرب {لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} أي لقومٍ يفهمون تفاصيل ءاياته، ودلائل إعجازه، فإِنه في أعلى طبقات البلاغة، ولا يتذوق أسراره إلا من كان عالماً بلغة العرب {بَشِيرًا وَنَذِيرًا} أي مبشراً للمؤمنين بجنات النعيم، ومنذراً للكافرين بعذاب الجحيم {فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ} أي فأعرض أكثر المشركين عن تدبر ءاياته مع كونه نزل بلغتهم، فهم لا يسمعون سماع تفكر وتأمل، قال أبو حيان: المعنى أعرض أكثر أولئك القوم مع كونهم من أهل العلم، ولكن لم ينظروا النظر التام بل أعرضوا، فهم لإِعراضهم لا يسمعون ما احتوى عليه من الحجج والبراهين، وقال القرطبي: السورةُ نزلت تقريعاً وتوبيخاً لقريش في إِعجاز القرآن، فهم لا يسمعون سماعاً ينتفعون به، ثم أخبر تعالى عن عتوهم وضلالهم فقال {وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ} أي وقالوا للرسول صلى الله عليه وسلم حين دعاهم إلى الإِيمان: قلوبنا في أغطية متكاثفة، لا يصل إليها شيءٌ مما تدعون إليه من التوحيد والإِيمان {وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ} أي وفي آذاننا صممٌ وثقلٌ يمنعنا من فهم ما تقول، قال الصاوي: شبهوا أسماعهم بآذانٍ فيها صمَمٌ، من حيث إنها تمجُّ الحقَّ ولا تميل إلى استماعه {وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ} أي وبيننا وبينك يا محمد حاجز يمنع أن يصل إلينا شيء مما تقول، فنحن معذورون في عدم اتباعك، لوجود المانع من جهتنا وجهتك {فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ} أي اعملْ أنت على طريقتك، ونحن على طريقتنا، واستمرَّ على دينك فإِنا مستمرون على ديننا {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} أي قل يا محمد لأولئك المشركين: لستُ إلا بشراً مثلكم خصّني الله بالرسالة والوحي، وأنا داعٍ لكم إلى توحيد خالقكم وموجدكم، الذي قامت الأدلة العقلية والشرعية على وحدانيته ووجوده، فلا داعي إلى تكذيبي {فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ} أي توجهوا إليه بالاستقامة على التوحيد والإِيمان، والإِخلاص في الأعمال، واسألوه المغفرة لسالف الذنوب {وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ* الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} أي دمارٌ وهلاك للمشركين الذين لا يفعلون الخير، ولا يتصدقون ولا ينفقون في طاعة الله، قال القرطبي: قرَّعهم بالشح الذي يأنف منه الفضلاء، وفي الآية دلالة على أن الكافر يُعذَّب بمنع الزكاة مع عذابه على كفره، وقال ابن عباس: المراد زكاة الأنفس والمعنى: لا يطهرون أنفسهم من الشرك بالتوحيد، ولا يقولون لا إله إلا الله {وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ} أي كفروا بالبعث والنشور، وكذَّبوا بالحساب والجزاء، قال الصاوي: وإِنما خصَّ منع الزكاة وقرنه بالكفر بالآخرة، لأن المال شقيق الروح فإِذا بذله الإِنسان في سبيل الله كان دليلاً على قوته وثباته في الدين {إِنَّ الَّذِينَ ءامنوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ} لما ذكر حال الكفار ووعيدهم، أردفه بذكر حال المؤمنين وما لهم من الوعد الكريم والمعنى الذين صدَّقوا الله ورسوله، وجمعوا بين الإِيمان والعمل الصالح، لهم في الآخرة أجرٌ غير مقطوع عند ربهم، بل هو دائم مستمر بدوام الجنة.



دلائل قدرته ووحدانيته



{قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ(9)وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ(10)ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ(11)فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ(12)}



ثم ذكر تعالى دلائل قدرته ووحدانيته فقال {قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ} الاستفهام للتوبيخ والتعجب أي كيف تكفرون بالله وهو الإِلهُ العليُّ الشأن، القادر على كل شيء، خالقُ الأرض في يومين؟ {وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَادًا} أي تجعلون له شركاء وأمثالاً تعبدونها معه {ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ} أي ذلك الخالق المبدع هو ربُّ العالمين كلهم، فكيف يجوز جعل الأصنام الخسيسة شركاء له في الإِلهية والمعبودية؟ قال الصاوي: الاستفهام {أَئِنَّكُمْ} للإِنكار والتشنيع عليهم والمعنى : أنتم تعلمون أنه لا شريك له في العالم العلوي والسفلي، فكيف تجعلون له شريكاً ؟ {وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا} أي جعل في الأرض جبالاً ثوابت لئلا تميد بالبشر {وَبَارَكَ فِيهَا} أي أكثر خيرها بما جعل فيها من المياه، والزروع، والضروع {وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا} أي قدَّر أرزاق أهلها ومعاشهم، قال مجاهد: خلق فيها أنهارها وأشجارها ودوابها {فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ}أي في تمام أربعة أيام كاملة مستوية بلا زيادة ولا نقصان، للسائلين عن مدة خلق الأرض وما فيها {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ} أي عمد إلى خلقها وقصد إلى تسويتها وهي بهيئة الدخان، قال ابن كثير: والمراد بالدخان بخار الماء المتصاعد منه حين خلقت الأرض {فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا} أي استجيبا لأمري طائعتين أو مكرهتين {قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} أي قالت السماوات والأرض أتينا أمرك طائعين، قال الزمخشري: وهذا على التمثيل أي أنه تعالى أراد تكوينهما فلم يمتنعا عليه، وكانتا في ذلك كالمأمور المطيع إذا ورد عليه أمر الآمر المُطاع، والغرضُ تصوير أثر قدرته في المقدورات من غير أن يكون هناك خطاب وجواب، ومثله قول القائل: قال الحائطُ للمسمار لم تشقني؟ قال: سلْ من يدُقُّني، وروي عن ابن عباس قال: قال الله تعالى للسماء: أطلعي شمسك وقمرك ونجومك، وقال للأرض: شققي أنهارك وأخرجي شجرك وثمارك طائعتين أو كارهتين "قالتا أتينا أمرك طائعتين" واختاره ابن جرير {فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ} أي صنعهنَّ وأبدع خلقهن سبع سماواتٍ في وقت مقدَّر بيومين، فتمَّ خلق السماواتِ والأرض في ستة أيام، ولو شاء لخلقهنَّ بلمح البصر، ولكنْ أراد أن يعلّم عباده الحلم والأناة {وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا} أي أوحى في كل سماء ما أراده، وما أمر به فيها، قال ابن كثير: أي رتَّب في كل سماء ما تحتاج إليه من الملائكة وما فيها من الأشياء التي لا يعلمها إلا هو {وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا} أي وزينَّا السماءَ الأولى القريبة منكم، بالكواكب المنيرة المشرقة على أهل الأرض، وحرساً من الشياطين أن تستمع إلى الملأ الأعلى {ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} أي ذلك المذكور من الخلق والإِبداع هو صنع الله، العزيز في ملكه، العليم بمصالح خلقه.



تهديد المشركين بمثل صاعقة عاد وثمود



{فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ(13)إِذْ جَاءتْهُمْ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلا تَعْبُدُوا إِلا اللَّهَ قَالُوا لَوْ شَاءَ رَبُّنَا لأَنزَلَ مَلائِكَةً فَإِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ(14)فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ(15)فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لا يُنْصَرُونَ(16)وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ(17)وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ ءامنوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ(18)}.



{فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ} أي فإِن أعرضوا عن الإِيمان بعد هذا البيان، فقل لهم: إني أخوفكم عذاباً هائلاً وهلاكاً مثل هلاك عاد وثمود، وعبَّر بالماضي إشارةً إلى تحققه وحصوله {إِذْ جَاءتْهُمْ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ} أي حين جاءتهم الرسلُ من كل جوانبهم، واجتهدوا في هدايتهم من كل جهة، وأعملوا فيهم كل حيلة، فلم يروا منهم إلا العتوَّ والإِعراض {أَلا تَعْبُدُوا إِلا اللَّهَ} أي بأن لا تعبدوا إلاّ اللهَ وحده {قَالُوا لَوْ شَاءَ رَبُّنَا لأَنزَلَ مَلائِكَةً} أي لو شاء ربُّنا إرسالَ رسولٍ لجعله ملكاً لا بشراً {فَإِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ} أي فإِنا كافرون برسالتكم، لا نتبعكم وأنتم بشرٌ مثلُنا، وفي قولهم {بما أُرسلتم} ضربٌ من التهكم والسخرية بهم {فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} هذا تفصيلٌ لما حلَّ بعاد وثمود من العذاب أي فأمَّا عادٌ فبغوا وعتوا وعصوا، وتكبروا على عباد الله "هود" ومن ءامن منهم معه، بغير استحقاقٍ للتعظم والاستعلاء {وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً}؟ أي وقالوا اغتراراً بقوتهم لمّا خُوّفوا بالعذاب: لا أحد أقوى منا فنحن نستطيع أن ندفع العذاب عن أنفسنا بفضل قوتنا، قال أبو السعود: كانوا ذوي أجسام طوال، وخلق عظيم، وقد بلغ من قوتهم أن الرجل كان ينزع الصخرة من الجبل فيقتلعها بيده {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً} جملة اعتراضية للتعجيب من مقالتهم الشنيعة والمعنى أغفلوا عن قدرة الله ولم يعلموا أن الله العظيم الجليل الذي خلقهم وخلق الكائنات، هو أعظم منهم قوةً وقدرة؟ {وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ} أي وكانوا بمعجزاتنا يجحدون، قال الرازي: إنهم كانوا يعرفون أنها حقٌّ ولكنهم جحدوا كما يجحد المودعُ الوديعة {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا} أي فأرسلنا على عاد ريحاً باردة شديدة البرد، وشديدة الصوت والهبوب، تُهلك بشدة صوتها وبردها {فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ} أي في أيامٍ مشئومات غير مباركاتٍ {لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} أي لكي نذيقهم العذاب المخزي المذل في الدنيا، قال الرازي: {عَذَابَ الْخِزْيِ} أي عذاب الهوان والذل، والسبب أنهم استكبروا عن الإِيمان، فقابل الله ذلك الاستكبار بإيصال الذل والهوان إليهم {وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لا يُنْصَرُونَ} أي ولعذابهم في الآخرة أعظم وأشدُّ إهانةً وخزياً من عذاب الدنيا، وليس لهم ناصر يدفع عنهم ذلك العذاب {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى} أي وأمَّا ثمود فبيّنا لهم طريق الهدى، ودللناهم على سبيل السعادة، فاختاروا الضلالة على الهداية، والكفر على الإِيمان {فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ} أي فأخذتهم قارعة العذاب الموقع في الإِهانة والذل {بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} أي بسبب إجرامهم وطغيانهم وتكذيبهم لنبيّ الله "صالح"، قال ابن كثير: بعث الله عليهم صيحةً ورجفة وذلاً وهواناً، وعذاباً ونكالاً، بتكذيبهم صالح وعقرهم الناقة {وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ ءامنوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} أي ونجينا صالحاً ومن ءامن به من ذلك العذاب.

yacine414
2011-04-01, 17:51
الكفار وكيفية عقابهم في الآخرة



{وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ(19)حَتَّى إِذَا مَا جَاءوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ(20)وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ(21)وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصَارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ(22)وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمْ الَّذِي ظَنَنتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ(23)فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَمَا هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ(24)وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمْ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ(25)}.



{وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ} أي واذكر يوم يُجمع أعداء الله المجرمون في أرض المحشر لسوقهم إلى النار {فَهُمْ يُوزَعُونَ} أي يُحبس أولهم على آخرهم ليتلاحقوا ويجتمعوا، قال ابن كثير: تجمع الزبانية أولهم على آخرهم حتى يجتمعوا {حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا} أي حتى إذا وقفوا للحساب {شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} أي نطقت جوارحهم وشهدت عليهم بما اقترفوه من إجرامٍ وآثام، وفي الحديث (فيُختم على فيه - أي فمه - ثم يُقال لجوارحه انطقي، فتنطق بأعماله، ثم يُخلَّى بينه وبين الكلام فيقول: بُعداً لكُنَّ وسُحقاً، فعنكنَّ كنت أناضل) {وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا} أي وقالوا لأعضائهم وجلودهم توبيخاً وتعجباً من هذا الأمر الغريب: لم أقررتم علينا وشهدتم بما فعلنا وإِنما كنا نجادل وندافع عنكم؟ {قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ} أي قالوا معتذرين: ليس الأمر بيدنا وإِنما أنطقنا الله بقدرته، الذي ينطق الجماد والإِنسان والحيوان، فشهدنا عليكم بما عملتم من القبائح {وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} أي هو أوجدكم من العدم، وأحياكم بعد أن لم تكونوا شيئاً، فمن قدر على هذا قدر على إِنطاقنا {وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} أي وإِليه وحده تُردون بالبعث، قال أبو السعود: المعنى ليس نطقنا بعجبٍ من قدرة الله، الذي انطق كل حي، فإِن من قدر على خلقكم وإِنشائكم أولاً، وعلى إعادتكم ورجعكم إلى جزائه ثانياً، لا يُتعجب من إِنطاقه لجوارحكم {وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصَارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ} أي وما كنتم تستخفون من هؤلاء الشهود في الدنيا حين مباشرتكم الفواحش، لأنكم لم تظنوا أنها تشهد عليكم، قال البيضاوي: أي كنتم تستترون عن الناس عند ارتكاب الفواحش مخافة الفضيحة، وما ظننتم أن أعضاءكم تشهد عليكم فما استخفيتم منها، وفيه تنبيهٌ على أن المؤمن ينبغي ألاَّ يمر عليه حالٌ إلا وعليه رقيب {وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ} أي ولكنْ ظننتم أن الله تعالى لا يعلم كثيراً من القبائح المخفية، ولذلك اجترأتم على المعاصي والآثام {وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمْ الَّذِي ظَنَنتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ} أي وذلك الظنُّ القبيح برب العالمين - أنه لا يعلم كثيراً من الخفايا - هو الذي أوقعكم في الهلاك والدمار فأوردكم النار {فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ} أي فخسرتم سعادتكم وأنفسكم وأهليكم، وهذا تمام الخسران والشقاء {فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ} أي فإِن يصبروا على العذاب فالنارُ مقامهم ومنزلهم، لا محيد ولا محيص لهم عنها {وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَمَا هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ} أي وإِن يطلبوا إرضاء الله، فما هم من المرضي عليهم، قال القرطبي: والعُتبى: رجوعُ المعتوب عليه إلى ما يُرضي العَاتب، تقول: استَعتبتُه فأعْتبني أي استرضيتُه فأرضاني {وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ} أي هيأنا للمشركين ويسَّرنا لهم قرناء سوء من الشياطين، ومن غواة الإِنس {فَزَيَّنُوا لَهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ} أي حسَّنوا لهم أعمالهم القبيحة، الحاضرة والمستقبلة، قال ابن كثير: حسنوا لهم أعمالهم فلم يروا أنفسهم إلا محسنين {وَحَقَّ عَلَيْهِمْ الْقَوْلُ} أي ثبت وتحقق عليهم كلمة العذاب، وهو القضاء المحتَّم بشقائهم {فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ} أي في جملة أمم من الأشقياء المجرمين قد مضت من قبلهم، ممن فعلوا كفعلهم من الجنِّ والإِنس {إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ} تعليلٌ لاستحقاقهم العذاب أي لأنهم كانوا من الخاسرين في الدنيا والآخرة، فلذلك استحقوا العذاب الأبدي.



حال الأشقياء المجرمين الصد عن سماع القرآن



{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ(26)فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذَابًا شَدِيدًا وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ(27)ذَلِكَ جَزَاءُ أَعْدَاءِ اللَّهِ النَّارُ لَهُمْ فِيهَا دَارُ الْخُلْدِ جَزَاءً بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ(28)وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنَا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلانَا مِنَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ الأَسْفَلِينَ(29)}



{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ} لما أخبر تعالى عن كفر عاد وثمود وغيرهم، أخبر عن مشركي قريش وأنهم كذبوا القرآن والمعنى قال الكافرون بعضهم لبعض لا تستمعوا لمحمد إذا قرأ القرآن، وتشاغلوا عنه {وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} أي ارفعوا أصواتكم عند قراءته حتى لا يسمعه أحد لكي تغلبوه على دينه، قال ابن عباس: قال أبو جهل إذا قرأ محمد فصيحوا في وجهه حتى لا يدري ما يقول {فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذَابًا شَدِيدًا} أي فوالله لنذيقنَّ هؤلاء الكفار المستهزئين بالقرآن عذاباً شديداً لا يخف ولا ينقطع {وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ} أي ولنجازينهم بشر أعمالهم، وسيء أفعالهم، أسوأ وأقبح الجزاء {ذَلِكَ جَزَاءُ أَعْدَاءِ اللَّهِ النَّارُ} أي ذلك العذاب الشديد - الذي هو أسوأُ الجزاء - هو نار جهنم جزاء المجرمين، أعداء الله ورسوله {لَهُمْ فِيهَا دَارُ الْخُلْدِ} أي لهم في جهنم دار الإِقامة، لا يخرجون منها أبداً {جَزَاءً بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ} أي جزاءً لهم على كفرهم بالقرآن، واستهزائهم بآيات الرحمن، قال الرازي: وسمَّى لغوهم بالقرآن جحوداً لأنهم لما علموا أن القرآن بالغٌ إلى حد الإِعجاز، خافوا إنْ سمعه الناس أن يؤمنوا به، فاخترعوا تلك الطريقة الفاسدة، وذلك يدل على أنهم علموا كونه معجزاً إلا أنهم جحدوه حسداً {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا ربَّنَا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلانَا مِنْ الْجِنِّ وَالإِنْسِ} أي ويقول الكفار إذا دخلوا جهنم ربنا أرنا كل من أغوانا وأضلنا من الجن والإِنس، وإِنما جاء بلفظ الماضي "وقال" لتحققه، ومعناه المستقبل، قال أبو حيان: والظاهر أن المراد بـ {الَّذَيْنِ} يراد بهما الجنس أي كل مغوٍ من هذين النوعين {نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا} أي نطأْهما بأقدامنا انتقاماً وتشفياً {لِيَكُونَا مِنَ الأَسْفَلِينَ} أي ليكونا في الدرك الأسفل من النار، وهي أشد عذاب جهنم لأنها درك المنافقين.







وعد الله لأهل الاستقامة



{إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنزَّلُ عَلَيْهِمْ الْمَلائِكَةُ أَلا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ(30)نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ(31)نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ(32)}.



سبب النزول:

نزول الآية (30):

{إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ}: قال ابن عباس: نزلت هذه الآية في أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وذلك أن المشركين قالوا: ربنا الله، والملائكة بناته، وهؤلاء شفعاؤنا عند الله، فلم يستقيموا. وقال أبو بكر: ربنا الله وحده لا شريك له، ومحمد صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله، فاستقام.

وأخرج الترمذي والنسائي والبزار وغيرهم عن أنس بن مالك: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ: {إِنَّ الذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا} قال: "قد قال الناس، ثم كفر أكثرهم، فمن مات عليها فهو ممن استقام".



ولما ذكر تعالى حال الأشقياء المجرمين، أردفه بذكر حال السعداء المؤمنين فقال {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا} أي ءامنوا بالله إِيماناً صادقاً وأخلصوا العمل له، ثم استقاموا على توحيد الله وطاعته، وثبتوا على ذلك حتى الممات، عن عمر رضي الله عنه أنه قال على المنبر بعد أن تلا الآية الكريمة: "استقاموا واللهِ على الطريقة لطاعته، ثم لم يروغوا روغان الثعالب" والغرضُ: أنهم استقاموا على شريعة الله، في سلوكهم، وأخلاقهم وأقوالهم، وأفعالهم، فكانوا مؤمنين حقاً، مسلمين صدقاً، وقد سئل بعض العارفين عن تعريف الكرامة فقال: الاستقامةُ عينُ الكرامة، وعن الحسن أنه كان يقول: اللهمَّ أنت ربنا فارزقنا الاستقامة {تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمْ الْمَلائِكَةُ أَلا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا} أي تتنزل عليهم ملائكة الرحمة عند الموت بأن لا تخافوا ممَّا تقدمون عليه من أحوال القيامة، ولا تحزنوا على ما خلفتموه في الدنيا من أهلٍ ومالٍ وولد فنحن نخلفكم فيه {وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} أي وأبشروا بجنة الخلد التي وعدكم الله بها على لسان الرسل، قال شيخ زاده: إن الملائكة تتنزَّل حين الاحتضار على المؤمنين بهذه البشارة أن لا تخافوا من هول الموت، ولا من هول القبر، وشدائد يوم القيامة، وإِن المؤمن ينظر إلى حافظيه قائمين على رأسه يقولان له: لا تخف اليوم ولا تحزن، وأبشر بالجنة التي كنت توعد، وإِنك سترى اليوم أموراً لم تر مثلها فلا تهولنك فإِنما يراد بها غيرك {نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ} أي تقول لهم الملائكة: نحن أنصاركم وأعوانكم في الدنيا والآخرة، نرشدكم إلى ما فيه خيركم وسعادتكم في الدارين {وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ} أي ولكم في الجنة ما تشتهيه نفوسكم، وتقرُّ به عيونُكم من أنواع اللذائذ والشهوات، ولكم فيها ما تطلبون وتتمنون {نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ} أي ضيافة وكرامة من ربٍ واسع المغفرة، عظيم الرحمة لعباده المتقين.





آداب الدعاة إلى الله



{وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ(33)وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ(34)وَمَا يُلَقَّاهَا إِلا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ(35)وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ(36)}.



سبب النزول:

نزول الآية (33):

{وَمَنْ أَحْسَنُ..}: قال ابن عباس: هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، دعا إلى الإسلام، وعمل صالحاً فيما بينه وبين ربه، وجعل الإسلام نِحْلة: وقال أيضاً: هم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.



نزول الآية (34):

{فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ..}: نزلت في أبي سفيان بن حرب، وكان عدوّاً مؤذياً لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فصار ولياً مصافياً.



{وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} أي دعا إلى توحيد الله وطاعته، بقوله وفعله وحاله، وفعل الصالحات، وجعل الإِسلام دينه ومذهبه، قال ابن كثير: وهذه الآية عامة في كل من دعا إلى خير وهو في نفسه مهتدٍ، وقال الزمخشري: والآية عامة في كل من جمع بين هذه الثلاث: أن يكون مؤمناً معتقداً لدين الإِسلام، عاملاً بالخير، داعياً إليه، وما هم إلا طبقة العلماء العاملين {وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ} أي لا يتساوى فعل الحسنة مع فعل السيئة، بل بينهما فرقٌ عظيم في الجزاء وحسن العاقبة {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} أي ادفع السيئة بالخصلة التي هي أحسن، مثل أن تدفع الغضب بالصبر، والجهل بالحلم، والإِساءة بالعفو، قال ابن عباس: ادفع بحلمك جهل من يجهل عليك {فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} أي فإِذا فعلت ذلك صار عدوك كالصديق القريب، الخالص الصداقة في مودته ومحبته لك {وَمَا يُلَقَّاهَا إِلا الَّذِينَ صَبَرُوا} أي وما ينال هذه المنزلة الرفيعة، والخصلة الحميدة، إلاّ من جاهد نفسه بكظم الغيظ واحتمال الأذى {وَمَا يُلَقَّاهَا إِلا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} أي وما يصل إليها وينالها إلا ذو نصيب وافر من السعادة والخير {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ} أي وإن وسوس إليك الشيطان بترك ما أُمرت به من الدفع بالتي هي أحسن، وأراد أن يحملك على البطش والانتقام، فاستعذ بالله من كيده وشره {إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} أي هو السميع لأقوال العباد، العليم بأفعالهم وأحوالهم.



دلائل قدرته الباهرة وحكمته البالغة



{وَمِنْ ءاياتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ(37)فَإِنْ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ(38)وَمِنْ ءاياتِهِ أَنَّكَ تَرَى الأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ(39)}



ثم ذكر تعالى دلائل قدرته الباهرة، وحكمته البالغة فقال {وَمِنْ ءاياتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ} أي ومن علاماته الدالة على وحدانيته وقدرته تعاقب الليل والنهار، وتذليل الشمس والقمر، مسخَّرين لمصالح البشر {لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ} أي لا تسجدوا للمخلوق واسجدوا للخالق، الذي خلق هذه الأشياء وأبدعها {إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} أي إن كنتم تفردونه بالعبادة فلا تسجدوا لأحدٍ سواه {فَإِنْ اسْتَكْبَرُوا} أي فإِن استكبر الكفار عن السجود لله {فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} أي فالملائكة الأبرار يعبدونه بالليل والنهار {وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ} أي لا يملّون عبادته.

{وَمِنْ ءاياتِهِ أَنَّكَ تَرَى الأَرْضَ خَاشِعَةً} أي ومن البراهين والعلامات الدالة على وحدانيته وكمال قدرته، أنك ترى الأرض يابسة جرداء لا نبات فيها، تشبه الرجل الخاضع الذليل {فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ} أي فإِذا أنزلنا عليها المطر تحركت حركة شديدة وانتفخت وعلت بالنبات، وأخرجت من جميع ألوان الزروع والثمار {إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى} أي إن الإِله الذي أحيا الأرض بعد موتها هو الذي يحيي الأموات ويبعثهم من القبور {إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} أي لا يعجزه جل وعلا شيءٌ، فكما أخرج الزروع والثمار من الأرض المجدبة، فإِنه قادر على إحياء الموتى.



توعد الله الملحدين بعد ظهور الأدلة والبراهين



{إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي ءاياتِنَا لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي ءامنا يَوْمَ الْقِيَامَةِ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ(40)إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ(41)لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ(42)مَا يُقَالُ لَكَ إِلا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ(43)}.



ثم توعَّد تعالى من يلحد في ءاياته بعد ظهور الأدلة والبراهين على وجوده فقال {إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي ءاياتِنَا لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا} أي إن الذين يطعنون في ءاياتنا، بالتحريف والتكذيب والإِنكار لها لا يغيب أمرهم عنا فنحن لهم بالمرصاد، وفيه وعيد وتهديد، قال قتادة: الإِلحادُ الكفر والعناد، وقال ابن عباس: هو تبديلُ الكلام ووضعه في غير موضعه {أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي ءامنا يَوْمَ الْقِيَامَةِ} أي أفمن يُطرح في جهنم مع الخوف والفزع أفضل أمَّنْ يكون في الجنة ءامناً من عذاب الله يوم القيامة؟ قال الرازي: والغرضُ التنبيهُ على أن الملحدين في ءايات الله يُلقون في النار، وأن المؤمنين بآيات الله يكونون ءامنين يوم القيامة، وشتَّان ما بينهما {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ} أي افعلوا ما تشاءون في هذه الحياة، وهو تهديدٌ لا إباحة ملفوف بظل الوعيد، بدليل قوله تعالى {إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} أي هو تعالى مطّلع على أعمالكم، لا تخفى عليه خافية من أحوالكم، وسيجازيكم عليها {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءهُمْ} أي إن الذين كذبوا بالقرآن حين جاءهم من عند الله، وخبر "إنَّ" محذوفٌ لتهويل الأمر كأنه قيل: سيجازون بكفرهم جزاءً لا يكاد يوصف لشدة بشاعته وفظاعته {وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ} أي وإِنه لكتاب غالب بقوة الحجة، لا نظير له لما احتوى عليه من الإِعجاز، يدفع كل جاحد، ويقمع كلَّ معاند {لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ} أي لا يتطرق إليه الباطل من جهةٍ من الجهات، ولا مجال للطعن فيه، قال ابن كثير: أي ليس للبطلان إليه سبيل، لأنه منزَّل من رب العالمين {تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} أي هو تنزيلٌ من إله حكيم في تشريعه وأحواله وأفعاله، محمود من خلقه بسبب كثرة نعمه .. ثم سلَّى تعالى نبيَّه على ما يصيبه من أذى الكفار فقال {مَا يُقَالُ لَكَ إِلا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ} أي ما يقول لك كفار قومك، إلاّ ما قد قال الكفار للرسل قبلهم من الكلام المؤذي، والطعن فيما أنزل الله، قال القرطبي: يُعزي نبيه ويُسلّيه من أذى وتكذيب قومه {إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ} أي إن ربك يا محمد لهو الغفور لذنوب المؤمنين، ذو العقاب الشديد للكافرين، ففوِّضْ أمرك إليه فإِنه ينتقم لك من أعدائك.



تعنت الكافرين ومكابرتهم للحق



{وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ ءاياتُهُ ءاعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ ءامنوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُوْلَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ(44)وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ(45)مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلامٍ لِلْعَبِيدِ(46)}.



ثم ذكر تعالى تعنُّت الكافرين ومكابرتهم للحقِّ بعد سطوعه وظهوره فقال {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا} أي لو أنزلنا هذا القرآن بلغة العجم {لَقَالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ ءاياتُهُ} أي لقال المشركون: هلاَّ بُيّنت ءاياته بلسانٍ نفهمه وهلاَّ نزل بلغتنا {ءاعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ}؟ استفهام إنكاري أي أقرآن أعجميٌ ونبيٌ عربي؟ قال الرازي: ذكروا أن الكفار كانوا يقولون لتعنتهم: هلاَّ نزل القرآن بلغة العجم؟! فأجيبوا بأن الأمر لو كان كما تقترحون لم تتركوا الاعتراض، ثم قال: والحقُّ عندي أن هذه السورة من أولها إلى آخرها كلام واحدٌ متعلق بعضُه ببعض، وقد حكى تعالى عنهم في أول السورة أنهم قالوا {قُلوبنا في أكنَّةٍ ممَّا تدعونا إليه} فردَّ تعالى عليهم هنا بأنه لو أنزل هذا القرآن بلغة العجم لكان لهم أن يقولوا: كيف أرسلت الكلام العجمي إلى القوم العرب!! ولصحَّ لهم أن يقولوا {قلوبُنا في إكنةٍ ممَّا تدعونا إليه} لأنا لا نفهمه ولا نحيط بمعناه!! اما وقد نزل بلغة العرب، وهم من أهل هذه اللغة، فكيف يمكنهم أن يقولوا ذلك؟ فظهر أن الآية على أحسن وجوه النظم {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ ءامنوا هُدًى وَشِفَاءٌ} أي قل لهم يا محمد: إن هذا القرآن هدى للمؤمنين من الضلالة، وشفاء لهم من الجهل والشك والريب {وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ} أي والذين لا يصدّقون بهذا القرآن، في آذانهم صممٌ عن سماعه، ولذلك تواصوا باللغو فيه {وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى} أي كما أن هذا القرآن رحمة للمؤمنين، هو شقاء وتعاسة على الكافرين كقوله تعالى {وننزّل من القرآن ما هو شفاءٌ ورحمة للمؤمنين، ولا يزيد الظالمين إلا خساراً} قال في حاشية البيضاوي: إن القرآن لوضوح ءاياته، وسطوع براهينه، هادٍ إلى الحق، ومزيل للريب والشك، وشفاء من داء الجهل والكفر والارتياب، ومن ارتاب فيه ولم يؤمن به، فارتيابه إِنما نشأ عن توغله في اتباع الشهوات، وتقاعده عن تفقد ما يُسعده وينجيه {أُوْلَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ} أي أولئك الكافرون بالقرآن، كمن يُنادى من مكان بعيد، فإِنه لا يسمع ولا يفهم ما يُنادى به، وهذا على سبيل التمثيل، قال ابن عباس: يريد مثل البهيمة التي لا تفهم إلا دعاءً ونداءً {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ} أي والله لقد أعطينا موسى التوراة فاختلف فيها قومه ما بين مصدِّقٍ لها ومكذِّب، هكذا حال قومك بالنسبة للقرآن، قال القرطبي: وهذا تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم أي لا يحزنك اختلاف قومك في كتابك، فقد اختلف من قبلهم في كتابهم، فآمن به قوم وكذَّب به قوم {وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ} أي ولولا أن الله حكم بتأخير الحساب والجزاء للخلائق إلى يوم القيامة لعذَّبهم وأهلكهم في الدنيا {وَإِنَّهُمْ لَفي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ} أي وإِن هؤلاء الكفار لفي شكٍ من القرآن، لتبلد عقولهم وعمى بصائرهم، موقع لهم في أشد الريبة والاضطراب {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا} أي من عمل شيئاً من الصالحات في هذه الدنيا فإِنما يعود نفع ذلك على نفسه، ومن أساء في الدنيا فإِنما يرجع وبال ذلك وضرره عليه {وَمَا رَبُّكَ بِظَلامٍ لِلْعَبِيدِ} أي وليس الله منسوباً إلى الظلم حتى يعذِّب بغير إساءة، فهو تعالى لا يعاقب أحداً إلا بذنبه وبجرمه، قال المفسرون: ليست صيغة "ظلاَّم" هنا للمبالغة، وإِنما هي صيغة نسبة مثل عطَّار، ونجَّار، وتمَّار، ولو كانت للمبالغة لأوهم أنه تعالى ليس كثير الظلم ولكنه يظلم أحياناً، وهذا المعنى فاسد لأنه يستحيل عليه الظلم جل وعلا.

علم الساعة مختص بالله تعالى



{إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ وَمَا تَخْرُجُ مِنْ ثَمَرَاتٍ مِنْ أَكْمَامِهَا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنثَى وَلا تَضَعُ إِلا بِعِلْمِهِ وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكَائِي قَالُوا آذَنَّاكَ مَا مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ(47)وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَدْعُونَ مِنْ قَبْلُ وَظَنُّوا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ(48)}.



{إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ} أي إليه تعالى وحده علم وقت الساعة لا يعلمه غيره قال الإِمام فخر الدين الرازي: أي لا يعلم وقت الساعة بعينه إلا اللهُ، ومناسبتُها لما قبلها أنه تعالى لما هدَّد الكفار بقوله {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا} ومعناه أن جزاء كل أحدٍ يصل إليه في يوم القيامة، فكأن سائلاً قال: ومتى يكون ذلك اليوم؟ فبيَّن تعالى أن معرفة ذلك اليوم لا يعلمه إلا الله {وَمَا تَخْرُجُ مِنْ ثَمَرَاتٍ مِنْ أَكْمَامِهَا} أي وما تخرج ثمرةٌ من الثمرات من غلافها ووعائها {وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنثَى وَلا تَضَعُ إِلا بِعِلْمِهِ} أي ولا تحمل أنثى جنيناً في بطنها. ولا تلده إلا ملتبساً بعلمه تعالى، لا يعزبُ عن علمه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكَائِي}؟ أي ويوم القيامة ينادي الله المشركين أين شركائي الذي زعمتم أنهم آلهة؟ وفيه تقريعٌ وتهكمٌ بهم {قَالُوا آذَنَّاكَ مَا مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ} أي قال المشركون: أعلمناك وأخبرناك الآن بالحقيقة ما منّا من يشهد اليوم بأنَّ لك شريكاً، قال المفسرون: لما عاينوا القيامة تبرءوا من الأصنام وتبرأت الأصنام منهم، وأعلنوا إيمانهم وتوحيدهم في وقت لا ينفع فيه إِيمان {وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَدْعُونَ مِنْ قَبْلُ} أي وغاب عنهم ما كانوا يعبدونه في الدنيا من الآلهة المزعومة {وَظَنُّوا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ} أي وأيقنوا أنه لا مهرب ولا مخلص لهم من عذاب الله.





الإنسان وتبدلاته وفق الظروف والأحوال



{لا يَسْأَمُ الإِنْسَانُ مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ(49)وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِمَا عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ(50)وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَئا بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ(51)}



{لا يَسْأَمُ الإِنْسَانُ مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ} أي لا يملُّ الإِنسان من سؤاله ودعائه بالخير لنفسه، كالمال والصحة والعز والسلطان {وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ} أي وإِن أصابه فقر أو مرض فهو عظيم اليأس، قانطٌ من روح الله ورحمته {وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ} أي ولئن أعطيناه غنى وصحة من بعد شدة وبلاء {لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي} أي ليقولنَّ هذا بسعْيي واجتهادي، قال أبوحيان: سمَّى النعمة رحمة إذ هي من آثار رحمة الله {وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً} أي وما أعتقد أن القيامة ستكون {وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى} أي وعلى فرض أن القيامة حاصلة، فليحسننَّ إليَّ ربي كما أحسن إليَّ في هذه الدنيا قال ابن كثير: يتمنى على الله عز وجل مع إساءته العمل وعدم اليقين {فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِمَا عَمِلُوا} أي فواللهِ لنعلِمنَّ هؤلاء الكافرين بحقيقة أعمالهم، ولنبصرنَّهم بإِجرامهم {وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ} أي ولنعذبنَّهم أشد العذاب، وهو الخلود في نار جهنم {وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَئا بِجَانِبِهِ} أي وإِذا أنعمنا على الإِنسان أعرض عن شكر ربه، واستكبر عن الانقياد لأوامره، وشمخ بأنفه تكبراً وترفعاً {وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ} أي وإِذا أصابه المكروه فهو ذو دعاء كثير، يديم التضرع ويكثر من الابتهال، وهكذا طبيعة الإِنسان الجحود والنكران، يعرف ربه في البلاء وينساه في الرخاء، قال الرازي: استعير العرض لكثرة الدعاء، كما استعير الغلظ لشدة العذاب.



التأمل في مخلوقات الله يوصل إلى الحق



{قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ(52)سَنُرِيهِمْ ءاياتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ(53)أَلا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَاءِ رَبِّهِمْ أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ(54)}.



{قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ} أي قل لهم يا محمد: أخبروني يا معشر المشركين، إن كان هذا القرآن من عند الله، وكفرتم به من غير تأمل ولا نظر، كيف يكون حالكم؟ {مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ} الاستفهام إنكاري بمعنى النفي أي لا أحد أضلُّ منكم لفرط شقاقكم وعداوتكم، قال أبو السعود: وضع الموصول "من أضلُّ" موضع الضمير "منكم" شرحاً لحالهم، وتعليلاً لمزيد ضلالهم {سَنُرِيهِمْ ءاياتِنَا} أي سنظهر لهؤلاء المشركين دلالاتنا وحججنا على أن القرآن حقٌ منزل من عند الله {فِي الآفَاقِ} أي في أقطار السماواتِ والأرض من الشمس والقمر والنجوم، والأشجار والنبات وغير ذلك من العجائب العلوية والسفلية {وَفِي أَنْفُسِهِمْ} أي وفي عجائب قدرة الله في خلقهم وتكوينهم، قال القرطبي: المراد ما في أنفسهم من لطيف الصنعة، وبديع الحكمة، حتى سبيل الغائط والبول، فإِن الرجل يأكل ويشرب من مكان واحدٍ، ويتميز ذلك من مكانين، ومن بديع صنعة الله وحكمته في عينيه اللتين هما قطرة ماء، ينظر بهما من الأرض إلى السماء، مسيرة خمسمائة عام، وفي أذنيه اللتين يفرق بهما بين الأصوات المختلفة، وغير ذلك من بديع حكمة الله فيه {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} أي حتى يظهر لهم أن هذا القرآن حق {أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ}؟ أي أولم يكفهم برهاناً على صدقك أن ربك لا يغيب عنه شيء في الأرض ولا في السماء؟ وأنه مطَّلع على كل شيء لا تخفى عليه خافية؟ {أَلا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَاءِ رَبِّهِمْ} ألا استفتاحٌ لتنبيه السامع إلى ما يقال أي ألا فانتبهوا أيها القوم إن هؤلاء المشركين في شكٍ من الحساب والبعث والجزاء، ولهذا لا يتفكرون ولا يؤمنون {أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ} أي ألا فانتبهوا فإِنه تعالى قد أحاط علمه بكل الأشياء جملة وتفصيلاً، فهو يجازيهم على كفرهم.

yacine414
2011-04-01, 17:53
سورة الشُّورَى



تنزيل الوحي من الله على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم

مقاصد الوحي الإلهي

وحدة الأديان في أصولها

الأمر بالدعوة والاستقامة، ودحض حجج المجادلين

حتمية الجزاء للمؤمنين والظالمين، وقبول التوبة

مظاهر حكمة الله، وآياته الدالة على قدرته

صفات المؤمنين المستقيمين

النار وحال الكفار منها

الاستجابة لله عز وجل

الوحي وأقسامه





بَين يَدَي السُّوَرة



* هذه السورة الكريمة مكية، وموضوعها نفس موضوع السور المكية التي تعالج أمور العقيدة "الوحدانية، الرسالة، البعث، والجزاء" والمحور الذي تدور عليه السورة هو "الوحي والرسالة" وهو المقصد الأساسي للسورة الكريمة.



* تبتدئ السورة بتقرير مصدر الوحي، ومصدر الرسالة، فاللهُ ربُّ العالمين هو الذي أنزل الوحي على الأنبياء والمرسلين، وهو الذي اصطفى لرسالاته من شاء من عباده، ليخرجوا الإِنسانية من ظلمات الشرك والضلال، إلى نور الهداية والإِيمان.



* ثم تعرض لحالة بعض المشركين، ونسبتهم لله الذرية والولد، حتى إنَّ السماوات ليكدْن يتفطرن من هول تلك المقالة الشنيعة، وبينما هؤلاء المشركون في ضلالهم يتخبطون، إذا بالملأ الأعلى في تسبيحهم وتمجيدهم لله يستغرقون، وذلك للمقارنة بين كفر أهل الأرض وطغيانهم، وإِيمان أهل السماء وإِذعانهم.



* ثم تعود السورة للحديث عن حقيقة الوحي والرسالة، فتقرر أن الدين واحدٌ أرسل الله تعالى به جميع المرسلين، وأن شرائع الأنبياء وإِن اختلفت إلاَّ أن دينهم واحد، وهو الإِسلام الذي بعث به نوحاً وموسى وعيسى وسائر الرسل الكرام {شرع لكم من الدين ما وصَّى به نوحاً والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى}.



* وتنتقل السورة للحديث عن المكذبين بالقرآن، المنكرين للبعث والجزاء، وتنذرهم بالعذاب الشديد في يومٍ تشيب له الرؤوس وتطير لهوله الأفئدة، بينما هم في الدنيا يهزؤون ويسخرون، ويستعجلون قيام الساعة.



* وبعد أن تتحدث السورة عن دلائل الإِيمان في هذا العالم المنظور، الذي هو أثر من آثار صنع الله الباهر وحكمته وقدرته، تدعو الناس إلى الاستجابة لدعوة الله والانقياد والاستسلام لحكمه قبل أن يفاجئهم ذلك اليوم العصيب، الذي لا ينفع فيه مال ولا قريب {اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ}.



* وتختم السورة بالحديث عن الوحي وعن القرآن، كما بدأت به في مطلع السورة الكريمة، ليتناسق الكلام في البدء والختام {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ..} الآية.



التسميـَـة:

سميت "سورة الشورى" تنويهاً بمكانة الشورى في الإِسلام، وتعليماً للمؤمنين أن يقيموا حياتهم على هذا المنهج الأمثل الأكمل "منهج الشورى" لما له من أثر عظيم جليل في حياة الفرد والمجتمع كما قال تعالى {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ }.





تنزيل الوحي من الله على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم



{حم(1)عسق(2)كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ(3)لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ(4)تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الأَرْضِ أَلا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ(5)وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَولِيَاءَ اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ(6)}



{حم* عسق} الحروف المقطعة للتنبيه على إعجاز القرآن، وإثارة انتباه الإِنسان بحروف أولية، وبدءٍ غير مألوف {كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} أي مثل ما أوحى إليك ربك يا محمد هذا القرآن، أوحى إلى الرسل من قبلك في الكتب المنزلة، اللهُ العزيز في ملكه، الحكيم في صنعه {لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ} أي له ما في الكون ملكاً وخلقاً وعبيداً {وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} أي هو المتعالي فوق خلقه، المنفرد بالكبرياء والعظمة {تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ} أي تكاد السماواتُ يتشققن من عظمة الله وجلاله، ومن شناعة ما يقوله المشركون من اتخاذ الله الولد {وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ} أي والملائكةُ الأبرار دائبون في تسبيح الله، ينزهونه عما لا يليق به {وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الأَرْضِ} أي ويطلبون المغفرة لذنوب من في الأرض من المؤمنين، قال في ابن جزي: والآية عمومٌ يراد به الخصوص لأن الملائكة إنما يستغفرون للمؤمنين من أهل الأرض، فهي كقوله تعالى {ويستغفرون للَّذين ءامنوا} {أَلا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} أي ألاَ فانتبهوا أيها القوم إن الله هو الغفور لذنوب عباده، الرحيم بهم حيث لا يعاجلهم بالعقوبة مع كفرهم وعصيانهم، قال القرطبي: هيَّب وعظَّم جل وعلا في الابتداء، وألطف وبشَّر في الانتهاء {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَولِيَاءَ} أي جعلوا له شركاء وأنداداً {اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ} أي اللهُ تعالى رقيبٌ على أحوالهم وأعمالهم، لا يفوته منها شيءٌ، وهو محاسبُهم عليها {وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ} أي وما أنت يا محمد بموكَّل على أعمالهم حتى تقسرهم على الإِيمان، إِنما أنت منذرٌ فحسب.



مقاصد الوحي الإلهي



{وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ(7)وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمُونَ مَا لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ(8)أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ وَهُوَ يُحْيِ المَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ(9)وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ(10)فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنْ الأَنْعَامِ أَزْوَاجًا يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ(11)لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ(12)}.



{وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا} أي وكما أوحينا إلى الرسل قبلك أوحينا إليك يا محمد قرآناً عربياً معجزاً، بلسان العرب لا لبس فيه ولا غموض {لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا} أي لتنذر بهذا القرآن أهل مكة ومن حولها من البلدان، قال الإِمام فخر الدين الرازي: وأمُّ القُرى أصلُ القرى وهي مكة، وسميت بهذا الاسم إجلالاً لها، لأن فيها البيت ومقام إبراهيم، والعربُ تسمي أصل كل شيءٍ أمه، حتى يقال: هذه القصيدة من أمهات قصائد فلان {وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ} أي وتخوّف الناس ذلك اليوم الرهيب، يوم اجتماع الخلائق للحساب في صعيدٍ واحد {لا رَيْبَ فِيهِ} أي لا شك في وقوعه، ولا محالة من حدوثه {فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ} أي فريقٌ منهم في جنات النعيم وهم المؤمنون، وفريق منهم في دركات الجحيم وهم الكافرون، حيث ينقسمون بعد الحساب إلى أشقياء وسعداء كقوله تعالى {فمنهم شقيٌ وسعيدٌ} {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} أي لو شاء الله لجعل الناس كلهم مهتدين، أهل دينٍ واحدٍ وملةٍ واحدة وهي الإِسلام، قال الضحاك: أهل دينٍ واحد، أهل ضلالةٍ أو أهل هُدى {وَلَكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ} أي ولكنَّه تعالى حكيمٌ لا يفعل إلاَّ ما فيه المصلحة، فمن علم منه اختيار الهدى يهديه فيدخله بذلك في جنته، ومن علم منه اختيار الضلال يضلُّه فيدخله بذلك السعير ولهذا قال {وَالظَّالِمُونَ مَا لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ} أي والكافرون ليس لهم وليٌّ يتولاهم يوم القيامة، ولا نصيرٌ ينصرهم من عذاب الله، قال أبو حيان: والآية تسليةٌ للرسول صلى الله عليه وسلم عمَّا كان يقاسيه من كفر قومه، وتوقيفٌ على أنَّ ذلك راجعٌ إلى مشيئته جل وعلا، ولكنْ من سبقت له السعادة أدخله في رحمته يعني دين الإِسلام {أَمْ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ} استفهامٌ على سبيل الإِنكار أي بل اتخذ المشركون من دون الله آلهة، يستعينون بهم، ويطلبون نصرهم وشفاعتهم؟ {فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ} أي فاللهُ وحده هو الوليُّ الحقُّ الناصرُ للمؤمنين، لا وليَّ سواه {وَهُوَ يُحْيِ المَوْتَى} أي هو تعالى القادر على إحياء الموتى، لا تلك الأصنام التي لا تضر ولا تنفع {وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} أي لا يعجزه شيء فهو الحقيق بأن يُتخذ ولياً دون من سواه {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} أي وما اختلفتم فيه أيها المؤمنون من شيء من أمر الدنيا أو الدين، فالحكم فيه إلى الله جل وعلا، هو الحاكم فيه بكتابه أو بسنة نبيه عليه السلام {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي} أي الموصوف بهذه الصفات هو ربي وحده، وَليِّي ومالك أمري، قال القرطبي: وفيه إضمارٌ أي قل لهم يا محمد: ذلكم الذي يُحيي الموتى، ويحكم بين المختلفين هو ربّي {عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ} أي عليه وحده اعتمدت في جميع أموري {وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} أي وإِليه وحده أرجع في كل ما يعرض عليَّ من مشكلاتٍ ومعضلات، لا إلى أحدٍ سواه، قال الرازي: والعبارة تفيد الحصر أي لا أتوكل إلا عليه، ولا أنيب إلا إليه، وهو إشارة إلى تزييف طريقة من اتخذ غير الله ولياً .. ثم بيَّن تعالى صفاته الجليلة القدسية، التي هي من آثار ومظاهر الربوبية فقال {فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} أي هو جل وعلا خالقهما ومبدعهما على غير مثالٍ سابق {جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا} أي أوجد لكم بقدرته من جنسكم نساءً من الآدميات {وَمِنْ الأَنْعَامِ أَزْوَاجًا} أي وخلق لكم كذلك من الإِبل والبقر والضأن والمعز أصنافاً، ذكوراً وإِناثاً {يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ} أي يكثّركم بسببه بالتوالد، ولولا أنه خلق الذكر والأنثى لما كان ثَمة تناسلٌ ولا توالدٌ {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} أي ليس له تعالى مثيلٌ ولا نظير، لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله، فهو الواحد الأحد، الفردُ الصمد والغرضُ: تنزيهُ الله تعالى عن مشابهة المخلوقين، والكاف هنا لتأكيد النفي أي ليس مثله شيءٌ، قال ابن قتيبة: العربُ تقيم المثل مقام النفس فتقول: مثلي لا يُقال له هذا أي أنا لا يُقال لي هذا، ومعنى الآية ليس كالله جل وعلا شيءٌ، وقال القرطبي: والذي يُعتقد في هذا الباب أن الله - جلَّ اسمُه - في عظمته وكبريائه، وملوكته وحُسنى أسمائه، لا يشبه شيئاً من مخلوقاته، ولا يُشبَّه به أحد، وما أطلقه الشرع على الخالق والمخلوق فلا تشابه بينهما في المعنى الحقيقي، إذْ صفاتُ القديم - عزَّ وجلَّ - بخلاف صفات المخلوق، وإِذْ صفاتُهم لا تنفك عن الأعراض والأغراض، وهو تعالى منزَّه عن ذلك، وقد قال بعض المحققين: التوحيدُ إثباتُ ذاتٍ غير مشبهةٍ للذوات، ولا معطَّلة من الصفات، وزاد الواسطيُّ فقال: ليس كذاته ذات، ولا كاسمه اسم، ولا كفعله فعل، وهذا مذهب أهل الحق، أهل السنة والجماعة {وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} أي وهو تعالى السميع لأقوال العباد، البصير بأفعالهم {لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} أي بيده جل وعلا مفاتيح خزائنهما من المطر والنبات وسائر الحاجات {يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ} أي يوسِّعُ الرزق على من يشاء، ويضيّق على من يشاء، حسب الحكمة الإِلهية {إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} تعليل لما سبق أي لأن علمه تعالى محيط بكل الأشياء، فهو واسع العلم، يعلم إِذا كان الغنى خيراً للعبد أو الفقر.



وحدة الأديان في أصولها



{شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ(13)وَمَا تَفَرَّقُوا إِلا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءهُمْ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ(14)}



{شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} أي سنَّ وبيَّن لكم أيها المؤمنون من الشريعة السمحة والدين الحنيف، ما وصَّى به الرسل، وأرباب الشرائع من مشاهير الأنبياء، كنوح ومحمد عليهما السلام {وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى} أي وما أمرنا به بطريق الإِلزام إبراهيم وموسى وعيسى من أصول الشرائع والأحكام، قال الصاوي: خصَّ هؤلاء بالذكر لأنهم أكابر الأنبياء، واحداً بعد واحد، وشريعةً إثر شريعة، حتى ختمها الله بخير الملل، ملةِ أكرم الرسل نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، فتبيَّن أن شرعنا - معشر الأمة المحمدية - قد جمع جميع الشرائع المتقدمة في أصول الاعتقادات، وأصول الأحكام ولهذا قال تعالى {أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} أي وصيناهم بأن أقيموا الدين الحق - دين الإِسلام - الذي هو توحيدُ الله وطاعتهُ، والإِيمان بكتبه ورسله، وبالبعث والجزاء، قال القرطبي: المراد اجعلوا الدين قائماً مستمراً محفوظاً من غير خلافٍ فيه ولا اضطراب، في الأصول التي لا تختلف فيها الشريعة وهي: التوحيد، والصلاة، والصيام، والزكاة، والحج، وغيرها، فهذا كله مشروع ديناً واحداً وملة متحدة. {كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ} أي عظُم وشقَّ على الكفار ما تدعوهم إليه من عبادة الله، وتوحيد الواحد القهار {اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ} أي اللهُ يصطفي ويختار للإِيمان والتوحيد من يشاء من عباده، ويهدي إلى دينه الحق من يرجع إلى طاعته، فيوفقه له ويقربه إليه رحمةً وإِكراماً {وَمَا تَفَرَّقُوا إِلا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءهُمْ الْعِلْمُ} أي وما تفرَّق أهل الأديان المختلفة من اليهود والنصارى وغيرهم إلاّ من بعد ما قامت عليهم الحجج والبراهين من النبي المرسل إليهم {بَغْيًا بَيْنَهُمْ} أي ظلماً وتعدياً، وحسداً وعناداً {وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} أي ولولا أن الله قضى بتأخير العذاب عنهم إلى يوم القيامة {لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ} أي لعجَّل لهم العقوبة في الدنيا سريعاً باستئصالهم، قال ابن كثير: أي لولا الكلمة السالفة من الله تعالى بإِنظار العباد إلى يوم المعاد لعجل لهم العقوبة سريعاً {وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِهِمْ} أي وإِن بقيَّة أهل الكتاب الذين عاصروا رسول الله صلى الله عليه وسلم من بعد أسلافهم السابقين {لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ} أي لفي شك من التوراة والإِنجيل، موقع لهم في أشد الحيرة والريبة، لأنهم ليسوا على يقين من أمر دينهم وكتابهم، وإِنما هم مقلدون لآبائهم وأسلافهم، بلا دليل ولا برهان، قال البيضاوي: لا يعلمون كتابهم كما هو ولا يؤمنون به حق الإِيمان، فهم في شك مقلق.







الأمر بالدعوة والاستقامة، ودحض حجج المجادلين





{فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ وَقُلْ ءامنتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لأَعْدِلَ بَيْنَكُمْ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ(15)وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ(16)اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ(17) يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِهَا وَالَّذِينَ ءامنوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ أَلا إِنَّ الَّذِينَ يُمَارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلالٍ بَعِيدٍ(18) اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ العَزِيزُ(19)}.



سبب النزول:

نزول الآية (16):

{وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ..}: أخرج ابن المنذر عن عكرمة قال: لما نزلت { إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} قال المشركون بمكة لمن بين أظهرهم من المؤمنين: قد دخل الناس في دين الله أفواجاً، فاخرجوا من بين أظهرنا، فعلامَ تقيمون بين أظهرنا؟ فنزلت: {وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ} الآية.



{فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ} أي فلأجل ذلك التفرق الذي حدث لأهل الكتاب، أمرناك يا محمد أن تدعو الناس إلى دين الحنيفية السمحة، الذي وصينا به جميع المرسلين قبلك، فادع يا محمد إليه والزم النهج القويم مع الاستقامة كما أمرك ربك {وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ} أي ولا تتبع أهواء المشركين الباطلة فيما يدعونك إليه من ترك دعوة التوحيد {وَقُلْ ءامنتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ} أي صدَّقت بكل كتاب أنزله الله تعالى، قال الرازي: يعني الإِيمان بجميع الكتب السماوية، لأن أهل الكتاب المتفرقين في دينهم ءامنوا ببعضٍ وكفروا ببعض {وَأُمِرْتُ لأَعْدِلَ بَيْنَكُمْ} أي وأمرني ربي بأن أعدل بينكم في الحكم، قال ابن جزي: يعني العدل في الأحكام إذا تخاصموا إليه {اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ} أي الله خالقنا جميعاً ومتولي أمورنا فيجب أن نفرده بالعبادة {لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ} أي لنا جزاء أعمالنا ولكم جزاء أعمالكم، من خير أو شرٍّ، لا نستفيد من حسناتكم ولا نتضرر من سيئاتكم، قال ابن كثير: هذا تبرؤٌ منهم أي نحن برآء منكم كقوله تعالى {وإِن كذبوك فقل لي عملي ولكم عملكم، أنتم بريئون مما أعمل وأنا بريءٌ مما تعملون} {لا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ} أي لا جدال ولا مناظرة بيننا وبينكم، فإِن الحقَّ قد ظهر وبَانَ، كالشمس في رابعة النهار، وأنتم تعاندون وتكابرون {اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ} أي الله يجمع بيننا يوم القيامة لفصل القضاء، وإليه المرجع والمآب فيجازي كل أحدٍ بعمله من خير وشر، قال الصاوي: والغرضُ أن الحقَّ قد ظهر، والحجج قد قامت، فلم يبق إلا العناد، وبعد العناد لا حجة ولا جدل، والله يفصل بين الخلائق يوم المعاد، ويجازي كلاً بعمله {وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ} أي يخاصمون في دينه لصدِّ الناس عن الإِيمان {مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ} أي من بعد ما استجاب الناسُ له ودخلوا في دينه {حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ} أي حجتهم باطلة لا ثبوت لها عند الله، قال ابن عباس: نزلت في طائفةٍ من بني إسرائيل همَّت برد الناس عن الإِسلام وإِضلالهم ومحاجتهم بالباطل {وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ} أي وعليهم غضب عظيم في الدنيا، وعذابٌ شديد في الآخرة {اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الكِتَابَ} أي نزَّل القرآن وسائر الكتب الإِلهية متلبساً بالصدق القاطع، والحقِّ الساطع، في أحكامه وتشريعاته وأخباره {والميزان} أي ونزَّل الميزان أي العدل والإِنصاف قاله ابن عباس، قال المفسرون: وسمي العدلُ ميزاناً لأن الميزان يحصل به العدل والإِنصاف، فهو من تسمية الشيء باسم السبب {بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ} أي وما ينبئك أيها المخاطب لعلَّ وقت الساعة قريب؟ فإِن الواجب على العاقل أن يحذر منها، ويستعدَّ لها، قال أبو حيان: ووجه اتصال الآية بما سبق أن الساعة يوم الحساب فكأنه قيل: أمركم الله بالعدل والتسوية قبل أن يفاجئكم اليوم الذي يحاسبكم فيه ويزن أعمالكم {يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِهَا} أي يستعجل بالقيامة المشركون الذين لا يصدّقون بها فيقولون على سبيل الاستهزاء: متى تكون؟ {وَالَّذِينَ ءامنوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا} أي والمؤمنون المصدّقون بها خائفون وجلون من قيامها {وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ} أي ويعلمون أنها كائنة وحاصلة لا محالة {أَلا إِنَّ الَّذِينَ يُمَارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلالٍ بَعِيدٍ} أي الذين يجادلون في أمر القيامة في ضلال بعيد عن الحق، لإِنكارهم عدل الله وحكمته.

yacine414
2011-04-01, 17:55
{اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ} أي بارٌّ رحيم بالخلق كثير الإِحسان بهم، يفيض عليهم من الخيرات والبركات مع عصيانهم، قال مقاتل: لطيف بالبر والفاجر حيث لم يهلكهم جوعاً بمعاصيهم {يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ} أي يوسِّع الرزق على من يشاء، قال القرطبي: وفي تفضيل قومٍ بالمال حكمة، ليحتاج البعضُ إلى البعض، وهذا من لطفه بالعباد، وأيضاً ليمتحن الغنيَّ بالفقير، والفقير بالغني كقوله تعالى {وجعلنا بعضكم لبعضٍ فتنة أتصبرون} {وَهُوَ الْقَوِيُّ} أي القادر على كل ما يشاء {العَزِيزُ} أي الغالبُ الذي لا يُغالب ولا يُدافع.





حتمية الجزاء للمؤمنين والظالمين، وقبول التوبة



{مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ نزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ(20)أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ وَلَوْلا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ(21)تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ وَالَّذِينَ ءامنوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ مَا يَشَاءونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الكَبِيرُ(22)ذَلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبَادَهُ الَّذِينَ ءامنوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ(23) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَإِنْ يَشَأْ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ(24)وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنْ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ(25)وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ ءامنوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَالْكَافِرُونَ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ(26)}



سبب النزول:

نزول الآية (23):

{قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ..}: قال قتادة: قال المشركون: لعلّ محمداً فيما يتعاطاه يطلب أجراً، فنزلت هذه الآية، ليحثهم على مودّته ومودة أقربائه.



ثم لما بيَّن كونه لطيفاً بالعباد، كثير الإِحسان إليهم، أشار إلى أن الإِنسان ما دام في هذه الحياة فعليه أن يسعى في طلب الخيرات لأسباب السعادة فقال {مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ} أي من كان يريد بعمله ثواب الآخرة ونعيمها، نزدْ له في أجره وثوابه، بمضاعفة حسناته {وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤتِهِ مِنْهَا} أي ومن كان يريد بعمله متاع الدنيا ونعيمها فقط، نعطه بعض ما يطلبه من المتاع العاجل ممَّا قُدر له {وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ} أي وليس له في الآخرة حظٌ من الثواب والنعيم، قال الزمخشري: سمَّى ما يعمله العامل مما يبتغي به الفائدة حرثاً على سبيل المجاز، وفرَّق بينهما بأن من عمل للآخرة ضوعفت حسناته، ومن عمل للدنيا أُعطي شيئاً منها لا ما يريده ويبتغيه، وقال ابن جزي: حرثُ الآخرة عبارة عن العمل لها، وكذلك حرث الدنيا، وهو مستعارٌ من حرث الأرض، لأن الحرَّاث يعمل وينتظر المنفعة بما عمل، ثم أخذ ينكر على الكفار عبادتهم لغير الله، مع أنه الخالق المتفضل على العباد فقال {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ}؟ الاستفهام للتقرير والتوبيخ أي ألهؤلاء الكفار شركاء من الشياطين أو آلهة من الأوثان، شرعوا لهم الشرك والعصيان الذي لم يأمر به الله؟ قال شيخ زاده: وإِسنادُ الشرع إلى الأوثان وهي جمادات إسنادٌ مجازي، من إسناد الفعل إلى السبب، وسمَّاه ديناً للمشاكلة والتهكم {وَلَوْلا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ} أي لولا أنَّ الله حكم وقضى في سابق أزله أن الثواب والعقاب يكونان يوم القيامة لحكم بين الكفار والمؤمنين، بتعجيل العقوبة للظالم، وإِثابة المؤمن {وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} أي وإِن الكافرين الذين ظلموا أنفسهم بالكفر والعصيان لهم عذابٌ موجع مؤلم {تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا} أي ترى أيها المخاطب الكافرين يوم القيامة خائفين خوفاً شديداً من جزاء السيئات التي ارتكبوها في الدنيا {وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ} أي والجزاء عليها نازلٌ بهم يوم القيامة لا محالة، سواءً خافوا أو لم يخافوا {وَالَّذِينَ ءامنوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ} أي والمؤمنون الصالحون في رياض الجنة يتمتعون، في أطيب بقاعها، وفي أعلى منازلها {لَهُمْ مَا يَشَاءونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ} أي لهم في الجنات ما يشتهونه من أنواع اللذائذ والنعيم والثواب العظيم عند رب كريم، قال ابن كثير: فأين هذا من هذا؟ أين من هو في الذل والهوان، ممن هو في روضات الجنان؟ فيما يشاء من مآكل ومشارب وملاذ؟ ولهذا قال تعالى {ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الكَبِيرُ} أي ذلك النعيم والجزاء هو الفوز الأكبر الذي لا يوازيه شيء، قال القرطبي: أي الفضل الذي لا يوصف، ولا تهتدي العقول إلى حقيقة صفته، لأن الحقَّ جل وعلا إذا قال "كبير" فمن ذا الذي يقدر قدره ؟ {ذَلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبَادَهُ الَّذِينَ ءامنوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} أي ذلك الإِكرام والإِنعام هو الذي يبشر الله به عباده المؤمنين المتقين، ليتعجلوا السرور ويزدادوا شوقاً إلى لقائه {قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} أي قل لهم يا محمد لا أسألكم على تبليغ الرسالة شيئاً من الأجر والمال، إلاَّ أن تحفظوا حقَّ القربى ولا تؤذوني حتى أبلغ رسالة ربي، قال ابن كثير: أي لا أسألكم على هذا البلاغ والنصح مالاً، وإِنما أطلب أن تذروني حتى أبلغ رسالات ربي، فلا تؤدوني بما بيني وبينكم من القرابة، قال ابن عباس: يقول إلا أن تصلوا ما بيني وبينكم من القرابة، وتودُّوني في نفسي لقرابتي منكم {وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا} أي ومن يكتسب ويفعل طاعةً من الطاعات نضاعف له ثوابها {إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ} أي غفور للذنوب شاكر لإِحسان المحسن، لا يضيع عنده عمل العامل، ولهذا يغفر الكثير من السيئات، ويكثِّر القليل من الحسنات {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا}؟ أي بل أيقول كفار قريش إن محمداً اختلق الكذب على الله بنسبة القرآن إليه؟ قال أبو حيان: وهذا استفهام إنكار وتوبيخ للمشركين على هذه المقالة أي مثله لا يُنسب إلى الكذب على الله مع اعترافكم له قبل الصدق والأمانة {فَإِنْ يَشَأْ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ} أي لو افتريت على الله الكذب كما يزعم هؤلاء المجرمون لختم على قلبك فأنساك هذا القرآن، وسلبه من صدرك، ولكنك لم تفتر على الله كذباً ولهذا أيَّدك وسدَّدك، قال ابن كثير: وهذه كقوله جل وعلا {ولو تقوَّل علينا بعض الأقاويل. لأخذنا منه باليمين ثم لقطعنا منه الوتين} وقال أبو السعود: والآيةُ استشهادٌ على بطلان ما قالوا ببيان أنه عليه السلام لو افترى على الله تعالى لمنعه من ذلك قطعاً، بالختم على قلبه بحيث لا يخطر بباله معنى من معانيه، ولم ينطق بحرفٍ من حروفه {وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ} أي يزيل الله الباطل بالكلية {وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ} أي ويثبتُ اللهُ الحق ويوضّحه بكلامه المنزل، وقضائه المبرم، وقال ابن كثير: بكلماته أي بحججه وبراهينه {إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} أي عالم بما في القلوب، يعلم ما تكنه الضمائر، وتنطوي عليه السرائر، وقال القرطبي: والمراد أنك لو حدثت نفسك أن تفتري الكذب لعلمه الله وطبع على قلبك {وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ} هذا امتنانٌ من الرحمن على العباد أي هو جل وعلا بفضله وكرمه يتقبل التوبة من عباده، إذا أقلعوا عن المعاصي وأنابوا بصدقٍ وإخلاص نيّة {وَيَعْفُو عَنْ السَّيِّئَاتِ} أي يصفح عن الذنوب صغيرها وكبيرها لمن يشاء {وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ} أي يعلم جميع ما تصنعون من خيرٍ أو شر {وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ ءامنوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} أي ويستجيب الله دعاء المؤمنين الصالحين، قال الرازي: أي ويستجيبُ اللهُ للمؤمنين إلاَّ أنه حذف اللام كما حذف في قوله {وإِذا كالوهم} أي كالوا لهم {وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ} أي ويزيدهم من جوده وكرمه فوق ما سألوا واستحقوا لأنه الجواد الكريم، البرُّ الرحيم {وَالْكَافِرُونَ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ} أي وأما الكافرون بالله فلهم العذاب الموجع الأليم في دار الجحيم.







مظاهر حكمة الله، وآياته الدالة على قدرته



{وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ(27)وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ(28)وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِنْ دَابَّةٍ وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ(29)وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ(30)وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ(31)وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالأَعْلامِ(32) إِنْ يَشَأْ يُسْكِنْ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ(33)أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ(34)وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِنَا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ(35)فَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ ءامنوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ(36)}.



سبب النزول:

نزول الآية (27):

{وَلَوْ بَسَطَ }: أخرج الحاكم وصححه عن علي قال: نزلت هذه الآية في أصحاب الصُّفَّة: {وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الأَرْضِ} وذلك أنهم قالوا: لو أن لنا، فتمنوا الدنيا والغنى. وقال خبَّاب بن الأرتّ: فينا نزلت هذه الآية - أي في أهل الصفَّة - وذلك أنا نظرنا إلى أموال بني قريظة والنضير وبني قينقاع، فتمنيناها.



نزول الآية (36):

{فَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ}: عن علي رضي الله عنه: تصدَّق أبو بكر رضي الله عنه بماله كله، فلامه جمع، فنزلت. جاء في الحديث: أنه أنفق ثمانين ألفاً.



{وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الأَرْضِ } أي ولو وسَّع الله الرزق على عباده لطغوا وبغَوْا وأفسدوا في الأرض بالمعاصي والآثام، لأن الغنى يوجب الطغيان، قال ابن كثير: أي لو أعطاهم فوق حاجتهم من الرزق، لحملهم ذلك على البغي والطغيان من بعضهم على بعض أشراً وبطراً، وقال قتادة: خير العيش ما لا يُلهيك ولا يُطغيك {وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ} أي ولكنه تعالى يُنزّل أرزاق العباد بما تقتضيه الحكمة والمصلحة كما جاء في الحديث القدسي (إنَّ من عبادي من لا يصلحُه إلا الغنى ولو أفقرته لأفسدت عليه دينه، وإِن من عبادي من لا يصلحه إلا الفقر، ولو أغنيته لأفسدت عليه دينه) {إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ} أي عالم بأحوالهم وما يصلحهم، فيعطي ويمنع، ويبسط ويقبض، حسبما تقتضيه الحكمة الربانية {وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا} تعديدٌ لنعمه على العباد أي هو تعالى الذي ينزّل المطر، الذي يغيثهم من الجدب، من بعد ما يئسوا من نزوله {وَيَنشُرُ رَحْمَتَهُ} أي ويبسط خيراته وبركاته على العباد {وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ} أي وهو الوليُّ الذي يتولى عباده، المحمود بكل لسان على ما أسدى من النعماء {وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} أي ومن دلائل قدرته، وعجائب حكمته، الدالة على وحدانيته، خلقُ السماوات والأرض بهذا الشكل البديع {وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِنْ دَابَّةٍ} أي وما نشر وفرَّق في السموات والأرض من مخلوقات، قال ابن كثير: هذا يشمل الملائكة والإِنس والجن، وسائر الحيوانات على اختلاف أشكالهم وألوانهم وأجناسهم وأنواعهم، وقال مجاهد: هم الناسُ والملائكة {وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ} أي وهو تعالى قادر على جمع الخلائق للحشر والحساب والجزاء، في أيِّ وقتٍ شاء {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} أي وإنّ ما أصابكم أيها الناس من المصائب في النفس أو المال فإِنما هي بسبب معاصيكم التي اكتسبتموها، قال الجلال: وعبَّر بالأيدي لأن أكثر الأفعال تُزاول بها {وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ} أي ويصفح عن كثير من الذنوب فلا يعاقبكم عليها، ولو آخذكم بكل ما كسبتم لهلكتم وفي الحديث (لا يصيب ابن آدم خدش عود، أو عثرة قدمٍ، ولا اختلاجُ عرقٍ إلا بذنبٍ، وما يعفو عنه أكثر) {وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الأَرْضِ} أي ولستم أيها المشركون فائتين من عذاب الله، ولا هاربين من قضائه، وإِن هربتم من أقطارها كل مهرب {وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ} أي وليس لكم غير الله وليٌّ يتولى أموركم ويتعهد مصالحكم، ولا نصير يدفع عنكم عذابه وانتقامه.

{وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالأَعْلامِ} أي ومن علاماته الدالة على قدرته الباهرة، وسلطانه العظيم، السفنُ الجارية في البحر كأنها الجبال من عظمها وضخامتها {إِنْ يَشَأْ يُسْكِنْ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ} أي لو شاء تعالى لأسكن الرياح وأوقفها فتبقى السفن سواكن وثوابت على ظهر البحر لا تجري {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} أي إن في تسييرها لعبراً وعظات لكل مؤمن صابر في البأساء، شاكرٍ في الرخاء، قال الصاوي: أي كثير الصبر على البلايا، عظيم الشكر على العطايا، وقال أبو حيان: وإِنما ذكر السفن الجارية في البحر، لما فيها من عظيم دلائل القدرة، من جهة أن الماء جسم لطيف شفاف، يغوص فيه الثقيل، والسفن تحمل الأجسام الثقيلة الكثيفة ومع ذلك جعل الله تعالى في الماء قوة يحملها بها ويمنعها من الغوص، ثم جعل الرياح سبباً لسيرها فإِذا أراد أن ترسو أسكن الريح فلا تبرح عن مكانها {أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا} أي وإِن يشأ يجعل الرياح عواصف فيغرق هذه السفن وأهلها بسبب ما اقترفوا من جرائم {وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ} أي ويتجاوز عن كثير من الذنوب فينجيهم الله من الهلاك {وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِنَا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ} أي وليعلم الكفار المجادلون في آيات الله بالباطل، أنه لا ملجأ لهم ولا مهرب من عذاب الله، قال القرطبي: أي ليعلم الكفار إِذا توسطوا البحر وغشيتهم الرياح من كل مكان أنه لا ملجأ لهم سوى الله، ولا دافع لهم إن أراد الله إهلاكهم فيخلصون له العبادة {فَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} أي فما أعطيتم أيها الناس من شيء من نعيم الدنيا وزهرتها الفانية، فإِنما هو نعيم زائل، تتمتعون به مدة حياتكم ثم يزول {وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى} أي وما عند الله من الثواب والنعيم، خيرٌ من الدنيا وما فيها، لأنَّ نعيم الاخرة دائم مستمر، فلا تُقدِّموا الفاني على الباقي {لِلَّذِينَ ءامنوا} أي للذين صدَّقوا الله ورسوله وصبروا على تلك الملاذ في الدنيا {وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} أي واعتمدوا على الله وحده في جميع أمورهم.





صفات المؤمنين المستقيمين





{وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ(37)وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ(38)وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمْ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ(39)وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ(40)وَلَمَنْ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُوْلَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ(41)إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ(42)وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ(43)}.



سبب النزول:

نزول الآية (37):

{وَإِذَا مَا غَضِبُوا..} قيل: نزلت في عمر حين شُتم بمكة، وقيل : في أبي بكر حين لامه الناس على إنفاق ماله، وحين شُتم فحلُم.



نزول الآية (38):

{وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا..}: نزلت في الأنصار دعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الإيمان، فاستجابوا وأقاموا الصلاة.



نزول الآيات (41 - 43):

ذكر الكلبي والفراء أنها نزلت أيضاً في أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وقد شتمه بعض الأنصار‎، فرد عليه، ثم أمسك.



{وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ} أي وهؤلاء المؤمنون هم الذين يجتنبون كبائر الذنوب كالشرك والقتل وعقوق الوالدين {وَالْفَوَاحِشَ} قال ابن عباس: يعني الزنى {وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ} أي إِذا غضبوا على أحدٍ ممَّن اعتدى عليهم عفوا وصفحوا، قال الصاوي: من مكارم الأخلاق التجاوز والحلم عند حصول الغضب، ولكن يشترط أن يكون الحلم غير مخلٍ بالمروءة، ولا واجباً كما إِذا انتهكت حرماتُ الله فالواجب حينئذٍ الغضب لا الحلم، وعليه قول الشافعي "من استُغضب ولم يغضب فهو حمار" وقال الشاعر: "وحلمُ الفتى في غير موضعه جهل" {وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ} أي أجابوا ربهم إلى ما دعاهم إليه من التوحيد والعبادة، قال البيضاوي: نزلت في الأنصار دعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الإِيمان فاستجابوا {وَأَقَامُوا الصَّلاةَ} أي أدوها بشروطها وآدابها، وحافظوا عليها في أوقاتها {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} أي يتشاورون في الأمور ولا يعجلون، ولا يُبرمون أمراً من مهمات الدنيا والدين إلا بعد المشورة {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} أي وينفقون مما أعطاهم الله بالإِحسان إلى خلق الله {وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمْ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ} أي ينتقمون ممن بغى عليهم، ولا يستسلمون لظلم المعتدي، قال إبراهيم النخعي: كانوا يكرهون أن يُذلّوا أنفسهم فتجترئ عليهم الفساق، قال أبو السعود: وهو وصفٌ لهم بالشجاعة بعد وصفهم بسائر الفضائل،وهذا لا ينافيوصفهم بالغفران فإِن كلاً في موضعه محمود {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} أي وجزاء العدوان أن ينتصر ممن ظلمه من غير أن يعتدي عليه بالزيادة، قال الإِمام فخر الدين الرازي: لما قال تعالى {وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمْ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ} أردفه بما يدل على أن ذلك الانتصار يجب أن يكون مقيداً بالمثل دون زيادة، وإِنما سمَّى ذلك سيئة لأنها تسوء من تنزل به {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} أي فمن عفا عن الظالم، وأصلح بينه وبين عدوه، فإِن الله يثيبه على ذلك الأجر الجزيل، قال ابن كثير: شرع تعالى العدل وهو القصاص، وندب إلى الفضل وهو العفو، فمن عفا فإِن الله لا يضيع له ذلك كما جاء في الحديث (وما زاد اللهُ تعالى عبداً بعفوٍ إلا زاده عزاً) {إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} أي إنه جل وعلا يبغض البادئين بالظلم، والمعتدين في الانتقام {وَلَمَنْ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ} أي انتصر ممن ظلمه دون عدوان {فَأُوْلَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ} أي فليس عليهم عقوبة ولا مؤاخذة، لأنهم أتوا بما أبيح لهم من الانتصار {إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ} أي إنما العقوبة والمؤاخذة على المعتدين الذين يظلمون الناس بعدوانهم {وَيَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} أي ويتكبرون في الأرض تجبراً وفساداً، بالمعاصي والاعتداء على الناس في النفوس والأموال {أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} أي أولئك الظالمون الباغون لهم عذاب مؤلم موجع بسبب ظلمهم وبغيهم {وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ} أي ولمن صبر على الأذى، وترك الانتصار لوجه الله تعالى، فإِن ذلك الصبر والتجاوز من الأمور الحميدة التي أمر الله بها وأكد عليها، قال الصاوي: كرَّر الصبر اهتماماً به وترغيباً فيه وللإِشارة إلى أنه محمود العاقبة.





النار وحال الكفار منها



{وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوْا الْعَذَابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلَى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ(44)وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ وَقَالَ الَّذِينَ ءامنوا إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذَابٍ مُقِيمٍ(45)وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ أَوْلِيَاءَ يَنصُرُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ سَبِيلٍ(46)}.



{وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ} أي ومن يضلله اللهُ فليس له ناصر ولا هادٍ يهديه إلى الحق {وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوْا الْعَذَابَ} أي وترى الكافرين حين شاهدوا عذاب جهنم {يَقُولُونَ هَلْ إِلَى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ} أي يطلبون الرجوع إلى الدنيا لهول ما يشاهدون من العذاب ويقولون: هل هناك طريق لعودتنا إلى الدنيا؟ قال القرطبي: يطلبون أن يُردُّوا إلى الدنيا ليعملوا بطاعة الله عز وجل فلا يجابون {وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَ } أي وتراهم أيها المخاطب يُعرضون على النار {خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ} أي متضائلين صاغرين مما يلحقهم من الذل والهوان {يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ} أي يسارقون النظر خوفاً منها وفزعاً كما ينظر من قُدِّم ليقتل بالسيف، فإِنه لا يقدر أن ينظر إليه بملء عينه، قال ابن عباس: ينظرون بطرفٍ ذابلٍ ذليل، وقال قتادة والسدي: يُسارقون النظر من شدة الخوف {وَقَالَ الَّذِينَ ءامنوا إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} أي يقول المؤمنون في الجنة لما عاينوا ما حلَّ بالكفار: إن الخسران في الحقيقة ما صار إليه هؤلاء، فإِنهم خسروا أنفسهم وأهليهم بخلودهم في نار جهنم {أَلا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذَابٍ مُقِيمٍ} أي ألا إنهم في عذاب دائمٍ لا ينقطع {وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ أَوْلِيَاءَ يَنصُرُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ} أي وما كان لهم من أعوان ونصراء ينصرونهم من عذاب الله كما كانوا يرجون ذلك في الدنيا {وَمَنْ يُضْلِلْ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ سَبِيلٍ} أي ومن يضلله اللهُ فليس له طريق يصل به إلى الحق في الدنيا، وإِلى الجنة في الآخرة، لأنه قد سُدَّت عليه طريق النجاة، قال ابن كثير: من يضلله الله فليس له خلاص.



الاستجابة لله عز وجل



{اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ مَا لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ(47)فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا إِنْ عَلَيْكَ إِلا الْبَلاغُ وَإِنَّا إِذَا أَذَقْنَا الإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الإِنسَانَ كَفُورٌ(48)لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ(49) أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ(50)}.



{اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ} أي استجيبوا أيها الناسُ إلى ما دعاكم إليه ربكم من الإِيمان والطاعة {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ} أي من قبل أن يأتي ذلك اليوم الرهيب الذي لا يقدر أحدٌ على ردِّه، لأنه ليس له دافع ولا مانع {مَا لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ} أي ليس لكم مفر تلتجئون إليه {وَمَا لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ} أي وليس لكم منكِرٌ يُنكِر ما ينزل بكم من العذاب، وقال أبو السعود: أي ما لكم إنكار لما اقترفتموه لأنه مدوَّن في صحائف أعمالكم وتشهد عليه جوارحكم {فَإِنْ أَعْرَضُوا } أي فإِن أعرض المشركون عن الإِيمان ولم يقبلوا هداية الرحمن {فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا} أي فما أرسلناك يا محمد رقيباً على أعمالهم ولا محاسباً لهم {إِنْ عَلَيْكَ إِلا الْبَلاغُ} أي ما عليك إلاَّ أن تبلغهم رسالة ربك وقد فعلت، قال أبو حيان: والآية تسلية للرسول صلى الله عليه وسلم وتأنيسٌ له، وإِزالةٌ لهمِّه بهم، ثم أخبر تعالى أن طبيعة الإِنسان الكفران لنعم الله فقال {وَإِنَّا إِذَا أَذَقْنَا الإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِهَا} المرادُ بالإِنسان الجنس بدليل قوله {وَإِنْ تُصِبْهُمْ} والمعنى إنا إذا أكرمنا الإِنسان بنعمةٍ من النعم من صحة وغنى وأمنٍ وغيرها بطر وتكبَّر {سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الإِنسَانَ كَفُورٌ} أي وإِن أصاب الناسَ جدبٌ ونقمة، وبلاءٌ وشدة، بسبب ما اقترفوه من آثام فإِن الإِنسان مبالغٌ في الجحود والكفران، ينسى النعمة ويذكر البلية، قال الصاوي: والحكمةُ في تصدير النعمة بـ "إذا" والبلاء بـ "إنْ" هو الإِشارة إلى أن النعمة محققة الحصول بخلاف البلاء، لأن رحمة الله تغلب غضبه، وقال الإِمام فخر الدين الرازي: نِعَمُ اللهِ في الدنيا وإِن كانت عظيمة إلا أنها بالنسبة إلى سعادة الآخرة كالقطرة بالنسبة إلى البحر فلذلك سمَّاها ذوقاً، فبيَّن تعالى أن الإِنسان إذا فاز بهذا القدر الحقير في الدنيا فإِنه يفرح بها ويعظم غروره بسببها ويقع في العجب والكبر، ويظن أنه فاز بكل المُنى، وذلك لجهله بحال الدنيا وبحال الآخرة {لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ} أي هو تعالى المالك للكون كلِّه، علويه وسفليّه، والمتصرف فيه بالخلق والإِيجاد، كيفما شاء، والمقصودُ من الآية أن لا يغتر الإِنسان بما ملكه من المال والجاه، وأن يعلم أن الكل ملك الله وحده، وبيده مقاليد التصرف في السماوات والأرض، يعطي ويمنع، لا رادَّ لقضائه ولا معقّب لحكمه {يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا} أي يخص من شاء من عباده بالإِناث دون البنين {وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ} أي ويخص من شاء بالذكور دون الإِناث {أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا} أي يجعلهم إن شاء من النوعين فيجمع للإِنسان بين البنين والبنات {وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا} أي ويجعل بعض الرجال عقيماً فلا يولد له، وبعض النساء عقيماً فلا تلد، قال البيضاوي: والمعنى يجعل أحوال العباد في الأولاد مختلفة، على مقتضى المشيئة، فيهب لبعضٍ إمّا صنفاً واحداً من ذكر أو أنثى، أو الصنفين جمعاً، ويُعقم آخرين، والمراد من الآية بيان نفاذ قدرته تعالى في الكائنات كيف يشاء، ولهذا قال {إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ} أي مبالغ في العلم والقدرة، يفعل ما فيه مصلحة وحكمة، قال ابن كثير: جعل تعالى الناس أربعة أقسام : منهم من يعطيه البنات، ومنهم من يعطيه البنين، ومنهم من يعطيه النوعين الذكور والإِناث، ومنهم من يمنعه هذا وهذا فيجعله عقيماً لا نسل له ولا ولد، فسبحان العليم القدير.



الوحي وأقسامه



{وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلاَّ وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ(51)وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ(52) صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الأُمُورُ(53)}.



سبب النزول:

نزول الآية (51):

{وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ..} سبب نزول هذه الآية أن اليهود قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: ألا تكلم الله وتنظر إليه إن كنت نبيّاً، كما كلّمه موسى؟ فنزلت، وقال: لم ينظر موسى إلى الله تعالى.



ثم ذكر تعالى الوحي وأقسامه وأنواعه فقال: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلاَّ وَحْيًا}أي وما صحَّ لأحدٍ من البشر أياً كان أن يكلمه الله إلا بطريق الوحي في المنام أو بالإِلهام، لأن رؤيا الأنبياء حقٌ كما وقع للخليل إبراهيم عليه السلام {إني أرى في المنام أني أذبحك} {أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} أي أو يكلمه من وراء حجاب كما كلَّم موسى عليه السلام {أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ} أي أو يرسل ملكاً فيبلغ الوحي إلى الرسول بأمره تعالى ما يشاء تبليغه كما نزل جبريل بالوحي على الأنبياء، قال ابن جزي: بيَّن تعالى في الآية أن كلامه لعباده على ثلاثة أوجه: أحدها الوحي بطريق الإِلهام أو المنام، والآخر أن يُسمعه كلامه من وراء حجاب، والثالث: الوحي بواسطة الملك، وهذا خاص بالأنبياء، والثاني خاص بموسى وبمحمد إذ كلمه الله ليلة الإِسراء، وأما الأول فيكون للأنبياء والأولياء، وقال الصاوي: وقد يقع الإِلهام لغير الأنبياء كالأولياء، غير أن إلهام الأولياء قد يختلط به الشيطان لأنهم غير معصومين، بخلاف الأنبياء فإِلهامهم محفوظ منه {إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ} أي إنه تعالى متعالٍ عن صفات المخلوقين، حكيم في أفعاله وصنعه، تجري أفعاله على موجب الحكمة {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا} أي وكما أوحينا إلى غيرك من الرسل أوحينا إليك يا محمد هذا القرآن، وسمَّاه روحاً لأن فيه حياة النفوس من موت الجهل، وكان مالك بن دينار يقول: يا أهل القرآن ماذا زرع القرآن في قلوبكم؟ فإِن القرآن ربيع القلوب كما أن الغيث ربيع الأرض {مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ} أي ما كنت يا محمد تعرف قبل الوحي ما هو القرآن، ولا كنت تعرف شرائع الإِيمان ومعالمه على وجه التفصيل {وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا} أي ولكن جعلنا هذا القرآن نوراً وضياءً نهدي به عبادنا المتقين {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} أي وإِنك يا محمد لترشد إلى دين قيمٍ مستقيم هو الإِسلام {صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ} أي هذا الدين الذي لا اعوجاج فيه هو دينُ الله الذي له كل ما في الكون ملكاً وخلقاً وعبيداً {أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الأُمُورُ} أي ألا إلى الله وحده ترجع الأمور فيفصل فيها بين العباد بحكمه العادل وقضائه المبرم.

yacine414
2011-04-01, 17:56
سورة الزّخْرُف



تأكيد عربية القرآن، وعقاب المستهزئين بالأنبياء

عبادة المشركين غير الله

البراءة من عبادة الأصنام، واختيار الله للأنبياء

حال المعرض عن ذكر الله، وتسلية النبي صلى الله عليه وسلم

العبرة من قصة موسى عليه السلام مع فرعون

العبرة من قصة عيسى عليه السلام

نِعَمُ الله على المؤمنين يوم القيامة

حال الأشقياء الفجار يوم القيامة

تنزيه الله تعالى عن الولد والشريك



بَين يَدَي السُّورَة



* سورة الزخرف مكية، وقد تناولت أسس العقيدة الإِسلامية وأصول الإِيمان، "الإِيمان بالوحدانية، وبالرسالة، وبالبعث والجزاء" كشأن سائر السور المكية.



* عرضت السورة لإِثبات مصدر الوحي، وصدق هذا القرآن، الذي أنزله الله على النبيّ الأمي بأفصح لسانٍ، وأنصع بيان، ليكون معجزة واضحة للنبي العربي.



* ثم عرضت إلى دلائل قدرته تعالى ووحدانيته، منبثةً في هذا الكون الفسيح، في السماء والأرض، والجبال والوهاد، والبحار والأنهار، والماء الهاطل من السماء، والسفن التي تسير فوق سطح الماء، والأنعام التي سخرها الله للبشر ليأكلوا لحومها ويركبوا ظهورها.



* ثم تناولت السورة ما كان عليه المجتمع الجاهلي من الخرافات والوثنيات فقد كانوا يكرهون البنات، ومع ذلك اختاروا لله البناتِ سفهاً وجهلاً، فزعموا أن الملائكة بنات الله، فجاءت الآيات لتصحيح تلك الانحرافات، وردِّ النفوس إلى الفطرة، وإلى الحقائق الأولى القطعية.



* وتحدثت السورة بإِيجاز عن دعوة الخليل إبراهيم عليه السلام، الذي يزعم المشركون أنهم من سلالته وعلى ملته، فكذبتهم في تلك الدعوى، وبينت الآيات أن إبراهيم أول من تبرأ من الأوثان.



* ثم انتقلت إلى تفنيد تلك الشبهة السقيمة، التي أثارها المشركون حول رسالة محمد عليه السلام، فقد اقترحوا أن تتنزَّل الرسالة على رجلٍ من أهل الجاه والثراء، لا على يتيم فقير كمحمد صلى الله عليه وسلم فجاءت الآيات لتقرير أن الجاه والثراء ليسا ميزاناً لكرامة الإِنسان واستحقاقه المناصب الرفيعة، وأن الدنيا من الحقارة والمهانة بحيث لو شاء الله لأغدقها على الكافرين ومنعها عباده المؤمنين.



* وذكرت السورة قصة "موسى وفرعون" لتأكيد تلك الحقيقة السابقة، فها هو فرعون الجبار يعتز ويفخر على موسى بملكه وسلطانه، كما يعتز الجاهلون من رؤساء قريش على النبي صلى الله عليه وسلم ثم تكون نتيجته الغرق والدمار.



* وختمت السورة الكريمة ببيان بعض أحوال الآخرة وشدائدها وأهوالها، وبيان حال الأشقياء المجرمين، وهم يتقلِّبون في غمرات الجحيم.



التسميَــة:

سميت "سورة الزخرف" لما فيها من التمثيل الرائع - لمتاع الدنيا الزائل وبريقها الخادع - بالزخرف اللامع، الذي ينخدع به الكثيرون، مع أنها لا تساوي عند الله جناح بعوضة، ولهذا يعطيها الله للأبرار والفجار، وينالها الأخيار والأشرار، أما الآخرة فلا يمنحها الله إلا لعباده المتقين، فالدنيا دار الفناء، والآخرة دار البقاء.





تأكيد عربية القرآن، وعقاب المستهزئين بالأنبياء



{حم(1)وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ(2)إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ(3)وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ(4)أَفَنَضْرِبُ عَنكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا أَنْ كُنتُمْ قَوْمًا مُسْرِفِينَ(5)وَكَمْ أَرْسَلْنَا مِنْ نَبِيٍّ فِي الأَوَّلِينَ(6)وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءون(7)فَأَهْلَكْنَا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشًا وَمَضَى مَثَلُ الأَوَّلِينَ(8)}



{حم} الحروف المقطعة للتنبيه على إِعجاز القرآن {وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ} قسمٌ أقسم الله به أي أُقْسمُ بالقرآن البيّن الواضح الجلي، المظهر طريق الهدى من طريق الضلال، المبيِّن للبشرية ما تحتاج إليه من الأحكام والدلائل الشرعية {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا} هذا هو المقسم عليه أي أنزلناه بلغة العرب، مشتملاً على كمال الفصاحة والبلاغة، بأسلوب محكم، وبيانٍ معجز {لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} أي لكي تفهموا أحكامه، وتتدبروا معانيه، وتعقلوا أن أسلوبه الحكيم خارج عن طوق البشر، قال البيضاوي: أقسم تعالى بالقرآن على أنه جعله قرآناً عربياً، وهو من البدائع البلاغية لتناسب القسم والمُقْسم عليه، تنبيهاً على أنه لا شيء أعلى منه فيقسم به، وهذا يدل على شرف القرآن وعزته بأبلغ وجهٍ وأدقه {وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا} أي وإِنه في اللوح المحفوظ عندنا {لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ} أي رفيع الشأن عظيم القدر، ذو حكمةٍ بالغةٍ ومكانةٍ فائقة، قال ابن كثير: بيَّن شرف القرآن في الملأ الأعلى، ليشرّفه ويعظّمه أهل الأرض أي وإِن القرآن في اللوح المحفوظ عندنا ذو مكانةٍ عظيمة، وشرف وفضل {أَفَنَضْرِبُ عَنكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا} الاستفهام إِنكاري أي أنترك تذكيركم إعراضاً عنكم، ونعتبركم كالبهائم فلا نعظكم بالقرآن؟ {أَنْ كُنتُمْ قَوْمًا مُسْرِفِينَ} أي لأجل أنكم مسرفون في التكذيب والعصيان؟ لا، بل نذكّركم ونعظكم به إلى أن ترجعوا إلى طريق الحق، قال قتادة: لو أن هذا القرآن رُفع حين ردَّه الأوائل لهلكوا، ولكنَّ الله برحمته كرَّره عليهم، ودعاهم إليه عشرين سنة، قال ابن كثير: وقول قتادة لطيف المعنى جداً وحاصلة أنه تعالى من لطفه ورحمته بخلقه لا يترك دعاءهم إلى الخير، وإلى الذكر الحكيم، وإِن كانوا مسرفين معرضين عنه، بل يأمر به ليهتدي به من قدَّر هدايته، وتقوم الحجة على من كتب شقاوته {وَكَمْ أَرْسَلْنَا مِنْ نَبِيٍّ فِي الأَوَّلِينَ}؟ تسلية للنبي عليه السلام أي ما أكثر مَنْ أرسلنا مِنَ الأنبياء في الأمم الأولين؟ {وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزءُون} أي ولم يكن يأتيهم نبي إلا سخروا منه واستهزؤا به، قال الصاوي: وهذا تسلية له صلى الله عليه وسلم والمعنى تسلَّ يا محمد ولا تحزن فإِنه وقع للرسل قبلك ما وقع لك {فَأَهْلَكْنَا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشًا} أي فأهلكنا قوماً كانوا أشد قوة من كفار مكة وأعتى منهم وأطغى {وَمَضَى مَثَلُ الأَوَّلِينَ} أي وسبق في القرآن أحاديثُ إِهلاكهم، ليكونوا عظة وعبرة لمن بعدهم من المكذبين، قال الإِمام فخر الدين الرازي: إن كفار مكة سلكوا في الكفر والتكذيب مسلك من كان قبلهم، فليحذروا أن ينزل بهم مثل ما نزل بأولئك فقد ضربنا لهم مثَلَهم.



إقرار المشركين بمخلوقات الله ،ودعاء ركوب الدابة



{وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ(9)الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ مَهْدًا وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلاً لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ(10)وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَنشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ(11)وَالَّذِي خَلَقَ الأَزْوَاجَ كُلَّهَا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ(12)لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ(13)وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنقَلِبُونَ(14)}.



{وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ} أي ولئن سألتَ يا محمد هؤلاء المشركين من خلق السماواتِ والأرض بهذا الشكل البديع {لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ} أي ليقولُنَّ خلقهنَّ اللهُ وحده، العزيزُ في ملكه، العليمُ بخلقه، قال القرطبي: أقروا له بالخلق والإِيجاد، ثم عبدوا معه غيره جهلاً منهم وسفهاً .. ثم بيَّن تعالى لهم صفاته الجليلة، الدالة على كمال القدرة والحكمة فقال {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ مَهْدًا} أي بسط الأرض وجعلها كالفراش لكم، تستقرون عليها وتقومون وتنامون {وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلاً} أي وجعل لكم فيها طُرُقاً تسلكونها في أسفاركم {لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} أي لكي تهتدوا إلى قدرة الخالق الحكيم، مبدع هذا النظام العجيب {وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ} أي نزَّل بقدرته الماء من السماء بمقدارٍ ووزنٍ معلوم، بحسب الحاجة والكفاية، قال البيضاوي: أي بمقدار ينفع ولا يضر {فَأَنشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا} أي فأحيينا به أرضاً ميتةً مقفرةً من النبات {كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ} أي كذلك نخرجكم من قبوركم كما نُخرج النبات من الأرض الميتة {وَالَّذِي خَلَقَ الأَزْوَاجَ كُلَّهَا} أي خلق جميع الأصناف من الحيوان والنبات وغير ذلك، قال ابن عباس: "الأزواج" الأصناف والأنواع كلها كالحلو والحامض، والأبيض والأسود، والذكر والأنثى {وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ} أي وسخَّر لكم من السفن في البحر، والإِبل في البر ما تركبونه في أسفاركم، قال ابن كثير: أي ذلَّلها وسخَّرها ويسَّرها لكم، لتأكلوا لحومها وتركبوا ظهورها {لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ} أي لتستقروا على ظهور هذا المركوب، سفينةً كانت أو جملاً {ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ} أي وتتذكروا نعمة ربكم الجليلة عليكم حين تستقرون فوقها فتشكروه بقلوبكم {وَتَقُولُوا سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا} أي وتقولوا بألسنتكم عند ركوبكم: سبحان الله الذي ذلَّل ويسَّر لنا ركوب هذا المركوب {وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ} أي وما كنا قادرين ولا مطيقين لركوبه لولا تسخيره تعالى لنا {وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنقَلِبُون} أي وإِنا إلى ربنا لراجعون، وصائرون إليه بعد الموت، قال في حاشية البيضاوي: وليس المراد من ذكر النعمة تصورها وإِخطارها في البال، بل المراد تذكر أنها نعمة حاصلةٌ بتدبير القادر العليم الحكيم، مستدعية لطاعته وشكره، فإِن من تفكر في أنَّ ما يركبه الإِنسان من الفُلْك والأنعام، أكثر قوةً وأكبر جثة من راكبه، ومع ذلك كان مسخراً لراكبه يتمكن من تصريفه إلى أيّ جانب شاء، وتفكر أيضاً في خلق البحر والريح وفي كونهما مسخرين للإِنسان مع ما فيهما من المهابة والأهوال، استغرق في معرفة عظمة الله تعالى وكبريائه، وكمال قدرته وحكمته، فيحمله ذلك الاستغراق على أن يقول متعجباً من عظمة الله {سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ}.





عبادة المشركين غير الله



{وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءاً إِنَّ الإِنسَانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ(15)أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُمْ بِالْبَنِينَ(16)وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلاً ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ(17)أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ(18)وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ(19)وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلا يَخْرُصُونَ(20)أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ(21)بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ(22)وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ(23)قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ(24)فَانتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ(25)}.



سبب النزول:

نزول الآية (19):

{وجعلوا الملائكة ..}: أخرج ابن المنذر عن قتادة قال: قال ناس من المنافقين: إن الله صاهر الجن، فخرجت من بينهم الملائكة، فنزل فيهم: {وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثاً...}.



نزول الآية (22):

{بل قالوا: إنّا وجدنا آباءنا ..} حكى مقاتل أن هذه الآية نزلت في الوليد بن المغيرة وأبي سفيان وأبي جهل وعتبة وشيبة ابني ربيعة من قريش، أي وكما قال هؤلاء فقد قال من قبلهم أيضاً، يعزّي نبيه صلى الله عليه وسلم.



ولما ذكر تعالى اعتراف المشركين بأن خالق السماوات والأرض هو رب العالمين، ذكر بعده ما يدل على سفههم وجهلهم في عبادة غير الله فقال {وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءاً} أي جعل المشركون لله ولداً حيث قالوا: الملائكةُ بنات الله {إِنَّ الإِنسَانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ} أي إن القائل لهذا لمبالغٌ في الكفر، عظيم الجحود والطغيان، قال البيضاوي: أي ظاهر الكفران لأن نسبة الولد إليه تعالى من فرط الجهل به والتحقير لشأنه {أَمِ اتَّخَذَ ممَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُمْ بِالْبَنِينَ} إِنكارٌ وتعجبٌ من حالهم أي هل اتخذ تعالى لنفسه البنات، وخصَّكم واختار لكم البنين؟ قال ابن كثير: وهذا إنكار عليهم غاية الإِنكار، ثم ذكر تعالى تمام الإِنكار فقال {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلاً} أي وإِذا بُشِّر أحد المشركين بالأنثى التي جعلها مثلاً لله بنسبة البنات له {ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ} أي صار وجهه كأنه أسود من الكآبة والحزن، وهو ممتلئٌ غيظاً وغماً من سوء ما بُشّر به، قال الإِمام فخر الدين الرازي: والمقصودُ من الآية التنبيهُ على قلة عقولهم وسخافة تفكيرهم، فإِن الذي بلغ حاله في النقص إلى هذا الحدِّ كيف يجوز للعاقل إثباتُه لله تعالى؟ وقد روي عن بعض العرب أن امرأته وضعت أنثى فهجر البيت الذي فيه المرأة {أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ } أي أيجعلون للهِ من يُربَّى في الزينة وينشأ ويكبر عليها وهنَّ الإِناث؟ {وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ} أي ومن هو في الجدال غيرُ مظهرٍ لحجته لضعف رأيه؟ أوَمَنْ يكونُ هكذا يُنْسب إلى جناب الله العظيم؟ قال ابن جزي: والمقصد الرد على الذين قالوا الملائكةُ بنات الله، كأنه قال: أجعلتم للهِ من ينشأ في الحلية؟ يعني يكبر وينبت في استعمالها، وذلك صفةُ النقص، ثم أتبعها بصفة نقصٍ أُخرى فقال {وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ} يعني أن الأنثى إذا خاصمت أو تكلمت لم تقدر أن تبيّن حجتها لنقص عقلها، وقلّما تجد امرأة إلا تفسد الكلام، وتخلط المعاني، فكيف يُنسب لله من يتصف بهذه النقائص؟ وقال ابن كثير: المرأة ناقصة في الصورة والمعنى، فيكمل نقص ظاهرها وصورتها بلبس الحلي ليجبر ما فيها من نقص، كما قال بعض الشعراء:

وما الحليُ إلا زينـةٌ من نقيصـةٍ يتمِّم من حُسْنٍ إِذا الحُسْنُ قصَّرا

وأما نقصُ معناها فإِنها ضعيفةٌ عاجزةٌ عن الانتصار، كما قال بعض العرب وقد بُشِّر ببنت "ما هي بنعم الولد، نصرُها بكاءٌ، وبرُّها سرقة" {وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا} كفرٌ آخر تضمنه قولهم الشنيع أي واعتقد كفار العرب بأن الملائكة - الذين هم أكمل العباد وأكرمهم على الله - إناثٌ وحكموا عليهم بذلك {أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ } أي أحضروا وقت خلق الله لهم حتى عرفوا أنهم إناث؟ وهذا تجهيلٌ وتهكمٌ بهم {سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ} أي سنأمر الملائكة بكتابة شهادتهم الكاذبة في ديوان أعمالهم ويُسألون عنها يوم القيامة، وهو وعيدٌ شديدٌ مع التهديد، قال المفسرون: حكى تعالى عن كفار العرب ثلاثة أقوال شنيعة: الأول: أنهم نسبوا إلى الله الولد، الثاني: أنهم نسبوا إليه البناتِ دون البنين، الثالث: أنهم حكموا على الملائكة المكرمين بالأنوثة بلا دليل ولا برهان، فكذَّبهم القرآن الكريم في تلك الأقوال، ثم زادوا ضلالاً وبهتاناً فزعموا أنَّ ذلك برضى الله {وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ} أي قالوا على سبيل السخرية والاستهزاء: لو شاء اللهُ ما عبدنا هؤلاء الملائكة ولا الأصنام، ولمَّا كانت عبادتنا واقعة بمشيئته فهو راضٍ بها، قال القرطبي: وهذا منهم كلمةُ حقٍّ أُريد بها باطل، فكل شيء بإِرادة الله، والمشيئةُ غير الرضى، ولا يصح الاحتجاج بالمشيئة، فإِنهم لو عبدوا الله بدل الأصنام لعلمنا أنَّ الله أراد منهم ذلك، وقد كذبهم الله بقوله {مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ} أي ما لهم بذلك القول حجة ولا برهان {إِنْ هُمْ إِلا يَخْرُصُونَ} أي ما هم إلا يكذبون ويتقوَّلون على الله كذباً وزوراً {أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ} ردٌّ آخر عليهم، أي أم أنزلنا على هؤلاء المشركين كتاباً من قبل القرآن فهم بذلك الكتاب متمسكون يعملون بتوجيهاته؟ قال الإِمام فخر الدين الرازي: والمعنى: هل وجدوا ذلك الباطل في كتاب منزَّل قبل القرآن حتى يعوِّلوا عليه ويتمسكوا به؟ {بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ} بل للإِضراب وهو الانتقال من كلام إلى آخر أي لم يأتوا بحجةٍ عقلية أو نقلية على ما زعموا بل اعترفوا بأنه لا مستند لهم سوى تقليد آبائهم الجهلة، قال أبو السعود: والأُمةُ: الدينُ والطريقةُ سميت أمةً لأنها تؤم وتقصد {وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ} أي ونحن ماشون على طريقتهم مهتدون بآثارهم {وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ} أي وكما تبع هؤلاء الكفار آباءهم بغير حجة ولا برهان كذلك فعل من قبلهم من المكذبين، فما بعثنا قبلك رسولاً في أمةٍ من الأمم {إِلا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} أي إلا قال المتنعمون فيها الذين أبطرتهم النعمة، وأعمتهم الشهواتُ والملاهي عن تحمل المشاق في طلب الحق: إنا وجدنا أسلافنا على ملةٍ ودين، وإِنا مقتدون بهم في طريقتهم، قال البيضاوي: والآية تسليةٌ لرسول الله صلى الله عليه وسلم ودلالةٌ على أن التقليد في نحو هذا ضلالٌ قديم، وأسلافُهم لم يكن لهم سندٌ منظور يُعتَدُّ به، وإِنما خصَّص المترفين بالذكر للإِشعار بأن التنعم وحبَّ البطالة صرفهم عن النظر إلى التقليد الأعمى، وذكر هنا {مُقْتَدُونَ} وهناك {مُهْتَدُونَ} تفنناً لأن معناهما واحد {قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءكُمْ}؟ أي قال كل نبيٍّ لقومه حين أنذرهم عذاب الله: أتقتدون بآبائكم ولو جئتكم بدينٍ أهدى وأرشد مما كانوا عليه؟ {قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ} أي قالوا إنا كافرون بكل ما أُرسلتم به من التوحيد والإِيمان والبعث والنشور {فَانتقَمْنَا مِنْهُمْ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} أي فانتقمنا من الأمم المكذبة بأنواع العذاب فانظر كيف صار حالهم ومآلهم!!





البراءة من عبادة الأصنام، واختيار الله للأنبياء



{وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ(26)إِلا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ(27)وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ(28)بَلْ مَتَّعْتُ هَؤُلاءِ وَآبَاءهُمْ حَتَّى جَاءهُمْ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُبِينٌ(29)وَلَمَّا جَاءهُمْ الْحَقُّ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كَافِرُونَ(30)وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ(31)أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمت رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ(32)وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فَضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَايَظْهَرُونَ(33) وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ(34)وَزُخْرُفًا وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ(35)}.

yacine414
2011-04-01, 17:57
سبب النزول:

نزول الآيتين (31-32):

أخرج ابن جرير عن ابن عباس "أن العرب قالوا: وإذا كان النبِّي بشراً فغير محمد كان أحق بالرِّسالة: {لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} يكون أشرف من محمد، يعنون الوليد بن المغيرة من مكة، وعروة بن مسعود الثقفي من الطائف، فأنزل الله ردّاً عليهم: {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ}".



{وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ} أي واذكر يا محمد حين قال إبراهيم الخليل لأبيه وقومه المشركين: إنني بريءٌ من هذه الأوثان التي تعبدونها من دون الله {إِلا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ} أي لكنْ ربي الذي خلقني وأنشأني من العدم فإِنه يرشدني إلى الدين الحق، ويهديني إلى طريق السعادة {وَجَعَلَهَا كَلمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ} أي وجعل إبراهيم هذه الكلمة - كلمة التوحيد - باقيةً في ذريته فلا يزال فيهم من يوحِّد الله {لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} أي رجاء أن يرجع إلى الإِيمان من أشرك منهم، قال مجاهد: "وجعلها كلمة" يعني "لا إله إلا الله" لا يزال في ذريته من يقولها إلى يوم الدين {بَلْ مَتَّعْتُ هَؤُلاءِ وَآبَاءهُمْ} أي بل متعتُ أهل مكة وآباءهم - وهم من عقب إبراهيم - بالإِمداد في العمر والنعمة، فاغتروا بالمهلة واشتغلوا بالتنعم واتباع الشهوات عن كلمة التوحيد {حَتَّى جَاءَهُمْ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُبِينٌ} أي حتى جاءهم القرآن ورسولٌ ظاهر الرسالة، مؤيدٌ بالمعجزات الباهرة من عند الله، قال الإِمام فخر الدين الرازي: وجه نظم الآية أنهم لما عوَّلوا على تقليد الآباء، ولم يتفكروا في الحجة، اغتروا بطول الإِمهال وإِمتاع الله إياهم بنعيم فأعرضوا عن الحق {وَلَمَّا جَاءهُمْ الْحَقُّ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ} أي ولمَّا جاءهم القرآن لينبههم من غفلتهم، ويرشدهم إلى التوحيد، ازدادوا عتواً وضلالاً فقالوا عن القرآن إنه سحر {وَإِنَّا بِهِ كَافِرُونَ} أي ونحن كافرون به، لا نصدّق أنه كلام الله، قال أبو السعود: سمَّوا القرآن سحراً وكفروا به واستحقروا الرسول عليه السلام، فضمُّوا إلى كفرهم السابق معاندة الحق والاستهانة به {وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} أي وقال المشركون: هلاَّ أُنزل هذا القرآن على رجل عظيم كبير في مكة أو الطائف!! قال المفسرون: يعنون "الوليد بن المغيرة" في مكة أو "عُروة بن مسعود الثقفي" في الطائف .. استبعدت قريش نزول القرآن على محمد وهو فقير يتيم، واقترحوا أن ينزل على أحد الرؤساء والعظماء، ظناً منهم أن العظيم هو الذي يكون له مال وجاه، وفاتهم أن العظيم هو الذي يكون عند الله تعالى عظيماً، وهم يعتبرون مقياس العظمة: الجاه والمال، وهذا رأي الجاهلين في كل زمانٍ ومكان، أما مقياسُ العظمة الحقيقية عند الله تعالى وعند العقلاء، فإِنما هو عظمة النفس، وسُموُّ الروح، ومَنْ أعظمُ نفساً وأسمى روحاً من محمد بن عبد الله عليه الصلاة والسلام!! ولهذا ردَّ تبارك وتعالى عليهم بقوله {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ}؟ أي أهم يمنحون النبوة ويخصُّون بها من شاءوا من العباد، حتى يقترحوا أن تكون لفلان الغني، أو فلانٍ الكبير من الناس؟ {نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} أي نحن بحكمتنا جعلنا هذا غنياً وهذا فقيراً، وفاوتنا بينهم في الأموال والأرزاق، وإِذا كان أمر المعيشة - وهو تافه حقير - لم نتركه لهم بل تولينا قسمته بأنفسنا، فكيف نترك أمر النبوة -وهو عظيم وخطير - لأهوائهم ومشتهياتهم!! قال ابن جزي: كما قسمنا المعايش في الدنيا كذلك قسمنا المواهب الدينية، وإِذا كنا لم نهمل الحظوظ الحقيرة الفانية، فأولى وأحرى ألا نُهمل الحظوظ الشريفة الباقية {وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ} أي فاضلنا بين الخلق في الرزق والعيش، وجعلناهم مراتب: هذا غني، وهذا فقير، وهذا متوسط الحال {لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا} أي ليكون كلٌ منهم مسخراً للآخر، ويخدم بعضهم بعضاً، لينتظم أمر الحياة، قال الصاوي: إن القصد من جعل الناس متفاوتين في الرزق، لينتفع بعضهم ببعض، ولو كانوا سواءً في جميع الأحوال لم يخدم أحدٌ أحداً، فيفضي إلى خراب العالم وفساد نظامه، وقال أبو حيان: وقوله تعالى {سُخرياً} بضم السين من التسخير بمعنى الاستخدام، لا من السخرية بمعنى الهزء، والحكمة هي أن يرتفق بعضهم ببعضٍ، ويصلوا إلى منافعهم، ولو تولَّى كل واحدٍ جميع أشغاله بنفسه ما أطاق ذلك، وضاع وهلك، وفي قوله {نَحْنُ قَسَمْنَا} تزهيدٌ في الإِكباب على طلب الدنيا، وعونٌ على التوكل على الله، وقال قتادة: تلقى ضعيف القوة، قليل الحيلة، عييَّ اللسان وهو موسَّع عليه في الرزق، وتلقى شديد الحيلة، بسيط اللسان وهو مقتَّر عليه في الرزق، وقال الشافعي:

ومن الدليل على القضاء وكونه بؤس اللبيب وطيب عيش الأحمق

{وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} أي وإِنعامه تعالى عليك بالنبوة خيرٌ مما يجمع الناسُ من حطام الدنيا الفاني، ثم بيَّن تعالى حقارة الدنيا ودناءة قدرها عند الله فقال {وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فَضَّةٍ} أي ولولا أن يرغب الناسُ في الكفر إذا رأوا الكافر في سعة من الرزق، ويصيروا أمةً واحدة في الكفر، لخصصنا هذه الدنيا بالكفار، وجعلنا لهم القصور الشاهقة المزخرفة بأنواع الزينة والنقوش، سقفها من الفضة الخالصة {وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ} أي وجعلنا لهم مصاعدَ وسلالم من فضة عليها يرتقون ويصعدون {وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا} أي ولبيوتهم أبواباً من فضة وسرراً من فضة، زيادةً في الرفاهية والنعيم {عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ} أي على تلك الأسرَّة الفضية يتكئون ويجلسون {وَزُخْرُفًا} أي وجعلنا لهم زينةً من ستور ونمارق ونقوش، وقال ابن عباس: {وَزُخْرُفًا} ذهباً أي جعلنا لهم سقفاً وأبواباً وسرراً من فضة وذهب {وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} أي وما كل ذلك النعيم العاجل الذي نعطيه للكفار، إلاّ شيء يُتمتع به في الحياة الدنيا الزائلة الحقيرة {وَالآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ} أي والجنةُ وما فيها من أنواع الملاذ والنعم التي يقصر عنها البيان، هي خاصة بالمتقين لا يشاركهم فيها أحد، قال المفسرون: والآياتُ سِيقتْ لبيان حقارة الدنيا وقلة شأنها، وأنها من الهوان بحيث لولا الفتنة لخصَّ بها الكافرين، فجعل بيوت الكفرة ودرجها وسقوفها من ذهب وفضة، وأعطى الكافر كل ذلك النعيم في الدنيا لعدم حظه في الآخرة، ولكنه تعالى رحيم بالعباد فلذلك أغنى بعض الكفار وأفقر بعضهم، وأغنى بعض المؤمنين وأفقر بعضهم وفي الحديث (لو كانت الدنيا تزن عند الله جناح بعوضة ما سقى كافراً منها جرعة ماء) قال الزمخشري: فإِن قلت: فحين لم يوسّع على الكافرين للفتنة التي كان يؤدي إليها التوسعة عليهم، من إطباق الناس على الكفر لحبهم الدنيا وتهالكهم عليها، فهلاَّ وسَّع على المسلمين ليطبق الناس على الإِسلام ؟ قلتُ التوسعةُ عليهم مفسدة أيضاً لما تؤدي إليها من دخول الناس في الإِسلام لأجل الدنيا وذلك من دين المنافقين، فكانت الحكمة فيما دبَّر، حيث جعل الفريقين أغنياء وفقراء، وغلَّب الفقر على الغنى.



حال المعرض عن ذكر الله، وتسلية النبي صلى الله عليه وسلم



{وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ(36)وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ(37)حَتَّى إِذَا جَاءَنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ(38)وَلَنْ يَنفَعَكُمْ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ(39)أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ وَمَنْ كَانَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ(40)فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ(41)أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْنَاهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ(42)فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ(43)وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ(44)وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ(45)}.



{وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ} أي ومن يعرض ويتعام ويتغافل عن القرآن وعبادة الرحمن {نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا} أي نهيء ونيسّر له شيطاناً لا ينفك عن الوسوسة له والإِغواء كقوله تعالى{ألم تر أنَّا أرسلنا الشياطين على الكافرين تؤزُّهم أزّاً} {فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ} أي فهو ملازم ومصاحب له لا يفارقه {وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ} أي وإِن الشياطين ليصدون هؤلاء الكفار الضالين عن طريق الهدى {وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ} أي ويحسب الكفار أنهم على نور وبصيرة وهدايةٍ من أمرهم {حَتَّى إِذَا جَاءنَا} أي حتى إذا جاء الكافر مع قرينه وقد ربطا بسلسلةٍ واحدة {قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ} أي قال الكافر لقرينه: يا ليت بيني وبينك مثل بعد ما بين المشرق والمغرب، قال الطبري: وهذا من باب التغليب كما يقال: القمران، والعمران، والأبوان، فغلَّب ههنا المشرق على المغرب {فَبِئْسَ الْقَرِينُ} أي فبئس الصاحب أنت، لأنك كنت سبباً في شقائي بتزيينك الباطل لي، قال أبو سعيد الخدري: إذا بُعث الكافر زُوّج بقرينه من الشياطين، فلا يفارقه حتى يصير به إلى النار {وَلَنْ يَنفَعَكُمْ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ} أي ولن ينفعكم ويفيدكم اشتراككم في العذاب، ولن يخفف ذلك عنكم شيئاً بسبب ظلمكم، فإِن لكل واحد نصيبه الأوفر منه، قال فيالتسهيل: المراد أنه لا ينفعهم اشتراكهم في العذاب، ولا يجدون راحة التأسي التي يجدها المكروب في الدنيا إذا رأى غيره قد أصابه مثل ما أصابه لأن المصيبة إذا عمَّت هانت، فدفع تعالى ذلك التوهم بأن اشتراكهم في العذاب، لا يخفِّف عنهم البلاء {أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ وَمَنْ كَانَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} أي فأنت يا محمد تقدر أن تسمع هؤلاء الكفار الذين هم كالصُّم والعُمي، ومن كان في ضلالٍ واضح؟ ليس لك ذلك فلا يَضِقْ صدرك إن كفروا، قال المفسرون: والآية تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم فقد كان يجتهد في دعائهم إلى الإِيمان، ولا يزدادون إلاَّ تعامياً عن الحق وطغياناً وضلالاً {فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ} أي إن عجلنا وفاتك قبل الانتقام منهم، فإِنا سننتقم منهم بعد وفاتك {أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْنَاهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ} أي أو نرينَّك يا محمد العذاب الذي وعدناهم به في حياتك فإِنا قادرون عليهم فهم في قبضتنا لا يفوتوننا، قال ابن عباس: قد أراه الله ذلك يوم بدر، وقال ابن كثير: المعنى لا بدَّ أن ننتقم منهم ونعاقبهم في حياتك أو بعد وفاتك، ولم يقبض الله تعالى رسوله حتى أقرَّ عينه من أعدائه، وحكَّمه في نواصيهم {فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ} أي فتمسكْ يا محمد بالقرآن الذي أوحيناه إليك {إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} أي فإِنك على الحق الواضح والطريق المستقيم، الموصل إلى جنات النعيم {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ} أي وإِن هذا القرآن لشرفٌ عظيم لك ولقومك من قريش، إذ أُنزل بلغتهم وعلى رجلٍ منهم وسوف تسألون عن شكر هذه النعمة، قال ابن جزي: والذكرُ هنا بمعنى الشرف، وقومُ النبي صلى الله عليه وسلم هم قريشٌ وسائر العرب، فإِنهم نالوا بالإِسلام شرف الدنيا والآخرة، ويكفيك أن فتحوا مشارق الدنيا ومغاربها وصارت فيهم الخلافة والملك، وهذا القرآن شرفٌ لكل من تبعه، وهذه الآية نظير قوله تعالى {لقد أنزلنا إليكم كتاباً فيه ذكركم أفلا تعقلون}؟ {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا} هذا على سبيل الفرض، وفي الكلام محذوف أي إن كنت يا محمد شاكاً في أمر الوحي فسلْ من سبقك من الرسل {أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَانِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ}؟ أي هل هناك أحدٌ من الرسل دعا لعبادة غير الله؟ والآية كقوله تعالى {فإِن كنتَ في شكٍ ممّا أنزلنا إلي فاسأل الذين يقرءون الكتاب من قبلك} قال أبو السعود: والمراد بالآية الاستشهاد بإِجماع الأنبياء على التوحيد، والتنبيه على أنه ليس ببدع ابتدعه حتى يُكذَّب ويُعادى، وقال أبو حيان: ويظهر ان الخطاب للسامع، والسؤال هنا مجاز عن النظر في أديان الأنبياء، هل جاءت عبادة الأوثان في ملةٍ من مللهم؟ وهذا كما يسائل الشعراء الديار والأطلال، ومنه قولهم: سل الأرض من شقَّ أنهارك، وغرس أشجارك، وجنى ثمارك ؟ فإِنها إن لم تجبك حواراً أجابتك اعتباراً، وهذا كله من باب المجاز.



العبرة من قصة موسى عليه السلام مع فرعون



{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلإِيهِ فَقَالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ(46)فَلَمَّا جَاءهُمْ بِآيَاتِنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَضْحَكُونَ(47)وَمَا نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا وَأَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ(48)وَقَالُوا يَا أَيُّهَ السَّاحِرُ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ(49)فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ(50)وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ(51)أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكَادُ يُبِينُ(52)فَلَوْلا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ(53)فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ(54)فَلَمَّا آسَفُونَا انتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ(55)فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا وَمَثَلاً لِلآخِرِينَ(56)}.



{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآياتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلإيِهِ} أي واللهِ لقد أرسلنا موسى بالمعجزات الباهرة الدالة على صدقه إلى فرعون وقومه الأقباط {فَقَالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ} أي فقال له موسى: إني رسول الله إليك، أرسلني لأدعوك وقومك إلى عبادة الله وحده {فَلَمَّا جَاءهُمْ بِآيَاتِنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَضْحَكُونَ} أي فلما جاءهم بتلك الآيات الباهرة الدالة على رسالته ضحكوا سخريةً واستهزاءً به، قال القرطبي: إنما ضحكوا منها ليوهموا أتباعهم أن تلك الآيات سحرٌ، وأنهم قادرون عليها، قال تعالى {وَمَا نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا} أي وما نريهم آية من ءايات العذاب كالطوفان، والجراد والقُمَّل إلا وهي في غاية الكبر والظهور، بحيث تكون أوضح من سابقتها، قال الصاوي: والمعنى إلا وهي بالغة الغاية في الإِعجاز، بحيث يظن الناظر إليها أنها أكبر من غيرها {وَأَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} أي عاقبناهم بأنواع العذاب الشديد، لعلهم يرجعون عما هم عليه من الكفر والتكذيب {وَقَالُوا يَا أَيُّهَ السَّاحِرُ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ} أي وقالوا لما عاينوا العذاب يا أيها الساحرُ ادع لنا ربك ليكشف عنا هذا البلاء والعذاب {بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ} أي بالعهد الذي أعطاك إياه من استجابة دعائك {إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ} أي لنؤمِنن بك إن كشف عنا العذاب بدعائك، قال المفسرون: ليس قولهم {يَا أَيُّهَا السَّاحِرُ} على سبيل الانتقاص، وإِنما هو تعظيم في زعمهم، لأن السحر كان عِلم زمانهِم، ولم يكن مذموماً، فنادوه بذلك على سبيل التعظيم، قال ابن عباس: معناه يا أيها العالم، وكان الساحر فيهم عظيماً يوقرونه {فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ} أي فلما رفعنا عنهم العذاب بدعوة موسى، إذا هم ينقضون العهد ويصرون على الكفر والعصيان {وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ} أي نادى فرعون رؤساء القبط وعظماءهم، لما رأى الآيات الباهرة من موسى وخاف أن يؤمنوا {قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي}؟ أي قال مفتخراً متبجحاً: أليست بلادُ مصرَ الواسعة الشاسعة ملكاً لي؟ وهذه الخُلجان والأنهار المتفرعة من نهر النيل تجري من تحت قصوري؟ قال القرطبي: ومعظمها أربعة: نهر الملك، ونهر طولون، ونهر دمياط، ونهر تينس وكلها من النيل، وقال قتادة: كانت جنانها وأنهارها تجري من تحت قصره {أَفَلا تُبْصِرُونَ}؟ أي أفلا تبصرون عظمتي وسعة ملكي، وقلة موسى وذلته؟ {أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ} أي بل أنا خيرٌ من هذا الضعيف الحقير الذي لا عزَّ له ولا جاه ولا سلطان، فهو يمتهن نفسه في حاجاته لحقارته وضعفه؟ يعني بذلك موسى عليه السلام {وَلا يَكَادُ يُبِينُ} أي لا يكاد يفصح عن كلامه، ويوضّح مقصوده، فكيف يصلح للرسالة؟ قال أبو السعود: قال فرعون ذلك افتراءً على موسى، وتنقيصاً له عليه السلام في أعين الناس، باعتبار ما كان في لسانه من عُقدة، ولكنَّ الله أذهبها عنه بدعائه {واحللْ عُقدةً من لساني يفقهوا قولي} {فَلَوْلا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ}؟ أي فهلاَّ ألقى الله إليه أسورةً من ذهب كرامةً له ودلالة على نبوَّته!! قال مجاهد: كانوا إذا أرادوا أن يجعلوا رجلاً رئيساً عليهم سوّروه بسوارين وطوقوه بطوق من ذهبٍ علامة لسيادته {أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ} أي أو جاءت معه الملائكةُ يكتنفونه خدمةً له وشهادة بصدقة، قال أبو حيان: لما وصف فرعون نفسه بالعزة والمُلك، ووازن بينه وبين موسى عليه السلام، ووصفه بالضعف وقلة الأعوان، اعترض فقال: إن كان صادقاً فهلاَّ ملَّكه ربُه وسوَّره وجعل الملائكة أنصاره!! {فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ} أي فاستخفَّ بعقول قومه واستجهلهم لخفة أحلامهم‎، فأطاعوه فيما دعاهم إليه من الضلالة {إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ} أي إنما أجابوه لفسقهم وخروجهم عن طاعة الله {فَلَمَّا آسَفُونَا انتَقَمْنَا مِنْهُمْ} أي فلما أغضبونا وغاظونا انتقمنا منهم بأشد أنواع العقاب {فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ} أي فأغرقنا فرعون وقومه في البحر أجمعين فلم نبق منهم أحداً، قال المفسرون: اغتر فرعون بالعظمة والسلطان والأنهار التي تجري من تحته، فأهلكه الله بجنس ما تكبر به هو وقومه وذلك بالغرق بماء البحر، وفيه إشارة إلى أن تعزَّز بشيء أهلكه الله به {فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا وَمَثَلاً لِلآخِرِينَ} أي جعلنا قوم فرعون قُدوةً لمن بعدهم من الكفار في استحقاق العذاب والدمار، ومثلاً يعتبرون به لئلا يصيبهم مثل ذلك، قال مجاهد: سلفاً لكفار قريش يتقدمونهم إلى النار، وعظة وعبرةً لمن يأتي بعدهم.





العبرة من قصة عيسى عليه السلام



{وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصدُّونَ(57)وَقَالُوا ءأَلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلا جَدَلاً بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ(58)إِنْ هُوَ إِلا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلاً لِبَنِي إِسْرَائِيلَ(59)وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ مَلائِكَةً فِي الأَرْضِ يَخْلُفُونَ(60)وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلا تَمْتَرُنَّ بِهَا وَاتَّبِعُونِ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ(61)وَلا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطَانُ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ(62)وَلَمَّا جَاءَ عِيسَى بِالْبَيِّنَاتِ قَالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَلأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ(63)إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ(64) فَاخْتَلَفَ الأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ(65)هَلْ يَنظُرُونَ إِلا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ(66)}.



سبب النزول:

نزول الآية (57):

{وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً}: أخرج أحمد بسند صحيح والطبراني عن ابن عباس: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لقريش: إنه ليس أحد يعبد من دون الله، وفيه خير، فقالوا: ألست تزعم أن عيسى كان نبياً وعبداً صالحاً، وقد عُبد من دون الله؟ فأنزل الله: {وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً} الآية".





{وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ} أي ولمَّا ذُكر عيسى بن مريم في القرآن وضُرب المثلُ بالآلهة التي عُبدت من دون الله إذا مشركو قريش يضجون وترتفع أصواتُهم بالصياح، قال المفسرون: لما قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: {إنكم وما تعبدون من دون اللهِ حصَبُ جهنم} قال ابن الزبعرى: أهذا لنا ولآلهتنا أم لجميع الأمم؟ فقال عليه السلام: هو لكم ولآلهتكم ولجميع الأمم فقال: قد خصمتك وربِّ الكعبة؟ أليست النصارى يعبدون المسيح، واليهود يعبدون عزيراً؟ وبنو فلان يعبدون الملائكة!! فإِن كان هؤلاء في النار فقد رضينا أن نكون نحن وآلهتنا معهم، فسكت عليه الصلاة والسلام انتظاراً للوحي، فظنوا أنه أُلزم الحجة فضحك المشركون وضجوا وارتفعت أصواتهم فأنزل الله {إن الذين سبقت لهم منا الحُسْنى أولئك عنها مبعدون} قال القرطبي: ولو تأمل ابن الزبعرى الآية ما اعترض عليها، لأنه تعالى قال {إنكم وما تعبدون} ولم يقل "ومنْ تعبدون" وإِنما أراد الأصنام ونحوها مما لا يعقل، ولم يرد المسيح ولا الملائكة وإِن كانوا معبودين {وَقَالُوا ءآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ} أي أآلهتنا خيرٌ أم عيسى؟ فإِن كان عيسى في النار فلتكنْ آلهتنا معه {مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلا جَدَلاً} أي ما قالوا هذا القول لك إلاَّ على وجه الجدل والمكابرة لا لطلب الحقِّ {بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ} أي بل هم قوم شديدو الخصومة واللجاج بالباطل، قال ابن جزي: أي ما ضربوا لك هذا المثال إلا على وجه الجدل، وهو أن يقصد الإِنسان أن يغلب من يناظره، سواء غلبه بحقٍ أو بباطل، فإِن ابن الزبعرى وأمثاله ممن لا يخفى عليه أن عيسى لم يدخل في قوله تعالى {حصبُ جهنم} ولكنهم أرادوا المغالطة فوصفهم الله بأنهم قوم خَصِمون {إِنْ هُوَ إِلا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ} أي ما عيسى إلا عبد كسائر العبيد أنعمنا عليه بالنبوة وشرفناه بالرسالة، وليس هو إلهاً ولا ابن إله كما زعم النصارى {وَجَعَلْنَاهُ مَثَلاً لِبَنِي إِسْرَائِيلَ} أي وجعلناه آيةً وعبرةً لبني إسرائيل، يستدلون بها على قدرة الله تعالى، حيث خُلق من أمٍ بلا أب، قال الرازي: أي صيرناه عبرةً عجيبة كالمثل السائر حيث خلقناه من غير أب كما خلقنا آدم {وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ مَلائِكَةً فِي الأَرْضِ يَخْلُفُونَ} أي لو أردنا لجعلنا بدلاً منكم ملائكةً يسكنون في الأرض يكونون خلفاً عنكم، قال مجاهد: ملائكة يعمرون الأرض بدلاً منكم {وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ} أي وإِن عيسى علامة على قرب الساعة، قال ابن عباس وقتادة: إن خروج عيسى عليه السلام من أعلام الساعة لأن الله ينزله من السماء قبيل قيام الساعة، {فَلا تَمْتَرُنَّ بِهَا} أي فلا تشكُّوا في أمر الساعة فإِنها آتية لا محالة وفي الحديث (يوشك أن ينزل فيكم عيسى بن مريم حكماً مقسطاً ..) الحديث {وَاتَّبِعُونِ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} أي وقل لهم يا محمد: اتبعوا هُداي وشرعي، فإِن هذا الذي أدعوكم إليه دينٌ قيّم وطريق مستقيم {وَلا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطَانُ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} أي لا تغتروا بوساوس الشيطان، واحذروا أن يصدكم عن اتباع الحق، فإِنه لكم عدوٌ ظاهر العداوة، حيث أخرج أباكم من الجنة، ونزع عنه لباس النور {وَلَمَّا جَاءَ عِيسَى بِالْبَيِّنَاتِ قَالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ} أي ولما جاء عيسى بالمعجزات وبالشرائع البينات الواضحات قال: قد جئتكم بما تقتضيه الحكمة الإِلهية من الشرائع {وَلأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ} أي وجئتكم لأبين لكم ما اختلفتم فيه من أمور الدين، قال ابن جزي: وإِنما قال {بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ} دون الكل، لأن الأنبياء إِنما يبيّنون أمور الدين لا أمور الدنيا، وقال الطبري: يعني من الأمور الدينية لا الدنيوية {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ} أي فاتقوا اللهَ بامتثال أوامره واجتناب نواهيه، وأطيعوا أمري فيما أبلغه إليكم من التكاليف {إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ} أي إن الله جل وعلا هو الربُ المعبود لا ربَّ سواه فأخلصوا له الطاعة والعبادة، قال ابن كثير: أي أنا وأنتم عبيد له، فقراء إليه، مشتركون في عبادته وحده {هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} أي هذا التوحيد والتعبد بالشرائع، طريق مستقيم موصلٌ إلى جنات النعيم.

{فَاخْتَلَفَ الأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ} أي اختلفت فرق النصارى في شأن عيسى وصاروا شيعاً وأحزاباً فيه، قال ابن كثير: صاروا شيعاً فيه، منهم من يُقرُّ بأنه عبدُ الله ورسولُه - وهو الحقُّ -، ومنهم من يدّعي أنه ولد الله، ومنهم من يقول إنه الله، تعالى الله عن قولهم علواً كبيراً {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ} أي فهلاكٌ ودمارٌ لهؤلاء الكفرة الظالمين من عذاب يومٍ مؤلم وهو يوم القيامة {هَلْ يَنظُرُونَ إِلا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً} أي هل ينتظر هؤلاء المشركون المكذبون إلا إتيانَ الساعة ومجيئها فجأةً {وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} أي وهم غافلون عنها مشتغلون بأمور الدنيا، وحينئذٍ يندمون حيث لا ينفعهم الندم.





نِعَمُ الله على المؤمنين يوم القيامة



{الأَخِلاَّءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلا الْمُتَّقِينَ(67)يَا عِبَادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ(68)الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ(69)ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ(70)يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الأَنفُسُ وَتَلَذُّ الأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ(71)وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ(72)لَكُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْهَا تَأْكُلُونَ(73)}.



سبب النزول:

نزول الآية (67):

{الأَخِلاَّءُ يَوْمَئِذٍ..}: حكى النقَّاش أن هذه الآية نزلت في أُمَيَّة بن خَلَف الجُمَحي وعُقْبة بن أبي مُعَيْط، كانا خليلين، وكان عقبة يجالس النبي صلى الله عليه وسلم، فقالت قريش: قد صبأ عقبة بن أبي معيط، فقال له أمية: وجهي من وجهك حرام إن لقيت محمداً، ولم تَتْفُلْ في وجهه، ففعل عقبة ذلك، فنذر النبي صلى الله عليه وسلم قتله، فقتله يوم بدر صَبْراً، وقُتل أمية في المعركة، وفيهم نزلت هذه الآية.



ثم ذكر تعالى أحوال القيامة فقال {الأَخِلاَّءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلا الْمُتَّقِينَ} أي الأصدقاء والأحباب يوم القيامة يصبحون أعداء إلاَّ من كانت صداقته ومحبته لله، قال ابن كثير: كلُّ خلةٍ وصداقة لغير الله، فإِنها تنقلب يوم القيامة عداوة إلا ما كان لله عز وجل فإِنه دائم بدوامه، قال ابن عباس: صارت كل خلةٍ عداوةً يوم القيامة إلا المتقين تشريفاً وتطييباً لقلوبهم فيقول: {يَا عِبَادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ} يا عباد المؤمنين الذين تحققتم في العبودية لرب العالمين، لا خوفٌ عليكم في هذا اليوم العصيب، ولا أنتم تحزنون على ما فاتكم من الدنيا، ثم وضَّحهم بقوله {الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ} أي هم الذين صدَّقوا بالقرآن، واستسلموا لحكم الله وأمره، وانقادوا لطاعته {ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تحْبَرُونَ} أي يقال لهم: أدخلوا الجنة أنتم ونساؤكم المؤمنات، تُنعَّمون فيها وتُسرُّون سروراً يظهر أثره على وجوهكم {يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ} أي يُطاف على أهل الجنة بأوانٍ من الذهب فيها الطعام، وأقداحٍ من ذهب فيها الشراب، قال المفسرون: آنية أهل الجنة التي يأكلون فيها الطعام، والكئوس التي يشربون فيها الشراب كلُّها من ذهب وفضة كما قال تعالى {ويُطاف عليهم بآنيةٍ من فضة وأكوابٍ كانت قوارير} وفي الحديث (لا تلبسوا الحرير ولا الديباج، ولا تشربوا في آنية الذهب والفضة، ولا تأكلوا في صحفائها، فإِنها لهم في الدنيا ولكم في الآخرة) {وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الأَنفُسُ وَتَلَذُّ الأَعْيُنُ} أي وفي الجنة كل ما تشتهيه النفوس من أنواع اللذائذ والمشتهيات، وتُسرُّ به الأعين من فنون المناظر الجميلة، والمشاهد اللطيفة {وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} أي وأنتم في الجنة باقون دائمون، لا تخرجون منها أبداً، قال أبو السعود: وهذا إِتمامٌ للنعمة وإِكمال للسرور، فإِنَّ كل نعيمٍ زائلٍ موجبٌ لخوف الزوال .. لمَّا ذكر الجنة وأنها موضع الحبور، ذكر ما فيها من النعم، فذكر أولاً المطاعم، ثم ذكر المشارب، ثم بعد ذلك التفصيل ذكر بياناً كلياً بقوله {وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الأَنفُسُ وَتَلَذُّ الأَعْيُنُ} ثم ذكر تمام النعمة بالخلود في دار النعيم، وهذا حصرٌ لأنواع النعم، لأنها إمّا مشتهاة في القلوب، أو مستلذةٌ في العيون {وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} أي وتلك الجنة الموصوفة بتلك الأوصاف الجليلة أعطيتموها بسبب أعمالكم الصالحة التي قدمتموها في الدنيا، قال ابن كثير: أي أعمالكم الصالحة كانت سبباً لشمول رحمة الله إياكم، فإنه لا يدخل أحد الجنة بعمله، ولكن برحمة الله وفضله، وإنما الدرجات ينال تفاوتها بحسب الأعمال الصالحات وفي الحديث (ما من أحد إلا وله منزل في الجنة ومنزل في النار، الكافر يرث المؤمن في النار، والمؤمن يرث الكافر منزلة في الجنة، وذلك قوله تعالى {لَكمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْهَا تَأْكُلُونَ} أي لكم في الجنة من أنواع الفواكه والثمار الشيء الكثير - سوى الطعام والشراب - من هذه الفواكه تأكلون تفكهاً وتلذذاً، قال المفسرون: يأكل أهل الجنة من بعض الثمار، وأما الباقي فعلى الأشجار على الدوام، لا ترى فيها شجرةٌ تخلو عن ثمرها لحظة، فهي مزينةٌ بالثمار أبداً، لأن كل ما يؤكل يخلف بدله وفي الحديث (لا ينزع رجلٌ في الجنة من ثمرها إلا نبت مثلاها مكانها).







حال الأشقياء الفجار يوم القيامة

{إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ(74) لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ(75)وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ(76)وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ(77)لَقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ(78)أَمْ أَبْرَمُوا أَمْرًا فَإِنَّا مُبْرِمُونَ(79)أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ(80)}.



سبب النزول:

نزول الآية (79):

{أَمْ أَبْرَمُوا..} قال مقاتل: نزلت في تدبيرهم في المكر به - بالنبي صلى الله عليه وسلم - في دار الندوة.



نزول الآية (80):

{أَمْ يَحْسَبُونَ..}: أخرج ابن جرير الطبري عن محمد بن كعب القرظي قال: بينا ثلاثة بين الكعبة وأستارها: قرشيان وثقفي، أو ثقفيان وقرشي، فقال واحد منهم: ترون الله يسمع كلامنا؟ فقال آخر: إذا جهرتم سمع، وإذا أسررتم لم يسمع، فأنزلت: {أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ..} الآية.



ولما ذكر حال السعداء الأبرار أعقبه بذكر حال الأشقياء الفجار فقال {إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ} أي إن الكافرين الراسخين في الإِجرام في العذاب الشديد في جهنم دائمون فيها أبداً، قال الصاوي: والمراد بالمجرمين الكفار لأنهم ذكروا في مقابلة المؤمنين {لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ} أي لا يخفَّف عنهم العذاب لحظة {وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ} أي وهم في ذلك العذاب يائسون من كل خير {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ} أي وما ظلمناهم بعقابنا لهم، ولكنْ كانوا هم الظالمين لتعريضهم أنفسهم للعذاب الخالد {وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ} أي ونادى الكفار مالكاً خازن النار قائلين: ليمتْنا اللهُ حتى نستريح من العذاب، قال ابن كثير: أي ليقبضْ أرواحنا فيريحنا مما نحن فيه، قال ابن عباس: فلم يجبهم إلا بعد ألف سنة {قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ} أي أجابهم إنكم مقيمون في العذاب أبداً، لا خلاص لكم منه بموتٍ ولا بغيره {لَقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ} خطاب توبيخ وتقريع أي لقد جئناكم أيها الكفار بالحق الساطع المبين، ولكنكم كنتم كارهين لدين الله مشمئزين منه لكونه مخالفاً لأهوائكم وشهواتكم، قال الرازي: هذا كالعلة لما ذُكر والمرادُ نفرتهم عن محمد وعن القرآن، وشدة بُغْضهم لقبول الدين الحق {أَمْ أَبْرَمُوا أَمْرًا فَإِنَّا مُبْرِمُونَ} الكلام عن كفار قريش أي أم أحكم هؤلاء المشركون أمراً في كيد محمد صلى الله عليه وسلم فإِنا محكمون أمرنا في نصرته وحمايته، وإِهلاكهم وتدميرهم، قال مقاتل: نزلت في تدبيرهم المكر بالنبي صلى الله عليه وسلم في دار الندوة {أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ} أي أم يظنون أنَّا لا نسمع ما حدَّثوا به أنفسهم، وما تكلموا به فيما بينهم بطريق التناجي، قال ابن جزي: السرُّ ما يحدث به الإِنسان نفسه أو غيره في خفية، والنجوى ما تكلموا به بينهم {بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ} أي بلى إنا نسمع سرَّهم وعلانيتهم، وملائكتنا الحفظة يكتبون عليهم أعماله، روي أنها نزلت في "الأخنس بن شُريق" و"الأسود بن عبد يغوث" اجتمعا فقال الأخنس: أترى الله يسمع سرَّنا!! فقال الآخر: يسمع نجوانا ولا يسمع سرنا.



تنزيه الله تعالى عن الولد والشريك



{قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ(81)سُبْحَانَ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ(82)فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ(83)وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الأَرْضِ إِلَهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ(84)وَتَبَارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ(85)وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ(86)وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ(87)وَقِيلِهِ يَا رَبِّ إِنَّ هَؤُلاءِ قَوْمٌ لا يُؤْمِنُونَ(88)فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ(89)}.



{قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ} أي قل يا محمد لهؤلاء المشركين: لو فُرض أنَّ لله ولداً لكنت أنا أول من يعبد ذلك الولد، ولكنه جل وعلا منزَّه عن الزوجة والولد، قال القرطبي: وهذا كما تقول لمن تناظره: إن ثبتَ ما قلت بالدليل فأنا أول من يعتقده، وهذا مبالغةٌ في الاستبعاد، وترقيقٌ في الكلام، وقال الطبري: هو ملاطفةٌ في الخطاب، وقال البيضاوي: ولا يلزم من هذا الكلام صحة وجود الولد وعبادته له، بل المراد نفيهما على أبلغ الوجوه، وإِنكاره للولد ليس للعناد والمراء، بل لو كان أولى الناس بالاعتراف به، فإِن النبي يكون أعلم بالله وبما يصح له وما لا يصح {سُبْحَانَ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ} أي تنزَّه وتقدَّس اللهُ العظيمُ الجليل، ربُّ السماواتِ والأرضِ، وربُّ العرشِ العظيم، عمَّا يصفه به الكافرون من نسبة الولد إليه {فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا} أي اترك كفار مكة في جهلهم وضلالهم، يخوضوا في باطلهم ويلعبوا بدنياهم {حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ} أي إلى ذلك اليوم الرهيب الذي وُعدوه - وهو يوم القيامة - فسوف يعلمون حينئذٍ كيف يكون حالهم ومصيرهم ومآلهم {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الأَرْضِ إِلَهٌ} أي هو جل وعلا معبودٌ في السماء ومعبود في الأرض، لأنه هو الإِله الحق، المستحق للعبادة في السماء والأرض، قال ابن جزي: أي هو الإِله لأهل الأرض وأهل السماء، وقال ابن كثير: أي هو إله من في السَّماء وإلهُ من في الأرض، يعبده أهلهما وكلُّهم خاضعون له أذلاء بين يديه {وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ} أي هو الحكيم في تدبير خلقه، العليمُ بمصالحهم، وهذا كالدليل على وحدانيته تعالى {وَتَبَارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا} أي تمجَّد وتعظَّم الله الذي له مُلك السماواتِ والأرض وما بينهما من المخلوقات، من الإِنس والجن والملائكة، فهو الخالق والمالك والمتصرف في الكائنات بلا ممانعةٍ ولا مدافعة {وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ} أي وعنده وحده علم زمان قيام الساعة {وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} أي وإليه لا إلى غيره مرجع الخلائق للجزاء، فيجازي كلاً بعمله {وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ} أي ولا يملك أحدٌ ممن يعبدونهم من دون الله أن يشفع عند الله لأحد، لأنه لا شفاعة إلا بإِذنه {إِلا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ} أي إلا لمن شهد بالحق، وآمن عن علم وبصيرة، فإِنه تنفع شفاعته عند الله {وَهُمْ يَعْلَمُونَ} أي وهم يعلمون أن الشفاعة لا تكون إلا بإِذنه، قال المفسرون: والمرادُ بـ {مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ} عيسى وعزير والملائكة، فإِنهم يشهدون بالحق والوحدانية للهِ، فهؤلاء تنفع شفاعتهم للمؤمنين وإِن كانوا قد عُبدوا من دون الله {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} أي ولئن سألت يا محمد كفار مكة من الذي خلقهم وأوجدهم؟ ليقولُنَّ اللهُ خلقنا، فهم يعترفون بأنه الخالق ثم يعبدون غيره ممن لا يقدر على شيء {فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ} أي فكيف ينصرفون عن عبادة الرحمن إلى عبادة الأوثان؟ فهم في غاية الجهل والسفاهة وسخافة العقول {وَقِيلِهِ يَا رَبِّ إِنَّ هَؤُلاءِ قَوْمٌ لا يُؤْمِنُونَ} أي وقول محمد في شكواه لربه يا ربِّ إن هؤلاء قوم معاندون جبارون لا يصدقون برسالتي ولا بالقرآن، قال قتادة: هذا قول نبيكم صلى الله عليه وسلم يشكو قومه إلى ربه عز وجل {فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلامٌ } أي فأعرض عنهم يا محمد وسامحهم ولا تقابلهم بمثل ما يقابلونك به، قال الصاوي: وهو تباعدٌ وتبرؤٌ منهم، وليس في الآية مشروعية السلام على الكفار، وقال قتادة: أمر بالصفح عنهم ثم أُمر بقتالهم، فصار الصفح منسوخاً بالسيف {فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} أي فسوف يعلمون عاقبة إجرامهم وتكذيبهم، وهو وعيدٌ وتهديد للمشركين، وتسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم.

yacine414
2011-04-01, 17:58
سورة الدخان



تنزيل القرآن في ليلة القدر

تهديد المشركين بالعذاب

تذكير كفار قريش بما حل بالطاغين من قوم فرعون

إنكار المشركين البعث

أهوال يوم القيامة، وجزاء الكفار

أحوال أهل الجنة، وألوان النعيم



بَين يَدَي السُّورَة



* سورة الدخان مكية وهي تتناول أهداف السور المكية "التوحيد، الرسالة، البعث" لترسيخ العقيدة وتثبيت دعائم الإِيمان.



* ابتدأت السورة الكريمة بالحديث عن القرآن العظيم - المعجزة الخالدة - الباقي إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها وإِليه يرجعون، وقد تحدثت عن إِنزال الله تعالى له في ليلةٍ مباركة من أفضل ليالي العمر هي "ليلة القدر" وبينت شرف تلك الليلة العظيمة التي تُفصَّل وتدبَّر فيها أمور الخلق، والتي اختارها الله لإِنزال خاتمة الكتب السماوية على خاتم الأنبياء والمرسلين محمد صلى الله عليه وسلم.



* ثم تحدثت عن موقف المشركين من هذا القرآن العظيم، وأنهم في شكٍ وارتياب من أمره، مع وضوح ءاياته، وسطوع براهينه، وأنذرتهم بالعذاب الشديد.



* ثم تحدثت عن قوم فرعون، وما حلَّ بهم من العذاب والنكال نتيجة الطغيان والإِجرام، وعن الآثار التي تركوها بعد هلاكهم، من قصور ودور، وحدائق وبساتين، وأنهار وعيون، وعن ميراث بني إِسرائيل لهم، ثم ما حدث لهم من تشرد وضياع بسبب عصيانهم لأوامر الله.



* وتناولت السورة الكريمة مشركي قريش، وإِنكارهم للبعث والنشور، واستبعادهم للحياة مرة أُخرى ولذلك كذبوا الرسول، وبينت أن هؤلاء المكذبين ليسوا بأكرم على الله ممن سبقهم من الأمم الطاغية، وأن سنة الله لا تتخلف في إهلاك الطغاة المجرمين.



* وختمت السورة الكريمة ببيان مصير الأبرار ومصير الفجار، بطريق الجمع بين الترغيب والترهيب، والتبشير والإِنذار.



التسميَة:

سميت "سورة الدخان" لأن الله تعالى جعله آية لتخويف الكفار، حيث أصيبوا بالقحط والمجاعة بسبب تكذيبهم للرسول صلى الله عليه وسلم وبعث الله عليهم الدخان حتى كادوا يهلكوا، ثم نجّاهم بعد ذلك ببركة دعاء النبي صلى الله عليه وسلم.



تنزيل القرآن في ليلة القدر



{حم(1)والكتاب المبين(2)إنَّا أنزلناه في ليلةٍ مباركة إنَّا كنَّا مُنْذرين(3) فيها يُفرق كلُّ أمرٍ حكيم(4)أمراً من عندنا إنَّا كنا مرسلين(5)رحمةً مِّن رَّبِّك إنَّه هو السَّميعُ العليم(6)ربِّ السماواتِ والأرض وما بينهما إِن كنتم موقنين(7)لا إِله إِلا هو يُحيي ويمُيتُ ربُّكم وربُّ ءابائكم الأوَّلين(8) بل هم في شكٍ يلعبون(9)} .



{حم} الحروف المقطعة للتنبيه على إِعجاز القرآن وقد تقدم {والكتاب المبين} أي أُقسم بالقرآن البيِّن الواضح، الفارق بين طريق الهدى والضلال، البيِّن في إِعجازه، الواضح في أحكامه، وجوابه {إنا أنزلناه في ليلةٍ مباركة} أي أنزلنا القرآن في ليلةٍ فاضلة كريمة هي ليلة القدر من شهر رمضان المبارك {شهر رمضان الذي أُنزل فيه القرآن} قال ابن جزي: وكيفيةُ إِنزاله فيها أنه أُنزل إلى السماء الدنيا جملةً واحدة، ثم نزل به جبريل على النبي صلى الله عليه وسلم شيئاً بعد شيء وقيل: المعنى ابتدأنا إِنزاله في ليلة القدر، قال القرطبي: ووصف الليلة بالبركة لما يُنزل اللهُ فيها على عباده من البركات والخيرات والثواب {إنّا كنا مُنْذرين} أي لننذر به الخلق، لأن من شأننا وعادتنا ألاَّ نترك الناس دون إِنذار وتحذيرٍ من العقاب، لتقوم الحجة عليهم {فيها يُفرق كلُّ أمرٍ حكيم} أي في ليلة القدر يُفصل ويُبيِّن كلُّ أمرٍ محكم من أرزاق العباد وآجالهم وسائر أحوالهم فلا يُبدِّل ولا يُغيِّر، قال ابن عباس: يحكم الله أمر الدنيا إلى السنة القابلة ما كان من حياةٍ، أو موت، أو رزقٍ، قال المفسرون: إن الله تعالى ينسخ من اللوح المحفوظ في ليلة القدر، ما يكون في تلك السنة من أرزاق العباد وآجالهم وجميع أمورهم من خير وشر، وصالح وطالح، حتى إِن الرجل ليمشي في الأسواق وينكحُ ويُولد له وقد وقع اسمه في الموتى {أمراً من عندنا} أي جميع ما نقدِّره في تلك الليلة وما نوحي به إلى الملائكة من شئون العباد، هو أمرٌ حاصل من جهتنا، بعلمنا وتدبيرنا {إنَّا كنا مرسلين} أي نرسل الأنبياء إلى البشر بالشرائع الإِلهية لهدايتهم وإِرشادهم {رحمةً من ربك} أي من أجل الرأفة والرحمة بالعباد، قال أبو حيّان: وضع الظاهر {ربك} موضع الضمير "رحمةً منا" إيذاناً بأن الربوبية تقتضي الرحمة على المربوبين {إنه هو السميعُ العليم} أي السميع لأقوال العباد، العليمُ بأفعالهم وأحوالهم {ربِّ السماواتِ والأرض وما بينهما إِن كنتم موقنين} أي الذي أنزل القرآن هو ربُّ السمواتِ والأرض وخالقهما ومالكهما ومن فيهما، إن كنتم من أهل الإِيمان واليقين {لا إِله إِلا هو يُحيي ويمُيتُ} أي لا ربَّ غيره، ولا معبود سواه، لأنه المتصف بصفات الجلال والكمال، يُحيي الأموات، ويميت الأحياء {ربُّكم وربُّ ءابائكم الأولين} أي هو خالقكم وخالق من سبقكم من الأمم الماضين، قال الرازي: والمقصودُ من الآية أن المنزل إِذا كان موصوفاً بهذه الجلالة والكبرياء، كان المُنزل - الذي هو القرآن - في غاية الشرف والرفعة {بل هم في شكٍ يلعبون} أي ليسوا موقنين فيما يظهرونه من الإِيمان في قولهم: اللهُ خالقنا، بل هم في شكٍ من أمر البعث، فهم يلعبون ويسخرون ويهزءون، قال شيخ زاده: التفت من الخطاب للغيبة فقال {بل هم في شكٍ يلعبون} تحقيراً لشأنهم، وإِبعاداً لهم عن موقف الخطاب، لكونهم من أهل الشك والامتراء، وكونُ أفعالهم الهزء واللعب لعدم التفاتهم إلى البراهين القاطعة، وعدم تمييزهم بين الحق والباطل، والضار والنافع.

yacine414
2011-04-01, 17:59
تهديد المشركين بالعذاب



{فارتقبْ يوم تأتي السَّماءُ بدخان مُّبين(10) يغْشى النَّاس هذا عذابٌ أليمٌ(11) رَّبَّنا اكشفْ عنا العذاب إِنَّا مؤمنون(12)أنَّى لهم الذكرى وقد جاءهم رسولٌ مُّبينٌ(13)ثم تولَّوْا عنه وقالوا معلَّمٌ مجنون(14)إنا كاشفوا العذاب قليلاً إِنكم عائدون(15)يومَ نبْطش البطْشة الكُبرى إِنا منتقمون(16)}.



سبب النزول:

نزول الآية (10):

{فارتقب يوم تأتي السماء}: أخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن ابن مسعود قال: إن قريشاً لما استعصوا على النَّبي صلى الله عليه وسلم، دعا عليهم بسنين كسنِيِّ يوسف، فأصابهم قحط، حتى أكلوا العظام، فجعل الرّجل ينظر إلى السماء، فيرى ما بينه وبينها كهيئة الدُّخان من الْجَهْد، فأنزل الله: {فارتقب يوم تأتي السماء بدخان مبين} فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا : يا رسول الله، استسق الله لمُضَر، فإنها قد هلكت، فاستسقى، فسقوا، فنزلت.



نزول الآيتين (15-16):

{إنّكم عائدون، يوم نبطش .. } أخرج البخاري في تتمة الرواية السابقة: فلما أصابتهم الرّفاهية عادوا إلى حالهم، فأنزل الله: {يوم نبطش البطشة الكبرى، إنّا منتقمون} فانتقم الله منهم يوم بدر.



ثم لما بيَّن أن شأنهم الحماقة والطغيان التفت إلى حبيبه صلى الله عليه وسلم تسليةً له، وإِقناطاً من إِيمانهم فقال {فارتقبْ يوم تأتي السماءُ بدخان مبين} أي فانتظر يا محمد عذابهم يوم تأتي السماءُ بدخانٍ كثيف، بيّنٍ واضح يراه كل أحد، قال ابن مسعود: إن قريشاً لما عصت الرسول صلى الله عليه وسلم دعا عليهم فقال: "اللهم اشدُد وطأتك على مضر واجعلها عليهم سنين كسني يوسف" فأصابهم الجهد حتى أكلوا الجيف، وكان الرجل يُحدِّث أخاه فيسمع صوته ولا يراه لشدة الدخان المنتشر بين السماء والأرض، ثم قال ابن مسعود: خمسٌ قد مضين: "الدخانُ، والروم والقمر، والبطشة، واللزام" وقال ابن عباس: لم يمض الدخان بل هو من أمارات الساعة، وهو يأتي قُبيل القيامة، يصيبُ المؤمن منه مثلُ الزكام، ويُنضجُ رءوس الكافرين والمنافقين، حتى يصبح رأس الواحد كالرأس المشوي، ويغدو كالسكران فيملأ الدخان جوفه ويخرج من منخريه وأّذنيه ودبره {يغْشى النَّاس هذا عذابٌ أليمٌ} أي يشمل كفار قريش ويعمهم من كل جانب ويقولون حين يصيبهم الدخان : هذا عذاب أليم {ربَّنا اكشفْ عنا العذاب إِنَّا مؤمنون} أي ويقولون مستغيثين: ربَّنا ارفع عنا العذاب فإِننا مؤمنون بمحمد وبالقرآن إن كشفته عنا، قال البيضاوي: وهذا وعدٌ بالإِيمان إن كشف العذاب عنهم {أنَّى لهم الذكرى}؟ استبعادٌ لإِيمانهم أي من أين يتذكرونه ويتعظون عند كشف العذاب؟ {وقد جاءهم رسولٌ مبين} أي والحال أنه قد أتاهم رسولٌ بيّن الرسالة، مؤيدٌ بالبينات الباهرة، والمعجزات القاهرة، ومع هذا لم يؤمنوا به ولم يتبعوه؟ {ثم تولَّوْا عنه وقالوا معلَّم مجنون} أي ثم أعرضوا عنه وبهتوه، ونسبوه إلى الجنون - وحاشاه - فهل يُتوقع من قومٍ هذه صفاتهم أن يتأثروا بالعظة والتذكير؟! قال الإِمام فخر الدين الرازي: إن كفار مكة كان لهم في ظهور القرآن على محمد صلى الله عليه وسلم قولان: منهم من كان يقول: إن محمداً يتعلم هذا الكلام من بعض الناس، ومنهم من كان يقول: إنه مجنون والجنُّ تلقي عليه هذا الكلام حال تخبطه {إنا كاشفوا العذاب قليلاً إِنكم عائدون} أي سنكشف عنكم العذاب زمناً قليلاً ثم تعودون إلى ما كنتم عليه من الشرك والعصيان، قال الرازي: والمقصودُ التنبيه على أنهم لا يوفون بعهدهم، وأنهم في حال العجز يتضرعون إلى الله تعالى، فإِذا زال الخوف عادوا إلى الكفر وتقليد الأسلاف، قال ابن مسعود: لما كشف عنهم العذاب باستسقاء النبي صلى الله عليه وسلم عادوا إلى تكذيبه {يومَ نبْطش البطْشة الكُبرى إِنا منتقمون} أي واذكر يوم نبطش بالكفار بطشتنا الكبرى انتقاماً منهم، والبطشُ: الأخذُ بقوة وشدة، قال ابن مسعود: "البطشة الكبرى" يوم "بدر"، وقال ابن عباس: هي يوم القيامة، قال ابن كثير: والظاهر أن ذلك يوم القيامة، وإِن كان يومُ بدر يومَ بطشةٍ أيضاً، وقال الرازي: القول الثاني أصح لأن يوم بدر لا يبلغ هذا المبلغ الذي يوصف به هذا الوصف العظيم، ولأن الانتقام التام إِنما يحصل يوم القيامة، ولمّا وصف بكونها "كبرى"وجب أن تكون أعظم أنواع البطش على الإِطلاق، وذلك إِنما يكون في القيامة.



تذكير كفار قريش بما حل بالطاغين من قوم فرعون



{ولقد فتنَّا قبلهم قومَ فرعون وجاءهم رسولٌ كريم(17)أنْ أدُّوا إليَّ عبادَ إني لكم رسولٌ أمينٌ(18)وأن لا تعلوا على الله إنِّي آتيكم بسلطانٍ مُّبين(19)وإِني عُذْت بربِّي وربِّكم أن تَرجمُون(20)وإِن لم تؤمنوا لي فاعتزلون(21)فدعا ربَّه أنَّ هؤلاء قومٌ مجرمون(22)فأَسْرِ بعبادي ليلاً إِنَّكم مُّتَّبعون(23)واترك البحر رهواً إنَّهُم جندٌ مُّغرقون(24)كم تركوا من جنَّاتٍ وعيونٍ(25)وزروع ومقامٍ كريم (26) ونَعمةٍ كانوا فيها فاكهين(27)كذلك وأورثناها قوماً آخرين(28)فما بكتْ عليهم السَّماءُ والأرض وما كانوا منظرين(29)ولقد نَجَّينا بني إِسرائيل من العذاب المُهين(30)من فرعونَ إنَّه كان عالياً من المسرفين(31)ولقد اخترناهم على علمٍ على العالمين(32)وآتيناهم من الآياتِ ما فيه بلاءٌ مُّبين(33)}.



ثم ذكَّر كفار قريش بما حلَّ بالطاغين من قوم فرعون فقال {ولقد فتنَّا قبلهم قومَ فرعون} أي ولقد اختبرنا قبل هؤلاء المشركين قوم فرعون وهم أقباط مصر {وجاءهم رسولٌ كريم} أي وجاءهم رسولٌ شريف الحسب والنسب، من أكرم عباد الله وهو موسى الكليم عليه أفضل الصلاة والتسليم {أنْ أدّوا إليَّ عبادَ الله} أي فقال لهم موسى: ادفعوا إليَّ عبادَ الله وأطلقوهم من العذاب، يريد بني إِسرائيل كقوله تعالى {فأرسل معنا بني إِسرائيل ولا تعذبهم} {إني لكم رسولٌ أمينٌ} أي إني رسولٌ مؤتمنٌ على الوحي غير متهم، وأنا لكم ناصح فاقبلوا نصحي {وأن لا تعلوا على الله} أي لا تتكبروا على الله ولا تترفَّعوا عن طاعته {إني آتيكم بسلطانٍ مبين} أي جئتكم بحجةٍ واضحة، وبرهانٍ ساطع، يعترف بهما كل عاقل {وإِني عُذْت بربّي وربكم أن تَرجمُون} أي التجأت إليه تعالى واستجرت به من أن تقتلوني، قال القرطبي: كأنهم توعَّدوه بالقتل فاستجار بالله {وإِن لم تؤمنوا لي فاعتزلون} أي وإِن لم تصدقوني ولم تؤمنوا بالله لأجل ما أتيتكم به من الحجة، فكفوا عن أذاي وخلُّوا سبيلي، قال ابن كثير: أي لا تتعرضوا لي ودعوا الأمر مسالمةً إلى أن يقضي الله بيننا {فدعا ربَّه أنَّ هؤلاء قومٌ مجرمون} أي فدعا عليهم لمّا كذبوه قائلاً: يا ربِّ إن هؤلاء قوم مجرمون فانتقم منهم {فأَسْرِ بعبادي ليلاً إِنكم متَّبعون} في الكلام حذف تقديره فأوحينا إليه وقلنا له: أسرٍ بعبادي أي اخرج ببني إِسرائيل ليلاً فإِن فرعون وقومه يتبعونكم، ويكون ذلك سبباً لهلاكهم {واترك البحر رهواً} أي واترك البحر ساكناً منفرجاً على هيئته بعد أن تجاوزه {إنهم جندٌ مُغرقون} أي إِنَّ فرعون وقومه سيغرقون فيه، قال ابن جزي: لمَّا جاوز موسى البحر أراد أن يضربه بعصاه فينطبق كما ضربه فانفلق، فأمره الله بأن يتركه ساكناً كما هو ليدخله فرعون وقومه فيغرقوا فيه، وإِنما أخبره تعالى بذلك ليبقى فارغ القلب من شرهم وإِيذائهم، مطمئناً إلى أنهم لن يدركوا بني إِسرائيل، ثم أخبر تعالى عن هلاكهم فقال {كم تركوا من جناتٍ وعيون} كم للتكثير أي لقد تركوا كثيراً من البساتين والحدائق الغناء والأنهار والعيون الجارية {وزروع ومقامٍ كريم} أي ومزارع عديدة فيها أنواع المزروعات ومجالس ومنازل حسنة، قال قتادة: {ومقام كريم} هي المواضع الحسان من المجالس والمساكن وغيرها {ونَعمةٍ كانوا فيها فاكهين} أي وتنعم بالعيش مع الحسن والنضارة كانوا فيها ناعمين بالرفاهية وكمال السرور، قال الإِمام فخر الدين الرازي: بيَّن تعالى أنهم بعد غرقهم تركوا هذه الأشياء الخمسة وهي: الجنات، والعيون، والزروع، والمقام الكريم - وهو المجالس والمنازل الحسنة - ونعمة العيش بفتح النون وهي حسنُه ونضارته {كذلك وأورثناها قوماً آخرين} أي كذلك فعلنا بهم حيث أهلكناهم وأورثنا ملكهم وديارهم لقومٍ آخرين، كانوا مستعبدين في يد القبط وهم بنو إسرائيل، قال ابن كثير: والمراد بهم بنوا إسرائيل فقد استولوا - بعد غرق فرعون وقومه - على الممالك القبطية، والبلاد المصرية كما قال تعالى {وأورثنا القوم الذين كانوا يُستْضعفون مشارق الأرض ومغاربها التي باركنا فيها} وقال تعالى في مكان آخر {وأورثناها بني إسرائيل} {فما بكتْ عليهم السماءُ والأرض} أي فما حزن على فقدهم أحد، ولا تأثر بموتهم كائن من الخلق {وما كانوا منظرين} أي وما كانوا مؤخرين وممهلين إلى وقت آخر. بل عُجّل عقابهم في الدنيا، قال القرطبي: تقول العرب عند موت السيد منهم: بكت له السماء والأرض، أي عمَّت مصيبتُه الأشياء حتى بكته الأرض والسماء، والريح والبرق قال الشاعر:

فيا شجر الخابور مالك مورقاً كأنك لم تجزع لمـوتِ طــريف

وذلك على سبيل التمثيل والتخييل مبالغةً في وجوب الجزع والبكاء عليه والمعنى أنهم هلكوا فلم تعظم مصيبتهم ولم يوجد لهم فقد، وقيل هو على حذف مضاف أي ما بكى عليهم أهل السماء وأهل الأرض.

{ولقد نجينا بني إِسرائيل من العذاب المهين} أي والله لقد أنقذنا بني إِسرائيل من العذاب الشديد، المفرط في الإِذلال والإِهانة، وهو قتل أبنائهم واستخدام نسائهم، وإِرهاقهم في الأعمال الشاقة {من فرعونَ إنه كان عالياً من المسرفين} أي من طغيان فرعون وجبروته إنه كان متكبراً جباراً، متجاوزاً الحد في الطغيان والإِجرام، قال الصاوي: هذا من جملة تعداد النعم على بني إِسرائيل، والمقصود من ذلك تسليته صلى الله عليه وسلم وتبشيره بأنه سينجيه وقومه المؤمنين من أيدي المشركين، فإِنهم لم يبلغوا في التجبر مثل فرعون وقومه {ولقد اخترناهم على علمٍ على العالمين} أي اصطفيناهم وشرفناهم على علمٍ منا باستحقاقهم لذلك الشرف على جميع الناس في زمانهم، قال قتادة: على أهل زمانهم، لا على أمة محمد لقوله تعالى {كنتم خير أمةٍ أُخرجت للناس} {وآتيناهم من الآياتِ ما فيه بلاءٌ مبين} أي وآتيناهم من الحجج والبراهين وخوارق العادات ما فيه اختبار وامتحان ظاهر جليٌ لمن تدبَّر وتبصَّر، قال الرازي: والآياتُ مثل فلق البحر، وتظليل الغمام، وإِنزال المنِّ والسلوى وغيرها من الآيات الباهرة، التي ما أظهر الله مثلها على أحدٍ سواهم.



إنكار المشركين البعث



{إنَّ هؤلاء ليقولون(34)إن هي إلا موتتنا الأولى وما نحنُ بمِنشرين(35)فأْتوا بآبائنا إِن كنتم صادقين(36)أهم خيرٌ أم قومُ تُبَّع والَّذين من قبلهم أهلكناهم إنهم كانوا مجرمين(37)وما خلقنا السماوات والأرضَ وما بينهما لاعبين(38)ما خلقناهما إلا بالحقِّ ولكنَّ أكثرهم لا يعلمون(39)}.



{إن هؤلاء ليقولون إن هي إلا موتتنا الأولى} أي إِن كفار قريش ليقولون: لن نموت إلا موتةً واحدةً وهي موتتنا الأولى في الدنيا، وفي قوله تعالى {هؤلاء} تحقيرٌ لهم وازدراءٌ بهم، قال المفسرون: لمَّا كان الحديث في أول السورة عن كفار مكة، وجاءت قصة فرعون وقومه مسوقة للدلالة على أنهم مثلهم في الإِصرار على الضلالة والكفر، رجع إلى الحديث عن كفار قريش، والغرضُ من قولهم {إن هي إِلاّ موتتنا الأولى} إِنكار البعث كأنهم قالوا: إِذا متنا فلا بعث ولا حياة ولا نشور، ثم صرحوا بذلك بقولهم {وما نحنُ بمِنشرين} أي وما نحن بمبعوثين {فأْتوا بآبائنا إِن كنتم صادقين} خطابٌ للرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين على وجه التعجيز أي أحيوا لنا ءاباءنا ليخبرونا بصدقكم إِن كنتم صادقين في أن هناك حياةً بعد هذه الحياة، قال الإِمام فخر الدين الرازي: إن الكفار احتجوا على نفي الحشر والنشر بأن قالوا: إن كان البعث والنشور ممكناً معقولاً فعجلوا لنا إِحياء من مات من ءابائنا ليصير ذلك دليلاً عندنا على صدق دعواكم في البعث يوم القيامة، وقال القرطبي: قائل هذا أبو جهل، قال يا محمد: إن كنت صادقاً في قولك فابعث لنا رجلين من ءابائنا أحدهما: قُصي بن كلاب فإِنه كان رجلاً صادقاً، لنسأله عما يكون بعد الموت {أهم خيرٌ أم قومُ تُبَّع} استفهام انكار مع التهديد أي أهؤلاء المشركون أقوى وأشدُّ أم أهل سبأ ملوك اليمن؟ الذين كانوا أكثر أموالاً، وأعظم نعيماً من كفار مكة؟ {والذين من قبلهم أهلكناهم} أي والذين سبقوهم من الأمم العاتية أهلكناهم، وخربنا بلادهم، وفرقناهم شذر مذر، قال أبو السعود: والمراد بهم عاد وثمود وأضرابهم من كل جبار عنيد، أولي بأسٍ شديد، فأولئك كانوا أقوى من هؤلاء، وقد أهلكهم الله مع ما كانوا عليه من غاية القوة والشدة، فإِهلاك هؤلاء أولى {إنهم كانوا مجرمين} تعليل للإِهلاك أي أهلكناهم ودمرناهم بسبب إِجرامهم، وفيه وعيد وتهديد لقريش أن يفعل الله بهم ما فعل بقوم تُبَّع والمكذبين .. ثم نبه تعالى إلى دلائل البعث وهو خلق العالم بالحقِّ فقال {وما خلقنا السماوات والأرضَ وما بينهما لاعبين} أي وما خلقنا هذا الكون وما فيه من المخلوقات البديعة لعباً وعبثاً {ما خلقناهما إلا بالحقِّ} أي ما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما من المخلوقات إلا بالعدل والحقِّ المبين، لنجازي المحسن بإِحسانه والمسيء بإِساءته {ولكنَّ أكثرهم لا يعلمون} أي ولكنَّ أكثر الناس لا يعلمون ذلك فينكرون البعث والجزاء، قال المفسرون: إن الله تعالى خلق النوع الإِنساني، وخلق ما ينتظم به أسباب معاشهم، من السقف المرفوع، والمهاد المفروش، وما بينهما من عجائب المصنوعات، وبدائع المخلوقات، ثم كلفهم بالإِيمان والطاعة، فآمن البعض وكفر البعض، فلا بدَّ إذاً من دار جزاء يثاب فيها المحسن، ويعاقب فيها المسيء، لتجزى كل نفسٍ بما كسبت، ولو لم يحصل البعث والجزاء لكان هذا الخلق لهواً وعبثاً، وتنزَّه الله عن ذلك.





أهوال يوم القيامة، وجزاء الكفار



{إنَّ يوم الفصل ميقاتُهم أجمعين(40)يومَ لا يُغني مَّولىً عن مَّولى شيئاً ولا هم يُنصرون(41)إلاَّ من رَّحم اللهُ إِنَّه هو العزيز الرَّحيم(42)إنَّ شجرتَ الزَّقُّوم(43)طعامُ الأثيم(44)كالمُهل يغلي في البطون(45)كغلي الحميم(46)خذوه فاعْتلُوه إلى سواءِ الجحيم(47)ثمَّ صبُّوا فوق رأسه من عذاب الحميم(48)ذقْ إِنَّكَ أنتَ العزيزُ الكريم(49)إنَّ هذا ما كنتم بهِ تمْترون(50)}.



سبب النزول:

نزول الآية (43) وما بعدها:

{إن شجرة}: أخرج سعيد بن منصور عن أبي مالك قال: إن أبا جهل كان يأتي بالتمر والزُّبْد، فيقول: تزقموا، فهذا الزقوم الذي يعدكم به محمد، فنزلت: {إن شجرة الزقوم طعام الأثيم..}.



نزول الآية (49):

{ذق إنك ..}: أخرج الأموي في مغازيه عن عكرمة قال: "لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا جهل، فقال: إن الله أمرني أن أقول لك: "أولى لك فأولى، ثم أولى لك فأولى" فنزع يدهمن يده، وقال: ما تستطيع لي أنت ولا صاحبك من شيء، لقد علمتَ أني أمْنَعُ أهل البطحاء، وأنا العزيز الكريم، فقتله الله يوم بدر، وأذله وعيَّره بكلمته، ونزل فيه: {ذق إنك أنت العزيز الكريم}".



ولهذا قال بعده {إنَّ يوم الفصل ميقاتُهم أجمعين} أي إن يوم القيامة موعد حساب الخلائق أجمعين، سُمي {يوم الفصل} لأن الله تعالى يفصل فيه بين الخلق كما قال تعالى {يوم القيامة يفصل بينكم}{يومَ لا يُغني مولىً عن مولىً شيئاً ولا هم يُنصرون} أي في ذلك اليوم الرهيب، لا يدفع قريب عن قريبه، ولا صديقٌ عن صديقه، ولا ينفع أحدٌ أحداً ولا ينصره ولو كان قريبه كقوله {يا أيها الناس اتقوا ربكم واخشوا يوماً لا يجزى والدٌ عن ولده، ولا مولودٌ هو جازٍ عن والده شيئاً} {إلاَّ من رحم اللهُ} استثناء متصل أي لا يغني قريبٌ عن قريب إلا المؤمنين فإِنه يُؤذن لهم في شفاعة بعضهم لبعض، وقيل: منقطع أي لكنْ من رحمه اللهُ فإِنه يشفع وينفع، قال ابن عباس: يريد المؤمن فإِنه تشفع له الأنبياء والملائكة {إِنه هو العزيز الرحيم} أي هو المنتقم من أعدائه، الرحيمُ بأوليائه .. ولما ذكر الأدلة على القيامة، أردفه بوصف ذلك اليوم العصيب، فذكر وعيد الكفار أولاً ثم وعد الأبرار ثانياً للجمع بين الترهيب والترغيب فقال {إنَّ شجرتَ الزقوم طعامُ الأثيم} أي إن هذه الشجرة الخبيثة - شجرة الزقوم - التي تنبتُ في أصل الجحيم، طعام كل فاجر، ليس له طعام غيرها، قال أبو حيان: الأثيمُ صفة مبالغة وهو الكثير الآثام، وفُسِّر بالمشرك {كالمُهل يغلي في البطون} أي هي في شناعتها وفظاعتها إذا أكلها الإِنسان كالنحاس المذاب الذي تناهى حرُّه، فهو يُجرجر في البطن {كغلي الحميم} أي كغليان الماء الشديد الحرارة، قال القرطبي: وشجرة الزقوم هي الشجرة التي خلقها الله في جهنم، وسمَّاها الشجرة الملعونة، فإِذا جاع أهل النار التجئوا إليها فأكلوا منها، فغلت في بطونهم كما يغلي الماء الحار، وشبَّه تعالى ما يصير منها إلى بطونهم بالمُهل وهو النحاس المذاب، والمرادُ بالأثيم الفاجر ذو الإِثم وهو أبو جهل، وذلك أنه كان يقول: يعدنا محمد أن في جهنم الزقوم، وإِنما هو الثَّريد بالزبد والتمر، ثم يأتي بالزبد والتمر ويقول لأصحابه: تزقموا، سخريةً واستهزاءً بكلام الله، قال تعالى {خذوه فاعْتلُوه إلى سواءِ الجحيم} أي يُقال للزبانية : خذوا هذا الفاجر اللئيم فسوقوه وجروه من تلابيبه بعنف وشدة إلى وسط الجحيم {ثم صبُّوا فوق رأسه من عذاب الحميم} أي ثم صبوا فوق رأس هذا الفاجر عذاب ذلك الحميم الذي تناهى حرُّه {ذقْ إِنكَ أنتَ العزيزُ الكريم} أي يقال له على سبيل الاستهزاء والإِهانة: ذقْ هذا العذاب فإِنك أنت المعزَّز المكرَّم، قال عكرمة: التقى النبي صلى الله عليه وسلم بأبي جهل فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إِنَّ الله أمرني أن أقول لك {أوْلى لكَ فأوْلى} فقال: بأي شيءٍ تهددني! واللهِ ما تستطيع أنت ولا ربك أن تفعلا بي شيئاً، إِني لمن أعزِّ هذا الوادي وأكرمه على قومه، فقتله الله يوم بدر وأذلَّه ونزلت هذه الآية {إنَّ هذا ما كنتم بهِ تمْترون} أي إِنَّ هذا العذاب هو ما كنتم تشكوُّن به في الدنيا، فذوقوه اليوم {أفسحرٌ هذا أم أنتم لا تُبصرون} والجمعُ في الآية باعتبار المعنى لأن المراد جنس الأثيم.





أحوال أهل الجنة، وألوان النعيم



{إن المتقين في مقامٍ أمين(51)في جنَّاتٍ وعيونٍ(52)يلْبسون من سُنْدسٍ واستبرق متقابلين(53) كذلك وزوَّجناهم بحورٍ عينٍ(54) يدْعون فيها بكلِّ فاكهةٍ آمنين(55)لا يذوقون فيها الموتَ إِلاَّ الموتة الأولى ووقاهم عذاب الجحيم(56)فضلاً من ربك ذلك هو الفوز العظيم(57)فإِنما يسرناه بلسانك لعلهم يتذكرون(58)فارتقب إِنهم مرتقبون(59)}.



ولما ذكر تعالى أحوال أهل النار أتبعه بذكر أحوال أهل الجنة فقال {إن المتقين في مقامٍ أمين} أي الذين اتقوا اللهَ في الدنيا بامتثال أوامره واجتناب نواهيه، هم اليوم في موضع إِقامة يأمنون فيه من الآفات والمنغصات والمكاره، وهو الجنة ولهذا قال بعده {في جناتٍ وعيون} أي في حدائق وبساتين ناضرة، وعيونٍ جارية {يلْبسون من سُنْدسٍ وإستبرق} أي يلبسون ثياب الحرير، الرقيق منه وهو السندس، والسميك منه وهو الإستبرق {متقابلين} أي متقابلين في المجالس ليستأنس بعضهم ببعض {كذلك وزوجناهم بحورٍ عينٍ} أي كذلك أكرمناهم بأنواع الإِكرام، وزوجناهم أيضاً بالحور الحسان في الجنان، قال البيضاوي: أي قرناهم بالحور العين، والحوراءُ: البيضاءُ، والعيناءُ: عظيمة العينين، وإِنما وصف تعالى نعيمهم بذلك لأن الجنات والأنهار من أقوى أسباب نزهة الخاطر، وانفراجه عن الغم، ثم ذكر الحور الحِسان لأن بها اكتمال سعادة الإِنسان كما قيل: "ثلاثةُ تنفي عن القلب الحزن: الماء، والخضرةُ، والوجهُ الحسن" ثم زاد في بيان النعيم فقال {يدْعون فيها بكلِّ فاكهةٍ آمنين} أي يطلبون من الخدم إحضار جميع أنواع الفواكه في الجنة، لأجل أنهم آمنون من التخم والأمراض، فلا تعب في الجنة ولا وَصَب {لا يذوقون فيها الموتَ إِلاَّ الموتة الأولى} استثناء منقطع أي لا يذوقون في الجنة الموت لكنهم قد ذاقوا الموتة الأولى في الدنيا فلم يعد ثمة موت، بل خلود أبد الآبدين {ووقاهم عذاب الجحيم} أي خلَّصهم ونجَّاهم من عذاب جهنم الشديد الأليم {فضلاً من ربك} أي فعل ذلك بهم تفضلاً منه تعالى عليهم {ذلك هو الفوز العظيم} أي ذلك الذي أعطوه من النعيم، هو الفوز العظيم الذي لا فوز وراءه {فإِنما يسرناه بلسانك لعلهم يتذكرون} أي فإِنما سهلنا القرآن بلغتك - وهي لسان العرب - لعلهم يتعظون وينزجرون {فارتقب إِنهم مرتقبون} أي فانتظر يا محمد ما يحل بهم، إِنهم منتظرون هلاكك، وسيعلمون لمن تكون النصرة والظفر في الدنيا والآخرة، وفيه وعد للرسول صلى الله عليه وسلم ووعيد للمشركين.

yacine414
2011-04-01, 18:00
سورة الجاثية



مصدر القرآن، وإثبات وحدانية الله

جزاء المكذبين بآيات الله

التذكير بنعم الله على عباده

نعمه الخاصة ببني إسرائيل، وإنزال الشرائع

هل يستوي المحسن والمسيء، واتخاذ الهوى إلهاً

شبه المشركين في إنكار القيامة والإله القادر

أحوال المطيعين والعاصين



بَين يَدَي السُّورَة



* سورة الجاثية مكية، وقد تناولت العقيدة الإِسلامية في إطارها الواسع "الإِيمان بالله تعالى ووحدانيته، الإِيمان بالقرآن ونبوة محمد عليه السلام، الإِيمان بالآخرة والبعث والجزاء" ويكاد يكون المحور الذي تدور حوله السورة الكريمة هو إِقامة الأدلة والبراهين على وحدانية رب العالمين.



* تبتدئ السورة الكريمة بالحديث عن القرآن ومصدره، وهو اللهُ العزيز في ملكه، الحكيم في خلقه، الذي أنزل كتابه المجيد رحمةً بعباده، ليكون نبراساً مضيئاً ينير للبشرية طريق السعادة والخير.



* ثم ذكرت الآيات الكونية المنبثة في هذا العالم الفسيح، ففي السموات البديعة ءاياتٌ، وفي الأرض الفسيحة ءاياتٌ، وفي خلق البشر وسائر الأنعام والمخلوقات ءاياتٌ، وفي تعاقب الليل والنهار، وتسخير الرياح والأمطار ءاياتٌ، وكلها شواهد ناطقة بعظمة الله وجلاله، وقدرته ووحدانيته، ثم تحدثت عن المجرمين المكذبين بالقرآن، الذين يسمعون ءاياته المنيرة، فلا يزدادون إلا استكباراً وطغياناً، وأنذرتهم بالعذاب الأليم في دركات الجحيم.



* وتحدثت السورة عن نعم الله الجليلة على عباده ليشكروه، ويتفكروا في آلائه التي أسبغها عليهم، ويعلموا أنَّ الله وحده هو مصدر هذه النعم، الظاهرة والباطنة، وأنه لا خالق ولا رازق إلا الله.



* وتحدثت عن إكرام الله لبني إسرائيل بأنواع التكريم، ومقابلتهم ذلك الفضل والإِحسان بالجحود والعصيان، وذكرت موقف الطغاة المجرمين من دعوة الرسل الكرام، وبيَّنت أنه لا يتساوى في عدل الله وحكمته أن يجعل المجرمين كالمحسنين، ولا أن يجعل الأشرار كالأبرار، ثم بيَّنت سبب ضلال المشركين، وهو إجرامهم واتخاذهم الهوى إلهاً ومعبوداً حتى طمست بصيرتهم فلم يهتدوا إلى الحق أبداً.



* وختمت السورة بذكر الجزاء العادل يوم الدين، حيث تنقسم الإِنسانية إلى فريقين: فريق في الجنة، وفريق في السعير.



التسميَــة:

سميت "سورة الجاثية" للأهوال التي يلقاها الناس يوم الحساب، حيث تجثوا الخلائق من الفزع على الركب في انتظار الحساب، ويغشى الناس من الأهوال ما لا يخطر على البال {وترى كل أُمةٍ جاثيةً، كلُّ أُمةٍ تُدعى إلى كتابها اليومَ تُجزون ما كنتم تعملون} وحقاً إنه ليوم رهيب يشيب له الولدان ‍‍



مصدر القرآن، وإثبات وحدانية الله



{حم(1) تنزيلُ الكتاب من الله العزيز الحكيم(2) إنَّ في السماواتِ والأرضِ لآياتٍ للمؤمنين(3)وفي خلقِكم وما يُبثُّ من دابةٍ ءاياتٌ لقومٍ يوقنون(4)واختلاف الليل والنهار وما أنزلَ اللهُ من السَّماء من رزقٍ فأحيا به الأرضَ بعدَ موتها وتصريفِ الرياحِ ءاياتٌ لقوم يعقلون(5) تلك ءاياتُ اللهِ نتلوها عليك بالحقِّ فبأيِ حديثٍ بعدَ اللهِ وآياتهِ يؤمنون(6)}.



{حم} الحروف المقطَّعة للتنبيه على إِعجاز القرآن {تنزيلُ الكتاب من الله العزيز الحكيم} أي هذا القرآن تنزيلٌ من الله، العزيز في ملكه، الحكيم في صنعه، الذي لا يصدر عنه إلا كل ما فيه حكمةٌ ومصلحة للعباد، ثم أخبر تعالى عن دلائل الوحدانية والقدرة فقال {إنَّ في السماواتِ والأرضِ لآياتٍ للمؤمنين} أي إنَّ في خلق السماواتِ والأرض وما فيهما من المخلوقات العجيبة، والأحوال الغريبة، والأمور البديعة، لعلامات باهرة على كمال قدرة الله وحكمته، لقوم يصدّقون بوجود الله ووحدانيته {وفي خلقِكم وما يُبثُّ من دابةٍ ءاياتٌ لقومٍ يوقنون} أي وفي خلقكم أيها الناسُ من نطفةٍ ثم من علقة، متقلبة في أطوارٍ مختلفة إلى تمام الخلق، وفيما ينشره تعالى ويُفرقه من أنواع المخلوقات التي تدب على وجه الأرض، ءاياتٌ باهرةٌ أيضاً لقومٍ يصدّقون عن إذعانٍ ويقين بقدرة ربِّ العالمين {واختلاف الليل والنهار} أي وفي تعاقب الليل والنهار، دائبين لا يفتران، هذا بظلامه وذاك بضيائه، بنظام محكم دقيق {وما أنزلَ اللهُ من السَّماء من رزقٍ} أي وفيما أنزله الله تبارك وتعالى من السحاب، من المطر الذي به حياة البشر في معاشهم وأرزاقهم، قال ابن كثير: وسمَّى تعالى المطر رزقاً لأن به يحصل الرزق {فأحيا به الأرضَ بعدَ موتها} أي فأحيا بالمطر الأرض بعدما كانت هامدةً يابسة لا نبات فيها ولا زرع، فأخرج فيها من أنواع الزروع والثمرات والنبات {وتصريفِ الرياحِ} أي وفي تقليب الرياح جنوباً وشمالاً، باردة وحارة {آياتٌ لقوم يعقلون} أي علامات ساطعة واضحة على وجود الله ووحدانيته، لقومٍ لهم عقول نيّرة وبصائر مشرقة، قال الصاوي: ذكر الله سبحانه وتعالى من الدلائل ستةً في ثلاث ءايات، ختم الأولى بـ {للمؤمنين}، والثانية بـ {يوقنون} والثالثة بـ {يعقلون} ووجه التغاير بينها في التعبير أن الإِنسان إذا تأمل في السماوات والأرض، وأنه لا بدَّ لهما من صانع آمن، وإِذا نظر في خلق نفسه ونحوها ازداد إِيماناً فأيقن، وإِذا نظر في سائر الحوادث كمل عقله واستحكم علمه {تلك ءاياتُ اللهِ نتلوها عليك بالحقِّ} أي هذه ءايات الله وحججه وبراهينه، الدالة على وحدانيته وقدرته، نقصُّها عليك يا محمد بالحق المبين الذي لا غموض فيه ولا التباس {فبأيِ حديثٍ بعدَ اللهِ وآياتهِ يؤمنون}؟ أي وإِذا لم يصدِّق كفار مكة بكلام الله، ولم يؤمنوا بحججه وبراهينه، فبأي كلامٍ يؤمنون ويصدِّقون؟ والغرضُ استعظام تكذيبهم للقرآن بعد وضوح بيانه وإِعجازه.





جزاء المكذبين بآيات الله



{ويلٌ لكلِّ أفَّاكٍ أثيم(7)يسْمعُ ءاياتِ اللهِ تُتلى عليه ثم يُصرُّ مستكبراً كأن لم يسمعها فبشره بعذابٍ أليمٍ(8)وإِذا علِمَ مِنْ ءاياتنا شيْئاً اتَّخذها هُزواً أُولئك لهم عذابٌ مهينٌ(8) من ورائهم جهنم ولا يُغني عنهم ما كسبوا شيئاً ولا ما اتَّخذوا مِنْ دونِ الله أولياءَ ولهم عذابٌ عظيم(10)هذا هُدىً والذين كفروا بآياتِ ربهم لهُم عذابٌ من رجزٍ أليم(11)}.



سبب النزول:

نزول الآية (8):

{يسمع ءايات الله}: نزلت في النضر بن الحارث الذي كان يشتري أحاديث الأعاجم، ويشغل بها الناس عن استماع القرآن. والآية عامة في كل من صد عن الدين وتكبر عن هديه.



{ويلٌ لكلِّ أفَّاكٍ أثيم} أي هلاك ودمارٌ لكل كذَّاب مبالغٍ في اقتراف الآثام، قال الرازي: وهذا وعيدٌ عظيم، والأفَّاك الكذَّاب، والأثيمُ المبالغ في اقتراف الآثام {يسْمعُ ءاياتِ اللهِ تُتلى عليه} أي يسمع ءايات القرآن تُقرأ عليه، وهي في غاية الوضوح والبيان {ثم يُصرُّ مستكبراً كأن لم يسمعها} أي ثم يدوم على حاله من الكفر، ويتمادى في غيّه وضلاله، مستكبراً عن الإِيمان بالآيات كأنه لم يسمعها {فبشِّرهُ بعذابٍ أليم} أي فبشرّه يا محمد بعذاب شديد مؤلم، وسمَّاه "بشارة" تهكماً بهم، لأن البشارة هي الخبر السارُّ، قال في التسهيل: وإِنما عطفه بـ "ثم" لاستعظام الإِصرار على الكفر بعد سماعه ءايات الله، واستبعاد ذلك في العقل والطبع، قال المفسرون: نزلت في "النضر بن الحارث" كان يشتري أحاديث الأعاجم ويشغل بها الناس عن استماع القرآن، والآيةُ عامةٌ في كل من كان موصوفاً بالصفة المذكورة {وإِذا علِمَ مِنْ ءاياتنا شيْئاً اتَّخذها هُزواً} أي إِذا بلغه شيء من الآيات التي أنزلها الله على محمد، سخر واستهزأ بها {أُولئك لهم عذابٌ مهينٌ} أي أولئك الأفاكون المستهزءون بالقرآن لهم عذاب شديد مع الذل والإِهانة {من ورائهم جهنم} أي أمامهم جهنم تنتظرهم لما كانوا فيه من التعزز في الدنيا والتكبر عن الحق {ولا يُغني عنهم ما كسبوا شيئاً} أي لا ينفعهم ما ملكوه في الدنيا من المال والولد {ولا ما اتَّخذوا مِنْ دونِ الله أولياءَ} أي ولا تنفعهم الأصنام التي عبدوها من دون الله {ولهم عذابٌ عظيم} أي ولهم عذاب دائم مؤلم، قال أبو السعود: وتوسيط النفي {ولا ما اتخذوا} مع أن عدم إِغناء الأصنام أظهر وأجلى من عدم إِغناء الأموال والأولاد، مبنيٌ على زعمهم الفاسد حيث كانوا يطمعون في شفاعتهم، وفيه تهكم بهم {هذا هُدىً} أي هذا القرآن كامل في الهداية لمن آمن به واتَّبعه {والذين كفروا بآياتِ ربهم} أي جحدوا بالقرآن مع سطوعه، وفيه زيادة تشنيع على كفرهم به، وتفظيع حالهم {لهُم عذابٌ من رجزٍ أليم} أي لهم عذاب من أشدِّ أنواع العذاب مؤلمٌ موجعٌ، قال الزمخشري: والرجزُ أشدُّ العذاب، والمراد بـ {آياتِ ربهم} القرآن.







التذكير بنعم الله على عباده



{اللهُ الذي سخَّر لكم البحر لتجري الفُلك فيه بأمره ولِتبْتغُوا من فضْلهِ ولعلكم تشكرون(12)وسخَّر لكُمْ ما في السَّماواتِ وما في الأرضِ جميعاً مِنه إنَّ في ذلكَ لآياتٍ لِقومٍ يتفكَّرون(13)قلْ لِّلَّذين آمنوا يغْفروا لِلَّذين لا يرجون أيامَ الله ليجزيَ قوماً بما كانوا يكسبون(14)من عمل صالحاً فلنفسه ومنْ أَساءَ فعليها ثُمَّ إلى ربكم تُرجعون(15)}.

yacine414
2011-04-01, 18:01
سبب النزول:

نزول الآية (14):

{قل للذين آمنوا يغفروا}: ذكر الواحدي النيسابوري والقشيري عن ابن عباس: أن الآية نزلت في عمر بن الخطاب وعبد الله بن أُبيّ وجماعتهما، وذلك أنهم نزلوا في غزاة بني المُصْطَلِق على بئر يقال لها: المُرَيْسيع، فأرسل عبد الله غلامه ليستقي الماء، فأبطأ عليه، فلما أتاه قال: ما حبسك؟ قال: غلام عمر قعد على قفّ - فم - البئر، فما ترك أحداً يستقي حتى ملأ قُرَب النبي وقرب أبي بكر وملأ لمولاه، فقال عبد الله: ما مَثَلُنا ومثل هؤلاء إلا كما قيل: سَمِّنْ كلبك يأكلك، فبلغ عمر رضي الله عنه، فاشتمل بسيفه يريد التوجه إليه، فأنزل الله تعالى هذه الآية: {قل للذين آمنوا يغفروا..}.



ثم لمَّا توعَّدهم بأنواع العذاب ذكَّرهم تعالى بنعمهالجليلة ليشكروه ويوحّدوه فقال{اللهُ الذي سخَّر لكم البحر} أي الله تعالى بقدرته وحكمته هو الذي ذلَّل لكم البحر على ضخامته وعِظمه {لتجري الفُلك فيه بأمره} أي لتسير السفنُ على سطحه بمشيئته وإِرادته، دون أن تغوص في أعماقه، قال الإِمام الفخر: خلَق وجه الماء على الملاسة التي تجري عليها السفن، وخلق الخشبة على وجهٍ تبقى طافيةً على وجه الماء دون أن تغوص فيه، وذلك لا يقدر عليه أحد إلا الله {ولِتبْتغُوا من فضْلهِ} أي ولتطلبوا من فضل الله بسبب التجارة، والغوص على اللؤلؤ والمرجان، وصيد الأسماك وغيرها {ولعلكم تشكرون} أي ولأجل أن تشكروا ربكم على ما أنعم به عليكم وتفضَّل، قال القرطبي: ذكر تعالى كمال قدرته، وتمام نعمته على عباده، وبيَّن أنه خلقَ ما خلق لمنافعهم، وكلُّ ذلك من فعله وخلقه، وإِحسانٌ منه وإِنعام {وسخَّر لكُمْ ما في السَّماواتِ وما في الأرضِ جميعاً مِنه} أي وخلق لكم كل ما في هذا الكون، من كواكب، وجبال، وبحار، وأنهار، ونباتٍ وأشجار، الجميع من فضله وإِحسانه وامتنانه، من عنده وحده جلّ وعلا {إنَّ في ذلكَ لآياتٍ لِقومٍ يتفكَّرون} أي إِنَّ فيما ذُكر لعِبراً وعظات لقوم يتأملون في بدائع صنع الله فيستدلون على قدرته ووحدانيته ويؤمنون، ثم لما بيَّن تعالى دلائل التوحيد والقدرة والحكمة، أردفه بتعليم فضائل الأخلاق، ومحاسن الأفعال فقال {قلْ للذين آمنوا يغْفروا للَّذين لا يرْجونَ أيَّام الله} أي قل يا محمد للمؤمنين يصفحوا عن الكفار، ويتجاوزوا عمَّا يصدر عنهم من الأذى والأفعال الموحشة، قال مقاتل: شتم رجلٌ من الكفار عمر بمكة فهمَّ أن يبطش به، فأمر الله بالعفو والتجاوز وأنزل هذه الآية، والمرادُ من قوله {لا يرجون أيامَ الله} أي لا يخافون بأسِ الله وعقابه لأنهم لا يؤمنون بالآخرة ولا بلقاء الله، قال ابن كثير: أُمر المسلمون أن يصبروا على أذى المشركين وأهل الكتاب، ليكون ذلك تأليفاً لهم، ثم لما أصرُّوا على العناد، شرع الله للمؤمنين والجهاد {ليجزيّ قوماً بما كانوا يكسبون} وعيدٌ وتهديد أي ليجازي الكفرة المجرمين بما اقترفوه من الإِثم والإِجرام، والتنكيرُ للتحقير {من عمل صالحاً فلنفسه ومنْ أساءَ فعليها} أي من فعل خيراً في الدنيا فنفعُه لنفسه، ومن ارتكب سوءاً وشراً فضرره عائد عليها، ولا يكاد يسري عملٌ إلى غير عامله {ثُمَّ إلى ربكم تُرجعون} أي ثم مرجعكم يوم القيامة إلى الله وحده، فيجازي كلاً بعمله، المحسنَ بإِحسانه، والمسيءَ بإِساءته.



نعمه الخاصة ببني إسرائيل، وإنزال الشرائع



{ولقد آتينا بني إِسرائيل الكتابَ والحُكمَ والنبوَّة ورزقناهم من الطيِّباتِ وفضَّلناهم على العالمين(16)وآتيناهم بيِّناتٍ من الأَمر فما اختلفُوا إلاَّ منْ بعدِ ما جاءهم العلمُ بغْياً بينهم إِنَّ ربَّك يقضي بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون(17)ثم جعلناك على شريعةٍ من الأمر فاتَّبِعها ولا تتَّبعْ أَهواء الذين لا يعلمون(18)إِنهم لن يُغْنوا عنك من الله شيئاً وإِنَّ الظالمين بعضهم أولياءُ بعضٍ واللهُ وليُّ المتَّقين(19)هذا بصائر للناسِ وهدىً ورحمة لقومٍ يوقنون(20)}.



ولما ذكَّر بالنعم العامة أردفه بذكر النعم الخاصة على بني إِسرائيل فقال {ولقد آتينا بني إِسرائيل الكتابَ والحُكمَ والنُبوَّة} أي والله لقد أعطينا بني إِسرائيل التوراة، وفصل الحكومات بين الناس، وجعلنا فيهم الأنبياء والمرسلين {ورزقناهم من الطيبات} أي ورزقناهم من أنواع النعم الكثيرة من المآكل والمشارب، والأقوات والثمار {وفضَّلناهم على العالمين} أي وفضلناهم على سائر الأمم في زمانهم، قال الصاوي: والمقصود من ذلك تسليته صلى الله عليه وسلم كأنه قال: لا تحزن يا محمد على كفر قومك، فإِننا آتينا بني إسرائيل الكتاب والنعم العظيمة، فلم يشكروا بل أصرُّوا على الكفر، فكذلك قومك {وآتيناهم بيِّناتٍ من الأَمر} أي وبينا لهم في التوراة أمر الشريعة وأمر محمد صلى الله عليه وسلم على أكمل وجه، قال ابن عباس: يعني أمر النبي صلى الله عليه وسلم وشواهد نبوته بأنه يُهاجر من تهامة إلى يثرب وينصره أهلها {فما اختلفُوا إلاَّ منْ بعدِ ما جاءهم العلمُ} أي فما اختلفوا في ذلك الأمر، إلا من بعد ما جاءتهم الحجج والبراهين والأدلة القاطعة على صدقه {بغْياً بينهم} أي حسداً وعناداً وطلباً للرياسة، قال الإِمام الفخر: والمقصودُ من الآية التعجبُ من هذه الحالة، لأن حصول العلم يوجب ارتفاع الخلاف، وههنا صار العلم سبباً لحصول الاختلاف، لأنه لم يكن مقصودهم نفس العلم وإِنما المقصود منه طلب الرياسة والتقدم، فلذلك علموا وعاندوا {إِنَّ ربَّك يقضي بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون} أي هو جل وعلا الذي يفصل بين العباد يوم القيامة فيما اختلفوا فيه من أمر الدين، وفي الآية زجرٌ للمشركين أن يسلكوا مسلك من سبقهم من الأمم العاتية الطاغية {ثم جعلناك على شريعةٍ من الأمر فاتَّبِعها} أي ثم جعلناك يا محمد على طريقةٍ واضحة، ومنهاجٍ سديد رشيد من أمر الدين، فاتبع ما أوحى إليك ربك من الدين القيّم {ولا تتَّبعْ أهواء الذين لا يعلمون} أي لا تتَّبع ضلالات المشركين، قال البيضاوي: لا تتبع آراء الجهال التابعة للشهوات، وهم رؤساء قريش حيث قالوا : ارجع إلى دين ءابائك {إِنهم لن يُغْنوا عنك من الله شيئاً} أي لن يدفعوا عنك شيئاً من العذاب إن سايرتهم على ضلالهم {وإِنَّ الظالمين بعضهم أولياءُ بعضٍ} أي وإِن الظالمين يتولى بعضهم بعضاً في الدنيا ولا ولي لهم في الآخرة {واللهُ وليُّ المتقين} أي وهو تعالى ناصر ومعين المؤمنين المتقين في الدنيا والآخرة {هذا بصائر للناسِ وهدىً ورحمة لقومٍ يوقنون} أي هذا القرآن نور وضياء للناس بمنزلة البصائر في القلوب، وهو رحمة لمن آمن به وأيقن.





هل يستوي المحسن والمسيء، واتخاذ الهوى إلهاً



{أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْترحوا السَّيئاتِ أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات سواءً محيَاهُم ومماتهم ساءَ ما يحكمون(21)وخلق اللهُ السماواتِ والأرضَ بالحقِّ ولتُجزى كلُّ نفسٍ بما كسبت وهم لا يظلمون(22)أفرأيتَ منْ اتَّخذ إلهه هواهُ وأضلَّه اللهُ على علمٍ وختم على سمْعهِ وقلبِه وجعل على بصره غشاوةً فمن يهْديهِ منْ بعدِ الله أفلا تذكَّرون(23)}.



سبب النزول:

نزول الآية (21):

{أم حسب الذين..}: قال الكلب : نزلت هذه الآية في علي وحمزة وأبي عُبيدة بن الجراح رضي الله عنهم، وفي ثلاثة من المشركين: عُتْبة وشَيْبة والوليد بن عتبة، قالوا للمؤمنين: والله ما أنتم على شيء، ولو كان ما تقولون حقاً لكان حالنا أفضل من حالكم في الآخرة، كما أنّا أفضل حالاً منكم في الدنيا، فأنكر الله عليهم هذا الكلام، وبيَّن أنه لا يمكن أن يكون حال المؤمن المطيع مساوياً لحال الكافر العاصي في درجات الثواب، ومنازل السعادات.



نزول الآية (23):

{أفرأيت من اتخذ إلهه هواه}: أخرج ابن المنذر وابن جرير عن سعيد بن جبير قال: كانت قريش تعبد الحجر حيناً من الدهر، فإذا وجدوا ما هو أحسن منه، طرحوا الأول وعبدوا الآخر، فأنزل الله: {أفرأيت من اتخذ إلهه هواه} الآية، وقال مقاتل : نزلت في الحارث بن قيس السهمي أحد المستهزئين، لأنه كان يعبد ما تهواه نفسه.



نزول بقية الآية (23):

{وختم على سمعه وقلبه..} قال مقاتل: نزلت في أبي جهل، ذلك أنه طاف بالبيت ذات ليلة، ومعه الوليد بن المغيرة، فتحدثا في شأن النبي صلى الله عليه وسلم، فقال أبو جهل: والله إني لأعلم أنه صادق، فقال له: مَهْ، وما دلَّك على ذلك؟ قال: يا أبا عبد شمس كنا نسميِّه في صباه الصادق الأمين، فلما تم عقله وكَمُل رشده نسميِّه الكذاب الخائن، والله إني لأعلم أنه صادق، قال: فما يمنعك أن تصدقه وتؤمن به؟ قال: تتحدث عني بنات قريش أني اتَّبعت يتيم أبي طالب من أجل كسرة، والّلات والعُزَّى إن اتبعته أبداً، فنزلت: {وختم على سمعه وقلبه}.



{أَمْ حسِبَ الذينَ اجْترحوا السَّيئاتِ} الاستفهام للإِنكار والمعنى هل يظنُّ الكفار الفجار الذين اكتسبوا المعاصي والآثام {أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات} أي أن نجعلهم كالمؤمنين الأبرار {سواءً محياهم ومماتهم} أي نساوي بينهم في المحيا والممات؟ لا يمكن أن نساوي بين المؤمنين والكفار، لا في الدنيا ولا في الآخرة، فإِن المؤمنين عاشوا على التقوى والطاعة، والكفار عاشوا على الكفر والمعصية، وشتان بين الفريقين كقوله {أفمن كان مؤمناً كمن كان فاسقاً لا يستوون}؟ قال مجاهد: المؤمنُ يموت مؤمناً ويُبعث مؤمناً، والكافر يموت كافراً ويُبعث كافراً {ساء ما يحكمون} أي ساء حكمهم في تسويتهم بين أنفسهم وبين المؤمنين، قال ابن كثير: ساء ما ظنّوا بنا وبعدلنا أن نساوي بين الأبرار والفجار، فكما لا يُجتنى من الشوكِ العنبُ، كذلك لا ينال الفُجَّار منازل الأبرار {وخلق اللهُ السماواتِ والأرضَ بالحقِّ} أي وخلق الله السماواتِ والأرض بالعدل والأمر الحقِّ ليدل بهما على قدرته ووحدانيته {ولتُجزى كلُّ نفسٍ بما كسبت وهم لا يظلمون} أي ولكي يُجزى كل إِنسان بعمله، وبما اكتسب من خير أو شر، دون أن يُنقص في ثواب المؤمن أو يُزاد في عذاب الكافر، قال شيخ زاده: لمّا خلق تعالى السماواتِ الأرض لإِجل إِظهار الحق، وكان خلقهما من جملة حكمته وعدله، لزم من ذلك أن ينتقم من الظالم لأجل المظلوم، فثبت بذلك حشر الخلائق للحساب {أفرأيتَ منْ اتَّخذ إلهه هواهُ} أي أخبرني يا محمد عن حال من ترك عبادة الله وعبد هواه!! قال أبو حيّان: أي هو مطواعٌ لهوى نفسه يتبع ما تدعوه إليه، فكأنه يعبده كما يعبد الرجل إلهه، قال ابن عباس: ذلك الكافر اتخذ دينه ما يهواه، فلا يهوى شيئاً إلاّ ركبه {وأضلَّه اللهُ على علمٍ} أي وأضلَّ الله ذلك الشقي في حال كونه عالماً بالحق غير جاهل به، فهو أشدُّ قبحاً وشناعةً ممن يضل عن جهل، لأنه يُعرض عن الحقِّ والهُدى عناداً كقوله تعالى {وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلماً وعُلواً}{وختم على سمْعهِ وقلبِه} أي وطبع على سمعه وقلبه بحيث لا يتأثر بالمواعظ، ولا يتفكرفي الآيات والنُّذر {وجعل على بصره غشاوةً} أي وجعل على بصره غطاء حتى لا يبصر الرشد، ولا يرى حجة يستضيء بها {فمن يهْديهِ منْ بعدِ الله}؟ أي فمن الذي يستطيع أن يهديه بعد أن أضله الله؟لا أحد يقدر على ذلك {أفلا تذكَّرون} أي أفلا تعتبرون أيها الناس وتتعظون؟ قال الصاوي: وصف تعالى الكفار بأربعة أوصاف: الأول: عبادة الهوى، الثاني: ضلالهم على علم، الثالث: الطبع على أسماعهم وقلوبهم، الرابع: جعل الغشاوة على أبصارهم، وكلَّ وصفٍ منها مقتضٍ للضلالة، فلا يمكن إِيصال الهدى إليهم بوجهٍ من الوجوه.





شبه المشركين في إنكار القيامة والإله القادر



{وقالُوا ما هي إِلا حياتنا الدُنيا نموتُ ونحيا وما يُهْلكنا إلا الدَّهر وما لهم بذلك من علمٍ إنْ هُم إِلاَّ يظُنُّون(24)وإِذا تُتلى عليهم ءاياتنا بيِّناتٍ مَّا كان حُجَّتهم إلاَّ أنْ قالوا ائتوا بآبائنا إن كنتم صادقين(25)قلِ اللهُ يُحْييكم ثم يُميتكم ثم يجْمعُكم إلى يومِ القيامةِ لا ريْب فيه ولكنَّ أكثر الناسِ لا يعلَمون(26)وللهِ ملكُ السماواتِ والأرض ويوم تقومُ الساعةُ يومئذٍ يخسر المبطلون(27)وترى كلَّ أُمَّةٍ جاثيةً كلُّ أُمةٍ تُدعى إلى كتابها اليومَ تُجْزون ما كنتم تعملون(28) هذا كتابنا ينْطِق عليكم بالحقِّ إنَّا كُنَّا نسْتنْسخُ ما كنتم تَعْملون (29)}.



سبب النزول:

نزول الآية (24):

{وقالوا: ما هي إلا حياتنا ..}: أخرج ابن المنذر عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كان أهل الجاهلية يقولون: إنما يهلكنا الليل والنهار، فأنزل الله: {وقالوا: ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر}.



ثم حكى تعالى عن المشركين شبهتهم في إنكار القيامة، وفي إِنكار الإِله القادر العليم، فقال {وقالُوا ما هي إِلا حياتنا الدُنيا نموتُ ونحيا} أي وقال المشركون: لا حياة إلا هذه الحياة الدنيا، يموت بعضنا ويحيا بعضنا، ولا آخرة، ولا بعث، ولا نشور، قال ابن كثير: هذا قول الدهرية من الكفار ومن وافقهم من مشركي العرب في إنكار المعاد، ومرادهم أن ليس إلا هذه الدار، يموت قوم ويعيش آخرون، وليس هناك معادٌ ولا قيامة، وهذا قول الفلاسفة الدهريين، المنكرين للصانع، المعتقدين أن في كل ستة وثلاثين ألف سنة يعود كل شيء إلى ما كان عليه {وما يُهْلكنا إلا الدَّهر} أي وما يهلكنا إلا مرورُ الزمان، وتعاقبُ الأيام، قال الرازي: يريدون أن الموجب للحياة والموت تأثيراتُ الطبائع وحركاتُ الأفلاك، ولا حاجة إلى إثبات الخالق المختار، فهذه الطائفة جمعوا بين إنكار الإِله وبين إِنكار البعث والقيامة، قال تعالى رداً عليهم {وما لهم بذلك من علمٍ} أي وليس لهم مستندٌ من عقل أو نقل، ولذلك أنكروا وجود الله من غير حجةٍ ولا بينة {إنْ هُم إِلاَّ يظنون} أي ما هم إلا قوم يتوهمون ويتخيلون، يتكلمون بالظن من غير يقين {وإِذا تُتلى عليهم ءاياتنا بيِّناتٍ} أي وإِذا قرئت ءاياتُ القرآن على المشركين، واضحات الدلالة على البعث والنشور {ما كان حُجَّتهم إلاَّ أنْ قالوا ائتوا بآبائنا إن كنتم صادقين} أي ما كان متمسكهم في دفع الحق الصريح إلا أن يقولوا: أحيْوا لنا ءاباءنا الأولين، إِن كان ما تقولونه حقاً، سُمِّيَ قولهم الباطل حجةً على سبيل التهكم {قلِ اللهُ يُحْييكم ثم يُميتكم} أي قل لهم يا محمد: اللهُ الذي خلقكم ابتداءً حين كنتم نُطفاً هو الذي يميتكم عند انقضاء آجالكم، لا كما زعمتم أنكم تحيون وتموتون بحكم الدهر {ثم يجْمعُكم إلى يومِ القيامةِ لا ريْب فيه} أي ثم بعد الموت يبعثكم للحساب والجزاء كما أحياكم في الدنيا، فإِنَّ من قدر على البدء قدر على الإِعادة، والحكمةُ اقتضت الجمع للجزاء في يوم القيامة، الذي لا شك فيه ولا ارتياب {ولكنَّ أكثر الناسِ لا يعلَمون} أي ولكنَّ أكثر الناس لجهلهم وقصورهم في النظر والتفكر، لا يعلمون قدرة الله فينكرون البعث والجزاء .. ثم بيَّن إمكان الحشر والنشر وذكر تفاصيل أحوال يوم القيامة فقال {وللهِ ملكُ السماواتِ والأرض} أي هو جل وعلا المالك لجميع الكائنات العلوية والسفلية {ويوم تقومُ الساعةُ يومئذٍ يخسر المبطلون} أي ويوم القيامة يخسر الكافرون الجاحدون بآيات الله {وترى كلَّ أُمَّةٍ جاثيةً} أي وترى أيها المخاطب كل أمةٍ من الأمم جالسةً على الركب من شدة الهول والفزع، كما يجثوا الخصوم بين يدي الحاكم بهيئة الخائف الذليل، قال ابن كثير: وهذا إذا جيء بجهنم فإِنها تزفر زفرةً لا يبقى أحدٌ إلا جثا على ركبتيه {كلُّ أُمةٍ تُدعى إلى كتابها} أي كلُّ أمةٍ من تلك الأمم تُدعى إلى صحائف أعمالها {اليومَ تُجْزون ما كنتم تعملون} أي يقال لهم: في هذا اليوم الرهيب تنالون جزاء أعمالكم من خيرٍ أو شر {هذا كتابنا ينْطِق عليكم بالحقِّ} أي هذا كتابُ أعمالكم يشهد عليكم بالحق من غير زيادةٍ ولا نقصان، قال في التسهيل: فإِن قيل: كيف أضاف الكتاب تارةً إِليهم وتارةً إِلى الله تعالى؟ فالجواب أنه أضافه إِليهم لأن أعمالهم ثابتةٌ فيه، وأضافه إلى الله تعالى لأنه مالكه وأنه هو الذي أمر الملائكة أن يكتبوه {إنَّا كُنَّا نسْتنْسخُ ما كنتم تَعْملون} أي كنَّا نأمر الملائكة بكتابة أعمالكم، وإِثباتها عليكم، قال المفسرون: تنسخ هنا بمعنى تكتب، وحقيقة النسخ هو النقل من أصلٍ إلى آخر، وقال ابن عباس: تكتب الملائكة أعمال العباد ثم تصعد بها إلى السماء، فيقابل الملائكة الموكلون بديوان الأعمال ما كتبه الحفظة، بما قد أُبرز لهم من اللوح المحفوظ في كل ليلة قدر، وبما كتبه الله في القِدم على العباد قبل أن يخلقهم، فلا يزيد حرفاً ولا ينقص حرفاً، فذلك هو الاستنساخ، وكان ابن عباس يقول: ألستم عرباً، هل يكون الاستنساخ إلا من أصل.



أحوال المطيعين والعاصين



{فأمَّا الذينَ آمنوا وعمِلوا الصَّالحات فيُدخلهم ربُّهُم في رحْمَته ذلك هو الفوزُ المُبِينُ(30)وأمَّا الذين كفروا أفلمْ تكن ءاياتي تُتلى عليكم فاستكبرتم وكنتم قوماً مجرمين(31)وإِذا قيل إِنَّ وعد الله حقٌّ والساعةُ لا ريبَ فيها قُلتم مَّا ندْري ما السَّاعةُ إن نَّظُنُّ إِلاَّ ظنَّاً وما نحنُ بمُستيْقنين(32)وبدا لهم سيئات ما عمِلوا وحاق بهم ما كانوا به يسْتهزءُون(33)وقيلَ اليومَ ننْساكم كما نسيتم لقاءَ يومِكم هذا ومأواكم النَّارُ وما لكم من نَّاصرين(34)ذلكم بأنكم اتَّخَذتم ءاياتِ اللهِ هُزُواً وغرتكم الحياةُ الدُّنيا فاليومَ لا يُخْرجون منها ولا هم يُسْتعتبون(35)فللَّهِ الحمدُ ربِّ السماواتِ وربَّ الأرض رب العالمين (36) وله الكبرياء في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم (37)}.















ثم بيَّن تعالى أحوال كلٍ من المطيعين والعاصين فقال {فأمَّا الذينَ آمنوا وعمِلوا الصَّالحات فيُدخلهم ربُّهُم في رحْمَته} أي فأما المؤمنون الصالحون المتقون لله في الحياة الدنيا، فيدخلهم الله في الجنة، سُميت الجنة رحمةً لأنها مكان تنزل رحمةِ الله {ذلك هو الفوزُ المبينُ}أي ذلك هو الفوز العظيم، البيّن الظاهر الذي لا فوز وراءه {وأمَّا الذين كفروا أفلمْ تكن ءاياتي تُتلى عليكم} أي وأمَّا الكافرون فيقال لهم توبيخاً وتقريعاً: أفلم تكن الرسل تتلو عليكم ءايات الله؟ {فاستكبرتم وكنتم قوماً مجرمين} أي فتكبرتم عن الإِيمان بها، وأعرضتم عن سماعها، وكنتم قوماً مغرقين في الإِجرام {وإِذا قيل إِنَّ وعد الله حقٌّ} أي وإِذا قيل لكم إن البعث كائن لا محالة {والساعةُ لا ريبَ فيها} أي والقيامة آتيةٌ لا شك في ذلك ولا ريب {قُلتم ما ندْري ما السَّاعةُ} أي قلتم لغاية عتوكم: أيُّ شيء هي؟ أحقٌّ أم باطل؟ قال البيضاوي: قالوا هذا استغراباً واستبعاداً وإِنكاراً لها {إن نظنُّ إِلاَّ ظناً} أي لا نصدِّق بها ولكن نسمع الناس يقولون: إِنَّ هناك آخرة فنتوهم بها توهماً {وما نحنُ بمُستيْقنين} أي ولسنا مصدِّقين بالآخرة يقيناً، وهذا تأكيد منهم لإِنكار القيامة {وبدا لهم سيئات ما عمِلوا} أي وظهر لهم في الآخرة قبائح أعمالهم {وحاق بهم ما كانوا به يسْتهزءُون} أي ونزل وأحاط بهم العذاب الذي كانوا يستهزئون به في الدنيا {وقيلَ اليومَ ننْساكم كما نسيتم لقاء يومِكم هذا} أي ويقال لهم: اليوم نترُككم في العذاب ونعاملكم معاملة الناسي، كما تركتم الطاعة التي هي الزاد ليوم المعاد فلم تعملوا لآخرتكم {ومأواكم النارُ} أي ومستقركم في نار جهنم {وما لكم من ناصرين} أي وليس لكم من ينصركم ويخلصكم من عذاب الله {ذلكم بأنكم اتخذتم ءاياتِ اللهِ هُزُواً} أي إِنما جازيناكم هذا الجزاء، بسبب أنكم سخرتم من كلام الله واستهزأتم به {وغرتكم الحياةُ الدنيا} أي خدعتكم الدنيا بزخارفها وأباطليها، حتى ظننتم ألاَّ حياة سواها، وأَلاَّ بعث ولا نشور {فاليومَ لا يُخْرجون منها ولا هم يُسْتعتبون} أي فاليوم لا يُخْرجون من النار، ولا يُطلبُ منهم أن يرضوا ربَّهُم بالتوبة والطاعة لعدم نفعها يومئذٍ {فللهِ الحمدُ ربِّ السماواتِ وربَّ الأرض ربِّ العالمين} أي فلله الحمد خاصة لا يتسحق الحمد أحدٌ سواه لأنه الخالق والمالك لجميع المخلوقات والكائنات {وله الكبرياءُ في السماوات والأرض} أي وله العظمة والجلال، والبقاء والكمال في السماوات والأرض {وهو العزيز الحكيم} أي الغالب الذي لا يغلب، الحكيم في صنعه وفعله وتدبيره.

yacine414
2011-04-01, 18:02
سورة الأحقاف



تنزيل القرآن، وعبادة الأوثان من دون الله

شبه المشركين حول الوحي والنبوة والقرآن

شبهة أخرى للمشركين، والاستقامة على شرع الله

وصية الله لعباده بر الوالدين

حال الإنسان العاق لوالديه

قصة هود عليه السلام مع قومه

إيمان الجن بالقرآن

الأدلة على قدرته تعالى ووحدانيته



بَين يَدَي السُّورَة



* هذه السورة مكية وأهدافها هو أهداف السور المكية نفسها، العقيدة في أصولها الكبرى "الوحدانية، الرسالة، البعث والجزاء" ومحور السورة الكريمة يدور حول "الرسالة والرسول" لإِثبات صحة رسالة محمد صلى الله عليه وسلم وصدق القرآن.



* تحدثت السورة في البدء عن القرآن العظيم المنزل من عند الله بالحق، ثم تناولت الأوثان التي عبدها المشركون وزعموا أنها آلهة مع الله تشفع لهم عنده، فبيَّنت ضلالهم وخطأهم في عبادة ما لا يسمع ولا ينفع، ثم تحدثت عن شبهة المشركين حول القرآن، فردَّت على ذلك بالحجة الدامغة، والبرهان الناصع.



* ثم تناولت نموذجين من نماذج البشرية في هدايتها وضلالها، فذكرت نموذج الولد الصالح، المستقيم في فطرته، البارّ بوالديه، الذي كلما زادت سنه وتقدم في العمر ازداد تُقىً وصلاحاً وإِحساناً لوالديه .. ونموذج الولد الشقي، المنحرف عن الفطرة، العاقِّ لوالديه، الذي يهزأ ويسخر من الإِيمان والبعث والنشور ومآل كل منهما.



* ثم تحدثت السورة عن قصة "هود" عليه السلام مع قومه الطاغين "عاد" الذين طغوا في البلاد، واغتروا بما كانوا عليه من القوة والتجبر، وما كان من نتيجة طغيانهم حيث أهلكهم الله بالريح العقيم، تحذيراً لكفار قريش في طغيانهم واستكبارهم على أوامر الله وتكذيبهم للرسول صلى الله عليه وسلم.



* وختمت السورة الكريمة بقصة النفر من الجنِّ الذين استمعوا إلى القرآن وآمنوا به ثم رجعوا منذرين إلى قومهم يدعونهم إِلى الإِيمان، تذكيراً للمعاندين من الإِنس بسبق الجن لهم إلى الإِسلام.



التسميَــة:

سميت "سورة الأحقاف" لأنها مساكن عاد الذين أهلكهم الله بطغيانهم وتجبرهم، وكانت مساكنهم بالأحقاف من أرض اليمن {واذكر أخا عادٍ إِذا أنذر قومه بالأحقاف ..} الآية.



تنزيل القرآن، وعبادة الأوثان من دون الله



{حم(1)تنزيلُ الكتابِ من اللهِ العزيزِ الحكيمِ(2)ما خلقْنا السَّماواتِ والأرضَ وما بيْنهُما إلا بالحقِّ وأجلٍ مُسمَّى والذين كفروا عمَّا أُنْذِروا مُعْرِضون(3) قل أرأيتم ما تدعون من دون الله أروني ماذا خلقوا من الأرض أمْ لهم شركٌ في السَّماواتِ ائتوني بكتابٍ من قبل هذا أوْ أثارةٍ منْ علمٍ إِن كنتم صادقين (4) ومنْ أضلُّ ممَّن يدعُوا منْ دُون اللهِ من لا يسْتجيبُ لهُ إلى يوم القيامة وهم عنْ دعائهم غافلون(5)وإِذا حُشر الناسُ كانوا لهم أعداءً وكانوا بعبادتهم كافرين(6) } .



{حم} الحروف المقطعة للتنبيه على إِعجاز القرآن وأنه منظوم من أمثال هذه الحروف الهجائية {تنزيلُ الكتابِ من اللهِ العزيزِ الحكيمِ} أي هذا الكتاب المجيد منزَّل من عند الإِله العزيز في ملكه، الحكيم في صنعه {ما خلقْنا السَّماواتِ والأرضَ وما بيْنهُما إلا بالحقِّ} أي ما خلقنا السماواتِ والأرض وما بينهما من المخلوقات عبثاً، وإِنما خلقناهما خلقاً متلبساً بالحكمة، لندل على وحدانيتنا وكمال قدرتنا {وأجلٍ مُسمَّى} أي وإِلى زمنٍ معيَّن هو زمن فنائهما يوم القيامة {يوم تبدَّل الأرضُ غير الأرضِ والسماواتُ وبرزوا للهِ الواحد القهار} {والذين كفروا عمَّا أُنْذِروا مُعْرِضون} أي وهؤلاء الكفار معرضون عما خُوّفوه من العذاب ومن أهوال الآخرة، لا يتفكرون فيه ولا يستعدون له .. ثم لما بيَّن وجود الإِله العزيز الحكيم ردَّ على عبدة الأصنام فقال {قل أرأيتم ما تدعون من دون الله} أي قل يا محمد لهؤلاء المشركين: أخبروني عن هذه الأصنام التي تعبدونها من دون الله، وتزعمون أنها آلهة {أروني ماذا خلقوا من الأرض}؟ أي أرشدوني وأخبروني أيَّ شيءٍ خلقوا من أجزاء الأرض، وممَّا على سطحها من إِنسانٍ أو حيوان؟ {أمْ لهم شركٌ في السَّماواتِ}؟ أي أمْ لهم مشاركة ونصيب مع الله في خلق السماوات؟ {ائتوني بكتابٍ من قبل هذا} أي هاتوا كتاباً من الكتب المنزلة من عند الله قبل هذا القرآن يأمركم بعبادة هذه الأصنام؟ وهو أمر تعجيز لأنهم ليس لهم كتابٌ يدل على الإِشراك بالله، بل الكتب كلُّها ناطقة بالتوحيد {أوْ أثارة منْ علمٍ} أي أو بقية من علمٍ من علوم الأولين شاهدة بذلك {إِن كنتم صادقين} أي إِن كنتم صادقين في دعواكم أنها شركاء مع الله، قال أبو حيّان: طلب منهم أن يأتوا بكتابٍ يشهد بصحة ما هم عليه من عبادة غير الله، أو بقيةٍ من علوم الأولين، والغرضُ توبيخهم لأن كل كتب الله المنزَّلة ناطقة بالتوحيد وإِبطال الشرك، فليس لهم مستند من نقل أو عقل .. ثم أخبر تعالى عن ضلالة المشركين فقال {ومنْ أضلُّ ممَّن يدعُوا منْ دُون اللهِ من لا يسْتجيبُ لهُ إلى يوم القيامة}؟ أي لا أحد أضلُّ وأجهل ممن يعبد أصناماً لا تسمع دعاء الداعين، ولا تعلم حاجاتِ المحتاجين، ولا تستجيب لمن ناداها أبداً لأنها جمادات لا تسمع ولا تعقل {وهم عنْ دعائهم غافلون} أي وهم لا يسمعون ولا يفهمون دعاء العابدين، وفيه تهكم بها وبعبدتها، وإِنما ذكر الأصنام بضمير العقلاء، لأنهم لما عبدوها ونزلوها منزلة من يضر وينفع، صحَّ أن توصف بعدم الاستجابة وبعدم السمع والنفع، مجاراة لزعم الكفار {وإِذا حُشر الناسُ كانوا لهم أعداءً} أي وإِذا جمع الناس للحساب يوم القيامة كانت الأصنام أعداءً لعابديها يضرونهم ولا ينفعونهم {وكانوا بعبادتهم كافرين} أي وتتبرأ الأصنام من الذين عبدوها.قال المفسرون: إن الله تعالى يحيي الأصنام يوم القيامة فتتبرأ من عابديها وتقول {تبرأنا إليكَ ما كانوا إِيَّانا يعبدون} وهذه الآية كقوله تعالى {كلاَّ سيكفُرون بعبادتهم ويكونُونَ عليهم ضِدّاً} واللهُ على كل شيء قدير.





شبه المشركين حول الوحي والنبوة والقرآن



{وإِذا تُتْلى عليهم ءاياتنا بيِّناتٍ قال الذين كفروا للحقِّ لما جاءهم هذا سحرٌ مبين(7) أم يقولون افتراه قلْ إِن افتريتُه فلا تملكونَ لي من الله شيئاً هو أعلمُ بما تُفيضون فيه كفى به شهيداً بيني وبينكم وهو الغفور الرَّحيم(8) قلْ ما كنتُ بِدعاً من الرُّسُلِ وما أُدري ما يُفعل بي ولا بكم إن أتّبع إلا ما يُوحى إِليَّ وما أنا إِلا نذيرٌ مبينٌ(9)قل أرأيتم إِن كان من عند الله وكفرتم به وشهد شاهدٌ من بني إِسرائيل على مثله فآمنَ واستكبرتم إنَّ اللهَ لا يَهْدي القوم الظالمين(10)}.



سبب النزول:

نزول الآية (10):

{قل أرأيتم ..}: أخرج الطبراني بسند صحيح عن ابن عوف بن مالك الأشجعي قال: انطلق النبي صلى الله عليه وسلم وأنا معه، دخلنا كنيسة اليهود يوم عيدهم، فكرهوا دخولنا عليهم، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا معشر اليهود: أروني اثني عشر رجلاً منكم يشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، يَحُطُّ الله عن كل يهودي تحت أديم السماء الغضب الذي عليه (بمعنى أنه يكون سبباً لهدايتهم، فسكتوا، فما أجابه منهم أحد، ثم انصرف، فإذا رجل من خَلْفه، فقال: كما أنت يا محمد، فأقبل، فقال: أي رجل تعلموني يا معشر اليهود؟

قالوا: والله ما نعلم فينا رجلاً كان أعلم بكتاب الله، ولا أفقه منك، ولا من أبيك قبلك، ولا من جدك قبل أبيك، قال: فإني أشهد أنه النبي الذي تجدون في التوراة، قالوا: كذبت، ثم ردوا عليه، وقالوا فيه شراً، فأنزل الله: {قل: أرأيتم إن كان من عند الله وكفرتم به ..} الآية.

وأخرج الشيخان (البخاري ومسلم) عن سعد بن أبي وقاص قال : في عبدالله بن سَلاَم نزلت، {وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثله}.



{وإِذا تُتْلى عليهم ءاياتنا بيِّناتٍ} أي وإِذا قرئت عليهم ءايات القرآن واضحات ظاهرات أنها من كلام الله {قال الذين كفروا للحقِّ لما جاءهم} أي قال الكافرون عن القرآن الحق لما جاءهم من عند الله {هذا سحرٌ مبين} أي هذا سحرٌ لا شبهة فيه ظاهر كونه سحراً، وإِنما وضع الظاهر {الذين كفروا} موضع الضمير تسجيلاً عليهم بكمال الكفر والضلالة، قال في البحر: وفي قوله {لمَّا جاءهم} تنبيهٌ على أنهم لم يتأملوا ما يُتلى عليهم، بل بادروا أول سماعه إلى نسبته إلى السحر عناداً وظلماً، ووصفوه بأنه {مبينٌ} أي ظاهر أنه سحر لا شبهة فيه {أم يقولون افتراه} أي أيقولون اختلق محمد هذا القرآن وافتراه من تلقاء نفسه؟ وهو إِنكار توبيخي {قلْ إِن افتريتُه فلا تملكونَ لي من الله شيئاً} أي قل إن افتريتُه - على سبيل الفرض - فالله حسبي في ذلك وهو الذي يعاقبني على الافتراء عليه، ولا تقدرون أنتم على أن تردُّوا عني عذاب الله، فكيف أفتريه من أجلكم وأتعرض لعقابه؟ {هو أعلمُ بما تُفيضون فيه} أي هو جل وعلا أعلمُ بما تخوضون في القرآن وتقدحون به من قولكم هو شعر، هو سحر، هو افتراء، وغير ذلك من وجوه الطعن {كفى به شهيداً بيني وبينكم} أي كفى أن يكون تعالى شاهداً بيني وبينكم، يشهد لي بالصدق والتبليغ، ويشهد عليكم بالجحود والتكذيب {وهو الغفور الرحيم} أي وهو الغفور لمن تاب، الرحيم بعباده المؤمنين، قال أبو حيان: وفيه وعدٌ لهم بالغفران والرحمة إن رجعوا عن الكفر، وإِشعارٌ بحلمه تعالى عليهم إِذْ لم يعاجلهم بالعقوبة {قلْ ما كنتُ بِدعاً من الرُسل} أي لست أول رسول طرق العالم، ولا جئت بأمرٍ لم يجئ به أحدٌ قبلي، بل جئت بما جاء به ناسٌ كثيرون قبلي، فلأيّ شيءٍ تنكرون ذلك عليَّ؟ والبدْعُ والبديعُ من الأشياء هو الذي لم يُر مثله، قال ابن كثير: أي ما أنا بالأمر الذي لا نظير له حتى تستنكروني وتستبعدوا بعثتي إِليكم، فقد أرسل الله قبلي جميع الأنبياء إلى الأمم {وما أُدري ما يُفعل بي ولا بكم} أي ولا أدري بما يقضي اللهُ عليَّ وعليكم، فإِن قدر الله مغيَّب {إن أتّبع إلا ما يُوحى إِليَّ} أي لا أتبع إلا ماينزله اللهُ عليَّ من الوحي، ولا أبتدع شيئاً من عندي {وما أنا إِلا نذيرٌ مبين} أي وما أنا إلا رسولٌ منذرٌ لكم من عذاب الله، بيّن الإِنذار بالشواهد الظاهرة، والمعجزات الباهرة {قل أرأيتم إِن كان من عند الله وكفرتم به} أي قل يا محمد: أخبروني يا معشر المشركين إن كان هذا القرآن كلام الله حقاً وقد كذبتم به وجحدتموه، وجوابه محذوف تقديره: كيف يكون حالكم؟ {وشهد شاهدٌ من بني إِسرائيل على مثله فآمنَ واستكبرتم} أي وقد شهد رجل من علماء بني إِسرائيل على صدق القرآن، فآمن به واستكبرتم أنتم عن الإِيمان، كيف يكون حالكم، ألستم أضل الناس وأظلم الناس؟ قال الزمخشري: وجوابُ الشرط محذوف تقديره: إِن كان القرآن من عند الله وكفرتم به ألستم ظالمين؟ ودلَّ على هذا المحذوف قوله تعالى {إنَّ اللهَ لا يَهْدي القوم الظالمين} أي لا يوفق للخير والإِيمان من كان فاجراً ظالماً، قال المفسرون: والشاهدُ من بني إِسرائيل هو "عبدالله بن سلام" وذلك حين قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة جاء إليه ابن سلام ليمتحنه، فلما نظر إلى وجهه علم أنه ليس بوجه كذاب، وتأمله فتحقق أنه هو النبي المنتظر، فقال له: إني سائلك عن ثلاثٍ لا يعلمهنَّ إلا نبي: ما أول أشراط الساعة؟ وما أول طعام يأكله أهل الجنة؟ وما بال الولد ينزع إلى أبيه أو إلى أُمه؟ فلما أجابه صلى الله عليه وسلم قال: أشهد أنك رسول الله حقاً .. الخ.





شبهة أخرى للمشركين، والاستقامة على شرع الله



{وقال الذين كفروا للذين ءامنوا لو كان خيراً ما سبقونا إِليه وإِذْ لم يهتدوا به فسيقولون هذا إِفك قديم(11)ومنْ قبله كتابُ موسى إِماماً ورحمةً وهذا كتابٌ مُّصدِّقٌ لساناً عربِيّاً لِّيُنذِر الذين ظلموا وبُشرى للمُحسنين(12)إن الذين قالوا ربُّنا الله ثم استقاموا فلا خوفٌ عليهم ولا هم يحزنون(13)أُولئك أصحاب الجنة خالدين فيها جزاءً بما كانوا يعملون(14)}.



سبب النزول:

نزول الآية (11):

{وقال الذين كفروا}: أخرج الطبراني عن قتادة قال: قال ناس من المشركين: نحن أعزّ، ونحن ونحن، فلو كان خيراً ما سبقنا إليه فلان وفلان، فنزل {وقال الذين كفروا ..}.

وأخرج ابن المنذر عن عون بن أبي شداد قال: كانت لعمر بن الخطاب أَمَةٌ أسلمتْ قبلَه يقال لها (زِنِّين) أو (زِنِّيرة) فكان عمر يضربها على إسلامها حتى يفتر، وكان كفار قريش يقولون: لو كان خيراً ما سبقتنا إليه زنين، فأنزل الله في شأنها: {وقال الذين كفروا للذين ءامنوا: لو كان خيراً} الآية.

وقال عروة بن الزبير: إن زِنِّيرة - رومية كان أبو جهل يعذبها - أسلمت، فأصيب بصرها، فقالوا لها: أصابك اللاتُ والعُزَّى، فرد الله عليها بصرها، فقال عظماء قريش: لو كان ما جاء به محمد خيراً ما سبقتنا عليه زِنّيرة، فأنزل الله تعالى هذه الآية.



ثم ردَّ تعالى على شبهةٍ أُخرى من شبهة المشركين فقال {وقال الذين كفروا للذين ءامنوا لو كان خيراً ما سبقونا إِليه} أي وقال كفار مكة في حق المؤمنين: لو كان هذا القرآن والدين خيراً ما سبقنا إليه هؤلاء الفقراء الضعفاء!! وقال ابن كثير: يعنون "بلالاً" و "عماراً" و "صهيباً" و "خباباً" وأشباههم من المستضعَفين والعبيد والإِماء ممن أسلم وآمن بالنبي صلى الله عليه وسلم {وإِذْ لم يهتدوا به فسيقولون هذا إِفك قديم} أي ولمّا لم يهتدوا بالقرآن مع وضوح إِعجازه، قالوا هذا كذبٌ قديم مأثور عن الأقدمين، أتى به محمد ونسبه إلى الله تعالى {ومنْ قبله كتابُ موسى إِماماً ورحمةً} أي ومن قبل القرآن التوراة التي أنزلها الله على موسى قدوةً يؤتم بها في دين الله وشرائعه كما يؤتم بالإِمام، ورحمة لمن ءامن بها وعمل بما فيها، قال الإِمام الفخر: ووجه تعلق الآية بما قبلها أن المشركين طعنوا في صحة القرآن، وقالوا لو كان خيراً ما سبقنا إليه هؤلاء الضعفاء الصعاليك، فردَّ الله عليهم بأنكم لا تنازعون أن الله أنزل التوراة على موسى، وجعل هذا الكتاب - التوراة - إِماماً يقتدى به، ثم إِن التوراة مشتملة على البشارة بمحمد صلى الله عليه وسلم فإِذا سلمتم كونها من عند الله، فاقبلوا حكمها بأن محمد صلى الله عليه وسلم رسولٌ حقاً من عند الله {وهذا كتابٌ مصدِّقٌ لساناً عربياً} أي وهذا القرآن كتاب عظيم الشأن، مصدِّقٌ للكتب قبله بلسانٍ عربي فصيح، فكيف ينكرونه وهو أفصح بياناً، وأظهر برهاناً، وأبلغ إِعجازاً من التوراة؟ {ليُنذِر الذين ظلموا وبُشرى للمُحسنين} أي ليخوِّف كفار مكة الظالمين من عذاب الجحيم، ويبشر المؤمنين المحسنين بجنات النعيم .. ولما بيَّن تعالى أحوال المشركين المكذبين بالقرآن، أردفه بذكر أحوال المؤمنين المستقيمين على شريعة الله فقال {إن الذين قالوا ربُّنا الله ثم استقاموا} أي جمعوا بين الإِيمان والتوحيد والاستقامة على شريعة الله {فلا خوفٌ عليهم} أي فلا يلحقهم مكروهٌ في الآخرة يخافون منه {ولا هم يحزنون} أي ولا هم يحزنون على ما خلَّفوا في الدنيا {أُولئك أصحاب الجنة خالدين فيها} أي أولئك المؤمنون المستقيمون في دينهم، هم أهل الجنة ماكثين فيها أبداً {جزاءً بما كانوا يعملون} أي نالوا ذلك النعيم جزاءً لهم على أعمالهم الصالحة.





وصية الله لعباده بر الوالدين



{ووصيَّنا الإِنسان بِوالديه إِحْساناً حملتْهُ أُمُّهُ كُرهاً ووضعته كُرهاً وحمله وفِصالُه ثلاثون شهراً حتَّى إِذا بلغَ أشده وبلغ أربعين سنة قال ربِّ أوزعني أن أشكرَ نعمتك الَّتي أنعمتَ عليَّ وعلى والديَّ وأَنْ أعملَ صالحاً ترضاه وأصلحْ لي في ذرِّيَّتي إني تُبتُ إليكَ وإِني من المسلمين(15) أُولئك الذين نتقبلُ عنهم أحسنَ ما عملوا ونتجاوز عن سيئاتهم في أصحاب الجنة وعدَ الصِّدقِ الذي كانوا يُوعدون(16)}.



سبب النزول:

نزول الآية (15):

{حتى إذا بلغ أشده}: روى الواحدي عن ابن عباس قال : أنزلت في أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وذلك أنه صحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو ابن ثمان عشرة سنة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم ابن عشرين سنة، وهم يريدون الشام في التجارة، فنزلوا منزلاً فيه سِدْرة (شجرة السدر) فقعد رسول الله صلى الله عليه وسلم في ظلها، ومضى أبو بكر إلى راهب هناك يسأله عن الدين، فقال له: من الرجل الذي في ظل السدرة؟ فقال: ذاك محمد بن عبد الله بن عبد المطلب، قال: هذا والله نبيّ، وما استظل تحتها أحد بعد عيسى بن مريم إلا محمد نبي الله، فوقع في قلب أبي بكر اليقين والتصديق، وكان لا يفارق رسول الله صلى الله عليه وسلم في أسفاره وحضوره، فلما نبّئ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو ابن أربعين سنة، وأبو بكر ابن ثمان وثلاثين سنة أسلم وصدّق رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، فلما بلغ أربعين سنة قال: {رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت عليّ}.

وقال السدّي والضحاك: نزلت في سعد بن أبي وقاص، أخرج مسلم وأهل السنن إلا ابن ماجه عن سعد رضي الله عنه قال: قالت أم سعد لسعد: أليس الله قد أمر بطاعة الوالدين، فلا آكل طعاماً، ولا أشرب شراباً، حتى تكفر بالله تعالى، فامتنعت من الطعام والشراب، حتى جعلوا يفتحون فاها بالعصا، ونزلت هذه الآية: {ووصينا الإنسان بوالديه إحساناً}.

وقال الحسن البصري: "هي مرسلة نزلت على العموم". وهذا هو الأَولى، لأن حمل اللفظ على العموم منذ بداية نزول الوحي أوقع وأفيد وأشمل، وإن كانت العبرة دائماً لعموم اللفظ لا لخصوص السبب.



{ووصيَّنا الإِنسان بِوالديه إِحْساناً} لمَّا كان رضا الله في رضا الوالدين، وسخطه في سخطهما حثَّ تعالى العباد عليه والمعنى أمرنا الإِنسان أمراً جازماً مؤكداً بالإِحسان إلى الوالدين، ثم بيَّن السبب فقال {حملتْهُ أُمُّهُ كُرهاً ووضعته كُرهاً} أي حملته بكرهٍ ومشقة ووضعته بكرهٍ ومشقة {وحمله وفِصالُه ثلاثون شهراً} أي ومدة حمله ورضاعه عامان ونصف، فهي لا تزال تعاني التعب والمشقة طيلة هذه المدة، قال ابن كثير: أي قاست بسببه في حال حمله مشقة وتعباً من وحَم، وغثيان، وثقل، وكرب إلى غير ذلك مما تنال الحوامل من التعب والمشقة، ووضعته بمشقة أيضاً من الطَّلق وشدته، وقد استدل العلماء بهذه الآية مع التي في لقمان {وفصاله في عامين} على أن أقل مدة الحمل ستة أشهر، وهو استنباط قويٌ صحيح {حتَّى إِذا بلغَ أشده} أي حتى إِذا عاش هذا الطفل وبلغ كمال قوته وعقله {وبلغ أربعين سنة} أي واستمر في الشباب والقوة حتى بلغ أربعين سنة وهو نهاية اكتمال العقل والرشد {قال ربِّ أوزعني أن أشكرَ نعمتك التي أنعمتَ عليَّ وعلى والديَّ} أي قال ربِّ ألهمني شكر نعمتك التي أنعمت بها عليَّ وعلى والديَّ حتى ربياني صغيراً {وأَنْ أعملَ صالحاً ترضاه} أي ووفقني لكي أعمل عملاً صالحاً يرضيك عني {وأصلحْ لي في ذريتي} أي اجعل ذريتي ونسلي صالحين، قال شيخ زاده: طلب هذا الداعي من الله ثلاثة أشياء: الأول: أن يوفقه الله للشكر على النعمة، والثاني: أن يوفقه للإِتيان بالطاعة المرضية عند الله، والثالث: أن يصلح له في ذريته، وهذه كمال السعادة البشرية {إني تُبتُ إليكَ وإِني من المسلمين} أي إِني يا رب تبت إليك من جميع الذنوب، وإِني من المستمسكين بالإِسلام، قال ابن كثير: وفي الآية إِرشادٌ لمن بلغ الأربعين أن يجدِّد التوبة والإِنابة إلى الله عز وجل ويعزم عليها {أُولئك الذين نتقبلُ عنهم أحسنَ ما عملوا} أي أولئك الموصوفون بما ذكر نتقبل منهم طاعاتهم ونجازيهم على أعمالهم بأفضلها {ونتجاوز عن سيئاتهم في أصحاب الجنة} أي ونصفح عن خطيئاتهم وزلاتهم، في جملة أصحاب الجنة الذين نكرمهم بالعفو والغفران {وعدَ الصِّدقِ الذي كانوا يُوعدون} أي بذلك الوعد الصادق الذي وعدناهم به على ألسنة الرسل، بأن نتقبل من محسنهم ونتجاوز عن مسيئهم.

yacine414
2011-04-01, 18:04
حال الإنسان العاق لوالديه





{والذي قال لوالديه أُفٍ لكما أتعِدانني أن أُخرج وقد خلتِ القرونُ من قبلي وهما يستغيثان اللهِ ويْلك ءامن إنَّ وعدَ اللهِ حقٌّ فيقولُ ما هذا إِلا أساطيرُ الأولين(17)أُولئك الذين حقَّ عليهم القول في أُممٍ قد خلَتْ من قبلهم من الجنِّ والإِنس إنهم كانوا خاسرين(18)ولكلٍ درجاتٌ ممَّا عملوا وليوفيهم أعمالهم وهم لا يُظلمون(19)ويومَ يُعرضُ الذين كفروا على النَّارِ أذْهبتُم طيباتِكُم في حياتكم الدنيا واستمتعتم بها فاليوم تُجزون عذَاب الهُون بِما كنتُم تسْتكبرون في الأرضِ بِغير الحقِّ وبما كنتم تفْسُقون(20)}.

سبب النزول:

نزول الآية (17):

{والذي قال لوالديه}: أخرج ابن أبي حاتم عن السّدّي قال: نزلت هذه الآية: {والذي قال لوالديه : أُفٍّ لكما} في عبد الرحمن بن أبي بكر قال لأبويه، وكانا قد أسلما، وأبى هو، فكانا يأمرانه بالإسلام، فيرد عليهما، ويكذبهما ويقول: فأين فلان وأين فلان؟ يعني مشايخ قريش ممن قد مات، ثم أسلم بعد، فحسن إسلامه، فنزلت توبته في هذه الآية: {ولكلٍّ درجات مما عملوا} الآية.



أخرج البخاري من طريق يوسف بن ماهان قال: قال مروان بن الْحَكَم في عبد الرحمن بن أبي بكر: إن هذا الذي أنزل الله فيه: {والذي قال لأبويه: أُفٍّ لكما} فقالت عائشة من وراء الحجاب: ما أنزل الله فينا شيئاً من القرآن، إلا أن الله أنزل عذري.

وقال الحافظ ابن حجر: ونفي عائشة أقوى، وأولى بالقبول.



ولما مثَّل تعالى لحال الإِنسان البار بوالديه وما آل إِليه حاله من الخير والسعادة، مثَّل لحال الإِنسان العاقِّ لوالديه، وما يؤول إِليه أمره من الشقاوة والتعاسة فقال {والذي قال لوالديه أُفٍ لكما} أي وأمَّا الولد الفاجر الذي يقول لوالديه إِذا دعواه إِلى الإِيمان أفٍ لكما أي قبحاً لكما على هذه الدعوة {أتعِدانني أن أُخرج وقد خلتِ القرونُ من قبلي}؟ أي أتعدانني أن أُبعث بعد الموت وقد مضت قرونٌ من الناس قبلي ولم يُبعث منهم أحد؟ {وهما يستغيثان اللهِ ويْلك آمن} أي وأبواه يسألان الله أن يغيثه ويهديه للإِسلام قائلين له: ويْلك آمنْ بالله وصدِّق بالبعث والنشور وإِلاّ هلكت {إنَّ وعدَ اللهِ حقٌّ} أي وعدُ الله صدقٌ لا خُلف فيه {فيقولُ ما هذا إِلا أساطيرُ الأولين} أي فيقول ذلك الشقي: ما هذا الذي تقولان من أمر البعث إلاّ خرافات وأباطيل سطَّرها الأولون في الكتب مما لا أصل له قال تعالى {أُولئك الذين حقَّ عليهم القول} أي أولئك المجرمون هم الذين حقَّ عليهم قول الله بأنهم أهل النار، قال القرطبي: أي وجب عليهم العذاب وهي كلمة الله كما في الحديث (هؤلاء في النار ولا أبالي) {في أُممٍ قد خلَتْ من قبلهم من الجنِّ والإِنس} أي في جملة أمم من أصحاب النار قد مضت قبلهم من الكفرة الفجار من الجن والإِنس {إنهم كانوا خاسرين} أي كانوا كافرين لذلك ضاع سعيهم وخسروا آخرتهم، وهو تعليل لدخولهم جهنم، قال الإِمام فخر الدين الرازي: قال بعضهم: إِن الآية نزلت في عبد الرحمن بن أبي بكر الصّديق قبل إِسلامه، والصحيحُ أنه لا يراد بالآية شخص معيَّن، بل المراد منها كل من كان موصوفاً بهذه الصفة، وهو كل من دعاه أبواه إِلى الدين الحقِّ فأباه وأنكره، ويدل عليه أن الله تعالى وصف هذا الذي قال لوالديه {أفٍ لكما} بأنه من الذين حقَّ عليهم القول بالعذاب، ولا شك أن عبد الرحمن آمن وحسن إِسلامه وكان من سادات المسلمين فبطل حمل الآية عليه {ولكلٍ درجاتٌ ممَّا عملوا} أي لكلٍ من المؤمنين والكافرين مراتب ومنازل بحسب أعمالهم، فمراتب المؤمنين في الجنة عالية، ومراتب الكافرين في جهنم سافلة {وليوفيهم أعمالهم وهم لا يُظلمون} أي وليعطيهم جزاء أعمالهم وافية كاملة، المؤمنون بحسب الدرجات، والكافرون بحسب الدركات، من غير نقصان بالثواب، ولا زيادة في العقاب.

{ويومَ يُعرضُ الذين كفروا على النَّارِ} أي وذكّرهم يا محمد يوم يُكشف الغطاء عن نار جهنم، وتبرز للكافرين فيقرَّبون منها وينظرون إِليها {أذْهبتُم طيباتِكُم في حياتكم الدنيا} في الكلام حذف أي ويقال لهم تقريعاً وتوبيخاً أذهبتم طيباتكم أي لقد نلتم وأصبتم لذائذ الدنيا وشهواتها فلم يبق لكم نصيب اليوم في الآخرة، قال أبو حيّان: والطيبات هنا المستلذات من المآكل والمشارب، والملابس والمفارش، والمراكب والمواطئ، وغير ذلك مما يتنعَّم به أهل الرفاهية {واستمتعتم بها} أي وتمتعتم بتلك اللذائذ والطيبات في الدنيا، قال المفسرون: المراد بالآية إِنكم لم تؤمنوا حتى تنالوا نعيم الآخرة، بل اشتغلتم بشهوات الدنيا ولذائذها عن الإِيمان والطاعة، وأفنيتم شبابكم في الكفر والمعاصي، وآثرتم الفاني على الباقي، فلم يبق لكم بعد ذلك شيء من النعيم، ولهذا قال بعده {فاليوم تُجزون عذَاب الهُون} أي ففي هذا اليوم - يوم الجزاء - تنالون عذاب الذُلِّ والهَوان {بِما كنتُم تسْتكبرون في الأرضِ بِغير الحقِّ} أي بسبب استكباركم في الدنيا عن الإِيمان وعن الطاعة {وبما كنتم تفْسُقون} أي وبسبب فسقكم وخروجكم عن طاعة الله، وارتكاب الفجور والآثام، قال الإِمام الفخر الرازي: وهذه الآية لا تدل على المنع من التنعم، لأن هذه الآية وردت في حق الكافر، وإِنما وبَّخ الله الكافر لأنه يتمتع بالدنيا ولا يؤدي شكر المنعم بطاعته والإِيمان به، وأما المؤمن فإِنه يؤدي بإِيمانه شكر المنعم فلا يوبخ بتمتعه ودليله {قُل منْ حرَّم زينةَ الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق}‍‍ نعم لا يُنكر أن الاحتراز عن التنعم أولى، وعليه يُحمل قول عمر "لو شئتُ لكنتُ أطيبكم طعاماً، وأحسنكم لباساً، ولكني أستبقي طيباتي لحياتي الآخرة"، وقال في التسهيل: الآية في الكفار بدليل قوله تعالى {ويوم يعرض الذين كفروا} وهي مع ذلك واعظة لأهل التقوى من المؤمنين، لذلك قال عمر لجابر بن عبد الله - وقد رآه اشترى لحماً - أو كلما اشتهى أحدكم شيئاً جعله في بطنه ‍ أما تخشى أن تكون من أهل هذه الآية ممن قال الله فيهم {أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا}!!



قصة هود عليه السلام مع قومه



{واذكر أخَا عادٍ إذْ أنْذر قومَهُ بالأَحْقافِ وقدْ خلَتِ النُّذُر منْ بينِ يديه ومن خلفه ألاَّ تعبدوا إلاَّ الله إني أخافُ عليكم عذاب يوْمٍ عظيمٍ(21)قالوا أجئتنا لتأفكنا عن آلهتنا فأْتنا بما تعدنا إِن كنت من الصادقين(22)قالَ إِنّما العِلمُ عِندَ اللهِ وأُبلِّغُكُمْ ما أُرسِلتُ به ولكنّي أراكُم قوْماً تجْهلون(23)فما رَأَوْهُ عارضاً مُستقبل أوْدِيتهم قالوا هذا عارضٌ ممطُرنا بل هو ما استعجلتم به ريحٌ فيها عذابٌ أليمٌ(24)تُدَمِّرُ كلَّ شيءٍ بأمر ربِّها فأَصبحوا لا يُرى إِلاّ مساكنهم كذلك نجزي القوم المجرمين(25)ولقد مكنَّاهم فيما إِنْ مَّكَّنَّاكُم فيه وجعلنا لهم سمعاً وأبصاراً وأفئدة فما أَغْنى عنهم سمْعُهم ولا أبصارهُم ولا أفئدتُهم منْ شيءٍ إذْ كانوا يجحدون بآياتِ اللهِ وحاق بهم ما كانوا به يستهزءون(26)ولقد أهلكنا ما حولكم من القُرى وصرَّفنا الآياتِ لعلهم يرجعون(27)فلوْلا نصَرَهُم الَّذين أتَّخذوا من دُونِ اللهِ قُرْباناً آلِهَةً بل ضلُّوا عنهم وذلك إِفْكهُم وما كانوا يفترون(28)} .



{واذكر أخَا عادٍ} أي اذكر يا محمد لهؤلاء المشركين قصة نبي الله هود عليه السلام مع قومه عادٍ ليعتبروا بها {إذْ أنْذر قومَهُ بالأَحْقافِ} أي حين حذَّر قومه من عذاب الله إِن لم يؤمنوا وهم مقيمون بالأحقاف - وهي تلالٌ عظيمة من الرمل في بلاد اليمن - قال ابن كثير: الأحقاف جمع حِقْف وهو الجبل من الرمل، قال قتادة : كانوا حياً باليمن أهل رملٍ مشرفين على البحر بأرضٍ يُقال لها: الشَّحْر {وقدْ خلَتِ النُّذُر منْ بينِ يديه ومن خلفه} أي وقد مضت الرسلُ بالإِنذار من قبل هودٍ ومن بعده، والجملة اعتراضية وهي إِخبار من الله تعالى أنه قد بعث رسلاً متقدمين قبل هودٍ وبعده {ألاَّ تعبدوا إلاَّ الله} أي حذَّرهم هود عليه السلام قائلاً لهم: لا تعبدوا إلا الله {إني أخافُ عليكم عذاب يوْمٍ عظيمٍ} أي إِني أخاف عليكم إِن عبدتم غير الله عذاب يومٍ هائلٍ وهو يوم القيامة {قالوا أجئتنا لتأفكنا عن آلهتنا} أي قالوا جواباً لإِنذاره: أجئتنا يا هود لتصرفنا عن عبادة آلهتنا؟ وهو استفهام، يراد منه التسفيه والتجهيل لما دعاهم إِليه {فأْتنا بما تعدنا إِن كنت من الصادقين} أي فأتنا بالعذاب الذي وعدتنا به إِن كنت صادقاً فيما تقول، قال ابن كثير: استعجلوا عذاب الله وعقوبته استبعاداً منهم لوقوعه {قالَ إِنّما العِلمُ عِندَ اللهِ} أي قال لهم هود: ليس علم وقت العذاب عندي إِنما علمه عند الله {وأُبلِّغُكُمْ ما أُرسِلتُ به} أي وإِنما أنا مبلّغٌ ما أرسلني به الله إِليكم {ولكنّي أراكُم قوْماً تجْهلون} أي ولكنني أجدكم قوماً جهلة في سؤالكم استعجال العذاب {فما رَأَوْهُ عارضاً مُستقبل أوْدِيتهم} أي فلما رأوا السحاب معترضاً في أفق السماء متجهاً نحو أوديتهم استبشروا به {قالوا هذا عارضٌ ممطُرنا} أي وقالوا هذا السحاب يأتينا بالمطر، قال المفسرون: كانت عاد قد أبطأ عنهم المطر، وقُحطوا مدةً طويلةً من الزمن، فلما رأوا ذلك السحاب العارض ظنوا أنه مطر ففرحوا به واستبشروا وقالوا : هذا عارضٌ ممطرنا {بل هو ما استعجلتم به} أي قال لهم هود : ليس الأمر كما زعمتم أنه مطر، بل هو ما استعجلتم به من العذاب ثم فسَّره بقوله {ريحٌ فيها عذابٌ أليمٌ} أي هو ريحٌ عاصفة مدمّرة فيها عذابٌ فظيع مؤلم {تُدَمِّرُ كلَّ شيءٍ بأمر ربِّها} أي تُخَرِّب وتُهلك كل شيء أتت عليه من رجالٍ ومواشٍ وأموال، بأمره تعالى وإِذنه، قال ابن عباس: أول ما جاءت الريح على قوم عاد، كانت تأتي على الرجال والمواشي فترفعهم من الأرض وتطير بهم إلى السماء حتي يصبح الواحد منهم كالريشة، ثم تضربهم على الأرض، فدخلوا بيوتهم وأغلقوا أبوابهم، فقلعت الريح والأبواب وصرعتهم، فهي التي قال الله فيها {تدّمر كل شيء بأمر ربها} أي تدمّر كل شيء مرت عليه من رجال عادٍ وأموالها، والتدميرُ الهلاك، وفي الحديث عن عائشة قالت: كان صلى الله عليه وسلم إِذا رأى غيماً أو ريحاً عُرف في وجهه، فقلت يا رسول الله: الناسُ إِذا رأوا الغيم فرحوا رجاء أن يكون فيه المطر، وأراك إِذا رأيته عُرف في وجهك الكراهية؟ فقال: يا عائشة ما يؤمننيأن يكون فيه عذاب؟ عُذّب قوم بالريح، وقد رأى قوم العذاب فقالوا{هذا عارضٌ ممطرنا} {فأَصبحوا لا يُرى إِلاّ مساكنهم} أي فأصبحوا هلكى لا تُرى إِلا مساكنهم، لأن الريح لم تبق منهم إِلا الآثار والديار الخاوية {كذلك نجزي القوم المجرمين} أي بمثل هذه العقوبة الشديدة نعاقب من كان عاصياً مجرماً، قال الرازي: والمقصود منه تخويف أهل مكة، ولهذا قال بعده{ولقد مكنَّاهم فيما إِنْ مكَّناكُم فيه} "إِنْ"نافية بمعنى "ما" أي ولقد مكَّنا عاداً في الذي لم نمكنكم فيه يا أهل مكة من القوة، والسَّعة، وطول الأعمار، وهو خطاب لكفار مكة على وجه التهديد {وجعلنا لهم سمعاً وأبصاراً وأفئدة} أي وأعطيناهم الأسماع والأبصار والقلوب، ليعرفوا تلك النعم ويستدلوا بها على الخالق المنعم {فما أَغْنى عنهم سمْعُهم ولا أبصارهُم ولا أفئدتُهم منْ شيءٍ} أي فما نفعتهم تلك الحواس أي نفع، ولا دفعت عنهم شيئاً من عذاب الله، قال الإِمام الفخر: المعنى أنّا فتحنا عليهم أبواب النعم: أعطيناهم سمعاً فما استعملوه في سماع الدلائل، وأعطيناهم أبصاراً فما استعملوها في تأمل العبَر، وأعطيناهم أفئدة فما استعملوها في طلب معرفة الله، بل صرفوا كل هذه القوى إلى طلب الدنيا ولذاتها، فلا جرم أنها لم تغن عنهم من عذاب الله شيئاً {إذْ كانوا يجحدون بآياتِ اللهِ} تعليلٌ لما سبق أي لأنهم كانوا يكفرون وينكرون ءايات الله المنزَّلة على رسله ويكذبون رسله {وحاق بهم ما كانوا به يستهزءون} أي ونزل وأحاط بهم العذاب الذي كانوا يستعجلون به بطريق الاستهزاء {ولقد أهلكنا ما حولكم من القُرى} تخويفٌ آخر لكفار مكة أي ولقد أهلكنا القرى المجاورة لكم يا أهل مكة والمحيطة بكم، كقرى عاد وثمود وسبأ وقوم لوط، والمراد بإِهلاك القرى إِهلاكُ أهلها {وصرَّفنا الآياتِ لعلهم يرجعون} أي وكررنا الحجج والدلالات، والمواعظ والبينات، أوضحناها وبيَّناها لهم لعلهم يرجعون عن كفرهم وضلالهم {فلوْلا نصَرَهُم الذين أتَّخذوا من دُونِ اللهِ قُرْباناً آلِهَةً} أي فهلاَّ نصرتهم آلهتهم التي تقربوا بها إلى الله بزعمهم، وجعلوها شفعاءهم لتدفع عنهم العذاب؟ و "لولا" تحضيضية بمعنى هلاَّ ومعناها النفي أي لم تنصرهم آلهتهم ولم تدفع عنهم عذاب الله {بل ضلُّوا عنهم} أي غابوا عن نصرتهم وهم أحوج ما يكونون إليهم، فإِن الصديق وقت الضيق، قال أبو السعود: وفي الآية تهكمٌ بهم كأنَّ عدم نصرهم كان لغيبتهم {وذلك إِفْكهُم وما كانوا يفترون} أي وذلك الذي أصابهم هو كذبهم وافتراؤهم على الله، حيث زعموا أن الأصنام شركاء لله وشفعاء لهم عند الله.





إيمان الجن بالقرآن



{وإِذْ صرفْنا إِليكَ نفراً من الجنِّ يستمعون القرآن فلمَّا حضرُوه قالوا أَنْصِتوا فلمَّا قُضيَ ولَّوا إِلى قومهم مُنْذرين(29)قالُوا يا قومنا إِنا سمعنا كتاباً أُنزل من بعد موسى مصدِّقاً لما بين يديه يهدي إلى الحقِّ وإلى طريقٍ مستقيم(30)يا قومنا أجيبوا داعيَ اللهِ وآمنوا به يغفرْ لكم مِّن ذنوبكم ويُجركم من عذابٍ أليمٍ(31)ومنْ لا يُجِب داعيَ اللهِ فليس بمعجزٍ في الأرض وليسَ له من دونه أولياء أُولئك في ضلالٍ مبين(32)}.



سبب نزول الآية (29):

{وإذ صرفنا}: أخرج ابن أبي شيبة عن ابن مسعود قال : إن الجن هبطوا على النبي صلى الله عليه وسلم، وهو يقرأ القرآن ببطن نَخْلة، فلما سمعوه، قالوا : أنصتوا، وكانوا تسعة، أحدهم زَوْبَعة، فأنزل الله تعالى: {وإذ صرفنا إليك نفراً من الجن يستمعون القرآن، فلما حضروه قالوا: أنصتوا} الآية، إلى قوله: {في ضلال مبين}.













{وإِذْ صرفْنا إِليكَ نفراً من الجنِّ يستمعون القرآن} أي واذكر يا محمد حين وجهنا إِليك وبعثنا جماعةً من الجن ليستمعوا القرآن، قال البيضاوي: والنفر دون العشرة، روي أنهم وافوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بوادي النخلة عند منصرفه من الطائف يقرآ في تهجده القرآن {فلمَّا حضرُوه قالوا أَنْصِتوا} أي فلما حضروا القرآن عند تلاوته قال بعضهم لبعضٍ: اسكتوا لاستماع القرآن، قال القرطبي: هذا توبيخٌ لمشركي قريش، أي إِن الجنَّ سمعوا القرآن فآمنوا به وعلموا أنه من عند الله، وأنتم معرضون مصرّون على الكفر {فلمَّا قُضيَ ولَّوا إِلى قومهم مُنْذرين} أي فلما فُرغَ من قراءة القرآن رجعوا إِلى قومهم مخوفين لهم من عذاب الله إِن لم يؤمنوا، قال الرازي: وذلك لا يكون إِلا بعد إِيمانهم، لأنهم لا يدعون غيرهم إلى استماع القرآن والتصديق به إلاّ وقد ءامنوا {قالُوا يا قومنا إِنا سمعنا كتاباً أُنزل من بعد موسى} أي سمعنا كتاباً رائعاً مجيداً منزَّلاً على رسولٍ من بعد موسى، قال ابن عباس: إِن الجنَّ لم تكن قد سمعت بأمر عيسى عليه السلام {مصدِّقاً لما بين يديه} أي مصدّقاً لما قبله من التوراة {يهدي إلى الحقِّ وإلى طريقٍ مستقيم} أي هذا القرآن يرشد إِلى الحقِّ المبين، وإِلى دين الله القويم {يا قومنا أجيبوا داعيَ اللهِ وآمنوا به} أي أجيبوا محمداً صلى الله عليه وسلم فيما يدعوكم إليه من الإِيمان وصدِّقوا برسالته {يغفرْ لكم من ذنوبكم} أي يمحُ الله عنكم الذنوب والآثام {ويُجركم من عذابٍ أليمٍ} أي ويخلِصْكم وينجكم من عذاب شديد مؤلمٍ {ومنْ لا يُجِب داعيَ اللهِ فليس بمعجزٍ في الأرض} هذا ترهيبٌ بعد الترغيب أي ومن لم يؤمن بالله ويستجب لدعوة رسوله، فإِنه لا يفوت الله طلباً، ولا يعجزه هرباً {وليسَ له من دونه أولياء} أي وليس له أنصار يمنعونه من عذاب الله {أُولئك في ضلالٍ مبين} أي أولئك الذي لا يستجيبون لدعوة الله في خسرانٍ واضح، وإِلى هنا آخر كلام الجن الذين سمعوا القرآن.



الأدلة على قدرته ووحدانيته



{أَوَلَمْ يرَوا أنَّ اللهَ الذي خلقَ السماواتِ والأرض ولم يعْيَ بخلقهنَّ بقادرٍ على أن يُحْيي الموتى بلى إِنه على كل شيء قدير(33)ويوم يُعرض الذين كفروا على النَّار أليس هذا بالحقِّ قالوا بلى وربّنا قال فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون(34)فاصبر كما صبر أُولوا العزم من الرسل ولا تستعجلْ لهم كأنهم يوم يرون ما يوعدون لم يلبثوا إلا ساعةً من نهار بلاغٌ فهل يُهلك إلا القوم الفاسقون(35)}.



ثم ذكر تعالى الأدلة على قدرته ووحدانيته فقال {أَوَلَمْ يرَوا أنَّ اللهَ الذي خلقَ السماواتِ والأرض} أي أولم يعلم هؤلاء الكفار المنكرون للبعث والنشور أن الله العظيم القدير الذي خلق السماواتِ والأرض ابتداءً من غير مثال سابق {ولم يعْيَ بخلقهنَّ} أي ولم يضعف ولم يتعب بخلقهنَّ {بقادرٍ على أن يُحْيي الموتى}؟ أي قادرٌ على أن يعيد الموتى بعد الفناء، ويحييهم بعد تمزق الأشلاء؟ {بلى إِنه على كل شيء قدير} أي بلى إِنه تعالى قادر لا يعجزه شيء، فكما خلقهم يعيدهم {ويوم يُعرض الذين كفروا على النَّار} أي واذكر يا محمد لهؤلاء المشركين الأهوال والشدائد التي يرونها في الآخرة، وذكّرهم يوم يُعرضون على النار فيقال لهم {أليس هذا بالحقِّ}؟ أي أليس هذا العذاب الذي تذوقونه حقٌّ؟ {أفسحرٌ هذا أم أنتم لا تبصرون} {قالوا بلى وربّنا} أي قالوا: بلى وعزة ربنا، أكَّدوا كلامهم بالقسم طمعاً في الخلاص، قال الفخر الرازي: والمقصود بالآية التهكمُ بهم، والتوبيخ على استهزائهم بوعد الله ووعيده وقولهم: {وما نحن بمعذبين} {قال فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون} أي فيقال لهم: ذوقوا العذاب الأليم بسبب كفركم {فاصبر كما صبر أُولوا العزم من الرسل} أي فاصبر يا محمد على أذى المشركين كما صبر مشاهير الرسل الكرام وهم "نوح وإِبراهيم وموسى وعيسى" {ولا تستعجلْ لهم} أي ولا تدع على كفار قريش بتعجيل العذاب فإِنه نازل بهم لا محالة {كأنهم يوم يرون ما يوعدون لم يلبثوا إلا ساعةً من نهار} أي كأنهم حين يعاينون العذاب في الآخرة لم يلبثوا في الدنيا إلا ساعةً واحدة من النهار، لما يشاهدون من شدة العذاب وطوله {بلاغٌ} أي هذا بلاغ وإِنذار {فهل يُهلك إلا القوم الفاسقون} أي لا يكون الهلاك والدمار إِلا للكافرين الخارجين عن طاعة الله عزّ وجلّ.

yacine414
2011-04-01, 18:06
سورة محمد (صلى الله عليه وسلم)



إعلان الحرب على الجاحدين، وتطمين المؤمنين

أحكام القتال والأسرى والشهداء

تخويف الله المشركين من عاقبة الكفر

جزاء المؤمنين المتقين والكافرين الظالمين

بيان حال المنافقين والمهتدين

ردة فعل المنافقين والمؤمنين عند نزول آيات الجهاد

حال المنافقين بعد ردتهم، وعند قبض أرواحهم والتذكير بحكمة الجهاد

حال الصادين عن سبيل الله، والأمر بطاعته عز وجل

تأكيد الحث على الجهاد بالتزهيد في الدنيا



بَين يَدَي السُّورَة



* سورة محمد من السور المدنية، وهي تُعْنى بالأحكام التشريعية، شأن سائر السور المدنية، وقد تناولت السورة أحكام القتال، والأسرى، والغنائم، وأحوال المنافقين، ولكنَّ المحور الذي تدور عليه السورة هو موضوع "الجهاد في سبيل الله"؟



* ابتدأت السورة الكريمة بدءاً عجيباً، بإِعلان حربٍ سافرة على الكفار أعداء الله، وأعداء رسوله، الذين حاربوا الإِسلام، وكذبوا الرسول صلى الله عليه وسلم، ووقفوا في وجه الدعوة المحمدية، ليصدوا الناس عن دين الله {الذين كفروا وصدُّوا عن سبيل الله أضلَّ أعمالهم ..} الآيات.



* ثم أمرت المؤمنين بقتال الكافرين، وحصدهم بسيوف المجاهدين، لتطهير الأرض من رجسهم، حتى لا تبقى لهم شوكةٌ ولا قوة، ثم دعت إلى أسرهم بعد إكثار القتل فيهم والجراحات {فإِذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب، حتى إذا أثخنتموهم فشدُّوا الوَثاق ..} الآيات.



* ثم بيَّنت طريق العزَّة والنصر، ووضعت الشروط لنصرة الله لعباده المؤمنين، وذلك بالتمسك بشريعته، ونصرة دينه {يا أيها الذين ءامنوا إن تنصروا الله ينصركم ويثبِّتْ أقدامكم..} الآيات.



* وضربت لكفار مكة الأمثال بالطغاة المتجبرين من الأمم السابقة، وكيف دمَّر الله عليهم بسبب إجرامهم وطغيانهم {أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذينَ من قبلهم دمَّر الله عليهم وللكافرين أمثالها}.



* وتحدثت السورة بإِسهاب عن صفات المنافقين، باعتبارهم الخطر الداهم على الإِسلام والمسلمين، فكشفت عن مساوئهم ومخازيهم ليحذر الناس مكرهم وخبثهم {ولو نشاء لأريناكم فلعرفتهم بسيماهم ..} الآيات.

* وختمت السورة الكريمة بدعوة المؤمنين إلى سلوك طريق العزة والنصر، بالجهاد في سبيل الله وعدم الوهن والضعف أمام قوى الشر والبغي، وحذَّرت من الدعوة إلى الصلح مع الأعداء، حرصاً على الحياة والبقاء، فإِن الحياة الدنيا زائلة فانية، وما عند الله خيرٌ للأبرار {فلا تَهنوا وتَدْعوا إلى السَّلْمِ وأنتم الأعلون واللهُ معكم ولن يتركم أعمالكم * إِنما الحياة الدنيا لعِبٌ ولهوٌ وإِن تؤمنوا وتتقوا يؤتكم أجوركم ولا يسألكم أموالكم ..} إلى نهاية السورة الكريمة.

وهكذا ختمت السورة بالدعوة إلى الجهاد، كما بدأت بالدعوة إليه، حفزاً لعزائم المؤمنين، وليتناسق البدء مع الختام ألطف التئام !!





إعلان الحرب على الجاحدين، وتطمين المؤمنين



{الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ(1)وَالَّذِينَ ءامنوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ(2)ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ ءامنوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ(3)}



{الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} هذا إِعلان حربٍ من الله تعالى على أعدائه وأعداء دينه والمعنى الذين جحدوا بآيات الله وأعرضوا عن الإِسلام، ومنعوا الناس عن الدخول فيه {أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ} أي أبطلها وأحبطها وجعلها ضائعة لا ثواب لها لأنها لم تكن لله فبطلت، والمراد أعمالهم الصالحة كإِطعام الطعام، وصلة الأرحام، وقرى الضيف، قال الزمخشري: وحقيقة إِضلال الأعمال جعلُها ضالةً ضائعة، ليس لها من يتقبلها ويثيب عليها كالضالة من الإِبل، التي لا ربَّ لها يحفظها ويعتني بأمرها، والمراد بأعمالهم التي عملوها في كفرهم بما كانوا يسمونه "مكارم الأخلاق"، من صلة الأرحام، وفك الأسارى، وقرى الأضياف، وحفظ الجوار {وَالَّذِينَ ءامنوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} أي جمعوا بين الإِيمان الصادق، والعمل الصالح {وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ} أي صدّقوا بما أنزل الله على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم تصديقاً جازماً لا يخالجه شك ولا ارتياب وهو عطف خاص على عام، والنكتةُ فيه تعظيم أمره والاعتناء بشأنه، إشارةً إِلى الإِيمان لا يتمُّ بدونه، ولذا أكَّده بقوله { وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ} أي وهو الثابت المؤكد المقطوع بأنه كلام الله ووحيهُ المنزَّل من عند الله، والجملة اعتراضية لتأكيد السابق {كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ} أي أزال ومحا عنهم ما مضى من الذنوب والأوزار {وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ} أي أصلح شأنهم وحالهم، في دينهم ودنياهم، ثم بيَّن تعالى سبب ضلال الكفار، واهتداء المؤمنين فقال {ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ} أي ذلك الإِضلال لأعمال الكفار بسبب أنهم سلكوا طريق الضلال، واختاروا الباطل على الحق {وَأَنَّ الَّذِينَ ءامنوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ} أي وأن المؤمنين سلكوا طريق الهدى، وتمسَّكوا بالحق والإِيمان المنزل من عند الرحمن {كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ} أي مثل ذلك البيان الواضح، بيَّن الله أمر كلٍ من الفريقين - المؤمنين والكافرين - بأوضح بيانٍ، وأجلى برهان ليعتبر الناس ويتعظوا.





أحكام القتال والأسرى والشهداء



{فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوا بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ(4)سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ(5)وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ(6)يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءامنوا إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ(7)وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ(8)ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ(9)}



سبب النزول:

نزول الآية (4):

{والذين قتلوا}: أخرج ابن أبي حاتم عن قتادة في قوله: {والذين قتلوا في سبيل الله} قال: ذُكر لنا أن هذه الآية نزلت يوم أحد، ورسول الله صلى الله عليه وسلم في الشِّعْب، وقد نشِبت فيهم الجراحات والقتل، وقد نادى المشركون يومئذ: اعْلُ هُبَل (أكبر أصنامهم) ونادى المسلمون: الله أعلى وأجل، فقال المشركون: إن لنا العُزّى ولا عُزَّى لكم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قولوا: الله مولانا، ولا مولى لكم.



وبعد إِعلان هذه الحرب السافرة على الكافرين أمر تعالى المؤمنين بجهادهم فقال {فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ} أي فإِذا أدركتم الكفار في الحرب فاحصدوهم حصْداً بالسيوف، قال ابن جزي: وأصله فاضربوا الرقاب ضرباً ثم حذف الفعل وأقام المصدر مقامه والمراد: اقتلوهم، ولكنْ عبَّر عنه بضرب الرقاب لأنه الغالب في صفة القتل {حَتَّى إِذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ} أي حتى إِذا هزمتموهم وأكثرتم فيهم القتل والجراحات ولم تبق لهم قوة للمقاومة فأْسروهم وكفُّوا عن قتلهم، قال الزمخشري: وفي هذه العبارة {فَضَرْبَ الرِّقَابِ} من الغلظة والشدة ما ليس في لفظ القتل، لما فيها من تصوير القتل بأشنع صورة، وهو حزُّ العنق وإِطارة الرأس عن البدن، ولقد زاد من هذه الغلظة في قوله {فاضربوا فوق الأعناق واضربوا منهم كل بنان} ومعنى {أَثْخَنتُمُوهُمْ} أكثرتم قتلهم وأغلظتموه {فشدُّوا الوثاق} أي فأسروهم، والوثاقَ اسم لما يربط من حبلٍ وغيره {فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً} أي ثم أنتم مخيَّرون بعد أسرهم إِمَّا أن تمنُّوا عليهم وتطلقوا سراحهم بلا مقابل من مال، أو تأخذوا منهم مالاً فداءً لأنفسهم، ولكن بعد أن تكونوا قد كسرتم شوكتهم، واعجزتموهم بكثرة القتل والجراح {حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا} أي حتى تنقضي الحرب وتنتهي بوضع آلاتها وأثقالها، وتنتهي الحرب بين المسلمين والمناوئين له، وذلك بعز الإِسلام واندحار المشركين {ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانتَصَرَ مِنْهُمْ} أي الأمر فيهم ما ذُكر، ولو أراد الله لانتصر منهم وأهلكهم بقدرته، دون أن يكلفكم - أيها المؤمنون - قتالهم، قال ابن كثير: أي لو شاء الله لانتقم من الكافرين بعقوبةٍ ونكالٍ من عنده {وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ} أي ولكنَّه أمركم بجهادهم ليختبر إِيمانكم وثباتكم، فيظهر حال الصادق في الإِيمان من غيره كما قال تعالى {ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين} وليبتلي المؤمنين بالكافرين والكافرين بالمؤمنين، فيصير من قُتل من المؤمنين إلى الجنة، ومن قتل من الكافرين إلى النار ولهذا قال {وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ} أي والذين استشهدوا في سبيل الله فلن يُبطل الله عملهم، بل يكثّره ويضاعفه وينمّيه {سَيَهْدِيهِمْ} أي سيهديهم إلى ما ينفعهم في الدنيا والآخرة، بتوفيقهم إلى العمل الصالح وإِرشادهم إلى الجنة دار الأبرار {وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ} أي ويُصلح حالهم وشأنهم {وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ} أي ويدخلهم الجنة دار النعيم بيَّنها لهم بحيث يعمل كل واحدٍ منزله ويهتديإِليه، قال مجاهد: يهتدي أهلُها إلى بيوتهم ومساكنهم لا يخطئون كأنهم ساكنوها منذ خُلقوا وفي الحديث (والذي نفسي بيده إِن أحدهم بمنزله في الجنة أهدى منه بمنزله الذي كان في الدنيا) وقيل {عَرَّفَها لَهُمْ{ أي طيبها لهم وعطّرها من العرف وهو الرائحة الزكية {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءامنوا إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ} أي إِن تنصروا دينه ينصركم على أعدائكم {وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} أي ويثبتكم في مواطن الحرب {وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَهُمْ} أي والذين كفروا بالله وآياته فهلاكاً وشقاءً لهم، وهو دعاءٌ عليهم بالتعاسة والخيبة والخذلان {وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ} أي أبطلها وأحبطها لأنها كانت في طاعة الشيطان {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ} أي ذلك التعس والإِضلال بسبب أنهم كرهوا ما أنزل الله من الكتب والشرائع، قال الزمخشري: أي كرهوا القرآن وما أنزل الله فيه من التكاليف والأحكام، لأنهم قد ألفوا الإِهمال وإِطلاق العَنان في الشهوات والملاذِ فشقَّ عليهم ذلك وتعاظمهم {فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} أي أذهبها وأضاعها لأن الإِيمان شرط لقبول الأعمال، والشرك محبطٌ للعمل.





تخويف الله المشركين من عاقبة الكفر



{أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا(10)ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ ءامنوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لا مَوْلَى لَهُمْ(11)إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ ءامنوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ(12)وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ فَلا نَاصِرَ لَهُمْ(13)أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءهُمْ(14)}



سبب النزول:

نزول الآية (11):

{ذلك بأن الله مولى}: قال قتادة: نزلت يوم أُحد والنَّبي صلى الله عليه وسلم في الشِّعْب، إذ صاح المشركون: يوم بيوم، لنا العُزَّى ولا عُزَّى لكم، فقال النَّبي صلى الله عليه وسلم: "قولوا: الله مولانا، ولا مولى لكم" وقد تقدّم ذلك.



نزول الآية (13):

{وَكَأَيِّنْ من قرية}: أخرج أبو يعلى وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم تلقاء الغار، نظر إلى مكة، فقال: أنتِ أحبّ بلاد الله إليّ، ولولا أن أهلك أخرجوني منك، لم أخرج منك، فأنزل الله: {وَكَأَيِّنْ من قرية هي أشدّ قوة من قريتك التي أخرجتك} الآية. وذكره الثعلبي أيضاً عن قتادة وابن عباس، وهو حديث صحيح.



ثم خوَّفهم تعالى عاقبة الكفر فقال {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} أي أفلم يسافر هؤلاء ليروا ما حلَّ بمن سبقهم من الأمم الطاغية كعاد وثمود وقوم لوط وغيرهم من المجرمين، كيف كان مآلهم؟ وماذا حلَّ بهم من العذاب؟ فإِنَّ آثار ديارهم تنبئ عن أخبارهم {دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} أي أهلكهم الله، واستأصل كل ما يخصهم من مالٍ وبنين ومتاع، فإِذا هو أنقاض متراكمة وإِذا هم تحت هذه الأنقاض "ودمَّر عليهم" أبلغ من دمَّرهم لأن معناها أهلكهم مع أموالهم ودورهم وأولادهم وأطبق عليهم الهلاك إِطباقاً فلم يبق شيء إلا شمله الدمار {وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا} أي ولكفار مكة أمثال تلك العاقبة الوخيمة والعذاب المدمّر {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ ءامنوا} أي وليُّهم وناصرهم {وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لا موْلَى لَهُمْ} أي لا ناصر لهم ولا معين ولا مغيث، ثم بيَّن تعالى مآل كلٍ من الفريقين - المؤمنين والكافرين - في الآخرة فقال {إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ ءامنوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ} أي يدخل المؤمنين جناتِ النعيم، التي فيها ما لا عينٌ رأتْ، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر {وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الأَنْعَامُ} أي والكافرون في الدنيا ينتفعون بشهواتها ولذائذها، ويأكلون كما تأكل البهائم، ليس لهم همٌّ إِلا بطونهم وفروجهم {وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ} أي وجهنم مقامهم ومنزلهم في الآخرة، قال الزمخشري: المراد أنهم ينتفعون بمتاع الدنيا أياماً قلائل، ويأكلون غافلين غير مفكرين في العاقبة كما تأكل الأنعام في مسارحها ومعالفها غافلةً عما هي بصدده من النحر والذبح، والنار منزل ومقام لهم في الآخرة .. ثم سلَّى تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم فقال {وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ} أي وكم من أهل قرية عاتية ظالمة كانوا أقوى من أهل مكة الذين أخرجوك منها {أَهْلَكْنَاهُمْ فَلا نَاصِرَ لَهُمْ} أي أهلكناهم بأنواع العذاب فلم ينصرهم أحد فكذلك نفعل بهؤلاء، قال ابن عباس: لما خرج النبي صلى الله عليه وسلم من مكة واختفى بالغار ثم خرج مهاجراً إِلى المدينة، التفت إِلى مكة ثم قال (إِنك لأحبُّ البلاد إِلى الله، وأحبُّ البلاد إِليَّ، ولولا أنَّ قومك أخرجوني منك ما خرجت فنزلت الآية {أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ} أي هل من كان على حجة وبصيرة، وثباتٍ ويقين من أمر دينه {كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ}؟ أي كمن زُيّن له عمله القبيح فرآه حسناً؟ {وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءهُمْ} أي انهمكوا في الضلال حتى عبدوا الهوى؟ ليس هذا كذاك، وإِنما جاء بصيغة الجمع مراعاةً للمعنى، قال المفسرون: يريد بـ {أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ} رسول الله صلى الله عليه وسلم وبمن {زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ} أبا جهل وكفار قريش .. واللفظ أعمُّ لأن الغرض المباينة بين من يعبد الله، وبين من يعبد هواه.

yacine414
2011-04-01, 18:06
جزاء المؤمنين المتقين والكافرين الظالمين



{مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ(15)}



مثَّل بعده بالفارق الكبير بين الجنة والنار فقال {مَثَلُ الجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ} أي صفة الجنة الغريبة العجيبة الشأن، التي وعد الله بها عباده الأبرار وأعدَّها للمتقين الأخيار {فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ} أي فيها أنهار جاريات من ماءٍ غير متغير الرائحة، قال ابن مسعود: أنهار الجنة تفجَّر من جبلٍ من مسكٍ {وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ} أي وأنهار جاريات من حليبٍ في غاية البياض والحلاوة والدسامة، لم يحمض بطول المقام ولم يفسد كما تفسد ألبان الدنيا وفي حديث مرفوع (لم يخرج من ضروع الماشية) {وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ} أي وأنهار جاريات من خمرٍ لذيذة الطعم يلتذّ بها الشاربون لأنه {لا فيها غولٌ ولا هم عنها يُنزفون} وإِنما قيَّدها بأنها لذة للشاربين، لأن الخمر كريهة الطعم في الدنيا لا يلتذ بها إِلاّ فاسد المزاج، وأما خمر الآخرة فهي طيبة الطعم والرائحة، يشربها أهل الجنة لمجرد الالتذاذ {وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى} أي وأنهارٌ جارياتٌ من عسل في غاية الصفاء وحسن اللون والريح، لم يخرج من بطون النحل، قال أبو السعود: {عَسَلٍ مُصَفًّى} أي لم يخالطه الشمع وفضلات النحل {وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ} أي ولهم في الجنة أنواعٌ متعددة من جميع أصناف الفواكه والثمار، قال شيخ زاده في حاشيته على البيضاوي: وفي ذكر الثمرات بعد المشروب إشارة إِلى أنَّ مأكول أهل الجنة للَّذَّة لا للحاجة {وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ} أي ولهم فوق ذلك النعيم الحسن نعيمٌ روحي وهو المغفرة من الله مع الرحمة والرضوان وفي الحديث (أُحلُّ عليكم رضواني فلا أسخط عليكم بعده أبداً) قال الصاوي: في الجنة ترفع عنهم التكاليف فيما يأكلونه ويشربونه، بخلاف الدنيا فإِن مأكلولها ومشروبها يترتب عليه الحساب والعقاب، ونعيم الآخرة لا حساب عليه ولا عقاب فيه {كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ} أي كمن هو مخلَّدٌ في الجحيم؟ والاستفهام للإِنكار أي لا يستوي من هو في ذلك النعيم المقيم، بمن هو خالد في الجحيم؟ {وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءهُمْ} أي وسُقوا مكان تلك الأشربة ماءً حاراً شديد الغليان، فقطَّع أحشاءهم من فرط حرارته؟ قال المفسرون: بلغ الماء الغاية في الحرارة، إِذا دنا منهم شوى وجوههم، ووقعت فروة رؤوسهم، فإِذا شربوه قطَّع أمعاءهم وأخرجها من دبورهم.





بيان حال المنافقين والمهتدين



{وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفًا أُوْلَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ(16) وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ(17)فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَاءَتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ(18)فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ(19)}



سبب النزول:

نزول الآية (16):

{ومنهم من يستمع}: أخرج ابن المنذر عن ابن جريج قال: كان المؤمنون والمنافقون يجتمعون إلى النَّبي صلى الله عليه وسلم، فيستمع المؤمنون منهم ما يقول ويعونه، ويسمعه المنافقون فلا يعونه، فإذا خرجوا سألوا المؤمنين: ماذا قال آنفاً؟ فنزلت: {ومنهم من يستمع إليك} الآية.

وروى مقاتل: أن النَّبي صلى الله عليه وسلم كان يخطب ويعيب المنافقين، فإذا خرجوا من المسجد سألوا عبد الله بن مسعود، استهزاء: ماذا قال محمد آنفاً؟ قال ابن عباس: وقد سُئلت فيمن سُئل.



ولما بيَّن تعالى حال الكافرين، ذكر حال المنافقين فقال: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ} أي ومن هؤلاء المنافقين جماعة يستمعون إِلى حديثك يا محمد {حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ} أي حتى إِذا خرجوا من مجلسك { قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفًا} أي قالوا لعلماء الصحابة - كابن عباس وابن مسعود - ماذا قال محمدٌ قريباً في تلك الساعة؟ قال ابن كثير: أخبر تعالى عن المنافقين في بلادتهم وقلة فهمهم، حيث كانوا يجلسون إِلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ويستمعون كلامه، فلا يفهمون منه شيئاً، فإِذا خرجوا من عنده قالوا لأهل العلم من الصحابة: ماذا قال محمد {آنِفًا} أي الساعة، لا يعقلون ما قال ولا يكترثون به {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ} أي ختم على قلوبهم بالكفر {وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءهُمْ} أي ساروا وراء أهوائهم الباطلة {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ} أي وأما المؤمنون المتقون فقد زادهم الله هدى وألهمهم رشدهم، قال الإِمام الفخر: لما بيَّن تعالى أن المنافق يستمع ولا ينتفع، ويستعيد ولا يستفيد، بيَّن أن حال المؤمن المهتدي بخلافه، فإِنه يستمع فيفهم، ويعمل بما يعلم، وفيه فائدة وهو قطع عذر المنافق، فإِنه لو قال ما فهمت كلامه لغموضه، يُردُّ عليه بأن المؤمن فهم واستنبط، فذلك لعماء القلوب لا لخفاء المطلوب {فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً} أي فهل ينتظرون إِلا قيام الساعة فجأةً فتبغتهم وهم سادرون غارون غافلون؟ {فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا} أي فقد جاءت أماراتها وعلاماتها، ومنها بعثة خاتم الرسل صلى الله عليه وسلم {فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَاءَتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ} أي فمن أين لهم التذكر إِذا جاءتهم الساعة، حيث لا ينفع ندم ولا توبة؟ {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ} أي فدم يا محمد على ما أنت عليه من العلم بوحدانية الله {وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} أي اطلب من الله المغفرة لك وللمؤمنين والمؤمنات {وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ} أي يعلم تصرفكم في الدنيا، ومصيركم في الآخرة، فأعدوا الزاد ليوم المعاد.



ردة فعل المنافقين والمؤمنين عند نزول آيات الجهاد



{وَيَقُولُ الَّذِينَ ءامنوا لَوْلا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنْ الْمَوْتِ فَأَوْلَى لَهُمْ(20)طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ فَإِذَا عَزَمَ الأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ(21)فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ(22)أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ(23)}



{وَيَقُولُ الَّذِينَ ءامنوا لَوْلا نُزِّلَتْ سُورَةٌ} أي ويقول المؤمنون المخلصون شوقاً إِلى الجهاد وحرصاً على ثوابه: هلاَّ أنزلت سورة فيها الأمر بالجهاد {فَإِذَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ} أي فإِذا أنزلت سورة صريحةٌ ظاهرة الدلالة على الأمر بالقتال، قال القرطبي: {مُحْكَمَة} أي لم تنسخ، وقد قال قتادة: كل سورة ذكر فيها الجهاد فهي محكمة، وهي أشد القرآن على المنافقين {رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} أي رأيت المنافقين الذين في قلوبهم شك ونفاق {يَنظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنْ الْمَوْتِ} أي ينظرون إِليك يا محمد تشخص أبصارهم جبناً وهلعاً، كما ينظر من أصابته الغشية من حلول الموت {فَأَوْلَى لَهُمْ} أي فويلٌ لهم، قال ابن جزي: وهي كلمة معناها التهديد والدعاء عليهم كقوله تعالى {أوْلى لكَ فأوْلى} {طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ} مبتدأٌ محذوف الخبر أي طاعةٌ لك يا محمد، وقولٌ جميلٌ طيبٌ خيرٌ لهم وأفضل وأحسن، قال الرازي: وهو كلام مستأنف محذوف الخبر تقديره خيرٌ لهم أي أحسن وأمثل، وإِنما جاز الابتداء بالنكرة لأنها موصوفة ويدل عليه قوله {وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ} كأنه قال: طاعة مخلصة، وقولٌ معروفٌ خيرٌ لهم أو تكون أولى خير وأفضل وتكون خبراً مقدماً وطاعة مبتدأ مؤخر. {فَإِذَا عَزَمَ الأَمْرُ} أي فإِذا جدَّ الجِدُّ وفُرض القتال {فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ} أي فلو أخلصوا نياتهم وجاهدوا بصدقٍ ويقين لكان ذلك خيراً لهم من التقاعس والعصيان، والجملةُ جواب الشرط {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ} أي فلعلَّكم إِن أعرضتم عن الإِسلام أن ترجعوا إِلى ما كنتم عليه في الجاهلية، من الإِفساد في الأرض بالمعاصي، وقطع الأرحام!! قال قتادة: كيف رأيتم القوم حين تولّوا عن كتاب الله، ألم يسفكوا الدم الحرام، ويقطعوا الأرحام، ويعصوا الرحمن؟! قال أبو حيان: يريد ما جرى من الفترة بعد زمان الرسول صلى الله عليه وسلم {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ} أي طردهم وأبعدهم من رحمته {فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ} أي فأصمهم عن استماع الحق، وأعمى قلوبهم عن طريق الهدى فلا يهتدون إِلى سبيل الرشاد قال القرطبي : أخبر تعالى أن من فعل ذلك حقت عليه اللعنة وسلبه الانتفاع بسمعه وبصره، حتى لا ينقاد للحق وإِن سمعه، فجعله كالبهيمة التي لا تعقل.





حال المنافقين بعد ردتهم، وعند قبض أرواحهم والتذكير بحكمة الجهاد





{أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفالُهَا(24)إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ(25)ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ(26)فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمْ الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ(27)ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ(28)أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ(29)وَلَوْ نَشَاءُ لأرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ(30)وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ(31)}





{أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ}؟ الاستفهام توبيخي أي أفلا يتفهمون القرآن ويتصفحونه ليروا ما فيه من المواعظ والزواجر، حتى لا يقعوا فيما وقعوا فيه من الموبقات!؟ {أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} "أم" بمعنى "بل" وهو انتقالٌ من توبيخهم على عدم التدبر إِلى توبيخهم على ظلمة القلوب وقسوتها حتى لا تقبل التفكر والتدبر والمعنى: بل قلوبهم قاسية مظلمة كأنها مكبَّلة بالأقفال الحديدية فلا ينفذ إِليها نور ولا إيمان، قال الرازي: إِن القلب خُلق للمعرفة فإِذا لم تكن فيه المعرفة فكأنه غير موجود، وهذا كما يقول القائل في الإِنسان المؤذي: هذا ليس بإِنسان هذا وحش، وهذا ليس بقلب هذا حجر {إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى} أي رجعوا إِلى الكفر بعد الإِيمان، وبعد أن وضح لهم طريق الهدى بالدلائل الظاهرة والمعجزات الواضحة {الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ} أي الشيطان زيَّن لهم ذلك الأمر، وغرَّهم وخدعهم بالأمل، وطول الأجل {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ} أي ذلك الإِضلال بسبب أنهم قالوا لليهود الذين كرهوا القرآن الذي نزَّله الله حسداً وبغياً {سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الأَمْرِ} أي سنطيعكم في بعض ما تأمروننا به كالقعود عن الجهاد، وتثبيط المسلمين عنه وغير ذلك {وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ} أي وهو جل وعلا يعلم خفاياهم، وما يبطنونه من الكيد والدسّ والتآمر على الإِسلام والمسلمين، قال المفسرون: قال المنافقون لليهود ذلك سراً فأظهره الله تعالى وفضحهم {فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمْ الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ} أي فكيف يكون حالهم حين تحضرهم ملائكة العذاب لقبض أرواحهم ومعهم مقامع من حديد يضربون بها وجوههم وظهورهم؟ قال القرطبي: والمعنى على التخويف والتهديد أي إِن تأخر عنهم العذاب فإِلى انقضاء العمر، قال ابن عباس: لا يُتوفى أحد على معصية إلا تضرب الملائكة في وجهه وفي دبره {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ} أي ذلك العذاب بسبب أنهم سلكوا طريق النفاق وكرهوا ما يرضي الله من الإِيمان والجهاد وغيرهما من الطاعات {فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} أي أبطل ما عملوه حال إِيمانهم من أعمال البر {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ}؟ أي أيعتقد المنافقون الذين في قلوبهم شك ونفاق أن الله لن يكشف أمرهم لعباده المؤمنين؟ وأنه لن يظهر بغضهم وأحقادهم على الإِسلام والمسلمين؟ لابدَّ أن يفضحهم ويكشف أمرهم {وَلَوْ نَشَاءُ لأرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ} أي لو أردنا لأريناك يا محمد أشخاصهم فعرفتهم عياناً بعلامتهم ولكنَّ الله ستر عليهم إِبقاءً عليهم وعلى أقاربهم من المسلمين لعلهم يتوبون {وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ} أي ولتعرفنَّ يا محمد المنافقين من فحوى كلامهم وأسلوبه، فيما يعرضونه بك من القول الذي ظاهره إِيمان وإِسلام وباطنه كفر ومسبَّة، قال الكلبي: لم يتكلم بعد نزولها عند النبي صلى الله عليه وسلم منافقٌ إِلا عرفه {وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ} أي لا يخفىعليه شيء من أعمالكم فيجازيكم بحسب قصدكم، ففيه وعدٌ ووعيد {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ} أي ولنختبرنَّكم أيها الناسُ بالجهاد وغيره من التكاليف الشاقة حتى نعلم - علم ظهور - المجاهدين في سبيل الله، والصابرين على مشاقّ الجهاد {وَنَبْلُوَا أَخْبَارَكُمْ} أي ونختبر أعمالكم حسنها وقبيحها، قال في التسهيل: المراد بقوله {حَتَّى نَعْلَمَ} أي نعلمه علماً ظاهراً في الوجود تقوم به الحجة عليكم، وقد علم الله الأشياء قبل كونها، ولكنه أراد إِقامة الحجة على عباده بما يصدر منهم، وكان الفضيل بن عياض إِذا قرأ هذه الآية بكى وقال: اللهم لا تبتلنا فإِنك إِذا ابتليتنا فضحتنا وهتكت أستارنا.





حال الصادين عن سبيل الله، والأمر بطاعته عز وجل



{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَشَآقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الهُدَى لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَسَيُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ(32)يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءامنوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ(33)إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ مَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ(34)فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ(35)}



سبب النزول:

نزول الآية (32):

{إن الذين كفروا وصدوا .. لن يضروا الله} قال ابن عباس: هم المطعمون يوم بدر.

نزول الآية (33):

{يا أيها الذين ءامنوا أطيعوا الله} خطاب للمؤمنين بلزوم الطاعة في أوامر الله تعالى والرسول صلى الله عليه وسلم في سنته. أخرج ابن أبي حاتم ومحمد بن نصر المروزي في كتاب الصلاة عن أبي العالية قال: كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يرون أنه لا يضر مع "لا إله إلا الله" ذنب، كما لا ينفع مع الشرك عمل، فنزلت: {أطيعوا الله، وأطيعوا الرسول، ولا تبطلوا أعمالكم} فخافوا أن يبطل الذنب العمل.



نزول الآية (34):

{إن الذين كفروا وصدوا .. فلن يغفر الله لهم} نزلت في أصحاب القليب أي قليب بدر، حيث ألقي قتلة المشركين في بئر.



{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} أي جحدوا بآيات الله ومنعوا الناس عن الدخول في الإِسلام {وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الهُدَى} أي عادوا الرسول وخرجوا عن طاعته من بعد ما ظهر لهم صدقُه وأنه رسول الله بالحجج والآيات { لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَسَيُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ} أي لن يضروا الله بكفرهم وصدّهم شيئاً من الضرر، وسيبطل أعمالهم من صدقة ونحوها فلا يرون لها في الآخرة ثواباً {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءامنوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} أي امتثلوا أوامر الله وأوامر رسوله {وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} أي ولا تُبطلوا أعمالكم بما أبطل به هؤلاء أعمالهم من الكفر والنفاق، والعُجب والرياء {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} أي جحدوا بآيات الله وصدُّوا الناس عن طريق الهدى والإِيمان {ثُمَّ مَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ} أي وماتوا على الكفر {فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} أي فلن يغفر الله لهم بحالٍ من الأحوال، وهذا قطع بأن من مات على الكفر لا يغفر اللهُ له لقوله تعالى {إِنَّ الله لا يغفر أن يُشرك به} قال أبو السعود: وهذا حكم يعم كل من مات على الكفر، وإِن صحَّ نزوله في أصحاب القليب {فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ} أي فلا تضعفوا وتدعوا إِلى المهادنة والصلح مع الكفار إِذا لقيتموهم {وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ} أي وأنتم الأعزة الغالبون لأنكم مؤمنون {وَاللَّهُ مَعَكُمْ} أي والله معكم بالعونِ والنصر {وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ} أي لن ينقصكم شيئاً من ثواب أعمالكم، قال ابن كثير: وفي قوله {وَاللَّهُ مَعَكُمْ} بشارة عظيمة بالنصر والظفر على الأعداء.



تأكيد الحث على الجهاد بالتزهيد في الدنيا



{إِنَّمَا الحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ(36)إِنْ يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ(37)هَاأَنْتُمْ هَؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ(38)}



{إِنَّمَا الحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ} أي ما الحياة الدنيا إِلا زائلة فانية، لا قرار لها ولا ثبات، كاللعب واللهو الذي يتلهى به الأولاد، قال شيخ زاده: بيَّن تعالى أن الدنيا وما فيها من الحظوظ العاجلة، لا يصلح مانعاً من الإِقدام إِلى الجهاد، وما يؤدي إِلى ثواب الآخرة، لكونها بمنزلة اللهو واللعب في سرعة زوالها، وأن الآخرة هي الحياة الباقية، فلا ينبغي أن يكون حبُّ الدنيا والحرص على ما فيها من اللذات والشهوات سبباً للجبن عن الغزو والتخلف عن الجهاد {وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ} أي وإِن تؤمنوا بالله وتتقوه حقَّ تقواه، يعطكم ثواب أعمالكم كاملاً {وَلا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ} أي ولا يطلب منكم أن تنفقوا جميع أموالكم، بل الزكاة المفروضة فيها، قال ابن كثير: أي هو غني عنكم لا يطلب منكم شيئاً، وإِنما فرض عليكم الصدقات من الأموال مواساةً لإِخوانكم الفقراء، ليعود نفع ذلك وثوابه عليكم {إِنْ يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا} أي إِن يسألكم جميع أموالكم ويبالغ في طلبها، ويلح عليكم في إِنفاقها تبخلوا {وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ} أي ويخرج ما في قلوبكم من البخل وكراهة الإِنفاق، قال ابن جزي: وذلك لأن الإِنسان جبل على محبة الأموال، ومن نوزع في حبيبه ظهرت سرائره، فمن رحمته تعالى على عباده عدم التشديد عليهم في التكاليف {هَاأَنْتُمْ هَؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} أي ها أنتم معشر المخاطبين تُدعون للإِنفاق في سبيل الله، وقد كلفتم ما تطيقون {فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ} أي فمنكم من يشح عن الإِنفاق ويمسك عنه {وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ} أي ومن بخل عن الإِنفاق في سبيل الله فإِنما يعود ضرر بخله على نفسه، لأنه يمنعها الأجر والثواب، قال الصاوي: وبخل يتعدى بـ "على" إِذا ضُمِّن معنى شحَّ، وبـ "عن" إِذا ضُمِّن معنى أمسك {وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ} أي واللهُ مستغن عن إِنفاقكم ليس بمحتاج إِلى أموالكم، وأنتم محتاجون إِليه {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ} أي وإِن تعرضوا عن طاعته واتباع أوامره، يخلف مكانكم قوماً آخرين يكونون أطوع لله منكم { ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} أي لا يكونون مثلكم في البخل عن الإِنفاق بل يكونوا كرماء أسخياء.

yacine414
2011-04-01, 18:08
سورة الفتح



التسميَــة

فضل صلح الحُدَيْبِيَة

آثار صلح الحديبية على المؤمنين والمنافقين والمشركين

بعض صفات الرسول صلى الله عليه وسلم، وبيعة الرضوان

جزاء أهل بيعة الرضوان

مغانم وفتوحات ونعم كثيرة أخرى للمؤمنين

استحقاق المشركين للعذاب والدمار

تصديق الله لرؤيا نبيه بدخول مكة فاتحاً

أوصاف صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم



بَين يَدَي السُّورَة



* هذه السورة الكريمة مدنية، وهي تُعنى بجانب التشريع شأن سائر السور المدنية التي تعالج الأسس التشريعية في المعاملات، والعبادات، والأخلاق، والتوجيه.



* تحدثت السورة الكريمة عن "صلح الحديبية" الذي تمَّ بين الرسول صلى الله عليه وسلم وبين المشركين سنة ستٍ من الهجرة، والذي كان بدايةً للفتح الأعظم "فتح مكة" وبه تمَّ العزُّ والنصر والتمكين للمؤمنين، ودخل الناس في دين الله أفواجاً أفواجاً {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا..} الآيات.



* وتحدث السورة عن جهاد المؤمنين، وعن "بيعة الرضوان" التي بايع فيها الصحابة رضوان الله عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على الجهاد في سبيل الله حتى الموت، وكانت بيعةً جليلة الشأن ولذلك باركها الله، ورضي عن أصحابها، وسجلها في كتابه العظيم في سطور من نور {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ ..} الآية.



* وتحدث عن الذين تخلفوا عن الخروج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأعراب الذين في قلوبهم مرض، ومن المنافقين الذين ظنوا الظنون السيئة برسول الله صلى الله عليه وسلم وبالمؤمنين فلم يخرجوا معهم، فجاءت الآيات تفضحهم وتكشف سرائرهم {سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا..} الآيات.



* وتحدثت السورة عن الرؤيا التي رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم في منامه - في المدينة المنورة - وحدَّث بها أصحابه ففرحوا واسبشروا، وهي دخول الرسول صلى الله عليه وسلم والمسلمين مكة آمنين مطمئنين، وقد تحققت تلك الرؤيا الصادقة فدخلها المؤمنون معتمرين مع الأمن والطمأنينة {لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ..}.



* وختمت السورة الكريمة بالثناء على الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه الأطهار الأخيار {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ..} الآية.



التسميَــة:

سميت سورة الفتح لأن الله تعالى بشَّر المؤمنين بالفتح المبين {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا..} الآيات.







فضل صلح الحُدَيْبِيَة



{إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا(1)لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا(2)وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا(3)}



سبب النزول:

نزول الآية (1) :

{إِنَّا فَتَحْنَا}: أخرج الحاكم وغيره عن المِسْوَر بن مَخْرمة ومروان بن الحكم قالا: نزلت سورة الفتح بين مكة والمدينة في شأن الحديبية من أولها إلى آخرها.



نزول الاية (2):

{لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ..}: أخرج أحمد والشيخان والترمذي والحاكم عن أنس قال: أنزلت على النبي صلى الله عليه وسلم: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا* لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} مَرْجِعَه من الحديبية، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لقد أنزلت عليَّ آية أَحَبُّ إلي مما على الأرض"، ثم قرأها عليهم، فقالوا: هنيئاً مريئاً لك يا رسول الله، قد بيَّن الله لك ماذا يفعل بك، فماذا يفعل بنا؟ فنزلت: {لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} حتى بلغ {فَوْزًا عَظِيمًا}. وقال ابن عباس: إن اليهود شمتوا النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين لما نزل قوله: {وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ} وقالوا: كيف نتبع رجلاً لا يدري ما يفعل به، فاشتد ذلك على النبي صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله تعالى: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا..} الآية.



{إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا} أي قد فتحنا لك يا محمد مكة فتحاً بيناً ظاهراً، وحكمنا لك بالفتح المبين على أعدائك، والمراد بالفتح فتح مكة، وَعَدَهُ الله به قبل أن يكون، وذكره بلفظ الماضي لتحققه، وكانت بشارة عظيمة من الله تعالى لرسوله وللمؤمنين. قال الزمخشري: هو فتح مكة، وقد نزلت مرجع رسول الله صلى الله عليه وسلم عن مكة عام الحديبية، وهو وعدٌ له بالفتح، وجيء به بلفظ الماضي على عادة ربّ العزَّة سبحانه في أخباره، لأنها في تحققها وتيقنها بمنزلة الكائنة الموجودة، وفي ذلك من الفخامة والدلالة على علو شأن الفتح ما لا يخفى {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} أي ليغفر لك ربك يا محمد جميع ما فرط منك من تَرْكِ الأَوْلَى. قال أبو السعود: وتسميتُه ذنباً بالنظر إِلى منصبه الجليل، وقال ابن كثير: هذا من خصائصه صلى الله عليه وسلم التي لا يشاركه فيها غيره، وفيه تشريفٌ عظيم لرسول الله صلى الله عليه وسلم إِذ هو أكمل البشر على الإِطلاق، وسيدهم في الدنيا والآخرة، وهو في جميع أموره على الطاعة والبر والاستقامة التي لم ينلها بشر سواه، لا من الأولين ولا من الآخرين، ولما كان أطوع خلق الله بشره الله بالفتح المبين، وغفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر {وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ} أي ويكمّل نعمته عليك بإِعلاء الدين ورفع مناره {وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا} أي ويرشدك إِلى الطريق القويم، الموصل إِلى جنات النعيم، بما يشرعه لك من الدين العظيم {وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا} أي وينصرك الله على أعدائك نصراً قوياً منيعاً، فيه عزةٌ وغلبة، يجمع لك به بين عز الدنيا والآخرة.



آثار صلح الحديبية على المؤمنين والمنافقين والمشركين



{هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا(4)لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَكَانَ ذَلِكَ عِنْدَ اللَّهِ فَوْزًا عَظِيمًا(5)وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيرًا(6)وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا(7)}.



{هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ} أي هو جل وعلا الذي جعل السكون والطمأنينة في قلوب المؤمنين {لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ} أي ليزدادوا يقيناً مع يقينهم، وتصديقاً مع تصديقهم، برسوخ العقيدة في القلوب، والتوكل على علاَّم الغيبوب {وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} أي وللهِ - جلَّت عظمته - كل جنود السماوات والأرض، من الملائكة والجن، والحيوانات، والصواعق المدمّرة، والزلازل، والخسف، والغرق، جنودٌ لا تُحصى ولا تُغلب، يسلطها على من يشاء، قال ابن كثير: ولو أرسل عليهم ملكاً واحداً لأباد خضراءهم، ولكنه تعالى شرع لعباده الجهاد، لما له في ذلك من الحجة القاطعة والحكمة البالغة ولذلك قال {وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا} أي عليماً بأحوال خلقه، حكيماً في تقديره وتدبيره، قال المفسرون: أراد بإِنزال السكينة في قلوب المؤمنين "أهل الحديبية" حين بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على مناجزة الحرب مع أهل مكة، بعد أن حصل لهم ما يزعج النفوس ويزيغ القلوب، مِن صد الكفار لهم عن دخول مكة، ورجوع الصحابة دون بلوغ مقصودهم، فلم يرجع منهم أحدٌ عن الإِيمان، بعد أن هاج الناس وماجوا، وزلزلوا حتى جاء عمر بن الخطاب إِلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال: ألست نبيَّ الله حقاً؟ قال: بلى، قال: ألسنا على الحق وعدوُّناعلى الباطل؟ قال: بلى، قال: فلم نعط الدنيَّة في ديننا إِذن؟ قال إِني رسول الله ولست أعصيه وهو ناصري .. إلخ . {لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا} أي ليدخلهم - على طاعتهم وجهادهم - حدائق وبساتين ناضرة، تجري من تحتها أنهار الجنة ماكثين فيها أبداً {وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ} أي ويمحو عنهم خطاياهم وذنوبهم {وَكَانَ ذَلِكَ عِنْدَ اللَّهِ فَوْزًا عَظِيمًا} أي وكان ذلك الإِدخال في الجنات والتكفير عن السيئات، فوزاً كبيراً وسعادةً لا مزيد عليها، إذ ليس بعد نعيم الجنة نعيم {وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ} أي وليعذِّب الله أهل النفاق والإِشراك، وقدَّمهم على المشركين لأنهم أعظم خطراً وأشد ضرراً من الكفار المجاهرين بالكفر {الظَّانِّينَ بِاللهِ ظَنَّ السَّوْءِ} أي الظانين بربهم أسوأ الظنون، ظنوا أن الله تعالى لن ينصر رسوله والمؤمنين، وأن المشركين يستأصلونهم جميعاً كما قال تعالى {بل ظننتم أن لن ينقلب الرسول والمؤمنون إلى أهليهم أبداً} قال القرطبي: ظنوا أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يرجع إِلى المدينة ولا أحدٌ من أصحابه حين خرج إِلى الحديبية {عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ} دعاءٌ عليهم أي عليهم ما يظنونه ويتربصونه بالمؤمنين من الهلاك والدمار {وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ} أي سخط تعالى عليهم بكفرهم ونفاقهم، وأبعدهم عن رحمته {وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيرًا} أي وهيأ لهم في الآخرة ناراً مستعرة هي نار جهنم، وساءت مرجعاً ومنقلباً لأهل النفاق والضلال {وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} تأكيد للانتقام من الأعداء أعداء الإِسلام من الكفرة والمنافقين، قال الرازي: كرر اللفظ لأن جنود الله قد يكون إِنزالهم للرحمة، وقد يكون للعذاب، فذكرهم أولاً لبيان الرحمة بالمؤمنين وثانياً لبيان إِنزال العذاب على الكافرين {وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} أي عزيزاً في ملكه وسلطانه، حكيماً في صنعه وتدبيره، قال الصاوي: ذكر هذه الآية أولاً في معرض الخلق والتدبير فذيَّلها بقوله {عليماً حكيماً} وذكرها ثانياً في معرض الانتقام فذيَّلها بقوله {عَزِيزًا حَكِيمًا} وهو في منتهى الترتيب الحسن، لأنه تعالى يُنْزِل جنود الرحمة لنصرة المؤمنين، وجنود العذاب لإِهلاك الكافرين.



بعض صفات الرسول صلى الله عليه وسلم، وبيعة الرضوان



{إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا(8)لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً(9)إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا(10)}



ثم امتن تعالى على رسوله الكريم بتشريفه بالرسالة، وبعثه إِلى الخلق كافة فقال {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا} أي إِنا أرسلناك يا محمد شاهداً على الخلق يوم القيامة، ومبشراً للمؤمنين بالجنة، ومنذراً للكافرين من عذاب النار {لتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} أي أرسلنا الرسول لتؤمنوا أيها الناس بربكم ورسولكم حقَّ الإِيمان، إِيماناً عن اعتقاد ويقين، لا يخالطه شك ولا ارتياب {وَتُعَزِّرُوهُ} أي تفخموه وتُعظِّموه {وَتُوَقِّرُوهُ} أي تحترمو وتجلُّوا أمره مع التعظيم والتكريم، والضمير فيهما للنبي صلى الله عليه وسلم {وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً} أي تسبحوا ربكم في الصباح والمساء، ليكون القلب متصلاً بالله في كل آن، ثم قال تعالى {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ} أي إن الذين يبايعونك يا محمد في الحديبية "بيعة الرضوان" إِنما يبايعون في الحقيقة اللهَ، وهذا تشريفٌ للنبي صلى الله عليه وسلم حيث جعل مبايعته بمنزلة مبايعة الله، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم سفيرٌ ومعبِّر عن الله، قال المفسرون: المراد بالبيعة هنا بيعة الرضوان بالحديبية، حين بايع الصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم على الموت كما روى الشيخان عن سلمة بن الأكوع أنه قال: "بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على الموت" وسميت "بيعة الرضوان" لقول الله فيها {لقد رضي اللهُ عن المؤمنين إِذ يبايعوك تحت الشجرة} {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} قال ابن كثير: أي هو تعالى حاضر معهم، يسمع أقوالهم، ويرى مكانهم، ويعلم ضمائرهم وظواهرهم، فهو تعالى المبايع بواسطة رسوله صلى الله عليه وسلم والمعنى أن من بايع الرسول فقد بايع الله كقوله تعالى {من يطع الرسول فقد أطاع الله} {فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ} أي فمن نقض البيعة فإِنما يعود ضرر نكثه عليه، لأنه حرم نفسه الثواب وألزمها العقاب بنقضه العهد والميثاق الذي عاهد به ربه {وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ} أي ومنْ وفَّى بعهده {فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} أي فسيعطيه الله ثواباً جزيلاً، وهو الجنة دار الأبرار.





حال الذين خلفوا ، وظنهم السوء ، وطمعهم في الغنائم



{سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنْ الأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنْ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعًا بَلْ كَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا(11)بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْمًا بُورًا(12)وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَعِيرًا(13)وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا(14)سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا بَلْ كَانُوا لا يَفْقَهُونَ إِلا قَلِيلاً(15)قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنْ الأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا(16)لَيْسَ عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذَابًا أَلِيمًا(17)}.



سبب نزول الآية (17):

{لَيْسَ عَلَى الأَعْمَى..}: قال ابن عباس: لما نزلت: {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ..} الآية، قال أهل الزَّمَانة (أي الأمراض المزمنة): كيف بنا يا رسول الله؟ فأنزل الله: {لَيْسَ عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ..}.



{سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنْ الأَعْرَابِ} أي سيقول لك يا محمد المنافقون الذين تخلفوا عن الخروج معك عام الحديبية عن أعراب المدينة {شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا} أي شُغلنا عن الخروج معك بالأموال والأولاد، فاطلب لنا من الله المغفرة، لأن تخلفنا لم يكن باختيار بل عن اضطرار، قال ابن جزي: سمَّاهم تعالى بالمخلَّفين لأنهم تخلَّفوا عن غزوة الحديبية، - والأعراب هم أهل البوادي من العرب - لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مكة يعتمر، رأوا أنه يستقبل عدواً كثيراً من قريش وغيرهم فقعدوا عن الخروج معه، ولم يكن إِيمانهم متمكناً فظنوا أنه لا يرجع هو والمؤمنون من ذلك السفر، ففضحهم الله في هذه السورة وأعلمَ تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم بقولهم واعتذارهم قبل أن يصل إِليهم، وأعلمه أنهم كاذبون في اعتذارهم.

{يَقُولُونَ بأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ} أي يقولون خلاف ما يبطنون وهذا هو النفاق المحض، فهم كاذبون في الاعتذار وطلب الاستغفار، لأنهم قالوه رياءً من غير صدقٍ ولا توبة.

{قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنْ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعًا}؟ أي قل لهم: مَن يمنعكم من مشيئة الله وقضائه، إِن أراد أن يُلحق بكم أمراً يضركم كالهزيمة، أو أمراً ينفعكم كالنصر والغنيمة؟ قال القرطبي: وهذا ردٌ عليهم حين ظنوا أن التخلف عن الرسول صلى الله عليه وسلم يدفع عنهم الضرُّ، ويُعجل لهم النفع.

{بَلْ كَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} أي ليس الأمر كما زعمتم بل الله مطلع على ما في قلوبكم من الكذب والنفاق.

ثم أظهر تعالى ما يخفونه في نفوسهم فقال {بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا} أي بل ظننتم أيها المنافقون أن محمداً وأصحابه لن يرجعوا إِلى المدينة أبداً {وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلوبِكُمْ} أي وزُيّن ذلك الضلال في قلوبكم {وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ} أي ظننتم أنهم يُسْتأصلون بالقتل، ولا يرجع منهم أحد {وَكُنْتُمْ قَوْمًا بُورًا} أي وكنتم قوماً هالكين عند الله، مستوجبين لسخطه وعقابه.

{وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} لما بيَّن حال المتخلفين عن رسول الله، وبيَّن حال ظنهم الفاسد، وأنه يفضي بصاحبه إِلى الكفر، حرَّضهم على الإِيمان والتوبة على سبيل العموم. والمعنى من لم يؤمن بالله ورسوله بطريق الإِخلاص والصدق {فَإِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَعِيرًا} أي فإِنَّا هيأنا للكافرين ناراً شديدة مستعرة، وهو وعيدٌ شديد للمنافقين {وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} أي له جل وعلا جميع ما في السموات والأرض، يتصرف في الكل كيف يشاء {يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ} أي يرحم من يشاء من عباده ويُعذب من يشاء، وهذا قطع لطمعهم في استغفار رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم {وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} أي واسع المغفرة عظيم الرحمة.

{سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا} أي سيقول الذين تخلَّفوا عن الخروج مع رسول الله في عمرة الحديبية، عند ذهابكم إِلى مغانم خيبر لتحصلوا عليها {ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ} أي اتركونا نخرج معكم إِلى خيبر لنقاتل معكم {يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ} أي يريدون أن يُغيّروا وعد الله الذي وعده لأهل الحديبية من جعل غنائم خيبر لهم خاصة لا يشاركهم فيها أحد، قال القرطبي: إن الله تعالى جعل لأهل الحديبية غنائم خيبر عوضاً عن فتح مكة إِذ رجعوا من الحديبية على صلح {قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونَا} أي قل لهم لا تتبعونا فلن يكون لكم فيها نصيب {كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ منْ قَبْلُ} أي كذلكم أي حكم الله تعالى بأن غنيمة خيبر لمن شهد الحديبية، ليس لغيرهم فيها نصيب {فسيقولون بل تحسدوننا} فسيقولون ليس هذا من الله بل هو حسد منكم لنا على مشاركتكم في الغنيمة، قال تعالى ردّاً عليهم {بل كانوا لا يفقهون إِلا قليلاً} أي لا يفهمون إِلا فهماً قليلاً وهو حرصهم على الغنائم وأمور الدنيا.

{قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنْ الأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ} أي قل لهؤلاء الذين تخلَّفوا عن الحديبية - كرَّر وصفهم بهذا الاسم إظهاراً لشناعته ومبالغةً في ذمهم- ستُدعون إِلى حرب قوم أشداء، هم بنو حنيفة - قوم مسيلمة الكذاب - أصحاب الردة {تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ} أي إِما أن تقتلوهم أو يدخلوا في دينكم بلا قتال {فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا} أي فإِن تستجيبوا وتخرجوا لقتالهم يعطكم الله الغنيمة والنصر في الدنيا، والجنة في الآخرة {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} أي وإِن تتخلفوا عن الخروج كما تخلفتم زمن الحديبية، يعذبكم اللهُ عذاباً شديداً مؤلماً في نار جهنم.

ثم ذكر تعالى الأعذار في ترك الجهاد فقال {لَيْسَ عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ} أي ليس على هؤلاء إِثم أو ذنب في ترك الخروج للجهاد لما بهم من الأعذار الظاهرة {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ} أي من يطع أمر الله وأمر الرسول يدخله جنات النعيم خالداً فيها {وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذَابًا أَلِيمًا} أي ومن ينكل عن الجهاد لغير عذر يعذبه الله عذاباً شديداً، في الدنيا بالمذلة وفي الآخرة بالنار.



جزاء أهل بيعة الرضوان



{لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا(18)وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا(19)}



سبب النزول:

أخرج أبن أبي حاتم وابن جرير وابن مردويه عن سلمة بن الأكوع قال: "بينا نحن قائلون، إذ نادى منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم، يا أيها الناس، البيعةَ البيعةَ، نزل روح القُدُس، فسرنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو تحت شجرة سَمُرَة، فبايعناه، فأنزل الله: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْ الْمُؤْمِنِينَ} الآية.

فبايع لعثمان بإحدى يديه على الأخرى، فقال الناس: هنيئاً لابن عفان، يطوف بالبيت ونحن هنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لو مكث كذا وكذا سنة، ما طاف حتى أطوف".

وروي أنه صلى الله عليه وسلم لما نزل الحديبية بعث حِراش بن أمية الخزاعي إلى أهل مكة، فهمُّوا به، فمنعه الأحابيش، فرجع، فبعث عثمان بن عفان رضي الله عنه، فحبسوه، فأرجف بقتله، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه، وكانوا ألفاً وثلاث مئة أو أربع مئة أو خمس مئة، وبايعهم على أن يقاتلوا قريشاً ولا يفرّوا منهم، وكان جالساً تحت سَمُرة أو سِدْرة.

وأخرج الشيخان عن يزيد بن عُبيد قال: قلت لسلمة بن الأكوع: "على أي شيء بايعتم رسول الله؟ قال: على الموت".



{لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} اللام موطئة لقسم محذوف أي والله لقد رضي الله عن المؤمنين حين بايعوك يا محمد "بيعة الرضوان" تحت ظل الشجرة بالحديبية، قال المفسرون: كان سبب هذه البيعة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما بلغ الحديبية أرسل عثمان بن عفان إلى أهل مكة يخبرهم أنه إِنما جاء معتمراً، وأنه لا يريد حرباً، فلما ذهب عثمان حبسوه عندهم، وجاء الخبر إِلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن عثمان قد قتل، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم إِلى البيعة على أن يدخلوا مكة حرباً، وبايعوه على الموت، فكانت بيعة الرضوان، فلما بلغ المشركين ذلك أخذهم الرعب وأطلقوا عثمان وطلبوا الصلح من رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن يأتي في العام القابل، ويدخلها ويقيم فيها ثلاثة أيام، وكانت هذه البيعة تحت شجرة سمرة بالحديبية وقد سميت "بيعة الرضوان" ولما رجع المسلمون يعلوهم الحزنُ والكآبة، أراد الله تسليتهم وإِذهاب الحزن عنهم فأنزل هذه السورة على رسوله صلى الله عليه وسلم بعد مرجعه من الحديبية {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا} وكان عدد الذين بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ألفاً وأربعمائة رجل، وفيهم نزلت الآية الكريمة {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} ولم يتخلف عن البيعة إلا "الجد ابن قيس" من المنافقين، وحضر هذه البيعة روح القدس جبريل الأمين، ولهذا سُطرت في الكتاب المبين {فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ} أي فعلم تعالى ما في قلوبهم من الصدق والوفاء، عند مبايعتهم لك على حرب الأعداء.

{فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ} أي رزقهم الطمأنينة وسكون النفس عند البيعة {وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا} أي وجازاهم على بيعة الرضوان بفتح خيبر، وما فيها من النصر والغنائم، زيادةً على ثواب الآخرة {وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا} أي وجعل لهم الغنائم الكثيرة التي غنموها من خيبر قال ابن كثير: هو ما أجرى الله عز وجل على أيديهم من الصلح بينهم وبين أعدائهم، وما حصل بذلك من الخير العامِّ بفتح خيبر، ثم فتح سائر البلاد والأقاليم، وما حصل لهم من العز والنصر والرفعة في الدنيا والآخرة، ولهذا قال تعالى {وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} أي غالباً على أمره، حكيماً في تدبيره وصنعه، ولهذا نصركم عليهم وغنَّمكم أرضهم وديارهم وأموالهم.





مغانم وفتوحات ونعم كثيرة أخرى للمؤمنين



{وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا(20)وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا(21)وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوْا الأَدْبَارَ ثُمَّ لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا(22)سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً(23)وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا(24)}.



سبب النزول:

نزول الآية (24) :

{وَهُوَ الَّذِي كَفَّ..}: أخرج مسلم والترمذي والنسائي عن أنس قال: لما كان يوم الحديبية هبط على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ثمانون رجلاً في السلاح من جبل التنعيم، يريدون غِرّة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأُخذوا، فأعتقهم، فأنزل الله: {وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ} الآية.



{وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا} أي وعدكم الله يا معشر المؤمنين - على جهادكم وصبركم - الفتوحات الكثيرة، والغنائم الوفيرة تأخذونها من أعدائكم، قال ابن عباس: هي المغانم التي تكون إِلى يوم القيامة، قال أبو حيّان: ولقد اتَّسع نطاق الإِسلام، وفتح المسلمون فتوحاً لا تُحصى، وغنموا مغانم لا تُعدُّ وذلك في شرق البلاد وغربها، حتى في الهند والسودان - تصديقاً لوعده تعالى - وقدم علينا أحد ملوك غانة من بلاد التكرور، وقد فتح أكثر من خمسة وعشرين مملكة من بلاد السودان، وأسلموا معه وقدم علينا ببعض ملوكهم يحج معه {فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ} أي فعجَّل لكم غنائم خيبر بدون جهد وقتال {وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ} أي ومنع أيدي الناس أن تمتد إِليكم بسوء، قال المفسرون: المراد أيدي أهل خيبر وحلفائهم من بني أسد وغطفان، حين جاءوا لنصرتهم فقذف الله في قلوبهم الرعب.

{وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ} أي ولتكون الغنائم، وفتح مكة، ودخول المسجد الحرام علامة واضحة تعرفون بها صدق الرسول بما أخبركم به عن الله {وَيَهْدِيَكُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا} أي ويهديكم تعالى إِلى الطريق القويم، الموصل إلى جنات النعيم بجهادكم وإِخلاصكم، قال الإِمام الفخر: والآية للإِشارة إِلى أنَّ ما أعطاهم من الفتح والمغانم، ليس هو كل الثواب، بل الجزاء أمامهم، وإِنما هي شيء عاجل أعدَّه لهم لينتفعوا به، ولتكون آية لمن بعدهم من المؤمنين، تدل على صدق وعد الله في وصول ما وعدهم به كما وصل إِليكم {وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا} أي وغنيمةً أخرى يسَّرها لكم، لم تكونوا بقدرتكم تستطيعون عليها، ولكنَّ الله بفضله وكرمه فتحها لكم، والمراد فتح مكة {قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا} أي قد استولى الله عليها بقدرته ووهبها لكم، فهي كالشيء المحاط به من جوانبه محبوسٌ لكم لا يفوتكم {وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا} أي قادراً على كل شيء، لا يعجزه شيء أبداً، فهو القادر على نصرة أوليائه، وهزم أعدائه، قال ابن كثير: المعنى أي وغنيمةً أخرى وفتحاً آخر معيناً، لم تكونوا تقدرون عليها، قد يسَّرها الله عليكم وأحاط بها لكم، فإِنه تعالى يرزق عباده المتقين من حيث لا يحتسبون والمرادُ بها في هذه الآية "فتح مكة" وهو اختيار الطبري.

{وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوْا الأَدْبَارَ} تذكيرٌ لهم بنعمةٍ أخرى أي ولو قاتلكم أهل مكة ولم يقع الصلح بينكم وبينهم، لغلبوا وانهزموا أمامكم ولم يثبتوا {ثُمَّ لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا} أي ثم لا يجدون من يتولّى أمرهم بالحفظ والرعاية، ولا من ينصرهم من عذاب الله {سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ} أي تلك طريقة الله وعادتُه التي سنَّها فيمن مضى من الأمم، من هزيمة الكافرين ونصر المؤمنين قال فيالبحر : أي سنَّ الله لأنبيائه ورسله سنة قديمة وهي قوله {كتب اللهُ لأغلبن أنا ورسلي} {وَلَنْتَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً} أي وسنته تعالى لا تتبدَّل ولا تتغيَّر.

{وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ} أي وهو تعالى بقدرته وتدبيره صرف أيدي كفار مكة عنكم كما صرف عنهم أيديكم بالحديبية التي هي قريبة من البلد الحرام، قال ابن كثير: هذا امتنانٌ من الله تعالى على عباده المؤمنين، حين كفَّ أيدي المشركين عنهم، فلم يصل إِليهم منهم سوء، وكفَّ أيدي المؤمنين عن المشركين فلم يقاتلوهم عند المسجد الحرام، بل صان كلاً من الفريقين وأوجد بينهم صلحاً، فيه خير للمؤمنين وعاقبة لهم في الدنيا والآخرة {مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ} أي من بعد ما أخذتموهم أسارى وتمكنتم منهم، قال الجلال: وذلك أن ثمانين من المشركين طافوا بعسكر المؤمنين ليصيبوا منهم، فأُخذوا وأُتي بهم إِلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فعفا عنهم وخلَّى سبيلهم، فكان ذلك سبب الصلح، وقال في التسهيل: وروي في سببها أن جماعةً من فتيان قريش خرجوا إِلى الحديبية، ليصيبوا من عسكر رسول الله صلى الله عليه وسم، فبعث إِليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد في جماعةٍ من المسلمين فهزموهم وأسروا منهم قوماً، وساقوهم إِلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأطلقهم، فكفُّ أيدي الكفار هو هزيمتهم وأسرهم، وكفُّ أيدي المؤمنين عن الكفار هو إِطلاقهم من الأسر وسلامتهم من القتل {وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا} أي هو تعالى بصير بأعمالكم وأحوالكم، يعلم ما فيه مصلحة لكم، ولذلك حجزكم عن الكافرين رحمةً بكم، وحرمةً لبيته العتيق لئلا تسفك فيه الدماء.





استحقاق المشركين للعذاب والدمار



{هُمْ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْلا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا(25)إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا(26)}.



سبب النزول:

نزول الآية (25):

{وَلَوْلا رِجَالٌ ..}: أخرج الطبراني وأبو يعلى عن أبي جمعة جنيد بن سبع قال: قاتلت النّبي صلى الله عليه وسلم أول النهار كافراً، وقاتلت معه آخر النهار مسلماً، وكنّا ثلاثة رجال وسبع نسوة، وفينا نزلت: {وَلَوْلا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ}.



ثم ذكر تعالى استحقاق المشركين للعذاب والدمار فقال {هُمْ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} أي هم كفار قريش المعتدون الذين كفروا بالله والرسول، ومنعوا المؤمنين عن دخول المسجد الحرام لأداء مناسك العمرة عام الحديبية {وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ} أي وصدُّوا الهدي أيضاً - وهو ما يُهدى لبيت الله لفقراء الحرم - معكوفاً أي محبوساً عن أن يبلغ مكانه الذي يذبح فيه وهو الحرم، قال القرطبي: يعني قريشاً منعوا المسلمين من دخول المسجد الحرام عام الحديبية، حين أحرم رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أصحابه بالعمرة، ومنعوا الهدي وحبسوه عن أن يبلغ محله، وهذا كانوا لا يعتقدونه، ولكنه حملتهم الأنفة ودعتهم الحمية الجاهلية على أن يفعلوا ما لا يعتقدونه ديناً، فوبخهم الله على ذلك وتوعَّدهم عليه، وأدخل الأنس على رسول الله ببيانه ووعده {وَلَوْلا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ} أي ولولا أن في مكة رجالاً ونساءً من المؤمنين المستضعفين، الذين يخفون إِيمانهم خوفاً من المشركين {لَمْ تَعْلَمُوهُمْ} أي لا تعرفونهم بأعيانهم لاختلاطهم بالمشركين {أَنْ تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ} أي كراهة أن توقعوا بهم وتقتلوا منهم دون علم منكم بإِيمانهم، فينالكم بقتلهم إِثم وعيب. وجواب "لولا" محذوفٌ تقديره: لأذن لكم في دخول مكة، ولسلَّطكم على المشركين، قال الصاوي: والجواب محذوف قدَّره الجلال السيوطي بقوله: لأذِنَ لكم في الفتح، ومعنى الآية: لولا كراهة أن تُهلكوا أناساً مؤمنين بين أظهر الكفار، حال كونكم جاهلين بهم فيصيبكم بإِهلاكهم مكروه لما كفَّ أيديكم عنهم، ولأذن لكم في فتح مكة.

{لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ} أي إِنما فعل ذلك ليخلّص المؤمنين من بين أظهر المشركين، وليرجع كثيرٌ منهم إِلى الإِسلام، قال القرطبي: أي لم يأذن الله لكم في قتال المشركين، ليُسلم بعد الصلح من قضى أن يُسلم من أهل مكة، وكذلك كان، أسلم الكثير منهم وحسن إِسلامُه، ودخلوا في رحمته وجنته {لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} أي لو تفرقوا وتميَّز بعضهم عن بعض، وانفصل المؤمنون عن الكفار، لعذبنا الكافرين منهم أشدَّ العذاب، بالقتل والسبي والتشريد من الأوطان {إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ} أي حين دخل إِلى قلوب الكفار الأنفة والكبرياء بالباطل، فرفضوا أن يكتبوا في كتاب الصلح "بسم الله الرحمن الرحيم" ورفضوا أن يكتبوا "محمد رسول الله" وقولهم: لو نعلم أنك رسول الله لاتبعناك ولكنْ اكتبْ اسمك واسم أبيك {حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ} أي أنفةً وغطرسةً وعصبيةً جاهلية{فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ} أي جعل الطمأنينة والوقار في قلب الرسول والمؤمنين، ولم تلحقهم العصبية الجاهلية كما لحقت المشركين {وَأَلزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى} أي اختار لهم كلمة التقوى - إِلزام تكريم وتشريف - وهي كلمة التوحيد "لا إِله إِلا الله" هذا قول الجمهور، والظاهر: أن المراد بكلمة التقوى هي إِخلاصهم وطاعتهم لله ورسوله، وعدم شقّ عصا الطاعة عندما كُتبت بنود الصلح، وكانت مجحفةً بحقوق المسلمين في الظاهر، فثبَّت الله المؤمنين على طاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان في هذا الصلح كل الخير للمسلمين {وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا} أي وكانوا أحقَّ بهذه الفضيلة من كفار مكة، لأن الله اختارهم لدينه وصحبة نبيه صلى الله عليه وسلم {وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا} أي عالماً بمن هو أهل للفضل، فيخصه بمزيد من الخير والتكريم.



تصديق الله لرؤيا نبيه بدخول مكة فاتحاً



{لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا(27)هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا(28)}.



سبب النزول:

نزول الآية (27):

{لَقَدْ صَدَقَ}: أخرج الفريابي وعبد بن حميد والبيهقي في "الدلائل" عن مجاهد قال: أُري النبي صلى الله عليه وسلم، وهو بالحديبية أنه يدخل مكة هو وأصحابه آمنين محلقين رؤوسهم ومقصرين، فلما نحر الهدي بالحديبية قال أصحابه: أين رؤياك يا رسول الله، فنزلت: {لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا} الآية.



ثم أخبر تعالى عن رؤيا رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام - وهي رؤيا حق - لأنها جزء من الوحي فقال {لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ} اللام موطئة للقسم، و "قد" للتحقيق أي والله لقد جعل الله رؤيا رسوله صادقة محققة لم يدخلها الشيطان لأنها رؤيا حق.

قال المفسرون: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد رأى في منامه أنه دخل مكة هو وأصحابه وطافوا بالبيت، ثم حلق بعضهم وقصَّر بعضهم، فحدَّث بها أصحابه ففرحوا واستبشروا، فلما خرج إِلى الحديبية مع الصحابة، وصدَّه المشركون عن دخول مكة، ووقع ما وقع من قضية الصلح، ارتاب المنافقون وقالوا: واللهِ ما حلقنا ولا قصَّرنا ولا رأينا البيت، فأين هي الرؤيا؟ ووقع في نفوس بعض المسلمين شيء فنزلت الآية {لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ} فأعلم تعالى أن رؤيا رسوله حقٌّ، وأنه لم يكذب فيما رأى، ولكنه ليس في الرؤيا أنه يدخلها عام ستٍ من الهجرة، وإِنما أراه مجرد صورة الدخول، وقد حقق الله له ذلك بعد عام فذلك قوله تعالى {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ} أي لتدخلن يا محمد أنت وأصحابك المسجد الحرام بمشيئة الله {آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ} أي تدخلونها آمنين من العدو، تؤدون مناسك العمرة ثم يحلق بعضكم رأسه، ويقصِّر بعض {لا تَخَافُونَ} أي غير خائفين، وليس فيه تكرارٌ لأن المراد آمنين وقت دخولكم، وحال المكث، وحال الخروج.

{فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا} أي فعلم تعالى ما في الصلح من الحكمة والخير والمصلحة لكم ما لم تعلموه أنتم، قال ابن جزي: يريد ما قدَّره تعالى من ظهور الإِسلام في تلك المدة، فإِنه لما انعقد الصلح وارتفعت الحرب، رغب الناس في الإِسلام، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة الحديبية في ألف وأربعمائة، وغزا "غزوة الفتح" بعدها بعامين ومعه عشرة آلاف.

{فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا} أي فجعل قبل ذلك فتحاً عاجلاً لكم وهو "صلح الحديبية" وسُمي فتحاً لما ترتَّب عليه من الآثار الجليلة، والعواقب الحميدة، ولهذا روى البخاري عن البراء رضي الله عنه: "تعدُّون أنتم الفتح "فتح مكة" وقد كان فتح مكة فتحاً، ونحن نعدُّ الفتح "بيعة الرضوان" يوم الحديبية .." الحديث.

{هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} أي هو جلَّ وعلا الذي أرسل محمداً بالهداية التامة الشاملة الكاملة، والدين الحق المستقيم دين الإِسلام {وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا} أي وكفى بالله شاهداً على أن محمداً رسوله.



أوصاف صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم



{مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطئَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمْ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا(29)}.



ثم أثنى تعالى على أصحاب رسول الله بالثناء العاطر، وشهد لرسوله بصدق الرسالة فقال {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ} أي هذا الرسول المسمَّى محمداً هو رسولُ الله حقاً لا كما يقول المشركون {وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} أي وأصحابه الأبرار الأخيار غلاظٌ على الكفار متراحمون فيما بينهم كقوله تعالى {أذلةٍ على المؤمنين أعزةٍ على الكافرين} قال أبو السعود: أي يظهرون لمن خالف دينهم الشدة والصلابة، ولمن وافقهم في الدين الرحمة والرأفة، قال المفسرون: وذلك لأن لله أمرهم بالغلظة عليهم {وليجدوا فيكم غِلظة} وقد بلغ من تشديدهم على الكفار أنهم كانوا يتحرزون من ثيابهم أن تمسَّ أبدانهم، وكان الواحد منهم إِذا رأى أخاه في الدين صافحه وعانقه.

{تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا} أي تراهم أيها السامع راكعين ساجدين من كثرة صلاتهم وعبادتهم، رهبانٌ بالليل أسودٌ بالنهار {يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ اللَّهِ وَرِضْوَانًا} أي يطلبون بعبادتهم رحمة الله ورضوانه، قال ابن كثير: وصفهم بكثرة الصلاة وهي خير الأعمال، ووصفهم بالإِخلاص لله عز وجل والاحتساب عنده بجزيل الثواب، وهو الجنة المشتملة على فضل الله ورضاه {سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ} أي علامتهم وسمتُهم كائنة في جباههم من كثرة السجود والصلاة، قال القرطبي: لاحت في وجوههم علامات التهجد بالليل وأمارات السهر، قال ابن جريج: هو الوقار والبهاء، وقال مجاهد: هو الخشوع والتواضع، قال منصور سألت مجاهداً عن قوله تعالى {سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ} أهو أثرٌ يكون بين عيني الرجل؟ قال: لا، ربما يكون بين عيني الرجل مثل ركبة العنز وهو أقسى قلباً من الحجارة، ولكنه نورٌ في وجوههم من الخشوع.

{ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ} أي ذلك وصفهم في التوراة: الشدة على الكفار، والرحمة بالمؤمنين، وكثرة الصلاة والسجود {وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْئهُ} أي ومثلهم في الإِنجيل كزرعٍ أخرج فراخه وفروعه {فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ} أي فقوَّاه حتى صار غليظاً {فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ} أي فقام الزرع واستقام على أصوله {يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمْ الْكُفَّارَ} أي يعجب هذا الزرع الزراع، بقوته وكثافته وحسن منظره، ليغتاظ بهم الكفار، قال الضحّاك: هذا مثل في غاية البيان، فالزرع محمد صلى الله عليه وسلم، والشطءُ أصحابُه، كانوا قليلاً فكثروا، وضعفاء فقووا، وقال القرطبي: وهذا مثلٌ ضربه الله تعالى لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يعني أنهم يكونون قليلاً ثم يزدادون ويكثرون، فكان النبي صلى الله عليه وسلم حين بدأ بالدعوة ضعيفاً، فأجابه الواحد بعد الواحد حتى قوي أمره، كالزرع يبدو بعد البذر ضعيفاً فيقوى حالاً بعد حتى يغلظ نباته، وأفراخه، فكان هذا من أصح مثل وأقوى بيان {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} أي وعدهم تعالى بالآخرة بالمغفرة التامة والأجر العظيم والرزق الكريم في جنات النعيم، اللهم ارزقنا محبتهم يا رب العالمين.

لقاء الجنة
2011-04-01, 18:18
اخي الكريم اهنئك من كل قلبي على هذا الموضوع المميز....

و الله ما شاء الله....

اسعد الله اوقاتك و رزقك العفو و المغفرة...

و جمعك باحسن الخلق سيدنا محمدعليه الصلاة والسلام و على آله وصحبه الطيبين الطاهرين...

و من اتبع هديه باحسان الى يوم الدين..

تحياتي و احترامي لك اخي...

http://www.w6w.net/album/35/w6w_200505201626245997a2369958.gif

yacine414
2011-04-01, 20:04
سورة الحجرات



التسميَــة:

طاعة الله تعالى والرسول، والأدب في الخطاب مع النبي صلى الله عليه وسلم:

وجوب التثبت عند نقل الأخبار:

حكم البغاة:

الآداب فيما بين المسلمين والناس كافة:

حقيقة الإيمان الصحيح:

صفة المؤمنين الكُمَّل:



بَين يَدَي السُّورَة



* هذه السورة الكريمة مدنية، وهي على وجازتها سورة جليلةٌ ضخمة، تتضمن حقائق التربية الخالدة، وأسس المدنيّة الفاضلة، حتى سمَّاها بعض المفسرين "سورة الأخلاق".



* ابتدأت السورة الكريمة بالأدب الرفيع الذي أدَّب الله به المؤمنين، تجاه شريعة الله وأمر رسوله ، وهو ألاّ يُبرموا أمراً، أو يُبدوا رأياً، أو يقضوا حكماً في حضرة الرسول صلى الله عليه وسلم حتى يستشيروه ويستمسكوا بإِرشاداته الحكيمة {يَا أَيُّها الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ }.



* ثم انتقلت إلى أدبٍ آخر وهو خفض الصوت إِذا تحدثوا مع الرسول صلى الله عليه وسلم تعظيماً لقدره الشريف، واحتراماً لمقامه السامي، فإِنه ليس كعامة الناس بل هو رسول الله، ومن واجب المؤمنين أن يتأدبوا معه في الخطاب مع التعظيم والإِجلال {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ..}.



* ومن الأدب الخاص إِلى الأدب العام تنتقل السورة لتقرير دعائم المجتمع الفاضل، فتأمر المؤمنين بعدم السماع للإِشاعات، وتأمر بالتثبت من الأنباء والأخبار، لا سيما إن كان الخبر صادراً عن شخص غير عدل أو شخص متَّهم، فكم من كلمةٍ نقلها فاجر فاسق سبَّبت كارثةً من الكوارث، وكم من خبرٍ لم يتثبَّت منه سامعه جرَّ وبالاً، وأحدث انقساماً {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا..}.



* ودَعَت السورة إِلى الإِصلاح بين المتخاصمين، ودفع عدوان الباغين {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا..} الآيات.



* وحذَّرت السورة من السخرية والهمز واللمز، ونفَّرت من الغيبة والتجسس والظن السيء بالمؤمنين، ودعت إِلى مكارم الأخلاق، والفضائل الاجتماعية، وحين حذَّرت من الغيبة جاء النهي في تعبير رائع عجيب، أبدعه القرآن غاية الإِبداع، صورة رجل يجلس إِلى جنب أخٍ له ميت ينهش منه ويأكل لحمه {وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ..} ويا له من تنفير عجيب!!



* وختمت السورة بالحديث عن الأعراب الذين ظنوا الإِيمان كلمةً تقال باللسان، وجاءوا يمنُّون على الرسول إِيمانهم، فبينت حقيقة الإِيمان، وحقيقة الإِسلام، وشروط المؤمن الكامل وهو الذي جمع الإِيمان والإِخلاص والجهاد والعمل الصالح {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمْ الصَّادِقُونَ..} إِلى آخر السورة الكريمة.



التسميَــة:

سميت "سورة الحجرات" لأن الله تعالى ذكر فيها حرمة بيوت النبي صلى الله عليه وسلم وهي الحجرات التي كان يسكنها أُمهات المؤمنين الطاهرات رضوان الله عليهن.







طاعة الله تعالى والرسول، والأدب في الخطاب مع النبي صلى الله عليه وسلم



{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ(1)يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ(2)إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ(3)إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ(4)وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ(5)}.



سبب النزول:

نزول الآية (1):

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا..}: أخرج البخاري والترمذي وغيرهما عن ابن أبي مُلَيكة أن عبد الله بن الزبير رضي الله عنه أخبره أنه قدم ركب من بني تميم على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال أبو بكر: أَمِّر القعقاع بن معبد، وقال عمر: بل أَمِّر الأقرع بن حابس، فقال أبو بكر: ما أردتَ إلا خلافي، وقال عمر: ما أردتُ خلافَك، فتماريا حتى ارتفعت أصواتهما، فنزل في ذلك قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} إلى قوله: {وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا} أي أن الآيات نزلت في مجادلة أبي بكر وعمر رضي الله عنهما عند النبي صلى الله عليه وسلم في تأمير القعقاع بن معبد أو الأقرع بن حابس.



نزول الآية (2):

{لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ}: أخرج ابن جرير عن قتادة قال: كانوا يجهرون له بالكلام، ويرفعون أصواتهم، فأنزل الله: {لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ} الآية.



نزول الآية (3):

{ إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ}: أخرج ابن جرير عن محمد بن ثابت بن قيس بن شماس قال: لما نزلت هذه الآية: {لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ} قعد ثابت بن قيس في الطريق يبكي، فمرّ به عاصم بن عدي بن العجلان، فقال: ما يبكيك؟ قال: هذه الآية أتخوف أن تكون نزلت فيّ، وأنا صيِّت رفيع الصوت، فرفع ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدعا به، فقال: أما ترضى أن تعيش حميداً، وتقتل شهيداً، وتدخل الجنة؟ قال: رضيت، ولا أرفع صوتي أبداً على صوت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله: { إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ} الآية. والقصة مروية أيضاً في الصحيحين عن أنس بن مالك.



نزول الآية (4):

{إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ..}: أخرج الطبراني وأبو يعلى بسند حسن عن زيد بن أرْقَم قال: جاء ناس من العرب إلى حُجَر النبي صلى الله عليه وسلمن فجعلوا ينادون: يا محمد، يا محمد، فأنزل الله: {إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ} الآية.

وقال محمد بن إسحاق وغيره: نزلت في جفاة بني تميم، قدم وفد منهم على النبي صلى الله عليه وسلم، فدخلوا المسجد، فنادوا النبي صلى الله عليه وسلم من وراء حجرته أن اخرج إلينا يا محمد، فإن مدحنا زين، وإن ذمنا شين، فآذى ذلك من صياحهم النبي صلى الله عليه وسلم، فخرج إليهم، فقالوا: إنا جئناك يا محمد نفاخرك، ونزل فيهم: {إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ}. وكان فيهم الأقرع بن حابس، وعُييْنة بن حصن، والزِّبرقان بن بدر، وقيس بن عاصم.



{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} أي يا أيها المؤمنون، يا من اتصفتم بالإِيمان، وصدَّقتم بكتاب الله، لا تُقدموا أمراً أو فعلاً بين يدي الله ورسوله، وحُذِف المفعول للتعميم ليذهب ذهن السامع إِلى كل ما يمكن تقديمه من قولٍ أو فعل، كما إِذا عرضت مسألة في مجلسه صلى الله عليه وسلم لا يسبقونه بالجواب، وإِذا حضر الطعام لا يبتدئون بالأكل، وإِذا ذهبوا معه إِلى مكان لا يمشون أمامه ونحو ذلك، قال ابن عباس: نُهُوا أن يتكلموا بين يدي كلامه صلى الله عليه وسلم، وقال الضحاك: لا تقضوا أمراً دون الله ورسوله من شرائع دينكم، وقال البيضاوي: المعنى لا تقطعوا أمراً قبل أن يحكم الله ورسوله به، وقيل: المراد بين يدي رسول الله، وذُكر اللهُ تعظيماً له وإِشعاراً بأنه من الله بمكان يوجب إجلاله {وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} أي واتقوا الله فيما أمركم به، إِن الله سميعٌ لأقوالكم، عليمٌ بنياتكم وأحوالكم، وإِظهار الاسم الجليل لتربية المهابة والروعة في النفس ..

ثم أرشد تعالى المؤمنين إِلى وجوب توقير الرسول وإِجلاله واحترامه فقال يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ} أي إِذا كلمتم رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فاخفضوا أصواتكم ولا ترفعوها على صوتِ النبي {وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ} أي ولا تبلغوا حدَّ الجهر عند مخاطبته صلى الله عليه وسلم كما يجهر بعضكم في الحديث مع البعض، ولا تخاطبوه باسمه وكنيته كما يخاطب بعضكم بعضاً فتقولوا: يا محمد، ولكنْ قولوا يا نبيَّ الله، ويا رسول الله، تعظيماً لقدره، ومراعاةً للأدب، قال المفسرون: نزلت في بعض الأعراب الجفاة الذين كانوا ينادون رسول الله باسمه، ولا يعرفون توقير الرسول الكريم.

{أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ} أي خشية أن تبطل أعمالكم من حيث لا تشعرون ولا تدرون، فإِن في رفع الصوت والجهر بالكلام في حضرته صلى الله عليه وسلم استخفافاً قد يؤدي إِلى الكفر المحبط للعمل، قال ابن كثير: روي أن ثابت بن قيس كان رفيع الصوت، فلما نزلت الآية قال: أنا الذي كنتُ أرفع صوتي على رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا من أهل النار، حبط عملي، وجلس في أهله حزيناً، فافتقده رسول الله صلى الله عليه وسلم فانطلق بعض القوم إِليه فقالوا له: تفقَّدك رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لك؟ فقال: أنا الذي أرفع صوتي فوق صوت النبي صلى الله عليه وسلم حبط عملي أنا من أهل النار، فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم فأخبروه بما قال، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا بل هو من أهل الجنة، وفي رواية "أترضى أن تعيش حميداً، وتقتل شهيداً،وتدخل الجنة؟فقال: رضيتُ ببشرى الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم ولا أرفع صوتي أبداً على صوت رسول الله صلى الله عليه وسلم.

{إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى} أي إِن الذين يخفضون أصواتهم في حضرة الرسول صلى الله عليه وسلم أولئك الذين أخلص الله قلوبهم للتقوى ومرَّنها عليها وجعلها صفة راسخةً فيها، قال ابن كثير: أي أخلصها للتقوى وجعلها أهلاً ومحلاً {لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ} أي لهم في الآخرة صفحٌ عن ذنوبهم، وثواب عظيم في جنات النعيم .. ثم ذمَّ تعالى الأعراب الجفاة الذين ما كانوا يتأدبون في ندائهم للرسول صلى الله عليه وسلم فقال: {إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ} أي يدعونك من وراء الحجرات، منازِل أزواجك الطاهرات {أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ} أي أكثر هؤلاء غير عقلاء، إذ العقل يقتضي حسن الأدب، ومراعاة العظماء عند خطابهم، سيّما لمن كان بهذا المنصب الخطير، قال البيضاوي: قيل إِن الذي ناداه "عُيينة بن حُصن" و "الأقرع بن حابس" وَفَدَا على رسول الله صلى الله عليه وسلم في سبعين رجلاً من بني تميم وقت الظهيرة وهو راقد فقالا يا محمد اخرج إِلينا.

{وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ} أي ولو أنَّ هؤلاء المنادين لم يزعجوا الرسول صلى الله عليه وسلم بمناداتهم وصبروا حتى يخرج إليهم لكان ذلك الصبر خيراً لهم وأفضل عند الله وعند الناس، لما فيه من مراعاة الأدب في مقام النبوة {وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} أي الغفور لذنوب العباد، الرحيم بالمؤمنين حيث اقتصر على نصحهم وتقريعهم، ولم يُنزل العقاب بهم.

yacine414
2011-04-01, 20:13
وجوب التثبت عند نقل الأخبار



{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ(6)وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمْ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمْ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُوْلَئِكَ هُمْ الرَّاشِدُونَ(7)فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ(8)}.



سبب النزول:

نزول الآية (6):

{يا أيُّها الذين آمَنُوا إِنْ جَاءكُمْ فَاسِقٌ}: ذكر كثير من المفسرين أن هذه الآية نزلت في الوليد بن عُقْبة. أخرج ابن جرير وأحمد وابن حاتم والطبراني وابن أبي الدنيا وابن مردويه بسند جيد عن ابن عباس: أن الآية نزلت في الوليد بن عقبة بن أبي مُعَيْط، بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بني الْمُصْطَلِق مُصَدِّقاً، وكان بينهما إحنة، فلما سمعوا به ركبوا إليه، فلما سمع بهم خافهم، فرجع فقال: إن القوم همّوا بقتلي، ومنعوا صدقاتهم، فهمَّ النبي صلى الله عليه وسلم بغزوهم، فبينا هم في ذلك إذ قَدِم وفدهم، وقالوا: يا رسول الله، سمعنا برسولك، فخرجنا نكرمه، ونؤدي إليه ما قبلنا من الصدقة، يقاتل مقاتلتكم، ويسبي ذراريكم" ثم ضرب بيده على كَتِف علي رضي الله عنه، فقالوا: نعوذ بالله من غضبه وغضب رسوله صلى الله عليه وسلم.

وقيل: بعث إليهم خالد بن الوليد، فوجدهم منادين بالصلاة، متهجدين، فسلموا إليه الصدقات، فرجع.

ولا خلاف في أن الشخص الذي جاء بالنبأ هو الوليد بن عقبة بن أبي معيط. والآية وإن وردت لسبب خاص فهي عامة لبيان التثبت، وترك الاعتماد على قول الفاسق.



ثم حذَّر تعالى من الاستماع للأخبار بغير تثبت فقال {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ} أي إِذا أتاكم رجل فاسق - غير موثوق بصدقه وعدالته - بخبرٍ من الأخبار {فَتَبَيَّنُوا} أي فتثبتوا من صحة الخبر {أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ} أي لئلا تصيبوا قوماً وأنتم جاهلون حقيقة الأمر {فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلتُمْ نَادِمِينَ} أي فتصيروا نادمين أشد الندم على صنيعكم {وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ} أي واعلموا - أيها المؤمنون - أنَّ بينكم الرسول المعظَّم، والنبيَّ المكرم، المعصوم عن اتباع الهوى {لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الأَمْرِ لَعَنِتُّمْ} أي لو يسمع وشاياتكم، ويصغي بسمعه لإِرادتكم، ويطيعكم في غالب ما تشيرون عليه من الأمور، لوقعتم في الجهد والهلاك، قال ابن كثير: أي اعلموا أنَّ بين أظهركم رسول الله فعظّموه ووقروه، فإِنه أعلم بمصالحكم وأشفق عليكم منكم، ولو أطاعكم في جميع ما تختارونه لأدَّى ذلك إلى عنتكم وحرجكم {وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمْ الإِيمَانَ} أي ولكنه تعالى - بمنّه وفضله - نوَّر بصائركم فحبَّب إِلى نفوسكم الإِيمان {وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ} أي وحسَّنه في قلوبكم، حتى أصبح أغلى عندكم من كل شيء {وَكَرَّهَ إِلَيْكُمْ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ} أي وبغَّض إِلى نفوسكم أنواع الضلال، من الكفر والمعاصي والخروج عن طاعة الله، قال ابن كثير: والمراد بالفسوق الذنوبُ الكبار، وبالعصيان جميع المعاصي {أُوْلَئِكَ هُمْ الرَّاشِدُونَ} أي أولئك المتصفون بالنعوت الجليلة هم المهتدون، الراشدون في سيرتهم وسلوكهم، والجملة تفيد الحصر أي هم الراشدون لا غيرهم {فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً} أي هذا العطاء تفضلٌ منه تعالى عليكم وإِنعام {وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} أي عليمٌ بمن يستحق الهداية، حكيم في خلقه وصنعه وتدبيره.





حكم البغاة



{وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ(9)إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ(10)}.



سبب النزول:

نزول الآية (9):

{وَإِنْ طَائِفَتَانِ..}: أخرج أحمد والبخاري ومسلم وابن جرير وغيرهم عن أنس بن مالك رضي الله عنه: "أنه قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: يا نبي الله، لو أتيتَ عبد الله بن أُبَيّ، فانطلَقَ إليه على حمار، وانطلق المسلمون يمشون، وهي أرض سَبِخَةُ، فبال الحمار فقال: إليك عني، فوالله لقد آذاني نَتْنُ حِمَارك، فقال عبد الله بن رَوَاحة: والله، إن بول حماره أطيب ريحاً منك، فغضِب لعبد الله رجل من قومه، وغضب لكل واحد منهما أصحابه، فوقع بينهم حرب بالجريد والأيدي والنعِّال، فأنزل الله فيهم: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا..}".



ثم عقَّب تعالى على ما يترتب على سماع الأنباء المكذوبة من تخاصم وتباغضٍ وتقاتل فقال {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} أي وإِنْ حدث أنَّ فئتين وجماعتين من إِخوانكم المؤمنين جنحوا إِلى القتال فأصلحوا بينهما، واسعوا جهدكم للإِصلاح بينهما، والجمعُ في {اقْتَتَلُوا} باعتبار المعنى، والتثنية في {بَيْنَهُمَا} باعتبار اللفظ {فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى} أي فإِن بغت إحداهما على الأخرى، وتجاوزت حدَّها بالظلم والطغيان، ولم تقبل الصلح وصمَّمت على البغي {فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} أي فقاتلوا الفئة الباغية حتى ترجع إِلى حكم الله وشرعه، وتُقلع عن البغي والعدوان، وتعمل بمقتضى أخوة الإِسلام {فَإِنْ فَاءتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا} أي فإِن رجعت وكفَّت عن القتال فأصلحوا بينهما بالعدل، دون حيفٍ على إِحدى الفئتين، واعدلوا في جميع أموركم {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} أي يحبُّ العادلين الذين لا يجورون في أحكامهم، قال البيضاوي: والآية نزلت في قتالٍ حدث بين "الأوس" و "الخزرج" في عهده صلى الله عليه وسلم كان فيه ضرب بالسَّعف والنعال، وهي تدلُّ على أن الباغي مؤمن، وأنه إِذا كفَّ عن الحرب تُرِك، وأنه يجب تقديم النصح والسعي في المصالحة.

{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} أي ليسوا إِلا إِخوة، جمعتهم رابطة الإِيمان، فلا ينبغي أن تكون بينهم عداوة ولا شحناء، ولا تباغضٌ ولا تقاتل، قال المفسرون: {إِنَّمَا} للحصر فكأنه يقول: لا أخوَّة إِلا بين المؤمنين، ولا أخوة بين مؤمن وكافر، وفي الآية إشارة إِلى أنَّ أخوة الإِسلام أقوى من أخوَّة النسب، بحيث لا تعتبر أخوَّة النسب إِذا خلت عن أخوة الإِسلام {فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} أي فأصلحوا بين إِخوانكم المؤمنين، ولا تتركوا الفرقة تدبُّ، والبغضاء تعمل عملها {وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} أي اتقوا الله تعالى بامتثال أوامره واجتناب نواهيه، لتنالكم رحمته، وتسعدوا بجنته ومرضاته.





الآداب فيما بين المسلمين الناس كافة



{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلا تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ(11)يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ(12) يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ(13)}.



سبب النزول:

نزول الآية (11):

{لا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ}: قال الضحاك: نزلت في وفد بني تميم الذين تقدم ذكرهم في بيان سبب نزول الآية الأولى من هذه السورة، استهزؤوا بفقراء الصحابة، مثل عمَّار وخَبَّاب وابن فُهَيْرة وبِلال وصُهْيَب وسلمان وسالم مَوْلى أبي حذيفة وغيرهم، لِمَا رأوا من رثاثة حالهم، فنزلت في الذين آمنوا منهم.



نزول الآية (11) أيضاً:

{وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ}: قال ابن عباس: إن صفيّة بنت حُيَيّ بن أخْطب أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: يا رسول الله، إن النساء يُعَيِّرنني، ويقلُنَ لي: يا يهودية بنت يهوديّين! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هلا قلتِ: إن أبي هارون، وإن عمي موسى، وإن زوجي محمد" فأنزل الله هذه الآية.



نزول الآية (11) كذلك:

{وَلا تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ}: أخرج أصحاب السنن الأربعة عن أبي جبيرة بن الضحاك قال: كان الرجل منا يكون له الاسمان والثلاثة، فيدعى ببعضها، فعسى أن يكرهه، فنزلت: {وَلا تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ} قال الترمذي: حسن.



نزول الآية (12):

{وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا}: أخرج ابن المنذر عن ابن جريج قال: زعموا أنها نزلت في سلمان الفارسي أكل ثم رقد، فذكر رجل أكله ورقاده، فنزلت.



نزول الآية (13):

{يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ }: أخرج ابن أبي حاتم عن ابن أبي مُلَيْكة قال: لما كان يوم الفتح، رَقِيَ بلال على ظهر الكعبة، فأذّن، فقال بعض الناس: أهذا العبد الأسود يؤذّن على ظهر الكعبة؟ فقال بعضهم: إن يَسْخَطِ اللهُ هذا يغيّره أو إن يرد الله شيئاً يغيره، فأنزل الله: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى} الآية، فدعاهم النبي صلى الله عليه وسلم وزجرهم على التفاخر بالأنساب والتكاثر بالأموال والازدراء بالفقراء.



{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ} أي يا معشر المؤمنين، يا من اتصفتم بالإِيمان، وصدَّقتم بكتاب الله وبرسوله، لا يهزأ جماعة بجماعة، ولا يسخر أحد من أحد، فقد يكون المسخور منه خيراً عند الله من الساخر، "وربَّ أشعث أغبر ذو طمرين لو أقسم على الله لأبرَّه" {وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ} أي ولا يسخر نساء من نساء فعسى أن تكون المحتقر منها خيراً عند الله وأفضل من الساخرة.

{وَلا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلا تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ} أي ولا يعب بعضكم بعضاً، ولا يدع بعضكم بعضاً بلقب السوء، وإِنما قال {أنفسكم} لأن المسلمين كأنهم نفسٌ واحدة {بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإِيمَانِ} أي بئس أن يسمى الإِنسان فاسقاً بعد أن صار مؤمناً، قال البيضاوي: وفي الآية دلالة على أن التنابز فسقٌ، والجمع بينه وبين الإِيمان مستقبح {وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ} أي ومن لم يتبْ عن اللَّمز والتنابز فأولئك هم الظالمون بتعريض أنفسهم للعذاب.

{يَا يُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ} أي ابتعدوا عن التهمة والتخون وإِساءة الظنِّ بالأهل والناس، وعبَّر بالكثير ليحتاط الإِنسان في كل ظنٍّ ولا يسارع فيه بل يتأملُ ويتحقَّق {إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} أي إِنَّ في بعض الظنَِّ إِثم وذنب يستحق صاحبه العقوبة عليه قال عمر رضي الله عنه: "لا تظُنَّنَّ بكلمةٍ خرجت من أخيكَ المؤمنِ إِلا خيراً، وأنت تجدُ لها في الخير محملاً" {وَلا تَجَسَّسُوا} أي لا تبحثوا عن عورات المسلمين ولا تتبعوا معايبهم {وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا} أي لا يذكر بعضكم بعضاً بالسوء في غيبته بما يكرهه {أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا} تمثيلٌ لشناعة الغيبة وقبحها بما لا مزيد عليه من التقبيح أي هل يحب الواحد منكم أن يأكل لحم أخيه المسلم وهو ميت؟ {فَكَرِهْتُمُوهُ} أي فكما تكرهون هذا طبعاً فاكرهوا الغيبة شرعاً، فإِن عقوبتها أشدُّ من هذا .. شبَّه تعالى الغيبة بأكل لحم الأخ حال كونه ميتاً، وإِذا كان الإِنسان يكره لحم الإِنسان - فضلاً عن كونه أخاً، وفضلاً عن كونه ميتاً وجب عليه أن يكره الغيبة بمثل هذه الكراهة أو أشد.

{وَاتَّقُوا اللَّهَ} أي خافوا الله واحذروا عقابه، بامتثال أوامره واجتناب نواهيه {إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ} أي إِنه تعالى كثير التوبة، عظيم الرحمة، لمن اتقى اللهَ وتاب وأناب، وفيه حثٌ على التوبة، وترغيبٌ بالمسارعة إِلى الندم والاعتراف بالخطأ لئلا يقنط الإِنسان من رحمة الله.

{يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى} الخطاب لجميع البشر أي نحن بقدرتنا خلقناكم من أصلٍ واحد، وأوجدناكم من أب وأم فلا تفاخر بالآباء والأجداد، ولا اعتداد بالحسب والنسب، كلكم لآدم وآدمُ من تراب {وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا} أي وجعلناكم شعوباً شتى وقبائل متعددة، ليحصل بينكم التعارف والتآلف، لا التناحر والتخالف، قال مجاهد: ليعرف الإِنسان نسبه فيقال فلان بن فلان من قبيلة كذا، وأصل تعارفوا تتعارفوا حذفت إِحدى التاءين تخفيفاً. قال شيخ زاده: والمعنى أن الحكمة التي من أجلها جعلكم على شعوب وقبائل هي أن يعرف بعضكم نسب بعض ولا ينسبه إِلى غير آبائه، لا أن يتفاخر بالآباء والأجداد، والنسبُ وإِن كان يُعتبر عرفاً وشرعاً، حتى لا تُزوج الشريفة بالنبطيّ، إلا أنه لا عبرة به عند ظهور ما هو أعظم قدراً منه وأعز، وهو الإِيمان والتقوى، كما لا تظهر الكواكب عند طلوع الشمس.

{إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} أي إِنما يتفاضل الناس بالتقوى لا بالأحساب والأنساب، فمن أراد شرفاً في الدنيا ومنزلةً في الآخرة فليتق الله كما قال صلى الله عليه وسلم: (من سرَّه أن يكون أكرم الناس فليتَّق الله) وفي الحديث (الناسُ رجلان: رجل بَرٌّ تقي كريم على الله تعالى، ورجل فاجر شقي هيّن على الله تعالى) {إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} أي عليمٌ بالعباد، مطلع على ظواهرهم وبواطنهم، يعلم التقي والشقي، والصالح والطالح {فَلا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ اتَّقَى} [النجم: 32].





حقيقة الإيمان الصحيح



{قَالَتْ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلْ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ(14)}



سبب النزول:

نزول الآية (14) :

{قَالَتْ الأَعْرَابُ}: نزلت في نفر من بني أسد بن خزيمة، قدموا المدينة في سنة جدبة، وأظهروا الشهادتين، ولم يكونوا مؤمنين في السرّ، وكانوا يقولون لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أتيناك بالأثقال والعيال، ولم نقاتلك كما قاتلك بنو فلان، فأعطنا من الصدقة، وجعلوا يمنون عليه، فأنزل الله تعالى فيهم هذه الآية.



{قَالَتْ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا} أي زعم الأعراب أنهم آمنوا. قل لهم يا محمد: إِنكم لم تؤمنوا بعد، لأن الإِيمان تصديقٌ مع ثقة واطمئنان قلب، ولم يحصل لكم، وإِلا لما مننتم على الرسول بالإِسلام وترك المقاتلة، ولكنْ قولوا استسلمنا خوف القتل والسبي، وقد دلت الآية على أن الإِيمان مرتبةٌ أعلى من الإِسلام، الذي هو الاستسلام والانقياد بالظاهر ولهذا قال تعالى: {وَلَمَّا يَدْخُلْ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} أي ولم يدخل الإِيمان إِلى قلوبكم ولم تَصِلوا إِلى حقيقته بعد، ولفظةُ "لمَّا" تفيد التوقع كأنه يقول: وسيحصل لكم الإِيمان عند اطلاعكم على محاسن الإِسلام، وتذوقكم لحلاوة الإِيمان، قال ابن كثير: وهؤلاء الأعراب المذكورون في هذه الآية ليسوا منافقين، وإِنما هم مسلمون لم يستحكم الإِيمان في قلوبهم، فادَّعوا لأنفسهم مقاماً أعلى مما وصلوا إِليه فُأدِّبوا في ذلك، ولو كانوا منافقين - كما ذهب إليه البخاري - لعُنفوا وفُضِحوا.

{وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا} أي وإِن أطعتم الله ورسوله بالإِخلاص الصادق، والإِيمان الكامل، وعدم المنِّ على الرسول لا ينقصكم من أجوركم شيئاً {إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} أي عظيم المغفرة، واسع الرحمة، لأن صيغة "فعول" و "فعيل" تفيد المبالغة.



صفة المؤمنين الكُمَّل



{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمْ الصَّادِقُونَ(15)قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ(16)يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلْ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلإِيمَانِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ(17)إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ(18)}.



ثم ذكر تعالى صفات المؤمنين الكُمَّل الصادقين في إِيمانهم فقال {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} أي إِنما المؤمنون الصادقون في دعوى الإِيمان، الذين صدَّقوا الله ورسوله، فأقروا للهَ بالوَحدانية، ولرسوله بالرسالة، عن يقين راسخ وإِيمان كامل {ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا} أي ثم لم يشكوا ويتزلزلوا في إِيمانهم بل ثبتوا على التصديق واليقين {وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} أي وبذلوا أموالهم ومهجهم في سبيل الله وابتغاء رضوانه {أُوْلَئِكَ هُمْ الصَّادِقُونَ} أي أولئك الذين صدقوا في ادعاء الإِيمان.

وصف تعالى المؤمنين الكاملين بثلاثة أوصاف: الأول: التصديق الجازم بالله ورسوله. الثاني: عدم الشك والارتياب. الثالث:الجهاد بالمال والنفس، فمن جمع هذه الأوصاف فهو المؤمن الصادق

{قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ} الاستفهام للإِنكار والتوبيخ أي قل لهم يا محمد: أتخبرون الله بما في ضمائركم وقلوبكم؟ {وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ} أي وهو جل وعلا العليم بأحوال جميع العباد، لا تخفى عليه خافية لا في السماوات ولا في الأرض {وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} أي واسع العلم رقيب على كل شيء، لا يعزب عنه مثقال ذرة، ولا أصغر من ذلك ولا أكبر.

{يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا} أي يعدُّون إِسلامهم عليك يا محمد منَّة، يستوجبون عليها الحمد والثناء {قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ} أي قل لهم لا تمتنوا عليَّ بإِسلامكم، فإِن نفع ذلك عائد عليكم {بَلْ اللَّهُ يمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلإِيمَانِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} أي بل للهِ المنةُ العظمى عليكم، بالهداية للإِيمان والتثبيت عليه، إِن كنتم صادقين في دعوى الإِيمان {إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} أي يعلم ما غاب عن الأبصار في السماوات والأرض {وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} أي مطلَّع على أعمال العباد، لا تخفى عليه خافية .. كرَّر تعالى الإِخبار بعلمه بجميع الكائنات، وإِحاطته بجميع المخلوقات، ليدل على سعة علمه، وشموله لكل صغيرة وكبيرة، في السر والعلن، والظاهر والباطن.

yacine414
2011-04-01, 20:16
سورة ق



إنكار المشركين البعث

من دلائل القدرة الدالة على عظمة الله تعالى

تذكير كفار مكة بمن سبقهم من المكذبين

سعة علم الله وكمال قدرته

الحوار بين الكافر وشيطانه يوم القيامة

حال المتقين

تخويف منكري البعث، وأوامر للرسول صلى الله عليه وسلم



بَين يَدَيْ السُّورَة



* هذه السورة مكية وهي تعالج أصول العقيدة الإِسلامية "الوَحدانية، الرسالة، البعث" ولكنَّ المحور الذي تدور حوله هو موضوع "البعث والنشور" حتى ليكاد يكون هو الطابع الخاص للسورة الكريمة، وقد عالجه القرآن بالبرهان الناصع، والحجة الدامغة. وهذه السورة رهيبة، شديدة الوقع على الحسِّ، تهزُّ القلب هزَّاً، وترجُّ النفس رجاً، وتثير فيها روعة الإِعجاب، ورعشة الخوف بما فيها من الترغيب والترهيب.



* ابتدأت السورة بالقضية الأساسية التي أنكرها كفار قريش، وتعجبوا منها غاية العجب، وهي قضية الحياة بعد الموت، والبعث بعد الفناء { ق * وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ* بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ * أَءِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ.. } الآيات.



* ثم لفتت السورة أنظار المشركين - المنكرين للبعث - إِلى قدرة الله العظيمة، المتجلية في صفحات هذا الكون المنظور، في السماء والأرض، والماء والنبات، والثمر والطلع، والنخيل والزرع وكلها براهين قاطعة على قدرة العلي الكبير {أفلم ينظروا إِلى السماء فوقهم كيف بنيناها ..} الآيات.



* وانتقلت السورة الكريمة للحديث عن المكذبين من الأمم السالفة، وما حلَّ بهم من الكوارث وأنواع العذاب، تحذيراً لكفار مكة أن يحل بهم ما حلَّ بالسابقين {كذبت قبلهم قوم نوحٍ وأصحاب الرس وثمود ..} الآيات.



* ثم انتقلت السورة للحديث عن سكرة الموت، ووهلة الحشر، وهول الحساب، وما يلقاه المجرم في ذلك اليوم العصيب من أهوال وشدائد تنتهي به بإِلقائه في الجحيم {ونفخ في الصور ذلك اليوم الوعيد ..} الآيات.



* وختمت السورة الكريمة بالحديث عن "صيحة الحقِّ" وهي الصيحة التي يخرج الناس بها من القبور كأنهم جراد منتشر، ويساقون للحساب والجزاء لا يخفى على الله منهم أحد، وفيه إِثباتٌ للبعث والنشور الذي كذب به المشركون {واستمع يوم يناد المناد من مكان قريب * يوم يسمعون الصيحة بالحق ذلك يوم الخروج ..} الآيات.



إنكار المشركين البعث



{ق وَالْقُرْءانِ الْمَجِيدِ(1)بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ(2)أَءِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ(3)قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ(4)بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ(5)}.



{ق} الحروف المقطعة للتنبيه على إِعجاز القرآن، وللإِشارة إِلى أن هذا الكتاب المعجز منظوم من أمثال هذه الحروف الهجائية {وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ} قسمٌ حذف جوابه أي أقسم بالقرآن الكريم، ذي المجد والشرف على سائر الكتب السماوية لتبعثنَّ بعد الموت، قال ابن كثير: وجواب القسم محذوف وهو مضمون الكلام بعده وهو إِثبات النبوة، وإِثبات المعاد وتقديره: إِنك يا محمد لرسول وإِنَّ البعث لحق، وهذا كثير في القرآن.

وقال أبو حيان: والقرآنُ مُقْسَمٌ به، والمجيد صفته وهو الشريف على غيره من الكتب، والجواب محذوفٌ يدل عليه ما بعده تقديره: لقد جئتهم منذراً بالبعث فلم يقبلوا.

{بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ} أي تعجب المشركون من إِرسال رسول إِليهم من البشر يخوفهم من عذاب الله {فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ} أي فقال كفار مكة: هذا شيءٌ في منتهى الغرابة والعجب، انتقل من الضمير إلى الاسم الظاهر لتسجيل جريمة الكفر عليهم، والآية إِنكار لتعجبهم مما ليس بعجب، فإِنهم قد عرفوا صدق الرسول وأمانته ونصحه، فكان الواجب عليهم أن يسارعوا إِلى الإِيمان لا أن يعجبوا ويستهزئوا.

ثم أخبر تعالى عن وجه تعجبهم فقال {أَءِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا} أي أئذا متنا واستحالت أجسادنا إِلى تراب هل سنحيا ونرجع كما كنَّا؟ {ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ} أي ذلك رجوع بعيد غاية البعد، مستحيل حصوله {قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الأَرْضُ مِنْهُمْ} أي قد علمنا ما تنقصه الأرض من أجسادهم، وما تأكله من لحومهم وأشعارهم ودمائهم إِذا ماتوا، فلا يضل عنا شيءٌ حتى تتعذَّر علينا الإِعادة {وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ} أي ومع علمنا الواسع عندنا كتاب حافظ لعددهم وأسمائهم وما تأكله الأرض منهم، وهو اللوح المحفوظ الذي يحصي تفصيل كل شيء {بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءهُمْ} إِضراب إِلى ما هو أفظع وأشنع من التعجب وهو التكذيب بالقرآن العظيم أي كذبوا بالقرآن حين جاءهم، مع سطوع ءاياته، ووضوح بيانه {فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ} أي فهم في أمرٍ مختلط مضطرب، فتارة يقولون عن الرسول إِنه ساحر، وتارةً يقولون إِنه شاعر، وتارة يقولون إِنه كاهن، وهكذا قالوا أيضاً عن القرآن إِنه سحر، أو شعر، أو أساطير الأولين إِلى غير ذلك.



من دلائل القدرة الدالة على عظمة الله تعالى



{أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ(6) وَالأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ(7)تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ(8)وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ(9)وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ(10)رِزْقًا لِلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ الْخُرُوجُ(11)}





ثم ذكر تعالى دلائل القدرة والوحدانية الدالة على عظمة رب العالمين فقال {أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ} أي أفلم ينظروا نظر تفكر واعتبار، إِلى السماء في ارتفاعها وإِحكامها، فيعلموا أن القادر على إِيجادها قادر على إِعادة الإِنسان بعد موته؟ {كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا} أي كيف رفعناها بلا عمد وزيناها بالنجوم {وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ} أي ما لها من شقوق وصدوع {وَالأَرْضَ مَدَدْنَاهَا} أي والأرض بسطناها ووسعناها {وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ} أي وجعلنا فيها جبالاً ثوابت تمنعها من الاضطراب بسكانها {وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ} أي وأنبتنا فيها من كل نوعٍ من النبات حسن المنظر، يبهج ويسر الناظر إِليه.

{تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ} أي فعلنا ذلك تبصيراً منا وتذكيراً على كمال قدرتنا، لكل عبد راجع إِلى الله متفكر في بديع مخلوقاته {وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا} أي ونزلنا من السحاب ماءً كثير المنافع والبركة {فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ} أي فأخرجنا بهذا الماء البساتين الناضرة، والأشجار المثمرة، وحبَّ الزرع المحصود، كالحنطة والشعير وسائر الحبوب التي تحصد.

{وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ} أي وأخرجنا شجر النخيل طوالاً مستويات {لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ} أي لها طلعٌ منضود، منظمٌ بعضه فوق بعض، قال أبو حيان: يريد كثرة الطلع وتراكمه وكثرة ما فيه من الثمر، وأول ظهور الثمر يكون منضَّداً كحب الرمان، فما دام ملتصقاً بعضه ببعض فهو نضيد، فإِذا خرج من أكمامه فليس بنضيد {رِزْقًا لِلْعِبَادِ} أي أنبتنا كل ذلك رزقاً للخلق لينتفعوا به {وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا} أي وأحيينا بذلك الماء أرضاً جدبة لا ماء فيها ولا زرع فأنبتنا فيها الكلأ والعشب {كَذَلِكَ الْخُرُوجُ} أي كما أحييناها بعد موتها كذلك نخرجكم أحياء بعد موتكم، قال ابن كثير: وهذه الأرض الميتة كانت هامدة، فلما نزل عليها الماء اهتزت وربت وأنبتت من كل زوجٍ بهيج من أزاهير وغير ذلك مما يحار الطرف في حسنها، وذلك بعد ما كانت لا نبات بها فأصبحت تهتز خضراء، فهذا مثال للبعث بعد الموت، فكما أحيا الله الأرض الميتة كذلك يَحْيي الله الموتى.



تذكير كفار مكة بمن سبقهم من المكذبين



{كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ(12)وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوَانُ لُوطٍ(13)وَأَصْحَابُ الأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ(14)أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ(15)}



ثم ذكَّر تعالى كفار مكة بما حلَّ بمن سبقهم من المكذبين إِنذاراً لهم وإِعذاراً فقال {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ} أي كذَّب قبل هؤلاء الكفار قوم نوح {وَأَصْحَابُ الرَّسِّ} أي وأصحاب البئر وهم بقية من ثمود رسُّوا نبيَّهم فيها أي دسُّوه فيها {وَثَمُودُ وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوَانُ لُوطٍ} سمَّاهم إِخوانه لأنه صاهرهم وتزوج منهم {وَأَصْحَابُ الأَيْكَةِ} أي وأصحاب الشجر الكثير الملتف وهم قوم شعيب، نُسبوا إِلى الأيكة لأنهم كانت تحيط بهم البساتين والأشجار الكثيرة، الملتف بعضُها على بعض {وَقَوْمُ تُبَّعٍ} قال المفسرون: هو ملكٌ كان باليمن أسلم ودعا قومه إِلى الإِسلام فكذبوه وهو تُبَّع اليماني {كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ} أي جميع هؤلاء المذكورين كذبوا رسولهم، قال ابن كثير: وإِنما جمع الرسل لأن من كذَّب رسولاً فإِنما كذب جميع الرسل كقوله تعالى {كذبت قوم نوح المرسلين} {فَحَقَّ وَعِيدِ} أي فوجب عليهم وعيدي وعقابي، والآية تسليةٌ للنبي صلى الله عليه وسلم وتهديد للكفرة المجرمين.

{أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الأَوَّلِ} أي أفعجزنا عن ابتداء الخلق حتى نعجز عن إِعادتهم بعد الموت؟ قال القرطبي: وهو توبيخٌ لمنكري البعث، وجوابٌ لقولهم {ذلك رجعٌ بعيد} ومراده أن ابتداء الخلق لم يعجزنا، والإِعادةُ أسهلُ منه فكيف يُتوهم عجزنا عن البعث والإِعادة؟ {بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ} أي بل هم في خلطٍ وشبهةٍ وحيرة من البعث والنشور، قال الألوسي: وإِنما نُكَّر الخلق ووصفه بجديد، ولم يقل: من الخلق الثاني تنبيهاً على استبعادهم له وأنه خلق عظيم يجب أن يهتم بشأنه فله نبأ عظيم.



سعة علم الله وكمال قدرته



{وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ(16)إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنْ الشِّمَالِ قَعيد(17)مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ(18)وَجَاءتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ(19)وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ(20) وَجَاءتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ(21)لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ(22)}



ثم نبه تعالى على سعة علمه وكمال قدرته فقال {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ} أي خلقنا جنس الإِنسان ونعلم ما يجول في قلبه وخاطره، لا يخفى علينا شيء من خفاياه ونواياه {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} أي ونحن أقرب إِليه من حبل وريده، وهو عرق كبير في العنق متصل بالقلب، قال أبو حيان: ونحن أقرب إِليه، قُرْبَ علمٍ، نعلم به وبأحواله لا يخفى علينا شيء من خفياته، وهو تمثيل لفرط القرب كقول العرب: هو مني مَعْقِدَ الإِزار، وقال ابن كثير: المراد ملائكتنا أقرب إِلى الإِنسان من حبل وريده إِليه، والحلول والاتحاد منفيان بالإِجماع تعالى الله وتقدَّس عن ذلك، وهذا كما قال في المحتضر {ونحن أقرب إِليه منكم ولكنْ لا تُبصرون} يريد به الملائكة، ويدل عليه قوله بعده {إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنْ الشِّمَالِ قَعيد} أي حين يتلقى الملكان الموكلان بالإِنسان، ملك عن يمينه يكتب الحسنات، وملك عن شماله يكتب السيئات، وفي الكلام حذفٌ تقديره عن اليمين قعيد وعن الشمال قعيد فحذف الأول لدلالة الثاني عليه، قال مجاهد: وكَّل الله بالإِنسان - مع علمه بأحواله - ملكين بالليل وملكين بالنهار يحفظان عمله ويكتبان أثره إِلزاماً للحجة، أحدهما عن يمينه يكتب الحسنات، والآخر عن شماله يكتب السيئات فذلك قوله تعالى {عَنْ الْيَمِينِ وَعَنْ الشِّمَالِ قَعيد}.

وقال الألوسي: والمراد أنه سبحانه أعلم بحال الإِنسان من كل رقيب، حين يتلقى المتلقيان الحفيظان ما يتلفظ به، وفيه إِيذانٌ بأنه عز وجل غنيٌ عن استحفاظ الملكين، فإِنه تعالى أعلم منهما ومطَّلع على ما يخفى عليهما، لكنْ الحكمة اقتضت كتابة الملكين لعرض صحائفهما يوم يقوم الأشهاد، فإِذا علم العبد ذلك - مع علمه بإِحاطة الله تعالى بعلمه - ازداد رغبةً في الحسنات، وانتهاءً عن السيئات.

{مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} أي ما يتلفظ كلمةً من خيرٍ أو شر، إلا وعنده ملك يرقب قوله ويكتبه {عَتِيدٌ} أي حاضر معه أينما كان مهيأٌ لكتابة ما أُمر به، قال ابن عباس: يكتب كل ما تكلم به من خير أو شر، وقال الحسن: فإِذا مات ابن آدم طويت صحيفته وقيل له يوم القيامة {اقرأْ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسبياً} {وَجَاءتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ} أي وجاءت غمرة الموت وشدته التي تغشى الإِنسان وتغلب على عقله، بالأمر الحق من أهوال الآخرة حتى يراها المنكر لها عياناً {ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ} أي ذلك ما كنت تفر منه وتميل عنه وتهرب منه وتفزع. وفي الحديث عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم لمّا تغشاه الموت جعل يمسح العرق عن وجهه ويقول: "سبحان الله إنَّ للموت لسكرات".

{وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ} أي ونفخ في الصور نفخة البعث ذلك هو اليوم الذي وعد الله الكفار فيه بالعذاب {وَجَاءتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ} أي وجاء كل إِنسان بَرَّاً كان أو فاجراً ومعه ملكان: أحدهما يسوقه إِلى المحشر، والآخر يشهد عليه بعمله، قال ابن عباس: السائق من الملائكة، والشهيد من أنفسهم وهي الأيدي والأرجل {يوم تشهد عليهم ألسنتهُم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون} وقال مجاهد: السائق والشهيد ملكان، ملكٌ يسوقه وملك يشهد عليه.

{لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا} أي لقد كنت أيها الإِنسان في غفلةٍ من هذا اليوم العصيب {فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءكَ} أي فأزلنا عنك الحجاب الذي كان على قلبك وسمعك وبصرك في الدنيا {فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ} أي فبصرَك اليوم قويٌّ نافذ، ترى به ما كان محجوباً عنك لزوال الموانع بالكلية.





الحوار بين الكافر وشيطانه يوم القيامة



{ وَقَالَ قَرِينُهُ هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ(23)أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ(24)مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ(25)الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَأَلْقِيَاهُ فِي الْعَذَابِ الشَّدِيدِ(26)قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ وَلَكِنْ كَانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ(27)قَالَ لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ(28) مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلامٍ لِلْعَبِيدِ(29)يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلْ امْتَلأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ(30)}



سبب النزول:

نزول الآيات (24 - 26):

{أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ..}: قيل: نزلت الآيات في الوليد بن المغيرة، لما منع بني أخيه عن الخير وهو الإسلام.



{وَقَالَ قَرِينُهُ هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ} أي وقال الملك الموكل به : هذا الذي وكلتني به من بني آدم قد أحضرته وأحضرتُ ديوان عمله {أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ} أي يقول تعالى للملكين "السائق والشهيد" اقذفا في جهنم كلَّ كافر معاند للحقِّ لا يؤمن بيوم الحساب {مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ} أي مبالغ في المنع لكل حقٍّ واجب عليه في ماله {مُعْتَدٍ مُرِيبٍ} أي ظالم غاشم شاكٍ في الدين {الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ} أي أشرك بالله ولم يؤمن بوحدانيته {فَأَلْقِيَاهُ فِي الْعَذَابِ الشَّدِيدِ} أي فألقياه في نار جهنم، وكرر اللفظ {فَأَلْقِيَاهُ} للتوكيد.

{قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ} أي قال قرينه وهو الشيطان المقيَّض له ربنا ما أضللتُه {وَلَكِنْ كَانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ} أي ولكنَّه ضلَّ باختياره، وآثر العمى على الهدى من غير إِكراهٍ أو إجبار، وفي الآية محذوفٌ دل عليه السياق كأن الكافر قال يا رب إِن شيطاني هو الذي أطغاني، فيقول قرينه: ربنا ما أطغيتُه بل كان هو نفسه ضالاً معانداً للحق فأعنته عليه.

{قَالَ لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ} أي فيقول الله عز وجل للكافرين وقرنائهم من الشياطين: لا تتخاصموا هنا فما ينفع الخصام ولا الجدال، وقد سبق أن أنذرتكم على ألسنة الرسل بعذابي، وحذرتكم شديد عقابي، فلم تنفعكم الآياتُ والنُّذر {مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ} أي ما يُغيَّر كلامي، ولا يُبدَّل حكمي بعقاب الكفرة المجرمين، قال المفسرون: المراد وعيدُه تعالى بعذاب الكافر وتخليده في النار بقوله تعالى {لأملأنَّ جهنم من الجِنَّة والناس أجمعين} {وَمَا أَنَا بِظَلامٍ لِلْعَبِيدِ} أي ولست ظالماً حتى أعذب أحداً بدون استحقاق، أو أعاقبه بدون جرم.

{يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلْ امْتَلأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ}؟ أي اذكر ذلك اليوم الرهيب يوم يقول الله تعالى لجهنم هل امتلأت، وتقول هل هناك من زيادة؟ وفي الحديث (لا تزال جهنم يُلقى فيها وتقول هل من مزيد، حتى يضع ربُّ العزة فيها قدمه، فتقول: قَطْ، قَطْ وعزتك وكرمك - أي قد اكتفيتُ - وينزوي بعضُها إِلى بعض) قدمه أي أقواماً استقدمهم من عتاة الكفار والظاهر أن السؤال والجواب على حقيقتهما، والله على كل شيء قدير، فإِن إِنطاق الجماد والشجر والحجر جائز عقلاً، وحاصلٌ شرعاً، وقد أخبر القرآن الكريم أنَّ نملة تكلمت، وأن كل شيء يسبح بحمد الله، وورد في صحيح مسلم أن المسلمين في آخر الزمان يقاتلون اليهود، حتى يختبئ اليهودي وراء الشجر والحجر، فينطق الله الشجر والحجر .. الخ وقيل: إِن الآية على التمثيل وأنها تصويرٌ لسعة جهنم وتباعد أقطارها بحيث لو ألقي فيها جميع الكفرة والمجرمين فإِنها تتسع لهم، وهو كقولهم "قال الحائط للمسمار لم تشقني؟ قال: سلْ منْ يدقني".



حال المتقين



{وَأُزْلِفَتْ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ(31)هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ(32)مَنْ خَشيَ الرَّحْمَانَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ(33)ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ(34)لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ(35)}



ثم أخبر تعالى عن حال السعداء بعد أن ذكر حال الأشقياء فقال {وَأُزْلِفَتْ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ} أي قُرّبت وأدنيت الجنة من المؤمنين المتقين مكاناً غير بعيد، بحيث تكون بمرأى منهم مبالغة في إِكرامهم {هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ} أي يقال لهم: هذا الذي ترونه من النعيم هو ما وعده الله لكل عبدٍ أوَّاب أي رجَّاعٍ إِلى الله، حافظٍ لعهده وأمره {مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَانَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ} أي خاف الرحمن فأطاعه دون أن يراه لقوة يقينه، وجاء بقلبٍ تائب خاضع خاشع {ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ} أي يقال لهم: ادخلوا الجنة بسلامة من العذاب والهموم والأكدار، ذلك هو يوم البقاء الذي لا انتهاء له أبداً، لأنه لا موت في الجنة ولا فناء {لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا} أي لهم في الجنة من كل ما تشتهيه أنفسهم، وتلذ بهأعينهم {وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ} أي وعندنا زيادة على ذلك الإِنعام والإِكرام، وهو النظر إِلى وجه الله الكريم.





تخويف منكري البعث، وأوامر للرسول صلى الله عليه وسلم



{وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشًا فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ(36) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ(37)وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ(38)فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ(39)وَمِنْ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ(40)وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ(41)يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ(42) إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ(43)يَوْمَ تَشَقَّقُ الأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعًا ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ(44)نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ(45)}



سبب النزول:

نزول الآية (38):

{وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ ..}: أخرج الحاكم وصححه عن ابن عباس: أن اليهود أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسألته عن خلق السماوات والأرض، فقال: خلق الله الأرض يوم الأحد والاثنين، وخلق الجبال يوم الثلاثاء وما فيهن من منافع، وخلق يوم الأربعاء الشجر والماء والمدائن والعمران والخراب، وخلق يوم الخميس السماء، وخلق يوم الجمعة النجوم والشمس والقمر إلى ثلاث ساعات بقين منه، فخلق أول ساعة الآجال حتى يموت من مات، وفي الثانية ألقى الآفة عن كل شيء مما ينتفع به الناس، وفي الثالثة خلق آدم وأسكنه الجنة، وأمر إبليس بالسجود له، وأخرجه منها في آخر ساعة.

قالت اليهود: ثم ماذا يا محمد؟ قال: ثم استوى على العرش، قالوا: قد أصبت لو أتممت، قالوا: استراح، فغضب النبي صلى الله عليه وسلم غضباً شديداً، فنزل: {وَلَقَدْ خَلقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ..}.

وأخرج ابن جرير عن ابن عباس قال: قالوا: يا رسول الله، لو خوفتنا؟ فنزلت: {فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ}.



ثمَّ خوَّف تعالى كفار مكة بما حدث للمكذبين قبلهم فقال {وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ} أي وأهلكنا قبل كفار قريش أمماً كثيرين من الكفار المجرمين {هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشًا} أي هم أقوى من كفار قريش قوة، وأعظم منهم فتكاً وبطشاً {فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ} أي فساروا في البلاد، وطوَّفوا فيها وجالوا في أقطارها، فهل كان لهم من الموت مهرب؟ وهل كان لهم من عذاب الله مخلص؟

{إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} أي إن فيما ذُكر من إهلاك القرى الظالمة، لتذكرة وموعظة لمن كان له عقل يتدبر به، أو أصغى إِلى الموعظة وهو حاضر القلب ليتذكر ويعتبر، قال سفيان: لا يكون حاضراً وقلبه غائب، وقال الضحاك: العرب تقول: ألقى فلان سمعه إِذا استمع بأذنيه وهو شاهد بقلب غير غائب، وعبَّر عن العقل بالقلب لأنه موضعه كما قال تعالى: {فإِنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوبُ التي في الصدور}

{وَلقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ} هذه الآية ردٌّ على اليهود حيث زعموا أن الله خلق السماوات والأرض في ستة أيام، أوَّلهُا يوم الأحد وآخرها يوم الجمعة وأنه تعب فاستراح يوم السبت واستلقى على ظهره فوق العرش، فكذبهم الله تعالى.

والمعنى والله خلق السماوات السبع في ارتفاعها وعظمتها، والأرض في كثافتها وسعتها، وما بينهما من المخلوقات البديعة في ستة أيام، وما مسَّنا من إِعياء وتعب.

{فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ} أي فاصبرْ يا محمد على ما يقوله اليهود وغيرهم من كفار قريش، واهجرهم هجراً جميلاً {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ} أي ونزِّه ربك عما لا يليق به، وصلِّ له واعبدْه وقتي الفجر والعصر، وخصَّهما بالذكر لزيادة فضلهما وشرفهما {وَمِنْ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ} أي ومن الليل فصلِّ للهِ تهجداً وأعقاب الصلوات المفروضة، قال ابن كثير: كانت الصلاة المفروضة قبل الإِسراء ثنتان قبل طلوع الشمس، وثنتان قبل الغروب، وكان قيام الليل واجباً على النبي صلى الله عليه وسلم وعلى أُمته حولاً ثم نسخ في حق الأمة وجوبه، ثم بعد ذلك نسخ كل ذلك ليلة الإِسراء بخمس صلواتٍ، وبقي منهن صلاة الصبح والعصر فهما قبل طلوع الشمس وقبل الغروب.

{وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ} أي واستمع يا محمد النداء والصوت حين ينادي إِسرافيل بالحشر من موضع قريب يصل صوته إِلى الكل على السواء، قال أبو السعود: وفيه تهويلٌ وتفظيع لشأن المخبر به، والمنادي هو إِسرافيل عليه السلام يقول: أيتها العظام البالية، والأوصال المتقطعة، واللحوم المتمزقة، والشعور المتفرقة، إِن الله يأمركنَّ أن تجتمعن لفصل القضاء.

{يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ} أي يوم يسمعون صيحة البعث التي تأتي بالحقِّ - وهي النفخة الثانية في الصور - {ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ} أي ذلك هو يوم الخروج من القبور { إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ} أي نُحيي الخلائق ونميتُهم في الدنيا، وإِلينا رجوعهم للجزاء في الآخرة، لا إِلى غيرنا {يَوْمَ تَشَقَّقُ الأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعًا} أي يوم تنشقُّ الأرضُ عنهم فيخرجون من القبور مسرعين إِلى موقف الحساب استجابةً لنداء المنادي {ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ} أي ذلك جمع وبعث سهلٌ هيّنٌ علينا لا يحتاج إِلى عَنَاء {نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ} أي نحن أعلم بما يقول كفار قريش من إِنكار البعث والسخرية والاستهزاء بك وبرسالتك، وفيه تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم وتهديدٌ لهم {وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ} أي وما أنت يا محمد بمسلَّط عليهم تجبرهم على الإِسلام، إِنما بعثت مذكّراً {فَذَكِّرْ بِالْقُرْءانِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ} أي عظْ بهذا القرآن من يخاف وعيدي .. ختم السورة الكريمة بالتذكير بالقرآن كما افتتحها بالقسم بالقرآن ليتناسق البدء مع الختام.

yacine414
2011-04-01, 20:18
سورة الذَّارِيَات



القسم بالرياح على مجيء البعث

جزاء المؤمنين الأبرار

قصة ضيف إبراهيم وقوم لوط

قصص أنبياء آخرين مع أقوامهم

دلائل القدرة والوحدانية

تهديد المشركين بالعذاب، والغاية من خلق الإنسان والجن





بَين يَدَي السُّورَة



* هذه السورة الكريمة من السور المكية التي تقوم على تشييد دعائم الإِيمان، وتوجيه الأبصار إِلى قدرة الله الواحد القهار، وبناء العقيدة الراسخة على أسس التقوى والإِيمان.



* ابتدأت السورة الكريمة بالحديث عن الرياح التي تذرو الغبار، وتسيَّر المراكب في البحار، وعن السحب التي تحمل مياه الأمطار، وعن السفن الجارية على سطح الماء بقدرة الواحد الأحد، وعن الملائكة الأطهار المكلفين بتدبير شؤون الخلق، وأقسمت بهذه الأمور الأربعة على أن الحشر كائن لا محالة، وأنه لا بدَّ من البعث والجزاء.



* ثم انتقلت إلى الحديث عن كفار مكة، المكذبين بالقرآن وبالدار الآخرة، فبينت حالهم في الدنيا، ومآلهم في الآخرة، حيث يعرضون على نار جهنم فيصلون عذابها ونكالها.



* ثم تحدثت عن المؤمنين المتقين، وما أعدَّ الله لهم من النعيم والكرامة في الآخرة، لأنهم كانوا في الدنيا محسنين، على طريقة القرآن في الترغيب والترهيب، والإِعذار والإِنذار.



*ثم تحدثت عن دلائل القدرة والوحدانية في هذا الكون الفسيح، في سمائه وأرضه، وجباله ووهاده، وفي خلق الإِنسان في أبدع صورة وأجمل تكوين، وكلها دلائل على قدرة رب العالمين.



* ثم انتقلت للحديث عن قصص الرسل الكرام، وعن موقف الأمم الطاغية من أنبيائهم وما حلَّ بهم من العذاب والدمار، فذكرت قصة إِبراهيم ولوط، وقصة موسى، وقصة الطغاة المتجبرين من قوم عاد وثمود وقوم نوح، وفي ذكر القصص وتكراره في القرآن تسلية للرسول الكريم، وعبرةٌ لأولى الأبصار، يعتبر بها من كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.



*وختمت السورة الكريمة ببيان الغاية من خلق الإِنس والجن، وهي معرفة الله جل وعلا، وعبادته وتوحيده، وإِفراده بالإِخلاص والتوجه لوجهه الكريم بأنواع القربات والعبادات.





القسم بالرياح على مجيء البعث



{وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا(1)فَالْحَامِلاتِ وِقْرًا(2)فَالْجَارِيَاتِ يُسْرًا(3)فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا(4)إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ(5)وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ(6)وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ(7)إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ(8)يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ(9)قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ(10)الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ سَاهُونَ(11)يَسْأَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ(12)يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ(13)ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هَذَا الَّذِي كُنتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ(14)}



{وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا} هذا قسمٌ أقسم تعالى به أي أُقسم بالرياح التي تذرو التراب فتفرّقه، وتحمل الرمال من مكان إِلى مكان {فَالْحَامِلاتِ وِقْرًا} أي وأقسم بالسحب التي تحمل أثقال الأمطار، وهي محمَّلة بالماء الذي فيه حياة البشر {فَالْجَارِيَاتِ يُسْرًا} أي وأقسم بالسفن التي تجري على وجه الماء جرياً سهلاً بيسر وهي تحمل ذرية بني آدم {فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا} أي وأقسم بالملائكة التي تقسم الأرزاق والأمطار بين العباد، وكل ملك مخصَّص بأمر، فجبريل صاحب الوحي إِلى الأنبياء، وميكائيل صاحب الرزق والرحمة، وإِسرافيل صاحب الصور، وعزرائيل صاحب قبض الأرواح قال المفسرون: أقسم الله تعالى بهذه الأشياء لشرفها ولما فيها من الدلالة على عجيب صنعه وقدرته، ثم ذكر جواب القسم فقال {إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ} أي إِن الذي توعدونه من الثواب والعقاب، والحشر والنشر، لأمرٌ صدقٌ محقَّق لا كذب فيه {وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ} أي وإِنَّ الجزاء لكائنٌ لا محالة، ثم ذكر تعالى قسماً آخر فقال {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ} أي وأقسم بالسماء ذات الطرائق المحكمة والبنيان المتقن قال ابن عباس: ذات الخلق الحسن المستوي {إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ} جواب القسم أي إِنكم أيها الكفار لفي قول مضطرب في أمر محمد، فمنكم من يقول إِنه ساحر، ومنكم من يقول إِنه شاعر، وبعضكم يقوله إِنه مجنون إِلى غير ما هنالك من أقوال مختلفة {يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ} أي يُصرف عن الإِيمان بالقرآن وبمحمد عليه السلام، من صُرِف عن الهداية في علم الله تعالى وحُرم السعادة {قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ} أي لُعن الكذابون الذين قالوا إِن النبي صلى الله عليه وسلم ساحر وكذاب وشاعر قال ابن الأنباري: والقتلُ إِذا أُخبر عن الله به فهو بمعنى اللعنة، لأن من لعنه الله فهو بمنزلة المقتول الهالك {الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ سَاهُونَ} أي الذين هم غافلون لاهون عن أمر الآخرة {يَسْأَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ} أي يقولون تكذيباً واستهزاءً: متى يوم الحساب والجزاء ؟ قال تعالى رداً عليهم {يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ} أي هذا الجزاء كائن يوم يدخلون جهنم ويُحرقون بها {ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ } أي تقول لهم خزنة النار: ذوقوا تعذيبكم وجزاءكم {هَذَا الَّذِي كُنتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ} أي هذا الذي كنتم تستعجلونه في الدنيا استهزاءً.

جزاء المؤمنين الأبرار



{إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ(15)آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ(16)كَانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ(17)وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ(18)وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ(19)وَفِي الأَرْضِ ءاياتٌ لِلْمُوقِنِينَ(20)وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ(21)وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ(22)فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ(23)}



سبب نزول الآية (19):

{وَفِي أَمْوَالِهِمْ..}: أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن الحسن بن محمد بن الحنفية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث سرية، فأصابوا وغنموا، فجاء قوم بعدما فرغوا - لم يشهدوا الغنيمة -، فنزلت: {وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ}. قال ابن كثير: وهذا يقتضي أن هذه الآية مدنية، وليس كذلك، بل هي مكية شاملة لما بعدها. قال ابن عباس: إنه حق سوى الزكاة يصل به رَحماً، أو يَقْري به ضيفاً، أو يحمل به كَلاٍّ، أو يغني محروماً. وقال ابن العربي: لأن السورة مكية، وفرضت الزكاة بالمدينة.



ولما ذكر حال الكفار ذكر المؤمنين الأبرار فقال {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ} أي هم في بساتين فيها عيون جاريةٌ، تجري فيها على نهاية ما يُتنزه به {آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ} أي راضين بما أعطاهم ربهم من الكرامة والنعيم {إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ} أي كانوا في دار الدنيا محسنين في الأعمال، ثم ذكر طرفاً من إِحسانهم فقال {كَانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ} أي كانوا ينامون قليلاً من الليل ويصلُّون أكثره قال الحسن: كابدوا قيام الليل لا ينامون منه إلا قليلاً {وبالأسْحَار هُم يَسْتغفرون} أي وفي أواخر الليل يستغفرون الله من تقصيرهم، فهم مع إِحسانهم يعدُّون أنفسهم مذنبين، ولذلك يكثرون الاستغفار بالأسحار قال أبو السعود: أي هم مع قلة نومهم وكثرة تهجدهم يداومون على الاستغفار بالأسحار، كأنهم أسلفوا ليلهم باقتراب الجرائم، وهو مدح ثانٍ للمحسنين {وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} مدحٌ ثالث أي وفي أموالهم نصيب معلوم قد أوجبوه على أنفسهم بمقتضى الكرم للسائل المحتاج، وللمتعفف الذي لا يسأل لتعففه {وَفِي الأَرْضِ ءاياتٌ لِلْمُوقِنِينَ} أي وفي الأرض دلائل واضحة على قدرة الله سبحانه ووحدانيته للموقنين بالله وعظمته، الذين يعرفونه بصنعه قال ابن كثير: أي وفي الأرض من الآيات الدالة على عظمة خالقها وقدرته الباهرة، مما فيها من صنوف النباتات والحيوانات، والجبال والقفار، والبحار، والأنهار، واختلاف ألسنة الناس وألوانهم، وما بينهم من التفاوت في العقول والفهوم، والسعادة والشقاوة، وما في تركيبهم من الخلق البديع، ولهذا قال بعده {وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ} أي وفي أنفسكم ءاياتٌ وعبرٌ من مبدأ خلقكم إِلى منتهاه، أفلا تبصرون قدرة الله في خلقكم لتعرفوا قدرته على البعث؟ قال ابن عباس: يريد اختلاف الصور، والألسنة، والألون، والطبائع، والسمع والبصر والعقل إِلى غير لك من العجائب المودعة في ابن آدم وقال قتادة: من تفكَّر في خلق نفسه عرف أنه إِنما خُلق ولُيّنت مفاصله للعبادة {وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ} أي وفي السماء أسباب رزقكم ومعاشكم وهو المطر الذي به حياة البلاد والعباد، وما توعدون به من الثواب والعقاب مكتوب كذلك في السماء قال الصاوي: والآيةُ قُصد بها الامتنان والوعد والوعيد {فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ} أي أُقسم بربِّ السماءِ والأرض إِن ما توعدون به من الرزق والبعث والنشور لحقٌّ كائن لا محالة مثل نطقكم، فكما لا تشكون في نطقكم حين تنطقون فكذلك يجب ألا تشكوا في الرزق والبعث قال المفسرون: وهذا على سبيل التشبيه والتمثيل أي رزقكم مقسوم في السماء كنطقكم فلا تشكوا في ذلك، وهذا كقول القائل: هذا حق كما أنك ههنا، وهذا حقٌ كما أنك ترى وتسمع، فالرزق مثل النطق لا يفارق الشخص في حالٍ من الأحوال وفي الحديث (لو أن أحدكم فرَّ من رزقه لتبعه كما يتبعه الموت).



قصة ضيف إبراهيم وقوم لوط



{هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ(24)إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلامًا قَالَ سَلامٌ قَوْمٌ مُنكَرُونَ(25)فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ(26)فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلا تَأْكُلُونَ(27)فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ(28)فَأَقْبَلَتْ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ(29)قَالُوا كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ(30)قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ(31)قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ(32)لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ طِينٍ(33)مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ(34)فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ(35)فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ(36)وَتَرَكْنَا فِيهَا آيَةً لِلَّذِينَ يَخَافُونَ الْعَذَابَ الأَلِيمَ(37)}



ثم ذكر تعالى قصة ضيف إِبراهيم تسلية لقلب النبي الكريم فقال {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ}؟ الاستفهام للتشويق ولتفخيم شأن تلك القصة كما يقول القائل: هل بلغك الخبر الفلاني؟ يريد تشويقه إِلى استماعه والمعنى هل وصل إِلى سمعك يا محمد خبر ضيوف إِبراهيم المعظَّمين؟ قال ابن عباس: يريد جبريل وميكائيل وإِسرافيل عليهم السلام، سُمُّوا مكرمين لكرامتهم عند الله عز وجل {إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلامًا} أي حين دخلوا على إِبراهيم فقالوا: نسلِّم عليك سلاماً {قَالَ سَلامٌ قَوْمٌ مُنكَرُونَ} أي قال عليكم سلامٌ أنتم قومٌ غرباء لا نعرفكم فمن أنتم؟ قال ابن كثير: وإِنما أنكرهم لأنهم قدموا عليه في صورة شبانٍ حسانٍ عليهم مهابة عظيمة ولهذا أنكرهم وقال أبو حيان: والذي يناسب حال إِبراهيم عليه السلام أنه لا يخاطبهم بذلك، إِذْ فيه من عدم الإِنس ما لا يخفى، وإِنما قال ذلك في نفسه، أو لمن كان معه من أتباعه وغلمانه، بحيث لا يسمع ذلك الأضياف {فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ} أي فمضى إِلى أهله في سرعة وخفية عن ضيفه، لأن من أدب المضيف أن يبادر بإِحضار الضيافة من غير أن يشعر به الضيف، حذراً من أن يمنعه الضيف، أو يُثقل عليه في التأخير قال ابن قتيبة: عدل إِليهم في خفية ولا يكون الرَّواغُ إِلا أن تُخفي ذهابك ومجيئك {فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ} أي فجاءهم بعجل سمينٍ مشوي، والعجلُ ولدُ البقرة وكان عامة ما له البقر، واختاره لهم سميناً زيادة في إكرامهم {فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلا تَأْكُلُونَ} أي فأدناه منهم ووضعه بين أيديهم فلم يأكلوا فقال لهم في تلطف وبشاشة: ألا تأكلون هذا الطعام؟ قال ابن كثير: وفي الآية تلطف في العبارة وعرض حسن، وقد انتظمت الآية آداب الضيافة، فإِنه جاء بطعامٍ من حيث لا يشعرون بسرعة، ولم يمتنَّ عليهم أولاً فقال نأتيكم بطعام بل جاء به بسرعةٍ وخفاء، وأتى بأفضل ما وجد من ماله وهو عجل فتيٌّ سمين مشوي، فقربه إِليهم ولم يضعه وقال اقتربوا بل وضعه بين أيديهم، ولم يأمرهم أمراً يشق على سامعه بصيغة الجزم بل قال: ألا تأكلون؟ على سبيل العرض والتلطف كما يقول القائل: إِن رأيت أن تتفضل وتحسن وتتصدق فافعل {فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً} أي فأضمر في نفسه الخوف منهم لما رأى إِعراضهم عن الطعام {قَالُوا لا تَخَفْ} أي قالوا له لا تخف إِنا رسل ربك {وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ} أي وبشروه بولدٍ يولد له من زوجته سارة يكون عالماً عند بلوغه قال أبو حيان: وفيه تبشيرٌ بحياته حتى يكون من العلماء، والجمهور على أن المبشر به هو إِسحاق لقوله تعالى في سورة هود {فبشرناها بإِسحاق ومن وراء إِسحاق يعقوب} {فَأَقْبَلَتْ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ} أي فأقبلت سارة نحوهم حين سمعت البشارة في صيحةٍ وضجة قال المفسرون: لما سمعت بالبشارة وكانت في زاوية من زوايا البيت جاءت نحوهم في صيحة عظيمة تريد أن تستفسر الخبر {فَصَكَّتْ وَجْهَهَا} أي فلطمت وجهها على عادة النساء عند التعجب قال ابن عباس: لطمت وجهها تعجباً كما تتعجب النساء من الأمر الغريب {وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ} أي قالت أنا عجوز عقيم فكيف ألد؟ والعقيم هي التي لم تلد قطّ لانقطاع حبلها قال الإِمام الجلال السيوطي: كان عمرها تسعاً وتسعين سنة، وعمر إِبراهيم مائة وعشرين {قَالُوا كَذَلِكَ قَالَ رَبُّك} أي الأمر كما أخبرناك هكذا حكم وقضى ربك من الأزل فلا تعجبي ولا تشكّي فيه {إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ} أ ي الحكيم في صنعه، العليم بمصالح خلقه {قالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ} أ ي ما شأنكم الخطير الذي لأجله أرسلتم أيها الملائكة الأبرار؟ قال البيضاوي: لما علم أنهم ملائكة وأنهم لا ينزلون مجتمعين إِلا لأمرٍ عظيم سأل عنه {قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ} أي قالوا إِن الله أرسلنا لإِهلاك قوم لوط الذين ارتكبوا أفحش الجرائم "اللواط" وكانوا ذوي جرائم متعددة، وهي كبار المعاصي من كفر وعصيان {لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ طِينٍ} أي لنهلكهم بحجارةٍ من طين متحجر مطبوخ بالنار وهو السجيل قال أبو حيان: والسجيلُ طينٌ يطبخ كما يطبخ الآجر حتى يصبح في صلابة الحجارة {مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ} أي معلَّمة من عند الله بعلامة، وعلى كل واحدةٍ منها اسم صاحبها الذي يهلك بها {لِلْمُسْرِفِينَ} أي المجاوزين الحدَّ في الفجور قال الصاوي: كان في قرى لوط ستمائة ألف فأدخل جبريل جناحه تحت الأرض فاقتلع قراهم، ورفعها حتى سمع أهل السماء أصواتهم ثم قلبها، ثم أرسل الحجارة على من كان خارجاً عنها {فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} أي فأخرجنا من كان في قرى أهل لوط من المؤمنين لئلا يهلكوا {فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} أي فما كان فيها بعد البحث والتفتيش غير أهل بيت واحد من المسلمين قال مجاهد: هم لوطٌ وابنتاه، والغرضُ من الآية بيان قلة المؤمنين الناجين من العذاب، وكثرة الكافرين المستحقين للهلاك قال الإِمام الجلال: وصفوا بالإِيمان والإِسلام أي هم مصدقون بقلوبهم، عاملون بجوارحهم الطاعات {وَتَرَكْنَا فِيهَا آيَةً} أي أبقينا في تلك القرى المهلكة بعد إِهلاك الظالمين علامةً على هلاكهم بجعل عاليها سافلها {لِلَّذِينَ يَخَافُونَ الْعَذَابَ الأَلِيمَ} أي للذين يخافون عذاب الله فإِنهم المعتبرون به قال ابن كثير: ومعنى الآية {وَتَرَكْنَا فِيهَا آيَةً} أي جعلناها عبرةً بما أنزلنا بهم من العذاب والنكال، وجعلنا محلتهم بحيرةً منتنة خبيثة ففي ذلك عبرةٌ للمؤمنين الذين يخافون العذاب الأليم.





قصص أنبياء آخرين مع أقوامهم



{وَفِي مُوسَى إِذْ أَرْسَلْنَاهُ إِلَى فِرْعَوْنَ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ(38)فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَقَالَ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ(39)فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ(40)وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ الرِّيحَ الْعَقِيمَ(41)مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ(42)وَفِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ(43)فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ فَأَخَذَتْهُمْ الصَّاعِقَةُ وَهُمْ يَنظُرُونَ(44)فَمَا اسْتَطَاعُوا مِنْ قِيَامٍ وَمَا كَانُوا مُنتَصِرِينَ(45)وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ(46)}





{وَفِي مُوسَى إِذْ أَرْسَلْنَاهُ إِلَى فِرْعَوْنَ} أي وجعلنا في قصة موسى أيضاً آيةً وعبرة وقت إِرسالنا له إِلى فرعون {بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ} أي بحجة واضحة ودليلٍ باهر {فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ} أي فأعرض عن الإِيمان بموسى بجموعه وأجناده، وقوته وسلطانه قال مجاهد: تعزَّز عدوُّ الله بأصحابه والغرض أن فرعون أعرض عن الإِيمان بسبب ما كان يتقوى به من جنوده لأنهم كانوا له كالركن الذي يعتمد عليه البنيان {وَقَالَ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ} أي وقال اللعين في شأن موسى إِنه ساحرٌ ولذلك أتى بهذه الخوارق، أو مجنون ولذلك ادَّعى الرسالة، وإِنما قال ذلك تمويهاً على قومه لا شكاً منه في صدق موسى {فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ} أي فأخذنا فرعون مع أصحابه وجنوده {فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ} أي فطرحناهم في البحر لما أغضبونا وكذبوا رسولهم {وَهُوَ مُلِيمٌ} أي وهو آتٍ بما يلام عليه من الكفر والطغيان .. ثم لما انتهى من قصة فرعون أعقبها بذكر قصة عاد فقال {وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ الرِّيحَ الْعَقِيمَ} أي وجعلنا في قصة عاد كذلك آية لمن تأمل حين أرسلنا عليهم الريح المدمرة، التي لا خير فيها ولا بركة، لأنها لا تحمل المطر ولا تلقّح الشجر، وإِنما هي للإِهلاك، وهي الريح التي تسمّى الدبور وفي الصحيح "نُصرت بالصبا وأُهلكت عادٌ بالدبَّور" قال المفسرون: سميت {الرِّيحَ الْعَقِيمَ} تشبيهاً لها بعقم المرأة التي لا تحمل ولا تلد، ولما كانت هذه الريح لا تلقح سحاباً ولا شجراً، ولا خير فيها ولا بركة لأنها لا تحمل المطر شبهت بالمرأة العقيم {مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ} أي ما تترك شيئاً مرَّت عليه في طريقها مما أراد الله تدميره وإِهلاكه {إِلا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ} أي إِلا جعلته كالهشيم المتفتت البالي قال ابن عباس: {الرَّمِيمِ} الشيء الهالك البالي وقال السدي: هو التراب والرماد المدقوق كقوله تعالى {تدمر كل شيءٍ بأمر ربها} قال المفسرون: كانت الريح التي أرسلها الله عليهم ريحاً صرصراً عاتية، استمرت عليهم ثمانية أيام متتابعة، فكانت تهدم البنيان وتنتزع الرجال فترفعهم إلى السماء حتى يرى الواحد منهم كالطير ثم ترمي به إلى الأرض جثة هامدة {كأنهم أعجاز نخلٍ خاويةٍ} .. ثم أخبر تعالى عن هلاك ثمود فقال {وَفِي ثَمُودَ} أي وجعلنا في ثمود أيضاً آية وعبرة {إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ} أي حين قيل لهم عيشوا متمتعين بالدنيا إلى وقت الهلاك بعد عقرهم للناقة، وهو ثلاثة أيام كما في هود {قال تمتعوا في داركم ثلاثة أيام} {فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ} أي فاستكبروا عن امتثال أمر الله، وعصوا رسولهم فعقروا الناقة {فَأَخَذَتْهُمْ الصَّاعِقَةُ} أي فأخذتهم الصيحة المهلكة -صيحة العذاب- {وَهُمْ يَنظُرُونَ} أي وهم يشاهدونها ويعاينونها لأنها جاءتهم في وضح النهار قال ابن كثير: وذلك أنهم انتظروا العذاب ثلاثة أيام فجاءهم في صبيحة اليوم الرابع بكرة النهار وقال الآلوسي: إِن صالحاً عليه السلام وعدهم بالهلاك بعد ثلاثة أيام وقال لهم: تصبح وجوهكم غداً مصفرة، وبعد غد محمرة، وفي اليوم الثالث مسودَّة، ثم يصبحكم العذاب، فلما رأوا الآيات التي بينها عليه السلام عمدوا إلى قتله فنجاه الله، وفي اليوم الرابع أتتهم الصاعقة وهي نار من السماء وقيل صيحة فهلكوا {فَمَا اسْتَطَاعُوا مِنْ قِيَامٍ} أي ما قدروا على الهرب والنهوض من شدة الصيحة، بل أصبحوا في ديارهم جاثمين {وَمَا كَانُوا مُنتَصِرِينَ} أي وما كانوا ممنينتصر لنفسه فيدفع عنها العذاب .. ثم أخبر تعالى عن هلاك قوم نوح فقال: {وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ} أي وأهلكنا قوم نوحٍ بالطوفان من قبل إِهلاك هؤلاء المذكورين {إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ} تعليلٌ للهلاك أي لأنهم كانوا فسقةً خارجين عن طاعة الرحمن بارتكابهم الكفر والعصيان.



دلائل القدرة والوحدانية



{وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْيدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ(47)وَالأَرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ(48)وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ(49)فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ(50)وَلا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ(51)}



ولما انتهى من أخبار هلاك الأمم الطاغية المكذبة، شرع في بيان دلائل القدرة والوحدانية فقال {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْيدٍ} أي وشيدنا السماء وأحكمنا خلقها بقوةٍ وقدرة قال ابن عباس: {بِأَيْيدٍ} بقوة {وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ} أي وإِنا لموسعون في خلق السماء، فإِن الأرض وما يحيط بها من الهواء والماء بالنسبة لها كحلقة صغيرة في فلاة كما ورد في بعض الأحاديث وقال ابن عباس: {لَمُوسِعُونَ} أي لقادرون، من الوسع بمعنى الطاقة {وَالأَرْضَ فَرَشْنَاهَا} أي والأرض مهدناها لتستقروا عليها، وبسطناها لكم ومددنا فيها لتنتفعوا بها بالطرقات وأنواع المزروعات، ولا ينافي ذلك كرويتها، فذلك أمرٌ مقطوع به، فإِنها مع كرويتها واسعة ممتدة، فيها السهول الفسيحة، والبقاع الواسعة، مع الجبال والهضاب ولهذا قال تعالى {فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ} أي فنعم الباسطون الموسعون لها نحن، وصيغة الجمع للتعظيم {وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ} أي ومن كل شيء خلقنا صنفين ونوعين مختلفين ذكراً وأنثى، وحلواً وحامضاً ونحو ذلك {لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} أي كي تتذكروا عظمة الله فتؤمنوا به، وتعلموا أن خالق الأزواج واحد أحد {فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ} أي الجأوا إلى الله، واهرعوا إلى توحيده وطاعته قال أبو حيان: والأمر بالفرار إلى الله أمرٌ بالدخول في الإيمان وطاعة الرحمن، وإنما ذكر بلفظ الفرار لينبه على أن وراء الناس عقاباً وعذاباً، وأمرٌ حقه أن يُفر منه، فقد جمعت اللفظة بين التحذير والاستدعاء، ومثله قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا ملجأ ولا منجى منك إلا إليك) وقال ابن الجوزي: المعنى اهربوا مما يوجب العقاب من الكفر والعصيان، إلى ما يوجب الثواب من الطاعة والإيمان {إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ} أي إني أنذركم عذاب الله وأخوفكم انتقامه {مُبِينٌ} أي واضحٌ أمري فقد أيدني الله بالمعجزات الباهرات {وَلا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ} أي لا تشركوا مع الله أحداً من بشر أو حجر {إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ} كرر اللفظ للتأكيد والتنبيه إلى خطر الإشراك بالله قال الخازن: وإنما كرر اللفظ عند الأمر بالطاعة، والنهي عن الشرك، ليعلم أن الإيمان لا ينفع إلاّ مع العمل، كما أن العمل لا ينفع إلا مع الإيمان، وأنه لا يفوز وينجو عند الله إلاّ الجامع بينهما.







تهديد المشركين بالعذاب، والغاية من خلق الإنسان والجن



{كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ(52)أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ(53)فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ(54) وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ(55)وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ(56)مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ(57)إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ(58)فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوبًا مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحَابِهِمْ فَلا يَسْتَعْجِلُونِ(59)فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ(60)}



سبب النزول:

نزول الآيتين (54، 55):

{فَتَوَلَّ عَنْهُمْ.. وَذَكِّرْ ..}: أخرج ابن منيع وابن راهويه والهيثم بن كليب في مسانيدهم عن علي قال: لما نزلت: {فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ} لم يبق منا أحدٍ إلا أيقن بالهَلَكةِ، إذ أُمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يتولى عنهم، فنزلت: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} فطابت أنفسنا.



{كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ} هذه تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم أي كما كذبك قومك يا محمد، وقالوا عنك إنك ساحرٌ أو مجنون، كذلك قال المكذبون الأولون لرسلهم، فلا تحزن لما يقول المجرمون {أَتَوَاصَوْا بِهِ} أي هل أوصى أولُهم آخرهم بالتكذيب؟ وهو استفهام للتعجب من إجماعهم على تلك الكلمة الشنيعة، ثم أضرب عن هذا النفي والتوبيخ فقال {بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ} أي لم يوص بعضهم بعضاً بذلك، بل حملهم الطغيان على التكذيب والعصيان فلذلك قالوا ما قالوا {فَتَوَلَّ عَنْهُمْ} أي فأعرض يا محمد عنهم {فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ} أي فلا لوم عليك ولا عتاب، لأنك قد بلغت الرسالة وأديت الأمانة، وبذلت الجهد في النصح والإرشاد {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} أي لا تدع التذكير والموعظة فإن القلوب المؤمنة تنتفع وتتأثر بالموعظة الحسنة .. ثم ذكر تعالى الغاية من خلق الخلق فقال {وَمَا خَلَقْتُ الْجنَّ وَالإِنسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ} أي وما خلقت الثقلين الإنس والجن إلا لعبادتي وتوحيدي، لا لطلب الدنيا والانهماك بها قال ابن عباس: {إِلا لِيَعْبُدُونِ} إِلا ليقروا لي بالعبادة طوعاً أو كرهاً وقال مجاهد: إلا ليعرفوني قال الرازي: لما بيَّن تعالى حال المكذبين ذكر هذه الآية ليبيّن سوء صنيعهم حيث تركوا عبادة الله مع أن خلقهم لم يكن إلا للعبادة {مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ} أي لا أريد منهم أن يرزقوني أو يرزقوا أنفسهم أو غيرهم بل أنا الرزاق المعطي {وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ} أي لا أريد منهم أن يطعموا خلقي ولا أن يطعموني فأنا الغني الحميد قال البيضاوي: والمراد أن يبيّن أن شأنه مع عباده ليس شأن السادة مع عبيدهم، فإنهم إنما يملكونهم ليستعينوا بهم في تحصيل معايشهم، فكأنه سبحانه يقول: ما أريد أن أستعين بهم كما يستعين السادة بعبيدهم، فليشتغلوا بما خلقوا له من عبادتي {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ} أي إنه جل وعلا هو الرزاق، المتكفل بأرزاق العباد وحاجاتهم، أتى باسم الجلالة الظاهر للتفخيم والتعظيم، وأكد الجملة بإن والضمير المنفصل لقطع أوهام الخلق في أمور الرزق، وليقوي اعتمادهم على الله {ذُو الْقُوَّةِ} أي ذو القدرة الباهرة {الْمَتِينُ} أي شديد القوة لا يطرأ عليه عجزٌ ولا ضعف قال ابن كثير: أخبر تعالى أنه غير محتاج إليهم، بل هم الفقراء إلى الله في جميع أحوالهم فهو خالقهم ورازقهم، وفي الحديث القدسي (يا ابن آدم تفرَّغ لعبادتي أملأْ صدرك غنى، وإلا تفعل ملأتُ صدرك شغلاً ولم أسدَّ فقرك) {فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوبًا مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحَابِهِمْ} أي فإن لهؤلاء الكفار الذين كذبوا الرسول صلى الله عليه وسلم نصيباً من العذاب مثل نصيب أسلافهم الذين أُهلكوا كقوم نوح وعاد وثمود {فَلا يَسْتَعْجِلُونِ} أي فلا يتعجلوا عذابي فإنه واقع لا محالة إن عاجلاً أو آجلاً {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ} أي هلاك ودمار وشدة عذاب لهؤلاء الكفار في يوم القيامة الذي وعدهم الله به.

yacine414
2011-04-01, 20:20
سورة الطُّور



التسميَــة

حال الكفرة الأشقياء

حال المؤمنين السعداء

أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بتذكير قومه بالقرآن

إثبات قدرة الخالق وعجز المخلوق

إخبار الله عن شدة طغيان الكفار وعنادهم





بَين يَدَي السُّورَة



* سورة الطور من السور المكية التي تعالج موضوع العقيدة الإِسلامية، وتبحث في أصول العقيدة وهي "الوحدانية، الرسالة، البعث والجزاء".



* ابتدأت السورة الكريمة بالحديث عن أهوال الآخرة وشدائدها، وعما يلقاه الكافرون في ذلك الموقف الرهيب "موقف الحساب" وأقسمت على أن العذاب نازل بالكفار لا محالة، لا يمنعه مانع ولا يدفعه دافع، وكان القسم بأمور خمسة تنبيهاً على أهمية الموضوع.



* ثم تناولت الحديث عن المتقين وهم في جنات النعيم، على سرر متقابلين، وقد جمع الله لهم أنواع السعادة "الحور العين، واجتماع الشمل بالذرية والبنين، والتنعم والتلذذ بأنواع المآكل والمشارب من فواكه وثمار، ولحوم متنوعة مما يشتهى ويستطاب" إلى غير ما هنالك من أنواع النعيم، مما لا عينٌ رأت، ولا أُذنٌ سمعت، ولا خطر على قلب بشر.



* ثم تحدثت عن رسالة محمد بن عبد الله صلوات الله عليه، وأمرته بالتذكير والإِنذار للكفرة الفجار، غير عابئ ما يقوله المشركون وما يفتريه المفترون حول الرسالة والرسول، فليس محمد صلى الله عليه وسلم بإِنعام الله عليه بالنبوة وإِكرامه بالرسالة بكاهن ولا مجنون كما زعم المجرمون.



* ثم أنكرت السورة على المشركين مزاعمهم الباطلة في شأن نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، وردَّت عليهم بالحجج الدامغة والبراهين القاطعة التي تقصم ظهر الباطل، وأقامت الدلائل على صدق رسالة محمد عليه السلام.



* وختمت السورة الكريمة بالتهكم بالكافرين وأوثانهم بطريق التوبيخ والتقريع، وبينت شدة عنادهم، وفرط طغيانهم، وأمرت الرسول صلى الله عليه وسلم بالصبر على تحمل الأذى في سبيل الله حتى يأتي نصر الله.



التسميَــة:

سميت "سورة الطُّور" لأن الله تعالى بدأ السورة الكريمة بالقسم بجبل الطور الذي كلَّم الله تعالى عليه موسى عليه السلام، ونال ذلك الجبل من الأنوار والتجليات والفيوضات الإِلهية ما جعله مكاناً وبقعةً مشرفة على سائر الجبال في بقاع الأرض.



حال الكفرة الأشقياء



{وَالطُّورِ(1)وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ(2)فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ(3)وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ(4)وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ(5)وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ(6)إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ(7)مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ(8)يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْرًا(9)وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْرًا(10)فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ(11)الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ(12)يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا(13)هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ(14)أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ(15)اصْلَوْهَا فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ(16)}



{ وَالطُّورِ* وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ} أقسم تعالى بجبل الطور الذي كلَّم الله عليه موسى، وأقسم بالكتاب الذي أنزله الله على خاتم رسله وهو القرآن العظيم المكتوب {فِي رَقٍّ} أي في أديمٍ من الجلد الرقيق { مَنْشُورٍ} أي مبسوط غير مطوي وغير مختوم عليه قال القرطبي: أقسم الله تعالى بالطور - وهو الجبل الذي كلم الله عليه موسى - تشريفاً له وتكريماً، وتذكيراً لما فيه من الآيات، وأقسم بالكتاب المسطور أي المكتوب وهو القرآن يقرأه المؤمنون من المصاحف، ويقرأه الملائكة من اللوح المحفوظ، وقيل يعني بالكتاب سائر الكتب المنزلة على الأنبياء لأن كل كتاب في رقٍّ ينشره أهله لقراءته، والرقُّ ما رُقّق من الجلد ليكتب فيه {وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ} أي وأُقسم بالبيت المعمور الذي تطوف به الملائكة الأبرار، وهو لأهل السماء كالكعبة المشرفة لأهل الأرض، وفي حديث الإِسراء (ثم رفع إِليَّ البيت المعمور، فقلت يا جبريل ما هذا؟ قال: هذا البيت المعمور، يدخله كلَّ يوم سبعون ألف ملك، إِذا خرجوا منه لم يعودوا إِليه آخر ما عليهم) وقال ابن عباس: هو بيت في السماء السابعة حيال الكعبة - أي مقابلها وحذاءها - تعمره الملائكة، يصلي فيه كل يوم سبعون ألفاً من الملائكة ثم لا يعودون إِليه {وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ} أ ي والسماء العالية المرتفعة، الواقفة بقدرة الله بلا عمد، سمَّى السماء سقفاً لأنها للأرض كالسقف للبيت ودليله {وجعلنا السماء سقفاً محفوظاً} وقال ابن عباس: هو العرش وهو سقف الجنة {وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ } أي والبحر المسجور الموقد ناراً يوم القيامة كقوله {وإِذا البحار سُجرت} أي أضرمت حتى تصير ناراً ملتهبة تتأجج تحيط بأهل الموقف { إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ} هذا جواب القسم أي إِن عذاب الله لنازل بالكافرين لا محالة قال ابن الجوزي: أقسم تعالى بهذه الأشياء الخمسة للتنبيه على ما فيها من عظيم قدرته على أن عذاب المشركين حق {مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ} أي ليس له دافع يدفعه عنهم قال أبو حيان: والواو الأولى للقسم وما بعدها للعطف، والجملة المقسم عليها هي {إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ} وفي إِضافة العذاب للرب لطيفة إِذ هو المالك والناظر في مصلحة العبد، فإِضافته إِلى الرب وإِضافته لكاف الخطاب أمانٌ له صلى الله عليه وسلم وأن العذاب واقع بمن كذبه، ولفظ واقع أشد من كائن، كأنه مهيأ في مكان مرتفع فيقع على من حلَّ به {يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْرًا} أي تتحرك السماء وتضطرب اضطراباً شديداً من هول ذلك اليوم {وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْرًا} أي تنسف نسفاً عن وجه الأرض فتكون هباءً منثوراً كقوله {ويسألونك عن الجبال فقل ينسفها ربي نسفاً} قال الخازن: والحكمة في مور السماء وسير الجبال، الإِنذارُ والإِعلام بأن لا رجوع ولا عود إِلى الدنيا، وذلك لأن الأرض والسماء وما بينهما من الجبال والبحار وغير ذلك إِنما خلقت لعمارة الدنيا وانتفاع بني آدم بذلك، فلما لم يبق لهم عودٌ إِليها أزالها الله تعالى وذلك لخراب الدنيا وعمارة الآخرة {فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ} أي هلاك ودمار وشدة عذاب للمكذبين أرسلَ الله في ذلك اليوم الرهيب {الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ} أي الذين هم في الدنيا يخوضون في الباطل غافلون ساهون عما يراد بهم {يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا} أي يوم يُدفعون إِلى نار جهنم دفعاً بشدة وعنف قال في البحر: وذلك أن خزنة جهنم يغلون أيدي الكفار إِلى أعناقهم، ويجمعون نواصيهم إِلى أقدامهم، ويدفعون بهم دفعاً إِلى النار على وجوههم وزجاً في أقفيتهم حتى يردوا إِلى النار، فإِذا دنوا منها قال لهم خزنتها {هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ} أي هذه نار جهنم التي كنتم تهزءون وتكذبون بها في الدنيا {أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ} أي وتقول لهم الزبانية تقريعاً وتوبيخاً: هل هذا الذي ترونه بأعينكم من العذاب سحرٌ، أم أنتم اليوم عميٌ كما كنتم في الدنيا عمياً عن الخير والإِيمان؟ قال أبو السعود: وقوله تعالى {أَفَسِحْرٌ هَذَا} توبيخ لهم وتقريع حيث كانوا يسموه القرآن الناطق بالحق سحراً فكأنه قيل لهم: كنتم تقولون عن القرآن إِنه سحر أفهذا العذاب أيضاً سحر أم سُدَّت أبصاركم كما سدَّت في الدنيا؟ {اصْلَوْهَا فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا} أي قاسوا شدتها فاصبروا على العذاب أو لا تصبروا، وهو توبيخ آخر {سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ} أي يتساوى عليكم الصبر والجزع لأنكم مخلدون في جهنم أبداً { إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } إنما أي إِنما تنالون جزاء أعمالكم القبيحة من الكفر والتكذيب، ولا يظلم ربك أحداً.



حال المؤمنين السعداء



{إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ(17)فَاكِهِينَ بِمَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقَاهُمْ رَبُّهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ(18)كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ(19)مُتَّكِئِينَ عَلَى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ(20)وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ(21)وَأَمْدَدْنَاهُمْ بِفَاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ(22)يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأْسًا لا لَغْوٌ فِيهَا وَلا تَأْثِيمٌ(23)وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ(24)وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءلُونَ(25)قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ(26)فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ(27)إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ(28)}.



ولما ذكر حال الكفرة الأشقياء ذكر حال المؤمنين السعداء على عادة القرآن الكريم في الجمع بين الترهيب والترغيب فقال {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ} أي إن الذين اتقوا ربهم في الدنيا بامتثال أوامره واجتناب نواهيه، هم في الآخرة في بساتين عظيمة ونعيم مقيم خالد {فَاكِهِينَ بِمَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ} أي متنعمين ومتلذذين بما أعطاهم ربهم من الخير والكرامة وأصناف الملاذ من مآكل ومشارب، وملابس ومراكب، وغير ذلك من ملاذ الجنة {وَوَقَاهُمْ رَبُّهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ} أي وقد نجاهم ربهم من عذاب جهنم وصرف عنهم أهوالها قال ابن كثير: وتلك نعمة مستقلة بذاتها مع ما أضيف إِليها من دخول الجنة، التي فيها من السرور ما لا عينٌ رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر {كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} أي يقال لهم: كلوا واشربوا أكلاً وشرباً هنيئاً، لا تنغيص فيهولا كدر، بسبب ما قدمتم من صالح الأعمال .. ثم أخبر تعالى عن حالهم عند أكلهم وشربهم فقال {مُتَّكِئِينَ عَلَى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ} أي جالسين على هيئة المضطجع على سرر من ذهب مكلَّلة بالدر والياقوت، مصطفة بعضها إِلى جانب بعض، قال ابن كثير: {مَصْفُوفَةٍ} أي وجوه بعضهم إِلى بعض كقوله {على سررٍ متقابلين} وفي الحديث (إن الرجل ليتكئ المتكأ مقدار أربعين سنةً ما يتحول عنه ولا يملُّه، يأتيه ما اشتهت نفسه ولذات عينه) {وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ} أي وجعلنا لهم قرينات صالحات، وزوجات حساناً من الحور العين، وهنَّ نساء بيض واسعات العيون - من الحَوَر وهو شدة البياض، والعينُ جمع عيناء وهي كبيرة العين - والبياضُ مع سعة العين نهاية الحسن والجمال {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ} أي كانوا مؤمنين وشاركهم أولادهم في الإِيمان {أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} أي ألحقنا الأبناء بالآباء لتقرَّ بهم أعينهم وإِن لم يبلغوا عملهم قال ابن عباس: إِن الله عز وجل ليرفع ذرية المؤمن معه في درجته في الجنة وإِن كان لم يبلغها بعمله لتقرَّبهم عينه وتلا الآية قال الزمخشري: فيجمع الله لأهل الجنة أنواع السرور بسعادتهم في أنفسهم، وبمزاوجة الحور العين، وبمؤانسة الإِخوان المؤمنين، وباجتماع أولادهم ونسلهم بهم {وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ} أي وما نقصنا الآباء من ثواب عملهم شيئاً قال في البحر: المعنى أنه تعالى يُلحق المقصِّر بالمحسن ولا ينقص المحسن من أجره شيئاً {كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ} أي كل إِنسان مرتهن بعمله لا يُحمل عليه ذنب غيره سواء كان أباً أو إبناً وقال ابن عباس: ارتهن أهل جهنم بأعمالهم، وصار أهل الجنة إِلى نعيمهم وقال الخازن: المراد بالآية الكافر أي كل كافر بما عمل من الشرك مرتهن بعمله في النار، والمؤمن لا يكون مرتهناً بعمله لقوله تعالى: {كل نفسٍ بما كسبت رهينة إِلا أصحاب اليمين} .. ثم ذكر ما وعدهم به من الفضل والنعمة فقال {وَأَمْدَدْنَاهُمْ بِفَاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ} أي وزدناهم - فوق ما لهم من النعيم - بفواكه ولحوم من أنواع شتى مما يستطاب ويُشتهى {يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأْسًا} أي يتعاطون في الجنة كأساً من الخمر، يتجاذبها بعضهم من بعض تلذذاً وتأنساً قال الألوسي: أي يتجاذبونها تجاذب ملاعبة كما يفعل ذلك الندامى في الدنيا لشدة سرورهم {لا لَغْوٌ فِيهَا وَلا تَأْثِيمٌ} أي لا يقع بينهم بسبب شربها هذيان حتى يتكلموا بساقط الكلام، ولا يلحقهم إِثم كما يلحق شارب الخمر في الدنيا قال قتادة: نزّه الله خمر الآخرة عن قاذورات خمر الدنيا وأذاها، فنفى عنها صُداع الرأس، ووجع البطن، وإِزالة العقل، وأخبر أنها لا تحملهم على الكلام الفارغ الذي لا فائدة فيه، المتضمن للهذيان والفحش، ووصفها بحسن منظرها، وطيب طعمها، فقال {بيضاء لذة للشاربين . لا فيها غولٌ ولا هم عنها يُنزفون} ثم قال تعالى {وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌ لَهُمْ} أي ويطوف عليهم للخدمة غلمان مماليك خصصهم تعالى لخدمتهم {كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ} أي كأنهم في الحسن، والبياض، والصفاء اللؤلؤ المصون في الصدف قال القرطبي: وهؤلاء الغلمان قيل هم أولاد المشركين وهم خدم أهل الجنة، وليس في الجنة نصب ولا حاجة إِلى خدمة، ولكنه أخبر بأنهم على غاية النعيم {وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءلُونَ} أي أقبل أهل الجنة يسأل بعضهم بعضاً عن أعمالهم وأحوالهم في الدنيا، تلذذاً بالحديث، واعترافاً بالنعمة {قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ} أي قال المسؤولون: إِنا كنا في دار الدنيا خائفين من ربنا، مشفقين من عذابه وعقابه {فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ} أي فأكرمنا الله بالمغفرة والجنة، وأجارنا مما نخاف، وحمانا من عذاب جهنم النافذة في المسام نفوذ الريح الحارة الشديدة وهي التي تسمى {السَّمُومِ} قال الفخر الرازي: والآية إِشارة إِلى أن أهل الجنة يعلمون ما جرى عليهم في الدنيا ويذكرونه، وكذلك الكافر لا ينسى ما كان له من النعيم في الدنيا، فتزداد لذة المؤمن حيث يرى نفسه انتقلت من الضيق إِلى السعة، ومن السجن إِلى الجنة، ويزداد الكافر ألماً حيث يرى نفسه انتقلت من النعيم إِلى الجحيم {إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ} أي قال أهل الجنة: إِنا كنا في الدنيا نعبد الله ونتضرع إِليه، فاستجاب الله لنا فأعطانا سؤلنا {إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ} أي إِنه تعالى هو المحسن، المتفضل على عباده بالرحمة والغفران، وهو كالتعليل لما سبق، عن مسروق أن عائشة رضي الله عنها قرأت هذه الآية {فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ* إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ} فقالت: اللهم مُنَّ علينا وقنا عذاب السموم إِنك أنت البر الرحيم.







أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بتذكير قومه بالقرآن



{فَذَكِّرْ فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ(29)أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ(30)قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ(31)أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُمْ بِهَذَا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ(32)أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَل لا يُؤْمِنُونَ(33)فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ(34)}



سبب النزول:

نزول الآية (30):

{أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ }: أخرج ابن جرير وابن إسحاق عن ابن عباس: أن قريشاً لما اجتمعوا في دار النَّدْوة في أمر النبي صلى الله عليه وسلم، قال قائل: احبسوه في وثاق، ثم تربصوا به المنون حتى يهلك، كما هلك من قبله من الشعراء: زهير والنابغة والأعشى، فإنما هو كأحدهم، فأنزل الله في ذلك: {أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ}.



{فَذَكِّرْ فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ} أي فذكّر يا محمد بالقرآن قومك وعظهم به، فما أنت بإِنعام الله عليك بالنبوة وإِكرامه لك بالرسالة {بِكَاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ} أي لست كاهناً تخبر بالأمور الغيبية من غير وحي، ولا مجنوناً كما زعم المشكرون، إِنما تنطق بالوحي .. ثم أنكر عليهم مزاعمهم الباطلة في شأن الرسول فقال {أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ} أي بل أيقول المشركون هو شاعر ننتظر به حوادث الدهر وصروفه حتى يهلك فنستريح منه؟ قال الخازن: وريبُ المنون حوادث الدهر وصروفه، وغرضهم أنه يهلك ويموت كما هلك من كان قبله من الشعراء، والمنون اسم للموت وللدهر وأصله القطع، سميا بذلك لأنهم يقطعان الأجل {قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ} أي قل لهم يا محمد: انتظروا بي الموت فإِني منتظر هلاككم كما تنتظرون هلاكي، وهو تهكم بهم مع التهديد والوعيد {أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُمْ بِهَذَا}؟ أي أم تأمرهم عقولهم بهذا الكذب والبهتان؟ قال الخازن: وذلك أن عظماء قريش كانوا يصفون بالأحلام والعقول، فأزرى الله بعقولهم حين لم تثمر لهم معرفة الحق من الباطل، وهو تهكم آخر بالمشركين {أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ} أي بل هم قوم مجاوزون الحد في الكفر والطغيان، والمكابرة والعناد {أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ} أي أم يقولون إن محمداً اختلق القرآن وافتراه من عند نفسه قال القرطبي: والتقوُّل تكلف القول، وإِنما يستعمل في الكذب في غالب الأمر، يقال: قوَّلتني ما لم أقل أي ادعيته عليَّ، وتقوَّل عليه أي كذب عليه {بَل لا يُؤْمِنُونَ} أي ليس الأمر كما زعموا بل لا يصدقون بالقرآن استكباراً وعناداً ثم ألزمهم تعالى الحجة فقال {فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ} أي فليأتوا بكلامٍ مماثلٍ للقرآن في نظمه وحسنه وبيانه، إِن كانوا صادقين في قولهم إِن محمداً افتراه، وهو تعجيزٌ لهم مع التوبيخ.



إثبات قدرة الخالق وعجز المخلوق



{أَمْ خُلِقوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ(35) أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بَل لا يُوقِنُونَ(36)أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُسَيْطِرُونَ(37)أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ(38)أَمْ لَهُ الْبَنَاتُ وَلَكُمْ الْبَنُونَ(39)أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ(40)أَمْ عِنْدَهُمْ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ(41)أَمْ يُرِيدُونَ كَيْدًا فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ(42)أَمْ لَهُمْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ(43)}.



{أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ} أي هل خُلقوا من غير ربٍ ولا خالق؟ قال ابن عباس: من غير ربٍ خلقهم وقدَّرهم {أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ} أي أم هم الخالقون لأنفسهم، حتى تجرءوا فأنكروا وجود الله جلّ وعلا؟ {أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ} أي أم هم خلقوا السماوات والأرض؟ وإِنما خصَّ السماواتِ والأرض بالذكر من بين سائر المخلوقات لعظمها وشرفها، ثم بيَّن تعالى السبب في إِنكارهم لوحدانية الله فقال {بَل لا يُوقِنُونَ} أي بل لا يصدقون ولا يؤمنون بوحدانية الله وقدرته على البعث ولذلك ينكرون الخالق قال الخازن: ومعنى الآية هل خُلقوا من غير شيءٍ خلقهم فوجدوا بلا خالق وذلك مما لا يجوز أن يكون، لأن تعلق الخلق بالخالق ضروري، فإِن أنكروا الخالق لم يجز أن يوجدوا بلا خالق، أم هم الخالقون لأنفسهم؟ وذلك في البطلان أشدُّ، لأن ما لا وجود له كيف يخلق؟ فإِذا بطل الوجهان قامت الحجة عليهم بأن لهم خالقاً فليؤمنوا به، وليوحدوه، وليْعبدوه، وليْوقنوا أنه ربهم وخالقهم {أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ}؟ أي أعندهم خزائن رزق الله ورحمته حتى يعطوا النبوة من شاءوا ويمنعوها عمن شاءوا؟ قال ابن عباس: {خَزَائِنُ رَبِّكَ} المطر والرزقُ وقال عكرمة: النبوة {أَمْ هُمُ الْمُسَيْطِرُونَ}؟ أي أم هم الغالبون القاهرون حتى يتصرفوا في الخلق كما يشاءون؟ لا بل الله عز وجل هو الخالق المالك المتصرف وقال عطاء: {أَمْ هُمُ الْمُسَيْطِرُونَ} أم هم الأرباب فيفعلون ما يشاءون ولا يكونون تحت أمر ولا نهي؟ {أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ}؟ أي أم لهم مرقى ومصعد إِلى السماء يستمعون فيه كلام الملائكة والوحي فيعلمون أنهم على حقٍّ فهم به مستمسكون؟ {فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ} أي فليأت من يزعم ذلك بحجة بينة واضحة على صدق استماعه كما أتى محمد بالبرهان القاطع .. ثم وبخهم تعالى على ما هو أشنع وأقبح من تلك المزاعم الباطلة وهو نسبتهم إِلى الله البنات، وجعلهم لله جل وعلا ما يكرهون لأنفسهم فقال {أَمْ لَهُ الْبَنَاتُ وَلَكُمْ الْبَنُونَ}؟ أي كيف تجعلون لله البنات - مع كراهتكم لهن - وتجعلون لأنفسكم البنين؟ أهذا هو المنطق والإِنصاف؟ قال القرطبي: سفَّه أحلامهم توبيخاً لهم وتقريعاً والمعنى أتضيفون إِلى الله البنات مع أنفتكم منهن، ومن كان عقله هكذا فلا يُستبعد منه إِنكار البعث وقال أبو السعود: تسفيهٌ لهم وتركيكٌ لعقولهم، وإِيذانٌ بأن من هذا رأيه لا يكاد يُعد من العقلاء، فضلاً عن الترقي إِلى عالم الملكوت، والاطلاع على الأسرار الغيبية، والالتفات إِلى الخطاب لتشديد الإِنكار والتوبيخ {أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا} أي هل تسألهم يا محمد أجراً على تبليغ الرسالة وتعليم أحكام الدين؟ {فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ} أي فهم بسبب ذلك الأجر والغُرم الثقيل الذي أوجبته عليهم مجهدون ومتعبون فلذلك يزهدون في اتباعك، ولا يدخلون في الإِسلام؟ فإِن العادة أن من كلف إِنساناً مالاً وضربَ عليه جُعلاً يصير مثقلاً وغارماً بسببه فيكرهه ولا يسمع قوله ولا يمتثله {أَمْ عِنْدَهُمْ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ}؟ أي أعندهم علم الغيب حتى يعلموا أنَّ ما يخبرهم به الرسول صلى الله عليه وسلم من أمور الآخرة والحشر والنشر باطلٌ فلذلك يكتبون هذه المعلومات عن معرفةٍ ويقين؟ قال قتادة: هو ردٌّ لقولهم {شاعر نتربص به ريب المنون} والمعنى أعَلموا أن محمداً يموتُ قبلهم حتى يحكموا بذلك؟ وقال ابن عباس: أم عندهم اللوح المحفوظ فهم يكتبون ما فيه، ويُخبرون الناس بما فيه؟ ليس الأمر كذلك فإِنه لا يعلم أحدٌ من أهل السماوات والأرض الغيب إِلا الله {أَمْ يُرِيدُونَ كَيْدًا} ؟ أي أيريد هؤلاء المجرمون أن يتآمروا عليك يا محمد؟ قال المفسرون: والآية إِشارة إِلى كيدهم في دار الندوة وتآمرهم على قتل الرسول صلى الله عليه وسلم كما قال تعالى {وإِذْ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك} {فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ} أي فالذين جحدوا رسالة محمد هم المجزيون بكيدهم لأن ضرر ذلك عائد عليهم، ووباله راجع على أنفسهم كقوله {ولا يحيق المكرُ السيء إِلا بأهله} قال الصاوي: وأوقع الظاهر {فَالَّذِينَ كَفَرُوا} موقع المضمر تشنيعاً وتقبيحاً عليهم بتسجيل وصف الكفر {أَمْ لَهُمْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ}؟ أي ألهم إِله خالق رازق غير الله تعالى حتى يلجأوا إِليه وقت الضيق والشدة؟ ويستنجدوا به لدفع الضُّرِّ والعذاب عنهم؟ {سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ} أي تنزَّه وتقدَّس الله عما يشركون به من الأوثان والأصنام قال الإِمام الجلال: والاستفهام بـ "أم" في مواضعها الخمسة عشر للتوبيخ والتقريع والإِنكار.



إخبار الله عن شدة طغيان الكفار وعنادهم



{وَإِنْ يَرَوْا كِسْفًا مِنَ السَّمَاءِ سَاقِطًا يَقُولُوا سَحَابٌ مَرْكُومٌ(44)فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ(45)يَوْمَ لا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا وَلا هُمْ يُنصَرُونَ(46)وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذَابًا دُونَ ذَلِكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ(47)وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ(48)وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَارَ النُّجُومِ(49)}



ثم أخبر تعالى عن شدة طغيانهم وفرط عنادهم فقال {وَإِنْ يَرَوْا كِسْفًا مِنَ السَّمَاءِ سَاقِطًا} أي لو عذبناهم بسقوط قطع من السماء نزلت عليهم لم ينتهوا ولم يرجعوا، ولقالوا في هذا النازل عناداً واستهزاءً: إِنه سحاب مركوم {يَقُولُوا سَحَابٌ مَرْكُومٌ} أي إِنه سحاب متراكم بعضُه فوق بعض قد سقط علينا قال أبو حيان: كانت قريشٌ قد اقترحت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما اقترحت من قولهم {أو تُسقط السماء كما زعمت علينا كِسفاً} فأخبر تعالى أنهم لو رأوا ذلك عياناً حسب اقتراحهم لبلغ بهم عتوهم وجهلهم أن يغالطوا أنفسهم فيما عاينوه ويقولوا: هو سحابٌ مركوم أي سحاب تراكم بعضه فوق بعض ممطرنا، وليس بكسفٍ ساقطٍ للعذاب {فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ} أي اتركهم يا محمد يتمادون في غيهم وضلالهم، حتى يلاقوا ذلك اليوم الرهيب - يوم القيامة - الذي يأتيهم فيه من العذاب ما يزيل عقولهم ويسلب ألبابهم {يَوْمَ لا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا} أي يوم لا ينفعهم كيدهم ولا مكرهم الذي استعملوه في الدنيا ولا يدفع عنهم شيئاً من العذاب {وَلا هُمْ يُنصَرُونَ} أي ولا هم يُمنعون من عذاب الله في الآخرة {وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذَابًا دُونَ ذَلِكَ} أي وإِن للذين كفروا عذاباً شديداً في الدنيا قبل عذاب الآخرة قال ابن عباس: هو عذاب القبر وقال مجاهد: هو الجوع والقحط سبع سنين {وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} أي لا يعلمون أن العذاب نازل بهم {وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ} أي اصبرْ يا محمد على قضاء ربك وحكمه، فيما حمَّلك به من أعباء الرسالة {فَإِنَّكَ بِأَعْينِنَا} أي فإِنك بحفظنا وكلاءتنا نحرسك ونرعاك {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ} أي ونزِّه ربك عما لا يليق به من صفات النقص حين تقوم من منامك ومن كل مجلس بأن تقول: سبحان الله وبحمده قال ابن عباس: أي صلِّ للهِ حين تقومُ من منامك {وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ} أي ومن الليل فاذكره واعبده بالتلاوة والصلاة والناسُ نيام كقوله {ومن الليل فتهجَّد به نافلةً لك} {وَإِدْبَارَ النُّجُومِ} أي وصلِّ له في آخر الليل حين تدبر وتغيب النجوم بضوء الصبح قال ابن عباس: هما الركعتان اللتان قبل صلاة الفجر وفي الحديث (ركعتا الفجر خير من الدنيا وما فيها).

yacine414
2011-04-01, 20:21
سورة النَّجْم



معجزة المعراج:

بيان عظمة الله وأحقيته بالعبادة، وعدم نفع عبادة غيره:

من ضلالات المشركين، تسميتهم الملائكة بنات الله:

جزاء المسيئين والمحسنين، ووصف المحسنين:

توبيخ الوليد بن المغيرة لإعراضه عن اتباع الحق:

الاتعاظ بالقرآن وبرسالة الرسول صلى الله عليه وسلم:



بَين يَدَيْ السُّورَة



* سورة النَّجْم مكية وهي تبحث عن موضوع الرسالة في إِطارها العام، وعن موضوع الإِيمان بالبعث والنشور شأن سائر السور المكية.



* ابتدأت السورة الكريمة بالحديث عن موضوع "المعراج" الذي كان معجزة لرسول الإِنسانية محمد بن عبد الله صلوات الله عليه، والذي رأى فيه الرسول الكريم عجائب وغرائب في ملكوت الله الواسع مما يدهش العقول ويحيّر الألباب، وذكَّرت الناس بما يجب عليهم من الإِيمان والتصديق، وعدم المجادلة والمماراة في مواضيع الغيب والوحي.



* ثم تلاها الحديث عن الأوثان والأصنام التي عبدها المشركون من دون الله، وبينت بطلان تلك الآلهة المزعومة، وبطلان عبادة غير الله، سواء في ذلك عبادة الأصنام أو عبادة الملائكة الكرام.



* ثم تحدثت عن الجزاء العادل يوم الدين، حيث تجزى كل نفسٍ بما كسبت، فينال المحسن جزاء إحسانه، والمسيء جزاء إِساءته، ويتفرق الناس إِلى فريقين: أبرار، وفجار.



* وقد ذكرت برهاناً على الجزاء العادل بأن كل إِنسان ليس له إِلا عمله وسعيه، وأنه لا تحمل نفسٌ وزر أُخرى، لأن العقوبة لا تتعدى غير المجرم، وهو شرع الله المستقيم، وحكمه العادل الذي بينه في القرآن العظيم، وفي الكتب السماوية السابقة.



* وذكرت السورة الكريمة آثار قدرة الله جل وعلا في الإِحياء والإِماتة، والبعث بعد الفناء، والإِغناء والإِفقار، وخلق الزوجين الذكر والأنثى من نطفة إِذا تمنى.



* وختمت السورة الكريمة بما حلَّ بالأمم الطاغية كقوم عاد، وثمود، وقوم نوح ولوط، من أنواع العذاب والدمار، تذكيراً لكفار مكة بالعذاب الذي ينتظرهم بتكذيبهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وزجراً لأهل البغي والطغيان عن الاستمرار في التمرد والعصيان.



معجزة المعراج



{وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى(1)مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى(2)وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى(3)إِنْ هُوَ إِلا وَحْيٌ يُوحَى(4)عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى(5)ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى(6)وَهُوَ بِالأُفُقِ الأَعْلَى(7)ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى(8)فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى(9)فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى(10)مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى(11)أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى(12)وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى(13)عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى(14)عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى(15)إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى(16)مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى(17)لَقَدْ رَأَى مِنْ ءاياتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى(18)}



{وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى} أي أقسمُ بالنجم وقت سقوطه من علو قال ابن عباس: أقسم سبحانه بالنجوم إِذا انقضَّت في إِثر الشياطين حين استراقها السمع وقال الحسن: المراد في الآية النجوم إِذا انتثرت يوم القيامة كقوله {وإِذا الكواكب انتثرت} قال ابن كثير: الخالق يُقْسِم بِما شاء من خلقه، والمخلوق لا ينبغي أن يُقسم إِلا بالخالق {مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ} أي ما ضلَّ محمدٌ عن طريق الهداية، ولا حاد عن نهج الاستقامة {وَمَا غَوَى} أي وما اعتقد باطلاً قط بل هو في غاية الهدى والرشد قال أبو السعود: والخطاب لكفار قريش، والتعبير بلفظ {صَاحِبُكُمْ} للإِيذان بوقوفهم على تفاصيل أحواله، فإِن طول صحبتهم له، ومشاهدتهم لمحاسن أوصافه العظيمة مقتضيةٌ ذلك {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} أي لا يتكلم صلى الله عليه وسلم عن هوى نفسي ورأي شخصي {إِنْ هُوَ إِلا وَحْيٌ يُوحَى} أي لا يتكلم إِلا عن وحيٍ من الله عزَّ وجل قال البيضاوي: أي ما القرآن إِلا وحيٌ يوحيه الله إِليه {عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى} أي علَّمه القرآن ملكٌ شديدٌ قواه وهو جبريل الأمين قال المفسرون: ومما يدل على شدة قوته أنه قلع قرى قوم لوط وحملها على جناحه حتى بلغ بها السماء ثم قلبها، وصاح بثمود فأصبحوا خامدين، وكان هبوطه بالوحي على الأنبياء أو صعوده في أسرع من رجعة الطرف {ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى} أي ذو حصافة في العقل، وقوةٍ في الجسم، فاستقرَّ جبريل على صورته الحقيقة {وَهُوَ بِالأُفُقِ الأَعْلَى} أي وهو بأفق السماء حيث تطلع الشمس جهة المشرق قال ابن عباس: المراد بالأفق الأعلى مطلع الشمس قال الخازن: كان جبريل يأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم في صورة الآدميين كما كان يأتي الأنبياء قبله، فسأله رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يريه نفسه على صورته التي جُبل عليها، فأراه نفسه مرتين مرةً في الأرض، ومرة في السماء، فأما التي في الأرض فبالأفق الأعلى أي جانب المشرق حيث كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بحراء فطلع عليه جبريل من ناحية المشرق وفتح جناحيه فسدَّ ما بين المشرق والمغرب، فخرَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم مغشياً عليه، فنزل جبريل في صورة الآدميين فضمَّه إِلى نفسه وجعل يمسح الغبار عن وجهه وهو قوله {ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى} وأما التي في السماء فعند سدرة المنتهى، ولم يره أحدٌ من الأنبياء على صورته الملكية التي خُلق عليها إِلا نبينا محمد صلى الله عليه وسلم {ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى} أي ثم اقترب جبريل من محمد وزاد في القرب منه {فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى} أي فكان منه على مقدار قوسين أو أقل قال الألوسي: والمراد إِفادة شدة القرب فكأنه قيل: فكان قريباً منه {فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى} أي فأوحى جبريل إِلى عبد الله ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم ما أوحى إِليه من أوامر الله عز وجل {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى} أي ما كذب قلب محمد ما رآه ببصره من صورة جبريل الحقيقة قال ابن مسعود: رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم جبريل في صورته وله ستمائة جناح، كل جناحٍ منها قد سدَّ الأفق، يسقط من جناحه من التهاويل والدر والياقوت ما اللهُ به عليم {أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى}؟ أي أفتجادلونه يا معشر المشركين على ما رأى ليلة الإِسراء والمعراج؟ قال أبو حيّان: كانت قريش حين أخبرهم صلى الله عليه وسلم بأمره في الإِسراء كذبوا واستخفوا حتى وصف لهم صلى الله عليه وسلم بيت المقدس، والجمهور على أن المرئي مرتين هو جبريل، وعن ابن عباس وعكرمة أن الرسول صلى الله عليه وسلم رأى ربه بعيني رأسه، وأنكرت ذلك عائشة وقالت إِنه رأى جبريل في صورته مرتين ثم قال أبو حيان: والصحيح أن جميع ما في هذه الآيات هو مع جبريل بدليل قوله تعالى {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى} فإِنه يقتضي مرة متقدمة {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى} أي رأى الرسول جبريل في صورته الملكية مرةً أُخرى {عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى} أي عند سدرة المنتهى التي هي في السماء السابعة قرب العرش قال المفسرون: والسِدرة شجرة النَّبق تنبع من أصلها الأنهار، وهي عن يمين العرش، وسميت سدرة المنتهى لأنه ينتهي إِليها علم الخلائق وجيمع الملائكة، ولا يعلم أحدٌ ما وراءها إِلا الله جل وعلا وفي الحديث (ثم صُعد بي إلى السماء السابعة، ورفعت إِليَّ سدرة المنتهى، فإِذا نبقها - أي ثمرها - مثل قلال هجر، وإِذا أوراقها كآذان الفِيلة ..) {عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى} أي عند سدرة المنتهى الجنة التي تأوي إليها الملائكة وأرواح الشهداء والمتقين {إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى} أي رآه وقت ما يغشى السدرة ما يغشى من العجائب قال الحسن: غشيها نور رب العالمين فاستنارت وقال ابن مسعود: غشيها فراش من ذهب وفي الحديث (لما غشيها من أمر الله ما غشيها تغيَّرت، فما أحد من خلق الله يستطيع أن يصفها من حسنها) قال المفسرون: رأى عليه السلام شجرة سدرة المنتهى وقد غشيتها سبحات أنوار الله عز وجل، حتى ما يستطيع أحد أن ينظر إِليها، وغشيتها الملائكة أمثال الطيور يعبدون الله عندها، يجتمعون حولها مسبِّحين وزائرين كما يزور الناس الكعبة وفي الحديث (رأيت السدرة يغشاها فراش من ذهب، ورأيت على كل ورقة ملكاً قائماً يسبح الله تعالى) {مَا زَاغَ الْبَصَرُ} أي ما مال بصر النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك المقام وفي تلك الحضرة يميناً وشمالاً {وَمَا طَغَى} أي وما جاوز الحدَّ الذي رأى قال القرطبي: أي لم يمدَّ بصره إِلى غير ما رأى من الآيات، وهذا وصف أدب النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك المقام إِذ لم يلتفت يميناً ولا شمالاً وقال الخازن: لما تجلَّى رب العزة وظهر نوره، ثبت صلى الله عليه وسلم في ذلك المقام العظيم الذي تحار فيه العقول، ونزلُّ فيه الأقدام، وتميل فيه الأبصار {لَقَدْ رَأَى مِنْ ءاياتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى} أي والله لقد رأى محمد - ليلة المعراج - عجائب ملكوت الله، رأى سدرة المنتهى، والبيت المعمور، والجنة والنار، ورأى جبريل في صورته التي يكون عليها في السماوات له ستمائة جناح، ورأى رفرفاً أخضر من الجنة قد سدَّ الأفق، وغير ذلك من الآيات العظام قال الفخر الرازي: وفي الآية دليلٌ على أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى ليلة المعراج ءاياتِ الله ولم يرَ الله كما قال البعض، ووجهه أن الله ختم قصة المعراج برؤية الآيات، وقال في الإِسراء {لنريه من ءاياتنا} ولو كان رأى ربه لكان ذلك أعظم ما يمكن ولأخبر تعالى به.





بيان عظمة الله وأحقيته بالعبادة، وعدم نفع عبادة غيره



{أَفَرَأَيْتُمْ اللاتَ وَالْعُزَّى(19)وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى(20)أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الأُنثَى(21)تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى(22)إِنْ هِيَ إِلا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمْ الْهُدَى(23)أَمْ لِلإِنسَانِ مَا تَمَنَّى(24)فَلِلَّهِ الآخِرَةُ وَالأُولَى(25)وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى(26)}



{أَفَرَأَيْتُمْ اللاتَ وَالْعُزَّى* وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى} أي أخبرونا يا معشر الكفار عن هذه الآلهة التي تعبدونها "اللات والعزى ومناة" هل لها من القدرة والعظمة التي وُصف بها رب العزة شيء حتى زعمتم أنها آلهة؟ قال الخازن: هذه أسماء أصنام اتخذوها آلهة يعبدونها، واشتقوا لها أسماء من أسماء الله عز وجل فقالوا من الله اللات، ومن العزيز العُزَّى، وكانت اللات بالطائف، والعُزَّى بغطفان وقد حطمها خالد بن الوليد، ومناة صنم لخزاعة يعبده أهل مكة {أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الأُنثَى}؟ توبيخٌ وتقريع أي ألكم يا معشر المشركين النوع المحبوب من الأولاد وهو الذكر، وله تعالى النوع المذموم بزعمكم وهو الأنثى؟ {تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى} أي تلك القسمة قسمة جائرة غير عادلة حيث جعلتم لربكم ما تكرهونه لأنفسكم قال الرازي: إِنهم ما قالوا لنا البنون وله البنات، وإِنما نسبوا إِلى الله البنات وكانوا يكرهونهن كما قال تعالى {ويجعلون للهِ ما يكرهون} فلما نسبوا إِلى الله البنات حصل من تلك النسبة قسمة جائرة {إِنْ هِيَ إِلا أَسمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ} أي ما هذه الأوثان إِلا أسماء مجردة لا معنى تحتها لأنها لا تضر ولا تنفع، سميتموها آلهة أنتم وآباؤكم وهي مجرد تسميات ألقيت على جمادات {مَا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ} أي ما أنزل الله بها من حجة ولا برهان {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الأَنْفُسُ} أي ما يتبعون في عبادتها إِلا الظنون والأوهام، وما تشتهيه أنفسهم مما زينه لهم الشيطان {وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمْ الْهُدَى} أي والحال أنه قد جاءهم من ربهم البيان الساطع، والبرهان القاطع على أن الأصنام ليست بآلهة، وأن العبادة لا تصلح إِلا لله الواحد القهار قال ابن الجوزي: وفيه تعجيبٌ من حالهم إِذ لم يتركوا عبادتها بعد وضوح البيان {أَمْ لِلإِنسَانِ مَا تَمَنَّى} أي ليس للإِنسان كل ما يشتهي حتى يطمع في شفاعة الأصنام قال الصاوي: والمراد بالإِنسان الكافر، وهذه الآية تجر بذيلها على من يلتجئ لغير الله طلباً للفاني، ويتبع هوى نفسه فيما تطلبه فليس له ما يشتهي، واتباعُ الهوى هوان {فَلِلَّهِ الآخِرَةُ وَالأُولَى} أي فالملك كله لله يعطي من يشاء ويمنع من يشاء، لأنه مالك الدنيا والآخرة، وليس الأمر كما يشتهي الإِنسان، بل هو تعالى يعطي من اتبع هداه وترك هواه .. ثم أكَّد هذا المعنى بقوله {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ } أي وكثير من الملائكة الأبرار الأطهار المنبثين في السماوات {لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا} أي أن الملائكة مع علو منزلتهم ورفعة شأنهم لا تنفع شفاعتهم أحداً إِلا بإِذن الله، فكيف تشفع الأصنام مع حقارتها؟! {إِلا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى} أي إِلا من بعد أن يأذن تعالى في الشفاعة لمن يشاء من أهل التوحيد والإِيمان ويرضى عنه كقوله تعالى {ولا يشفعون إِلا لمن ارتضى} قال ابن كثير: فإِذا كان هذا في حق الملائكة المقربين، فكيف ترجون أيها الجاهلون شفاعة الأصنام والأنداد عند الله تعالى؟.



من ضلالات المشركين، تسميتهم الملائكة بنات الله



{إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلائِكَةَ تَسْمِيَةَ الأُنْثَى(27)وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا(28)فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا(29)ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ اهْتَدَى(30)}



ثم أخبر تعالى عن ضلالات المشركين فقال {إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ} أي لا يصدقون بالبعث والحساب {لَيُسَمُّونَ الْمَلائِكَةَ تَسْمِيَةَ الأُنْثَى} أي ليزعمون أنهم إناثٌ وأنهم بناتُ الله {وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ} أي لا علم لهم بما يقولون أصلاً،لأنهم لم يشاهدوا خلق الملائكة، ولا جاءهم عن الله حجة أو برهان {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلا الظَّنَّ} أي ما يتبعون في هذه الأقوال الباطلة إِلا الظنون والأوهام {وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} أي وإِن الظنَّ لا يجدي شيئاً، ولا يقوم أبداً مقام الحق {فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا} أي فأعرض يا محمد عن هؤلاء المشركين الذين استنكفوا عن الإِيمان والقرآن {وَلَمْ يُرِدْ إِلا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} أي وليس له همٌ إِلا الدنيا وما فيها من النعيم الزائل، والمتعة الفانية قال أبو السعود: والمراد النهيُ عن دعوة المعرض عن كلام الله وعدم الاعتناء بشأنه، فإِن من أعرض عما ذكر، وانهمك في الدنيا بحيث صارت منتهى همته وقصارى سعيه، لا تزيده الدعوة إِلا عناداً وإِصراراً على الباطل {ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ} أي ذلك نهاية علمهم وغاية إِدراكهم أن آثروا الدنيا على الآخرة {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ اهْتَدَى} أي هو عالم بالفريقين: الضالين والمهتدين ويجازيهم بأعمالهم.





جزاء المسيئين والمحسنين، ووصف المحسنين



{وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى(31)الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنشَأَكُمْ مِنَ الأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى(32)}.



سبب نزول الآية (32):

{الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ.. هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنشَأَكُمْ ..}: أخرج الواحدي والطبراني وابن المنذر وابن أبي حاتم: عن ثابت بن الحارث الأنصاري قال: كانت اليهود تقول إذا هلك لهم صبي صغير: هو صِدِّيق، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: "كذبت اليهود، ما من نسمة يخلقه الله في بطن أمه إلا ويعلم أنه شقي أو سعيد"، فأنزل الله عند ذلك هذه الآية: {هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنشَأَكُمْ مِنَ الأَرْضِ }.



{وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ} أي له كل ما في الكون خلقاً وملكاً وتصرفاً ليس لأحدٍ من ذلك شيء أصلاً {لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا} أي ليجازي المسيء بإِساءته {وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى} أي وليجازي المحسن بالجنة جزاء إِحسانه قال ابن الجوزي: والآية إِخبارٌ عن قدرته وسعة ملكه، وهو كلام معترض بين الآية الأولى وبين قوله {لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا} لأنه إِذا كان أعلم بالمسيء وبالمحسن جازى كلاً بما يستحقه، وإِنما يقدر على مجازاة الفريقين إِذا كان واسع الملك .. ثم ذكر تعالى صفات المتقين المحسنين فقال {الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ} أي يبتعدون عن كبائر الذنوب كالشرك والقتل وأكل مال اليتيم {وَالْفَوَاحِشَ} أي ويبتعدون عن الفواحش جمع فاحشة وهي ما تناهى قبحها عقلاً وشرعاً كالزنى ونكاح زوجة الأب لقوله تعالى {ولا تقربوا الزنى إِنه كان فاحشة} وقوله {ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إِلا ما قد سلف إِنه كان فاحشة ومقتاً وساء سبيلاً} {إِلا اللَّمَمَ} أي إِلا ما قلَّ وصغر من الذنوب قال القرطبي: وهي الصغائر التي لا يسلم من الوقوع فيها إِلا من عصمه الله كالقبلة والغمزة والنظرة وفي الحديث (إِن الله عز وجل كتب على ابن آدم حظه من الزنى، أدرك ذلك لا محالة، فزنى العينين النظر، وزنى اللسانِ النطقُ، والنفسُ تتمنى وتشتهي، والفرج يصدِّق ذلك أو يكذبه) فإِذا اجتنب العبد كبائر الذنوب غفر الله بفضله وكرمه الصغائر لقوله تعالى {إن تجتنبوا كبائر ما تُنهون عنه نكفِّر عنكم سيئاتكم} يعني الصغائر {إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ} أي هو تعالى غفار الذنوب ستار العيوب، يغفر لمن فعل ذلك ثم تاب قال ابن كثير: أي رحمته وسعت كل شيء، ومغفرته تسع الذنوب كلها لمن تاب منها قال البيضاوي: ولعله عقَّب به وعيد المسيئين ووعد المحسنين، لئلا ييأس صاحب الكبيرة من رحمته، ولا يتوهم وجوب العقاب على الله تعالى{هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنشَأَكُمْ مِنَ الأَرْضِ} أي هو جل وعلا أعلم بأحوالكم منكم قبل أن يخلقكم، ومن حين أن خلق أباكم آدم من التراب {وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ} أي ومن حين أن كنتم مستترين في أرحام أُمهاتكم، فهو تعالى يعلم التقيَّ والشقي، والمؤمن والكافر، والبرَّ والفاجر، علم ما تفعلون وإِلى ماذا تصيرون {فَلا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ} أي لا تمدحوها على سبيل الإِعجاب، ولا تشهدوا لها بالكمال والتقى، فإِن النفس خسيسة إِذا مُدحت اغترت وتكبَّرت قال أبو حيان: أي لا تنسبوها إِلى الطهارة عن المعاصي، ولا تثنوا عليها، فقد علم الله منكم الزكيَّ والتقي قبل إِخراجكم من صلب آدم، وقبل إِخراجكم من بطون أُمهاتكم {هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ اتَّقَى} أي هو تعالى العالم بمن أخلص العمل، واتقى ربه في السر والعلن.





توبيخ الوليد بن المغيرة لإعراضه عن اتباع الحق



{أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى(33)وَأَعْطَى قَلِيلاً وَأَكْدَى(34)أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرَى(35)أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى(36)وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى(37)أَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى(38)وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلا مَا سَعَى(39)وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى(40)ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الأَوْفَى(41)وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى(42)وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى(43)وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا(44)وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأُنْثَى(45)مِنْ نُطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى(46) وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الأُخْرَى(47)وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَى وَأَقْنَى(48)وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرَى(49)وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الأُولَى(50)وَثَمُودَ فَمَا أَبْقَى(51)وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَى(52)وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى(53)فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى(54)}



سبب النزول:

سبب نزول الآيات (33 - 41):

قال مجاهد وابن زيد فيما أخرجه الواحدي وابن جرير: نزلت في الوليد بن المغيرة، وكان قد اتبع رسول الله صلى الله عليه وسلم على دينه، فعيَّره بعض المشركين، وقال: لِمَ تركتَ دين الأشياخ وضللتهم، وزعمت أنهم في النار؟ قال: إن خشيت عذاب الله، فضمن له إن هو أعطاه شيئاً من ماله، ورجع إلى شِرْكه، أن يتحمل عنه عذاب الله سبحانه وتعالى، فأعطى الذي عاتبه بعض ما كان ضمن له، ثم بخل ومنعه، فأنزل الله تعالى هذه الآية.



سبب نزول الآية (43):

{وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى}: أخرج الواحدي عن عائشة قالت: مرّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوم يضحكون، فقال:لوتعلمون ما أعلم لبكيتم كثيراً ولضحكتم قليلاً، فنزل عليه جبريل عليه السلام بقوله: {وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى} فرجع إليهم فقال: ما خطوت أربعين خطوة حتى أتاني جبريل عليه السلام، فقال: ائت هؤلاء، وقل لهم: إن الله عز وجل يقول: {وَأَنَّهُ هُوَ أَضحَكَ وَأَبْكَى}.



{أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى} أي أخبرني يا محمد عن هذا الفاجر الأثيم الذي أعرض عن الإِيمان واتباع الهدى؟ {وَأَعْطَى قَلِيلاً وَأَكْدَى} أي وأعطى لصاحبه الذي عيَّره قليلاً من المال المشروط ثم بخل بالباقي قال مجاهد: نزلت في الوليد بن المغيرة {أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرَى} أي أعنده علمٌ بالأمور الغيبية حتى يعلم أن صاحبه يتحمل عنه العذاب؟ {أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى} أي لم يُخبر بما في التوراة المنزلة على موسى {وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى} أي وبما في صحف إبراهيم الذي تمَّم ما أُمر به من طاعة الله وتبليغ رسالته، على وجه الكمال والتمام قال الحسن: ما أمره الله بشيء إِلا وفّى به كقوله تعالى {وإِذ ابتلى إبراهيمَ ربُّه بكلماتٍ فأتمهنَّ} {أَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} أي أن لا تحمل نفسٌ ذنب غيرها، ولا يؤاخذ أحدٌ بجريرة غيره، والآية ردٌّ على من زعم أنه يتحمل العذاب عن غيره كقوله تعالى {وقال الذين كفروا للذين آمنوا اتَّبعوا سبيلنا ولنحمل خطاياكم} {وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلا مَا سَعَى} أي وأنه ليس للإِنسان إِلا عمله وسعيه قال ابن كثير: أي كما لا يُحمل عليه وزرُ غيره، كذلك لا يحصل له من الأجر إِلا ما كسب هو لنفسه {وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى} أي وأن عمله سيُعرض عليه يوم القيامة، ويراه في ميزانه قال الخازن: وفي الآية بشارة للمؤمن، وذلك أن الله تعالى يريه أعماله الصالحة ليفرح بها، ويحزن الكافر بأعماله الفاسدة فيزداد غماً {ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الأَوْفَى} أي ثم يُجزى بعمله الجزاء الأتم الأكمل، وهو وعيدٌ للكافر ووعدُ للمؤمن {وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى} أي إِليه جل وعلا المرجع والمآب والمصير فيعاقب ويثيب .. ثم شرع تعالى في بيان آثار قدرته فقال {وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى} أي هو الذي خلق الفرح والحزن، والسرور والغم، فأضحك في الدنيا من أضحك، وأبكى من أبكى قال مجاهد: أضحك أهل الجنة وأبكى أهل النار {وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا} أي خلق الموت والحياة فهو جل وعلا القادر على الإِماتة والإِحياء لا غيره، ولهذا كرر الإِسناد "هو" لبيان أن هذا من خصائص فعل الله {وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأُنْثَى} أي أوجد الصنفين الذكر والأنثى من أولاد آدم ومن كل حيوان قال الخازن: والغرض أنه تعالى هو القادر على إِيجاد الضدين في محل واحد: الضحك والبكاء، والإِحياء والإِماتة، والذكر والأنثى، وهذا شيء لا يصل إِليه فهم العقلاء ولا يعلمونه، وإِنما هو بقدرة الله تعالى وخلقه لا بفعل الطبيعة، وفيه تنبيه على كمال قدرته، لأن النطفة شيء واحد خلق الله منها أعضاء مختلفة، وطباعاً متباينة، وخلق منها الذكر والأنثى، وهذا من عجيب صنعته وكمال قدرته، ولهذا قال {مِنْ نُطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى} أي خلق الذكر والأنثى من نطفةٍ إِذا تدفقت من صلب الرجل، وصُبّت في رحم المرأة {وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الأُخْرَى} أي وأن عليه جل وعلا إِعادة خلق النَّاس للحساب والجزاء، وإِحياؤهم بعد موتهم قال أبو حيّان: لما كانت0 هذه النشأة ينكرها الكفار بولغ فيها بقوله تعالى {عليه} كأنه تعالى أوجب ذلك على نفسه {وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَى وَأَقْنَى} أي أغنى من شاء، وأفقر من شاء وقال ابن عباس: أعطى فأرضى، أغنى الإِنسان ثم رضاه بما أعطاه {وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرَى} أي هو ربُّ الكوكب المضيء المسمَّى بالشعرى الذي كانوا يعبدونه قال أبو السعود: أي هو رب معبودهم وكانت خزاعة تعبدها، سنَّ لهم ذلك رجلٌ من أشرافهم هو "أبو كبشة" {وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الأُولَى} أي أهلك قوم عاد القدماء الذين بُعث لهم نبيُّ الله "هود" عليه السلام، وكانوا من أشد الناس وأقواهم، وأعتاهم على الله وأطغاهم، فأهلكهم الله بالريح الصرصر العاتية قال البيضاوي: سميت عاداً الأولى أي القدماء لأنهم أُولى الأمم هلاكاً بعد قوم نوح عليه السلام {وَثَمُودَ فَمَا أَبْقَى} أي وثمود دمَّرهم فلم يُبق منهم أحداً {وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ} أي وقوم نوح قبل عادٍ وثمود أهلكناهم {إِنَّهُمْ كانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَى} أي كانوا أظلم من الفريقين، وأشد تمرداً وطغياناً ممن سبقهم، قال أبو حيّان: كانوا في غاية العتو والإِيذاء لنوح عليه السلام، يضربونه حتى لا يكاد يتحرك، ولا يتأثرون بشيء مما يدعوهم إِليه قال قتادة: دعاهم ألف سنة إِلا خمسين عاماً، كلما هلك قرن نشأ قرن، حتى كان الرجل يأخذ بيد ابنه يتمشى به إِلى نوح ليحذره منه ويقول له: يا بني إِن أبي مشى بي إِلى هذا وأنا مثلك يومئذٍ فإِياك أن تصدقه، فيموت الكبير على الكفر، وينشأ الصغير على بغض نوح {وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى} أي وقرى قوم لوط أهواها فأسقطها على الأرض بعد أن انقلبت بهم فصار عاليها سافلها، وذلك أن جبريل رفعها إلى السماء ثم أهوى بها {فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى} أي فغطَّاها من فنون العذاب ما غطَّى، وفيه تهويل للعذاب وتعميمٌ لما أصابهم منه قال أبو حيّان: والمؤتفكة هي مدائن قوم لوط، سميت بذلك لأنها انقلبت بأهلها، رفعها جبريل عليه السلام ثم أهوى بها إِلى الأرض، ثم أمطرت عليهم حجارة من سجيل منضود فذلك قوله {فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى}.



الاتعاظ بالقرآن وبرسالة الرسول صلى الله عليه وسلم



{فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكَ تَتَمَارَى(55)هَذَا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الأُولَى(56)أَزِفَتِ الآزِفَةُ(57)لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ(58)أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ(59) وَتَضْحَكُونَ وَلا تَبْكُونَ(60)وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ(61)فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا(62)}



{فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكَ تَتَمَارَى} أي فبأي نعم الله الدالة على وحدانيته وقدرته تتشكك أيها الإِنسان وتكذب!! {هَذَا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الأُولَى} أي هذا هو محمد رسول منذر كسائر الرسل ومن جنس المنذرين الأولين وقد علمتم ما حلَّ بالمكذبين {أَزِفَتِ الآزِفَةُ} أي دنت الساعة واقتربت القيامة قال القرطبي: سميت آزفة لدنوها وقرب قيامها {لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ} أي لا يقدر على كشفها وردها إِذا غشيت الخلق بأهوالها وشدائدها إِلا الله تعالى {أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ}؟ استفهام للتوبيخ أي أفمن هذا القرآن تعجبون يا معشر المشركين سخرية واستهزاءً؟ {وَتَضْحَكُونَ وَلا تَبْكُونَ} أي وتضحكون عند سماعه، ولا تبكون من زواجره وآياته؟ وقد كان حقكم أن تبكوا الدم بدل الدمع حزناً على ما فرطتم {وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ} أي وأنتم لاهون غافلون؟ {فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا} أي فاسجدوا لله الذي خلقكم وأفردوه بالعبادة، ولا تعبدوا اللات والعزى، ومناة والشعرى، فهو الواحد الأحد الفرد الصمد، الذي لا يليق السجود والعبادة إِلاَّ له جل وعلا.

yacine414
2011-04-01, 20:22
سورة الْقَمَر



قصة قوم نوح عليه السلام

قصة عاد قوم هود عليه السلام

قصة ثمود قوم صالح عليه السلام

قصة قوم لوط عليه السلام

قصة آل فرعون

تخويف الله كفار مكة، وجزاء المجرمين والمتقين





بَين يَدَيْ السُّورَة



* سورة الْقَمَر من السور المكية، وقد عالجت أصول العقيدة الإِسلامية، وهي من بدئها إِلى نهايتها حملةٌ عنيفةٌ مفزعة على المكذبين بآيات القرآن، وطابع السورة الخاص، هو طابع التهديد والوعيد، والإِعذار والإِنذار، مع صور شتَّى من مشاهد العذاب والدمار.



* ابتدأت السورة الكريمة بذكر تلك "المعجزة الكونية" معجزة انشقاق القمر، التي هي إِحدى المعجزات العديدة لسيد البشر صلى الله عليه وسلم، وذلك حين طلب المشركون منه معجزة جلية تدل على صدقه، وخصصوا بالذكر أن يشق لهم القمر ليشهدوا له بالرسالة، ومع ذلك عاندوا وكابروا {اقْتَرَبَتْ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ* وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ..} الآيات.



* ثم انتقلت للحديث عن أهوال القيامة وشدائدها، بأسلوب مخيف يهز المشاعر هزاً، ويحرك في النفس الرعب والفزع من هول ذلك اليوم العصيب {فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِي إِلَى شَيْءٍ نُكُرٍ* خُشَّعًا أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنتَشِرٌ* مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِي يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ}.



* وبعد الحديث عن كفار مكة، يأتي الحديث عن مصارع المكذبين، وما نالهم في الدنيا من ضروب العذاب والدمار بدءاً بقوم نوح {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ..}.



* ثم تلاه الحديث عن الطغاة المتجبرين من الأمم السالفة، الذين كذبوا الرسل فأهلكهم الله إِهلاكاً فظيعاً، ودمَّرهم عن بكرة أبيهم، وقد تحدثت الآيات عن قوم "عاد، وثمود، وقوم لوط، وقوم فرعون" وغيرهم من الطغاة المتجبرين بشيءٍ من الإِسهاب، مع تصوير أنواع العذاب.



* وبعد عرض هذه المشاهد الأليمة - مشاهد العذاب والنكال - الذي حلَّ بالمكذبين لرسل الله صلى الله عليه وسلم توجهت السورة إِلى مخاطبة قريش، وحذرتهم مصرعاً كهذه المصارع بل ما هو أشد وأنكى {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ* بَلْ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ...} الآيات.



* وختمت السورة ببيان مآل السعداء المتقين، بعد ذكر مآل الأشقياء المجرمين، على طريقة القرآن في الجمع بين الترغيب والترهيب، بأسلوبه العجيب {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ* فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ}.





معجزة انشقاق القمر



{اقْتَرَبَتْ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ(1)وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ(2)وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ(3)وَلَقَدْ جَاءهُمْ مِنَ الأَنْبَاءِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ(4)حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ(5)فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِي إِلَى شَيْءٍ نُكُرٍ(6)خُشَّعًا أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنتَشِرٌ(7)مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ(8)}



سبب النزول:

نزول الآية (1 - 2):

{اقْتَرَبَتْ السَّاعَةُ...}: أخرج الشيخان والحاكم - واللفظ له - عن ابن مسعود قال: رأيت القمر منشقاً شقين بمكة، قبل مخرج النّبي صلى الله عليه وسلم، فقالوا: سُحِرَ القمر، فنزلت: {اقْتَرَبَتْ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ...}.

وأخرج محمد بن جرير وأبو داود الطيالسي والبيهقي عن عبد الله بن مسعود قال: انشقّ القمر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت قريش: هذا سحر ابن أبي كَبْشة، سحركم، فاسألوا السُّفَّار، فسألوهم، فقالوا: نعم قد رأينا، فأنزل الله عزّ وجلّ: {اقْتَرَبَتْ السَّاعَةُ وَانشَقَّ الْقَمَرُ* وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ}.



{اقْتَرَبَتْ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ} أي دنت القيامة وقد انشقِ القمر {وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا} أي وإِن ير كفار قريش علامة، واضحة ومعجزة ساطعة، تدل على صدق محمد صلى الله عليه وسلم يعرضوا عن الإِيمان {وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ} أي ويقولوا هذا سحرٌ دائم، سحر به محمدٌ أعيننا، قال المفسرون: إِن كفار مكة قالوا للرسول صلى الله عليه وسلم: إن كنت صادقاً فشقَّ لنا القمر فرقتين، ووعدوه بالإِيمان إِن فعل، وكانت ليلة بدر، فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم ربَّه أن يعطيه ما طلبوا، فانشقَّ القمر نصف على جبل الصفا، ونصفٌ على جبل قيقعان المقابل له، حتى رأوا حراء بينهما، فقالوا: سحرنا محمد، ثم قالوا: إن كان سحرنا فإِنه لا يستطيع أن يسحر الناس كلهم!! فقال أبو جهل: اصبروا حتى تأتينا أهل البوادي فإِن أخبروا بانشقاقه فهو صحيح، وإِلا فقد سحر محمد أعيننا، فجاءوا فأخبروا بانشقاق القمر فقال أبو جهل والمشركون: هذا سحرٌ مستمر أي دائم فأنزل الله {اقْتَرَبَتْ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ(1)وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ} قال الخازن: وانشقاقُ القمر من ءايات رسول الله صلى الله عليه وسلم الظاهرة، ومعجزاته الباهرة، يدل عليه ما أخرجه الشيخان عن أنس "أن أهل مكة سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه يُريهم آية، فأراهم انشقاق القمر مرتين" وما روي عن ابن مسعود قال "انشق القمر عل عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم شقتين فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اشهدوا" وما روي عن جبير بن مطعم قال "انشق القمر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فصار فرقتين، فقالت قريش: سحر محمد أعيننا فقال بعضهم: لئن كان سحرنا فما يستطيع أن يسحر الناس كلهم، فكانوا يتلقون الركبان فيخبرونهم بأنهم قد رأوه فيكذبونهم" فهذه الأحاديث الصحيحة، قد وردت بهذه المعجزة العظيمة، مع شهادة القرآن العظيم بذلك، فإِنه أدل دليل وأقوى مثبتٍ له وإِمكانه لا يشك فيه مؤمن، وقيل في معنى الآية: ينشق القمر يوم القيامة، وهذا قول باطل لا يحص، وشاذ لا يثبت، لإِجماع المفسرين على خلافه، ولأن الله ذكره بلفظ الماضي {وَانْشَقَّ الْقَمَرُ} وحمل الماضي على المستقبل بعيد {وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءهُمْ} أي وكذبوا النبي صلى الله عليه وسلم وما عاينوه من قدرة الله تعالى في انشقاق القمر، واتبعوا ما زين لهم الشيطان من الباطل {وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ} أي وكل أمرٍ من الأمور منتهٍ إِلى غاية يستقر عليها لا محالة إِن خيراً فخير، وإِن شراً فشر، قال مقاتل: لكل حديثٍ منتهى وحقيقة ينتهي إِليها، وقال قتادة: إِن الخير يستقر بأهل الخير، والشر يستقر بأهل الشر، وكل أمرٍ مستقر بأهله {وَلَقَدْ جَاءهُمْ مِنَ الأَنْبَاءِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ} أي ولقد جاء هؤلاء الكفار من أخبار الأمم الماضية المكذبين للرسل، ما فيه واعظ لهم عن التمادي في الكفر والضلال {حِكمَةٌ بَالِغَةٌ} أي هذا القرآن حكمة بالغة، بلغت النهاية في الهداية والبيان {فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ} أي أيَّ شيءٍ تُغني النُذُر عمن كتب الله عليه الشقاوة، وختم على سمعه وقلبه؟! قال المفسرون: المعنى لقد جاءهم القرآن وهو حكمة تامة قد بلغت الغاية، فماذا تنفع الإِنذارات والمواعيد لقومٍ أصموا آذانهم عن سماع كلام الله؟ كقوله تعالى {وما تُغني الآيات والنُذر عن قومٍ لا يؤمنون} {فَتَوَلَّ عَنْهُمْ} أي فأعرض يا محمد عن هؤلاء المجرمين وانتظرهم {يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلَى شَيْءٍ نُكُرٍ} أي يوم يدعو إِسرافيل إِلى شيءٍ منكر فظيع، تنكره النفوس لشدته وهوله، وهو يوم القيامة وما فيه من البلاء والأهوال {خُشَّعًا أَبْصَارُهُمْ} أي ذليلةً أبصارهم لا يستطيعون رفعها من شدة الهول {يَخْرُجُونَ مِنَ الأَجْدَاثِ} أي يخرجون من القبور {كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنتَشِرٌ} أي كأنهم في انتشارهم وسرعة إِجابتهم للداعي جرادٌ منتشر في الآفاق، لا يدرون أين يذهبون من الخوف والحيرة، قال ابن الجوزي: وإِنما شبههم بالجراد المنتشر، لأن الجراد لا جهة له يقصدها، فهم يخرجون من القبور فزعين ليس لأحدٍ منهم جهة يقصدها، والداعي هو إِسرافيل {مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِي} أي مسرعين مادّي أعناقهم إِلى الداعي لا يتكلئون ولا يتأخرون {يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ} أي يقول الكافرون هذا يوم صعبٌ شديد، قال الخازن: وفيه إِشارة إلى أنَّ ذلك اليوم يومٌ شديد على الكافرين لا على المؤمنين كقوله تعالى {على الكافرين غيرُ يسير} .



قصة قوم نوح عليه السلام



{كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا وَقَالُوا مجْنُونٌ وَازْدُجِرَ(9)فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ(10)فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ(11)وَفَجَّرْنَا الأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ(12)وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ(13)تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ(14)وَلَقَدْ تَرَكْنَاهَا آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ(15)فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ(16)وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ(17)}.



ثم ذكر تعالى وقائع الأمم المكذبين وما حلَّ بهم من العذاب والنكال تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتحذيراً لكفار مكة فقال {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ} أي كذب قبل قومك يا محمد قومُ نوح {فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ} أي فكذبوا عبدنا نوحاً وقالوا إِنه مجنون، وانتهروه وزجروه عن دعوى النبوة بالسب والتخويف والوعيد بقولهم {لئن لم تنته يا نوحُ لتكوننَّ من المرجومين} قال أبو حيّان: لم يقنعوا بتكذيبه حتى نسبوه إِلى الجنون أي أنه يقول ما لا يقبله عاقل وذلك مبالغة في تكذيبهم، وإِنما قال {عَبْدَنَا} تشريفاً له فمقام العبودية أعلى مقامات القرب{فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ} أي فدعا نوح ربه وقال يا ربّ إِني ضعيف عن مقاومة هؤلاء المجرمين، فانتقم لي منهم وانتصر لدينك، قال أبو حيّان: وإِنما دعا عليهم بعدما يئس منهم وتفاقم أمرهم، وكان الواحد من قومه يخنقه إِلى أن يخر مغشياً عليه وهو يقول: اللهم اغفر لقومي فإِنهم لا يعلمون {فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ} أي فأرسلنا المطر من السماء منصباً بقوة وغزارة، قال أبو السعود: وهو تمثيلٌ لكثرة الأمطار وشدة انصبابها {وَفَجَّرْنَا الأَرْضَ عُيُونًا} أي جعلنا الأرض كلها عيوناً متفجرة بالماء {فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ} أي فالتقى ماء السماء وماء الأرض على حالٍ قد قدَّرها الله في الأزل وقضاها بإِهلاك المكذبين غرقاً، قال قتادة: قضى عليهم في أم الكتاب إِذا كفروا أن يُغرقوا {وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ} أي وحملنا نوحاً على السفينة ذات الألواح الخشبية العريضة المشدودة بالمسامير، قال في البحر: وذات الألواح والدُّسر هي السفينة التي أنشأها نوح عليه السلام، ويفهم من هذين الوصفين أنها "السفينة" فهي صفة تقوم مقام الموصوف وتنوب عنه ونحوه: قميصي مسرودة من حديد أي درع، وهذا من فصيح الكلام وبديعه، ولو جمعت بين الصفة والموصوف لم يكن بالفصيح، والدُّسُر: المسامير {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} أي تسير على وجه الماء بحفظنا وكلاءتنا وتحت رعايتنا {جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ} أي أغرقنا قوم نوح انتصاراً لعبدنا نوح لأنه كان قد كُذِّب وجُحد فضلُه، قال الألوسي: أي فعلنا ذلك جزاءً لنوح لأنه كان نعمةً أنعمها الله على قومه فكفروها، وكذلك كلُ نبيٍ نعمةٌ من الله تعالى على أمته {وَلَقَدْ تَرَكْنَاهَا آيَةً} أي تركنا تلك الحادثة "الطوفان" عبرة {فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} أي فهل من معتبر ومتعظ؟ {فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ} استفهام تهويل وتعجيب أي فكيف كان عذابي وإِنذاري لمن كذب رسلي، ولم يتعظ بآياتي؟ {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ} أي والله لقد سهلنا القرآن للحفظ والتدبر والاتعاظ، لما اشتمل عليه من أنواع المواعظ والعبر {فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} أي فهل من متعظٍ بمواعظه، معتبرٍ بقصصه وزواجره؟ قال الخازن: وفيه الحث على تعليم القرآن والاشتغال به، لأنه قد يسره الله وسهله على من يشاء من عباده، بحيث يسهل حفظه للصغير والكبير، والعربي والعجمي، قال سعيد بن جبير: يسرناه للحفظ والقراءة، وليس شيء من كُتب الله تعالى يُقرأ كلُّه ظاهراً إِلا القرآن، وبالجملة فقد جعل الله القرآن مهيئاً ومسهلاً لمن أراد حفظه وفهمه أو الاتعاظ به، فهو رأس سعادة الدنيا والآخرة.



قصة عاد قوم هود عليه السلام



{كَذَّبَتْ عَادٌ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ(18)إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ(19)تَنزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ(20)فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ(21)وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ(22)}.



{كَذَّبَتْ عَادٌ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ} أي كذبت عادٌ رسولهم هوداً فكيف كان إِنذاري لهم بالعذاب؟ ثم شرع في بيان ما حلَّ بهم من العذاب الفظيع المدمر فقال {إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا} أي أرسلنا عليهم ريحاً عاصفة باردة شديدة الهبوب والصوت، قال ابن عباس: الصرصر: الشديدة البرد، وقال السدي: الشديدة الصوت {فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ} أي في يومٍ مشؤوم دائم الشؤم، استمر عليهم بشؤمه فلم يبق منهم أحدٌ إِلا هلك فيه، قال ابن كثير: استمر عليهم نحسه ودماره، لأنه يوم اتصل فيه عذابهم الدنيوي بالأخروي {تَنزِعُ النَّاسَ} أي تقلع الريح القوم ثم ترمي بهم على رؤوسهم فتدقُّ رقابهم وتتركهم {كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ} أي كأنهم أُصول نخلٍ قد انقلعت من مغارسها وسقطت على الأرض، شبهوا بالنخل لطولهم وضخامة أجسامهم، قال الخازن: كانت الريح تقلعهم ثم ترمي بهم على رؤوسهم فتدق رقابهم، وتفصل رؤوسهم من أجسامهم فتبقى أجسامهم بلا رءوس كعجز النخلة الملقاة على الأرض {فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ} تهويلٌ لما حلَّ بهم من العذاب وتعجيبٌ من أمرهم أي كيف كان عذابي وإِنذاري لهم؟ ألم يكن هائلاً فظيعاً؟ {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ}؟ كرره للتنبيه على فضل الله على المؤمنين بتيسير حفظ القرآن أي ولقد سهلنا القرآن للحفظ والفهم، فهل من متعظٍ ومعتبر بزواجر القرآن!؟



قصة ثمود قوم صالح عليه السلام



{كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ(23)فَقَالُوا أَبَشَرًا مِنَّا وَاحِدًا نَتَّبِعُهُ إِنَّا إِذًا لَفِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ(24)أَؤُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ(25)سَيَعْلَمُونَ غَدًا مَنْ الْكَذَّابُ الأَشِرُ(26)إِنَّا مُرْسِلُو النَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ(27)وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَاءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ(28)فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَى فَعَقَرَ(29)فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ(30)إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَكَانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ(31)وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ(32)}.



ثم أخبر تعالى عن قوم ثمود المكذبين لرسولهم صالح عليه السلام فقال {كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ} أي كذبت ثمود بالإِنذارات والمواعظ التي أنذرهم بها نبيهم صالح {فَقَالُوا أَبَشَرًا مِنَّا وَاحِدًا نَتَّبِعُهُ} أي أنتَّبع إِنساناً مثلنا من آحاد الناس، ليس من الأشراف ولا العظماء، ونحن جماعة كثيرون؟ قال أبو حيّان: قالوا ذلك حسداً منهم واستبعاداً أن يكون نوع البشر يفضل بعضُه بعضاً هذا الفضل، فقالوا: أنكون جمعاً ونتبع واحداً منا؟ ولم يعلموا أن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء، ويفيض نور الهدى على من رضيه {إِنَّا إِذًا لَفِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ} أي إنا إِذا اتبعناه لفي خطأٍ وذهابٍ عن الحقِّ واضح، وجنون دائم، قال ابن عباس: سُعُر أي جنون من قولهم ناقة مسعورة كأنها من شدة نشاطها مجنونة {أَؤُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنَا} استفهام إِنكاري أي هل خصَّ بالوحي والرسالة وحده دوننا، وفينا من هو أكثر منه مالاً وأحسن حالاً؟ قال الإِمام الفخر الرازي: وفي الآية إِشارة إِلى ما كانوا ينكرونه بطريق المبالغة، وذلك لأن الإِلقاء انزلاق بسرعة، فكأنهم قالوا: الملك جسيم والسماء بعيدة فكيف ينزل عليه الوحي في لحظة؟ وقولهم "عليه" إِنكارٌ آخر كأنهم قالوا: ما أُلقي عليه ذكرٌ أصلاً، وعلى فرض نزوله فلا يكون عليه من بيننا وفينا من هو فوقه في الشرف والذكاء؟ وقولهم {أَؤُلْقِيَ} بدلاً من قولهم {أألقى اللهُ} إِشارة إِلى أن الإِلقاء من السماء غير ممكن فضلاً عن أن يكون من الله تعالى {بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ} أي بل هو كاذب في دعوى النبوة، متجاوز في حد الكذب، متكبرٌ بطِرٌ يريد العلو علينا، وإِنما وصفوه بأنه {أَشِرٌ} مبالغة منهم في رفض دعواه كأنهم قالوا إنه كذب لا لضرورةٍ وحاجةٍ إِلى الخلاص كما يكذب الضعيف، وإِنما تكبَّر وبطر وطلب الرياسة عليكم وأراد أن تتبعوه فكذب على الله، فلا يلتفت إِلى كلامه لأنه جمع بين رذيلتين: الكذب والتكبر، وكلٌ منهما مانع من اتباعه، قال تعالى تهديداً لهم وردّاً لبهتانهم {سَيَعْلَمُونَ غَدًا مَنْ الْكَذَّابُ الأَشِرُ} أي سيعلمون في الآخرة من هو الكذَّاب الأشر، هل هو صالح عليه السلام أم قومه المكذبون المجرمون؟ قال الألوسي: المراد سيعلمون أنهم هم الكذابون الأشرون، لكنْ أورد ذلك مورد الإِبهام إِيماءً إِلى أنه مما لا يكاد يخفى {إِنَّا مُرْسِلُو النَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ} أي مخرجوا الناقة من الصخرة الصماء محنة لهم واختباراً كما شاءوا وطلبوا، قال ابن كثير: أخرج الله لهم ناقة عظيمة عشراء، من صخرة صماء طبق ما سألوا، لتكون حجة الله عليهم في تصديق صالح عليه السلام فيما جاءهم به {فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ} أي فانتظرهم وتبصَّر ما يصنعون وما يُصنع بهم، واصبر على أذاهم فإِن الله ناصرك عليهم {وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَاءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ} أي وأعلِمْهم أنَّ الماء الذي يمرُّ بواديهم مقسومٌ بين ثمود وبين الناقة كقوله تعالى {لها شربٌ ولكم شربُ يوم معلوم} قال ابن عباس: إِذا كان يوم شربهم لا تشرب الناقةُ شيئاً من الماء وتسقيهم لبناً وكانوا في نعيم، وإِذا كان يوم الناقة شربت الماء كله فلم تُبق لهم شيئاً، وإِنما قال تعالى {بَيْنَهُمْ} تغليباً للعقلاء {كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ} أي كل نصيب وحصة من الماء يحضرها من كانت نوبته، فإِذا كان يوم الناقة حضرت شربها، وإِذا كان يومهم حضروا شربهم {فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَى فَعَقَرَ} أي فنادت قبيلة ثمود أشقى القوم واسمه "قدار بن سالف" لقتل الناقة فتناول الناقة بسيفه فقتلها غير مكترث بالأمر العظيم {فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ} أي فكيف كان عقابي وإِنذاري لهم؟ ألم يكن فظيعاً شديداً؟! {إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً وَاحِدَةً} أي أهلكناهم بصيحة واحدة صاح بها جبريل عليه السلام فلم تبق منهم عين تطْرف {فَكَانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ} أي فصاروا هشيماً متفتتاً كيابس الشجر إِذا بلي وتحطَّم وداسته الأقدام، قال الإِمام الجلال: المحتظر هو الذي يجعل لغنمه حظيرةً من يابس الشجر والشوك يحفظهن فيها من الذئاب والسباع، وما سقط من ذلك فداسته فهو الهشيم {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ}أي يسرناه للحفظ والاتعاظ فهل من معتبر؟



قصة قوم لوط عليه السلام





{كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ(33)إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِبًا إِلا آلَ لُوطٍ نَجَّيْنَاهُمْ بِسَحَرٍ(34)نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنَا كَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ(35)وَلَقَدْ أَنذَرَهُمْ بَطْشَتَنَا فَتَمَارَوْا بِالنُّذُرِ(36)وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ(37)وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً عَذَابٌ مُسْتَقِرٌّ(38)فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ(39)وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ(40)}.



{كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ} أي كذبوا بالإِنذارات التي أنذرهم بها نبيهم لوط عليه السلام {إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِبًا} أي أرسلنا عليهم حجارة قذفوا بها من السماء، قال ابن كثير: أمر تعالى جبريل فحمل مدائنهم حتى وصل بها إِلى عنان السماء، ثم قلبها عليهم وأرسلها واُتبعت بحجارةٍ من سجيلٍ منضود، والحاصب هي الحجارة {إِلا آلَ لُوطٍ} أي غير لوطٍ وأتباعه المؤمنين {نَجَّيْنَاهُمْ بِسَحَرٍ} أي نجيناهم من الهلاك قُبيل الصبح وقت السِّحر {نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنَا} أي إِنعاماً منَّا عليهم نجيناهم من العذاب {كَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ} أي مثل ذلك الجزاء الكريم، نجزي من شكر نعمتنا بالإِيمان والطاعة {وَلَقَدْ أَنذَرَهُمْ بَطْشَتَنَا} أي ولقد خوفهم لوط عقوبتنا الشديدة، وانتقامنا منهم بالعذاب {فَتَمَارَوْا بِالنُّذُرِ} أي فتشككوا وكذبوا بالإِنذار والوعيد {وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ} أي طلبوا منه أن يسلّم لهم أضيافه وهم الملائكة ليفجروا بهم بطريق اللواطة {فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ} أي أعمينا أعينهم وأزلنا أثرها حتى فقدوا أبصارهم، قال المفسرون: لما جاءت الملائكة إِلى لوط في صورة شبابٍ مردٍ حسان، استضافهم لوط عليه السلام، فجاء قومه يُهرعون إِليه لقصد الفاحشة بهم، فأغلق لوط دونهم الباب، فجعلوا يحاولون كسر الباب، فخرج عليهم جبريل فضرب أعينهم بطرف جناحه فانطمست أعينهم وعموا {فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ} أي فذوقوا عذابي وإِنذاري الذي أنذركم به لوط {وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً عَذَابٌ مُسْتَقِرٌّ} أي جاءهم وقت الصبح عذابٌ دائم متصل بعذاب الآخرة، قال الصاوي: وذلك أن جبريل قلع بلادهم فرفعها ثم قلبها بهم وأمطر عليهم حجارة من سجيل، واتصل عذاب الدنيا بعذاب الآخرة فلا يزول عنهم حتى يصلوا إِلى النار {فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ} أي فذوقوا أيها المجرمون عذابي الأليم، وإِنذاري لكم على لسان رسولي {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} أي ولقد يسرنا القرآن للحفظ والتدبر فهل من متعظٍ ومعتبر؟ قال المفسرون: حكمة تكرار ذلك في كل قصة، التنبيهُ على الاتعاظ والتدبر في أنباء الغابرين، وللإِشارة إِلى أن تكذيب كل رسولٍ مقتضٍ لنزول العذاب كما كرر قوله {فبأي آلاء ربكما تكذبان} تقريراً للنعم المختلفة المعدودة، فكلما ذكر نعمةً وبَّخ على التكذيب بها.

قصة آل فرعون



{وَلَقَدْ جَاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ(41)كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كُلِّهَا فَأَخَذْنَاهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ(42)}



{وَلَقَدْ جَاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ} أي جاء فرعون وقومه الإِنذارات المتكررة فلم يعتبروا، قال أبو السعود: صُدّرت قصتهم بالقسم المؤكد لإِبراز كمال الاعتناء بشأنها، لغاية عظم ما فيها من الآيات وكثرتها، وهول ما لاقوه من العذاب، وفرعون رأس الطغيان {كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كُلِّهَا} أي كذَّبوا بالمعجزات التسع التي أعطيها موسى {فَأَخَذْنَاهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ} أي فانتقمنا منهم بإِغراقهم في البحر، وأخذناهم بالعذاب أخذ إِلهٍ غالب في انتقامه، قادرٍ على إِهلاكهم لا يعجزه شيء.





تخويف الله كفار مكة، وجزاء المجرمين والمتقين



{أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُوْلَئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَرَاءةٌ فِي الزُّبُرِ(43)أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ(44)سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ(45)بَلْ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ(46)إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ(47)يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ(48)إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ(49)وَمَا أَمْرُنَا إِلا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ(50)وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا أَشْيَاعَكُمْ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ(51)وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ(52)وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ(53)إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ(54)فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ(55)}.



سبب النزول:

نزول الآية (45):

{سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ..}: أخرج ابن جرير عن ابن عباس قال: قالوا يوم بدر: {نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ}، فنزلت: {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ}.



نزول الآية (47):

{إِنَّ الْمُجْرِمِينَ..}: أخرج مسلم والترمذي عن أبي هريرة قال: جاء مشركو قريش يخاصمون رسول الله صلى الله عليه وسلم في القدَر، فأنزل الله تعالى: {إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ} إلى قوله: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ}.

ثم خوَّف تعالى كفار مكة فقال {أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُوْلَئِكُمْ}؟ الاستفهام إِنكاري للتقريع والتوبيخ أي أكفاركم يا معشر العرب خيرٌ من أولئكم الكفار الذين أحللت بهم نقمتي مثل قوم نوح، وعاد، وثمود، وقوم لوط، وقوم فرعون، حتَّى لا أعذبهم؟ قال القرطبي: استفهام إِنكار ومعناه النفي أي ليس كفاركم خيراً من كفار من تقدم من الأمم الذين أهلكوا بكفرهم {أَمْ لَكُمْ بَرَاءةٌ فِي الزُّبُرِ} أي أم لكم يا كفار قريش براءة من العذاب في الكتب السماوية المنزلة على الأنبياء؟ {أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ} أي بل أيقولون نحن جمعٌ كثير، واثقون بكثرتنا وقوتنا، منتصرون على محمد؟ قال تعالى رداً عليهم {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ} أي سيهزم جمع المشركين ويولون الأدبار منهزمين، قال ابن الجوزي: وهذا مما أخبر الله به نبيه من علم الغيب، فكانت الهزيمةُ يوم بدر {بَلْ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ} أي ليس هذا تمام عقابهم بل القيامة موعد عذابهم {وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ} أي أعظم داهيةً وأشدُّ مرارةً من القتل والأسر {إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ} أي إِن المجرمين في حيرةٍ وتخبطٍ في الدنيا، وفي نيرانٍ مسعَّرة في الآخرة، قال ابن عباس: في خسران وجنون {يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ} أي يوم يُجرُّون في النار على وجوههم عقاباً وإِذلالاً لهم {ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ} أي يقال لهم: ذوقوا أيها المكذبون عذاب جهنم، قال أبو السعود: وسقر علمٌ لجهنم ولذلك لم يُصرف {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} أي إنا خلقنا كل شيءٍ مقدَّراً مكتوباً في اللوح المحفوظ من الأزل {وَمَا أَمْرُنَا إِلا وَاحِدَةٌ كلَمْحٍ بِالْبَصَرِ} أي وما شأننا في الخلق والإِيجاد إِلا مرة واحدة كلمح البصر في السرعة نقول للشيء: كن فيكون، قال ابن كثير: أي إِنما نأمر بالشيء مرة واحدة لا نحتاج إِلى تأكيد بثانية، فيكون ذلك موجوداً كلمح البصر لا يتأخر طرفة عين {وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا أَشيَاعَكُمْ} أي ووالله لقد أهلكنا أشباهكم ونظراءكم في الكفر والضلال من الأمم السالفة {فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} أي فهل من يتذكر ويتعظ؟ {وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ} أي وجميع ما فعلته الامم المكذبة من خير وشر مكتوب عليهم، مسجل في كتب الحفظة التي بأيدي الملائكة، قال ابن زيد: {في الزُّبر} أي في دواوين الحفظة {وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ} أي وكل صغيرٍ وكبير من الأعمال مسطورٌ في اللوح المحفوظ، مثبتٌ فيه {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ} أي في جنات وأنهار، قال القرطبي: يعني أنهار الماء، والخمر، والعسل، واللبن {فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ} أي في مكان مرضيٍ، ومقام حسن {عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ} أي عند ربٍ عظيم جليل، قادرٍ في ملكه وسلطانه، لا يعجزه شيء، وهو الله رب العالمين.

yacine414
2011-04-01, 20:24
سورة الرحمن



آلاء الله الباهرة ونعمه الكثيرة الظاهرة

دلائل قدرته ووحدانيته

فناء المخلوقات وبقاء الله سبحانه وتعالى

محاسبة الخلائق، وإحاطة الله بمخلوقاته

تصدع السماء وأحوال المجرمين يوم القيامة

وصف الجنَّتين

وصف آخر لجنتين أدنى من الأوليين



بَين يَدَي السُّورَة



* سورة الرحمن من السور المكية التي تعالج أصول العقيدة الإِسلامية، وهي كالعروس بين سائر السور الكريمة، ولهذا ورد في الحديث الشريف (لكل شيءٍ عروس، وعروسُ القرآن سورة الرحمن).



* ابتدأت السورة بتعديد ءالاء الله الباهرة، ونعمه الكثيرة الظاهرة على العباد، التي لا يحصيها عدٌّ، وفي مقدمتها نعمة "تعليم القرآن" بوصفه المنَّة الكبرى على الإِنسان، تسبق في الذكر خلق الإِنسان ذاته وتعليمه البيان {الرحمن * علَّم القرآن * خلق الإِنسان * علَّمه البيان}.



* ثم فتحت السورة صحائف الوجود، الناطقة بألاء الله الجليلة، وآثاره العظيمة التي لا تحصى، الشمس والقمر، والنجم والشجر، والسماء المرفوعة بلا عمد، وما فيها من عجائب القدرة وغرائب الصنعة، والأرضُ التي بثَّ فيها من أنواع الفواكه، والزروع، والثمار، رزقاً للبشر {الشمسُ والقمر بحسبان * والنجم والشجر يسجدان ..} الآيات.



* وتحدثت السورة عن دلائل القدرة الباهرة في تسيير الأفلاك، وتسخير السفن الكبيرة تمخر عباب البحار وكأنها الجبال الشاهقة عظمةً وضخامة، وهي تجري فوق سطح الماء {وله الجوار المنشآتُ في البر كالأعلام .. } الآيات.



* ثم بعد ذلك الاستعراض السريع لصفحة الكون المنظور، تُطوى صفحات الوجود، وتتلاشى الخلائق بأسرها، فيلفها شبح الموت الرهيب، ويطويها الفناء، ولا يبقى إلا الحي القيوم متفرداً بالبقاء {كلُّ من عليها فان * ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإِكرام}.



* وتناولت السورة أهوال القيامة، فتحدثت عن حال الأشقياء المجرمين، وما يلاقونه من الفزع والشدائد في ذلك اليوم العصيب {يُعرف المجرمون بسيماهم فيؤخذ بالنواصي والأقدام..} الآيات.

* وبعد الحديث عن مشهد العذاب للمجرمين، تناولت السورة مشهد النعيم للمتقين في شيء من الإِسهاب والتفصيل، حيث يكونون في الجنان مع الحور والولدان {ولمن خاف مقام ربه جنتان . .} الآيات.



* وختمت السورة بتمجيد الله جل وعلا والثناء عليه، على ما أنعم على عباده من فنون النعم والإِكرام، وهو أنسب ختامٍ لسورة الرحمن {تبارك اسم ربك ذي الجلال والإِكرام} وهكذا يتناسق البدء مع الختام في أروع صور البيان ‍‍.



آلاء الله الباهرة ونعمه الكثيرة الظاهرة



{ الرَّحْمَنُ(1)عَلَّمَ الْقُرْءَانَ(2)خَلَقَ الإِنسَانَ(3)عَلَّمَهُ الْبَيَانَ(4)الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ(5)وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ(6)وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ(7)أَلا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ(8)وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ(9)وَالأَرْضَ وَضَعَهَا لِلأَنَامِ(10)فِيهَا فَاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذَاتُ الأَكْمَامِ(11)وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحَانُ(12)فَبِأَيِّ ءالاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ(13)}.



{الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ} أي الله الرحمنُ علَّم القرآن، ويسَّره للحفظ والفهم، قال مقاتل: لما نزل قوله تعالى {اسجدوا للرحمن} قال كفار مكة: وما الرحمن؟ فأنكروه وقالوا لا نعرف الرحمن فقال تعالى {الرَّحْمَان} الذي أنكروه هو الذي {عَلَّمَ الْقُرْآنَ} وقال الخازن: إن الله عز وجل عدَّد نعمه على عباده، فقدَّم أعظمها نعمة، وأعلاها رتبة، وهو القرآن العزيز لأنه أعظم وحي الله إِلى أنبيائه، وأشرفه منزلة عند أوليائه وأصفيائه، وأكثره ذكراً، وأحسنه في أبواب الدين أثراً، وهو سنام الكتب السماوية المنزَّلة على أفضل البرية {خَلَقَ الإِنسَانَ} أي خلق الإِنسان السميع البصير الناطق، والمرادُ بالإِنسان الجنسُ {عَلَّمَهُ الْبَيَانَ} أي ألهمه النطق الذي يستطيع به أن يُبين عن مقاصده ورغباته، ويتميَّز به عن سائر الحيوان، قال البيضاوي: والمقصودُ تعداد ما أنعم الله به على نوع الإِنسان، حثاً على شكره، وتنبيهاً على تقصيرهم فيه، وإِنما قدَّم تعليم القرآن على خلق الإِنسان، لأنه أصل النعم الدينية فقدَّم الأهم {الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ} أي الشمس والقمر يجريان بحساب معلوم في بروجهما، ويتنقلان في منازلهما لمصالح العباد، قال ابن كثير: أي يجريان متعاقبين بحساب مقنَّن لا يختلف ولا يضطرب {وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ} أي والنجمُ والشجر ينقادان للرحمن فيما يريده منهما، هذا بالتنقل بالبروج، وذاك بإِخراج الثمار {وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ} أي والسماء خلقها عالية محكمة البناء رفيعة القدر والشأن، وأمر بالميزان عند الأخذ والإِعطاء لينال الإِنسان حقه وافياً {أَلا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ} أي لئلا تبخسوا في الميزان {وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ} أي اجعلوا الوزن مستقيماً بالعدل والإِنصاف {وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ} أي لا تطففوا الوزن ولا تنقصوه كقوله تعالى {ويلٌ للمطففين} {وَالأَرْضَ وَضَعَهَا لِلأَنَامِ} أي والأرض بسطها لأجل الخلق، ليستقروا عليها، وينتفعوا بما خلق الله على ظهرها، قال ابن كثير: أي أرساها بالجبال الشامخات لتستقر بما على وجهها من الأنام وهم الخلائق، المختلفة أنواعهم وأشكالهم وألوانهم في سائر أرجائها {فِيهَا فَاكِهَةٌ} أي فيها من أنواع الفواكه المختلفة الألوان والطعوم والروائح {وَالنَّخْلُ ذَاتُ الأَكْمَامِ} أي وفيها النخل التي يطلع فيها أوعية الثمر، قال ابن كثير: أفرد النخل بالذكر لشرفه ونفعه رطباً ويابساً، والأكمام هي أوعية الطلع كما قال ابن عباس، وهو الذي يطلع فيه القنو، ثم ينشق عنه العنقود فيكون بُسراً ثم رُطباً، ثم ينضج ويتناهى ينعه واستواؤه {وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ} أي وفيها أنواع الحب كالحنطة والشعير وسائر ما يُتغذى به، ذو التبن الذي هو غذاء الحيوان {وَالرَّيْحَان} أي وفيها كل مشموم طيب الريح من النبات كالورد، والفُلّ، والياسمين وما شاكلها، قال أبو حيّان: ذكر تعالى الفاكهة أولاً ونكِّر لفظها لأن الانتفاع بها نفسها، ثم ثنَّى بالنخل فذكر الأصل ولم يذكر ثمرها وهو التمر، لكثرة الانتفاع بها من ليفٍ، وسعف، وجريدٍ، وجذوع، وجُمَّار، وثمر، ثم ذكر الحب الذي هو قوام عيش الإِنسان وهو البر والشعير وكل ما له سنبل وأوراق، ووصفه بقوله {ذُو الْعَصْفِ} تنبيهاً على إنعامه عليهم بما يقوتهم به من الحب، وما يقوت بهائمم من ورقه هو التبنُ، وبدأ بالفاكهة وختم بالمشموم ليحصل ما به يُتَفَكَّهُ، وما به يُتقوَّت، وما به يحصل التلذّذ من الرائحة الطيبة، ولما عدَّد نعمه خاطب الإِنس والجن بقوله {فَبِأَيِّ ءالاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} أي فبأي نعم الله يا معشر الإِنس والجن تكذبان؟ أليست نعم الله عليكم كثيرة لا تُحصى؟ عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ سورة الرحمن على أصحابه فسكتوا، فقال: مالي أسمع الجنَّ أحسن جواباً لربها منكم؟ ما أتيتُ على قول الله تعالى {فَبِأَيِّ ءالاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} إلا قالوا: لا بشيءٍ من نعمك ربنا نكذب فلك الحمد.



دلائل قدرته ووحدانيته





{خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ(14)وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ(15)فَبِأَيِّ ءالاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ(16)رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ(17)فَبِأَيِّ ءالاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ(18)مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ(19)بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لا يَبْغِيَانِ(20)فَبِأَيِّ ءالاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ(21)يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ(22)فَبِأَيِّ ءالاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ(23)وَلَهُ الْجَوَارِ الْمُنشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالأَعْلامِ(24)فَبِأَيِّ ءالاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ(25)}.



ثم ذكر تعالى دلائل قدرته ووحدانيته فقال {خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ} أي خلق أباكم آدم من طين يابسٍ يسمع له صلصلة أي صوتٌ إِذا نُقر، قال المفسرون: ذكر تعالى في هذه السورة أنه خلق آدم {مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ} وفي سورة الحِجر {من صلصالٍ من حمأٍ مسنون} أي من طين أسود متغير، وفي الصافات {من طين لازب} أي يلتصق باليد، وفي آل عمران {كمثل آدم خلقه من تراب} ولا تنافي بينها، وذلك لأن الله تعالى أخذه من تراب الأرض، فعجنه بالماء فصار طيناً لازباً أي متلاصقاً يلصق باليد، ثم تركه حتى صار حمأً مسنوناً أي طيناً أسود منتناً، ثم صوَّره كما تُصوَّر الأواني ثم أيبسه حتى صار في غاية الصلابة كالفخار إِذا نُقر صوَّت، فالمذكور ههنا آخر الأطوار {وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ} أي وخلق الجنَّ من لهبٍ خالصٍ لا دخان فيه من النار، قال ابن عباس: {مِنْ مَارِجٍ} أي لهبٍ خالصٍ لا دخان فيه، وقال مجاهد: هو اللهب المختلط بسواد النار، وفي الحديث (خُلقت الملائكة من نور، وخُلق الجان من مارجٍ من نار، وخُلق آدم مما وُصف لكم) {فَبِأَيِّ ءالاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} أي فبأي نعم الله يا معشر الإِنس والجن تكذبان؟ قال أبو حيان: والتكرار في هذه الفواصل للتأكيد والتنبيه والتحريك، وقال ابن قتيبة: إِن هذا التكرار إِنما هو لاختلاف النعم، فكلما ذكر نعمةً كرر قوله {فَبِأَيِّ ءالاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} وقد ذُكرت هذه الآية إِحدى وثلاثين مرة، والاستفهام فيها للتقريع والتوبيخ {رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ} أي هو جل وعلا ربُّ مشرق الشمس والقمر، وربُّ مغربهما، ولمّا ذكر الشمس والقمر في قوله {الشمس والقمر بحسبان} ذكر هنا أنه رب مشرقهما ومغربهما {فَبِأَيِّ ءالاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} أي فبأي نعم الله التي لا تحصى تكذبان؟ {مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ} أي أرسل البحر والملح والبحر العذب يتجاوران ويلتقيان ولا يمتزجان {بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لا يَبْغِيَانِ} أي بينهما حاجزٌ من قدرة الله تعالى لا يطغى أحدهما على الآخر بالممازجة، قال ابن كثير: والمراد بالبحرين: الملح والحلو، فالملح هذه البحار، والحلو هذه الأنهار السارحة بين الناس، وجعل الله بينهما برزخاً وهو الحاجز من الأرض لئلا يبغي هذا على هذا فيفسد كل واحد منهما الآخر {فَبِأَيِّ ءالاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} أي فبأي نعم الله تكذبان؟ {يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ} أي يُخرج لكم من الماء اللؤلؤ والمرجان، كما يخرج من التراب الحب والعصف والريحان، قال الألوسي: واللؤلؤ صغار الدُر، والمرجان كباره قاله ابن عباس، وعن ابن مسعود أن المرجان الخرز الأحمر، والآية بيانٌ لعجائب صنع الله حيث يخرج من الماء المالح أنواع الحلية كالدر والياقوت والمرجان، فسبحان الواحد المنَّان {فَبِأَيِّ ءالاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} أي فبأي نعمة من نعم الله تكذبان؟ {وَلَهُ الْجَوَارِ الْمُنشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالأَعْلامِ} أي وله جل وعلا السفن المرفوعات الجارياتُ في البحر كالجبال في العظم والضخامة، قال القرطبي: {كَالأَعْلام} أي كالجبال، والعلمُ الجبل الطويل، فالسفن في البحر كالجبال في البر، ووجه الامتنان بها أن الله تعالى سيَّر هذه السفن الضخمة التي تشبه الجبال على وجه الماء، وهو جسم لطيف مائع يحمل فوقه هذه السفن الكبار المحمَّلة بالأرزاق والمكاسب والمتاجر من قطر إِلى قطر، ومن إقليم إِلى إقليم، قال شيخ زاده: واعلم أن أصول الأشياء أربعة: الترابُ والماءُ، والهواءُ، والنارُ، فبيَّن تعالى بقوله {خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ} أي التراب أصلٌ لمخلوق شريف مكرَّم، وبيَّن بقوله {وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ} أي النار أيضاً أصلٌ لمخلوق آخر عجيب الشأن، وبيَّن بقوله {يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ} أن الماء أيضاً أصل لمخلوق آخر له قدرٌ وقيمة، ثم ذكر أن الهواء له تأثير عظيم في جري السفن المشابهة للجبال فقال {وَلَهُ الْجَوَارِ الْمُنشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالأَعْلامِ} وخصَّ السفن بالذكر لأن جريها في البحر لا صنع للبشر فيه، وهم معترفون بذلك حيث يقولون: "لك الفُلك ولك المُلك" وإِذا خافوا الغرق دعوا الله تعالى خاصة {مخلصين له الدين فلما نجاهم إِلى البر إِذا هم يشركون} {فَبِأَيِّ ءالاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} أي فبأي نعمةٍ من نعم الله تكذبان؟



فناء المخلوقات وبقاء الله سبحانه وتعالى



{كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ(26)وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ(27)فَبِأَيِّ ءالاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ(28)يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ(29)فَبِأَيِّ ءالاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ(30)}.



{كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ} أي كل من على وجه الأرض من الإِنسان والحيوان هالك وسيموت {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} أي ويبقى ذات الله الواحد الأحد، ذو العظمة والكبرياء والإِنعام والإِكرام كقوله {كلُّ شيءٍ هالكٌ إِلا وجهه} قال ابن عباس: الوجهُ عبارة عن الله جل وعلا الباقي الدائم، قال القرطبي: ووجه النعمة في فناء الخلق التسويةُ بينهم في الموت ومع الموت تستوي الأقدام، والموتُ سبب النقلة من دار الفناء إِلى دار الثواب والجزاء {فَبِأَيِّ ءالاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} أي فبأي نعمةٍ من نعم الله تكذبان {يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} أي يفتقر إِليه تعالى كل من في السماوات والأرض، ويطلبون منه العون والرزق بلسان المقال أو بلسان الحال {كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} أي كل ساعة ولحظة هو تعالى في شأن من شؤون الخلق، يغفر ذنباً، ويفرّج كرباً، ويرفع قوماً، ويضع آخرين قال المفسرون: هي شؤونٌ يُبديها ولا يبتديها أي يظهرها للخلق ولا ينشئها من جديد لأن القلم جفَّ على ما كان وما سيكون إِلى يوم القيامة، فهو تعالى يرفع من يشاء ويضع من يشاء، ويشفي سقيماً ويمرض سليماً، ويعز ذليلاً ويذل عزيزاً، ويفقر غنياً ويغني فقيراً، قال مقاتل: إن الآية نزلت في اليهود قالوا: إن الله تعالى لا يقضي يوم السبت شيئاً، فردَّ الله عليهم بذلك {فَبِأَيِّ ءالاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} أي فبأي نعم الله الجليلة تكذبان أيها الإِنس والجان؟



محاسبة الخلائق، وإحاطة الله بمخلوقاته





{سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَا الثَّقَلانِ(31)فَبِأَيِّ ءالاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ(32)يَامَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ إِنْ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ فَانفُذُوا لا تَنفُذُونَ إِلا بِسُلْطَانٍ(33)فَبِأَيِّ ءالاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ(34)يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ وَنُحَاسٌ فَلا تَنتَصِرَانِ(35)فَبِأَيِّ ءالاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ(36)}.



{سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَا الثَّقَلانِ} أي سنحاسبكم على أعمالكم يا معشر الإِنس والجنِّ، قال ابن عباس: هذا وعيدٌ من الله تعالى للعباد، وليس بالله تعالى شغل وهو فارغ، قال أبو حيّان: أي ننظر في أموركم يوم القيامة، لا أنه تعالى كان له شغل فيفرغ فيه، وجرى هذا على كلام العرب يقول الرجل لمن يتهدده: سأفرغ لك أي سأتجرد للانتقام منك من كل ما شغلني، وقال البيضاوي: أي سنتجرد لحسابكم وجزائكم يوم القيامة، وفيه تهديد مستعارٌ من قولك لمن تهدده: سأفرغ لك، فإِن المتجرد للشيء يكون أقوى عليه، وأجدَّ فيه، والثقلان: الإِنسُ والجنُّ سميا بذلك لثقلهما على الأرض {فَبِأَيِّ ءالاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} تقدم تفسيره {يَامَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ إِنْ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ فَانفُذُوا} أي إن قدرتم أن تخرجوا من جوانب السماواتِ والأرض هاربين من الله، فارين من قضائه فاخرجوا منها، وخلصوا أنفسكم من عقابه، والأمر للتعجيز {لا تَنفُذُونَ إِلا بِسُلْطَانٍ} أي لا تقدرون على الخروج إِلا بقوةٍ وقهر وغلبة، وأنَّى لكم ذلك؟ قال ابن كثير: معنى الآية أنكم لا تستطيعون هرباً من أمر الله وقدره، بل هو محيطٌ بكم لا تقدرون على التخلص من حكمه، أينما ذهبتم أحيط بكم، وهذا في مقام الحشر حيث الملائكة محدقةٌ بالخلائق سبع صفوف من كل جانب، فلا يقدر أحد على الذهاب إِلا بسلطان أي إِلا بأمر الله وإِرادته {يقول الإِنسان يومئذٍ أين المفرُّ}؟ وهذا إِنما يكون في القيامة لا في الدنيا بدليل قوله تعالى بعده {يرسل عليكما شواظٌ من نار} {فَبِأَيِّ ءالاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ}؟ تقدم تفسيره {يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ وَنُحَاسٌ} أي يرسل عليكما يوم القيامة لهب النار الحامية {وَنُحَاس} أي ونحاسٌ مذاب يصبُّ فوق رؤوسكم، قال مجاهد: هو الصفر المعروف يصب على رؤوسهم يوم القيامة، وقال ابن عباس: {وَنُحَاسٌ} هو الدخان الذي لا لهب فيه، وقول مجاهد أظهر {فَلا تَنتَصِرَانِ} أي فلا ينصر بعضكم بعضاً، ولا يخلصه من عذاب الله، قال ابن كثير: ومعنى الآية لو ذهبتم هاربين يوم القيامة لردتكم الملائكةُ وزبانية جهنم، بإِرسال اللهب من النار والنحاس المذاب عليكم لترجعوا فلا تجدون لكم ناصراً {فَبِأَيِّ ءالاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} تقدم تفسيره.



تصدع السماء وأحوال المجرمين يوم القيامة





{فَإِذَا انشَقَّتْ السَّمَاءُ فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ(37)فَبِأَيِّ ءالاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ(38)فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنسٌ وَلا جَانٌّ(39)فَبِأَيِّ ءالاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ(40)يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالأَقْدَامِ(41)فَبِأَيِّ ءالاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ(42)هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ(43)يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ(44)فَبِأَيِّ ءالاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ(45)}.



{فَإِذَا انشَقَّتْ السَّمَاءُ} أي فإِذا انصدعت يوم القيامة لتنزل الملائكة منها لتحيط بالخلائق من كل جانب {فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ} أي فكانت مثل الورد الأحمر من حرارة النار، ومثل الأديم الأحمر أي الجلد الأحمر قاله ابن عباس، وذلك من شدة الهول، ومن رهبة ذلك اليوم العظيم {فَبِأَيِّ ءالاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} تقدم تفسيره {فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنسٌ وَلا جَانٌّ} أي ففي ذلك اليوم الرهيب يوم تنشق السماء، لا يُسأل أحد من المذنبين من الإِنس والجن عن ذنبه، لأن للمذنب علامات تدل على ذنبه كاسوداد الوجوه، وزرقة العيون، قال الإِمام الفخر الرازي: لا يُسأل أحد عن ذنبه، فلا يقال له: أنتَ المذنب أو غيرك؟ ولا يقال: من المذنب منكم؟ بل يعرفون بسواد وجوههم وغيره {فَبِأَيِّ ءالاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} تقدم تفسيره {يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ} أي يُعرف يوم القيامة أهل الإِجرام بعلامات تظهر عليهم وهو ما يغشاهم من الكآبة والحزن، قال الحسن: سواد الوجه وزرقة الأعين كقوله تعالى {ونحشر المجرمين يومئذٍ زُرقاً} وقوله {يوم تبيضّ وجوهٌ وتسودّ وجوه} {فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالأَقْدَامِ} أي فتأخذ الملائكة بنواصيهم أي بشعور مقدم رؤوسهم وأقدامهم فيقذفونهم في جهنم، قال ابن عباس: يُؤخذ بناصية المجرم وقدميه فيكسر كما يكسر الحطب ثم يلقى في النار {فَبِأَيِّ ءالاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} تقدم تفسيره {هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ} أي يقال لهم تقريعاً وتوبيخاً: هذه النار التي أخبرتم بها فكذبتم، قال ابن كثير: أي هذه النار التي كنتم تكذبون بوجودها، ها هي حاضرةٌ تشاهدونها عياناً {يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ} أييترددون بين نار جهنم وبين ماءٍ حار بلغ النهاية في الحرارة، قال قتادة: يطوفون مرةً بين الحميم، ومرة بين الجحيم، والجحيم النارُ، والحميم الشراب الذي انتهى حره {فَبِأَيِّ ءالاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} أي فبأي نعم الله تكذبان يا معشر الإِنس والجان؟



وصف الجنتين



{وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ(46)فَبِأَيِّ ءالاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ(47)ذَوَاتَا أَفْنَانٍ(48)فَبِأَيِّ ءالاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ(49)فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ(50)فَبِأَيِّ ءالاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ(51)فِيهِمَا مِنْ كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ(52)فَبِأَيِّ ءالاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ(53)مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ(54)فَبِأَيِّ ءالاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ(55)فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ(56) فَبِأَيِّ ءالاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ(57)كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ(58)فَبِأَيِّ ءالاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (59)هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلا الإِحْسَانُ(60)فَبِأَيِّ ءالاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ(61)}.



{وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} أي وللعبد الذي يخاف قيامه بين يدي ربه للحساب جنتان: جنةٌ لسكنه، وجنةٌ لأزواجه وخدمه، كما هي حال ملوك الدنيا حيث يكون له قصرٌ ولأزواجه قصر، قال القرطبي: وإِنما كانتا اثنتين ليضاعف له السرور بالتنقل من جهة إِلى جهة، وقال الزمخشري: جنة لفعل الطاعات، وجنة لترك المعاصي وفي الحديث (جنتان من فضة آنيتُهما وما فيهما، وجنتان من ذهب آنيتهما وما فيهما، وما بين القوم وبين أن ينظروا إِلى ربهم عز وجل إِلا رداء الكبرياء على وجهه في جنة عدن) {فَبِأَيِّ ءالاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} ثم وصف تعالى الجنتين فقال {ذَوَاتَا أَفْنَانٍ} أي ذواتا أغصان متفرعة وثمار متنوعة، قال أبو حيّان: وخصَّ الأفنان - وهي الغصون - بالذكر لأنها التي تورق وتثمر، ومنها تمتد الظلال وتُجنى الثمار {فَبِأَيِّ ءالاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} أي فبأي نعم الله الجليلة تكذبان يا معشر الإِنس والجن {فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ} أي في كل واحدة من الجنتين عين جارية، تجري بالماء الزلال كقوله تعالى {فيها عينٌ جارية} قال ابن كثير: أي تسرحان لسقي تلك الأشجار والأغصان، فتثمر من جميع الألوان، قال الحسن: تجريان بالماء الزلال إِحداهما التسنيم، والأخرى السلسبيل {فَبِأَيِّ ءالاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} تقدم تفسيره {فِيهِمَا مِنْ كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ} أي فيهما من جميع أنواع الفواكه والثمار صنفان: معروفٌ، وغريب لم يعرفوه في الدنيا، قال ابن عباس: ما في الدنيا ثمرةٌ حلوة ومرة إِلا وهي في الجنة حتى الحنظل، إِلا أنه حلو، وليس في الدنيا مما في الآخرة إِلاَّ الأسماء {فَبِأَيِّ ءالاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} تقدم تفسيره قال الفخر الرازي: إِن قوله تعالى {ذَوَاتَا أَفْنَانٍ} و {فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ} و {فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ} كلها أوصافٌ للجنتين المذكورتين، وإِنما فصل بين الأغصان والفواكه بذكر العينين الجاريتين على عادة المتنعمين، فإِنهم إِذا دخلوا البستان لا يبادرون إِلى أكل الثمار، بل يقدمون التفرج على الأكل، مع أن الإِنسان في بستان الدنيا لا يأكل حتى يجوع ويشتهي شهوة شديدة فكيف في الجنة!! فذكر تعالى ما يتم به النزهة وهو خضرة الأشجار، وجريان الأنهار، ثم ذكر ما يكون بعد النزهة وهو أكل الثمار، فسبحان من يأتي بالآيات بأحسن المعاني في أبين المباني {مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ} أي مضطجعين في جنان الخلد على فرشٍ وثيرة بطائنها من ديباج - وهو الحرير السميك - المزين بالذهب، وهذا يدل على نهاية شرفها لأن البطانة إِذا كانت بهذا الوصف فما بالك بالظهارة؟ قال ابن مسعود: هذه البطائن فيكف لو رأيتم الظواهر؟ وقال ابن عباس: لما سئل عن الآية: ذلك مما قال الله تعالى {فلا تعلم نفسٌ ما أُخفي لهم من قرة أعين} {وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ} أي ثمرها قريب يناله القاعد والقائم والنائم، بخلاف ثمار الدنيا فإِنها لا تنال إِلا بكدٍ وتعب، قال ابن عباس: تدنو الشجرة حتى يجتنبها وليُ الله إِن شاء قائماً، وإِن شاء قاعداً، وإِن شاء مضطجعاً {فَبِأَيِّ ءالاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} تقدم تفسيره {فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ} أي في تلك الجنان نساء قاصرات الطرف قصرن أعينهن على أزواجهن فلا يرين غيرهم، كما هو حال المخدَّرات العفائف {لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ} أي لم يغشهنَّ ولم يجامعهن أحدٌ قبل أزواجهنَّ لا من الإِنس ولا من الجن، بل هنَّ أبكار عذارى، قال الألوسي: وأصلُ الطمث خروج الدم ولذلك يقال للحيض طمثٌ، ثم أُطلق على جماع الأبكار لما فيه من خروج الدم، ثم على كل جماع وإِن لم يكن فيه خروج دم {فَبِأَيِّ ءالاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} أي فبأي نعم الله الجليلة تكذبان يا معشر الإِنس والجن؟ {كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ} أي كأنهن يشبهن الياقوت والمرجان في صفائهن وحمرتهن، قال قتادة: كأنهن في صفاء الياقوت وحمرة المرجان، لو أدخلت في الياقوت سلكاً ثم نظرت إِليه لرأيته من ورائه وفي الحديث (إن المرأة من نساء أهل الجنة ليُرى بياض ساقها من وراء سبعين حلة من حرير، حتى يُرى مخُّها) {فَبِأَيِّ ءالاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} تقدم تفسيره {هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلا الإِحْسَانُ} أي ما جزاء من أحسن في الدنيا إِلا أن يحُسن إِليه في الآخرة، قال أبو السعود: أي ما جزاء الإِحسان في العمل، إِلا الإِحسان في الثواب والغرضُ أنَّ من قدم المعروف والإِحسان استحق الإِنعام والإِكرام {فَبِأَيِّ ءالاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} تقدم تفسيره.



وصف آخر لجنتين أدنى من الأوليين



{وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ(62)فَبِأَيِّ ءالاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ(63)مُدْهَامَّتَانِ(64)فَبِأَيِّ ءالاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ(65)فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ(66)فَبِأَيِّ ءالاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ(67)فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ(68)فَبِأَيِّ ءالاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ(69)فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ(70)فَبِأَيِّ ءالاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ(71)حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ(72)فَبِأَيِّ ءالاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ(73)لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ(74)فَبِأَيِّ ءالاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ(75)مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ(76)فَبِأَيِّ ءالاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ(77)تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ(78)}.



{وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ} أي ومن دون تلك الجنتين في الفضيلة والقدر جنتان أخريان، قال المفسرون: الجنتان الأوليان للسابقين، والأخريان لأصحاب اليمين ولا شك أن مقام السابقين أعظم وأرفع لقوله تعالى {فأصحاب الميمنة ما أصحاب الميمنة؟ وأصحاب المشئمة ما أصحاب المشئمة؟ والسابقون السابقون أولئك المقربون} {فَبِأَيِّ ءالاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} أي فبأي نعم الله الجليلة تكذبان يا معشر الإِنس والجن؟ {مُدْهَامَّتَانِ} أي سوداوان من شدة الخضرة والريّ، قال الألوسي: والمراد أنهما شديدتا الخضرة، والخضرةُ إِذا اشتدت ضربت إِلى السواد وذلك من كثرة الريّ بالماء {فَبِأَيِّ ءالاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} تقدم تفسيره {فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ} أي فوارتان بالماء لا تنقطعان، وقال ابن مسعود وابن عباس: تنْضَخُ على أولياء الله بالمسك والعنبر والكافور في دور أهل الجنة، كزخ المطر {فَبِأَيِّ ءالاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} تقدم تفسيره {فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ} أي في الجنتين من أنواع الفواكه كلها وأنواع النخل والرمان، وإِنما ذكر النخل والرمان تنبيهاً على فضلهما وشرفهما على سائر الفواكه ولأنهما غالب فاكهة العرب، قال الألوسي: ثم إِن نخل الجنة ورمانها وراء ما نعرفه {فَبِأَيِّ ءالاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} تقدم تفسيره {فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ} أي في تلك الجنان نساء صالحات كريمات الأخلاق، حِسان الوجوه {فَبِأَيِّ ءالاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} تقدم تفسيره {حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ} أي هنَّ الحورُ العين المخدرات المستورات لا يخرجن لكرامتهن وشرفهن، قد قصرن في خدورهن في خيام اللؤلؤ المجوَّف، قال أبو حيان: والنساء تُمدح بذلك إِذ ملازمتهن البيوت تدل على صيانتهن، قال الحسن: لسن بطوَّافات في الطرق، وخيامُ الجنة بيوت اللؤلؤ، وفي الحديث (إنَّ في الجنة خيمةٌ من لؤلؤةٍ مجوفة، عرضها ستون ميلاً، في كل زاويةٍ منها أهلٌ ما يرون الآخرين، يطوف عليهم المؤمنون) {فَبِأَيِّ ءالاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} تقدم تفسيره {لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ} أي لم يجامعهن ولم يغشهن أحد قبل أزواجهم لا من الإِنس ولا من الجن، قال ابن جزي: الجنتان المذكورتان أولاً للسابقين، والجنتان المذكورتان ثانياً لأصحاب اليمين، وانظر كيف جعل أوصاف الجنتين الأوليين أعلى من أوصاف الجنتين اللتين بعدهما، فقال هناك {فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ} وقال هنا {فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ} والجريُ أشدُّ من النضخ، وقال هناك {فِيهِمَا مِنْ كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ} وقال هنا {فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ} والأول أعم وأشمل، وقال في صفة الحور هناك {كأنهنَّ الياقوتُ والمرجان} وقال هنا {فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ} وليس لك حُسْنٍ كحسن الياقوت والمرجان فالوصف هناك أبلغ، وقال هناك في وصف الفرش {متكئين على فرش بطائنها من استبرق} وهو الديباج وقال هنا {مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ} ولا شك أن الفرش المعدَّة للاتكاء أفضل من فضلالخباء {فَبِأَيِّ ءالاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} أي فبأي نعم الله الجليلة تكذبان يا معشر الإِنس والجن؟ {مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ} أي مستندين على وسائد خضر من وسائد الجنة {وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ} أي وطنافس ثخينة مزخرفة، محلاَّة بأنواع الصور والزينة، قال الصاوي: وهي نسبة إِلى "عبقر" قرية بناحية اليمن، يُنسج فيها بسط منقوشة بلغت النهاية في الحسن، فقرَّب الله لنا فرش الجنتين بتلك البسط المنقوشة {فَبِأَيِّ ءالاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} أي فبأي نعمةٍ من نعم الله تعالى تكذبان يا معشر الإِنس والجن {تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ} أي تنزه وتقدَّس الله العظيم الجليل، وكثرت خيراته وفاضت بركاته {ذِي الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} أي صاحب العظمة والكبرياء، والفضل والإِنعام، قال أبو حيّان: لما ختم تعالى نعم الدنيا بقوله {ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإِكرام} ختم نعم الآخرة بقوله {تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ * ذِي الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} وناسب هناك ذكر البقاء والديمومة له تعالى بعد ذكر فناء العالم، وناسب هنا ذكر البركة وهي النماء والزيادة عقب امتنانه على المؤمنين في دار كرامته وما آتاهم من الخير والفضل في دار النعيم.

yacine414
2011-04-01, 20:25
سورة الواقعة



قيام القيامة، وحال المطيعين والعاصين

إثابة السابقين بجنات النعيم

أحوال أصحاب اليمين في الجنة

أنواع عذاب أهل الشمال في الآخرة

أدلة الألوهية وإثبات القدرة على البعث والجزاء

إثبات صدق القرآن، وتوبيخ المشركين على فساد اعتقادهم



بَين يَدَي السُّورَة



* تشتمل هذه السورة الكريمة على أحوال يوم القيامة، وما يكون بين يدي الساعة من أهوال، وانقسام الناس إِلى ثلاث طوائف (أصحاب اليمين، أصحاب الشمال، السابقون).



* وقد تحدثت السورة عن مآل كل فريق، وما أعده الله تعالى لهم من الجزاء العادل يوم الدين، كما أقامت الدلائل على وجود الله ووحدانيته، وكمال قدرته في بديع خلقه وصنعه، في خلق الإِنسان، وإِخراج النبات، وإِنزال الماء، وما أودعه الله من القوة في النار .. ثم نوّهت بذكر القرآن العظيم، وأنه تنزيل رب العالمين، وما يلقاه الإِنسان عند الاحتضار من شدائد وأهوال.



* وختمت السورة بذكر الطوائف الثلاث وهم أهل السعادة، وأهل الشقاوة، والسابقون إلى الخيرات من أهل النعيم، وبيّنت عاقبة كل منهم، فكان ذلك كالتفصيل لما ورد في أول السورة من إجمال، والإِشادة بذكر مآثر المقربين في البدء والختام.



فـضـــلـهَا: أ- عن ابن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من قرأ سورة الواقعة في كل ليلة لم تصبه فاقة أبداً).

ب- وأخرج الحافظ ابن عساكر في ترجمة (عبد الله بن مسعود) بسنده عن أبي ظبية قال: "مرض عبد الله مرضه الذي توفي فيه، فعاده عثمان بن عفان فقال: ما تشتكي؟ قال: ذنوبي، قال: فما تشتهي؟ قال: رحمة ربي، قال: ألا آمر لك بطبيب؟ قال: الطبيبُ أمرضني، قال: ألا آمر لك بعطاء؟ قال: لا حاجة لي فيه، قال: يكون لبناتك من بعدك، قال أتخشى على بناتي الفقر؟ إني أمرت بناتي يقرأن كل ليلة سورة الواقعة، وإِني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من قرأ سورة الواقعة كل ليلة لم تصبه فاقة أبداً) فكان أبو ظبية لا يدعها".



قيام القيامة، وحال المطيعين والعاصين



{إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ(1)لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ(2)خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ(3)إِذَا رُجَّتْ الأَرْضُ رَجًّا(4)وَبُسَّتْ الْجِبَالُ بَسًّا(5)فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا(6)وَكُنتُمْ أَزْوَاجًا ثَلاثَةً(7)فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ(8)وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ(9)وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ(10)أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ(11)فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ(12)}



{إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ} أي إِذا قامت القيامة التي لا بد من وقوعها، وحدثت الداهية الطامة التي ينخلع لها قلب الإِنسان، كان من الأهوال ما لا يصفه الخيال، قال البيضاوي: سميت واقعة لتحقق وقوعها، وقال ابن عباس: الواقعة اسم من أسماء القيامة كالصاخة والآزفة والطامة، وهذه الأشياء تقتضي عظم شأنها {لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ} أي لا يكون عند وقوعها نفس كاذبة تكذِّب بوقوعها كحال المكذبين اليوم، لأن كل نفسٍ تؤمن حينئذٍ لأنها ترى العذاب عياناً كقوله تعالى {فلمَّا رأوا بأسنا قالوا آمنا بالله وحده} {خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ} أي هي خافضة لأقوام رافعةٌ لآخرين، تخفض أعداء الله في النار، وترفع أولياء الله في الجنة، قال الحسن: تخفض أقواماً إِلى الجحيم وإِن كانوا في الدنيا أعزة، وترفع آخرين إِلى أعلى عليين وإِن كانوا في الدنيا وضعاء .. ثم بيَّن تعالى متى يكون ذلك فقال {إِذَا رُجَّتْ الأَرْضُ رَجًّا} أي زلزلت زلزالاً عنيفاً، واضطربت اضطراباً شديداً، بحيث ينهدم كل ما فوقها من بناء شامخ، وطودٍ راسخ، قال المفسرون: تُرجُّ كما يرجُّ الصبي في المهد حتى ينهدم كل ما عليها من بناء، وينكسر كل ما فيها من جبال وحصون {وَبُسَّتْ الْجِبَالُ بَسًّا} أي فتِّتت تفتيتاً حتى صارت كالدقيق المبسوس - وهو المبلول - بعد أن كانت شامخة {فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا} أي فصارت غباراً متفرقاً متطايراً في الهواء، كالذي يُرى في شعاع الشمس إِذا دخل النافذة فهذا هو الهباء، والمنبثُّ المتفرق، وهذه الآية كقوله تعالى {وتكون الجبال كالعهن المنفوش} وقوله {وسُيّرت الجبالُ فكانت سراباً} {وَكُنتُمْ أَزْوَاجًا ثَلاثَةً} أي وكنتم - أيها الناس - أصنافاً وفرقاً ثلاثة "أهل اليمين، وأهل الشمال، وأهل السبق" فأما السابقون فهم أهل الدرجات العُلى في الجنة، وأما أصحاب اليمين فهم سائر أهل الجنة، وأما أصحاب الشمال فهم أهل النار، وهذه مراتب الناس في الآخرة، قال ميمون بن مهران: اثنان في الجنة وواحد في النار، ثم فصَّلهم تعالى بقوله {فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ}؟ استفهام للتفخيم والتعظيم أي هل تدري أيُّ شيء أصحاب الميمنة؟ من هم وما هي حالهم وصفتهم؟ إنهم الذين يؤتون صحائفهم في أيمانهم، فهو تعجيبٌ لحالهم، وتعظيم لشأنهم في دخولهم الجنة وتنعمهم بها {وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ}؟ أي هل تدري من هم؟ وما هي حالهم وصفتهم؟ إنهم الذين يؤتون صحائفهم بشمالهم، ففيه تعجيب لحالهم في دخولهم النار وشقائهم، قال القرطبي: والتكرير في {ما أصحابُ الميمنة} و {ما أصحاب المشأمة} للتفخيم والتعجيب كقوله {الحاقة ما الحاقة} وقوله {القارعةُ ما القارعة} وقال الألوسي: والمقصود التفخيم في الأول، والتفظيع في الثاني، وتعجيب السامع من شأن الفريقين في الفخامة والفظاعة كأنه قيل: فأصحاب الميمنة في غاية حسن الحال، وأصحاب المشأمة في غاية سوء الحال {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ} هذا هو الصنف الثالث من الأزواج الثلاثة أي والسابقون إِلى الخيرات والحسنات، هم السابقون إلى النعيم والجنات، ثم أثنى عليهم بقوله {أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ} أي أولئك هم المقربون من الله، في جواره، وفي ظل عرشه، ودار كرامته {فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ} أي هم في جنات الخلد يتنعمون فيها قال الخازن: فإِن قلت: لم أخَّر ذكر السابقين وكانوا أولى بالتقديم على أصحاب اليمين؟ قلت: فيه لطيفة وذلك أنَّ الله ذكر في أول السورة الأمور الهائلة عند قيام الساعة تخويفاً لعباده، فإِما محسنٌ فيزداد رغبةً في الثواب، وإمّا مسيء فيرجع عن إِساءته خوفاً من العقاب، فلذلك قدَّم أصحاب اليمين ليسمعوا ويرغبوا، ثم ذكر أصحاب الشمال ليرهبوا، ثم ذكر السابقين وهم الذين لا يحزنهم الفزع الأكبر ليجدوا ويجتهدوا.



إثابة السابقين بجنات النعيم



{ثُلَّةٌ مِنَ الأَوَّلِينَ(13)وَقَلِيلٌ مِنَ الآخِرِينَ(14)عَلَى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ(15)مُتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ(16)يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ(17)بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ(18)لا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلا يُنزِفُونَ(19)وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ(20)وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ(21)وَحُورٌ عِينٌ(22)كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ(23)جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ(24)لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلا تَأْثِيمًا(25)إِلا قِيلاً سَلامًا سَلامًا(26)}



{ثُلَّةٌ مِنَ الأَوَّلِينَ} أي السابقون المقربون جماعة كثيرة من الأمم السالفة {وَقَلِيلٌ مِنَ الآخِرِينَ} أي وهم قليلٌ من هذه الأمة، قال القرطبي: وسمُّوا قليلاً بالإِضافة إِلى من كان قبلهم، لأن الأنبياء المتقدمين كانوا كثرة، فكثر السابقون إِلى الإِيمان منهم، فزادوا على عدد من سبق إِلى التصديق من أمتنا، قال الحسن: سابقو من مضى أكثر من سابقينا ثم تلا الآية وقيل: إِن المراد بقوله {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ} أول هذه الأمة، والآخرون المتأخرون من هذه الأمة، فيكون كلا الفريقين من أمة محمد صلى الله عليه وسلم {عَلَى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ} أي جالسين على أسَّرة منسوجة بقضبان الذهب، مرصَّعة بالدر والياقوت، قال ابن عباس: { مَوْضُونَةٍ} أي مرمولة بالذهب يعني منسوجة به {مُتَّكِئِينَ عَلَيْهَا} أي حال كونهم مضطجعين على تلك الأسرَّة شأن المنعَّمين المترفين {مُتَقَابِلِينَ} أي وجوه بعضهم إلى بعض، ليس أحد وراء أحد، وهذا أدخل في السرور، وأكمل في أدب الجلوس {يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ} أي يدور عليهم للخدمة أطفال في نضارة الصبا، لا يموتون ولا يهرمون، قال أبو حيان: وُصفوا بالخلد - وإِن كان كل من في الجنة مخلداً - ليدل على أنهم يبقون دائماً في سنِّ الولدان، لا يتحولون ولا يكبرون كما وصفهم جل وعلا {بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ} أي بأقداح كبيرة مستديرة لا عُرى لها {وَأَبَارِيقَ} جمع إِبريق أي وبأباريق لها عُرى تبرق من صفاء لونها {وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ} أي وكأسٍ من خمرٍ لذة جارية من العيون، قال ابن عباس: لم تعصر كخمر الدنيا بل هي من عيون سارحة، قال القرطبي:والمعين الجاري من ماء أو خمر، غير أن المراد في هذا الموضع الخمر الجارية من العيون، ليست كخمر الدنيا التي تستخرج بعصرٍ وتكلف معالجة {لا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا} أي لا تتصدع رؤوسهم من شربها {وَلا يُنزِفُونَ} أي ولا يسكرون فتذهب بعقولهم كخمر الدنيا، قال ابن عباس: في الخمر أربع خصال: السُّكرُ، والصُّداع، والقيءُ، والبول، وقد ذكر تعالى خمر الجنة ونزَّهها عن هذه الخصال الذميمة {وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ} أي ولهم فيها فاكهة كثيرة يختارون ما تشتهيه نفوسهم لكثرتها وتنوعها {وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ} أي ولحم طيرٍ مما يحبون ويشتهون، قال ابن عباس: يخطر على قلب أحدهم لحم الطير فيطير حتى يقع بين يديه على ما اشتهى مقلياً أو مشوياً وفي الحديث (إنك لتنظر إِلى الطير في الجنة فتشتهيه فيخر بين يديك مشوياً) قال الرازي: وقدَّم الفاكهة على اللحم لأن أهل الجنة يأكلون لا عن جوع بل للتفكه، فميلهم إِلى الفاكهة أكثر كحال الشبعان في الدنيا فلذلك قدمها {وَحُورٌ عِينٌ * كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ} أي ولهم مع ذلك النعيم نساء من الحور العين، الواسعات العيون، في غاية الجمال والبهاء، كأنهن اللؤلؤ في الصفاء والنقاء، الذي لم تمسه الأيدي، قال ابن جزي: شبههن باللؤلؤ في البياض، ووصفه بالمكنون لأنه أبعد عن تغيير حسنه، وحين سألت "أم سلمة" رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذا التشبيه قال "صفاؤهن كصفاء الدر في الأصداف الذي لم تمسه الأيدي" {جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} أي جعلنا لهم ذلك كله جزاءً لعملهم الصالح في الدنيا .. ثم أخبر تعالى عن كمال نعيمهم في الجنة فقال {لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلا تَأْثِيمًا} أي لا يطرق آذانهم فاحشُ الكلام، ولا يلحقهم إِثمٌ مما يسمعون، قال ابن عباس: لا يسمعون باطلاً ولا كذباً {إِلا قِيلاً سَلامًا سَلامًا} أي إلا قول بعضهم لبعضٍ سلاماً سلاماً، يُحيي به بعضهم بعضاً ويفشون السلام فيما بينهم، قال أبو حيّان: والظاهر أنه استثناء منقطع لأنه لم يندرج في اللغو ولا في التأثيم، وقال أبو السعود: والمعنى أنهم يفشون السلام فيسلّمون سلاماً بعد سلام، أو لا يسمع كلٌ منهم إِلا سلام الآخر بدءاً أو ردّاً.





أحوال أصحاب اليمين في الجنة



{وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ(27)فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ(28)وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ(29)وَظِلٍّ مَمْدُودٍ(30)وَمَاءٍ مَسْكُوبٍ(31)وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ(32)لا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ(33)وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ(34)إِنَّا أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَاءً(35)فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا(36)عُرُبًا أَتْرَابًا(37)لأَصْحَابِ الْيَمِينِ(38)ثُلَّةٌ مِنَ الأَوَّلِينَ(39)وَثُلَّةٌ مِنَ الآخِرِينَ(40)}



سبب النزول:

نزول الآية (27):

{وأصحاب اليمين ..}: أخرج سعيد بن منصور في سننه والبيهقي في البعث عن عطاء ومجاهد قالا: لما سأل أهل الطائف الوادي يُحمى لهم، وفيه عسل، ففعل، وهو واد معجب، فسمعوا الناس يقولون: في الجنة كذا وكذا، قالوا: يا ليت لنا في الجنة مثل هذا الوادي، فأنزل الله: {وأصحاب اليمين ما أصحاب اليمين، في سدر مخضود} الآيات.



نزول الآية (29):

{وطلح منضود}: أخرج البيهقي من وجه آخر عن مجاهد قال: كانوا يعجبون بوَجّ - واد مخصب في الطائف - وظلاله وطلحِه وسِدْرِه، فأنزل الله: {وأصحاب اليمين، ما أصحاب اليمين، في سدر مخضود، وطلح منضود، وظل ممدود}.



ثم شرع في تفصيل أحوال الصنف الثاني وهم أصحاب اليمين فقال {وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِين}؟ استفهام للتعظيم والتعجيب من حالهم أي ما أدراك من هم، وما هي حالهم؟ {فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ} أي هم تحت أشجار النبق الذي قطع شوكه، قال المفسرون: والسِّدرُ: شجر النبق، والمخضود الذي خُضد أي قُطع شوكه، وفي الحديث: (أن أعرابياً جاء إِلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله: إن الله تعالى ذكر في الجنة شجرة تؤذي صاحبها، فقال: وما هي؟ قال: السدر فإِن له شوكاً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أليس اللهُ يقول {فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ}؟ خضَدَ اللهُ شوكه فجعل مكان كل شوكةٍ ثمرة، وإِن الثمرة من ثمره تفتَّق عن اثنين وسبعين لوناً من الطعام، ما فيها لونٌ يشبه الآخر) {وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ} هو شجر المود ومعنى {مَنْضُودٍ} أي متراكم قد نُضد بالحمل من أسفله إِلى أعلاه {وَظِلٍّ مَمْدُودٍ} أي وظل دائم باقٍ لا يزول ولا تنسخه الشمس، لأن الجنة ظل كلها لا شمس فيها {لا يرون فيها شمساً ولا زمهريراً} وفي الحديث (إن في الجنة شجرةً يسير الراكب في ظلها مائة عام لا يقطعها واقرءوا إن شئتم) {وَظِلٍّ مَمْدُودٍ} وقال الرازي: ومعنى {مَمْدُودٍ} أي لا زوال له فهو دائم {أُكلُها دائم وظلُّها} أي دائم، والظلُّ ليس ظل الأشجار، بل ظل يخلقه الله تعالى {وَمَاءٍ مَسْكُوبٍ} أي وماءٍ جارٍ دائماً لا ينقطع، يجري في غير أخدود، قال القرطبي: كانت العرب أصحاب بادية، والأنهار في بلادهم عزيزة، لا يصلون إِلى الماء إِلا بالدلو والرشاء، فوعدوا بالجنة بأسباب النزهة وهي الأشجار وظلالها، والمياه والأنهار وجريانها {وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ * لا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ} أي وفاكهةٍ كثيرة متنوعة، ليست بالقليلة العزيزة كما كانت في بلادهم، لا تنقطع كما تنقطع ثمار الدنيا في الشتاء، وليست ممنوعة عن أحد، قال ابن عباس: لا تنقطع إِذا جُنيت، ولا تتمنع من أحدٍ إِذا أراد أخذها وفي الحديث (ما قُطعت ثمرةٌ من ثمار الجنة إِلا عاد مكانها أخرى) {وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ} أي عالية وطيئة ناعمة وفي الحديث (ارتفاعها كما بين السماء والأرض، ومسيرة ما بينهما خمس مائة عام) قال الألوسي: ولا تستبعد هذا من حيث العروجُ والنزولُ، فالعالم عالم آخر فوق طور عقلك تنخفض للمؤمن إِذا أراد الجلوس عليها ثم ترتفع به، والله على كل شيء قدير {إِنَّا أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَاءً} أي خلقنا نساء الجنة خلقاً جديداً، وأبدعناهن إِبداعاً عجيباً، قال في التسهيل: ومعنى إنشاء النساء أن الله تعالى يخلقهن في الجنة خلقاً آخر في غاية الحسن بخلاف الدنيا، فالعجوز ترجع شابة، والقبيحة ترجع جميلة، قال ابن عباس: يعني الآدميات العجائز الشمط خلقهن الله بعد الكبر والهرم خلقاً آخر {فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا} أي فجعلناهن عذارى، كلما أتاهنَّ أزواجهن وجدوهنَّ أبكاراً {عُرُبًا} جمع عروب وهي المتحببة لزوجها العاشقة له، قال مجاهد: هنَّ العاشقات لأزواجهن المتحببات لهم اللواتي يشتهين أزواجهن {أَتْرَابًا} أي مستويات في السنِّ مع أزواجهن، في سنّ أبناء ثلاث وثلاثين، عن أم سلمة رضي الله عنها قالت: (سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن قوله تعالى {إِنا أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَاءً * فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا * عُرُبًا أَتْرَابًا} فقال يا أم سلمة: هنَّ اللواتي قُبضن في الدنيا عجائز، شُمطاً، عُمشاً، رُمصاً، جعلهن الله بعد الكِبر أتراباً على ميلادٍ واحد في الاستواء) وفي الحديث أن امرأة عجوزاً جاءت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت يا رسول الله: أُدع الله أن يُدخلني الجنة، فقال: يا أم فلان إِن الجنة لا تدخلها عجوز، فولَّت تبكي، فقال: أخبروها أنها لا تدخلها وهي عجوز، فإِن الله تعالى يقول {إِنَّا أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَاءً * فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا} {لأَصْحَابِ الْيَمِينِ} أي أنشأنا هؤلاء النساء الأبكار لأصحاب اليمين ليستمتعوا بهنَّ في الجنة، ثم قال تعالى {ثُلَّةٌ مِنَ الأَوَّلِينَ * وَثُلَّةٌ مِنَ الآخِرِينَ} أي هم جماعة من الأولين من الأمم الماضية، وجماعة من المتأخرين من أُمة محمد صلى الله عليه وسلم، قال أبو حيّان: ولا تنافي بين هذه الآية {وَثُلَّةٌ مِنَ الآخِرِينَ} وبين الآية التي سبقتها وهي قوله {وقليلٌ من الآخرين} لأن الثانية في السابقين فلذلك قال {وقليل من الآخرين} وهذه في أصحاب اليمين ولذلك قال {وَثُلَّةٌ مِنَ الآخِرِينَ}.



أنواع عذاب أهل الشمال في الآخرة



{وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ(41)فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ(42)وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ(43)لا بَارِدٍ وَلا كَرِيمٍ(44)إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ(45)وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنثِ الْعَظِيمِ(46)وَكَانُوا يَقُولُونَ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ(47)أَوْ آبَاؤُنَا الأَوَّلُونَ(48)قُلْ إِنَّ الأَوَّلِينَ وَالآخِرِينَ(49)لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ(50)ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ(51)لآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ(52)فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ(53)فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ(54)فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ(55)هَذَا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ(56)}



ثم شرع تعالى في بيان الصنف الثالث وهم أهل النار فقال {وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ} استفهام بمعنى التهويل والتفظيع والتعجيب من حالهم أي وأصحابُ الشمال - وهم الذين يعطون كتبهم بشمائلهم - ما أصحاب الشمال؟ أي ما حالهم وكيف مآلهم؟ ثم فصَّل تعالى حالهم فقال {فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ} أي في ريح حارة من النار تنفذ في المسام، وماءٍ شديد الحرارة {وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ} أي وفي ظلٍ من دخان أسود شديد السواد {لا بَارِدٍ} أي ليس هذا الظل بارداً يستروح به الإِنسان من شدة الحر {وَلا كَرِيمٍ} أي وليس حسن المنظر يُسرُّ به من يستفيء بظله، قال الخازن: إِن فائدة الظل ترجع إِلى أمرين: أحدهما: دفع الحر، والثاني: حسن المنظر وكون الإِنسان فيه مكرماً، وظلُّ أهل النار بخلاف هذا لأنهم في ظل من دخان أسود حار .. ثم بيَّن تعالى سبب استحقاقهم ذلك فقال {إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ} أي لأنهم كانوا في الدنيا منعَّمين، مقبلين على الشهوات والملذات {وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنثِ الْعَظِيمِ} أي وكانوا يداومون على الذنب العظيم وهو الشرك بالله، قال المفسرون: لفظ الإِصرار يدل على المداومة على المعصية، والحنثُ هو الذنب الكبير والمراد به هنا الكفر بالله كما قال ابن عباس {وَكَانُوا يَقُولُونَ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ} أي هل سنبعث بعد أن تصبح أجسادنا تراباً وعظاماً نخرة؟ وهذا استبعادٌ منهم لأمر البعث وتكذيب له {أَوْ آبَاؤُنَا الأَوَّلُونَ}؟ تأكيدٌ للإِنكار ومبالغة فيه أي وهل سيبعث آباؤنا الأوائل بعد أن بليت أجسامهم وتفتَّتت عظامهم؟ {قُلْ إِنَّ الأَوَّلِينَ وَالآخِرِينَ * لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ} أي قل لهم يا محمد: إِن الخلائق جميعاً السابقين منهم واللاحقين، سيجمعون ويحشرون ليوم الحساب الذي حدَّده الله بوقت معلوم لا يتقدم ولا يتأخر {ذلك يومٌ مجموعٌ له الناس وذلك يومٌ مشهود * وما نؤخره إِلا لأجلٍ معدود} {ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ * لأكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ} أي ثم إنكم يا معشر كفار مكة، الضالون عن الهدى، المكذبون بالبعث والنشور، لآكلون من شجر الزقوم الذي ينبت في أصل الجحيم {فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ} أي فمالئون بطونكم من تلك الشجرة الخبيثة لغلبة الجوع عليكم {فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ} أي فشاربون عليه الماء الحار الذي اشتد غليانه {فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ} أي فشاربون شرب الإِبل العطاش، قال ابن عباس: الهيمُ الإِبل العطاش التي لا تروى لداء يصيبها، وقال أبو السعود: إنه يسلط على أهل النار من الجوع ما يضطرهم إِلى أكل الزقوم الذي هو كالمُهل، فإِذا ملأوا منه بطونهم - وهو في غاية الحرارة والمرارة - سُلِّط عليهم العطش ما يضطرهم إِلى شرب الحميم الذي يقطع أمعاءهم، فيشربونه شرب الهيم وهي الإِبل التي بها الهيام وهو داء يصيبها فتشرب ولا تروى {هَذَا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ} أي هذه ضيافتهم وكرامتهم يوم القيامة، وفيه تهكم بهم، قال الصاوي: والنُزُل في الأصل ما يهيأ للضيف أول قدومه من التحف والكرامة، فتسمية الزقوم نُزلاً تهكم بهم.



أدلة الألوهية وإثبات القدرة على البعث والجزاء





{نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ فَلَوْلا تُصَدِّقُونَ(57)أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ(58)ءأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ(59)نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ(60)عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لا تَعْلَمُونَ(61)وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الأُولَى فَلَوْلا تَذكَّرُونَ(62)أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ(63)ءأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ(64)لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا فَظَلتُمْ تَفَكَّهُونَ(65)إِنَّا لَمُغْرَمُونَ(66)بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ(67)أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ(68)ءأَنْتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنزِلُونَ(69)لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلا تَشْكُرُونَ(70)أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ(71) ءأَنْتُمْ أَنشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنشِئُونَ(72)نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعًا لِلْمُقْوِينَ(73)فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ(74)}



{نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ فَلَوْلا تُصَدِّقُونَ} أي نحن خلقناكم أيها الناسُ من العدم، فهلاَّ تصدقون بالبعث؟ فإِن من قدر على البدء قادرٌ على الإِعادة {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ} أي أخبروني عمَّا تصبُّونه من المنيّ في أرحام النساء {ءأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ}؟ أي هل أنتم تخلقون هذا المنيَّ بشراً سوياً، أم نحن بقدرتنا خلقناه وصوَّرناه؟! قال القرطبي: وهذا احتجاج على المشركين وبيانٌ للآية الأولى والمعنى إِذا أقررتم بأنا خالقوه لا غيرنا فاعترفوا بالبعث {نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ} أي نحن قضينا وحكمنا عليكم بالموت وساوينا بينكم فيه، قال الضحاك: ساوى فيه بين أهل السماء والأرض، سواء في الشريف والوضيع، والأمير والصعلوك {وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ} أي وما نحن بعاجزين {عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ} أي على أن نهلككم ونستبدل قوماً غيركم يكونون أطوع لله منكم كقوله تعالى {إن يشأ يُذهبكم ويأتِ بخلقٍ جديد} {وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لا تَعْلَمُونَ} أي ولسنا بعاجزين أيضاً أن نعيدكم يوم القيامة في خلقةٍ لا تعلمونها ولا تصل إِليها عقولكم، والغرضُ أن الله قادر على أن يهلكهم وأن يعيدهم وأن يبعثهم يوم القيامة، ففي الآية تهديد واحتجاج على البعث {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الأُولَى} أي ولقد عرفتم أن الله أنشأكم من العدم بعد أن لم تكونوا شيئاً مذكوراً، فخلقكم من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة، وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة {فَلَوْلا تَذكَّرُونَ} أي فهلا تتذكرون بأن الله قادر على إِعادتكم كما قدر على خلقكم أول مرة؟ {أولاَ يذكُر الإِنسان أنَّا خلقناه من قبل ولم يكُ شيئاً}؟! {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ} هذه حجة أخرى على وحدانية الله وقدرته أي أخبرووني عن البذر الذي تلقونه في الطين {ءأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ}؟ أي أأنتم تنبتونه وتنشئونه حتى يكون فيه السنبل والحبُّ أم نحن الفاعلون لذلك؟ فإِذا أقررتم أن الله هو الذي يخرج الحبَّ وينبت الزرع، فكيف تنكرون إِخراجه الأموات من الأرض؟ {لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا} أي لو أردنا لجعلنا هذا الزرع هشيماً متكسراً لا ينتفع به في طعام ولا غيره، قال القرطبي: والحُطام الهشيم الهالك الذي لا يُنتفع به في مطعم ولا غذاء، فنبههم بذلك على أمرين: أحدهما: ما أولاهم به من النعم في زرعهم ليشكروه الثاني: ليعتبروا في أنفسهم فكما أنه تعالى يجعل الزرع حُطاماً إِذا شاء، كذلك يهلكهم إِذا شاء ليتعظوا فينزجروا {فَظلْتُمْ تَفَكَّهُونَ} أي فظللتم وبقيتم تتفجعون وتحزنون على الزرع مما حلَّ به وتقولون {إِنَّا لَمُغْرَمُونَ} أي إنا لمحمَّلون الغرم في إِنفاقنا حيث ذهب زرعنا وغرمنا الحبَّ الذي بذرناه {بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ} أي بل نحن محرومون الرزق، غرمنا قيمة البذر، وحُرمنا خروج الزرع {أفرأيتمُ الماءَ الذي تشربون} أي أخبروني عن الماء الذي تشربونه عذباً فراتاً لتدفعوا عنكم شدة العطش {ءأَنْتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنزِلُونَ} أي هل أنتم الذين أنزلتموه من السحاب أم نحن المنزلون له بقدرتنا؟ قال الخازن: ذكَّرهم تعالى نعمته عليهم بإِنزال المطر الذي لا يقدر عليه إِلا اللهُ عز وجل {لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا} أي لو شئنا لجعلناه ماءً مالحاً شديد الملوحة لا يصلح لشرب ولا لزرع، قال ابن عباس: {أُجَاجًا} شديد الملوحة، وقال الحسن: مُرّاً زُعافاً لا يمكن شربه {فَلَوْلا تَشْكُرُونَ} أي فهلاّ تشكرون ربكم على نعمه الجليلة عليكم؟! وفي الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إِذا شرب الماء قال "الحمد لله الذي سقاناً عذباً فُراتاً برحمته، ولم يجعله ملحاً أُجاجاً بذنوبنا" {أَفَرَأَيْتُمْ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ} أي أخبروني عن النار التي تقدحونها وتستخرجونها من الشجر الرطب {ءأَنْتُمْ أَنشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنشِئُونَ} أي هل أنتم الذين خلقتم شجرها أم نحن الخالقون المخترعون؟ قال ابن كثير: وللعرب شجرتان: إِحداهما المرخُ، والأُخرى العُفار، إِذا أُخذ منهما غصنان أخضران، فحُك أحدهما بالآخر تناثر من بينهما شرر النار، وقيل: أراد جميع الشجر الذي توقد منه النار، لما روي عن ابن عباس أنه قال: ما من شجرة ولا عود إِلا وفيه النار سوى العُناب {نحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعًا لِلْمُقْوِينَ} أي جعلنا نار الدنيا تذكيراً للنار الكبرى "نار جهنم" إِذا رآها الرائي ذكر بها نار جهنم، فيخشى اللهَ ويخاف عقابه وفي الحديث (ناركم هذه التي توقدون جزءٌ من سبعين جزءاً من نار جهنم، فقالوا يا رسول الله: إِنْ كانت لكافية!! فقال: والذي نفسي بيده لقد فضّلت عليها بتسعة وتسعين جزءاً، كلهن مثل حرها) {وَمَتَاعًا لِلْمُقْوِينَ} أي ومنفعةً للمسافرين، قال ابن عباس: {لِلْمُقْوِينَ} المسافرين، وقال مجاهد: للحاضر والمسافر، المستمتعين بالنار من الناس أجمعين، قال الخازن: والمقوي النازلُ في الأرض القواء - وهي الأرض الخالية البعيدة عن العمران - والمعنى أنه ينتفع بها أهل البوادي والسُفَّار، فإِن منفعتهم أكثر من المقيم، فإِنهم يوقدون النار بالليل لتهرب السباع ويهتدي بها الضال إِلى غير ذلك من المنافع وهو قول أكثر المفسرين .. ولما ذكر دلائل القدرة والوحدانية في الإِنسان، والنبات، والماء، والنار، أمر رسوله بتسبيح الله الواحد القهار فقال {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} أي فنزِّه يا محمد ربك عما أضافه إِليه المشركون من صفات العجز والنقص وقل: سبحان من خلق هذه الأشياء بقدرته، وسخَّرها لنا بحكمته، سبحانه ما أعظم شأنه، وأكبر سلطانه!! عدَّد سبحانه وتعالى نعمه على عباده، فبدأ بذكر خلق الإِنسان فقال {أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ} ثم بما به قوامه ومعيشته وهو الزرع فقال {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ} ثم بما به حياته وبقاؤُه وهو الماء فقال {أَفَرَأَيْتُمْ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ} ثم بما يصنع به طعامه، ويصلح به اللحوم والخضار وهو النار فقال {أَفَرَأَيْتُمْ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ} فيا له من إله كريم، ومنعمٍ عظيم!!





إثبات صدق القرآن، وتوبيخ المشركين على فساد اعتقادهم



{فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ(75)وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ(76)إِنَّهُ لَقُرْءانٌ كَرِيمٌ(77)فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ(78)لا يَمَسُّهُ إِلا الْمُطَهَّرُونَ(79)تَنزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ(80)أَفَبِهَذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ(81)وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ(82)فَلَوْلا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ(83)وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ(84)وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لا تُبْصِرُونَ(85)فَلَوْلا إِنْ كُنتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ(86)تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ(87)فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ(88)فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ(89)وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ(90)فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ(91)وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ(92)فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ(93) وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ(94)إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ(95)فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ(96)}



سبب النزول:

نزول الآية (75):

{فلا أقسم ..}: أخرج مسلم عن ابن عباس قال: مُطِر الناس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أصبح من الناس شاكر، ومنهم كافر،قالوا: هذه رحمة وضعها الله، وقال بعضهم: لقد صدق نوء كذا، فنزلت هذه الآيات: {فلا أقسم بمواقع النجوم} حتى بلغ {وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون}.



{فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ} اللام لتأكيد الكلام وتقويته، وزيادة "لا" كثير في كلام العرب ومشهور قال الشاعر:

تذكرتُ ليلى فاعترتني صبابةٌ وكاد نياطُ القلب لا يتقطَّع

أي كاد يتقطع قال القرطبي: "لا" صلة في قول أكثر المفسرين والمعنى "فأقسم" بدليل قوله بعده {وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ} أي فأقسم بمنازل النجوم وأماكن دورانها في أفلاكها وبروجها {لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ} أي وإِن هذا القسم العظيم جليل، لو عرفتم عظمته لآمنتم وانتفعتم به، لما في المقسم به من الدلالة على عظيم القدرة، وكمال الحكمة، وفرط الرحمة، ومن مقتضيات رحمته تعالى أن لا يترك عباده سُدى {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ} هذا هو المقسم عليه، والمعنى أقسم بمواقع النجوم إِن هذا القرآن قرآن كريم، ليس بسحرٍ ولا كهانة وليس بمفترى، بل هو قرآن كريم مجيد، جعله الله معجزة لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم وهو كثير المنافع والخيرات والبركات {فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ} أي في كتاب مصونٍ عند الله تعالى، محفوظ عن الباطل وعن التبديل والتغيير، قال ابن عباس: هو اللوح المحفوظ، وقال مجاهد: هو المصحف الذي بأيدينا {لا يَمَسُّهُ إِلا الْمُطَهَّرُونَ} أي لا يمس ذلك الكتاب المكنون إِلا المطهرون، وهم الملائكة الموصوفون بالطهارة من الشرك والذنوب والأحداث، أو لا يمسُّه إِلا من كان متوضئاً طاهراً، قال القرطبي: المراد بالكتاب المصحف الذي بأيدينا وهو الأظهر لقول ابن عمر "لا تمسَّ القرآن إلا وأنت طاهر" ولكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمرو بن حزم "وألاَّ يمسَّ القرآن إِلا طاهر" {تَنزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} أي منزَّل من عند الله جل وعلا .. ثم لمَّا عظم أمر القرآن ومجَّد شأنه وبخ الكفار فقال {أَفَبِهَذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ} أي أفبهذا القرآن يا معشر الكفار تكذبون وتكفرون؟ {وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ} أي وتجعلون شكر رزقكم أنكم تكذبون برازقكم، وهو المنعم المتفضل عليكم؟ {فَلَوْلا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ} أي فهلاَّ إِذا بلغت الروح الحلقوم عند معالجة سكرات الموت {وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ} أي وأنتم في ذلك الوقت تنظرون إِلى المحتضر وما يكابده من شدائد وأهوال {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لا تُبْصِرُونَ} أي ونحن بعلمنا واطلاعنا أقرب إِلى الميت منكم ولكنْ لا تعلمون ذلك، ولا تبصرون ملائكتنا الذين حضروه لقبض روحه، قال ابن كثير: ومعنى الآية ملائكتنا أقرب إِليه منكم ولكن لا ترونهم كما قال تعالى {حتى إِذا جاء أحدهم الموت توفته رسلنا وهم لا يفرطون} {فَلَوْلا إِنْ كُنتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ} أي فهلاَّ إِن كنتم غير مجزيين بأعمالكم كما تزعمون {تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} أي تردون نفس هذا الميت إِلى جسده بعد ما بلغت الحلقوم، قال ابن عباس: {غير مدينين} أي غير محاسبين ولا مجزيين، قال الخازن: أجاب عن قوله {فلولا إِذا بلغت الحلقوم} وعن قوله {فَلَوْلا إِنْ كُنتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ} بجوابٍ واحد وهو قوله {تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} ومعنى الآية: إن كان الأمر كما تقولون أنه لا بعث ولا حساب، ولا إِله يجازي، فهلاّ تردون نفس من يعزُّ عليكم إِذا بلغت الحلقوم؟ وإِذا لم يمكنكم ذلك فاعلموا أن الأمر إِلى غيركم وهو الله تعالى فآمنوا به .. ثم ذكر تعالى طبقات الناس عند الموت وعند البعث، وبيَّن درجاتهم في الآخرة فقال {فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ * فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ} أي فأما إِن كان هذا الميت من المحسنين السابقين بالدرجات العلا، فله عند ربه راحة تامّة ورزق حسن وجنة واسعة يتنعم فيها، قال القرطبي: والمراد بالمقربين السابقون المذكورون في أول السورة {وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ} أي وأما إِن كان المحتضر من السعداء أهل الجنة الذين يأخذون كتبهم بأيمانهم {فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ} أي فسلامٌ لك يا محمد منهم، لأنه في راحةٍ وسعادة ونعيم {وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ} أي وأما إِن كان المحتضر من المنكرين للبعث، الضالين عن الهدى والحق {فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ} أي فضيافتهم التي يُكرمون بها أول قدومهم، الحميمُ الذي يصهر البطون لشدة حرارته، قال ابن جزي: النُزل أول شيءٍ يُقدم للضيف {وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ} أي ولهم إِصلاءٌ بنار جهنم وإِذاقة لهم من حرها {إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ} أي إِن هذا الذي قصصناه عليك يا محمد من جزاء السابقين، والسعداء، والأشقياء لهو الحقُّ الثابت الذي لا شك فيه ولا ريب، وهو عين اليقين الذي لا يمكن إِنكاره {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} أي فنزِّه ربك عن النقص والسوء، وعمَّا يصفه به الظالمون، لما نزلت هذه الآية الكريمة قال النبي صلى الله عليه وسلم: (اجعلوها في ركوعكم، ولما نزلت {سبح اسم ربك الأعلى} قال صلى الله عليه وسلم: اجعلوها في سجودكم).

yacine414
2011-04-01, 20:26
سورة الحديد



التسبيح لله، ودلائل عظمته وقدرته

الأمر بتوحيد الله والطاعة

حال المنافقين يوم القيامة

الدعوة إلى الرجوع لله عز وجل، وجزاء المتصدقين والمؤمنين

تحقير حال الدنيا، والحث على عمل الآخرة

تعلق المصائب بالقضاء والقدر، وحال البخلاء

بعث الله الرسل لإقامة شرعه حكماً بين الناس

وحدة الشرائع في أصولها







بَين يَدَيْ السُّورَة



* هذه السورة الكريمة من السور المدنية، التي تعنى بالتشريع والتربية والتوجيه، وتبني المجتمع الإِسلامي على أساس العقيدة الصافية، والخلق الكريم، والتشريع الحكيم.



* وقد تناولت السورة الكريمة "سورة الحديد" ثلاثة مواضيع رئيسية وهي:

أولاً: أن الكون كله لله جل وعلا، هو خالقه ومبدعه، والمتصرف فيه بما يشاء.

ثانياً: وجوب التضحية بالنفس والنفيس لإِعزاز دين الله، ورفع منار الإِسلام.

ثالثاً: تصوير حقيقة الدنيا بما فيها من بهرج ومتاعٍ خادع حتى لا يغتر بها الإِنسان.



* ابتدأت السور الكريمة بالحديث عن عظمة الخالق جلَّ وعلا الذي سبَّح له كل ما في الكون من شجر وحجر، ومدر، وإِنسانٍ، وحيوان، وجماد، فالكل ناطق بعظمته شاهد بوحدانيته.



* ثم ذكرت صفات الله الحسنى، وأسماءه العليا، فهو الأول بلا بداية، والآخر بلا نهاية، والظاهر بآثار مخلوقاته، والباطن الذي لا يعرف كنه حقيقته أحد، وهو الخالق للإِنسان والمدبر للأكوان.



* ثم تلتها الآيات وهي تدعو المسلمين إِلى البذل والسخاء والإِنفاق في سبيل الله بما يحقق عزة الإِسلام ورفعة شأنه، فلا بدَّ للمؤمن من الجهاد بالنفس والمال لينال السعادة في الدنيا والمثوبة في الآخرة.



* وتحدثت السورة عن أهل الإِيمان، وأهل النفاق، فالمؤمنون يسعى نورهم بين أيديهم وبأيمانهم، والمنافقون يتخبطون في الظلمات، كما كانوا في الدنيا يعيشون كالبهائم في ظلمات الجهل والغي والضلال.



* وتحدثت السورة عن حقيقة الدنيا وحقيقة الآخرة، وصوّرتهما أدقَّ تصوير، فالدنيا دار الفناء، فهي زائلة فانية، كمثل الزرع الخصيب الذي ينبت بقوة بنزول الغيث، ثم يصفر ويذبل حتى يصير هشيماً وحطاماً تذروه الرياح، بينما الآخرة دار الخلود والبقاء، التي لا نصب فيها ولا تعب، ولا همَّ ولا شقاء.



* وختمت السورة الكريمة بالغاية من بعثة الرسل الكرام، والأمر بتقوى الله عز وجل، والاقتداء بهدي رسله وأنبيائه.



التسميَــة:

سميت السورة "سورة الحديد" لذكر الحديد فيها، وهو قوة الإِنسان في السلم والحرب، وعدته في البنيان والعمران، فمن الحديد تبنى الجسور الضخمة، وتشاد العمائر، وتصنع الدروع والسيوف والرماح، وتكون الدبابات والغواصات والمدافع الثقيلة إلى غير ما هنالك من منافع.



التسبيح لله، ودلائل عظمته وقدرته



{سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ(1)لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يُحْيِ وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ(2)هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ(3)هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ(4)لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ(5)يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَهُوَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ(6)}.



{سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} أي مجَّد اللهَ ونزَّهه عن السوء كلُّ ما في الكون من إِنسانٍ، وحيوان، ونبات قال الصاوي: والتسبيحُ تنزيهُ المولى عن كل ما لا يليق به قولاً، وفعلاً، واعتقاداً، من سبح في الأرض والماءِ إِذا ذهب وأبعد فيهما، وتسبيحُ العقلاء بلسان المقال، وتسبيح الجماد بلسان الحال أي أن ذاتها دالة على تنزيه صانعها عن كل نقص، وقيل بلسان المقال أيضاً {وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} وقال الخازن: تسبيحُ العقلاء تنزيهُ الله عز وجل عن كل سوء، وعما لا يليق بجلاله، وتسبيحُ غير العقلاء من ناطق وجماد اختلفوا فيه، فقيل: تسبيحه دلالته على صانعه، فكأنه ناطق بتسبيحه، وقيل: تسبيحه بالقول ويدل عليه قوله تعالى {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} أي قولهم، والحقُّ أن التسبيح هو القولُ الذي لا يصدر إِلا من العاقل العارف بالله تعالى، وما سوى العاقل ففي تسبيحه وجهان: أحدهما: أنها تدل على تعظيمه وتنزيهه والثاني: أن جميع الموجودات بأسرها منقادةٌ له يتصرف فيها كيف يشاء، فإِن حملنا التسبيح على القول كان المراد بقوله {سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} الملائكةُ والمؤمنون العارفون بالله، وإِن حملنا التسبيح على التسبيح المعنوي، فجميع أجزاء السماوات وما فيها من شمس، وقمر، ونجوم وغير ذلك وجميع ذرات الأرضين وما فيها من جبالٍ، وبحار، وشجر، ودواب وغير ذلك كلها مسبحة خاشعة خاضعة لجلال عظمة الله، منقادةٌ له يتصرف فيها كيف يشاء، فإِن قيل: قد جاء في بعض فواتح السور {سَبَّحَ لِلَّهِ} بلفظ الماضي، وفي بعضها {يسبح لله} بلفظ المضارع فما المراد؟ قلت: فيه إشارة إِلى كون جميع الأشياء مسبحاً لله أبداً، غير مختص بوقتٍ دون وقت، بل هي كانت مسبحة أبداً في الماضي، وستكون مسبحة أبداً في المستقبل {وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} أي وهو الغالب على أمره الذي لا يمانعه ولا ينازعه شيء، الحكيمُ في أفعاله الذي لا يفعل إِلا ما تقتضيه الحكمة والمصلحة .. ثم ذكر تعالى عظمته وقدرته فقال {لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يُحْيِ} أي هو جل وعلا المالك المتصرف في خلقه، يحيي من يشاء، ويُميت من يشاء قال القرطبي: يميتُ الأحياء في الدنيا، ويحيي الأموات للبعث والنشور {وهوَ على كل شيءٍ قدير} أي لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، ولفظُ {قدير} مبالغة في القادر لأن "فعيل" من صيغ المبالغة {هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ} أي ليس لوجوده بداية، ولا لبقائه نهاية {وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ} أي الظاهرُ للعقول بالأدلة والبراهين الدالة على وجوده، الباطنُ الذي لا تدركه الأبصار، ولا تصلُ العقولُ إِلى معرفة كنه ذاته وفي الحديث (أنت الأولُ فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء، وأنت الظاهر فليس فوقك شيء، وأنت الباطن فليس دونك شيء) قال شيخ زاده: وقد فسَّر صاحب الكشاف "الباطن" بأنه غير المدرك بالحواسِ وهو تفسير بحسب التشهي يؤيد مذهبه من استحالة رؤية الله في الآخرة، والحقُّ أنه تعالى ظاهرٌ بوجوده، باطنٌ بكنهه، وأنه تعالى جامعٌ بين الوصفين أزلاً وأبداً {وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} أي هو تعالى عالمٌ بكل ذرةٍ في الكون، لا يعزب عن عمله شيء في الأرض ولا في السماء {هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ} أي خلقهما في مقدار ستة أيام ولو شاء لخلقهما بلمح البصر، وهو تحقيقٌ لعزته، وكمال قدرته، كما أن قوله {يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ} تحقيق لحكمته، وكمال علمه {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} استواءً يليق بجلاله من غير تمثيلٍ ولا تكييفٍ {يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا} أي يعلم ما يدخل في الأرض من مطر وأموات، وما يخرج منها من معادن ونبات وغير ذلك {وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا} أي وما ينزل من السماء من الأرزاق، والملائكة، والرحمة، والعذاب، وما يصعد فيها من الملائكة والأعمال الصالحة كقوله {إليه يصعد الكلِمُ الطيب} {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} أي هو جل وعلا حاضرٌ مع كل أحدٍ بعلمه وإِحاطته قال ابن عباس: هو عالمٌ بكم أينما كنتم قال ابن كثير: أي هو رقيبٌ عليكم، شهيدٌ على أعمالكم، حيث كنتم وأين كنتم، من برٍّ وبحر، في ليلٍ أو نهار، في البيوت أو القفار، الجميع في علمه على السواء، يسمع كلامكم ويرى مكانكم، ويعلم سرَّكم ونجواكم {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} أي رقيب على أعمال العباد، مطلع على كل صغيرة وكبيرة {لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} كرره للتأكيد والتمهيد لإِثبات الحشر والنشر أي هو المعبود على الحقيقة، المتصرف في الخلق كيف يشاء {وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ} أي إِليه وحده مرجع أمور الخلائق في الآخرة فيجازيهم على أعمالهم {يولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ} أي هو المتصرف في الكون كيف يشاء، يقلِّب الليل والنهار بحكمته وتقديره، ويدخل كلاً منهم في الآخر، فتارة يطول الليل ويقصر النهار، وأُخرى بالعكس {وَهُوَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} أي هو العالم بالسرائر والضمائر، وما فيها من النوايا والخفايا، ومن كانت هذه صفته فلا يجوز أن يُعبد سواه.





الأمر بتوحيد الله والطاعة



{آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ(7)وَمَا لَكُمْ لا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ(8)هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ(9)وَمَا لَكُمْ أَلا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ(10)مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ(11)يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمْ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ(12)}.



سبب النزول:

نزول الآية (7):

{آمِنُوا بِاللَّهِ}: نزلت في غزوة العسرة، وهي غزوة تبوك.



نزول الآية (10):

{ لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ..}: ذكر الواحدي عن الكلبي: أن هذه الآية نزلت في أبي بكر الصديق رضي الله عنه.



ثم لما ذكر دلائل عظمته وقدرته، أمر بتوحيده وطاعته فقال {آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} أي صدِّقوا بأن الله واحد وأن محمداً عبده ورسوله {وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ} أي وتصدّقوا من الأموال التي جعلكم الله خلفاء في التصرف فيها، فهي في الحقيقة لله لا لكم قال ابن جزي: يعني أن الأموال التي بأيديكم إِنما هي أموال الله لأنه خلقها، ولكنه متَّعكم بها وجعلكم خلفاء بالتصرف فيها، فأنتم فيها بمنزلة الوكلاء فلا تمنعوها من الإِنفاق فيما أمركم مالكها أن تنفقوها فيه، والمقصود التحريضُ على الإِنفاق والتزهيد في الدنيا ولهذا قال بعده {فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ} أي فالذين جمعوا بين الإِيمان الصادق والإِنفاق في سبيل الله ابتغاء وجهه الكريم لهم أجر عظيم وهو الجنة قال أبو السعود: وفي الآية من المبالغات ما لا يخفى، حيث جعل الجملة اسمية {فَالَّذِينَ آمَنُوا} وأعيد ذكرُ الإِيمان والإِنفاق {آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا} وكرر الإِسناد {لَهُمْ} وفخَّم الأجر بالتنكير ووصفه بالكبير {لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ} {وَمَا لَكُمْ لا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} استفهام للإِنكار والتوبيخ أي أيُّ عذرٍ لكم في ترك الإِيمان بالله؟ {وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ} أي والحالُ أن الرسول صلى الله عليه وسلم يدعوكم للإِيمان بربكم وخالقكم، بالبراهين القاطعة، والحجج الدامغة {وَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ} أي وقد أخذ الله ميثاقكم - وهو العهد المؤكد - بما ركز في العقول من الأدلة الدالة على وجود الله قال أبو السعود: وذلك بنصب الأدلة والتمكين من النظر وقال الخازن: أخذ ميثاقكم حين أخرجكم من ظهر آدم وأعلمكم بأن الله ربكم لا إله لكم سواه، وقيل: أخذ ميثاقكم حيث ركب فيكم العقول، ونصب لكم الأدلة والبراهين والحجج التي تدعو إِلى متابعة الرسول {إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} شرطٌ حذف جوابه أي إِن كنتم مؤمنين في وقت من الأوقات فالآن أحرى الأوقات لقيام الحجج والبراهين عليكم .. ثم ذكر تعالى بعض الأدلة الدالة على وجوب الإِيمان فقال {هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ} أي هو تعالى الذي ينزّل على محمد القرآن العظيم، المعجز في بيانه، الواضح في أحكامه قال القرطبي: يريد بالآيات البينات القرآن وقيل: المعجزات أي لزمكم الإِيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم لما معه من المعجزات، والقرآنُ أكبرها وأعظمها {لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} أي ليخرجكم من ظلمات الكفر إِلى نور الإِيمان {وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ} أي مبالغ في الرأفة والرحمة بكم، حيث أنزل الكتب وأرسل الرسل لهدايتكم، ولم يقتصر على ما نصب لكم من الحجج العقلية {وَمَا لَكُمْ أَلا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ}؟ أيْ أيُّ شيءٍ يمنعكم من الإِنفاق في سبيل الله، وفيما يقربكم من ربكم، وأنتم تموتون وتخلّفون أموالكم وهي صائرة إِلى الله تعالى؟ قال الإِمام الفخر الرازي: المعنى إِنكم ستموتون فتورثون، فهلاً قدمتموه في الإِنفاق في طاعة الله!! وهذا من أبلغ الحث على الإِنفاق في سبيل الله {لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ} أي لا يستوي في الفضل منَ أنفق ماله وقاتل الأعداء مع رسول الله قبل فتح مكة، مع من أنفق ماله وقاتل بعد فتح مكة قال المفسرون: وإِنما كانت النفقة قبل الفتح أعظم، لأن حاجة الإِسلام إِلى الجهاد والإِنفاق كانت أشد، ثم أعز الله الإِسلام بعد الفتح وكثَّر ناصريه، ودخل الناس في دين الله أفواجاً {أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا} أي أعظم أجراً، وأرفع منزلة من الذين أنفقوا من بعد فتح مكة وقاتلوا لإِعلاء كلمة الله قال الكلبي: نزلت في "أبي بكر" لأنه أول من أسلم، وأول من أنفق ماله في سبيل الله، وذبَّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم {وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} أي وكلاً ممن آمن وأنفق قبل الفتح، ومن آمن وأنفق بعد الفتح، وعده الله الجنة مع تفاوت الدرجات {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} أي عالمٌ بأعمالكم، مطلع على خفاياكم ونواياكم، ومجازيكم عليه، وفي الآية وعدٌ ووعيد {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا} أي من ذا الذي ينفق ماله في سبيل الله ابتغاء رضوانه {فَيُضَاعِفَهُ لَهُ} أي يعطيه أجره على إِنفاقه مضاعفاً {وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ} أي وله مع المضاعفة ثواب عظيم كريم وهو الجنة قال ابن كثير: أي جزاء جميل ورزق باهر وهو الجنة، ولما نزلت هذه الآية قال "أبو الدحداح الأنصاري" يا رسول الله: إِنَّ الله ليريد منا القرض؟ قال: نعم يا أبا الدحداح، قال: أرني يدك يا رسول الله، فناوله يده، قال: فإِني قد أقرضت ربي حائطي - أي بستاني - وله فيه ستمائة نخلة، وأم الدحداح فيه هي وعيالها، فجاء أبو الدحداح فناداها: يا أم الدحداح قالت: لبيك، قال اخرجي فقد أقرضته ربي عز وجل، فقالت: ربح بيعك يا أبا الدحداح ونقلت منه متاعها وصبيانها .. ثم أخبر تعالى عن المؤمنين الأبرار، وما يتقدمهم من الأنوار وهم على الصراط فقال {يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ} أي اذكر يوم ترى أنوار المؤمنين والمؤمنات تتلألأ من أمامهم ومن جميع جهاتهم ليستضيئوا بها على الصراط، وتكون وجوههم مضيئة كإِضاءة القمر في سواد الليل {بُشْرَاكُمْ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ} أي ويقال لهم: أبشروا اليوم بجنات الخلد والنعيم، التي تجري من تحت قصورها أنهار الجنة {خَالِدِينَ فِيهَا} أي ماكثين فيها أبداً {ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} أي الفوز الذي لا فوز بعده لأنه سبب السعادة الأبدية، روي أن نور كل أحدٍ على قدر إِيمانه، وأنهم متفاوتون في النور، فمنهم من يضيء نوره ما قرب من قدميه، ومنهم من يُطفأ نوره مرة ويظهر مرة قال الزمخشري: وإِنما قال {بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ} لأن السعداء يؤتون صحائف أعمالهم من هاتين الجهتين، كما أن الأشقياء يؤتونها من شمائلهم ووراء ظهورهم.



حال المنافقين يوم القيامة



{يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ(13)يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمْ الأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ(14)فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمْ النَّارُ هِيَ مَوْلاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ(15)}.



ولما شرح حال المؤمنين يوم القيامة، أتبع ذلك بشرح حال المنافقين فقال {يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ} أي انتظرونا لنستضيء من نوركم قال المفسرون: إِن الله تعالى يعطي المؤمنين نوراً يوم القيامة على قدر أعمالهم يمشون به على الصراط، ويترك الكافرين والمنافقين بلا نور، فيستضيء المنافقون بنور المؤمنين، فبينما هم يمشون إِذ بعث الله فيهم ريحاً وظلمة، فبقوا في الظلمة لا يبصرون مواضع أقدامهم فيقولون للمؤمنين: انتظرونا لنستضيء بنوركم {قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا} أي فيقول لهم المؤمنون سخريةً واستهزاءً بهم: ارجعوا إِلى الدنيا فالتمسوا هذه الأنوار هناك قال أبو حيان: وقد علموا أن لا نور وارءهم، وإِنما هو إِقناطٌ لهم {فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ} أي فضرب بين المؤمنين والمنافقين بحاجزٍ له باب، يحجز بين أهل الجنة وأهل النار {بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ} أي في باطن السور الذي هو جهة المؤمنين الرحمةُ وهي الجنة، وفي ظاهره وهو جهة الكافرين العذاب وهو النارُ قال ابن كثير: هو سور يضرب يوم القيامة ليحجز بين المؤمنين والمنافقين، فإِذا انتهى إِليه المؤمنون دخلوه من بابه، فإِذا استكملوا دخولهم أغلق الباب وبقي المنافقون من ورائه في الحيرة والظلمة والعذاب {يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ} أي ينادي المنافقون المؤمنين: ألم نكن معكم في الدنيا، نصلي كما تصلون، ونصوم كما تصومون، ونحضر الجمعة والجماعات، ونقاتل معكم في الغزوات؟ {قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ} أي قال لهم المؤمنون: نعم كنتم معنا في الظاهر ولكنكم أهلكتم أنفسكم بالنفاق {وَتَرَبَّصْتُمْ} أي انتظرتم بالمؤمنين الدوائر {وَارْتَبْتُمْ} أي شككتم في أمر الدين {وَغَرَّتْكُمْ الأَمَانِيُّ } أي خدعتكم الأماني الفارغة بسعة رحمة الله {حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ} أي حتى جاءكم الموتُ {وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ} أي وخدعكم الشيطان الماكر بقوله: إن الله عفو كريم لا يعذبكم قال قتادة: ما زالوا على خُدعةٍ من الشيطان حتى قذفهم الله في نار جهنم قال المفسرون: الغرور بفتح الغين الشيطان لأنه يغر ويخدع الإِنسان قال تعالى {فلا تغرنكم الحياةُ الدنيا ولا يَغرنكم بالله الغرور، إِنَّ الشيطان لكم عدوٌ فاتخذوه عدواً} {فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا} أي ففي هذا اليوم العصيب لا يقبل منكم بدلٌ ولا عوضٌ يا معشر المنافقين، ولا من الكافرين الجاحدين بالله وآياته وفي الحديث (إن الله تعالى يقول للكافر: أرأيتك لو كان لك أضعاف الدنيا أكنت تفتدي بجميع ذلك من عذاب النار ؟! فيقول : نعم يا ربّ، فيقول الله تبارك وتعالى: قد سألتك ما هو أيسرُ من ذلك وأنت في ظهر أبيك آدم،أن لا تشرك بي فأبيتَ إِلا الشرك) {مَأْوَاكُمْ النَّارُ} أي مقامكم ومنزلكم نار جهنم {هِيَ مَوْلاكُمْ} أي هي عونكم وسندكم وناصركم لا ناصر لكم غيرها، وهو تهكم بهم {وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} أي وبئس المرجع والمنقلب نار جهنم.





الدعوة إلى الرجوع لله عز وجل، وجزاء المتصدقين والمؤمنين



{أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمْ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ(16)اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمْ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ(17)إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ(18)وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُوْلَئِكَ هُمْ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ(19)}.



سبب النزول:

نزول الآية (16):

{أَلَمْ يَأْنِ ..}: أخرج ابن أبي شيبة في مصنفه عن عبد العزيز بن أي رواد: أن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ظهر فيهم المزاح والضحك، فنزلت : {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا} الآية.



{أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ} أي أما حان للمؤمنين أن ترقَّ قلوبهم وتلين لمواعظ الله؟ {وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ} أي وما نزل من آيات القرآن المبين؟ {وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ} أي ولا يكونوا كاليهود والنصارى الذين أعطاهم الله التوراة والإِنجيل {فَطَالَ عَلَيْهِمْ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ} أي فطال عليهم الزمن الذي بينهم وبين أنبيائهم، حتى صلبت قلوبهم فهي كالحجارة أو أشد قسوة قال ابن عباس: {فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ} مالوا إِلى الدنيا وأعرضوا عن مواعظ القرآن وقال أبو حيان: أي صلبت بحيث لا تنفعل للخير والطاعة والغرض أن الله يحذّر المؤمنين أن يكونوا مع القرآن كاليهود والنصارى حيث قست لما طال عليهم الزمان {وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} أي وكثير من أهل الكتاب خارجون عن طاعة الله، رافضون لتعاليم دينهم، من فرط قسوة القلب قال ابن كثير: نهى الله تعالى المؤمنين أن يتشبهوا بالذين حملوا الكتاب من قبلهم من اليهود والنصارى، لما تطاول عليهم الزمن بدَّلوا كتاب الله الذي بأيديهم، ونبذوه وراء ظهورهم، واتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله، فعند ذلك قست قلوبهم فلا يقبلون موعظة، ولا تلين قلوبهم بوعد ولا وعيد {اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} أي اعلموا يا معشر المؤمنين أن الله يحيي الأرض القاحلة المجدبة بالمطر، ويخرج منها النبات بعد يبسها، وهو تمثيل لإِحياء القلوب القاسية بالذكر وتلاوة القرآن، كما تحيا الأرض المجدبة بالغيث . قال ابن عباس: يلين القلوب بعد قسوتها فيجعلها مخبتةً منيبة، وكذلك يحيي القلوب الميتة بالعلم والحكمة قال أبو حيّان: ويظهر أنه تمثيلٌ لتليين القلوب بعد قسوتها، ولتأثير ذكر الله فيها، فكما يؤثر الغيث في الأرض فتعود بعد إِجدابها مخصبة، كذلك تعود القلوب النافرة مقبلةً يظهر فيها أثر الخشوع والطاعات {قَدْ بَيَّنَّا لَكُمْ الآيَاتِ} أي وضحنا لكم الحجج والبراهين الدالة على كمال قدرتنا ووحدانيتنا {لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} أي لكي تعقلوا وتتدبروا ما أنزل الله في القرآن {إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا} أي الذين تصدقوا بأموالهم على الفقراء ابتغاء وجه الله، والذين أنفقوا في سبيل الله وفي وجوه البر والإِحسان طيبة بها نفوسهم {يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ} أي يضاعف لهم ثوابهم بأن تكتب الحسنة بعشر أمثالها، ولهم فوق ذلك ثواب حسن جزيل وهو الجنة قال المفسرون: أصل {الْمُصَّدِّقِينَ} المتصدقين أدغمت التاء في الصاد فصارت المصدّقين، ومعنى القرض الحسن هو التصدق عن طيب النفس، وخلوص النية للفقير، فكأن الإِنسان بإِحسانه إِلى الفقير قد أقرض اللهَ قرضاً يستحق عليه الوفاء في دار الجزاء {وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ} أي صدَّقوا بوحدانية الله ووجوده، وآمنوا برسله إِيماناً راسخاً كاملاً، لا يخالجه شك ولا ارتياب {أُوْلَئِكَ هُمْ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ} أي أولئك الموصوفون بالإِيمان بالله ورسله، هم الذين جمعوا أعلى المراتب فحازوا درجة الصديقية والشهادة في سبيل الله قال مجاهد: كل من آمن بالله ورسله فهو صدِّيقٌ وشهيد {لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ} أي لهم في الآخرة الثواب الجزيل، والنور الذي يسعى بين أيديهم وبأيمانهم {وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} أي والذين جحدوا بوحدانية الله وكذبوا بآياته أولئك هم المخلدون في دار الجحيم قال البيضاوي: فيه دليل على أن الخلود في النار مخصوص بالكفار، من حيث إن الصيغة تشعر بالاختصاص {أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} والصحبة تدل على الملازمة ..



تحقير حال الدنيا، والحث على عمل الآخرة



{اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلا مَتَاعُ الْغُرُورِ(20) سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ(21)}



ولما ذكر أحوال المؤمنين والكافرين ذكر بعده ما يدل على حقارة الدنيا وكمال حال الآخرة فقال {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ} أي اعلموا يا معشر السامعين أن هذه الحياة الدنيا ما هي إِلا لعبٌ يُتعب الناس فيها أنفسهم كإِتعاب الصبيان أنفسهم باللعب {وَلَهْوٌ} أي وشغل للإِنسان يشغله عن الآخرة وطاعة الله {وَزِينَةٌ} أي وزينة يتزين بها الجهلاء كالملابس الحسنة، والمراكب البهية، والمنازل الرفيعة {وَتَفَاخُرٌ بَيْنكُمْ} أي ومباهاة وافتخار بالأحساب والأنساب والمال والولد كما قال القائل:

أرى أهل القُصور إِذا أُميتوا بنوا فوق المقابر بالصــخور

أبوا إلا مباهـاةً وفــخراً على الفقراء حتى في القبــور

{وَتَكَاثُرٌ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ} أي مباهاة بكثرة الأموال والأولاد قال ابن عباس: يجمع المال من سخط الله، ويتباهى به على أولياء الله، ويصرفه في مساخط الله، فهو ظلماتٌ بعضها فوق بعض {كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ} أي كمثل مطرٍ غزير أصاب أرضاً، فأعجب الزُرَّاع نباتُه الناشئ عنه {ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا} أي ثم ييبس بعد خضرته ونُضرته فتراه مصفر اللون بعد أن كان زاهياً ناضراً {ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا} أي ثم يتحطم ويتكسر بعد يبسه وجفافه فيصبح هشيماً تذروه الرياح كذلك حال الدنيا قال القرطبي: والمراد بالكفار هنا الزُرَّاع لأنه يغطون البذر، ومعنى الآية أن الحياة الدنيا كالزرع يعجب الناظرين إِليه لخضرته بكثرة الأمطار، ثم لا يلبث أن يصير هشماً كأن لم يكن، وإِذا أعجب الزراع فهو في غاية الحسن {وَفِي الآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ} أي والجزاء في الآخرة إِما عذاب شديد للفجار، وإِما مغفرة من الله ورضوانٌ للأبرار {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلا مَتَاعُ الْغُرُورِ} أي وليست الحياة الدنيا في حقارتها وسرعة انقضائها إِلا متاعٌ زائل، ينخدع بها الغافل، ويغتر بها الجاهل قال سعيد بن جبير: الدنيا متاع الغُرور إِن ألهتك عن طلب الآخرة، فأما إِذا دعتك إِلى طلب رضوان الله وطلب الآخرة، فنعم المتاع ونعم الوسيلة .. ولما حقَّر الدنيا وصغَّر أمرها، وعظَّم الآخرة وفخَّم شأنها، حثَّ على المسارعة إِلى نيل مرضاة الله، التي هي سبب للسعادة الأبدية في دار الخلود والجزاء فقال {سَابِقُوا إِلَى مَغفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ} أي تسابقوا أيها الناس وسارعوا بالأعمال الصالحة التي توجب المغفرة لكم من ربكم قال أبو حيان: وجاء التعبير بلفظ {سَابِقُوا} كأنهم في ميدان سباق يجرون إِلى غاية مسابقين إِليها، والمعنى سابقوا إِلى سبب مغفرة وهو الإِيمان، وعملُ الطاعات {وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ} أي وسارعوا إِلى جنةٍ واسعة فسيحة، عرضها كعرض السماوات السبع مع الأرض مجتمعة قال السدي: إِن الله تعالى شبَّه عرض الجنة بعرض السماوات السبع والأرضين السبع، ولا شك أن طولها أزيد من عرضها، فذكر العرض تنبيهاً على أن طولها أضعاف ذلك وقال البيضاوي: إِذا كان العرض كذلك فما ظنك بالطول، {أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ} أي هيأها الله وأعدها للمؤمنين المصدّقين بالله ورسله قال المفسرون: وفي الآية دلالة على أن الجنة مخلوقة وموجودة لأن ما لم يُخلق بعد لا يوصف بأنه أُعدَّ وهُيءَ {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ} أي ذلك الموعود به من المغفرة والجنة هو عطاء الله الواسع، يتفضل به على من يشاء من عباده من غير إِيجاب {وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} أي ذو العطاء الواسع والإِحسان الجليل.



تعلق المصائب بالقضاء والقدر، وحال البخلاء





{مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ(22)لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ(23)الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ

الْحَمِيدُ(24)}











{مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ} أي ما يحدث في الأرض من المصائب كقحطٍ، وزلزلةٍ، وعاهة في الزروع، ونقصٍ في الثمار {وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ} أي من الأمراض، والفقر، وذهاب الأولاد {إِلا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا} أي إلاَّ وهي مكتوبة في اللوح المحفوظ من قبل أن نخلقها ونوجدها قال ابن جزي: المعنى أن الأمور كلها مقدَّرة في الأزل، مكتوبة في اللوح المحفوظ من قبل أن تكون، وفي الحديث (إن الله كتب مقادير الأشياء قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، وعرشه على الماء) {إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} أي إن إثبات ذلك على كثرته سهلٌ هيّنٌ على الله عز وجل وإِن كان عسيراً على العباد .. ثم بيَّن تعالى لنا الحكمة في إِعلامنا عن كون هذه الأشياء واقعة بالقضاء والقدر فقال {لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ} أي أثبت وكتب ذلك كي لا تحزنوا على ما فاتكم من نعيم الدنيا {وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ} أي ولكي لا تبطروا بما أعطاكم الله من زهرة الدنيا ونعيمها قال المفسرون: والمراد بالحزن الحزنُ الذي يوجب القنوط، وبالفرح الفرحُ الذي يورث الأشر والبطر، ولهذا قال ابن عباس: "ليس من أحدٍ إِلا وهو يحزن ويفرح، ولكنَّ المؤمن يجعل مصيبته صبراً، وغنيمته شكراً" ومعنى الآية: لا تحزنوا حزناً يخرجكم إِلى أن تهلكوا أنفسكم، ولا تفرحوا فرحاً شديداً يطغيكم حتى تأشروا فيه وتبطروا، ولهذا قال بعض العارفين "من عرف سرَّ الله في القدر هانت عليه المصائب" وقال عمر رضي الله عنه: "ما أصابتني مصيبة إِلا وجدت فيها ثلاث نعم: الأولى: أنها لم تكن في ديني، الثانية: أنها لم تكن أعظم مما كانت، الثالثة: أن الله يعطي عليها الثواب العظيم والأجر الكبير {وبشر الصابرين * الذين إِذا أصابتهم مصيبة قالوا إنّا للهِ وإِنَّا إِليه راجعون * أولئك عليهم صلواتٌ من ربهم ورحمةٌ وأولئك هم المهتدون} {وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} أي لا يحب كل متكبر معجبٍ بما أعطاه الله من حظوظ الدنيا، فخور به على الناس .. ثم بيَّن تعالى أوصاف هؤلاء المذمومين فقال {الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ} أي يبخلون بالإِنفاق في سبيل الله، ولا يكفيهم ذلك حتى يأمروا الناس بالبخل ويرغبوهم في الإِمساك {وَمَنْ يَتَوَلَّ} أي ومن يعرض عن الإِنفاق {فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} أي فإِن الله مستغنٍ عنه وعن إِنفاقه، محمودٌ في ذاته وصفاته، لا يضره الإِعراض عن شكره، ولا تنفعه طاعة الطائعين، وفيه وعيدٌ وتهديد.



بعث الله الرسل لإقامة شرعه حكماً بين الناس



{لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمْ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ(25)}



{لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ} اللام موطئة لقسم محذوف أي والله لقد بعثنا رسلنا بالحجج القواطع والمعجزات البينات {وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمْ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ} أي وأنزلنا معهم الكتب السماوية التي فيها سعادة البشرية، وأنزلنا القانون الذي يُحكم به بين الناس، وفسَّر بعضهم الميزان بأنه العدلُ، وقال ابن زيد: هو ما يُوزن به ويُتعامل {لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ} أي ليقوم الناس بالحق والعدل في معاملاتهم {وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ} أي وخلقنا وأوجدنا الحديد فيه بأس شديد، لأن آلات الحرب تُتخذ منه، كالدروع، والرماح، والتروس، والدبابات وغير ذلك {وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} أي وفيه منافع كثيرة للناس كسكك الحراثة، والسكين، والفأس وغير ذلك وما من صناعة إِلا والحديدُ آلة فيها، قال أبو حيان: وعبَّر تعالى عن إِيجاده بالإِنزال كما قال {وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج} لأن الأوامر وجميع القضايا والأحكام لما كانت تُلقى من السماء جعل الكل نزولاً منها، وأراد بالحديد جنسه من المعادن قاله الجمهور {وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ} عطفٌ على محذوف مقدر أي وأنزلنا الحديد ليقاتل به المؤمنون أعداءهم ويجاهدوا لإِعلاء كلمة الله، وليعلم الله من ينصر دينه ورسله باستعمال السيوف والرماح وسائر الأسلحة مؤمناً بالغيب، قال ابن عباس: ينصرونه ولا يبصرونه، ثم قال تعالى {إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} أي قادر على الانتقام من أعدائه بنفسه، عزيزٌ أي غالب لا يُغالب فهو غني بقدرته وعزته عن كل أحد، قال البيضاوي: أي قويٌ على إِهلاك من أراد إِهلاكه، عزيزٌ لا يفتقر إِلى نصرة أحد، وإِنما أمرهم بالجهاد لينتفعوا به ويستوجبوا الثواب، وقال ابن كثير: معنى الآية أنه جعل الحديد رادعاً لمن أبى الحقَّ وعانده بعد قيام الحجة عليه، ولهذا أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة ثلاث عشرة سنة تُوحى إِليه السور، ويقارعهم بالحجة والبرهان، فلما قامت الحجة على من خالف أمر الله، شرع الله الهجرة وأمر المؤمنين بالقتال بالسيوف وضرب الرقاب، ولهذا قال عليه السلام (بُعثت بالسيف بين يدي الساعة، وجُعل رزقي تحت ظل رُمحي، وجعل الذل والصَّغار على من خالف أمري، ومن تشبه بقومٍ فهو منهم) ثم قال تعالى {إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} أي هو قوي عزيز ينصر من شاء من غير احتياج منه إِلى الناس، وإِنما شرع الجهاد ليبلو بعضهم ببعض.





وحدة الشرائع في أصولها



{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ(26)ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الإِنجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ(27)يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ(28) لِّئَلا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ(29)}



سبب النزول:

نزول الآية (28):

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ}: أخرج ابن أبي حاتم عن مقاتل قال: لما نزلت: {أُوْلَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا} الآية [القصص: 54] فَخَر مؤمنو أهل الكتاب على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فقالوا: لنا أجران، ولكم أجر، فاشتد ذلك على الصحابة، فأنزل الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ} الآية، فجعل لهم أجرين مثل أجور مؤمني أهل الكتاب، وزادهم النور.



نزول الآية (29):

{لِّئَلا يَعْلَمَ..}: أخرج ابن جرير عن قتادة قال: بلغنا أنه لما نزلت: {يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ } حسد أهل الكتاب المسلمين عليها، فأنزل الله: {لِّئَلا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ} الآية.



{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ} لما ذكر بعثة الرسل ذكر هنا شيخ الأنبياء نوحاً عليه السلام، وأبا الأنبياء إِبراهيم عليه السلام وبيَّن أنه جعل في نسلهما النبوة والكتب السماوية أي وباللهِ لقد أرسلنا نوحاً وإِبراهيم وجعلنا النبوة في نسلهما، كما أنزلنا الكتب الأربعة وهي "التوراة والزبور والإِنجيل والقرآن" على ذريتهما، وإِنما خصَّ نوحاً وإِبراهيم بالذكر تشريفاً لهما وتخليداً لمآثرهما الحميدة {فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} أي فمن ذرية نوح وإِبراهيم أناس مهتدون، وكثيرٌ منهم عصاةٌ خارجون عن الطاعة وعن الطريق المستقيم {ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِرُسُلِنَا} أي ثم أتبعنا بعدهم برسلنا الكرام، أرسلناهم رسولاً بعد رسول، موسى، وإِلياس، وداود، وسليمان، ويونس وغيرهم {وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ} أي وجعلناه بعد أولئك الرسل لأنه كان آخر الأنبياء من بني إِسرائيل {وَآتَيْنَاهُ الإِنجِيلَ} أي وأنزلنا عليه الإِنجيل الذي فيه البشارة بمحمد صلى الله عليه وسلم {وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً} أي وجعلنا في قلوب أتباعه الحواريين الشفقة واللين، قال ابن جزي: هذا ثناء من الله عليهم بمحبة بعضهم في بعض كما وصف تعالى أصحاب سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم بأنهم {رحماء بينهم} {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ} أي ورهبانيةً ابتدعها القسسُ والرهبان وأحدثوها من تلقاء أنفسهم، ما فرضناها عليهم ولا أمرناهم بها، قال أبو حيان: والرهبانيةُ رفضُ النساء وشهوات الدنيا، واتخاذ الصوامع ومعنى {ابْتَدَعُوهَا}أي أحدثوها من عند أنفسهم {إِلا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ} أي ما أمرناهم إِلا بما يرضي الله، والاستثناء منقطع ولا معنى ما كتبنا عليهم الرهبانية، ولكنهم فعلوها من تلقاء أنفسهم ابتغاء رضوان الله {فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتهَا} أي فما قاموا بها حقَّ القيام، ولا حافظوا عليها كما ينبغي، قال ابن كثير: وهذا ذمٌ لهم من وجهين: أحدهما: الابتداع في دين الله ما لم يأمر به اللهُ والثاني: في عدم قيامهم بما التزموه مما زعموا أنه قربة تقربهم إِلى الله عز وجل، وفي الحديث (لكل أمة رهبانية، ورهبانية أمتي الجهاد في سبيل الله) {فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ} أي فأعطينا الصالحين من أتباع عيسى الذين ثبتوا على العهد وآمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم ثوابهم مضاعفاً {وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} أي وكثير من النصارى خارجون عن حدود الطاعة منتهكون لمحارم الله كقوله تعالى {إن كثيراً من الأحبار والرهبان ليأكلون أموال الناس بالباطل ويصدون عن سبيل الله} {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ} أي يا من صدقتم بالله اتقوا الله بامتثال أوامره واجتناب نواهيه، ودوموا واثبتوا على الإِيمان {يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ} أي يعطكم ضعفين من رحمته {وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ} أي ويجعل لكم في الآخرة نوراً تمشون به على الصراط {وَيَغْفِرْ لَكُمْ} أي ويغفر لكم ما أسلفتم من المعاصي {وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} أي عظيم المغفرة واسع الرحمة {لِّئَلا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} أي إِنما بالغنا في هذا البيان ليعلم أهل الكتاب أنهم لا يقدرون على تخصيص فضل الله بهم، ولا يمكنهم حصر الرسالة والنبوة فيهم، فلا في قوله {لِّئَلا} زائدة والمعنى ليعلم، قال المفسرون: إن أهل الكتاب كانوا يقولون الوحي والرسالة فينا، والكتابُ والشرع ليس إِلا لنا، والله خصنا بهذه الفضيلة العظيمة من بين جميع العالمين، فردّ الله عليهم بهذه الآية الكريمة {وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ} أي وأن أمر النبوة والهداية والإِيمان بيد الرحمن يعطيه لمن يشاء من خلقه {وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} أي والله واسع الفضل والإِحسان.

yacine414
2011-04-01, 20:28
سورة المجادلة



حكم الظهار وكفارته

وعيد الله للمخالفين له ولرسوله صلى لله عليه وسلم

أحوال اليهود والمنافقين، وآداب المناجاة

أدب المجالس في الإسلام

الأمر بتقديم الصدقة قبل مساررة الرسول صلى الله عليه وسلم

المنافقون الموالون غير المؤمنين

جزاء المعادين لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم، وتحريم موالاتهم:



بَين يَدَيْ السُّورَة



* سورة المجادلة مدنية، وقد تناولت أحكاماً تشريعية كثيرة كأحكام الظهار، والكفارة التي تجب على المظاهر، وحكم التناجي، وآداب المجالس، وتقديم الصدقة عند مناجاة الرسول صلى الله عليه وسلم، وعدم مودة أعداء الله، إِلى غير ذلك، كما تحدثت عن المنافقين وعن اليهود.



* ابتدأت السورة الكريمة ببيان قصة المجادلة "خولة بنت ثعلبة" التي ظاهر منها زوجها - على عادة أهل الجاهلية في تحريم الزوجة بالظهار - وقد جاءت تلك المرأة رسول الله صلى الله عليه وسلم تشكو ظلم زوجها لها وقالت يا رسول الله: "أكل مالي، وأفنى شبابي، ونثرت له بطني حتى إِذا كبرتْ سني، وانقطع ولدي، ظاهر مني" ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لها: ما أُراك إِلا قد حرمت عليه، فكانت تجادله وتقول: يا رسول الله، ما طلقني ولكنه ظاهر مني، فيرد عليها قوله السابق، ثم قالت: اللهم إني أشكو إِليك، فاستجاب الله دعاءها، وفرَّج كربتها وشكواها {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ..} الآيات.



* ثم تناولت حكم كفارة الظهار {الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلا اللائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ..} الآيات.



* ثم تحدثت عن موضوع التناجي، وهو الكلام سراً بين اثنين فأكثر، وقد كان هذا من دأب اليهود والمنافقين لإِيذاء المؤمنين، فبينت حكمه وحذَّرت المؤمنين من عواقبه {أَلَمْ تَرَى أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلا هُوَ رَابِعُهُمْ..} الآيات.



* وتحدثت السورة عن اليهود اللعناء، الذين كانوا يحضرون مجلس الرسول صلى الله عليه وسلم فيحيونه بتحية ملغوزة، ظاهرها التحية والسلام، وباطنها الشتيمة والمسبَّة كقولهم: السامُ عليك يا محمد يعنون الموت {وَإِذَا جَاءوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ}.



* وتناولت السورة الحديث عن المنافقين بشيءٍ من الإِسهاب، فقد اتخذوا اليهود أصدقاء، يحبونهم ويوالونهم وينقلون إِليهم أسرار المؤمنين، فكشفت الستار عن هؤلاء المذبذبين وفضحتهم {ألم تر إِلى الذين تولَّوا قوماً غضب الله عليهم ..} الآيات.



* وختمت السورة الكريمة ببيان حقيقة الحب في الله، والبغض في الله، الذي هو أصل الإِيمان وأوثق عرى الدين، ولا بدَّ في اكتمال الإِيمان من معاداة أعداء الله {لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حادَّ الله ورسوله، ولو كانوا ءاباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم أولئك كتب في قلوبهم الإِيمان ..} إِلى آخر السورة الكريمة.





حكم الظهار وكفارته



{قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ(1)الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلا اللائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ(2)وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ(3)فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ(4)}



سبب النزول:

نزول الآية (1) وما بعدها:

{قَدْ سَمِعَ.. }: أخرج الحاكم وصححه عن عائشة قالت: تبارك الذي وسع سمعه كل شيء، إني لأسمع كلام خولة بنت ثعلبة، ويخفى علي بعضه، وهي تشتكي زوجها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتقول: يا رسول الله، أكَلَ شبابي، ونَثَرت له بطني، حتى إذا كَبِرت سِنّي وانقطع ولدي، ظاهرَ مني، اللهم إني أشكو إليك، فما برحت حتى نزل جبريل بهؤلاء الآيات: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا} وهو أوس بن الصامت.

وأخرج الإمام أحمد والبخاري في كتاب التوحيد تعليقاً عن عائشة قالت: "الحمد لله الذي وسع سمعه الأصوات، لقد جاءت المجادلة إلى النبي صلى الله عليه وسلم تكلمه وأنا في ناحية البيت، ما أسمع ما تقول، فأنزل الله عز وجل {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا..} الآية".



{قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا} "قد" لا تدخل إِلا على الأفعال، وإِذا دخلت على الماضي أفادت التحقيق، وإِذا دخلت على المضارع أفادت التقليل كقولك: قد يجودُ البخيلُ، وقد ينزل المطر والمعنى: حقاً لقد سمع الله قول المرأة التي تراجعك وتحاورك في شأن زوجها قال الزمخشري: ومعنى سماعه تعالى لقولها إِجابة دعائها، لا مجرد علمه تعالى بذلك، وهو كقول المصلي: سمع اللهُ لمن حمده {وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ} أي وتتضرع إِلى الله تعالى في تفريج كربتها {وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا} أي والله جل وعلا يسمع حديثكما ومراجعتكما الكلام، ماذا قالت لك وماذا رددت عليها {إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} أي سميع بمن يناجيه ويتضرع إِليه، بصير بأعمال العباد، وهو كالتعليل لما قبله، وكلاهما من صيغ المبالغة أي مبالغ في العلم بالمسموعات والمبصرات .. ثم ذمَّ تعالى الظهار وبيَّن حكمه وجزاء فاعله فقال {الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ} أي الذين يقولون لنسائهم: أنتن كظهور أمهاتنا يقصدون بذلك تحريمهن عليهم كتحريم أمهاتهن، لسن في الحقيقة أمهاتهم وإِنما هنَّ زوجاتهم قال الإِمام الفخر الرازي: الظهار هو عبارة عن قول الرجل لامرأته: أنتِ عليَّ كظهر أمي، يقصد عُلُوّي عليك حرامٌ كعلوي على أمي، والعربُ تقول في الطلاق: نزلتُ عن امرأتي أي طلقتها، فغرضهم من هذه اللفظة تحريم معاشرتها تشبيهاً بالأم وقوله: {منكم} توبيخٌ للعرب وتهجينٌ لعادتهم في الظهار لأنه كان من أيمان أهل الجاهلية خاصةً دون سائر الأمم {إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلا اللائِي وَلَدْنَهُمْ} أي ما أمهاتهم في الحقيقة إلا الوالدات اللاتي ولدنهم من بطونهن وفي المثل "ولدك من دمَّى عقبيك" وهو تأكيد لقوله {مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ} زيادة في التوضيح والبيان {وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا} أي والحال أِن هؤلاء المظاهرين ليقولون كلاماً منكراً تنكره الحقيقة وينكره الشرع، وهو كذبٌ وزورٌ وبهتان {وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ} أي مبالغ في العفو والمغفرة لمن تاب وأناب قال ابن جزي: أخبر تعالى أن الظهار منكر وزور، فالمنكر هو الذي لا تعرف له حقيقة، والزور هو الكذب، وإِنما جعله كذباً لأن المظاهر يجعل امرأته كأمه، وهي لا تصير كذلك أبداً والظهار محرم ويدل على تحريمه أربعة أشياء: أحدها: قوله: {مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ} فإِن ذلك تكذيب للمظاهر والثاني: أنه سمَّاه منكراً والثالث: أنه سماه زوراً والرابع: قوله تعالى {وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ} فإِنَّ العفو والمغفرة لا تقع إِلا عن ذنب، والذنب مع ذلك لازمٌ للمظاهر حتى يرفعه بالكفارة .. ثم بيَّن تعالى طريق الكفارة عن هذا القول الشنيع فقال: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ} أي يظاهرون من زوجاتهم بتشبيههنَّ بالأمهات {ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا} أي يعودون عمَّا قالوا، ويندمون على ما فرط منهم، ويرغبون في إِعادة أزواجهم إِليهم {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} أي فعليهم إِعتاقُ رقبةٍ - عبداً كان أو أمةً - من قبل أن يعاشر زوجته التي ظاهر منها أو يجامعها، والتَّماسُّ كنايةٌ عن الجماع ودواعيه من التقبيل واللمس عند الجمهور قال الخازن: المرادُ من التماسِّ المجامعةُ فلا يحل للمظاهر وطءُ امرأته التي ظاهر منها ما لم يُكفِّر وقال القرطبي: لا يجوز للمظاهر الوطءُ قبل التكفير، فإِن جامعها قبل التكفير أثم وعصى ولا يسقط عنه التكفير، وعن مجاهد تلزمه كفارتان {ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ} أي ذلكم هو حكم الله فيمن ظاهر ليتعظ به المؤمنون، حتى تتركوا الظهار ولا تعودوا إليه {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} أي عالم بظواهر الأمور وبواطنها ومجازيكم بها، فحافظوا على حدود ما شرع لكم من الأحكام {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} أي فمن لم يجد الرقبة التي يعتقها فعليه صيام شهرين متواليين من قبل الجماع قال المفسرون: لو أفطر يوماً منها انقطع التتابع ووجب عليه أن يستأنفها {فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا} أي فمن لم يستطع الصيام لكبرٍ أو مرض، فعليه أن يُطعم ستين مسكيناً ما يشبعهم {ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} أي ذلك الذي بيناه من أحكام الظهار من أجل أن تصدقوا بالله ورسوله في العمل بشرائعه، ولا تستمروا على أحكام الجاهلية {وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ} أي وتلك هي أوامرُ الله وحدوده فلا تعتدوها {وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ} أي وللجاحدين والمكذبين بهذه الحدود عذاب مؤلم موجع قال الألوسي: أطلق الكافر على متعدي الحدود تغليظاً وزجراً ..



وعيد الله للمخالفين له ولرسوله صلى لله عليه وسلم



{إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَقَدْ أَنْزَلْنَا ءاياتٍ بَيِّنَاتٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ(5)يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ(6)أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ(7)}



{إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ} ولما ذكر المؤمنين الواقفين عند حدوده، ذكر المحادين المخالفين لها فقال {اللَّهَ وَرَسُولَهُ} أي يخالفون أمر الله ورسوله، ويعادون الله ورسوله قال أبو السعود: أي يعادونهما ويشاقونهما لأن كلاً من المتعاديين في حدٍّ وجهة غير حدِّ الآخر وجهته، وإِنما ذكرت المحادَّة هنا دون المعاداة والمشاقّة لمناسبة ذكر "حدود الله" فكان بينهما من حسن الموقع ما لا غاية وراءه {كُبِتُوا كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} أي خُذلوا وأهينوا كما خُذل من قبلهم من المنافقين والكفار الذي حادُّوا الله ورسله وأُذلوا وأُهينوا {وَقَدْ أَنْزَلْنَا ءاياتٍ بَيِّنَاتٍ} أي والحال أنا قد أنزلنا ءاياتٍ واضحات، فيها الحلال والحرام، والفرائض والأحكام {وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ} أي وللكافرين الذين جحدوها ولم يعملوا بها عذاب شديد يهينهم ويذهب عزَّهم قال الصاوي: وقد نزلت هذه الآية في كفار مكة يوم الأحزاب حين أرادوا التحزب على رسول الله صلى الله عليه وسلم والمقصودُ بها تسلية رسول الله صلى الله عليه وسلم وبشارته مع المؤمنين بأن أعداءهم المتحزبين سيذلون ويخذلون ويفرق جمعهم فلا تخشوا بأسهم {يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا} أي اذكر ذلك اليوم الرهيب حين يحشر الله المجرمين كلهم في صعيد واحد {فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا} أي فيخبرهم بما ارتكبوا في الدنيا من جرائم وآثام {أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنسوهُ} أي ضبطه الله وحفظه عليهم في صحائف أعمالهم، بينما هم نسوا تلك الجرائم لاعتقادهم أن لا حساب ولا جزاء {وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} أي وهو جل وعلا مطَّلع وناظر لا يغيب عنه شيء، ولا يخفى عليه شيء .. ثم بيَّن تعالى سعة علمه، وإِحاطته بجميع الأشياء، وأنه تعالى يرى الخلق ويسمع كلامهم ويرى مكانهم حيث كانوا وأين كانوا فقال {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلا هُوَ رَابِعُهُمْ} أي ألم تعلم أيها السامع العاقل أن الله مطَّلع على كل ذرةٍ في الكون، لا يغيب عنه شيء في الأرض ولا في السماء، ولا يخفى عليه سرٌّ ولا علانية، وما يقع من حديثٍ وسرٍّ بين ثلاثة أشخاص إِلا كان الله رابعهم بعلمه ومشاركاً لهم فيما يتحدثون ويتهامسون به في خفية عن الناس. {وَلا خَمْسَةٍ إِلا هُوَ سَادِسُهُمْ} أي ولا تقع مناجاةٌ وحديث بالسر بين خمسة أشخاص إِلا كان الله معهم بعلمه حتى يكون هو سادسهم {وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا} أي ولا أقلَّ من ذلك العدد ولا أكثر منه إِلاّ واللهُ معهم يعلم ما يجري بينهم من حديثٍ ونجوى، والغرض: أنه تعالى حاضر مع عباده، مطَّلع على أحوالهم وأعمالهم، وما تهجس به أفئدتهم، لا يخفى عليه شيء من أمور العباد، ولهذا ختم الآية بقوله {ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} أي ثم يخبرهم تعالى عما عملوا من حسن وسيء ويجازيهم عليه يوم القيامة، لأنه عالم بكل شيء من الأشياء قال المفسرون: ابتدأ الله هذه الآيات بالعلم بقوله {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ } واختتمها بالعلم بقوله {إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} لينبه إِلى إحاطة علمه وجل وعلا بالجزئيات والكليات، وأنه لا يغيب عنه شيء في الكائنات لأنه قد أحاط بكل شيء علماً، قال ابن كثير: وقد حكى غير واحد الإِجماع على أن المراد بالمعية في هذه الآية {إِلا هُوَ مَعَهُمْ} معية علمه تعالى، ولا شك في إرادة ذلك، فسمعه مع علمه محيط بهم، وبصره نافذ فيهم، فهو سبحانه مطَّلع على خلقه لا يغيب عنه من أمورهم شيء ..





أحوال اليهود والمنافقين، وآداب المناجاة



{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَيَتَنَاجَوْنَ بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَإِذَا جَاءوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنفُسِهِمْ لَوْلا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ(8)يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلا تَتَنَاجَوْا بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ(9)إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئًا إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ(10)}



سبب النزول:

نزول الآية (8):

{ألم تر ...}: أخرج ابن أبي حاتم عن مقاتل بن حيَّان قال: كان بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين اليهود موادعة، فكانوا إذا مرّ بهم رجل من الصحابة، جلسوا يتناجون بينهم حتى يظن المؤمن أنهم يتناجون بقتله، أو بما يكرهه، فنهاهم النبي صلى الله عليه وسلم عن النجوى، فلم ينتهوا، فأنزل الله: {ألم تر إلى الذين نهوا عن النجوى} الآية.



نزول قوله تعالى: {وإذا جاؤوك حيّوك بما لم يحيِّك به الله}:

عن عائشة قالت: جاء ناس من اليهود إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: السام عليك يا أبا القاسم، فقلت: السام عليكم وفعل الله بكم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: مَهْ، يا عائشة، فإن الله تعالى لا يحبّ الفحش ولا التفحش، فقلت: يا رسول الله، ألستُ أدري ما يقولون؟ قال: ألستِ ترين أردّ عليهم ما يقولون؟ أقول: وعليكم، ونزلت هذه الآية في ذلك: {وإذا جاؤوك حيوك بما لم يحيِّك به الله}.



نزول الآية (10):

{إنما النجوى من الشيطان}: أخرج ابن جرير عن قتادة قال: كان المنافقون يتناجون بينهم، وكان ذلك يغيظ المؤمنين، ويكبر عليهم، فأنزل الله: {إنما النجوى من الشيطان} الآية.



ثم أخبر تعالى عن أحوال اليهود والمنافقين فقال : {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى} قال القرطبي: نزلت في اليهود والمنافقين كانوا يتناجون فيما بينهم، وينظرون للمؤمنين ويتغامزون بأعينهم، فشكوا ذلك إِلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فنهاهم عن النجوى فلم ينتهوا فنزلت {ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ} أي ثم يرجعون إِلى المناجاة التي نهُوا عنها قال أبو السعود: والهمزة {أَلَمْ تَرَ } للتعجيب من حالهم، وصيغة المضارع {ثُمَّ يَعُودُونَ} للدلالة على تكرر عودهم وتجدده واستحضار صورته العجيبة {وَيَتَنَاجَوْنَ بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ} أي ويتحدثون فيما بينهم بما هو إِثم وعدوان ومخالفة لأمر الرسول صلى الله عليه وسلم لأن حديثهم يدور حول المكر والكيد بالمسلمين، قال أبو حيان: بدأ بالإِثم لعمومه، ثم بالعُدوان لعظمته في النفوس إِذ هي ظُلامات العباد، ثم ترقَّى إِلى ما هو أعظم وهو معصية الرسول عليه الصلاة والسلام، وفي هذا طعنٌ على المنافقين إِذ كان تناجيهم في ذلك {وَإِذَا جَاءوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ} أي وإِذا حضروا عندك يا محمد حيَّوك بتحيةٍ ظالمةٍ لم يشرعها الله ولم يأذن فيها، وهي قولهم "السامُ عليكم" أي الموت عليكم قال المفسرون: كان اليهود يأتون رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقولون: السامُ عليكم بدلاً من السلام عليكم، والسامُ الموتُ وهو ما أرادوه بقولهم، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لهم: وعليكم لا يزيد عليها، فسمعتهم عائشة يوماً فقالت: بل عليكم السامُ واللعنة، فلما انصرفوا قال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: مهلاً يا عائشة، إِن الله يكره الفُحش والتفحش فقالت يا رسول الله: أما سمعتَ ما قالوا؟ فقال لها إني قلت لهم: أما سمعتِ ما قلت لهم: وعليكم، فيستجيب الله لي فيهم، ولا يتسجيب لهم فيَّ {وَيَقُولُونَ فِي أَنفُسِهِمْ لَوْلا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ} أي ويقولون فيما بينهم: هلاَّ يعذبنا الله بهذا القول لو كان محمد نبياً؟ فلو كان نبياً حقاً لعذبنا الله على هذا الكلام قال تعالى رداً عليهم {حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا} أي يكفيهم عذاباً أن يدخلوا نار جهنم ويصلوا حرها {فَبِئْسَ الْمَصِيرُ} أي بئست جهنم مرجعاً ومستقراً لهم، قال ابن العربي: كانوا يقولون: لو كان محمد نبياً لما أمهلنا الله بسبّه والاستخفاف به، وجهلوا أن الباري تعالى حليمٌ لا يعاجل العقوبة لمن سبَّه فكيف بمن سبَّ نبيه!! وقد ثبت في الصحيح: "لا أحد أصبر على الأذى من الله، يدعون له الصاحبة والولد وهو يعافيهم ويرزقهم" فأنزل الله تعالى هذا كشفاً لسرائرهم، وفضحاً لبواطنهم، وتكريماً لرسوله صلى الله عليه وسلم، وأما إمهالهم في الدنيا فمن كراماته صلى الله عليه وسلم على ربه لكونه بعث رحمةً للعالمين .. ثم نهى تعالى المؤمنين عن التناجي بما هو إِثم ومعصية فقال {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلا تَتَنَاجَوْا بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ} أي إذا تحدثتم فيما بينكم سراً فلا تتحدثوا بما فيه إثم كالقبيح من القول، أو بما هو عدوان على الغير أو مخالفة ومعصية لأمر الرسول صلى الله عليه وسلم {وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى} أي وتحدثوا بما فيه خيرٌ وطاعة وإِحسان، قال القرطبي: نهى تعالى المؤمنين أن يتناجوا فيما بينهم كفعل المنافقين واليهود، وأمرهم أن يتناجوا بالطاعة والتقوى والعفاف عما نهى الله عنه {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} أي وخافوا الله بامتثالكم أوامره واجتنابكم نواهيه، الذي سيجمعكم للحساب، ويجازي كلاً بعمله {إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا} أي ليست النجوى بالإِثم والعدوان إِلا من تزيين الشيطان، ليُدخل بها الحزن على المؤمنين، قال ابن كثير: أي إنما يصدر هذا من المتناجين عن تزيين الشيطان وتسويله {وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئًا إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ} أي وليس هذا التناجي بضارٍ للمؤمنين شيئاً إِلا بمشيئة الله وإِرادته {وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} أي وعلى الله وحده فليعتمد ولْيثق المؤمنون، ولا يبالوا بنجوى المنافقين فإِن الله يعصمهم من شرهم وكيدهم، وفي الحديث (إِذا كنتم ثلاثة فلا يتناجى اثنان دون صاحبهما فإِن ذلك يحزنه).



أدب المجالس في الإسلام



{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انشُزُوا فَانشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ(11)}



{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} نداءٌ من الله تعالى للمؤمنين بأكرم وصفٍ وألطف عبارة أي يا من صدَّقتم الله ورسوله وتحليتم بالإِيمان الذي هو زينة الإِنسان {إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا} أي إِذا قال لكم أحد توسعوا في المجالس - سواءً كان مجلس الرسول صلى الله عليه وسلم أو غيره من المجالس - فتوسعوا وافسحوا له {يفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ} أي يوسِّع لكم ربكم في رحمته وجنته، قال مجاهد: كانوا يتنافسون في مجلس النبي صلى الله عليه وسلم فأُمروا أن يفسح بعضهم لبعض، قال الخازن: أمر الله المؤمنين بالتواضع وأن يفسحوا في المجلس لمن أراد الجلوس عند النبي صلى الله عليه وسلم ليتساوى الناس في الأخذ من حظهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي الحديث (لا يقيمنَّ أحدكم رجلاً من مجلسه ثم يجلس فيه، ولكنْ توسَّعوا وتفسَّحوا يفسح اللهُ لكم) قال الإِمام الفخر الرازي: وقوله {يفسِح الله لكم} مطلقٌ في كل ما يطلب الناس الفسحة فيه في المكان، والرزق، والصدر، والقبر، والجنة، واعلم أن الآية دلت على أن كل من وسَّع على عباد الله أبواب الخير والراحة وسَّع الله عليه خيرات الدنيا والآخرة وفي الحديث (لا يزال الله في عون العبد ما زال العبد في عون أخيه) {وَإِذَا قِيلَ انشُزُوا فَانشُزُوا} أي وإِذا قيل لكم أيها المؤمنون انهضوا من المجلس وقوموا لتوسّعوا لغيركم فارتفعوا منه وقوموا، قال ابن عباس: معناه إِذا قيل لكم ارتفعوا فارتفعوا، قال أبو حيّان: أُمروا أولاً بالتفسح في المجلس، ثم ثانياً بامتثال الأمر فيه إِذا أُمروا، وألا يجدوا في ذلك غضاضة {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} أي يرفع الله المؤمنين بامتثال أوامره وأوامر رسوله، والعالمين منهم خاصة أعلى المراتب، ويمنحهم أعلى الدرجات الرفيعة في الجنة، قال ابن مسعود: مدح الله العلماء في هذه الآية ثم قال: يا أيها الناس افهموا هذه الآية ولترغبكم في العلم فإِن الله يقول يرفع المؤمن العالم فوق المؤمن الذي ليس بعالم درجات، وقال القرطبي: بيّن في هذه الآية أن الرفعة عند الله بالعلم والإِيمان، لا بالسبق إِلى صدور المجالس، وفي الحديث (فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب) وعنه صلى الله عليه وسلم "يشفع يوم القيامة ثلاثة: الأنبياء، ثم العلماء، ثم الشهداء" فأَعْظِمْ بمنزلة هي واسطة بين النبوة والشهادة بشهادة رسول الله صلى الله عليه وسلم {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} أي خبير بمن يستحق الفضل والثواب ممن لا يستحقه.





الأمر بتقديم الصدقة قبل مساررة الرسول صلى الله عليه وسلم



{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ(12)ءأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ(13)}.



سبب نزول الآيتين (12، 13):

أخرج ابن جرير عن ابن عباس قال: إن المسلمين أكثروا المسائل على رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى شقّوا عليه، فأراد أن يخفف عن نبيه، فأنزل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمْ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً} فلما نزلت، صبر كثير من الناس، وكفُّوا عن المسألة، فأنزل الله بعد ذلك: {أَأَشْفَقْتُمْ} الآية.

وأخرج الترمذي وحسَّنه، وغيره عن علي قال: لما نزلت: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمْ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً} قال لي النبي صلى الله عليه وسلم: ما ترى، دينار؟ قلت: لا يطيقونه، قال: فنصف دينار؟ قلت: لا يطيقونه، قال: فكم؟ قلت: شعيرة، قال: إنك لزهيد، فنزلت: {أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ} الآية، فبي خفف الله عن هذه الأمة.



{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ} أي إِذا أردتم محادثته سراً {فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً} أي فقدموا قبلها صدقة تصدَّقوا بها على الفقراء، قال الألوسي: وفي هذا الأمر تعظيم لمقام الرسول صلى الله عليه وسلم، ونفعٌ للفقراء، وتمييزٌ بين المخلص والمنافق، وبين محب الدنيا ومحب الآخرة {ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ} أي تقديم الصدقات قبل مناجاته أفضل لكم عند الله لما فيه من امتثال أمر الله، وأطهر لذنوبكم {فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} أي فإِن لم تجدوا ما تتصدقون به فإِن الله يسامحكم ويعفو عنكم، لأنه لم يكلف بذلك إِلا القادر منكم {ءأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ} عتابٌ للمؤمنين رقيقٌ رفيق أي أخفتم أيها المؤمنون الفقر إِذا تصدقتم قبل مناجاتكم للرسول صلى الله عليه وسلم؟ والغرضُ: لا تخافوا فإِن الله يرزقكم لأنه غني بيده خزائن السماوات والأرض، وهو عتاب لطيف كما بينا، ثم نسخ تعالى الحكم تيسيراً على المؤمنين فقال {فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ} أي فإِذا لم تفعلوا ما أُمرتم به وشقَّ ذلك عليكم، وعفا الله عنكم بأن رخَّص لكم مناجاته من غير تقديم صدقة {فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} أي فاكتفوا بالمحافظة على الصلاة ودفع الزكاة المفروضة {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ} أي أطيعوا أمر الله وأمر رسوله في جميع أحوالكم {وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} أي محيطٌ بأعمالكم ونياتكم، قال المفسرون: نسخ الله في ذلك تخفيفاً على العباد حتى، قال ابن عباس: ما كان ذلك إِلا ساعةً من نهار ثم نسخ، قال القرطبي: نسختْ فرضيةُ الزكاة هذه الصدقة، وهذا يدل على جواز النسخ قبل الفعل، وما روي عن عليٍّ رضي الله عنه أنه قال: "آية في كتاب الله لم يعمل بها أحد قبلي ولا بعدي، كان عندي دينار فتصدقت به ثم ناجيت الرسول صلى الله عليه وسلم الخ فضعيفٌ: لأن الله تعالى قال: {فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا} وهذا يدل على أن أحداً لم يتصدق بشيء.







المنافقون الموالون غير المؤمنين



{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مَا هُمْ مِنْكُمْ وَلا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ(14)أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ(15)اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ(16)لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ(17)يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ(18)اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُوْلَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ(19)}.



سبب النزول:

نزول الآية (14):

{أَلَمْ تَرَ..}: أخرج ابن أبي حاتم عن السدي ومقاتل في قوله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا} الآية، قال: بلغنا أنها نزلت في عبد الله بن نَبْتَل المنافق، كان يجالس النبي صلى الله عليه وسلم، ثم يرفع حديثه إلى اليهود، فبينا رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجرة من حُجَره، إذ قال : يدخل عليكم الآن رجل قلبه قلب جبَّار، وينظر بعيني شيطان، فدخل عبد الله بن نبتل وكان أزرق، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: علام تشتمني أنت وأصحابك؟ فحلف بالله ما فعل ذلك، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: فعلتَ، فانطلق، فجاء بأصحابه، فحلفوا بالله ما سبّوه، فأنزل الله تعالى هذه الآية.



نزول الآية (18):

{يَوْمَ يَبْعَثُهُمْ اللَّهُ..}: أخرج أحمد والحاكم وصححه عن ابن عباس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في ظل حجرة، وقد كاد الظل يتقلص، فقال: إنه سيأتيكم إنسان، فينظر إليكم بعيني شيطان، فإذا جاءكم، لا تكلموه، فلم يلبثوا أن طلع عليهم رجل أزرق أعور، فدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له حين رآه: علام تشتمني أنت وأصحابك؟ فقال: ذرني آتك بهم، فانطلق، فدعاهم، فحلفوا له ما قالوا وما فعلوا، فأنزل الله: {يَوْمَ يَبْعَثُهُمْ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ} الآية.



{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} تعجيبٌ للرسول صلى الله عليه وسلم من أمر المنافقين الذين اتخذوا اليهود أصدقاء أي ألا تعجب يا محمد من حال هؤلاء المنافقين الذين يزعمون الإِيمان، وقد اتخذوا اليهود المغضوب عليهم أولياء، يناصحونهم وينقلون إِليهم أسرار المؤمنين!! قال الإِمام الفخر الرازي: كان المنافقون يتولون اليهود وهم الذين غضب الله عليهم في قوله {من لعنهُ الله وغضب عليه} وكانوا ينقلون إِليهم أسرار المؤمنين {مَا هُمْ مِنْكُمْ وَلا مِنْهُمْ} أي ليس هؤلاء المنافقون من المسلمين ولا من اليهود، بل هم مذبذبون بين ذلك كقوله تعالى: {مذبذبين بين ذلك لا إِلى هؤلاء ولا إِلى هؤلاء} قال الصاوي: أي ليسوا من المؤمنين الخلَّص، ولا من الكافرين الخُلَّص، لا ينتسبون إِلى هؤلاء ولا إِلى هؤلاء {وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} أي ويحلفون بالله كاذبين يقولون: والله إِنا لمسلمون، وهم يعلمون أنهم كذبة فجرة، قال أبو السعود: والصيغةُ مفيدة لكمال شناعة ما فعلوا، فإِن الحلف على ما يُعلم أنه كذبٌ في غاية القبح {أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا} أي هيأ لهم تعالى - بسبب نفاقهم - عذاباً في نهاية الشدة والألم، وهو الدرك الأسفل في جهنم {إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار ولن تجد لهم نصيراً} {إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} أي بئس ما فعلوا وبئس ما صنعوا {اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً} أي جعلوا أيمانهم الكاذبة الفاجرة وقايةً لأنفسهم وسترةً لها من القتل، قال ابن جزي: أصل الجُنَّة ما يُستتر به ويُتقى به المحذور كالترس، ثم استعمل هنا بطريق الاستعارة لأنهم كانوا يظهرون الإِسلام ليعصموا دماءهم وأموالهم {فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} أي فمنعوا الناس عن الدخول في الإِسلام، بإِلقاء الشبهات في قلوب الضعفاء والمكر والخداع بالمسلمين {فَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ} أي فلهم عذاب شديد في غاية الشدة والإِهانة {لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا} أي لن تنفعهم أموالهم ولا أولادهم في الآخرة، ولن تدفع عنهم شيئاً من عذاب الله {أُوْلئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} أي هم أهل النار لا يخرجون منها أبداً {يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا} أي يحشرهم يوم القيامة جميعاً للحساب والجزاء {فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ} أي فيحلفون لله تعالى كما يحلفون لكم اليوم في الدنيا كذباً أنهم مسلمون، قال ابن عباس: هو قولهم: {والله ربنا ما كنا مشركين} {وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ} أي يظنون أن حلفهم في الآخرة ينفعهم وينجيهم من عذابها كما نفعهم في الدنيا بدفع القتل عنهم، قال أبو حيان: والعجب منهم كيف يعتقدون أن كفرهم يخفى على علاَّم الغيوب، ويجرونه مجرى المؤمنين في عدم اطلاعهم على كفرهم ونفاقهم، والمقصود أنهم تعودوا الكذب حتى كان على ألسنتهم في الآخرة كما كانت في الدنيا {أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ} أي ألا فانتبهوا أيها الناس إِن هؤلاء هم البالغون في الكذب الغاية القصوى حيث تجاسروا على الكذب بين يدي علام الغيوب {اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ} أي استولى على قلوبهم الشيطان وغلب عليهم وتملَّك نفوسهم حتى أنساهم أن يذكروا ربهم {أُوْلَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ} أي أولئك هم أتباع الشيطان وأعوانه وأنصاره {أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ} أي أتباع الشيطان وجنوده هم الكاملون في الخسران والضلالة. لأنهم فوّتوا على أنفسهم النعيم الدائم وعرضوها للعذاب المقيم.



جزاء المعادين لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم، وتحريم موالاتهم



{إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ فِي الأَذَلِّينَ(20)كَتَبَ اللَّهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ(21)لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا ءاباءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ(22)}



{إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} أي يعادون الله ورسوله ويخالفون أمرهما {أُوْلَئِكَ فِي الأَذَلِّينَ} أي أولئك في جملة الأذلاء المبعدين من رحمة الله {كَتَبَ اللَّهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي} أي قضى الله وحكم أن الغلبة لدينه ورسله وعباده المؤمنين { إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} أي هو تعالى قويٌ على نصر رسله وأوليائه، غالبٌ على أعدائه، لا يُقهر ولا يُغلب، قال مقاتل: لما فتح الله مكة والطائف وخيبر للمؤمنين قالوا: نرجوا أن يُظهرنا الله على فارس والروم، فقال عبد الله بن سلول: أتظنون أن الروم وفارس كبعض القرى التي غلبتم عليها؟! والله إِنهم لأكثر عدداً، وأشد بطشاً من أن تظنوا فيهم ذلك فنزلت {كتب اللهُ لأغلبنَّ أنا ورسلي} {لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} أي لا يمكن أن ترى أيها السامع جماعة يصدقون بالله وباليوم الآخر يحبون ويوالون من عادى الله ورسوله وخالف أمرهما، لأن من أحبَّ الله عادى أعداءه، ولا يجتمع في قلب واحد حبُّ الله وحبُّ أعدائه، كما لا يجتمع النور والظلام، قال المفسرون: غرضُ الآية النهي عن مصادقة ومحبة الكفرة والمجرمين، ولكنها جاءت بصورة إِخبارٍ مبالغةً في النهي والتحذير، قال الإِمام الفخر الرازي: المعنى أنه لا يجتمع الإِيمان مع حبِّ أعداء الله، وذلك لأن من أحبَّ أحداً امتنع أن يحب عدوه، لأنهما لا يجتمعان في القلب، فإِذا حصل في القلب مودة أعداء الله لم يحصل فيه الإِيمان {وَلَوْ كَانُوا ءاباءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ} أي ولو كان هؤلاء المحادُّون لله ورسوله أقرب الناس إِليهم، كالآباء، والأبناء، والإِخوان، والعشيرة، فإِن قضية الإِيمان بالله تقتضي معاداة أعداء الله، قال أبو حيّان: بدأ بالآباء لأن طاعتهم واجبة على الأولاد، ثم بالأبناء لأنهم أعلق بالقلوب، ثم بالإِخوان لأنهم بهم التعاضد، ثم بالعشيرة لأن بهم التناصر والمقاتلة والتغلب على الأعداء كما قال القائل:

لا يسألون أخاهم حين يندبهم في النائبات على ما قال برهانا

قال ابن كثير: نزلت {وَلَوْ كَانُوا ءاباءهُمْ} في "أبي عبيدة" قتل أباه الجراح يوم بدر، {أَوْ أَبْنَاءهُمْ} في الصِّديق همَّ بقتل ابنه "عبد الرحمن بن أبي بكر" {أَوْ إِخْوَانَهُمْ} في مُصعب بن عمير قتل أخاه عُبيد بن عمير يومئذٍ {أَوْ عَشِيرَتَهُمْ} في حمزة، وعلي، وعبيدة بن الحارث، قتلوا عُتبة، وشيبة، والوليد بن عتبة يوم بدر {أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإِيمَانَ} أي أثبت الإِيمان ومكنه في قلوبهم فهي مؤمنةٌ موقنةٌ مخلصة {وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ} أي وقوَّاهم بنصره وتأييده، قال ابن عباس: نصرهم على عدوهم، وسمى ذلك النصر روحاً لأن به يحيا أمرهم {وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ} أي ويدخلهم في الآخرة بساتين فسيحة، تجري من تحت قصورها أنهار الجنة {خَالِدِينَ فِيهَا} أي ماكثين فيها أبد الآبدين {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} أي قبل الله أعمالهم فرضي عنهم، ونالوا ثوابه فرضوا بما أعطاهم، وإِنما ذكر رضوانه عليهم بعد دخولهم الجنة لأنه أعظم النعم، وأجل المراتب_ قال ابن كثير: وفي الآية سر بديع وهو أنهم لما سخطوا على الأقارب والعشائر في الله تعالى، عوَّضهم الله بالرضا عنهم وأرضاهم بما أعطاهم من النعيم المقيم، والفوز العظيم {أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ} أي أولئك جماعة الله وخاصته وأولياؤه {أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمْ الْمُفْلِحُونَ} أي هم الفائزون بخيري الدنيا والآخرة، وهذا في مقابلة قوله تعالى {أولئك حزب الشيطان ألا إن حزب الشيطان هم الخاسرون}.

yacine414
2011-04-01, 20:30
سورة الحشر



إجلاء يهود بني النضير

حكم الفيء في الإسلام

تواطؤ المنافقين واليهود

وعظ المؤمنين وتحذيرهم من الفسق

روعة القرآن ومنزَّلة ذي الأسماء الحسنى



بَين يَدَيْ السُّورَة



* سورة الحشر مدنية وهي تعنى بجانب التشريع شأن سائر السور المدنية، والمحورُ الرئيسي الذي تدور عليه السورة الكريمة هو الحديث عن "غزوة بن النضير" وهم اليهود الذين نقضوا العهد مع الرسول صلى الله عليه وسلم فأجلاهم عن المدينة المنورة، ولهذا كان ابن عباس يسمي هذه السورة "سورة بني النضير" وفي هذه السورة الحديث عن المنافقين الذين تحالفوا مع اليهود، وبإِيجاز هي سورة "الغزوات والجهاد" الفيء والغنائم.



* ابتدأت السورة الكريمة بتنزيه الله وتمجيده، فالكون كله بما فيه من إِنسان، وحيوان، ونبات، وجماد، شاهد بوحدانية الله وقدرته وجلاله، ناطق بعظمته وسلطانه {سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَهُوَ العَزِيزُ الْحَكِيمُ}.



* ثم ذكرت السورة بعض آثار قدرته، ومظاهر عزته، بإِجلاء اليهود من ديارهم وأوطانهم، مع ما كانوا فيه من الحصون والقلاع، وكانوا يعتقدون أنهم في عزة ومنعة لا يستطيع أحد عليهم، فجاءهم بأس الله وعذابه من حيث لم يكن في حسابهم {هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِن دِيَارِهِمْ لأَوَّلِ الحَشْرِ..} الآيات.



* ثم تناولت السورة موضوع الفيء والغنيمة، فبينت شروطه وأحكامه، ووضحت الحكمة من تخصيص الفيء بالفقراء، لئلا يستأثر به الأغنياء، وليكون هناك بعض التعادل بين طبقات المجتمع، بما فيه خير الفريقين، وبما يحقق المصلحة العامة {مَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُربَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِنِ...} الآيات.



* وتناولت السورة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بالثناء العاطر، فنوَّهت بفضائل المهاجرين ومآثر الأنصار، فالمهاجرون هجروا الديار والأوطان حباً في الله، والأنصار نصروا دين الله، وآثروا إِخوانهم - المهاجرين - بالأموال والديار على أنفسهم مع فقرهم وحاجتهم {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَأَمْوَلِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً..} الآيات.

* وفي مقابلة ذكر المهاجرين والأنصار، ذكرت السورة المنافقين الأشرار، الذين تحالفوا مع اليهود ضد الإِسلام، وضربت لهم أسوأ الأمثال، فمثلتهم بالشيطان الذي يُغري الإِنسان بالكفر والضلال ثم يتخلى عنه ويخذله، وهكذا كان شأن المنافقين مع إِخوانهم اليهود {ألَم تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لإِخوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن أَهلِ الكِتَابِ لَئِن أُخرِجتُم لَنَخرُجَنَّ مَعَكُم..} الآيات.



* ووعظت السورة المؤمنين بتذكر ذلك اليوم الرهيب، الذي لا ينفع فيه حسب ولا نسب، ولا يفيد فيه جاه ولا مال، وبينت الفارق الهائل بين أهل الجنة وأهل النار، ومصير السعداء ومصير الأشقياء في دار العدل والجزاء {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقَواْ اللَّهَ وَلتَنظُر نَفسُُ مَّا قَدَّمَت لِغَدٍ..} الآيات.



* وختمت السورة بذكر أسماء الله الحسنى وصفاته العليا وبتنزيهه عن صفات النقص {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلا هُوَ..} الآيات وهكذا يتناسق البدء مع الختام، أبدع تناسقٍ ووئام ‍‍.





إجلاء يهود بني النضير



{سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَهُوَ العَزِيزُ الْحَكِيمُ(1) هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِن دِيَارِهِمْ لأَوَّلِ الحَشْرِ ما ظَنَنتُمْ أَن يَخْرُجُواْ وَظَنُّواْ أَنَّهُم مَّانَعَتُهُمْ حُصُونُهُم مِّنَ اللهِ فَأَتَاهُمُ اللهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُواْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْربُونَ بُيُوتَهُم بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي المُؤْمِنِينَ فَاعتَبِرُواْ يَا أُوْلِى الأّبصَارِ(2)وَلوْلا أَن كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ(3)ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّواْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَن يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ العِقَابِ(4) مَا قَطَعْتُم مِّن لِّيِنَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَ لِيخْزِىَ الفَاسِقِينَ(5)}.



سبب النزول :

نزول الآية (1) :

{سَبَّحَ لِلَّهِ} : أخرج البخاري عن ابن عباس قال : سورة الأنفال نزلت في بدر، وسورة الحشر نزلت في بني النضير.



نزول الآية (5) :

{مَا قَطَعْتُم...} : أخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن ابن عمر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حرّق بني النضير، وقطع وَدِيّ البويرة، فأنزل الله: {مَا قَطَعْتُم مِّن لِّيِنَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا } الآية.



{سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ} أي نزَّه الله تعالى ومجَّده وقدَّسه جميع ما في السماواتِ والأرض من ملك، وإِنسان، وجماد، وشجر كقوله تعالى {وإِنْ من شيءٍ إِلا يسبّح بحمده} قال ابن كثير: يخبر تعالى أن جميع ما في السماواتِ والأرض يسبح له ويُمجده ويقدِّسه ويُوحِّده { وَهُوَ العَزِيزُ الْحَكِيمُ} أي وهو العزيز في ملكه، الحكيمُ في صنعه {هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِن دِيَارِهِمْ} بيانٌ لبعض آثار قدرته تعالى الباهرة وعزته الظاهرة أي هو جلَّ وعلا الذي أخرج يهود بني النضير من مساكنهم بالمدينة المنورة {لأَوَّلِ الحَشْرِ} أي في أول مرة حُشروا وأخرجوا فيها من جزيرة العرب، إِذ لم يصبهم هذا الذل قبل ذلك قال البيضاوي : لما قدم صلى الله عليه وسلم المدينة صالح "بني النضير" على ألاَّ يكونوا معه ولا عليه، فلما ظهر يوم بدر قالوا: إنه النبي المنعوتُ في التوراة بالنصرة لا تُردُّ له راية، فلما هُزم المسلمون يوم أُحد ارتابوا ونكثوا، وخرج "كعب بن الأشرف" في أربعين راكباً إِلى مكة وحالفوا "أبا سفيان" فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم "محمد بن مسلمة" أخا كعبٍ من الرضاعة فقتله غيلةً، ثم صبَّحهم بالكتائب وحاصرهم، حتى صالحوه على الجلاء، فجلا أكثرهم إِلى الشام، ولحقت طائفة بخيبر، فذلك قوله {هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِن دِيَارِهِمْ لأَوَّلِ الحَشْرِ} قال الألوسي: ومعنى {لأَوَّلِ الحَشْرِ } أن هذا أول حشرهم إِلى الشام أي أول ما حُشروا وأُخرجوا، ونبَّه بلفظ {لأَوَّلِ} على أنهم لم يصبهم جلاءٌ قبله {ما ظَنَنتُمْ أَن يَخْرُجُواْ} أي ما ظننتم أيها المؤمنون أن يخرجوا من أوطانهم وديارهم بهذا الذل والهوان، لعزتهم ومنعتهم، وشدة بأسهم، حيث كانوا أصحاب حصون وعقار، ونخيلٍ وثمار {وَظَنُّواْ أَنَّهُم مَّانَعَتُهُمْ حُصُونُهُم مِّنَ اللهِ} أي وظنوا أن حصونهم الحصينة تمنعهم من بأس الله، وتدفع عنهم عذابه وانتقامه قال البيضاوي: والأصل أن يُقال: وظنوا أن حصونهم تمنعهم أو مانعتهم من بأس الله، وتغييرُ النظم بتقديم الخبر وإِسناد الجملة إِلى ضميرهم للدلالة على فرط وثوقهم بكونها حصينة، بحيث ظنوا أنه لا يخرجهم منها أحد لأنهم في عزة ومنعة {فَأَتَاهُمُ اللهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُواْ} أي فجاءهم بأسُ الله وعذابه من حيث لم يكن في حسابهم، ولم يخطر ببالهم {وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ} أي وألقى في قلوب بني النضير الخوف الشديد، مما أضعف قوتهم، وسلبهم الأمن والطمأنينة، حتى نزلوا على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي الحديث (نُصرت بالرعب من مسيرة شهر) {يُخْربُونَ بُيُوتَهُم بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي المُؤْمِنِينَ} أي يهدمون بيوتهم بأيديهم من الداخل، وأيدي المؤمنين من الخارج قال المفسرون: كان بنو النضير قبل إِجلائهم عن ديارهم يخربون بيوتهم فيقلعون العُمد، وينقضون السقوف، وينقبون الجدران، لئلا يسكنها المؤمنون حسداً منهم وبغضاً، وكان المسلمون يخربون سائر الجوانب من ظاهرها ليقتحموا حصونهم {فَاعتَبِرُواْ يَا أُوْلِى الأّبصَارِ} أي فاتعظوا بما جرى عليهم يا ذوي العقول والألباب {وَلوْلا أَن كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاءَ} أي ولولا أن الله تعالى قضى عليهم بالخروج من أوطانهم مع الأهل والأولاد {لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا} أي لعذبهم في الدنيا بالسيف كما فعل بإِخوانهم بني قريظة {وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ} أ ي ولهم مع عذاب الدنيا جهنم المؤبد {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّواْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} أي ذلك الجلاء والعذاب بسبب أنهم خالفوا الله وعادوه وعصوا أمره، وارتكبوا ما ارتكبوا من جرائم، ونقضٍ للعهود في حق رسوله {وَمَن يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ العِقَاب} أي ومن يخالف أمر الله، ويعادِ دينه فاللهُ ينتقم منه لأن عذابه شديد، وعقابه أليم {وكذلك أخذ ربك إِذا أخذ القُرى وهي ظالمة إِنَّ أخذه أليمٌ شديد} .. ثم أخبر تعالى أن كل ما جرى من المؤمنين من قطع النخيل، وإِحراق بعض الأشجار المثمرة، فإِنما كان بأمر الله وإِرادته فقال {مَا قَطَعْتُم مِّن لِّيِنَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ} أي ما قطعتم أيها المؤمنون من شجرة نخيل، أو تركتموها كما كانت قائمة على سوقها فبأمر الله وإِرادته ورضاه {وَلِيخْزِىَ الفَاسِقِينَ} أي وليغيظ اليهود ويذلهم، بقطع أشجارهم ونخيلهم قال الرازي: المعنى إِنما أذن تعالى في ذلك حتى يزداد غيظ الكفار، وتتضاعف حسرتهم، بسبب نفاذ حكم أعدائهم في أعزِّ أموالهم قال المفسرون: لما حاصر رسول الله صلى الله عليه وسلم بني النضير، كان بعض الصحابة قد شرع يقطع ويحرق في نخيلهم، إِهانةً لهم وإِرعاباً لقلوبهم، فقالوا: ما هذا الإِفساد يا محمد ؟ إِنك كنت تنهى عن الفساد، فمابالك تأمر بقطع الأشجار؟ فأنزل الله هذه الآية الكريمة.





حكم الفيء في الإسلام



{وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكَابٍ وَلكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَن يَشَاءُ وَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرُُ(6) مَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُربَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وابْنِ الْسَّبِيلِ كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاءِ مِنكُمْ وَمَا آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُواْ وَاتَّقُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ العِقَابِ(7)لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَأَمْوَلِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ(8)والَّذِينَ تَبَوَّءو الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُواْ وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَو كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةُُ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ(9)والَّذِينَ جَاءو مِن بَعدِهِم يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ رَبَّنَا إِنَّكَ رَءوفُُ رَّحِيم(10)}.



سبب النزول :

نزول الآية (9) :

{والَّذِينَ تَبَوَّءو..} : أخرج ابن المنذر عن زيد الأصم : أن الأنصار قالوا : يا رسول الله، اقسم بيننا وبين إخواننا المهاجرين الأرض نصفين قال : لا، ولكن تكفونهم المؤنة وتقاسمونهم الثمرة، والأرض أرضكم، قالوا : رضينا، فأنزل الله : {والَّذِينَ تَبَوَّءو الدَّارَ} الآية.

وأخرج البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال: أتى رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، أصابني الْجَهْد (الجوع والفاقة) فأرسل إلى نسائه، فلم يجد عندهن شيئاً، فقال: ألا رجل يضيفه هذه الليلة يرحمه الله، فقام رجل من الأنصار، فقال : أنا يا رسول الله، فذهب إلى أهله، فقال لامرأته: ضيف رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا تدخريه شيئاً، قالت: والله ما عندي إلا قوت الصبية، قال: فإذا أراد الصبية العشاء فنوميهم، وتعالي فأطفئي السراج، ونطوي بطوننا الليلة، ففعلت، ثم غدا الرجل على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: لقد عجب الله، أو ضحك من فلان وفلانة، فأنزل الله تعالى : {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَو كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةُُ}.



{وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ} أي وما أعاد الله وردَّه غنيمة على رسوله من أموال يهود بني النضير {فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكَابٍ} أي لم تسيِّروا إِليه خيلكم ولا ركابكم، ولا تعبتم في تحصيله قال القرطبي: يقال: وجف البعير وجيفاً إِذا أسرع السير، وأوجفه صاحبه إِذا حمله على السير السريع، والركاب: ما يُركبُ من الإِبل، والمعنى: لم تقطعوا إِليها شُقةً، ولا لقيتم بها حرباً ولا مشقة، وإِنما كانت من المدينة على ميلين، فافتتحها رسول الله صلى الله عليه وسلم صلحاً، وأجلاهم عنها وأخذ أموالهم، فجعلها الله لرسوله صلى الله عليه وسلم خاصة يضعها حيث شاء {وَلكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَن يَشَاءُ} أي ولكنه تعالى من سنته أن ينصر رسله بقذف الرعب في قلوب أعدائه، من غير أن يقاسوا شدائد الحروب {وَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرُُ} أي هو تعالى قادر على كل شيءٍ، لا يُغالب ولا يُمانع ولا يعجزه شيء .. ثم بيَّن تعالى حكم الفيء عامةً - وهو ما يغنمه المسلمون بدون حرب - فقال { مَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَ رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى} أي ما جعله الله غنيمةً لرسوله بدون قتال من أموال الكفار قال ابن عباس: هي قريظة، والنضير، وفدك، وخيبر {فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ} أي فحكمها أنها لله تعالى يضعها حيث يشاء، ولرسوله يصرفها على نفسه وعلى مصالح المسلمين {وَلِذِي الْقُربَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكينِ} أي ولأقرباء الرسول من بني هاشم وعبد المطلب، ولليتامى الذين مات ءاباؤهم، وللمساكين ذوي الحاجة والفقر {وابْنِ الْسَّبِيلِ} أي وللغريب المنقطع في سفره قال ابن جزي : لا تعارض بين هذه الآية وبين آية الأنفال، فإِن آية الأنفال في حكم الغنيمة التي تؤخذ بالقتال وإِيجاف الخيل والركاب، فتلك يؤخذ منها الخمس ويقسم الباقي على الغانمين، وأما هذه ففي "حكم الفيء" وهو ما يؤخذ من الكفار من غير قتال فلا تعارض بينهما ولا نسخ، وقد قرر الفقهاء الفرق بين الغنيمة والفيء، وأنَّ حكمهما مختلف، فالغنيمة ما أُخذت بالقتال، والفيءُ ما أُخذ صلحاً، وانظر كيف ذكر هنا لفظ الفيء {ما أفاء الله على رسوله} وذكر في الأنفال لفظ الغنيمة {واعلموا أنما غنمتم من شيء} ‍‍ {كَيْ لا يَكُونَ دُولَةَ بَيْنَ الأَغْنِيَاءِ مِنكُمْ} أي لئلا ينتفع بهذا المال ويستأثر به الأغنياء دون الفقراء، مع شدة حاجة الفقراء للمال قال القرطبي: أي فعلنا ذلك كيلا يتقاسمه الرؤساء والأغنياء بينهم دون الفقراء والضعفاء، لأن أهل الجاهلية كانوا إِذا غنموا أخذ الرئيس ربعها لنفسه - وهو المرباعُ - ثم يصطفي منها أيضاً ما يشاء قال المفسرون: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قسم أموال بني النضير على المهاجرين فإِنهم كانوا حينئذٍ فقراء، ولم يُعط الأنصار منها شيئاً فإِنهم كانوا أغنياء، فقال بعض الأنصار: لنا سهمنا من هذا الفيء فأنزل الله هذه الآية {وَمَا آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُواْ} أي ما أمركم به الرسول صلى الله عليه وسلم فافعلوه ، وما نهاكم عنه فاجتنبوه، فإِنه إِنما يأمر بكل خير وصلاح، وينهى عن كل شرٍّ وفساد قال المفسرون : والآية وإِن نزلت في أموال الفيء، إلا أنها عامة في كل ما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم أو نهى عنه من واجبٍ، أو مندوب، أو مستحب، أو محرم، فيدخل فيها الفيء وغيره، عن ابن مسعود أنه قال: "لعن اللهُ الواشمات، والمستوشمات، والمتنمصات، والمتفلجات للحسن، المغيِّرات خلق الله" فبلغ ذلك امرأةً من بني أسد يُقال لها "أم يعقوب" - وكانت تقرأ القرآن - فأتته فقالت: ما حديثٌ بلغني عنك أنك قلت كذا وكذا!! ‍‍ وذكرته له، فقال ابن مسعود: وما لي لا ألعنُ من لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في كتاب الله تعالى ؟ فقالت المرأةُ : لقد قرأت ما بين لوحي المصحف فما وجدته! فقال: إِن كنتِ قرأتيه لقد وجدتيه، أما قرأتِ قول الله عز وجل {وَمَا آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُواْ} ؟ {وَاتَّقُواْ اللَّهَ} أي خافوا ربكم بامتثال أوامره واجتناب نواهيه {إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ العِقَابِ} أي فإِن عقابه أليم وعذابه شديد، لمن عصاه وخالف ما أمره به {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَأَمْوَلِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً} هذا متعلقٌ بما سبق من حكم الفيء كأنه يقول : الفيءُ والغنائم لهؤلاء الفقراء المهاجرين الذين ألجأهم كفار مكة إِلى الهجرة من أوطانهم، فتركوا الديار والأموال، ابتغاء مرضاة الله ورضوانه {وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} أي قاصدين بالهجرة إِعلاء كلمة الله ونصرة دينه {أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} أي هؤلاء الموصوفون بالصفات الحميدة هم الصادقون في إِيمانهم قال قتادة : هؤلاء المهاجرون الذين تركوا الديار والأموال، والأهلين والأوطان، حباً لله ورسوله، حتى إِن الرجل منهم كان يعصب الحجر على بطنه ليُقيم به صُلبه من الجوع .. ثم مدح تعالى الأنصار وبينَّ فضلهم وشرفهم فقال {والَّذِينَ تَبَوَّءو الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ} أي والذين اتخذوا المدينة منزلاً وسكناً وآمنوا قبل كثيرٍ من المهاجرين وهم الأنصار قال القرطبي: أي تبوءوا الدار من قبل المهاجرين، واعتقدوا الإِيمان وأخلصوه، والتبوء : التمكن والاستقرار، وليس يريد أن الأنصار آمنوا قبل المهاجرين، بل أراد آمنوا قبل هجرة النبي صلى الله عليه وسلم إِليهم {يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ} أي يحبون إِخوانهم المهاجرين ويواسونهم بأموالهم قال الخازن: وذلك أنهم أنزلوا المهاجرين في منازلهم، وأشركوهم في أموالهم {وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُواْ} أي ولا يجد الأنصار حزازةً وغيظاً وحسداً مما أعطي المهاجرون من الغنيمة دونهم قال المفسرون: إِن رسول الله صلى الله عليه وسلم قسم أموال بني النضير بين المهاجرين ولم يعط الأنصار منها شيئاً إِلا ثلاثةً منهم، فطابت أنفس الأنصار بتلك القسمة {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَو كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةُُ} أي يفضلون غيرهم بالمال على أنفسهم ولو كانوا في غاية الحاجة والفاقة إِليه، فإِيثارهم ليس عن غنى عن المال، ولكنه عن حاجة وفقر، وذلك غاية الإِيثار {وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} أي ومن حماه الله وسلم من البخل فقد أفلح ونجح، والشُحُّ هو البخل الشديد مع الجشع والطمع، وهو غريزة في النفس ولذلك أضيف إِليها، قال ابن عمر: ليس الشح أن يمنع الرجل ماله، إِنما الشحُّ أن تطمع عينه فيما ليس له وفي الحديث (واتقوا الشُحَّ فإِنه أهلك من كان قبلكم، حملهم على أن سفكوا دماءهم، واستحلوا محارمهم) {والَّذِينَ جَاءو مِن بَعدِهِم} هذا هو الصنف الثالث من المؤمنين المستحقين للإِحسان والفضل، وهم التابعون لهم بإِحسانٍ إِلى يوم القيامة {يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ} أي يدعون لهم قائلين : يا ربنا اغفر لنا ولإِخواننا المؤمنين الذين سبقونا بالإِيمان قال أبو السعود: وصفوهم بالسبق بالإِيمان اعترافاً بفضلهم، لأن أخوة الدين عندهم أعزُّ وأشرف من النسب {وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ} أي ولا تجعل في قلوبنا بغضاً وحسداً لأحدٍ من المؤمنين {رَبَّنَا إِنَّكَ رَءوفُُ رَّحِيم} أي مبالغٌ في الرأفة والرحمة فاستجب دعاءنا، قال ابن كثير: وما أحسن ما استنبط الإِمام مالك من هذه الآية الكريمة أن الرافضي الذي يسب الصحابة ليس له في مال الغنيمة شيء لعدم اتصافه بأوصاف المؤمنين، وقال شيخ زاده: بيَّن تعالى أن من شأن من جاء من بعد المهاجرين والأنصار أن يذكر السابقين بالرحمة والدعاء، فمن لم يكن كذلك بل ذكرهم بسوء فقد كان خارجاً عن جملة أقسام المؤمنين بمقتضى هذه الآيات، وقد روي عن الشعبي أنه قال: تفاضلت اليهود والنصارى على الرافضة بخصلة، سئلت اليهود : من خير أهل ملتكم ؟ فقالوا أصحاب موسى وسئلت النصارى فقالوا : أصحاب عيسى، وسئلت الرافضة من شرُّ أهل ملتكم ؟ فقالوا : أصحابُ محمد صلى الله عليه وسلم أُمروا بالاستغفار لهم فسبُّوهم، فالسيف عليهم مسلول إِلى يوم القيامة .. اللهم ارزقنا محبة أصحاب نبيك الكريم.





تواطؤ المنافقين واليهود



{ألَم تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لإِخوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن أَهلِ الكِتَابِ لَئِن أُخرِجتُم لَنَخرُجَنَّ مَعَكُم وَلا نُطِيعُ فِيكُم أَحَداً أَبدَاً وَإِن قُوتِلتُم لَنَنصُرَنَّكُم وَ اللَّهُ يَشهَدُ إِنَّهُم لَكَاذِبُونَ(11)لَئِن أُخرِجُوا لا يَخرُجُونَ مَعَهُم وَلَئِن قُوتِلُوا لا يَنصُرُونَهُم وَلَئِن نَّصَروهُم لَيُوَلُّنَّ الأَدبَارَ ثُمَّ لا يُنصَرُونَ(12)لأَنتُم أَشَدُّ رَهبَةً في صُدُورِهِم مِّنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُم قَومُُ لا يَفقَهُونَ(13)لا يُقَاتِلُونَكُم جَمِيعاً إِلا فِي قُرىً محَصَّنَةٍ أَو مِن وَرَاءِ جُدُرِ بَأسُهُم بَينَهُم شَدِيدُُ تَحسَبُهُم جَمِيعاً وَقُلُوبُهُم شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُم قَومُُ لا يَعقِلُون(14)كَمَثَلِ الَّذِينَ مِن قَبلِهِم قَرِيباً ذَاقُوا وَبَالَ أَمرِهِم وَلَهُم عَذَابُ أَلِيمُُ(15)كَمَثَلِ الشَّيطَانِ إِذ قَالَ لِلإِنسَانِ اكفُر فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَريءُُ مِّنكَ إِنِّي أَخافُ اللَّهَ رَبَّ العَالَمِينَ(16)فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدَينِ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاء الظَّالِمِينَ(17)}.





سبب النزول :

نزول الآية (11) :

{ألَم تَرَ..} : أخرج ابن أبي حاتم عن السُّدِّي قال : أسلم ناس من أهل قريظة، وكان فيهم منافقون، وكانوا يقولون لأهل النضير : {لَئِن أُخرِجتُم لَنَخرُجَنَّ مَعَكُم}، فنزلت هذه الآية فيهم : {ألَم تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لإِخوَانِهِمُ }.



{ألَم تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا} تعجيبٌ من الله تعالى لرسوله من حال المنافقين أي ألا تعجب يا محمد من شأن هؤلاء المنافقين الذين أظهروا خلاف ما أضمروا ؟ {يَقُولُونَ لإِخوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن أَهلِ الكِتَابِ} أي يقولون ليهود بني قريظة والنضير الذين كفروا برسالة محمد صلى الله عليه وسلم {لَئِن أُخرِجتُم لَنَخرُجَنَّ مَعَكُم} أي لئن أخرجتم من المدينة لنخرجنَّ معكم منها قال ابن جزي: نزلت في عبد الله بن أُبي بن سلول وقوم من المنافقين، بعثوا إِلى بني النضير وقالوا لهم : اثبتوا في حصونكم. فإِنا معكم كيف ما تقلبت حالكم، وإِنما جعل المنافقين إِخوانهم لأنهم كفار مثلهم {وَلا نُطِيعُ فِيكُم أَحَداً أَبدَاً} أي ولا نطيع أمر محمد في قتالكم، ولا نسمع من أحدٍ إِذا أمرنا بخذلانكم {وَإِن قُوتِلتُم لَنَنصُرَنَّكُم} أي ولئن قاتلكم أحد لنعاوننكم على عدوكم ونكون بجانبكم {وَ اللَّهُ يَشهَدُ إِنَّهُم لَكَاذِبُونَ} أي والله يشهد إِن المنافقين لكاذبون فيما قالوه ووعدوهم به .. ثم أخبر الله عن حال المنافقين بالتفصيل فقال {لَئِن أُخرِجُوا لا يَخرُجُونَ مَعَهُم} أي لئن أخرج اليهود لا يخرج المنافقون معهم {وَلَئِن قُوتِلوا لا يَنصُرُونَهُم} أي ولئن قوتل اليهود لا ينصرهم المنافقون ولا يقاتلون معهم قال القرطبي: وفي هذا دليل على صحة نبوَّة محمد صلى الله عليه وسلم من جهة أمر الغيب، لأنه أُخرجوا فلم يخرجوا معهم، وقوتلوا فلم ينصروهم كما أخبر عنه القرآن {وَلَئِن نَّصَروهُم لَيُوَلُّنَّ الأَدبَارَ ثُمَّ لا يُنصَرُونَ} أي ولئن جاءوا لنصرتهم وقاتلوا معهم - على سبيل الفرض والتقدير - فسوف ينهزمون، ثم لا ينفعهم نصرة المنافقين قال الإِمام الفخر الرازي: أخبر تعالى أن هؤلاء اليهود لئن أخرجوا فإِن المنافقين لا يخرجون معهم - وقد كان الأمر كذلك، فإِن بني النضير لما أُخرجوا لم يخرج معهم المنافقون وقُوتلوا كذلك فما نصروهم - وأما قوله تعالى {وَلَئِن نَّصَروهُم} فهذا على سبيل الفرض والتقدير أي بتقدير أنهم أرادوا نصرتهم لا بدَّ وأن يتركوا تلك النصرة وينهزموا {لأَنتُم أَشَدُّ رَهبَةً في صُدُورِهِم مِّنَ اللَّهِ} أي لأنتم يا معشر المسلمين أشدُّ خوفاً وخشيةً في قلوب المنافقين من الله، فإِنهم يرهبون ويخافون منكم أشدَّ من رهبتهم من الله {ذَلِكَ بِأَنَّهُم قَومُُ لا يَفقَهُونَ} أي ذلك الخوف منكم بسبب أنهم لا يعلمون عظمة الله تعالى حتى يخشوه حقَّ خشيته قال القرطبي: أي لا يفقهون قدر عظمة الله وقدرته .. ثم أخبر تعالى عن اليهود والمنافقين بأنهم جبناء من شدة الهلع، وأنهم لا يقدرون على قتال المسلمين إِلا إِذا كانوا متحصِّنين في قلاعهم وحصونهم فقال {لا يُقَاتِلُونَكُم جَمِيعاً إِلا فِي قُرىً مَّحَصَّنَةٍ} أي لا يقدرون على مقاتلتكم مجتمعين إِلا إِذا كانوا في قرى محصَّنة بالأسوار والخنادق {أَو مِن وَرَاءِ جُدُرِ} أي أو يكونوا من وراء الحيطان ليتستروا بها، لفرط جزعهم وهلعهم {بَأسُهُم بَينَهُم شَدِيدُُ} أي عداوتهم فيما بينهم شديدة {تَحسَبُهُم جَمِيعاً وَقُلُوبُهُم شَتَّى} أي تظنهم مجتمعين على أمرٍ ورأي - في الصورة - ذوي ألفةٍ واتحاد، وهم مختلفون غاية الاختلاف لأن آراءهم مختلفة، وقلوبهم متفرقة قال قتادة: أهل الباطل مختلفةٌ آراؤهم، مختلفة أهواؤهم، مختلفةُ شهادتهم، وهم مجتمعون في عداوة أهل الحق {ذَلِكَ بِأَنَّهُم قَومُُ لا يَعقِلُون} أي ذلك التفرق والتشتت بسبب أنهم لا عقل لهم يعقلون به أمر الله قال أبو حيّان: وموجب ذلك التفرق والشتات هو انتفاء عقولهم، فهم كالبهائم لا تتفق على حالة {كَمَثَلِ الَّذِينَ مِن قَبلِهِم قَرِيباً} أي صفةُ بني النضير فيما وقع لهم من الجلاء والذل، كصفةِ كفار مكة فيما وقع لهم يوم بدر من الهزيمة والأسر قال البيضاوي: أي مثل اليهود كمثل أهل بدر، أو المهلكين من الأمم الماضية في زمان قريب {ذَاقُوا وَبَالَ أَمرِهِم} أي ذاقوا سوء عاقبة إِجرامهم في الدنيا {وَلَهُم عَذَابُ أَلِيمُُ} أي ولهم عذاب شديد موجعٌ في الآخرة {كَمَثَلِ الشَّيطَانِ إِذ قَالَ لِلإِنسَانِ اكفُر} أي مثل المنافقين في إِغراء اليهود على القتال، كمثل الشيطان الذي أغرى الإِنسان بالكفر ثم تخلى عنه وخذله {فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَريءُُ مِّنكَ} أي فلما كفر الإِنسان تبرأ منه الشيطان وقال {إِنِّي أَخافُ اللَّهَ رَبَّ العَالَمِينَ} أي أخاف عذاب الله وانتقامه إِن كفرتُ به قال ابن جزي: هذا مثلٌ، مثَّل اللهُ للمنافقين - الذين أغووا يهود بني النضير ثم خذلوهم بعد ذلك - بالشيطان الذي يُغوي ابن آدم ثم يتبرأ منه، والمراد بالشيطان والإِنسان هنا الجنس، وقولُ الشيطان {إِنِّي أَخافُ اللَّهَ} كذبٌ منه ورياءٌ لأنه لو خاف الله لامتثل أمره وما عصاه {فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدَينِ فِيهَا} أي فكان عاقبة المنافقين واليهود، مثل عاقبة الشيطان والإِنسان، حيث صارا إِلى النار المؤبدة {وَذَلِكَ جَزَاء الظَّالِمِينَ} أي وذلك عقاب كل ظالم فاجر، منتهكٍ لحرمات الله والدين ..

وعظ المؤمنين وتحذيرهم من الفسق



{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقَواْ اللَّهَ وَلتَنظُر نَفسُُ مَّا قَدَّمَت لِغَدٍ واتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرُ بِمَا تَعمَلُونَ(18)ولا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُم أَنفُسَهُم أُوْلَئِكَ هُمُ الفَاسِقُونَ(19)لا يَستَوِي أَصحَابُ النَّارِ وَأصحَابُ الجَنَّةِ أَصحَابُ الجَنَّةِ هُمُ الفَائِزُونَ(20)}.



ولمَّا ذكر صفات كلٍ من المنافقين واليهود وضرب لهم الأمثال، وعظ المؤمنين بموعظةٍ حسنة، تحذيراً من أن يكونوا مثل من تقدم ذكرهم فقال {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقَواْ اللَّهَ} أي خافوا الله واحذروا عقابه، بامتثال أوامره، واجتناب نواهيه {وَلتَنظُر نَفسُُ مَّا قَدَّمَت لِغَدٍ} أي ولتنظر كلُّ نفسٍ ما قدَّمت من الأعمال الصالحة ليوم القيامة قال ابن كثير: انظروا ماذا ادخرتم لأنفسكم من الأعمال الصالحة ليوم معادكم وعرضكم على ربكم، وسُمي يوم القيامة غداً لقرب مجيئه {وما أمرُ الساعة إِلا كلمح البصر} والتنكير فيه للتفخيم والتهويل {واتَّقُوا اللَّهَ} كرَّره للتأكيد ولبيان منزلة التقوى التي هي وصية الله تعالى للأولين والآخرين {ولقد وصيَّنا الذين أُوتوا الكتاب من قبلكم وإِياكم أنْ اتقوا الله} {إِنَّ اللَّهَ خَبِيرُ بِمَا تَعمَلُونَ} أي مطلع على أعمالكم فيجازيكم عليها {ولا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُم أَنفُسَهُم} أي ولا تكونوا يا معشر المؤمنين كالذين تركوا ذكر الله ومراقبته وطاعته، فأنساهم حقوق أنفسهم والنظر لها بما يصلحها قال أبو حيان : وهذا من المجازاة على الذنب بالذنب، تركوا عبادة الله وامتثال أوامره، فعوقبوا على ذلك بأن أنساهم حظَّ أنفسهم، حتى لم يقدموا له خيراً ينفعها {أُوْلَئِكَ هُمُ الفَاسِقُونَ} أي أولئك هم الفجرة الخارجون عن طاعة الله {لا يَستَوِي أَصحَابُ النَّارِ وَأصحَابُ الجَنَّةِ} أي لا يتساوى يوم القيامة الأشقياء والسعداء، أهل النار وأهل الجنة في الفضل والرتبة {أَصحَابُ الجَنَّةِ هُمُ الفَائِزُونَ} أي أصحاب الجنة هم الفائزون بالسعادة الأبدية في دار النعيم،وذلك هو الفوز العظيم ..



روعة القرآن ومنزَّلة ذي الأسماء الحسنى



{لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْءانَ عَلَى جَبَلٍٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُّتَصَدِّعاً مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ(21)هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَ الشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَانُ الرَّحِيمُ(22)هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ(23) هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِىءُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الأَسمَاءُ الْحًسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاواتِ وَالأَرضِ وهُوَ الْعَزيزُ الحَكِمُ(24)}.



ثم ذكر تعالى روعة القرآن، وتأثيره على الصمِّ الراسيات من الجبال فقال {لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْءانَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُّتَصَدِّعاً مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} أي لو خلقنا في الجبل عقلاً وتمييزاً كما خلقنا للإِنسان، وأنزلنا عليه هذا القرآن، بوعده ووعيده، لخشع وخضع وتشقق، خوفاً من الله تعالى، ومهابةً له وهذا تصويرٌ لعظمة قدر القرآن، وقوة تأثيره، وأنه بحيث لو خوطب به جبلٌ - على شدته وصلابته - لرأيته ذليلاً متصدعاً من خشية الله، والمراد منه توبيخ الإِنسان بأنه لا يتخشع عند تلاوة القرآن، بل يعرض عما فيه من عجائب وعظائم، فهذه الآية في بيان عظمة القرآن، ودناءة حال الإِنسان وقال أبو حيّان: والغرضُ توبيخ الإِنسان على قسوة قلبه، وعدم تأثره بهذا الذي لو أُنزل على الجبل لتخشَّع وتصدَّع، وإِذا كان الجبل على عظمته وتصلبه يعرض له الخشوع والتصدع، فابن آدم كان أولى بذلك، لكنه على حقارته وضعفه لا يتأثر {وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} أي وتلك الأمثال نفصّلها ونوضحها للناس لعلهم يتفكرون في آثار قدرة الله ووحدانيته فيؤمنون .. ثم لما وصف القرآن بالرفعة والعظمة، أتبعه بشرح عظمة الله وجلاله فقال {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلا هُوَ} أي هو جلَّ وعلا الإِله المعبود بحقٍ لا إِله ولا رب سواه {عَالِمُ الْغَيْبِ وَ الشَّهَادَةِ} أي عالم السر والعلن، يعلم ما غاب عن العباد مما لم يبصروه، وما شاهدوه وعلموه {هُوَ الرَّحْمَانُ الرَّحِيمُ} أي هو تعالى ذو الرحمة الواسعة في الدنيا والآخرة {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلا هُوَ} كرر اللفظ اعتناءً بأمر التوحيد أي لا معبود ولا رب سواه {الْمَلِكُ} أي المالك لجميع المخلوقات، المتصرف في خلقه بالأمر والنهي، والإِيجاد والإِعدام {الْقُدُّوسُ} أي المنزَّه عن القبائح وصفات الحوادث قال ابن جزي: القُدُّوسُ مشتقٌ من التقديس وهو التنزه عن صفات المخلوقين، وعن كل نقص وعيب، والصيغة للمبالغة كالسبُّوح، وقد ورد أن الملائكة تقول في تسبيحها: "سبُّوح قُدُّوس، ربُّ الملائكة والروح" {السَّلامُ} أي الذي سلم الخلق من عقابه، وأمنوا من جوره {ولا يظلم ربك أحداً} وقال البيضاوي: أي ذو السلامة من كل نقص وآفة، وهو مصدر وصف به للمبالغة {الْمُؤْمِنُ} أي المصدِّق لرسله بإِظهار المعجزات على أيديهم {الْمُهَيْمِنُ} أي الرقيبُ الحافظ لكل شيء وقال ابن عباس: الشهيد على عباده بأعمالهم الذي لا يغيب عنه شيء {الْعَزِيزُ} أي القادر القاهر الذي لا يُغلب ولا يناله ذلك {الْجَبَّارُ} أي القهار العالي الجناب الذي يذل له من دونه قال ابن عباس : هو العظيم الذي إِذا أراد أمراً فعله، وجبروتُ الله عظمته {الْمُتَكَبِّرُ} أي الذي له الكبرياء حقاً ولا تليق إِلا به وفي الحديث القدسي (العظمة إِزاري، والكبرياء ردائي، فمن نازعني فيهما قصمته ولا أبالي) قال الإِمام الفخر الرازي: واعلم أن المتكبر في صفة الناس صفة ذم، لأن المتكبر هو الذي يُظهر من نفسه الكِبْر، وذلك نقصٌ في حق الخلق، لأنه ليس له كبر ولا علو، بل ليس له إلا الذلة والمسكنة، فإِذا أظهر العلو كان كاذباً فكان مذموماً في حق الناس، وأما الحقُّ سبحانه فله جميع أنواع العلو والكبرياء، فإِذا أظهره فقد أرشد العباد إلى تعريف جلاله وعظمته وعلوه، فكان ذلك في غاية المدح في حقه جل وعلا، ولهذا قال في آخر الآية {سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ} أي تنزَّه الله وتقدَّس في جلاله وعظمته، عمَّا يلحقونه به من الشركاء والأنداد {هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِىءُ} أي هو جل وعلا الإِله الخالق لجميع الأشياء، الموجد لها من العدم، المنشئ لها بطريق الاختراع {الْمُصَوِّرُ} أي المبدع للأشكال على حسب إرادته {هو الذي يصوّركم في الأرحام كيف يشاء} قال الخازن: أي الذي يخلق صورة الخلق على ما يريده {لَهُ الأَسمَاءُ الْحًسْنَى} أي له الأسماء الرفيعة الدالة على محاسن المعاني {يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاواتِ وَالأَرضِ} أي ينزهه تعالى عن صفات العجز والنقص جميع ما في الكون بلسان الحال أو المقال قال الصاوي: ختم السورة بالتسبيح كما ابتدأها به إشارة إلى أنها المقصود الأعظم، والمبدأ والنهاية، وأن غاية المعرفة بالله تنزيه عظمته عما صورته العقول {وهُوَ الْعَزيزُ الحَكِمُ} أي العزيز في ملكه، الحكيم في خلقه وصنعه.

yacine414
2011-04-01, 20:31
سورة الممتحنة



النهي عن موالاة الكفار

التأسي بإبراهيم عليه السلام

العلاقات بين المسلمين وغيرهم

حكم المهاجرات من دار الكفر إلى دار الإسلام

مبايعة النبي صلى الله عليه وسلم النساء المهاجرات



بَين يَدَيْ السُّورَة



* هذه السورة الكريمة من السور المدنية، التي تهتم بجانب التشريع، ومحورُ السورة يدور حول فكرة "الحبّ والبغض في الله" الذي هو أوثق عُرى الإِيمان، وقد نزل صدر السورة عتاباً لحاطب بن أبي بلتعة حين كتب كتاباً لأهل مكة يخبرهم أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد تجهز لغزوهم، كما ذكر تعالى حكم موالاة أعداء الله، وضرب الأمثال في إِبراهيم والمؤمنين في تبرئهم من المشركين، وبيَّن حكم الذين لم يقاتلوا المسلمين، وحكم المؤمنات المهاجرات وضرورة امتحانهن، وغير ذلك من الأحكام التشريعية.



* ابتدأت السورة الكريمة بالتحذير من موالاة أعداء الله، الذين آذوا المؤمنين حتى اضطروهم إِلى الهجرة وترك الديار والأوطان {يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء ..} الآيات.



* ثم بينت السورة أنَّ القرابة والنسب والصداقة في هذه الحياة لن تنفع الإِنسان أبداً يوم القيامة، حيث لا ينفع الإِنسان إِلا الإِيمان والعمل الصالح {لن تنفعكم أرحامكم ولا أولادكم يوم القيامة ..} الآيات.



* ثم ضربت المثل في إِيمان إبراهيم عليه السلام وأتباعه المؤمنين، حين تبرؤوا من قومهم المشركين، ليكون ذلك حافزاً لكل مؤمن على الاقتداء بأبي الأنبياء إِبراهيم خليل الرحمن {قد كانت لكم أسوة حسنةٌ في إبراهيم والذين معه إِذ قالوا لقومهم إنا برءاء منكم ومما تعبدون من دون الله، كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبداً ..} الآيات.



* وتحدثت السورة عن حكم الذين لم يعادوا المؤمنين ولم يقاتلوهم {لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم ..} وحكم الذين قاتلوا المؤمنين وآذوهم {إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين ..} الآيات.



*وبينت السورة وجوب امتحان المؤمنات عند الهجرة، وعدم ردهنَّ إِلى الكفار إِذا ثبت إِيمانهن، وقررت عدم الاعتداد بعصمة الكافر، ثم حكم مبايعة النساء للرسول صلى الله عليه وسلم وشروط هذه البيعة {يا أيها الذين آمنوا إِذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن .. } الآيات وقوله {يا أيها النبي إذا جاءك المؤمنات يبايعنك على ألا يشركن بالله شيئاً .. } الآيات.



* وختمت السورة بتحذير المؤمنين من موالاة أعداء الله الكافرين {يا أيها الذين آمنوا لا تتولوا قوماً غضب الله عليهم، قد يئسوا من الآخرة كما يئس الكفار من أصحاب القبور} وهكذا ختمت السورة بمثل ما بدأت به من التحذير من موالاة أعداء الله، ليتناسق الكلام في البدء والختام.





النهي عن موالاة الكفار



{يا أيها الَّذين آمنوا لا تتَّخذوا عدُوي وعدوَّكم أولياء تُلقون إِليهم بالمودَّة وقد كفروا بما جاءكم من الحقِّ يُخرجون الرَّسول وإِياكم أنْ تُؤمنوا بالله ربكم إن كنتم خرجتم جهاداً في سبيلي وابتغاء مرضاتي تُسرُّون إِليهم بالمودَّة وأنا أعلم بما أخفيتم وما أعلنتم ومن يفعله منكم فقد ضلَّ سواء السبيلَ (1)إن يثقفوكم يكونوا لكم أعداءً ويبسطوا إِليكم أيديهم وألسنتهم بالسوء وودُّوا لو تكفرون(2) لن تنفعكم أرحامكم ولا أولادكم يومَ القيامة يفْصل بينكم واللهُ بما تعملون بصير(3)}



سبب النزول :

نزول الآية (1) :

{يا أيها الذين آمنوا ..} : أخرج الشيخان وبقية الأئمة عن علي رضي الله عنه قال : بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا والزبير والمقداد بن الأسود، فقال : انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ، فإن بها ظعينة، معها كتاب، فخذوه منها، فأتوني به، فخرجوا حتى أتينا الروضة، فإذا نحن بالظعينة، فقلنا: أخرجي الكتاب، فقالت : ما معي من كتاب، فقلنا : لتخرجن الكتاب، أو لنلقين الثياب، فأخرجته من عِقَاصها، فأتينا به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا هو من حاطب بن أبي بَلْتَعَة إلى ناس من المشركين بمكة، يخبرهم ببعض أمر النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: ما هذا يا حاطب ؟ قال : لا تعجل علي يا رسول الله، إني كنت امرءاً ملصقاً في قريش، ولم أكن من أنفسها، وكان من معك من المهاجرين لهم قرابات، يحمون بها أهليهم وأموالهم بمكة، فأحببت إذ فاتني ذلك من نسب فيهم أن أتخذ يداً يحمون بها قرابتي، وما فعلت ذلك كفراً ولا ارتداداً عن ديني، ولا رضاً بالكفر، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: صدق.

وفيه أنزلت هذه السورة : {يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء، تلقون إليها بالمودة} الآية.

وتفصيل القصة والكتاب : "أن مولاة أبي عمر بن صيفي بن هاشم يقال لها : سارَّة، أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة، وهو متجهز لفتح مكة سنة ثمان من الهجرة، فعرضت حاجتها، فحث بني المطلب على الإحسان إليها، فأتاها حاطب بن أبي بَلْتعة، وأعطاها عشرة دنانير، وكساها بُرْداً، واستحملها كتاباً إلى أهل مكة.



{يا أيها الَّذين آمنوا لا تتَّخذوا عدُوي وعدوَّكم أولياء} أي يا معشر المؤمنين، يا من صدقتم بالله ورسوله، لا تتخذوا الكفار الذين هم أعدائي وأعداؤكم أصدقاء وأحباء، فإِنَّ من علامة الإِيمان بغض أعداء الله لا مودتهم وصداقتهم قال ابن جزي: نزلت عتاباً لحاطب وزجراً عن أن يفعل أحد مثل فعله، وفيها مع ذلك تشريفٌ له لأن الله شهد له بالإِيمان في قوله {يا أيها الذين آمنوا} {تُلقون إِليهم بالمودَّة} أي تحبونهم وتودونهم وتصادقونهم مع أنهم أعداء ألداء لكم قال القرطبي: أي تخبرونهم بسرائر المسلمين وتنصحون لهم {وقد كفروا بما جاءكم من الحقِّ} أي والحال أنهم كافرون بدينكم وبقرآنكم الذي أنزله الله عليكم بالحق الواضح {يُخرجون الرَّسول وإِياكم} أي يخرجون محمداً من مكة ظلماً وعدواناً كما يخرجون أيضاً منها المؤمنين قال أبو حيّان: وقدَّم الرسول تشريفاً له ولأنه الأصلُ للمؤمنين، ومعنى إِخراجهم أنهم ضيقوا عليهم وآذوهم حتى خرجوا منها مهاجرين إِلى المدينة {أنْ تُؤمنوا بالله ربكم} أي من أجل أنكم آمنتم بالله الواحد الأحد كقوله {وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد} {إن كنتم خرجتم جهاداً في سبيلي وابتغاء مرضاتي} شرطٌ حذف جوابه أي إن كنتم خرجتم مجاهدين في سبيل الله طلباً لرضوانه فلا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء قال الألوسي: وجواب الشرط محذوف دلَّ عليه ما تقدم كأنه قيل: لا تتخذوا أعدائي إِن كنتم أوليائي {تُسرُّون إِليهم بالمودَّة وأنا أعلم بما أخفيتم وما أعلنتم} أي تسرون إِليهم بالنصيحة وأنا العالم بسريرتكم وعلانيتكم، لا يخفى عليَّ شيءٌ من أحوالكم ؟ والغرض منه التوبيخُ والعتاب {ومن يفعله منكم فقد ضلَّ سواء السبيلَ} أي ومن يصادق أعداء الله، ويفش أسرار الرسول، فقد حاد عن طريق الحق والصواب .. ثم أخبر تعالى المؤمنين بعداوة الكفار الشديدة لهم، المستحكمة في قلوبهم فقال {إن يثقفوكم يكونوا لكم أعداءً} أي إن يظفروا بكم ويتمكنوا منكم، يُظهروا ما في قلوبهم من العداوة الشديدة لكم {ويبسطوا إِليكم أيديهم وألسنتهم بالسوء} أي يمدوا إِليكم أيديهم بالضرب والقتل، وألسنتهم بالشتم والسبِّ {وودُّوا لو تكفرون} أي وقد تمنوا أن تكفروا لتكونوا مثلهم قال الزمخشري: وإِنما أورده بذكر الماضي {وودوا} بعد أن ذكر جواب الشرط بلفظ المضارع {لو تكفرون} لأنهم أرادوا كفرهم قبل كل شيء كقوله تعالى {ودُّوا لو تكفرون كما كفروا فتكونون سواءً} {لن تنفعكم أرحامكم ولا أولادكم} أي لن تفيدكم قراباتكم ولا أولادكم الذين توالون الكفار من أجلهم يوم القيامة شيئاً، فلن يجلبوا لكم نفعاً، ولن يدفعوا عنكم ضُرّاً قال الصاوي : هذا تخطئةٌ لحاطب في رأيه كأنه قال : لا تحملكم قراباتكم وأولادكم الذين بمكة، على خيانة رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين، ونقل أخبارهم وموالاة أعدائهم، فإِنه لا تنفعكم الأرحام ولا الأولاد الذين عصيتم الله من أجلهم {يومَ القيامة يفْصل بينكم} أي في ذلك اليوم العصيب، يحكم الله بين المؤمنين والكافرين، فيدخل المؤمنين جنات النعيم، ويدخل المجرمين دركات الجحيم {واللهُ بما تعملون بصير} أي مطَّلع على جميع أعمالكم فيجازيكم عليها.





التأسي بإبراهيم عليه السلام

{قد كانت لكم أُسوةٌ حسنةٌ في إِبراهيم والذين معه إذْ قالوا لقومهم إِنَّا بُرَءاء منكم وممَّا تعبدون من دونِ الله كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبداً حتى تؤمنوا بالله وحده إلا قول إبراهيم لأبيه لأستغفرنَّ لك وما أملِكُ لك من الله من شيءٍ ربنا عليك توكلنا وإِليك أنبنا وإِليك المصير(4)ربَّنا لا تجعلنا فتنةً للذين كفروا واغفر لنا ربنا إِنك أنتَ العزيزُ الحكيم(5) لقد كان لكم فيهم أُسوةٌ حسنةٌ لمن كان يرجو اللهَ واليومَ الآخر ومن يتولَّ فإِنَّ اللهَ هو الغنيُ الحميدُ(6)عسى اللهُ أنْ يجعل بينكم وبين الذين عاديتم منهم مودَّة والله قديرٌ واللهُ غفورٌ رحيم(7)}.



سبب النزول :

نزول الآية (7) :

{عسى الله} : قال المفسرون : يقول الله تعالى للمؤمنين : لقد كان لكم في إبراهيم ومن معه من الأنبياء والأولياء اقتداء بهم في معاداة ذوي قراباتهم من المشركين، فلما نزلت هذه الآية عادى المؤمنون أقرباءهم المشركين في الله، وأظهروا لهم العداوة والبراءة، وعلم الله تعالى شدة وجد المؤمنين بذلك، فأنزل الله تعالى : {عسى الله أن يجعل بينكم وبين الذي عاديتم منهم مودة} ثم فعل ذلك بأن أسلم كثير منهم، وصاروا لهم أولياء وإخواناً، وخالطوهم وناكحوهم، وتزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم أم حبيبة بنت أبي سفيان بن حرب.



{وقد كانت لكم أُسوةٌ حسنةٌ في إِبراهيم والذين معه} أي قد كان لكم يا معشر المؤمنين قُدوة حسنةٌ في الخليل إِبراهيم ومن معه من المؤمنين {إذْ قالوا لقومهم إِنَّا بُرءاء منكموممَّا تعبدون من دونِ الله} أي حين قالوا للكفار إننا متبرؤون منكم ومن الأصنام التي تعبدونها من دون الله {كفرنا بكم} أي كفرنا بدينكم وطريقتكم {وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبداً} أي وظهرت بيننا وبينكم العداوةُ والبغضاء إِلى الأبد ما دمتم على هذه الحالة {حتى تؤمنوا بالله وحده} أي إِلى أن توحدوا الله فتعبدوه وحده، وتتركوا ما أنتم عليه من الشرك والأوثان قال المفسرون: أمر الله المؤمنين أن يقتدوا بإِبراهيم الخليل عليه السلام وبالذين معه في عداوة المشركين والتبرؤ منهم، لأن الإِيمان يقتضي مقاطعة أعداء الله وبغضهم {إلا قول إبراهيم لأبيه لأستغفرنَّ لك} أي إلا في استغفار إبراهيم لأبيه فلا تقتدوا به، فإِنه إنما استغفر لأبيه المشرك رجاء إسلامه {فلما تبيَّن له أنه عدوٌ لله تبرأ منه} {وما أملِكُ لك من الله من شيءٍ} هذا من تتمة كلام إبراهيم لأبيه أي ما أدفع عنك من عذاب الله شيئاً إن أشركت به، ولا أملك لك شيئاً غير الاستغفار {ربَّنا عليكَ توكلنا} أي عليك اعتمدنا في جميع أمورنا {وإِليك أنبنا} أي وإِليك رجعنا وتبنا {وإِليك المصير} أي وإِليك المرجع والمعاد في الدار الآخرة قال المفسرون : إن إبراهيم وعد أباه بالاستغفار كما في سورة مريم قال {سأستغفر لك ربي إِنه كان بي حفياً} واستغفر له بالقول فعلاً كما في سورة الشعراء {واغفرْ لأبي إِنه كان من الضالين} وكلُّ هذا كان رجاء إسلامه، ثم رجع عن ذلك لمَّا تيقَّن كفره كما في سورة التوبة {وما كان استغفارُ إبراهيم لأبيه إلاّ عن موعدةٍ وعدها إيَّاه، فلما تبيَّن له أنه عدوٌ للهِ تبرأ منه} {ربَّنا لا تجعلنا فتنةً للذين كفروا} أي لا تسلطهم علينا فيفتنونا عن ديننا بعذاب لا نطيقه وقال مجاهد : أي لا تعذبنا بأيديهم ولا بعذابٍ من عندك فيقولوا : لو كان هؤلاء على الحق لما أصابهم ذلك {واغفر لنا} أي اغفر لنا ما فرط من الذنوب {ربنا إِنك أنتَ العزيزُ الحكيم} أي أنت يا الله الغالب الذي لا يذل من التجأ إِليه، الحكيم الذي لا يفعل إِلا ما فيه الخير والمصلحة، وتكرار النداء للمبالغة في التضرع والتذلل لله تعالى {لقد كان لكم فيهم أُسوةٌ حسنةٌ} أي لقد كان لكم في إبراهيم ومن معه من المؤمنين قدوةٌ حسنة في التبرؤ من الكفار قال أبو السعود : والتكريرُ للمبالغة في الحثِّ على الاقتداء به عليه السلام ولذلك صُدِّر بالقسم {لمن كان يرجو اللهَ واليومَ الآخر} أي لمن كان يرجو ثواب الله تعالى، ويخاف عقابه في الآخرة {ومن يتولَّ فإِنَّ اللهَ هو الغنيُ الحميدُ} أي ومن يُعرض عن الإِيمان وطاعة الرحمن، فإِن الله مستغنٍ عن أمثاله وعن الخلق أجمعين، وهو المحمود في ذاته وصفاته {عسى اللهُ أنْ يجعل بينكم وبين الذين عاديتم منهم مودَّة} أي لعلَّ الله جل وعلا يجعل بينكم وبين الذين عاديتموهم من أقاربكم المشركين محبةً ومودة، محبةً بعد البغضاء، وألفة بعد الشحناء قال ابن جزي : لما أمر الله المسلمين بعداوة الكفار ومقاطعتهم، على ما كان بينهم وبين الكافر من القرابة والمودة، وعلم الله صدقهم آنسهم بهذه الآية، ووعدهم بأن يجعل بينهم مودة أي محبة، وهذه المودة كملت في فتح مكة فإِنه أسلم حينئذٍ سائر قريش، وجمع الله الشمل بعد التفرق وقال الرازي : وعسى وعدٌ من الله تعالى وقد حقق تعالى ما وعدهم به من اجتماع كفار مكة بالمسلمين، ومخالطتهم لهم حين فتح مكة {والله قديرٌ} أي قادر لا يعجزه شيء، يقدر على تقليب القلوب وتغيير الأحوال {واللهُ غفورٌ رحيم} أي مبالغ في المغفرة والرحمة، لمن تاب إِليه وأناب.





العلاقات بين المسلمين وغيرهم



{لا ينهاكم اللهُ عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبرُّوهم وتُقْسطوا إِليهم إنَّ اللهَ يحبُ المقسطين(8)إنما ينهاكم اللهُ عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إِخراجكم أن تولَّوهم ومن يتولهَّم فأولئك هم الظالمون(9}.



سبب النزول :

نزول الآية (8) :

{لا ينهاكم الله ..} : أخرج أحمد والبخاري ومسلم عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما قالت : "قدمت أمي، وهي مشركة في عهد قريش، إذ عاهدوا، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم، فقلت : يا رسول الله، إن أمي قدمت وهي راغبة، أفأصلها ؟ قال : نعم، صلي أمّك" فأنزل الله فيها : {لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين}.



{لا ينهاكم اللهُ عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبرُّوهم} أي لا ينهاكم عن البر بهؤلاء الذين لم يحاربوكم لأجل دينكم، ولم يخرجوكم من أوطانكم كالنساء والصبيان، ولفظة {أنْ تبرُّوهم} في موضع جر بـ "عن" أي لا ينهاكم جلَّ وعلا عن البر والإِحسان لهؤلاء {وتقْسطوا إِليهم} أي تعدلوا معهم {إنَّ اللهَ يحبُ المقسطين} أي يحب العادلين في جميع أمورهم وأحكامهم قال ابن عباس : نزلت في خزاعة، وذلك أنهم صالحوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على ألا يقاتلوه ولا يعينوا عليه أحداً، فرخَّص الله في برهم والإِحسان إِليهم .. [وروي عن أسماء بنت أبي بكر أنها قالت : قدمت أمي - وهي مشركة - في عهد قريش حين عاهدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم - تعني في صلح الحديبية - فأتيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت يا رسول الله : إن أمي قدمت وهي راغبة أفأصلها ؟ قال: نعم صِلي أمك، فأنزل الله {لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ..} الآية] {إنما ينهاكم اللهُ عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إِخراجكم أن تولَّوهم} أي إِنما ينهاكم الله عن صداقة ومودة الذين ناصبوكم العداوة، وقاتلوكم لأجل دينكم، وأعانوا أعداءكم على إِخراجكم من دياركم، أن تتولَّوهم فتتخذوهم أولياء وأنصاراً وأحباباً {ومن يتولهَّم فأولئك هم الظالمون} أي ومن يصادق أعداء الله ويجعلهم أنصاراً وأحباباً، فأولئك هم الظالمون لأنفسهم بتعريضها للعذاب.



حكم المهاجرات من دار الكفر إلى دار الإسلام

{يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمناتُ مهاجراتٍ فامتحنوهنَّ اللهُ أعلمُ بإِيمانهنَّ فإِنْ علمتموهنَّ مُؤمناتٍ فلا ترجعوهنَّ إِلى الكفَّار لا هُنَّ حلٌّ لهم ولا هم يحلُّون لهنَّ وآتوهم ما أنفقوا ولا جُناح عليكم أن تنكحوهنَّ إِذا آتيتموهنَّ أُجورهنَّ ولا تُمْسكوا بعصمِ الكوافر واسألوا ما أنفقتم وليسألوا ما أَنفقوا ذلك حُكْم الله يحكمُ بينكم واللهُ عليمٌ حكيم(10) وإِن فاتكم شيءٌ من أزواجكم إِلى الكفار فعاقبتم فآتوا الذين ذهبتْ أزواجهم مثل ما أنفقوا واتَّقُوا اللَّهَ الذي أنتم به مؤمنون}.



سبب النزول :

نزول الآية (10) :

{إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات}: أخرج الشيخان عن الْمِسْور ومروان بن الْحَكَم: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، لما عاهد كفار قريش يوم الحديبية، جاءه نساء من المؤمنات، فأنزل الله: {يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات} إلى قوله: {ولا تمسكوا بعصم الكوافر}.



نزول الآية (11) :

{وإن فاتكم ..} أخرج ابن أبي حاتم عن الحسن في قوله: {وإن فاتكم شيء من أزواجكم} الآية، نزلت في أم الحكم بنت أبي سفيان ارتدت، فتزوجها رجل ثقفي، ولم ترتد امرأة من قريش غيرها.

{يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمناتُ مهاجراتٍ فامتحنوهنَّ} أي اختبروهنَّ لتعلموا صدق إيمانهنَّ قال المفسرون: كان صلح الحديبية الذي جرى بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وكفار مكة قد تضمن أن من أتى أهل مكة من المسلمين لم يُردَّ إِليهم، ومن أتى المسلمين من أهل مكة - يعني المشركين - رُدَّ إِليهم، فجاءت "أم كلثوم" بنت عقبة بن أبي مُعيط مهاجرة إِلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فخرج في أثرها أخواها "عُمارة " و "الوليد" فقالوا للنبي صلى الله عليه وسلم : رُدَّها علينا بالشرط، فقال صلى الله عليه وسلم : كان الشرطُ في الرجال لا في النساء، فأنزل الله الآية، قال ابن عباس : كانت المرأة تُستحلف أنها ما هاجرت بغضاً لزوجها، ولا طمعاً في الدنيا، وأنها ما خرجت إِلا حباً لله ورسوله، ورغبةً في دين الإِسلام {اللهُ أعلمُ بإِيمانهنَّ} أي الله أعلم بصدقهن في دعوى الإِيمان، لأنه تعالى المطّلع على قلوبهن، والجملة اعتراضية لبيان أن هذا الامتحان بالنسبة للمؤمنين، وإِلا فالله عالمٌ بالسرائر لا تخفى عليه خافية {فإِنْ علمتموهنَّ مُؤمناتٍ فلا ترجعوهنَّ إِلى الكفَّار} أي فإِن تحققتم إِيمانهن بعد امتحانهن فلا تردوهنَّ إِلى أزواجهن الكفار {لا هُنَّ حلٌّ لهم ولا هم يحلُّون لهنَّ} أي لا تحل المؤمنة للمشرك، ولا يحل للمؤمن نكاح المشركة قال الألوسي: والتكرير للتأكيد والمبالغة في الحرمة وقطع العلاقة بين المؤمنة والمشرك {وآتوهم ما أنفقوا} أي أعطوا أزواجهن الكفار ما أنفقوا عليهن من المهور قال أبو حيّان: أمر أن يُعطى الزوج الكافر ما أنفق على زوجته إِذا أسلمت، فلا يجمع عليه خُسران الزوجة والمالية {ولا جُناح عليكم أن تنكحوهنَّ إِذا آتيتموهنَّ أُجورهنَّ} أي ولا حرج ولا إِثم عليكم أن تتزوجوا هؤلاء المهاجرات إِذا دفعتم لهن مهورهنَّ قال الخازن: أباح الله للمسلمين نكاح المهاجرات من دار الحرب إِلى دار الإِسلام وإِن كان لهن أزواج كفار - لأن الإِسلام فرَّق بينهن وبين أزواجهنَّ الكفار، وتقع الفرقة بانقضاء عدتها {ولا تُمْسكوا بعصمِ الكوافر} أي ولا تتمسكوا بعقود زوجاتكم الكافرات، فليس بينكم وبينهن عصمة ولا علاقة زوجية قال القرطبي: المراد بالعصمة هنا النكاحُ، يقول: من كانت له امرأةٌ كافرة بمكة فلا يعتد بها فليست امرأته، فقد انقطعت عصمتها لاختلاف الدارين {واسألوا ما أنفقتم وليسألوا ما أَنفقوا} أي اطلبوا يا أيها المؤمنون ما أنفقتم من المهر إِذا لحقتْ أزواجكم بالكفار، وليطلبوا هم - أي المشركون - ما أنفقوا على أزواجهم المهاجرات قال ابن العربي: كان من ذهب من المسلمات مرتداتٍ إِلى الكفار يقال للكفار: هاتوا مهرها، ويقال للمسلمين إِذا جاءت إِحدى الكافرات مسلمةً مهاجرة: ردُّوا إِلى الكفار مهرها، وكان ذلك نَصَفاً وعدلاً بين الحالتين {ذلك حُكْم الله يحكمُ بينكم} أي ذلكم هو شرعُ الله وحكمه العادل بينكم وبين أعدائكم {واللهُ عليمٌ حكيم} أي عليم بمصالح العباد، حكيم في تشريعه لهم، يشرع ما تقتضيه الحكمة البالغة {وإِن فاتكم شيءٌ من أزواجكم إِلى الكفار} أي وإِن فرَّت زوجة أحدٍ من المسلمين ولحقت بالكفار {فعاقبتم} أي فغزوتم وغنمتم وأصبتم من الكفار غنيمة {فآتوا الذين ذهبتْ أزواجهم مثل ما أنفقوا} أي فأعطوا لمن فرَّت زوجته، مثل ما أنفق عليها من المهر، من الغنيمة التي بأيديكم قال ابن عباس: يعني إِن لحقت امرأة رجلٍ من المهاجرين بالكفار، أمر له رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أن يُعطى مثل ما أنفق من الغنيمة قال القرطبي: لما نزلت الآية السابقة {واسألوا ما أنفقتم وليسألوا ما أنفقوا} قال المسلمون: رضينا بما حكم اللهُ، وكتبوا إِلى المشركين فامتنعوا فنزلت هذه الآية {واتقوا اللَّهَ} أي وراقبوا الله في أقوالكم وأفعالكم واحذروا عذابه وانتقامه إِن خالفتم أوامره {واتقوا اللَّهَ الذي أنتم به مؤمنون} أي الذي آمنتم وصدقتم بوجوده، فإِن من مستلزمات الإِيمان تقوى الرحمن ..



مبايعة النبي صلى الله عليه وسلم النساء المهاجرات



{ يا أيها النبي إِذا جاءك المُؤمناتُ يُبايعنك على أنْ لا يُشرْكن باللهِ شيئاً ولا يسرقْن ولا يزنين ولا يقتُلنَ أولادهنَّ ولا يأتين ببهتانٍ يفترينه بينَ أيديهنَّ وأرجُلهنَّ ولا يعصينكَ في معروفٍ فبايعهنَّ واستغفر لهنَّ اللهَ إنَّ الله غفور رحيم(12)يا أيها الذين آمنوا لا تتولَّوا قوماً غضب اللهُ عليهم قد يئسوا من الآخرة كما يَئِسَ الكفار من أصحاب القبور(13)}.



سبب النزول :

نزول الآية (12) :

نزلت يوم الفتح، فإنه صلى الله عليه وسلم لما فرغ من بيعة الرجال، أخذ في بيعة النساء. أخرج البخاري عن عروة بن الزبير أن عائشة رضي الله عنها قالت : "إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يمتحن من هاجرن إليه بهذه الآية: {يا أيها النبي إذا جاءك المؤمنات يبايعنك - إلى قوله - : غفور رحيم} فمن أقرت بهذا الشرط من المؤمنات، قال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم : "قد بايعتك" كلاماً، ولا، والله ما مسَّتْ يده يد امرأة في المبايعة قط، ما بايعهن إلا بقوله : قد بايعتكِ على ذلك".



نزول الآية (13) :

أخرج ابن المنذر عن ابن عباس قال : كان عبد الله بن عمر، وزيد بن الحارث يوادّان رجلاً من يهود، فأنزل الله : {يا أيها الذين آمنوا لا تتولوا قوماً غضب الله عليهم} الآية.



ولما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة جاء نساء أهل مكة يُبايعنه على الإِسلام، كما بايعه الرجال فنزلت {يا أيها النبي إِذا جاءك المُؤمناتُ يُبايعنك على أنْ لا يُشرْكن باللهِ شيئاً} أي إِذا جاء إِليك النساء المؤمنات للبيعة فبايعْهُنَّ على هذه الأمور الستة الهامة، وفي مقدمتها عدم الإِشراك بالله جلَّ وعلا {ولا يسرقْن ولا يزنين} أي ولا يرتكبن جريمة السرقة ولا جريمة الزنى، التي هي من أفحش الفواحش {ولا يقتُلنَ أولادهنَّ} أي ولا يئدن البنات كما كان يفعله أهل الجاهلية خوف العار أو خشية الفقر، قال ابن كثير: وهذا يشمل قتله بعد وجوده، كما كان أهل الجاهلية يقتلون أولادهم خشية الإِملاق أو العار، ويعمُّ قتله وهو جنينٌ كما يفعله بعض النساء الجاهلات، تُطرح نفسها لئلا تحبل، إمّا لغرضٍ فاسد أو ما أشبهه {ولا يأتين ببهتانٍ يفترينه بينَ أيديهنَّ وأرجُلهنَّ} أي لا تنسب إِلى زوجها ولداً لقيطاً ليس منه تقول له: هذا ولدي منك قال المفسرون: كانت المرأة إِذا خافت مفارقة زوجها لها لعدم الحمل، التقطت ولداً ونسبته له ليبقيها عنده، فالمراد بالآية اللقيط، وليس المراد الزنى لتقدمه في النهي صريحاً قال ابن عباس: لا تُلحق بزوجها ولداً ليس منه، وقال الفراء: كانت المرأة تلتقطُ المولود فتقول لزوجها: هذا ولدي منك، وإِنما قال {يفترينه بين أيديهنَّ وأرجلهنَّ} لأن الولد إِذا وضعته الأم سقط بين يديها ورجليها {ولا يعصينكَ في معروفٍ} أي ولا يخالفن أمرك فيما أمرتهنَّ به من معروف، أو نهيتهن عنه من منكر، بل يسمعن ويطعن {فبايعهنَّ واستغفر لهنَّ اللهَ} أي فبايعهن يا محمد على ما تقدم من الشروط، واطلب لهنَّ من الله الصفح والغفران لما سلف من الذنوب {إنَّ الله غفور رحيم} أي واسع المغفرة عظيم الرحمة قال أبو حيان: كانت "بيعة النساء" في ثاني يوم الفتح على جبل الصفا، بعدما فرغ من بيعة الرجال، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم على الصفا وعمر أسفل منه، يبايعهنَّ بأمره ويبلغهنَّ عنه، وما مست يده عليه الصلاة والسلام يد امرأةٍ أجنبيةٍ قطُّ، وقالت "أسماء بنتُ السكن" : كنتُ في النسوة المبايعات، فقلت يا رسول الله : أُبسط يدك نبايعك، فقال لي عليه الصلاة والسلام : (إني لا أصافح النساء، لكنْ آخذُ عليهنَّ ما أخذ اللهُ عليهنَّ) وكانت "هند بنت عُتبة" - وهي التي شقت بطن حمزة يوم أحد - متنكرة في النساء، فلما قرأ عليهن الآية {على ألاّ يشركن بالله شيئاً ولا يسرقن} قالت وهي متنكرة يا رسول الله : إِن أبا سفيان رجل شحيح، وإِني لأصيب الهنة - أي القليل وبعض الشيء - من ماله، لا أدري أيحل لي ذلك أم لا ؟ فقال أبو سفيان: ما أصبتِ من شيءٍ فيما مضى وفيما غبر فهو لك حلال، فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم وعرفها فقال لها: وإِنك لهندٌ بنتُ عتبة ؟ قالت نعم فاعفُ عما سلف يا نبيَّ الله، عفا الله عنك، فلما قرأ {ولا يزنين} قالت : أو تزني الحُرة ؟ فلما قرأ {ولا يقتلن أولادهنَّ} قالت: ربيناهم صغاراً وقتلتهم كباراً فأنتم وهم أعلم - وكان ابنها حنظلة قد قُتل يوم بدر - فضحك عمر حتى استلقى، وتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما قرأ {ولا يأتين ببهتان يفترينه بين أيديهن وأرجلهن} قالت هند: والله إِن البهتان لأمرٌ قبيح، ولا يأمر اللهُ إِلا بالرشد ومكارم الأخلاق، فلما قرأ {ولا يعصينك في معروف} قالت : واللهِ ما جلسنا مجلسنا هذا وفي أنفسنا أن نعصيك في شيء وأخرج الإِمام أحمد عن "أميمة بنت رقيقة" - أخت السيدة خديجة وخالة فاطمة الزهراء - قالت : أتيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم في نساءٍ لنبايعه، فأخذ علينا ما في القرآن {ألاَّ نشرك بالله شيئاً} الآية وقال: (فيما استطعتنَّ وأطقتُنَّ) فقلنا : الله ورسوله أرحم بنا من أنفسنا، قلنا يا رسول الله : ألا تصافحنا ؟ قال: "إني لا أصافح النساء، إِنما قولي لامرأةٍ واحدة قولي لمائة امرأة" {يا أيها الذين آمنوا لا تتولَّوا قوماً غضب اللهُ عليهم} أي لا تصادقوا يا معشر المؤمنين الكفرة أعداء الدين، ولا تتخذوهم أحباء وأصدقاء توالونهم وتأخذون بآرائهم، فإِنهم قوم غضب الله عليهم ولعنهم قال الحسن البصري: هم اليهود لقوله تعالى {غير المغضوب عليهم} وقال ابن عباس: هم كفار قريش لأن كل كافر عليه غضبٌ من الله، والظاهر أن الآية عامة كما قال ابن كثير: يعني اليهود والنصارى وسائر الكفار، ممن غضب الله عليه ولعنه {قد يئسوا من الآخرة} أي أولئك الفجار الذين يئسوا من ثواب الآخرة ونعيمها {كما يئسَ الكفار من أصحاب القبور} أي كما يئس الكفار المكذبون بالبعث والنشور، من أمواتهم أن يعودوا إِلى الحياة مرة ثانية بعد أن يموتوا، فقد كانوا يقولون إذا مات لهم قريب أو صديق: هذا آخر العهد به، ولن يبعث أبداً .. ختم تعالى السورة الكريمة بمثل ما فتحها به وهو النهي عن موالاة الكفار أعداء الله، وهو بمثابة التأكيد للكلام، وتناسق الآيات في البدء والختام، وهو من البلاغة بمكان.

yacine414
2011-04-02, 09:13
سورة الصف



تحذير المؤمنين من إخلاف الوعد، والدعوة إلى القتال صفاً واحداً

قصة موسى وعيسى عليهما السلام مع بني إسرائيل

التجارة الرابحة



بَين يَدَيْ السُّورَة



* سورة الصف هي إحدى السور المدنية، التي تُعنى بالأحكام التشريعية، وهذه السورة تتحدث عن موضوع "القتال" وجهاد أعداء الله، والتضحية في سبيل الله لإِعزاز دينه، وإِعلاء كلمته، وعن التجارة الرابحة التي بها سعادة المؤمن في الدنيا والآخرة، ولكنَّ المحور الذي تدور عليه السورة هو "القتال"، ولهذا سميت سورة الصف.



* ابتدأت السورة الكريمة - بعد تسبيح الله وتمجيده - بتحذير المؤمنين من إِخلاف الوعد، وعدم الوفاء بما التزموا به { سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ(1)يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ}؟



* ثم تحدثت عن قتال أعداء الله بشجاعة المؤمن وبسالته، لأنه يقاتل من أجل غرضٍ نبيل، وهو رفع منار الحق، وإِعلاء كلمة الله { إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنيَانٌ مَرْصُوصٌ}.



* وتناولت السورة بعد ذلك موقف اليهود من دعوة موسى وعيسى عليهما السلام، وما أصابهما من الأذى في سبيل الله، وذلك تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم فيما ناله من كفار مكة {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي.. } الآيات.



* وتحدثت السورة عن سنة الله في نصرة دينه، وأنبيائه، وأوليائه، وضربت المثل للمشركين في عزمهم على محاربة دين الله، بمن يريد إطفاء نور الشمس بفمه الحقير {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ}.



* ودعت السورة المؤمنين إِلى التجارة الرابحة، وحرضتهم على الجهاد في سبيل الله بالنفس والنفيس، لينالوا السعادة الدائمة الكبيرة مع النصرة العاجلة في الدنيا، وخاطبتهم بأسلوب الترغيب والتشويق {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ* تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ..} الآيات.



* وختمت السورة بدعوة أهل الإِيمان إِلى نصرة دين الرحمن، كما فعل الحواريون أصحاب عيسى حين دعاهم إِلى نصرة دين الله فاستجابوا ونصروا الحق والرسول {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونوا أَنصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللَّهِ..} وهكذا يتناسق البدء مع الختام في أبدع بيان وإِحكام.





تحذير المؤمنين من إخلاف الوعد، والدعوة إلى القتال صفاً واحداً



{سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ(1)يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ(2)كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ(3)إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنيَانٌ مَرْصُوصٌ(4)}.



سبب نزول الآية (1، 2):

أخرج الترمذي كما تقدم والحاكم وصححه والدارمي عن عبد الله بن سَلام قال: قعدنا نفراً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتذاكرنا، فقلنا: لو نعلم أي الأعمال أحب إلى الله لعملناه، فأنزل الله: {سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ* يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ} فقرأها علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى ختمها.



{سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ} أي نزَّه اللهَ وقدَّسه ومجَّده جميعُ ما في السماواتِ والأرض من مَلَك، وإِنسان، ونبات،وجماد {وإِن من شيءٍ إِلا يسبح بحمده ولكنْ لا تفقهون تسبيحهم} قال الإِمام الفخر الرازي: أي شهد له بالربوبية والوحدانية وغيرهما من الصفات الحميدة جميع ما في السماوات والأرض {وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} أي وهو الغالب في ملكه، الحكيم في صنعه، الذي لا يفعل إلا ما تقتضيه الحكمة {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ} أي يا أيها الذين صدَّقوا الله ورسوله لم تقولون بألسنتكم شيئاً ولا تفعلونه؟ ولأي شيءٍ تقولون نفعل ما لا تفعلونه من الخير والمعروف؟ وهو استفهام على جهة الإِنكار والتوبيخ، قال ابن كثير: هذا إنكارٌ على من يَعِد وعداً، أو يقول قولاً لا يفي به، وفي الصحيحين "آية المنافق ثلاثٌ: إِذا وعد أخلف، وإِذا حدَّث كذب، وإِذا ائتمن خان" ثم أكَّد الإِنكار عليهم بقوله {كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ} أي عظُم فعلكم هذا بغضاً عند ربكم {أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ} أي أن، تقولوا شيئاً ثم لا تفعلونه، وأن تَعِدوا بشيء ثم لا تفون به قال ابن عباس: كان ناسٌ من المؤمنين - قبل أن يُفرض الجهاد - يقولون: لوددنا أنَّ اللهَ عز وجلَّ دلنا على أحبِّ الأعمال إِليه فنعمل به، فأخبر الله نبيه أن أحب الأعمال إِيمان بالله لا شك فيه، وجهاد أهل معصيته الذين خالفوا الإِيمان ولم يقروا به، فلما نزل الجهاد كره ذلك ناسٌ من المؤمنين وشقَّ عليهم أمره فنزلت الآية وقيل: هو أن يأمر الإِنسان أخاه بالمعروف ولا يأتمر به، وينهاه عن المنكر ولا ينتهي عنه كقوله تعالى {أتأمرون الناس بالبرِّ وتنسون أنفسكم}؟ ثم أخبرهم تعالى بفضيلة الجهاد في سبيل الله فقال {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا} أي يحب المجاهدين الذين يصفُّون أنفسهم عند القتال صفاً، ويثبتون في أماكنهم عند لقاء العدو {كَأَنَّهُمْ بُنيَانٌ مَرْصُوصٌ} أي كأنهم في تراصِّهم وثبوتهم في المعركة، بناءٌ قد رُصَّ بعضه ببعض، وأُلصق وأُحكم حتى صار شيئاً واحداً، قال القرطبي: ومعنى الآية أنه تعالى يحب من يثبت في الجهاد في سبيل الله ويلزم مكانه كثبوت البناء، وهذا تعليمٌ من الله تعالى للمؤمنين كيف يكونون عند قتال عدوهم.





قصة موسى وعيسى عليهما السلام مع بني إسرائيل



{وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ(5)وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ(6)وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعَى إِلَى الإِسْلامِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ(7)يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ(8)هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ(9)}.



سبب النزول:

نزول الآية (8):



{يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا..} حكى الماوردي عن عطاء عن ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وسلم أبطأ عليه الوحي أربعين يوماً، فقال كعب بن الأشرف: يا معشر اليهود، أبشروا! فقد أطفأ الله نور محمد فيما كان ينزل عليه، وما كان ليتمّ أمره، فحزن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله تعالى هذه الآية، واتصل الوحي بعدها.



ولما ذكر تعالى أمر الجهاد، بيَّن أنَّ موسى وعيسى أمرا بالتوحيد، وجاهدا في سبيل الله وأوذيا بسبب ذلك فقال {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي}؟ أي واذكر يا محمد لقومك قصة عبده وكليمه "موسى بن عمران" حين قال لقومه بني إِسرائيل: لمَ تفعلون ما يؤذيني؟ {وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ} أي والحال أنكم تعلمون علماً قطعياً - بما شاهدتموه من المعجزات الباهرة - أني رسولُ اللهِ إِليكم، وتعلمون صدقي فيما جئتكم به من الرسالة؟ وفي هذا تسليةٌ لرسول الله صلى الله عليه وسلم فيما أصابه من كفار مكة {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} أي فلما مالوا عن الحقِّ، أمال الله قلوبهم عن الهدى {وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} أي واللهُ لا يوفق للخير والهدى من كان فاسقاً خارجاً عن طاعة الله، قال الرازي: وفي هذا تنبيهٌ على عظم إِيذاء الرسل، حتى إِنه يؤدي إِلى الكفر وزيغ القلوب عن الهدى .. ثم ذكر تعالى قصة عيسى عليه السلام فقال {وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ} أي واذكر يا محمد لقومك هذه القصة أيضاً حين قال عيسى لبني إِسرائيل إِني رسول اللهِ أرسلت إِليكم بالوصف المذكور في التوراة، قال القرطبي: ولم يقل "يا قوم" كما قال موسى، لأنه لا نسب له فيهم فيكونون قومه فإِنه لم يكن له فيهم أب {مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ} أي حال كوني مصدِّقاً ومعترفاً بأحكام التوراة، وكُتب الله وأنبيائه جميعاً، ولم آتكم بشيء يخالف التوراة حتى تنفروا عني {وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ} أي وجئت لأبشركم ببعثة رسولٍ يأتي بعدي يسمى "أحمد"، قال الألوسي: وهذا الاسم الكريم علمٌ لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم كما قال حسان:

صلَّى الإِلهُ ومن يحفُّ بعرشه والطّيبون على المبارك "أحمد"

وفي الحديث ( لي خمسة أسماءٍ: أنا محمدٌ، وأنا أحمد، وأنا الحاشر الذي يُحشر الناسُ على قدمي، وأنا الماحي الذي يمحو الله بي الكفر، وأنا العاقب) ومعنى العاقب الذي لا نبيَّ بعده، وروي أن الصحابة قالوا يا رسول الله أخبرنا عن نفسك! فقال: دعوةُ أبي إِبراهيم، وبشرى عيسى، ورأت أُمي حين حملت بي كأنه خرج منها نورٌ أضاءت له قصور الشام {فَلَمَّا جَاءهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ} أي فلما جاءهم عيسى بالمعجزات الواضحات، من إحياء الموتى، وإِبراء الأكمه والأبرص، ونحو ذلك من المعجزات الدالة على صدقه في دعوى الرسالة {قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ} أي قالوا عن عيسى: هذا ساحرٌ جاءنا بهذا السحر الواضح، والإِشارة بقولهم "سحر" إِلى المعجزات التي ظهرت على يديه عليه السلام، قال المفسرون: بشَّر كلُّ نبي قومه بنبيِّنا محمد صلى الله عليه وسلم، وإِنما أفرد تعالى ذكر عيسى بالبشارة في هذا الموضع لأنه آخر نبيٍ قبل نبينا صلى الله عليه وسلم، فبيَّن تعالى أن البشارة به عمَّت جميع الأنبياء واحداً بعد واحد حتى انتهت إِلى عيسى عليه السلام آخر أنبياء بني إِسرائيل {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعَى إِلَى الإِسْلامِ} استفهامٌ بمعنى النفي أي لا أحد أظلم ممن يدعوه ربه إِلى الإِسلام على لسان نبيه، فيجعل مكان إِجابته افتراء الكذب على الله بتسمية نبيه ساحراً، وتسمية ءاياتِ الله المنزلة سحراً {وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} أي لا يوفق ولا يرشد إِلى الفلاح والهدى من كان فاجراً ظالماً {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ} أي يريد المشركون أن يطفئوا دين الله وشرعه المنير بأفواههم قال الفخر الرازي: وإِطفاء نور الله تعالى تهكمٌ بهم في إِرادتهم إِبطال الإِسلام بقولهم في القرآن إِنه سحر، شُبهت حالهم بحال من ينفخ في نور الشمس بفيه ليطفئه، وفيه تهكم وسخريةٌ بهم {وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ} أي واللهُ مظهرٌ لدينه، بنشره في الآفاق، وإِعلائه على الأديان، كما جاء في الحديث (إنَّ الله زوى لي الأرض، فرأيت مشارقها ومغاربها، وإِن مُلك أمتي سيبلغ ما زُوي لي منها ..) الحديث، والمراد أنَّ هذا الدين سينتشر في مشارق الدنيا ومغاربها {وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} أي ولو كره ذلك الكافرون المجرمون، فإِنَّ الله سيعز شأن هذا الدين رغم أنف الكافرين، قال في حاشية البيضاوي: كان كفار مكة يكرهون هذا الدين الحق، من أجل توغلهم في الشرك والضلال، فكان المناسب إِذلالهم وإِرغامهم بإِظهار ما يكرهونه من الحق، وليس المراد من إظهاره ألا يبقى في العالم من يكفر بهذا الدين، بل المرادُ أن يكون أهلهُ عالين غالبين على سائر أهل الأديان بالحجة والبرهان، والسيف واللسان، إِلى آخر الزمان {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ} أي هو جلَّ وعلا بقدرته وحكمته بعث رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم بالقرآن الواضح، والدين الساطع {لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} أي ليعليه على سائر الأديان المخالفة له، من يهودية ونصرانية وغيرهما {وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} أي ولو كره ذلك أعداءُ الله، المشركون بالله غيره، قال أبو السعود: ولقد أنجز الله وعده بإِعزاز دين الإِسلام، حيث جعله بحيث لم يبق دينٌ من الأديان، إلا وهو مغلوب مقهور بدين الإِسلام.





التجارة الرابحة



{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ(10)تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ(11)يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ(12)وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ(13)يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونوا أَنصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللَّهِ فَآَمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ (14)}.



سبب النزول:

نزول الآية (10):

{هَلْ أَدُلُّكُمْ..}: أخرج ابن جرير عن أبي صالح قال: قالوا: لو كنا نعلم أي الأعمال أحب إلى الله وأفضل؟ فنزلت: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ..} الآية، فكرهوا الجهاد، فنزلت: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ}.



نزول الآية (11):

{تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ..}: أخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير قال: لما نزلت: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} قال المسلمون: لو علمنا ما هذه التجارة، لأعطينا فيها الأموال والأهلين، فنزلت: {تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ}.



{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ} أي يا من صدقتم الله ورسوله وآمنتم بربكم حقَّ الإِيمان، هل أدلكم على تجارة رابحة جليلة الشأن؟ والاستفهام للتشويق {تُنجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} أي تخلِّصكم وتنقذكم من عذاب شديد مؤلم .. ثم بيَّن تلك التجارة ووضحها فقال {تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} إِيماناً صادقاً، لا يشوبه شكٌ ولا نفاق {وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ} أي وتجاهدون أعداء الدين بالمال والنفس، لإِعلاء كلمة الله، قال المفسرون: جعل الإِيمان والجهاد في سبيله "تجارة" تشبيهاً لهما بالتجارة، فإنها عبارة عن مبادلة شيء بشيء، طمعاً في الربح ومن آمن وجاهد بماله ونفسه فقد بذل ما عنده وما في وسعه، لنيل ما عند ربه من جزيل ثوابه، والنجاة من أليم عقابه، فشبَّه هذا الثواب والنجاة من العذاب بالتجارة لقوله تعالى {إنَّ الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأنَّ لهم الجنة} قال الإِمام الفخر الرازي: والجهاد ثلاثةُ أنواع:

1- جهادٌ فيما بينه وبين نفسه، وهو قهرُ النفس ومنعُها عن اللذات والشهوات.

2- وجهادٌ فيما بينه وبين الخلق، وهو أن يدع الطمع منهم ويشفق عليهم ويرحمهم.

3- وجهادُ أعداء الله بالنفس والمال نصرةً لدين الله {ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} أي ما أمرتكم به من الإِيمان والجهاد في سبيل الله، خيرٌ لكم من كل شيء في هذه الحياة، إن كان عندكم فهم وعلم {يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} هذا جواب الجملة الخبرية {تؤمنون بالله ورسوله} لأن معناها معنى الأمر أي آمنوا بالله وجاهدوا في سبيله فإِذا فعلتم ذلك يغفر لكم ذنوبكم أي يسترها عليكم، ويمحها بفضله عنكم {وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ} أي ويدخلكم حدائق وبساتين، تجري من تحت قصورها أنهار الجنة {وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ} أي ويسكنكم في قصور رفيعة في جنات الإِقامة {ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} أي ذلك الجزاء المذكور هو الفوز العظيم الذي لا فوز وراءه، والسعادة الدائمة الكبيرة التي لا سعادة بعدها {وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا} أ ي ويمنُّ عليكم بخصلةٍ أُخرى تحبونها وهي {وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ} أي أن ينصركم على أعدائكم، ويفتح لكم مكة، وقال ابن عباس: يريد فتح فارس والروم {وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} أي وبشِّر يا محمد المؤمنين، بهذا الفضل المبين، قال أبو حيّان: لما ذكر تعالى ما يمنحهم من الثواب في الآخرة، ذكر لهم ما يسرُّهم في العاجلة، وهي ما يفتح الله عليهم من البلاد، فهذه هي خير الدنيا موصولٌ بنعيم الآخرة {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونوا أَنصَارَ اللَّهِ} أي انصروا دين الله وأعلوا مناره {كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ} أي كما نصر الحواريون دين الله حين قال لهم عيسى بن مريم {مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللَّهِ} أي من ينصرني ويكون عوني لتبليغ دعوة الله، ونصرة دينه؟ {قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللَّهِ} أي قال أتباع عيسى - وهم المؤمنون الخُلَّص من خاصته المستجيبون لدعوته - نحن أنصار دين الله، قال البيضاوي: والحواريون أصفياؤه وهم أول من آمن به، مشتقٌّ من الحور وهو البياض، وكانوا اثني عشر رجلاً، وقال الرازي: والتشبيه في الآية محمول على المعنى أي كونوا أنصار الله كما كان الحواريون أنصار الله {فَآَمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ} أي فانقسم بنو إِسرائيل إِلى جماعتين: جماعةٌ آمنت به وصدَّقته، وجماعةٌ كفرت وكذبت برسالة عيسى {فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ} أي فقوينا المؤمنين على أعدائهم الكافرين {فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ} أي حتى صاروا غالبين عليهم بالحجة والبرهان، قال ابن كثير: لما بلَّغ عيسى بن مريم رسالة ربه، اهتدت طائفة من بني إِسرائيل بما جاءهم به، وضلَّت طائفة فجحدوا نبوته، ورموه وأُمه بالعظائم، وهم اليهود عليهم لعنة الله، وغلت فيه طائفةٌ من أتباعه حتى رفعوه فوق ما أعطاه الله من النبوة، وافترقوا فيه فرقاً وشيعاً، فمنهم من زعم أنه ابنُ الله، ومنهم من قال إِنه ثالث ثلاثة "الأب والابن وروح القدس" ومنهم من قال: إِنه اللهُ - تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً - فنصر الله المؤمنين على من عاداهم من فرق النصارى.

yacine414
2011-04-02, 09:14
سورة الجمعة



بعثة خاتم الرسل والرحمة المهداة صلى الله عليه وسلم

عدم استجابة اليهود لأوامر التوراة

فريضة صلاة الجمعة



بَين يَدَيْ السُّورَة



* هذه السورة الكريمة مدنية وهي تتناول جانب التشريع، والمحور الذي تدور عليه السورة بيانُ أحكام "صلاة الجمعة" التي فرضها الله على المؤمنين.



* تناولت السورة الكريمة بعثة خاتم الرسل محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم وبيَّنت أنه الرحمة المهداة، أنقذ الله به العرب من ظلام الشرك والضلال، وأكرم به الإِنسانية، فكانت رسالته بلسماً لأمراض المجتمع البشري، بعد أن كان يتخبط في الظلام.



* ثم تحدثت السورة عن اليهود، وانحرافهم عن شريعة الله، حيث كُلِّفوا بالعمل بأحكام التوراة، ولكنهم أعرضوا عنها ونبذوها وراء ظهورهم، وضربت مثلاً لهم بالحمار، الذي يحمل على ظهره الكتب الكبيرة النافعة، ولكنه لا يناله منها إِلا العناء والتعب، وذلك نهاية الشقاء والتعاسة.



* ثم تناولت أحكام "صلاة الجمعة" فدعت المؤمنين إِلى المسارعة لأداء الصلاة، وحرمت عليهم البيع وقت الأذان ووقت النداء لها، وختمت بالتحذير من الانشغال عن الصلاة بالتجارة واللهو كحال المنافقين، الذين إذا قاموا إِلى الصلاة قاموا كسالى متثاقلين.



بعثة خاتم الرسل والرحمة المهداة صلى الله عليه وسلم



{يُسبّح لله ما في السّماوات وما في الأرض الملِك القُدوس العزيز الحكيم(1)هو الذي بعثَ في الأُمِّيِّين رسولاً مِّنهم يتلوا عليهم ءاياته ويزكّيهم ويعلِّمهم الكتابَ والحكمة وإِن كانوا من قبلُ لفي ضلالٍ مبين(2)وآخرين منهم لمَّا يلحقوا بهم وهو العزيز الحكيم(3)ذلك فضلُ اللهِ يؤْتيه من يشاء واللهُ ذو الفضل العظيم(4)}.



{يُسبّح لله ما في السماوات وما في الأرض} أي ينزِّه الله ويمجده ويقدِّسه كلُّ شيء في الكون من إنسانٍ، وحيوان، ونبات، وجماد، وصيغةُ المضارع {يُسبحُ} لإِفادة التجدد والاستمرار، فهو تسبيحٌ دائم على الدوام {الملِك} أي هو الإِله المالك لكل شيء، المتصرف في خلقه بالإِيجاد والإِعدام {القُدوس} أي المقدَّس والمنزَّه عن النقائص، المتصف بصفات الكمال {العزيز الحكيم} أي العزيز في ملكه، الحكيم في صنعه {هو الذي بعثَ في الأُميّين رسولاً منهم} أي هو جل وعلا برحمته وحكمته الذي بعث في العرب رسولاً من جملتهم، أمياً مثلهم لا يقرأ ولا يكتب قال المفسرون: سُمي العرب أميّين لأنهم لا يقرأون ولا يكتبون، فقد اشتهرت فيهم الأمية كما قال عليه الصلاة والسلام (نحن أمةٌ أمية، لا نكتب ولا نحسب) الحديث والحكمةُ في اقتصاره على ذكر الأميين، مع أنه رسولٌ إِلى كافة الخلق، تشريفُ العرب حيث أُضيف صلوات الله عليه إِليهم، وكفى بذلك شرفاً للعرب {يتلوا عليهم ءاياته} أي يقرأ عليهم ءايات القرآن {ويزكّيهم} أي ويطهرهم من دنس الكفر والذنوب قال ابن عباس: أي يجعلهم أزكياء القلوب بالإِيمان {ويعلّمهم الكتابَ والحكمة} أي ويعلمهم ما يتلى من الآيات والسنة النبوية المطهرة {وإِنْ كانوا من قبلُ لفي ضلالٍ مبين} أي وإِنَّ الحال والشأن أنهم كانوا من قبل إِرسال محمد صلى الله عليه وسلم إِليهم لفي ضلالٍ واضح، عن النهج القويم، والصراط المستقيم قال ابن كثير: بعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم على حين فترةٍ من الرسل، وطموسٍ من السُّبُل، وقد اشتدت الحاجة إِليه، فقد كان العرب متمسكين بدين إِبراهيم الخليل فبدلوه وغيَّروه، واستبدلوا بالتوحيد شركاً، وباليقين شكاً، وابتدعوا أشياء لم يأذن بها اللهُ، وكذلك كان أهل الكتاب قد بدَّلوا كتبهم وحرفوها، فبعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم بشرع عظيم، شامل كامل، فيه الهداية والبيان لكل ما يحتاج الناس إِليه من أمر معاشهم ومعادهم، وجمع له تعالى جميع المحاسن، وأعطاه ما لم يعط أحداً من الأولين والآخرين {وآخرين منهم لمَّا يلحقوا بهم} أي وبعث الرسول إِلى قومٍ آخرين، لم يكونوا في زمانهم وسيجيئون بعدهم، وهم جميع من أسلم إِلى يوم القيامة قال الصاوي: والمعنى أنه بعث إِلى المؤمنين الموجودين في زمانه، وإِلى الآتين منهم بعدهم، فليست رسالته خاصة بمن كان موجوداً في زمانه، بل هي عامة لهم ولغيرهم إِلى يوم القيامة، وفي الحديث عن أبي هريرة قال: كنا جلوساً عند النبي صلى الله عليه وسلم فأنزلت عليه سورة الجمعة {وآخرين منهم لمَّا يلحقوا بهم} قالوا: من هم يا رسول الله؟ قال: وفينا سلمان الفارسي، فوضع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده على سلمان ثم قال: "لو كان الإِيمان عند الثريا لناله رجالٌ من هؤلاء" قال مجاهد: في تفسير الآية: هم الأعاجم وكلُّ من صدَّق النبي صلى الله عليه وسلم من غير العرب {وهو العزيز الحكيم} أي القويُ الغالب في ملكه، الحكيم، في صنعه {ذلك فضلُ اللهِ يؤْتيه من يشاء} أي ذلك الشرف الذي امتاز به سيد البشر، وهو كونه مبعوثاً إِلى كافة الناس، وما شرَّف الله به العرب من نزول القرآن بلغتهم، وإِرسال خاتم الرسل إِليهم، هو فضلُ اللهِ يعطيه لمن يشاء من خلقه {واللهُ ذو الفضل العظيم} أي هو جل وعلا ذو الفضل الواسع على جميع خلقه في الدنيا والآخرة.



عدم استجابة اليهود لأوامر التوراة



{مثلُ الذين حُمِّلوا التوراة ثمَّ لم يحملوها كمثل الحمار يحملُ أسفاراً بِئس مثلُ القوم الَّذين كذَّبوا بآيات الله واللهُ لا يهدي القوم الظالمين(5)قل يا أيُّها الذين هادوا إن زعمتم أنَّكم أولياءُ لله من دون النَّاس فتمنَّوا الموتَ إِن كنتم صادقين(6)ولا يتمنونه أبداً بما قدَّمت أيديهم واللهُ عليمٌ بالظَّالمين(7)قل إِن الموت الَّذي تفروُّن منه فإِنَّه ملاقيكم ثم تردَّون إِلى عالم الغيب والشَّهادة فينبِّئكم بما كنتم تعملون(8)}.



ثم شرع تعالى في ذم اليهود الذين أكرمهم الله بالتوراة، فلم ينتفعوا بها ولم يطبقوها، وشبَّههم بالحمار الذي يحمل الأسفار فقال {مثلُ الذين حُمِّلوا التوراة} أي مثل اليهود الذين أعطوا التوراة، وكُلفوا العمل بما فيها {ثم لم يحملوها} أي ثم لم يعملوا بها، ولم ينتفعوا بهديها ونورها {كمثل الحمار يحملُ أسفاراً} أي مثلهم كمثل الحمار الذي يحمل الكتب النافعة الضخمة، ولا يناله منها إِلا التعب والعناء وقال القرطبي: شبههم تعالى - والتوراة في أيديهم وهم لا يعملون بها - بالحمار يحمل كتباً، وليس له إلاّ ثقل الحمل من غير فائدة، فهو يتعب في حملها ولا ينتفع بما فيها وقال في حاشية البيضاوي: ذمَّ تعالى اليهود بأنهم قراءُ التوراة، عالمون بما فيها، وفيها ءاياتٌ دالة على صحة نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ووجوب الإِيمان به، ولكنهم لم ينتفعوا بها مما ينجيهم من شقاوة الدارين، وشبههم بالحمار الذي يحمل أسفار العلم والحكمة ولا ينتفع بها، ووجه التشبيه حرمان الانتفاع بما هو أبلغ شيء في الانتفاع، مع الكدِّ والتعب {بِئس مثلُ القوم الَّذين كذَّبوا بآيات الله} أي بئس هذا المثل الذي ضربناه لليهود، مثلاً للقوم الذين كذبوا بآيات الله، الدالة على نبوة محمد عليه الصلاة والسلام {واللهُ لا يهدي القوم الظالمين} أي لا يوفق للخير، ولا يرشد للإِيمان من كان ظالماً فاسقاً قال عطاء: هم الذين ظلموا أنفسهم بتكذيبهم للأنبياء، ثم كذَّب تعالى اليهود في دعوى أنهم أحبابُ الله فقال {قل يا أيها الذين هادوا} أي قل يا محمد لهؤلاء الذين تهودوا وتمسكوا بملة اليهودية {إن زعمتم أنكم أولياءُ لله من دون الناس} أي إن كنتم أولياء الله وأحباءه حقاً كما تدَّعون {فتمنوا الموتَ إِن كنتم صادقين} أي فتمنوا من الله أن يميتكم، لتنقلوا سريعاً إِلى دار كرامته المعدَّة لأوليائه، إِن كنتم صادقين في هذه الدعوى قال أبو السعود: كان اليهود يقولون: {نحن أبناءُ الله وأحباؤهُ} ويدَّعون أن الدار الآخرة لهم عند الله خالصة، ويقولون {لن يدخل الجنة إِلا من كان هوداً} فأمر الله رسوله أن يقول لهم إِظهاراً لكذبهم: إِن زعمتم ذلك فتمنوا الموت، لتنقلوا من دار البلاء إِلى دار الكرامة، فإِنَّ من أيقن بأنه من أهل الجنة، أحبَّ أن يتخلص إِليها من هذه الدار التي هي مقرُّ الأكدار، قال تعالى فاضحاً لهم، ومبيناً كذبهم {ولا يتمنونه أبداً بما قدَّمت أيديهم} أي ولا يتمنون الموت بحالٍ من الأحوال، بسبب ما أسلفوه من الكفر والمعاصي وتكذيب محمد عليه السلام وفي الحديث "والذين نفسي بيده، لو تمنوا الموتَ ما بقي على ظهرها يهودي إِلا مات" قال الألوسي: لم يتمنَّ أحدٌ الموت منهم، لأنهم كانوا موقنين بصدقه عليه السلام، فعلموا أنهم لو تمنوه لماتوا من ساعتهم، وهذه إِحدى المعجزات، وجاء في سورة البقرة نفيُ هذا التمني بلفظ {ولن} وهو من باب التفنن على القول المشهور {واللهُ عليمٌ بالظالمين} أي عالمٌ بهم وما صدر عنهم من فنون الظلم والمعاصي، وإِنما وضع الظاهر موضع الضمير "عليمٌ بهم" ذماً لهم، وتسجيلاً عليهم بأنهم ظالمون {قل إِن الموت التي تفرون منه} أي قل لهم يا محمد: إن هذا الموت الذي تهربون منه، وتخافون أن تتمنوه حتى بلسانكم {فإِنه ملاقيكم} أي فإِنه آتيكم لا محالة، لا ينفعكم الفرار منه كقوله تعالى {أينما تكونوا يدرككم الموتُ ولو كنتم في بروجٍ مشيدَّة} لأنه قدرٌ محتوم، ولا يغني حذرٌ عن قدر {ثم تردون إِلى عالم الغيب والشهادة} أي ثم ترجعون إِلى الله الذي لا تخفى عليه خافية {فينبئكم بما كنتم تعملون} أي فيجازيكم على أعمالكم، وفيه وعيدٌ وتهديد ..





فريضة صلاة الجمعة



{يا أيُّها الذين آمنوا إِذا نودي للصَّلاة من يوم الجمعة فاسْعوا إِلى ذكر الله وذروا البيع ذلكم خيرٌ لَّكم إن كنتم تعلمون(9)فإِذا قُضيت الصَّلاةُ فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضلِ الله واذكروا اللهَ كثيراً لَّعَّلكم تفلحون(10)وإِذا رأوا تجارةً أو لهواً انفضوا إِليها انفضُّوا إِليها وتركوك قائماً قل ما عند الله خيرٌ من اللَّهو ومن التِّجارة واللهُ خيرُ الرَّازقين(11)} .



سبب النزول:

نزول الآية (11):

{وإذارأوا تجارة ..}: أخرج أحمد والشيخان (البخاري ومسلم) والترمذي عن جابر قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يخطب يوم الجمعة إذ أقبلت عِير قد قدمت، فخرجوا إليها حتى لم يبق معه إلا اثنا عشر رجلاً، فأنزل الله تعالى: {وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها وتركوك قائماً}.



ثم شرع تعالى في بيان أحكام الجمعة فقال {يا أيها الذين آمنوا إِذا نودي للصلاة من يوم الجمعة} أي يا معشر المؤمنين المصدّقين بالله ورسوله، إِذا سمعتم المؤذن ينادي لصلاة الجمعة ويؤذن لها {فاسْعوا إِلى ذكر الله وذروا البيع} أي فامضوا إِلى سماع خطبة الجمعة وأداء الصلاة، واتركوا البيع والشراء، اتركوا التجارة الخاسرة واسعوا إِلى التجارة الرابحة قال ابن جزي: والسعيُ في الآية بمعنى المشي لا بمعنى الجري لحديث "إِذا أقيمت الصلاة فلا تأتوها وأنتم تسعون، وأتوها وأنتم تمشون وعليكم السكينة" .. وقال الحسن: واللهِ ما هو بالسعي على الأقدام، ولقد نُهوا أن يأتوا الصلاة إِلا وعليهم السكينة والوقار، ولكنه سعيٌ بالقلوب، والنية، والخشوع {ذلكم خيرٌ لكم} أي ذلك السعي إِلى مرضاة الله، وتركُ البيع والشراء، خيرٌ لكم وأنفع من تجارة الدنيا، فإِن نفع الآخرة أجلٌّ وأبقى {إن كنتم تعلمون} أي إن كنتم من أهل العلم القويم، والفهم السليم {فإِذا قُضيت الصلاةُ} أي فإِذا أديتم الصلاة وفرغتم منها {فانتشروا في الأرض} أي فتفرقوا في الأرض وانبثوا فيه للتجارة وقضاء مصالحكم {وابتغوا من فضلِ الله} أي واطلبوا من فضل الله وإِنعامه، فإِن الرزق بيده جلَّ وعلا وهو المنعم المتفضل، الذي لا يُضيع عمل العامل، ولا يخيّب أمل السائل {واذكروا اللهَ كثيراً} أي واذكروا ربكم ذكراً كثيراً، باللسان والجنان، لا وقت الصلاة فحسب {لعلكم تفلحون} أي كي تفوزوا بخير الدارين قال سعيد بن جبير: ذكرُ الله طاعته، فمن أطاع اللهَ فقد ذكره، ومن لم يطعه فليس بذاكرٍ ولو كان كثير التسبيح .. ثم أخبر تعالى أنَّ فريقاً من الناس يؤثرون الدنيا الفانية على الآخرة الباقية، ويفضلون العاجل على الآجل فقال {وإِذا رأوا تجارةً أو لهواً انفضوا إِليها} هذا عتابٌ لبعض الصحابة الذين انصرفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتركوه قائماً يخطب يوم الجمعة، والمعنى: إِذا سمعوا بتجارة رابحة، أو صفقةٍ قادمة، أو شيء من لهو الدنيا وزينتها، تفرقوا عنك يا محمد وانصرفوا إِليها، وأعاد الضمير إِلى التجارة دون اللهو {انفضُّوا إِليها} لأنها الأهم المقصود {وتركوك قائماً} أي وتركوا الرسول قائماً على المنبر يخطب قال المفسرون: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قائماً على المنبر يخطب يوم الجمعة، فأقبلت عيرٌ من الشام بطعام قدم بها "دحية الكلبي" - وكان أصاب أهل المدينة جوعٌ وغلاء سعر - وكانت عادتهم أن تدخل العير المدينة بالطبل والصياح سروراً بها، فلما دخلت العير كذلك انفضَّ أهل المسجد إِليها، وتركوا رسول الله صلى الله عليه وسلم قائماً على المنبر، ولم يبق معه إِلا اثني عشر رجلاً قال جابر بن عبد الله: أنا أحدهم فنزلت الآية قال ابن كثير: وينبغي أن يعلم أن هذه القصة كانت لمَّا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقدم الصلاة يوم الجمعة على الخطبة كما هو الحال في العيدين، كما روى ذلك أبو داود {قل ما عند الله خيرٌ من اللهو ومن التجارة} أي قل لهم يا محمد: إِنَّ ما عند الله من الثواب والنعيم، خير مما أصبتموه من اللهو والتجارة {والله خير الرازقين} أي خير من رزق وأعطى، فاطلبوا منه الرزق، وبه استعينوا لنيل فضله وإِنعامه.

yacine414
2011-04-02, 09:15
سورة المنافقون



الكذب من صفات المنافقين الذميمة

دلائل كذب المنافقين

تحذير المؤمنين من الأموال والأولاد، وحثهم على الإنفاق



بَين يَدَيْ السُّورَة



* سورة "المنافقون" مدنية، شأنها شأن سائر السور المدنية، التي تعالج "التشريعات والأحكام" وتتحدث عن الإِسلام من زاويته العملية وهي القضايا التشريعية.



* والمحور الذي تدور عليه السورة الكريمة هو الحديث بإِسهاب عن النفاق والمنافقين، حتى سميت السورة بهذا الاسم الفاضح، الكاشف لأستار النفاق "سورة المنافقون".



* تناولت السورة الكريمة في البدء أخلاق المنافقين، وصفاتهم الذميمة التي من أظهرها الكذب، ومخالفة الظاهر للباطن، فإِنهم يقولون بألسنتهم ما لا تعتقده قلوبهم، ثم تآمرهم على الرسول صلى الله عليه وسلم وعلى المسلمين، وقد فضحتهم السورة وكشفت عن مخازيهم وإِجرامهم، فهم بتظاهرهم بالإِسلام يصدُّون الناس عن دين الله وينالون من دعوة الإِسلام ما لا يناله الكفار المعلن لكفره، ولذلك كان خطرهم أعظم، وضررهم أكبر وأجسم {إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار ولن تجد لهم نصيراً}.



* كما تحدثت السورة الكريمة عن مقالاتهم الشنيعة في حق الرسول صلى الله عليه وسلم، واعتقادهم بأنَّ دعوته ستضمحل وتتلاشى، وأنهم بعد عودتهم من "غزوة بني المصطلق" سيطردون الرسول والمؤمنين من المدينة المنورة، إِلى غير ما هنالك من أقوال شنيعة.



* وختمت السورة الكريمة بتحذير المؤمنين من أن ينشغلوا بزينة الدنيا ولهوها ومتاعها عن طاعة الله وعبادته شأن المنافقين، وبيّنت أن ذلك طريق الخسران، وأمر بالإِنفاق في سبيل الله ابتغاء مرضاة الله، قبل أن يفوت الأوان بانتهاء الأجل، فيتحسر الإِنسان ويندم حيث لا تنفع الحسرة والندم.



الكذب من صفات المنافقين الذميمة



{إِذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إِنك لرسولُ الله والله يعلم إِنَّك لرسولُهُ واللهُ يشهد إِن المنافقين لكاذبون(1)اتخذوا أيمْانهم جُنَّةً فصدُّوا عن سبيل الله إنَّهُم ساءَ ما كانوا يعملون(2)ذلك بأنَّهُم آمنوا ثُمَّ كفروا فطُبع على قلوبهم فهم لا يفقهون(3)وإِذا رأيتهم تعجبك أجسامهم وإِن يقولوا تسمع لقولهم كأنَّهم خُشبٌ مُّسنَّدةٌ يحسبون كلَّ صيحةٍ عليهم هم العدوُّ فاحذرهم قاتلهم اللهُ أنَّى يُؤفكون(4)}.



{إِذا جاءك المنافقون} أي إِذا أتاك يا محمد المنافقون وحضروا مجلسك كعبد الله بن سلول وأصحابه {قالوا نشهد إِنك لرسولُ الله} أي قالوا بألسنتهم نفاقاً ورياءً : نشهد بأنك يا محمد رسولُ الله، يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم قال أبو السعود : أكَّدوا كلامهم بإِنَّ واللام {إنك لرسول الله} للإِيذان بأنَّ شهادتهم هذه صادرة عن صميم قلوبهم، وخلوص اعتقادهم، ووفور رغبتهم ونشاطهم {واللهُ يعلم إِنك لرسوله} أي واللهُ جل وعلا يعلم أنك يا محمد رسولُه حقاً، لأنه هو الذي أرسلك، والجملةُ اعتراضية جيء بها لدفع توهم تكذيبهم في دعوى رسالته صلى الله عليه وسلم لئلا يتوهم السامع أن قولهم {إنك لرسولُ الله} كذبٌ في حدِّ ذاته قال ابن جزي : وقوله {واللهُ يعلم إِنك لرسوله} ليس من كلام المنافقين، وإِنما هو من كلام الله تعالى، ولو لم يذكره لكان يوهم أن قوله {واللهُ يشهد إِن المنافقين لكاذبون} إِبطالٌ للرسالة، فوسَّطه بين حكاية المنافقين وبين تكذيبهم ليزيل هذا الوهم وليحقق الرسالة ثم قال تعالى {واللهُ يشهدُ إِن المنافقين لكاذبون} أي يشهد بكذب المنافقين فيما أظهروه من شهادتهم وحلفهم بألسنتهم، لأنَّ من قال بلسانه شيئاً واعتقد خلافه فهو كاذب، والإِظهار في موضع الإِضمار {إن المنافقين} لذمهم وتسجيل هذه الصفة القبيحة عليهم، كما جاءت الصيغة مؤكدة بإِنَّ واللام زيادةً في التقرير والبيان {اتخذوا أيمْانهم جُنَّةً} أي اتخذوا أيمانهم الفاجرة وقاية وسُترةً يستترون بها من القتل قال الضحاك : هي حلفهم بالله إِنهم مسلمون {فصدُّوا عن سبيل الله} أي فمنعوا الناسَ عن الجهادِ، وعن الإِيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم قال الطبري : أي أعرضوا عن دين الله الذي بعث به نبيه صلى الله عليه وسلم وشريعته التي شرعها لخلقه وقال ابن كثير: إِن المنافقين اتقوا الناس بالأيمان الكاذبة، فاغترَّ بهم من لا يعرف جليَّة أمرهم، فاعتقدوا أنهم مسلمون، وهم في الباطن لا يألون الإِسلام وأهله خبالاً، فحصل بذلك ضررٌ كبير على كثير من الناس {إنهم ساء ما كانوا يعملون} أي قبح عملهم وصنيعهم لأنهم يظهرون بمظهر الإِيمان، وهم من أهل النفاق والعصيان، فبئست أعمالهم الخبيثة من نفاقهم وأيمانهم الكاذبة قال الصاوي: وساءَ كبئس في إرادة الذم، وفيها معنى التعجب وتعظيم أمرهم عند السامعين {ذلك بأنهم آمنوا ثم كفروا} أي ذلك الحلف الكاذب والصدُّ عن سبيل الله، بسبب أنهم آمنوا بألسنتهم وكفروا بقلوبهم قال أبو السعود: أي نطقوا بكلمة الشهادة عند المؤمنين، ثم نطقوا بالكفر عند شياطينهم المجرمين، وما فيه من الإِشارة بالبعيد "ذلك" للإِشعار ببعد منزلته في الشر {فطُبع على قلوبهم} أي ختم على قلوبهم فلا يصل إِليها هدى ولا نور {فهم لا يفقهون} أي فهم لا يعرفون الخير والإِيمان، ولا يفرقون بين الحسن والقبيح، لختم الله على قلوبهم {وإِذا رأيتهم تعجبك أجسامهم} أي وإِذا رأيتَ هؤلاء المنافقين، أعجبتك هيئاتهم ومناظرهم، لحسنها ونضارتها وضخامتها {وإِن يقولوا تسمع لقولهم} أي وإِن يتكلموا تُصغ لكلامهم، لفصاحتهم وذلاقة لسانهم قال ابن عباس: كان ابن سلول - رأس المنافقين - جسيماً، فصيحاً، ذلق اللسان، فإِذا قال سمع النبي صلى الله عليه وسلم قوله، وكذلك كان أصحابه إِذا حضروا مجلس النبي صلى الله عليه وسلم يعجب الناس بهياكلهم {كأنَّهم خُشبٌ مُسندة} أي يشبهون الأخشاب المسنَّدة إِلى الحائط، في كونهم صوراً خالية عن العلم والنظر، فهم أشباحٌ بلا أرواح، وأجسام بلا أحلام قال أبو حيان: شُبّهوا بالخشب لعزوب أفهامهم، وفراغ قلوبهم من الإِيمان، والجملة التشبيهية وصفٌ لهم بالجبن والخور، ولهذا قال {يحسبون كلَّ صيحةٍ عليهم} أي يظنون - لجبنهم وهلعهم - كل نداء وكل صوت، موجَّهاً إليهم، فهم دائماً في خوفٍ ووجل من أن يهتك الله أستارهم، ويكشف أسرارهم قال ابن كثير: كلما وقع أمر أو خوفٌ يعتقدون لجبنهم أنه نازل بهم قال مقاتل: إذا سمعوا نشدان ضالة، أو صياحاً بأي وجه كان، طارت عقولهم، وظنوا ذلك إيقاعاً بهم {هم العدوُّ فاحذرهم} أي هم الأعداء الكاملون في العداوة لك وللمؤمنين وإِن أظهروا الإِسلام، فاحذرهم ولا تأمنهم على سرّ، فإِنهم عيونٌ لأعدائك {قاتلهم اللهُ} جملة دعائية أي أخزاهم الله ولعنهم، وأبعدهم عن رحمته {أنَّى يُؤفكون} أي كيف يصرفون عن الهدى إِلى الضلال ؟ وكيف تضل عقولهم مع وضوح الدلائل والبراهين !؟ وفيه تعجيب من جهلهم وضلالهم، وانصرافهم عن الإِيمان بعد قيام البرهان، روى الإِمام أحمد عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إنَّ للمنافقين علامات يُعرفون بها: تحيتُهم لعنة، وطعامهم نُهبة، وغنيمتُهم غلول، لا يقربون المساجد إِلا هُجراً، ولا يأتون الصلاة إِلا دُبُراً، مستكبرين لا يألفون ولا يُؤْلفون، خشبٌ بالليل، صُخبٌ بالنهار).







دلائل كذب المنافقين



{ وإذا قيل لهم تعالوا يستغفر لكم رسولُ الله لوَّوا رؤوسهم ورأيتهم يصدُّون وهم مُّستكبرون(5)سواءٌ عليهم استغفرت لهم أم لم تستغفر لهم لن يغفر اللهُ لهم إنَّ الله لا يهدي القوم الفاسقين(6)هم الَّذين يقولون لا تنفقوا على من عند رسولِ اللهِ حتى ينفضُّوا وللهِ خزائنُ السَّماواتِ والأرض ولكنَّ المنافقين لا يفقهون(7)يقولون لئن رَّجعنا إِلى المدينة ليخرجنَّ الأعزُّ منها الأذلَّ وللهِ العزَّة ولرسوله وللمؤمنين ولكنَّ المنافقين لا يعلمون(8)}.



سبب النزول :

نزول الآية (5) :

{وإذا قيل لهم ..} : أخرج ابن جرير عن قتادة قال : قيل لعبد الله بن أبي : لو أتيت النبي صلى الله عليه وسلم، فاستغفر لك، فجعل يلوي رأسه، فنزلت فيه : {وإذا قيل لهم تعالوا يستغفر لكم رسول الله} الآية. وأخرج ابن المنذر عن عكرمة مثله.

أن النبي صلى الله عليه وسلم غزا بني المصطِلق على ماء يقال له (الْمُرَيْسِيع) من ناحية (قُدَيد) إلى الساحل، فازدحم أجير لعمر يقال له (جَهْجاه) مع حَليف لعبد الله بن أُبي يقال له (سِنان) على ماء (بالْمُشَلِّل) فصرخ جهجاه بالمهاجرين، وصرخ سِنان بالأنصار، فلَطَم جهجاه سناناً، فقال عبد الله بن أُبي: أوَ قد فعلوها ! والله ما مثلنا ومَثَلُهم إلا كما قال الأول : سَمِّن كلبك يأكلْك، أما والله لئن رجعنا إلى المدينة ليُخرجن الأعز منها الأذل - يعني محمداً صلى الله عليه وسلم - ثم قال لقومه: كُفُّوا طعامكم عن هذا الرجل، ولا تنفقوا على من عندّه حتى ينفضّوا ويتركوه، فقال زيد بن أرقم - وهو من رهط عبد الله -: أنت والله الذليل الْمُنْتَقَص في قومك، ومحمد صلى الله عليه وسلم في عز من الرحمن، ومودّة من المسلمين، والله لا أحبك بعد كلامك هذا أبداً، فقال عبد الله : اسكت إنما كنت ألعب. فأخبر زيد النبي صلى الله عليه وسلم بقوله، فأقسم بالله ما فعل ولا قال، فعذره النبي صلى الله عليه وسلم. قال زيد: فوجدت في نفسي ولامَني الناس، فنزلت سورة المنافقين في تصديق زيد وتكذيب عبد الله. فقيل لعبد الله: قد نزلت فيك ءايات شديدة، فاذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليستغفر لك، فألوى برأسه، فنزلت الآيات. [متفق عليه].



نزول الآية (6) :

{استغفر لهم ..} : أخرج ابن جرير عن عروة قال : لما نزلت : {استغفرْ لهم أو لا تَسْتغفرْ لهم إنْ تَسْتغفِرْ لهم سبعين مرةً فلَنْ يَغْفِرَ الله لهم} [التوبة : 80] قال النبي صلى الله عليه وسلم : "لأزيدن على السبعين"، فأنزل الله : {سواء عليهم أستغفرت لهم أم لم تستغفر لهم ..} الآية.



نزول الآيتين (7، 8) :

أخرج البخاري كما تقدم وأحمد وغيرهما عن زيد بن أرقم قال : سمعت عبد الله بن أُبيْ يقول لأصحابه : {لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا} فلئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل، فذكرت ذلك لعمِّي، فذكر ذلك عمي للنبي صلى الله عليه وسلم، فدعاني النبي صلى الله عليه وسلم، فحدثته، فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عبد الله بن أبي وأصحابه، فحلفوا ما قالوا، فكذَّبني، وصدّقه، فأصابني شيء لم يصبني مثله، فجلست في البيت، فقال عمي: ما أردتَ إلى أن كذبك رسول الله صلى الله عليه وسلم ومقَتك، فأنزل الله : {إذا جاءك المنافقون} فبعث إِليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقرأها، ثم قال : "إن الله قد صدَّقك".



{وإذا قيل لهم تعالوا يستغفر لكم رسولُ الله} أي وإِذا قيل لهؤلاء المنافقين : هلُمُّوا إِلى رسول الله حتى يطلب لكم المغفرة من الله {لوَّوا رؤوسهم} أي حركوها وهزوها استهزاءً واستكباراً {ورأيتهم يصدُّون وهم مستكبرون} أي وتراهم يعرضون عمَّا دُعوا إِليه، وهم متكبرون عن استغفار رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم، وجيء بصيغة المضارع ليدل على استمرارهم على الإِعراض والعناد قال المفسرون: لمَّا نزلت الآيات تفضح المنافقين وتكشف الأستار عنهم، مشى إِليهم أقرباؤهم من المؤمنين، وقالوا لهم: ويلكم لقد افتضحتم بالنفاق وأهلكتم أنفسكم، فائتوا رسول الله وتوبوا إِليه من النفاق واسألوه يستغفر لكم، فأبوا وحركوا رؤوسهم سخريةً واستهزاءً فنزلت الآية، ثم جاؤوا إِلى "ابن سلول" وقالوا له: امض إِلى رسول الله صلى الله عليه وسلم واعترفْ بذنبك يستغفر لك، فلوَّى رأسه إِنكاراً لهذا الرأي ثم قال لهم: لقد أشرتم عليَّ بالإِيمان فآمنتُ، وأشرتم عليَّ بأن أعطي زكاة مالي ففعلتُ، ولم يبق لكم إلاَّ أن تأمروني بالسجود لمحمد !! ثم بيَّن تعالى عدم فائدة الاستغفار لهم، لأنهم مردوا على النفاق فقال {سواءٌ عليهم استغفرت لهم أم لم تستغفر لهم} أي يتساوى الأمر بالنسبة لهم، فإِنه لا ينفع استغفارك لهم شيئاً، لفسقهم وخروجهم عن طاعة الله ورسوله قال الصاوي: والآية للتيئيس من إِيمانهم أي إن استغفارك يا محمد وعدمه سواء، فهم لا يؤمنون لسبق الشقاوة لهم {لن يغفر اللهُ لهم} أي لن يصفح الله عنهم لرسوخهم في الكفر، وإِصرارهم على العصيان، ثم علَّله بقوله {إنَّ الله لا يهدي القوم الفاسقين} أي لا يوفق للإِيمان، من كان فاسقاً خارجاً عن طاعة الرحمن .. ثم زاد تعالى في بيان قبائحهم وجرائمهم فقال {هم الذين يقولون لا تنفقوا على من عند رسولِ اللهِ حتى ينفضُّوا} أي هم الفجرة الذين قالوا لا تنفقوا على المهاجرين حتى يتفرقوا عن محمد قال أبو حيّان: والإِشارة إِلى ابن سلول ومن وافقه من قومه، سفَّه أحلامهم في أنهم ظنوا أن رزق المهاجرين بأيديهم، وما علموا أن ذلك بيد الله تعالى، وقولهم {على من عندَ رسول الله} هو على سبيل الهزء، إذ لو كانوا مقرين برسالته ما صدر منهم ما صدر، والظاهر أنهم لم ينطقوا بنفس ذلك اللفظ، ولكنه تعالى عبَّر به عن رسوله إكراماً له وإِجلالاً {وللهِ خزائنُ السماواتِ والأرض} أي هو تعالى بيده مفاتيح الرزق يعطي من يشاء ويمنع من يشاء، ولا يملك أحدٌ أن يمنع فضل الله عن عباده {ولكنَّ المنافقين لا يفقهون} أي ولكنَّ المنافقين لا يفهمون حكمة الله وتدبيره، فلذلك يقولون ما يقولون من مقالات الكفر والضلال .. ثم عدَّد تعالى بعض قبائحهم وأقوالهم الشنيعة فقال {يقولون لئن رجعنا إِلى المدينة} أي يقولون لئن رجعنا من هذه الغزوة - غزوة بني المصطلق - وعدنا إِلى بلدنا "المدينة المنورة" {ليخرجنَّ الأعزُّ منها الأذلَّ} أي لنجرجنَّ منها محمداً وصحبه، والقائل هو ابن سلول، وعنى بالأعز نفسه وأتباعه، وبالأذل رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معه قال المفسرون: لما قال ابن سلول ما قال ورجع إِلى المدينة، وقف له ولده "عبد الله" على باب المدينة واستلَّ سيفه، فجعل الناسُ يمرون به، فلما جاء أبوه قال له ابنه : وراءك، والله لا تدخل المدينة أبداً حتى تقول: إنَّ رسول الله هو الأعزُّ، وأنا الأذل فقالها، ثم جاء إِلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله : بلغني أنك تريد أن تقتل أبي، فإِن كنت فاعلاً فمرني فأنا أحمل إِليك رأسه !! فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: بل نترفق به ونحسن صحبته ما بقى معنا {وللهِ العزَّة ولرسوله وللمؤمنين} أي لله جل وعلا القوة والغلبة ولمن أعزه وأيده من رسوله والمؤمنين لا لغيرهم، والصيغة تفيد الحصر قال القرطبي: توهموا أنَّ العزة بكثرة الأموال والأتباع، فبيَّن الله أن العزة والمنعة لله ولرسوله وللمؤمنين {ولكنَّ المنافقين لا يعلمون} أي ولكنَّ المنافقين لفرط جهلهم وغرورهم لا يعلمون أن العزة والغلبة لأوليائه دون أعدائه.



تحذير المؤمنين من الأموال والأولاد، وحثهم على الإنفاق



{ يا أَيُّها الًّذين آمنوا لا تُلْهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله ومن يفعل ذلك فأولئك هم الخاسرون(9)وأنفقوا مما رزقناكم من قبل أن يأتي أحدَكُم الموتُ فيقول ربِّ لولا أخَّرتني إِلى أجلٍ قريب فأصَّدَّق وأكنْ من الصَّالحين(10)ولن يُؤَخِّر اللهُ نفساً إِذا جاءَ أجلُها والله خبير بما تعملون(11)}.



{يا أَيُّها الًّذين آمنوا لا تُلْهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله} لما ذكر قبائح المنافقين، نهى المؤمنين عن التشبه بهم في الاغترار بالأموال والأولاد ومعنى: لا تشغلكم أيها المؤمنون الأموال والأولاد عن طاعة الله وعبادته، وعن أداء ما ا فترضه عليكم من الصلاة، والزكاة، والحج، كما شغلت المنافقين قال أبو حيان: أي لا تشغلكم أموالكم بالسعي في نمائها، والتلذذ بجمعها، ولا أولادكم بسروركم بهم، وبالنظر في مصالحهم، عن ذكر الله وهو عام في الصلاة، والتسبيح، والتحميد، وسائر الطاعات {ومن يفعل ذلك فأولئك هم الخاسرون} أي ومن تشغله الدنيا عن طاعة الله وعبادته، فأولئك هم الكاملون في الخسران، حيث آثروا الحقير الفاني على العظيم الباقي، وفضلوا العاجل على الآجل {وأنفقوا مما رزقناكم} أي وأنفقوا في مرضاة الله، من بعض ما أعطيناكم وتفضلنا به عليكم من الأموال {من قبل أن يأتي أحدَكُم الموتُ} أي قبل أن يحلَّ الموتُ بالإِنسان، ويصبح في حالة الاحتضار {فيقول ربِّ لولا أخرتني إِلى أجلٍ قريب} أي فيقول عند تيقنه الموت: يا ربِّ هلاَّ أمهلتني وأخرت موتي إِلى زمنٍ قليل !! {فأصَّدق وأكنْ من الصالحين} أي فأتصدق وأحسن عملي، وأصبح تقياً صالحاً قال ابن كثير: كلُّ مفرطٍ يندم عند الاحتضار، ويسأل طول المدة ليستدرك ما فات، ولكن هيهات {ولن يُؤَخر اللهُ نفساً إِذا جاء أجلُها} أي ولن يمهل الله أحداً أياً كان إِذا انتهى أجله، ولن يزيد في عمره، وفيه تحريضٌ على المبادرة بأعمال الطاعات، حذراً أن يجيء الأجل وقد فرَّط ولم يستعد للقاء ربه {والله خبير بما تعملون} أي مطلع وعالم بأعمالكم من خير أو شر، ومجازيكم عليها.

yacine414
2011-04-02, 09:17
سورة التغابن



عظمة الله وآثار قدرته

الإخبار عن البعث، وأحوال الأمم المكذبة

الأمر بالاعتصام بالإيمان والتمسك بالقرآن

كل الأمور لا تخرج عن قضاء الله وقدره

التحذير من فتنة الأزواج والأولاد، والأمر بالإنفاق في سبيل الله





بَين يَدَيْ السُّورَة



* سورة التغابن من السور المدنية التي تعنى بالتشريع، ولكنَّ جوَّها جو السور المكية التي تعالج أصول العقيدة الإِسلامية.



* تحدثت السورة الكريمة عن جلال الله وعظمته وآثار قدرته، ثم تناولت موضوع الإِنسان المعترف بربه، والإِنسان الكافر الجاحد بآلاء الله.



* وضربت الأمثال بالقرون الماضية، والأمم الخالية، التي كذبت رسل الله، وما حلَّ بهم من العذاب والدمار، نتيجةً لكفرهم وعنادهم وضلالهم.



* وأقسمت السورة على أن البعث حقٌّ لا بدَّ منه، أقرَّ به المشركون أو أنكروه.



* وأمرت بطاعة الله وطاعة رسوله، وحذَّرت من الإِعراض عن دعوة الله.



* كما حذَّرت من عداوة بعض الزوجات والأولاد، فإِنهم كثيراً ما يمنعون الإِنسان عن الجهاد والهجرة.



* وختمت السورة بالأمر بالإِنفاق في سبيل الله لإِعلاء دينه، وحذرت من الشح والبخل، فإِن من صفات المؤمن الإِنفاق في سبيل الله ابتغاء مرضاته، وهو شطر الجهاد في سبيل الله.





عظمة الله وآثار قدرته



{يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ(1)هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ(2)خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ(3)يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ(4)}



{يُسبّح للهِ ما في السماوات وما في الأرض} أي ينزه الله تعالى ويمجده جميع ما في السماوات والأرض من مخلوقات، تنزيهاً دائماً مستمراً بدون انقطاع، وصيغة المضارع تفيد التجدد والاستمرار {له المُلكُ وله الحمدُ} أي له جل وعلا المُلك التام والتصرف الكامل في خلقه، وهو المستحق للثناء وحده، لأن جميع النعم منه سبحانه وتعالى، وقدَّم الجار والمجرور فيهما لإِفادة حصر الملك والحمد فيه سبحانه {وهو على كل شيءٍ قدير} أي قادر على كل شيء، يغني ويفقر، ويعز ويذل، وإذا أراد شيئاً فإِنما يقول له كن فيكون، وهو كالدليل لما تقدم من أنَّ الملك والحمد له سبحانه {هو الذي خلقكم فمنكم كافرٌ ومنكم مؤمن} هذا تفصيلٌ لبعض آثار قدرته أي هو الذي خلقكم أيها الناس بهذا الشكل البديع المحكم، فكان يجب على كل واحدٍ منكم الإِيمان به، لكنْ منكم من كفر بربه، ومنكم من آمن وصدَّق بخالقه، قال الطبري: أي منكم كافرٌ بخالقه وأنه هو الذي خلقه، ومنكم مصدِّق به موقنٌ أنه خالقه وبارئه، وقدَّم الكافر على المؤمن، لكثرة الكفار وقلة المؤمنين {وإِن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله} {وقليلٌ من عبادي الشكور} {واللهُ بما تعملون بصير} أي عالمٌ بأحوالكم، مطَّلعٌ على أعمالكم، لا تخفى عليه خافية من شؤونكم وسيجازيكم عليها .. ثم فصَّل تعالى آثار قدرته ودلائل وحدانيته فقال {خلق السَّماوات والأرض بالحقِّ} أي خلقهما بالحكمة البالغة، المتضمنة لمصالح الدنيا والدين، لا عبثاً ولا لهواً {وصوَّركم فأحسن صُوركم} أي خلقكم في أحسن صورة وأجمل شكل، فأتقن وأحكم خلقكم وتصويركم كقوله تعالى {لقد خلقنا الإِنسان في أحسن تقويم} فإِن من نظر في شكل الإِنسان وهيئته وتناسب أعضائه، علم أن صورته أحسن صورة بالنسبة لسائر أنواع الحيوان، ومن حسن صورته أنه خلق منتصباً غير منكب على وجهه {وإِليه المصيرُ} أي وإِليه تعالى وحده المرجع والمآب، فيجازي كلاً بعمله {يعلم ما في السماوات والأرض} أي يعلم ما في الكائنات من أجرامٍ ومخلوقات {ويعلم ما تسرون وما تعلنون} أي ويعلم ما تخفونه وما تظهرونه من نواياكم وأعمالكم {واللهُ عليمٌ بذات الصدور} أي عالم بما في الصدور من الأسرار والخفايا، فكيف تخفى عليه أعمالكم الظاهرة؟ قال أبو حيّان: نبَّه تعالى بعلمه بما في السماواتِ والأرض، ثم بعلمه بما يخفيه العباد وما يعلنونه، ثم بعلمه بما أكنَّته الصدور، على أنه تعالى لا يغيب عن علمه شيء، لا من الكليات ولا من الجزئيات، فابتدأ بالعلم الشامل، ثم بسرِّ العباد وعلانيتهم، ثم بما تنطوي عليه صدورهم، وهذا كله في معنى الوعيد، إِذ هو تعالى المجازي عليه بالثواب والعقاب ..



الإخبار عن البعث، وأحوال الأمم المكذبة



{أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ فَذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ(5)ذَلِكَ بِأَنَّهُ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللَّهُ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ(6)زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ(7)}



ثم ذكَّرهم تعالى بما حلَّ بالكفار قبلهم فقال {ألم يأتكم نبأ الذين كفروا من قبل} أي ألم يأتكم يا معشر قريش خبر كفار الأمم الماضية كقوم عاد وثمود، ماذا حلَّ بهم من العذاب والنكال!! {فذاقوا وبال أمرهم} أي فذاقوا العقوبة الوخيمة على كفرهم في الدنيا {ولهم عذابٌ أليم} أي ولهم في الآخرة عذاب شديد موجع {ذلك بأنه كانت تأتيهم رسلهم بالبينات} أي ذلك العذاب الذي ذاقوه في الدنيا وما سيذوقونه في الآخرة، بسبب أنه جاءتهم رسلهم بالمعجزات الواضحات، والبراهين الساطعات، الدالة على صدقهم {فقالوا أبشرٌ يهدوننا}؟ أي فقالوا على سبيل الاستغراب والتعجب: أرسلٌ من البشر يصيرون هداةً لنا، قال الرازي: أنكروا أن يكون الرسول بشراً، ولم ينكروا أن يكون معبودهم حجراً، وذلك لقلة عقولهم وسخافة أحلامهم {فكفروا وتولَّوا} أي فكفروا بالرسول، وأعرضوا عن الإِيمان واتباع هدى الرحمن {واستغنى اللهُ} أي استغنى الله عن طاعتهم وعبادتهم، قال الطبري: أي استغنى اللهُ عنهم، وعن إِيمانهم به وبرسله {واللهُ غنيٌ حميد} أي غنيٌ عن خلقه، محمودٌ في ذاته وصفاته، لا تنفعه طاعة، ولا تضره معصية، لأنه مستغنٍ عن العالمين.. ثم أخبر تعالى عن إِنكارهم للبعث بعد تكذيبهم للرسالة فقال {زعم الذين كفروا أنْ لنْ يُبعثوا} أي ادعى كفار مكة وظنوا أن الله لن يبعثهم من قبورهم بعد موتهم أبداً {قل بلى وربي لتبعثُنَّ} أي قل لهم يا محمد: ليس الأمر كما زعمتم، وأقسم بربي لتخرجن من قبوركم أحياء ولتبعثنَّ {ثم لتنبؤُنَّ بما عملتم} أي ثم لتخبرنَّ بجميع أعمالكم، صغيرها وكبيرها، جليلها وحقيرها، وتُجزون بها {وذلك على اللهِ يسيرٌ} أي وذلك البعث والجزاء، سهلٌ هينٌ على الله، لأن الإِعادة أسهل من الابتداء، قال الرازي: أنكروا البعث بعد أن صاروا تراباً، فأخبر تعالى أن إِعادتهم أهونُ في العقول من إنشائهم ..



الأمر بالاعتصام بالإيمان والتمسك بالقرآن



{فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنزَلْنَا وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ(8)يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ(9)وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ خَالِدِينَ فِيهَا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ(10)}



ولما بالغ في الإِخبار عن البعث، وذكر أحوال الأمم المكذبة، أمر بالاعتصام بالإِيمان والتمسك بالقرآن فقال {فآمنوا باللهِ ورسوله والنور الذي أنزلنا} أي فصدِّقوا بالله وبرسوله وبهذا القرآن الذي أنزله على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم فإِنه النور الوضاء، المبدّد للشبهات، كما يبدد النور الظلمات {واللهُ بما تعملون خبير} أي لا تخفى عليه خافية من أعمالكم {يوم يجمعكم ليوم الجمع} أي واذكروا ذلك اليوم الرهيب - يوم القيامة - الذي يجمع الله فيه الخلائق كلها في صعيد واحد للحساب والجزاء، قال ابن كثير: سُمي "يوم الجمع" لأن الله تعالى يجمع فيه الأولين والآخرين في صعيد واحد، يسمعهم الداعي وينفذهم البصر، كقوله تعالى {ذلك يومٌ مجموع له الناس وذلك يومٌ مشهود} {ذلك يومُ التَّغابن} أي ذلك هو اليوم الذي يظهر فيه غبن الكافر وخسارته بتركه الإِيمان، وذلك أن المؤمنين اشتروا الجنة بترك الدنيا، واشترى الكفار النار بترك الآخرة، فظهر غبن الكافرين، قال الخازن: وأصله من الغبن وهو أخذ الشيء بدون قيمته، والمغبونُ من غُبن أهله ومنازله في الجنة، وذلك لأن كل كافر له أهلٌ ومنزل في الجنة لو أسلم، فيظهر يومئذٍ غبن كل كافرٍ بتركه الإِيمان، ويظهر غبن كل مؤمن بتقصيره في الإِحسان {ومن يؤمنْ بالله ويعمل صالحاً يكفِّر عنه سيئاته} أي ومن يصدِّق بالله ويعمل عملاً صالحاً، يمح الله تعالى عنه ذنوبه {ويدخله جناتٍ تجري من تحتها الأنهار} أي ويدخله جنات النعيم، التي تجري من تحت أشجارها وقصورها أنهارُ الجنة {خالدين فيها أبداً} أي مقيمين في تلك الجنات أبد الحياة، لا يموتون ولا يُخرجون منها {ذلك الفوزُ العظيم} أي ذلك هو الفوز الذي لا فوز وراءه، والسعادة التي لا سعادة بعدها {والذينَ كفروا وكذبوا بآياتنا} أي والذين جحدوا بوحدانية الله وقدرته، وكذبوا بالدلائل الدالة على البعث وبآيات القرآن الكريم {أُولئك أصحابُ النار خالدين فيها} أي أولئك مآلهم جهنم، ماكثين فيها أبداً {وبئس المصير} أي وبئست النار مرجعاً ومستقراً لأهل الكفر والضلال ..



كلالأمور لا تخرج عن قضاء الله وقدره



{مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ(11)وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ(12)اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ(13)}



ثم أخبر تعالى بأن كل ما يحدث في الكون بقضائه وإِرادته فقال {ما أصاب من مُصيبةٍ إِلاَّ بإِذنِ الله} أي ما أصاب أحداً مصيبةٌ في نفسه أو ماله أو ولده، إِلا بقضاء الله وقدره {ومن يؤمن بالله يهد قلبه} أي ومن يصدِّق بالله ويعلم أن كل حادثةٍ بقضائه وقدره، يهدِ قلبه للصبر والرضا ويثبته على الإِيمان، قال ابن عباس: يهدِ قلبه لليقين، حتى يعلم أنَّ ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه وقال علقمة: هو الرجل تصيبه المصيبة فيعلم أنها من عند الله فيرضى بها ويُسلم لقضاء الله {واللهُ بكل شيءٍ عليم} أي هو تعالى عالمٌ بكل الأشياء، لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء، قال القرطبي: أي لا يخفى عليه تسليم من انقاد وسلَّم لأمره، ولا كراهة من كرهه ولم يرض بقضائه {وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول} أي أطيعوا أمر الله وأمر رسوله في كل ما شرع لكم من الأوامر والنواهي، وكرَّر الأمر للتأكيد ولبيان أن طاعة الرسول واجبة كطاعة الله {فإِن توليتم فإِنما على رسولنا البلاغُ المبين} أي فإِن أعرضتم عن إجابة الرسول فيما دعاكم إِليه من الهداية والإِيمان فليس عليه ضرر إِنما ضرر ذلك عليكم، إِذ ليس على الرسول إِلا تبليغ الرسالة وقد أدى ما عليه، والله ينتقم ممن عصاه وخالف أمره {اللهُ لا إِله إِلا هوَ} أ ي اللهُ جل وعلا لا معبود سواه، ولا خالق غيره، عليه الاعتماد وإِليه المرجع والمآب {وعلى الله فليتوكل المؤمنون} أي فعليه وحده توكلوا أيها المؤمنون في جميع أموركم، قال الصاوي: وهو تحريضٌ وحثٌ للنبي صلى الله عليه وسلم على التوكل على الله، والالتجاء إِليه، وفيه تعليمٌ للأمة ذلك، بأن يلتجئوا إِلى الله ويثقوا بنصره وتأييده.





التحذير من فتنة الأزواج والأولاد، والأمر بالإنفاق في سبيل الله



{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ(14)إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ(15)فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنفِقُوا خَيْرًا لأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ(16)إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ(17)عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ(18)}



سبب النزول:

نزول الآية (14):

{يا أيها الذين آمنوا إن من أزواجكم}: أخرج الترمذي والحاكم وابن جرير عن ابن عباس قال: نزلت هذه الآية: {يا أيها الذين آمنوا إن من أزواجكم} في قوم من أهل مكة، أسلموا، فأبى أزواجهم وأولادهم أن يَدَعوهم، فأتوا المدينة، فلما قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، رأوا الناس قد فَقُهوا، فهمُّوا أن يعاقبوهم، فأنزل الله: {إن تعفوا وتصفحوا} الآية.



سبب نزول الآية (16):

{فاتقوا الله}: أخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير قال: لما نزلت: {اتقوا الله حق تقاته} اشتد على القوم العمل، فقاموا حتى وَرِمتْ عراقيبهم، وتقرحتْ جِباهم، فأنزل الله تخفيفاً على المسلمين: {فاتقوا الله ما استطعتم}.



{يا أيها الذين آمنوا إِنَّ من أزواجكم وأولادكم عدواً لكم فاحْذروهم} أي يا معشر المؤمنين إِن بعض الزوجات والأولاد أعداء لكم، يصدونكم عن سبيل الله، ويثبطونكم عن طاعة الله، فاحذروا أن تستجيبوا لهم وتطيعوهم، قال المفسرون: إِن قوماً أسلموا وأرادوا الهجرة، فثبطهم أزواجهم وأولادهم عن الهجرة، فلم يهاجروا إِلا بعد مدة، فلما أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم رأوا الناس قد فقهوا في الدين، فندموا وأسفوا وهمُّوا بمعاقبة أزواجهم وأولادهم فنزلت الآية الكريمة، والآية تعم كلَّ من انشغل عن طاعة الله بالأزواج والأولاد {وإِنْ تعفوا وتصفحوا وتغفروا} أي وإِن عفوتم عنهم في تثبيطكم عن الخير، وصفحتم عما صدر منهم، وغفرتم لهم زلاتهم {فإِنَّ اللهَ غفورٌ رحيم} أي فإِن الله واسع المغفرة عظيم الرحمة، يعاملكم بمثل ما عاملتم {إنما أموالكم وأولادكم فتنةٌ} أي ليست الأموالُ والأولادُ إِلاّ اختباراً وابتلاءً من الله تعالى لخلقه، ليعلم من يطيعه ومن يعصيه، وقدَّم المال لأن فتنته أشدُّ {واللهُ عنده أجرٌ عظيمٌ} أي وما عند الله من الأجر والثواب أعظم من متاع الدنيا، فلا تشغلكم الأموال والأولاد عن طاعة الله، والآية ترغيبٌ في الآخرة وتزهيدٌ في الدنيا، وفي الأموال والأولاد التي فتن الناسُ بها {فاتقوا اللهَ ما استطعتم} أي ابذلوا أيها المؤمنون في طاعة الله جهدكم وطاقتكم، ولا تكلفوا أنفسكم ما لا تطيقون، قال المفسرون: هذا في المأمورات وفضائل الأعمال يأتي الإِنسان منها بقدر طاقته، وأما في المحظورات فلا بدَّ من اجتنابها بالكلية ويدل عليه ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إذا أمرتكم بأمرٍ فائتوا منه ما استطعتم، وما نهيتكم عنه فاجتنبوه) {واسمعوا وأطيعوا} أي واسمعوا ما توعظون به، وأطيعوا فيما تُؤْمرون به وتُنهون عنه {وأنفقوا خيراً لأنفسكم} أي وأنفقوا في سبيل الله من أموالكم، يكنْ خيراً لأنفسكم {ومن يُوق شُحَّ نفسه فأولئك هم المفلحون} أي ومن سلم من البخل والطمع الذي تدعو إِليه النفس، فقد فاز بكل مطلوب {إنْ تقرضوا الله قرضاً حسناً يُضاعفه لكم} أي إِذا تصدقتم في سبيل الله عن طيب نفس، فإِن الله يضاعف لكم الأجر والثواب، وفي تصوير الصدقة بصورة القرض تلطفٌ بليغ في الإِحسان إِلى الفقراء {ويغفر لكم} أي ويمحُ عنكم سيئاتكم {والله شكورٌ حليم} أي شاكرٌ للمحسن إِحسانه حليمٌ بالعباد حيث لا يعاجلهم بالعقوبة مع كثرة ذنوبهم {عالم الغيبِ والشَّهادة} أي هو تعالى العالم بما غاب وحضر، لا تخفى عليه خافية {العزيز الحكيم} أي الغالب في ملكه الحكيم في صنعه.

yacine414
2011-04-02, 09:19
سورة الطلاق



أحكام الطلاق والعدة وثمرات تقوى الله

عدة المطلقة التي لا تحيض: كبيرة أو صغيرة أو حاملاً

السكنى والنفقة للمعتدة، وأجرة الرضاع

التحذير من عصيان الله وتعدي حدوده





بَين يَدَيْ السُّورَة





* سورة الطلاق مدنية وقد تناولت بعض الأحكام التشريعية المتعلقة بأحوال الزوجين، كبيان أحكام الطلاق السني وكيفيته، وما يترتب على الطلاق من العدة، والنفقة، والسكنى، وأجر المرضع إِلى غير ما هنالك من أحكام.



* وتناولت السورة الكريمة في البدء أحكام الطلاق - الطلاق السُني، والطلاق البدعي - فأمرت المؤمنين بسلوك أفضل الطرق، عند تعذر استمرار الحياة الزوجية، ودعت إِلى تطليق الزوجة في الوقت المناسب وعلى الوجه المشروع، وهو أن يطلقها طاهراً من غير جماع، ثم يتركها إِلى انقضاء عدتها.



* وفي هذا التوجيه الإِلهي دعوةٌ للرجال أن يتمهلوا ولا يسرعوا في فصل عرى الزوجية، فإِن الطلاق أبغض الحلال إِلى الله، ولولا الضرورات القسرية لما أُبيح الطلاق لأنه هدم للأسرة,



* ودعت السورة إِلى إِحصاء العدة لضبط انتهائها، لئلا تختلط الأنساب، ولئلا يطول الأمد على المطلَّقة فيلحقها الضرر، ودعت إِلى الوقوف عند حدود الله، وعدم عصيان أوامره.



* وتناولت السورة أحكام العدة، فبينت عدة اليائس التي انقطع عنها دم الحيض لكبرٍ أو مرض، وكذلك عدة الصغيرة، وعدة الحامل فبينته أوضح بيان مع التوجيه والإِرشاد.



*وفي خلال تلك الأحكام التشريعية تكررت الدعوة إِلى "تقوى الله" بالترغيب تارةً، وبالترهيب أُخرى، لئلا يقع حيفٌ أو ظلم من أحد الزوجين، كما وضحت أحكام السكنى والنفقة.



* وختمت السورة بالتحذير من تعدي حدود الله، وضربت الأمثلة بالأمم الباغية التي عتت عن أمر الله، وما ذاقت من الوبال والدمار، ثم أشارت إِلى قدرة الله في خلق سبع سماوات طباق، وخلق الأرضين، وكلها براهين على وحدانية رب العالمين.





أحكام الطلاق والعدة وثمرات تقوى الله

{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا(1)فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَى عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا(2)وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا(3)}



سبب النزول:

نزول الآية (1):

أخرج البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي والدارقطني عن ابن عمر: "أنه طلّق امرأته، وهي حائض، فذكر ذلك عمر لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فتغيظ منه، ثم قال: ليراجعْها ثم يمسكها حتى تطهر، ثم تحيض، فتطهر، فإن بدا له أن يطلِّقها فليطلّقها طاهراً قبل أن يمسَّها، فتلك العدة التي أمر بها الله عز وجل".



سبب نزول الآية (2):

أخرج ابن مردويه والخطيب عن ابن عباس قال: "جاء عَوْف بن مالك الأشجعي، فقال: يا رسول الله، إن ابني أسره العدو، وجزعت أمه، فما تأمرني؟ قال: آمرك وإياها أن تستكثروا من: {لا حول ولا قوة إلا بالله} فقالت المرأة: نعم ما أمرك، فجعلا يكثران منها، فتغفل عنه العدو، فاستاق غنمهم، فجاء بها إلى أبيه، فنزلت: {ومن يتق الله يجعل له مخرجاً}".



{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ} الخطابُ للنبي صلى الله عليه وسلم والحكم عام له ولأمته، وخصَّ هو بالنداء صلى الله عليه وسلم تعظيماً له، كما يقال لرئيس القوم وكبيرهم يا فلان افعلوا أي افعل أنت وقومك، فهو نداء على سبيل التكريم والتعظيم، قال القرطبي: الخطابُ للنبي صلى الله عليه وسلم خوطب بلفظ الجماعة {طلقتم} تعظيماً وتفخيماً والمعنى: يا أيها النبي ويا أيها المؤمنون إِذا أردتم تطليق النساء {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} أي فطلقوهن مستقبلات لعدتهن، وذلك في الطهر، ولا تطلقوهن في الحيض، قال مجاهد: أي طاهراً من غير جماع لقوله صلى الله عليه وسلم: (فليطلقها طاهراً قبل أن يمسَّها، فتلك العدة التي أمر الله تعالى أن يُطلَّق لها النساء) قال المفسرون: وإِنما نُهي عن طلاق المرأة وقت الحيض لئلا تطول عليها العدة فتتضرر، ولأن حالة الحيض منفِّرة للزوج، تجعله يتسرع في طلاقها بخلاف ما إِذا كانت طاهراً، وكونه لم يجامعها في ذلك الطهر، لئلا يحصل من ذلك الوطء حملٌ، فتنتقل العدة من الحيض لوضع الحمل وفي ذلك ضرر ظاهر {وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ} أي اضبطوها وأكملوها ثلاثة أقراء كاملة لئلا تختلط الأنساب {وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ} أي خافوا الله ربَّ العالمين، بامتثال أوامره واجتناب نواهيه {لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ} أي لا تخرجوهن من مساكنهن، بعد فراقكم لهن إِلى أن تنقضي عدتهن {وَلا يَخْرُجْنَ إِلا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} أي ولا يخرجن من البيوت حتى تنقضي عدتهن، إلا إذا قارفت المطلقة عملاً قبيحاً كالزنى فتخرج لإِقامة الحد عليها، قال ابن جزي: نهى الله سبحانه وتعالى أن يُخرج الرجلُ المرأة المطلَّقة من المسكن الذي طلقها فيه، ونهاها هي أن تخرج باختيارها، فلا يجوز لها المبيت خارجاً عن بيتها، ولا أن تغيب عنه نهاراً إِلا لضرورة التصرف، وذلك لحفظ النسب وصيانة المرأة، واختلف في الفاحشة التي تبيح خروج المعتدة فقيل: إِنها الزنى فتخرج لإِقامة الحد عليها، وقيل إِنه سوء الكلام مع الأصهار وبذاءة اللسان فتخرج ويسقط حقها من السكنى، ويؤيده قراءة "إلا أن يفحشن عليكم" {وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ} أي وهذه الأحكام هي شرائع الله ومحارمه {وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} أي ومن يخرج عن هذه الأحكام، ويتجاوزها إِلى غيرها ولا يأتمر بها، فقد ظلم نفسه بتعريضها للعقاب، وأضرَّ بها حيث فوَّت على نفسه إِمكان إِرجاع زوجته إِليه، قال الرازي: وهذا تشديدٌ فيمن يتعدى طلاق السنة، ومن يطلق لغير العدة {لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا} أي لا تعرف أيها السامع ماذا يُحدِث اللهُ بعد ذلك الطلاق من الأمر؟ فلعل الله يقلّب قلبه من بغضها إِلى محبتها، ومن الرغبة عنها إِلى الرغبة فيها، فيجعله راغباً في زوجته بعدما كان كارهاً لها، قال ابن عباس: يريد الندم على طلاقها، والمحبة لرجعتها في العدة {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ} أي فإِذا شارفن على انقضاء العدة وقاربن ذلك {فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} أي فراجعوهنَّ إِلى عصمة النكاح مع الإِحسان في صحبتهن كما أمر الله، أو اتركوهن حتى تنقضي عدتهن فيملكن أنفسهن، قال المفسرون: الإِمساك بالمعروف هو إِحسان العشرة وتوفية النفقة، من غير قصد المضارة في الرجعة لتطول عليها العدة، والفراق بالمعروف هو أداء الصَّداق، والمتعة عند الطلاق، والوفاء بالشروط مع توفية جميع حقوقها {وَأَشْهِدُوا ذَوَى عَدْلٍ مِنْكُمْ} أي وأشهدوا عند الطلاق أو الرجعة، شخصين من أهل العدالة والاستقامة ممن تثقون في دينهما وأمانتهما، قال أبو حيّان: وهذا الإِشهاد مندوبٌ إِليه عند أبي حنيفة كقوله تعالى {وأشهدوا إِذا تبايعتم} وعند الشافعية واجبٌ في الرجعة، مندوبٌ إِليه في الفرقة {وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ} أي اشهدوا بالحق دون تحيز لأحد، خالصاً لوجه الله تعالى من غير تبديل ولا تغيير، ودون مراعاةٍ للمشهود له أو المشهود عليه {ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} أي هذا الذي شرعناه من الأحكام، إِنما ينتفع ويتعظ به المؤمن الذي يخشى الله، ويخاف الحساب والعقاب في الدار الآخرة {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ} أي ومن يراقب الله ويقف عند حدوده، يجعل له من كل همٍ فرجاً، ومن كل ضيقٍ مخرجاً، ويرزقه من وجه لا يخطر بباله ولا يعلمه، قال مجاهد: كنت عند ابن عباس فجاءه رجلٌ فقال: إِنه طلَّق امرأته ثلاثاً، فسكت حتى ظننت أنه رادها إِليه، ثم قال: ينطلق أحدكم فيركب أحموقته ثم يقول: يا ابن عباس، يا ابن عباس!! والله تعالى يقول {ومن يتق الله يجعل له مخرجاً} وإِنك لم تتق الله فلا أجد لك مخرجاً، عصيت ربك وبانت منك امرأتك، وقال المفسرون: الآية عامة وقد نزلت في "عوف بن مالك الأشجعي" أسر المشركون ابنه، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وشكا إِليه الفاقة وقال: إن العدوَّ أسر ابني وجزعتْ أمه فما تأمرني؟ فقال صلى الله عليه وسلم له: اتق الله واصبر، وآمرك وإِياها أن تستكثروا من قول "لا حول ولا قوة إلا بالله" ففعل هو وامرأته، فبينا هو في بيته إذ قرع ابنه الباب، ومعه مائة من الإِبل غفل عنها العدو فاستاقها فنزلت {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ} {وَمَنْ يتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} أي ومن يعتمد على الله، ويثقْ به فيما أصابه ونابه، فإِن الله كافيه، قال الصاوي: أي من فوَّض إِليه أمره كفاه ما أهمَّه، والأخذُ بالأسباب لا ينافي التوكل، لأنه مأمور به ولكنْ لا يعتمد على تلك الأسباب، وفي الحديث (لو توكلتم على الله حقَّ توكله لرزقكم كما يرزق الطير، تغدو خماصاً وتروح بطاناً) {إنَّ اللهَ بالغُ أمرهِ} أي نافذُ أمره في جميع خلقه، يبلغ ما يريد ولا يعجزه شيء، قال ابن جزي: وهذا حض على التوكل وتأكيدٌ له،لأنالعبد إِذا تحقق أن الأمور كلها بيدالله، توكَّل عل الله وحده ولم يعوِّل على سواه {إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا} أي قد جعل الله لكلِّ أمرٍ من الأمور، مقداراً معلوماً ووقتاً محدوداً، حسب الحكمة الأزلية، قال القرطبي: أي جعل لكلِّ شيءٍ من الشدة والرجاء أجلاً ينتهي إِليه.





عدة المطلقة التي لا تحيض: كبيرة أو صغيرة أو حاملاً



{وَاللائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنْ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللائِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُوْلاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا(4)ذَلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنزَلَهُ إِلَيْكُمْ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا(5)}



سبب النزول:

نزول الآية (4):

أخرج ابن جرير وإِسحاق بن راهويه والحاكم والبيهقي عن اُبيْ بن كعب قال: لما نزلت الآية التي في سورة البقرة في عَدَد من عِدَد النساءَ، قالوا : قد بقي عدد من عِدَد النساء لم يذكرن: الصغار والكبار اللاتي قد انقطع عنهن الحيض، وأولات الأحمال، فأنزلت: {واللائي يئسن من المحيض} الآية.



ثم بيَّن سبحانه حكم المطلَّقة التي لا تحيض لصغرها أو لكبر سنها فقال {وَاللائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنْ ارْتَبْتُمْ} أي والنسوة اللواتي انقطع حيضهن لكبر سنهنَّ، إِن شككتم وجهلتم كيف تكون عدتهن؟ فهذا حكمهن {فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ} أي فعدةُ الواحدة منهن ثلاثة أشهر، كل شهرٍ يقوم مقام حيضة {وَاللائِي لَمْ يَحِضْنَ} أي وكذلك اللواتي لم يحضن لصغرهن عدتهن ثلاثة أشهر {وَأُوْلاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} أي والمرأة الحامل تنتهي عدتها بوضع الحمل، سواءً كانت مطلقة، أو متوفى عنها زوجها {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا} أي ومن يخشى الله في أقواله وأفعاله، ويجتنب ما حرَّم الله عليه، يسهِّل عليه أمره ويوفقه لكل خير {ذَلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنزَلَهُ إِلَيْكُمْ} أي ذلك هو حكم الله وشرعه الحكيم، أنزله عليكم أيها المؤمنون لتأتمروا به، وتعملوا بمقتضاه {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا} أي ومن يتَّق ربه يمح عنه ذنوبه، ويضاعف له الأجر والثواب، قال الصاوي: كرر التقوى لعلمه سبحانه وتعالى أن النساء ناقصات عقلٍ ودين، فلا يصبر على أمورهن إِلا أهل التقوى، وقال أبو حيّان: لمَّا كان الكلام في أمر المطلقات، وكنَّ لا يطلَّقن إِلا عن بغض أزواجهنَّ لهنَّ، وقد ينسب الزوج إِليها ما يشينها وينفِّر الخُطَّاب عنها، فلذلك تكرر الأمر بالتقوى، وجاء مبرزاً في صورة شرط وجزاء {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ } الآية.



السكنى والنفقة للمعتدة، وأجرة الرضاع



{أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى(6)لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا(7)}



{أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ} أي أسكنوا هؤلاء المطلقات في بعض مساكنكم التي تسكنونها، على قدر طاقتكم ومقدرتكم، فإِن كان موسراً وسَّع عليها في المسكن والنفقة، وإِن كان فقيراً فعلى قدر الطاقة {وَلا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ} أي ولا تضيقوا عليهن في السكنى والنفقة، حتى تضطروهن إِلى الخروج أو الافتداء {وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ} أي وإِن كانت المطلَّقة حاملاً {فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} أي فعلى الزوج أن ينفق عليها - ولو طالت مدة الحمل - حتى تضع حملها {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ} أي فإِذا ولدت ورضيت أن ترضع له ولده {فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} أي فعلى الرجل أن يدفع لها أجر الرضاعة، لأن الأولاد ينسبون إِلى الآباء، قال ابن جزي: والمعنى إِن أرضع هؤلاء الزوجات المطلقات أولادكم، فآتوهنَّ أجرة الرضاع وهي النفقة وسائر المؤن {وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ} أي وليأمر كلٌ منهما صاحبه بالخير، من المسامحة والرفق والإِحسان، قال القرطبي: أي ولْيقبل بعضكم من بعض ما أمره به من المعروف الجميل، والمعروف منها: إِرضاعُ الولد من غير أجرة، والمعروف منه، توفيرُ الأجرة عليها للإِرضاع {وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ} أي تضايقتم وتشددتم، وعسر الاتفاق بين الزوجين، فأبى الزوج أن يدفع لها ما تطلب، وأبت الزوجة أن ترضعه بأنقص من ذلك الأجر {فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى} أي فليستأجر لولده مرضعةً غيرها، وهو خبرٌ بمعنى الأمر أي فليسترضعْ لولده مرضعةً أُخرى، قال أبو حيان: وفيه عتابٌ للأم لطيف كما تقول لمن تطلب منه حاجة فيتوانى عنها: سيقضيها غيرك، تريد أنها لن تبقى غير مقضية وأنت ملوم، قال الضحاك: إِن أبت الأم أن ترضع استأجر لولده أخرى، فإِن لم يقبل أُجبرت أمه على الرضاع بالأجر {لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ} هذا بيانٌ لقدر الإِنفاق والمعنى: لينفقْ الزوج على زوجته وعلى ولده الصغير، على قدر وسعه وطاقته، قال ابن جزي: وهو أمرٌ بأن ينفق كل واحد على مقدار حاله، فلا يكلف الزوج ما لا يطيق، ولا تُضيَّع الزوجة بل يكون الحال معتدلاً، وفي الآية دليلٌ على أن النفقة تختلف باختلاف أحوال الناس يسراً أو عسراً {وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ} أي ومن ضُيّق عليه رزقه فكان دون الكفاية {فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ} أي فلينفق على مقدار طاقته، وعلى قدر ما آتاه الله من المال {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا مَا آتَاهَا} أي لا يكلف الله أحداً إِلا بقدر طاقته واستطاعته، فلا يكلف الفقير مثل ما يكلف الغني، قال أبو السعود: وفيه تطييبٌ لقلب المعسر، وترغيبٌ له في بذل مجهوده، وقد أكد ذلك الوعد بقوله {سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا} أي سيجعل الله بعد الضيق الغنى، وبعد الشدة السعة والرخاء، وفيه بشارة للفقراء بفتح أبواب الرزق عليهم.



التحذير من عصيان الله وتعدي حدوده



{وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَابًا شَدِيدًا وَعَذَّبْنَاهَا عَذَابًا نُكْرًا(8)فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْرًا(9)أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا(10) رَسُولاً يَتْلُو عَلَيْكُمْ ءاياتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقًا(11)اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنْ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا(12)}



ثم حذَّر تعالى من عصيانه وتعدي حدوده، وضرب الأمثال بالأمم السابقة فقال {وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ} أي وكثير من أهل قرية من الأمم السالفة {عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ} أي طغت وتمردت على أوامر الله وأوامر رسله {فَحَاسَبْنَاهَا حِسَابًا شَدِيدًا} أي فجازيناها على عصيانها وطغيانها بأنواع العذاب الأليم، من الجوع والقحط وعذاب الاستئصال {وَعَذَّبْنَاهَا عَذَابًا نُكْرًا} أي عذاباً منكراً عظيماً يفوق التصور {فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا} أي فذاقت عاقبة كفرها وطغيانها وتمردها على أوامر الله {وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْرًا} أي وكانت نتيجة بغيها الهلاك والدمار، والخسران الذي ما بعده خسران .. ولمّا ذكر ما حلَّ بالأمم الطاغية، أمر المؤمنين بتقوى الله، تحذيراً من عقابه لئلا يصيبهم ما أصاب أولئك المجرمين فقال {أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا} أي هيأ الله لهم في الآخرة عذاب جهنم الشديد المؤبد {فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ} أي فخافوا الله واحذروا بطشه وانتقامه يا أصحاب العقول السليمة {الَّذِينَ آمَنُوا} أي أنتم يا معشر المؤمنين الذين صدقتم بالله ورسوله {قَدْ أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا} أي قد أنزل الله إِليكم وحياً يتلى وهو القرآنُ الحكيم {رَسُولاً يَتْلُو عَلَيْكُمْ ءاياتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ} أي وأرسل إِليكم رسولاً وهو محمد صلى الله عليه وسلم يقرأ عليكم ءاياتِ الله، واضحات جليات، تبيِّن الحلال والحرام وما تحتاجون إِليه من الأحكام، قال أبو حيّان: والظاهر أن الذكر هو القرآن، وأن الرسول هو محمد صلى الله عليه وسلم {لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} أي ليخرج المؤمنين المتقين، من الضلالة إِلى الهدى، ومن ظلمة الكفر والجهل إِلى نور الإِيمان والعلم {وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا} أي ومن يُصدق بالله ويعمل بطاعته {يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ} أي يدخله في الآخرة جنات النعيم، تجري من تحت قصورها أنهار الجنة {خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا} أي ماكثين في تلك الجنان - جنان الخلد - أبداً لا يخرجون منها ولا يموتون {قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقًا} أي قد طيَّب الله رزقهم في الجنة ووسَّعه لهم، لأن نعيمها دائم لا ينقطع، قال الطبري: أي وسَّع لهم في الجنات الرزق، وهو ما رزقهم من المطاعم والمشارب وسائر ما أعدَّ لأوليائه فيها فطيَّبه لهم، وفي الآية معنى التعجب والتعظيم لما رزق الله المؤمن من الثواب .. ثم أشار تعالى إِلى آثار قدرته، وعظيم سلطانه وجلاله فقال {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنْ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ} أي اللهُ العظيم الكبير هو الذي خلق بقدرته سبع سماواتٍ طباقاً، ومن الأرض كذلك خلق سبع أرضين بعضها فوق بعض بدون فتوق بخلاف السماوات {يَتَنَزَّلُ الأَمْرُ بَيْنَهُنَّ} أي يتنزل وحيُ الله ويجري أمره وقضاؤه بين السماوات والأرضين {لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} أي لتعلموا أن من قدر على خلق ذلك قادر على كل شيءٍ {وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا} أي ولتعملوا أنه تعالى عالم بكل شي، لا تخفى عليه خافية.

yacine414
2011-04-02, 09:19
سورة التحريم



أحوال النبي صلى الله عليه وسلم مع بعض نسائه

التحذير من النار، والأمر بالتوبة النصوح

نماذج من النساء المؤمنات والكافرات



بَين يَدَيْ السُّورَة



* سورة التحريم من السور المدنية التي تتناول الشؤون التشريعية، وهي هنا تعالج قضايا وأحكاماً تتعلق "ببيت النبوة" وبأُمهات المؤمنين أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم الطاهرات، وذلك في إِطار تهيئة البيت المسلم، والنموذج الأكمل للأسرة السعيدة.



* تناولت السورة الكريمة في البدء الحديث عن تحريم الرسول صلى الله عليه وسلم لجاريته ومملوكته "مارية القبطية" على نفسه، وامتناعه عن معاشرتها إِرضاءً لرغبة بعض زوجاته الطاهرات، وجاء العتاب له لطيفاً رقيقاً، يشف عن عناية الله بعبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم أن يُضيّق على نفسه ما وسَّعه الله له {يا أيها النبيُ لم تُحرّمُ ما أحلَّ اللهُ لك تبتغي مرضاة أزواجك ..} الآية.



* ثم تناولت السورة أمراً على جانب كبير من الخطورة ألا وهو "إِفشاء السر" الذي يكون بين الزوجين، والذي يهدِّد الحياة الزوجية، وضربت المثل على ذلك برسول الله صلى الله عليه وسلم حين أسرَّ إِلى حفصة بسرٍّ واستكتمها إِياه، فأفشته إِلى عائشة حتى شاع الأمر وذاع، مما أغضب الرسول حتى همَّ بتطليق أزواجه {وإِذْ أسرَّ النبي إِلى بعض أزواجه حديثاً ..} الآية.



* وحملت السورة الكريمة حملة شديدةً عنيفة، على أزواج النبي صلى الله عليه وسلم حين حدث ما حدث بينهن من التنافس، وغيرة بعضهن من بعض لأمورٍ يسيرة، وتوعدتهن بإِبدال الله لرسوله عليه السلام بنساءٍ خير منهنَّ، انتصاراً لرسول الله صلى الله عليه وسلم {عسى ربه إِن طلقكن أن يبدله أزواجاً خيراً منكن، مسلماتٍ، مؤمنات، قانتات، تائبات ..} الآية.



* وختمت السورة بضرب مثلين: مثل للزوجة الكافرة في عصمة الرجل الصالح المؤمن، ومثلاً للزوجة المؤمنة في عصمة الرجل الفاجر الكافر، تنبيهاً للعباد على أنه لا يغني في الآخرة أحدٌ عن أحد، ولا ينفع حسب ولا نسب، إِذا لم يكن عمل الإِنسان صالحاً {ضرب الله مثلاً للذين كفروا امرأة نوح وامرأة لوط، كانتا تحت عبدين من عبادنا صالحين فخانتاهما - أي كفرتا بالله ولم تؤمنا - فلم يغنيا عنهما من الله شيئاً وقيل ادخلا النار مع الداخلين * وضرب الله مثلاً للذين آمنوا امرأة فرعون إِذ قالت رب ابن لي عندك بيتاً في الجنة ..} الآيات. وهو ختم رائع يتناسق مع جوّ السورة وهدفها في ترسيخ دعائم الفضيلة والإيمان.







أحوال النبي صلى الله عليه وسلم مع بعض نسائه





{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ(1)قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ(2)وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِي الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ(3)إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ(4)عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا(5)}



سبب النزول:

نزول الآية (1، 2):

أخرج البخاري ومسلم في الصحيحين عن عائشة أنها قالت : "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب الْحَلْواء والعسل، وكان إذا انصرف من العصر دخل على نسائه، يمكث عند زينب بنت جحش، فيشرب عندها عسلاً، فتواطأتُ أنا وحفصة أنَّ أيّتنا دخل النبي صلى الله عليه وسلم عليها، فلتقل له : إني أجد منك ريح مَغَافير، أكلتَ مغافير، فقال : لا، بل شربت عسلاً عند زينب بنت جحش، ولن أعود إليه، وقد حلفتُ، لا تخبري بذلك أحداً".



نزول الآية (5):

{عسى ربّه ..}: أخرج البخاري عن أنس قال: قال عمر: اجتمع نساء النبّي صلى الله عليه وسلم في الغَيْرة عليه، فقلت: عسى ربّه إن طلقكنّ أن يبدله أزواجاً خيراً منكن، فنزلت هذه الآية.



{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} الخطاب بلفظ النبوة مشعرٌ بالتوقير والتعظيم، والتنويه بمقامه الرفيع الشريف، فلم يخاطبه باسمه العلم كما خاطب سائر الرسل بقوله "يا إِبراهيم، يا نوحُ، يا عيسى بن مريم" وإِنما خاطبه بلفظ النبوة أو الرسالة، وذلك أعظم دليلٍ وبرهانٍ على أنه - صلوات الله عليه - أفضل الأنبياء والمرسلين ومعنى الآية: يا أيها الموحى إِليه من السماء، المنبأ بواسطة الأمين جبريل عليه السلام، لماذا تمنع نفسك ما أحلَّ الله لك من النساء؟‍ قال المفسرون: إِن رسول الله صلى الله عليه وسلم خلا بأم ولده "مارية" في بيت حفصة وعلمت بذلك فقال لها: اكتمي عليَّ وقد حرمت مارية على نفسي فنزلت الآية {يا أيها النبيُ لم تُحرّم ما أحلَّ الله لك} وفي افتتاح العتاب من حسن التلطف ما لا يخفى، فقد عاتبه على إِتعاب نفسه والتضييق عليها من أجل مرضاة أزواجه، كأنه يقول: لا تتعب نفسك في سبيل أزواجك، وأزواجك يسعين في مرضاتك، فأرح نفسك من هذا العناء {تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ}؟ أي تطلب رضا أزواجك بتحريم ما أحلَّ الله لك؟ قال ابن جزي: يعني تحريمه للجارية ابتغاء رضا حفصة، وهذا يدل على أنها نزلت في تحريم الجارية، وأما تحريم العسل فلم يقصد فيه رضا أزواجه وإِنما تركه لرائحته {وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} أي والله واسع المغفرة، عظيم الرحمة، حيث سامحك في امتناعك عن مارية، وإِنما عاتبك رحمة بك، وفي هذا إِشارة إِلى أن عتابه في ذلك إِنما كان كرامةً له، وإِنما وقع العتاب لتضييقه عليه السلام على نفسه، وامتناعه مما كان له فيه أُنسٌ ومتعة، وبئس ما قاله الزمخشري في أن هذا كان منه صلى الله عليه وسلم زلة لأنه حرَّم ما أحل الله له الخ فإِن هذا القول قلة أدب مع مقام النبوة، وجهل بصفات المعصوم، فلم يكن منه صلوات الله عليه تحريمٌ للحلال كما زعم حتى تعتبر مخالفة ومعصية، وإِنما امتنع عن بعض إِمائه تطييباً لخاطر بعض أزواجه، فعاتبه الله تعالى عليه رفقاً به، وتنويهاً بقدره، وإِجلالاً لمنصبه عليه السلام أن يراعي مرضاة أزواجه بما يشق عليه، جرياً على ما أُلف من لطف الله تعالى به {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} أي قد شرع الله لكم يا معشر المؤمنين ما تتحللون به من أيمانكم وذلك بالكفارة {وَاللَّهُ مَوْلاكُمْ} أي واللهُ وليُكم وناصركم {وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} أي وهو العليم بخلقه الحكيم في صنعه، فلا يأمر ولا ينهى إلا بما تقتضيه الحكمة والمصلحة .. ثم شرع تعالى في بيان القصة التي حدثت لرسول الله صلى الله عليه وسلم مع بعض زوجاته فقال {وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا} أي واذكر حين أسرَّ النبي محمد صلى الله عليه وسلم إِلى زوجته حفصة خبراً واستكتمها إِياه، قال ابن عباس: هو ما أسرَّ إِلى حفصة من تحريم الجارية على نفسه، كما أخبرها بأن الخلافة بعده تكون في أبي بكر وعمر، وطلب منها ألا تخبر بذلك أحداً {فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ} أي فلما أخبرت بذلك السرِّ عائشة وافشته لها {وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ} أي وأطلع الله نبيه بواسطة جبريل الأمين على إفشائها للسرِّ {عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ} أي أعلمها وأخبرها رسول الله صلى الله عليه وسلم ببعض الحديث الذي أفشته معاتباً لها، ولم يخبرها بجميع ما حصل منها حياءً منه وكرماً، فإِن من عادة الفضلاء التغافل عن الزلات، والتقصير في اللوم والعتاب، قال الحسن: ما استقصى كريمٌ قط، وقال سفيان: ما زال التغافل من شيم الكرام، قال الخازن: المعنى أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر حفصة ببعض ما أخبرت به عائشة وهو تحريم مارية على نفسه، وأعرض عن ذكر الخلافة لأنه صلى الله عليه وسلم كره أن ينتشر ذلك في الناس {فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ} أي فلما أخبر الرسول حفصة بأنها قد أفشت سرِّه {قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا} أي قالت: من أخبرك يا رسول الله بأني أفشيتُ سرك؟ قال أبو حيان: ظنت حفصة أن عائشة فضحتها -وكانت قد استكتمتها - فقالت من أنبأك هذا على سبيل التثبت، فأخبرها أن الله جل وعلا هو الذي نبأه به فسكتت وسلَّمت {قَالَ نَبَّأَنِي الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ} أي فقال عليه السلام: أخبرني بذلك ربُّ العزة، العليم بسرائر العباد، الخبير الذي لا تخفى عليه خافية {إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ} الخطاب لحفصة وعائشة، خاطبهما بطريق الالتفات ليكون أبلغ في معاتبتهما وحملهما على التوبة مما بدر منهما من الإِيذاء لسيد الأنبياء، وجوابه محذوف تقديره أي إِن تبتما كان خيراً لكما من التعاون على النبي صلى الله عليه وسلم بالإِيذاء {فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} أي فقد زاغت ومالت قلوبكما عما يجب عليكما من الإِخلاص لرسول الله، بحب ما يحبه، وكراهة ما يكرهه {وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ} أي وإِن تتعاونا على النبي صلى الله عليه وسلم بما يسوؤه، من الوقيعة بينه وبين سائر نسائه {فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ} أي فإِنَّ الله تعالى هو وليُّه وناصره، فلا يضره ذلك التظاهر منكما {وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ} أي وجبريل كذلك وليه وناصره، والصالحون من المؤمنين، قال ابن عباس: أراد بصالح المؤمنين أبا بكر وعمر فقد كانا عوناً له عليه الصلاة والسلام عليهما، قال ابن جزي: معنى الآية: إِن تعاونتما عليه صلى الله عليه وسلم بما يسوؤه من إِفراط الغيرة، وإِفشاء سره ونحو ذلك، فإِنَّ له من ينصره ويتولاه، وقد ورد في الصحيح أنه لما وقع ذلك جاء عمر إِلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله: ما يشقُّ عليك من شأن النساء؟ فإِن كنت طلقتهنَّ فإِنَّ الله معك وملائكته وجبريل، وأبو بكرٍ وعمر معك فنزلت الآية موافقة لقول عمر {وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ} أي والملائكة الأبرار بعد حضرة الله، وجبريل، وصالح المؤمنين أعوانٌ لرسول الله صلى الله عليه وسلم على من عاداه، فماذا يفيد تظاهر امرأتين على من هؤلاء أعوانه وأنصارهُ؟ ‍‌ أفرد {جبريل} بالذكر تعظيماً له، وإِظهاراً لمكانته عند الله تعالى فيكون قد ذُكر مرتين: مرةً بالإِفراد، ومرةً في العموم، ووسَّط {صالح المؤمنين} بين جبريل والملائكة تشريفاً لهم، واعتناءً بهم، وإِشادةً بفضل الصلاح، وختم الآية بذكر {الملائكة} أعظم المخلوقات وجعلهم ظهراء للنبي عليه الصلاة و السلام ليكون أفخم بالنبي صلوات الله عليه، وعظم مكانته، والانتصار له، إِذ هم بمثابة جيشٍ جرارٍ، يملأ القفار، نصرةً للنبي المختار، فمن ذا الذي يستطيع أن يناوئ الرسول صلى الله عليه وسلم بعد ذلك؟ ثم خوَّف تعالى نساء النبي بقوله {عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ} قال المفسرون: {عسى} من الله واجبٌ أي حقٌ واجب عل الله إِن طلقكنَّ رسوله {أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ} أي أن يعطيه عليه السلام بدلكُنَّ زوجاتٍ صالحاتٍ خيراً وأفضل منكنَّ، قال القرطبي: هذا وعدٌ من الله تعالى لرسوله لو طلقهن في الدنيا أن يزوجه نساءً خيراً منهن، والله عالمٌ بأنه لا يطلقهن، ولكنْ أخبر عن قدرته، على أن رسوله لو طلقهن، لأبدله خيراً منهن، تخويفاً لهن .. ثم وصف تعالى هؤلاء الزوجات اللواتي سيبدله بهنَّ فقال {مُسْلِمَاتٍ} أي خاضعات مستسلماتٍ لأمر الله تعالى وأمر رسوله {مُؤْمِنَاتٍ} أي مصدقاتٍ بالله وبرسوله {قَانِتَاتٍ} أي مطيعاتٍ لما يُؤمرن به، مواظباتٍ على الطاعة {تائِبَاتٍ} أي تائباتٍ من الذنوب، لا يصررن على معصية {عَابِدَاتٍ} أي متعبداتٍ لله تعالى يكثرن العبادة، كأنَّ العبادة امتزجت، بقلوبهن، حتى صارت سجيةً لهن {سَائِحَاتٍ} أي مسافراتٍ مهاجراتٍ إلى الله ورسوله {ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا} أ ي منهنَّ ثيباتٍ، ومنهن أبكاراً، قال ابن كثير: قسمهن إِلى نوعين ليكون ذلك أشهى إِلى النفس، فإِنَّ التنوع يبسط النفس، وإِنما دخلت واو العطف هنا {ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا} للتنويع والتقسيم، ولو سقطت لاختل المعنى، لأن الثيوبة والبكارة لا يجتمعان، فتدبر سرَّ القرآن .



التحذير من النار، والأمر بالتوبة النصوح





{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ(6)يَا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ(7)يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ(8)يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدْ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ(9)}.



ولما وعظ نساء الرسول موعظةً خاصة، أتبع ذلك بموعظةٍ عامةٍ للمؤمنين فقال {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا} أي يا من صدقتم بالله ورسوله وأسلمتم وجوهكم لله، احفظوا انفسكم، وصونوا أزواجكم وأولادكم، من نارٍ حامية مستعرة، وذلك بترك المعاصي وفعل الطاعات، وبتأديبهم وتعليمهم، قال مجاهد: أي اتقوا الله، وأوصوا أهليكم بتقوى الله، وقال الخازن: أي مروهم بالخير، وانهوهم عن الشر، وعلموهم وأدبوهم حتى تقوهم بذلك من النار، والمراد بالأهل النساءُ والأولاد وما ألحق بهما {وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} أي حطبها الذي تُسعَّر به نار جهنم هو الخلائق والحجارة، قال المفسرون: أراد بالحجارة حجارة الكبريت، لأنها أشد الأشياء حراً، وأسرع اتِّقاداً، وعنى بذلك أنها مفرطة الحرارة، تتقد بما ذكر، لا كنار الدنيا تتقد بالحطب ونحوه، قال ابن مسعود: حطبها الذي يلقى فيها بنو آدم، وحجارةٌ من كبريت، أنتن من الجيفة {عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ} أي على هذه النار زبانيةٌ غلاظ القلوب، لا يرحمون أحداً، مكلفون بتعذيب الكفار، قال القرطبي: المراد بالملائكة الزبانية، وهم غلاظ القلوب لا يرحمون إِذا استرحموا، لأنهم خلقوا من الغضب، وحُبّب إِليهم عذاب الخلق كما حُبب لبني آدم أكل الطعام والشراب { لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ } أي لا يعصون أمر الله بحالٍ من الأحوال {وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} أي وينفِّذون الأوامر بدون إِمهال ولا تأخير .. ثم يقال للكفار عند دخولهم النار {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ} أي لا تعتذروا عن ذنوبكم وإِجرامكم، فلا ينفعكم اليوم الاعتذار، لأنه قد قُدّم إِليكم الإِنذار والإِعذار {إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} أي إِنما تنالون جزاء أعمالكم القبيحة، ولا تظلمون شيئاً كقوله تعالى {اليوم تُجزى كلُّ نفسٍ بما كسبت لا ظلم اليوم إِن الله سريع الحساب} ثم دعا المؤمنين إِلى التوبة الصادقة الناصحة فقال {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا} أي توبوا إِلى الله من ذنوبكم توبةً صادقةً خالصة، بالغةً في النصح الغاية القصوى، سئل عمر عن التوبة النصوح فقال: هي أن يتوب ثم لا يعود إِلى الذنب، كما لا يعود اللبن إِلى الضَّرْع، قال العلماء: التوبة النصوح هي التي جمعت ثلاثة شروط: الإِقلاع عن الذنب، والندم على ما حدث، والعزم على عدم العودة إِليه، وإِن كان الحق لآدمي زيد شرط رابع وهو: ردُّ المظالم لأصحابها {عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} أي لعل الله يرحمكم فيمحو عنكم ذنوبكم، قال المفسرون: "عسى" من الله واجبة بمنزلة التحقيق، وهذا إِطماعٌ من الله لعباده في قبول التوبة، تفضلاً منه وتكرماً، لأن العظيم إذا وعد وفّى، وعادة الملوك أنهم إذا أرادوا فعلا قالوا "عسى" فهو بمنزلة المحقق {وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ} أي ويدخلكم في الآخرة حدائق وبساتين ناضرة، تجري من تحت قصورها أنهار الجنة {يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ} أي يوم لا يفضح الله النبي وأتباعه المؤمنين أمام الكفار، بل يعزهم ويكرمهم، قال أبو السعود: وفيه تعريضٌ بمن أخزاهم اللهُ تعالى من أهل الكفر والفسوق {نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ} أي نور هؤلاء المؤمنين يضيء لهم على الصراط، ويسطع أمامهم وخلفهم وعن أيمانهم وشمائلهم، كإِضاءة القمر في سواد الليل {يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا} أي يدعون الله قائلين: يا ربنا أكمل علينا هذا النور وأدمه لنا، ولا تتركنا نتخبط في الظلمات، قال ابن عباس: هذا دعاء المؤمنين حين أطفأ الله نور المنافقين، يدعون ربهم به إِشفاقاً حتى يصلوا إِلى الجنة {وَاغْفِرْ لَنَا} أي وامح عنا ما فرط من الذنوب {إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} أي إِنك القادر على كل شيء، من المغفرة والعقاب، والرحمة والعذاب .. ثم أمر تعالى بجهاد أعداء الله من الكفرة والمنافقين فقال {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدْ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ} أي جاهد الكفار بالسيف والسِّنان، والمنافقين بالحجة والبرهان، لأن المنافقين يظهرون الإِيمان، فهم مسلمون ظاهراً فلذلك لم يؤمر عليه الصلاة والسلام بقتالهم {وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ} أي وشدِّد عليهم في الخطاب، ولا تعاملهم بالرأفة واللين، إِرعاباً وإِذلالاً لهم، لتنكسر صلابتهم وتلين شكيمتهم {وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ } أي ومستقرهم في الآخرة جهنم {وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} أي وبئست جهنم مستقراً ومصيراً للمجرمين.



نماذج من النساء المؤمنات والكافرات



{ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَاِمْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ(10)وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا لِلَّذِينَ آمَنُوا اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ(11) وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ(12)}



ثم ضرب تعالى مثلاً للكفار في عدم انتفاعهم بصلة القرابة أو المصاهرة أو النكاح، لأن الأسباب كلها تنقطع يوم القيامة ولا ينفع إِلا العمل الصالح فقال {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَاِمْرَأَةَ لُوطٍ} أي مثَّل تعالى للكفار في عدم استفادتهم بقرابة المؤمنين، بحال امرأة نوحٍ وامرأة لوط {كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ} أي كانتا في عصمة نبيين عظيمين هما "نوح" و "لوط" عليهما السلام، وإِنما وصفهما بالعبودية تشريفاً وتكريماً لهما بإِضافتهما إِليه تعالى {فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا} أي فخافت كل واحدة زوجها بالكفر وعدم الإِيمان، فلم يدفعا عن امرأتيهما - مع نبوتهما - شيئاً من عذاب الله {وَقِيلَ ادْخُلا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ} أي وتقول لهما خزنة النار يوم القيامة: ادخلا نار جهنم مع سائر الداخلين، من الكفرة المجرمين قال القرطبي : ضرب تعالى هذا المثل تنبيهاً على أنه لا يغني في الآخرة أحدٌ عن قريب ولا نسيب، إِذا فرَّق بينهما الدين، كما لم يدفع نوح ولوط - مع كرامتهما على الله تعالى - عن زوجتيهما لما عصتا شيئاً من عذاب الله {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ} وهذا مثلٌ آخر للمؤمن في عدم تضرره ببقاء قريبه على الكفر إِذا كان هو مؤمناً، قال أبو السعود: أي جعل حالها مثلاً لحال المؤمنين في أن وصلة الكفر لا تضرهم، حيث كانت في الدنيا تحت أعدى أعداء الله "فرعون" وهي في أعلى غرف الجنة، قال المفسرون: واسمها "آسية بنت مزاحم" آمنت بموسى عليه السلام، فبلغ ذلك فرعون فأمر بقتلها، فنجَّاها الله من شره، فلم يضر امرأة فرعون اتصالها به وهو من أكفر الكافرين، ولم ينفع امرأة نوح ولوط اتصالهما بهما وهما رسولا ربِّ العالمين {إِذْ قَالَتْ رَبِّ} أي حين دعت ربها قائلةً: يا ربِّ اجعل لي قصراً مشيداً بجوار رحمتك في جنة النعيم، قال بعض العلماء: ما أحسن هذا الكلام فقد اختارت الجار قبل الدار حيث قالت {ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ} فهي تطمع في جوار الله قبل طمعها في القصور، وفي الآية دليل على إِيمانها وتصديقها بالبعث {وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ} أي وأنقذني من كفر فرعون وطغيانه {وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} أي وأنقذني من الأقباط، أتباع فرعون الطاغين، قال الحسن: لما دعت بالنجاة نجَّاها الله تعالى أكرم نجاة، فرفعها إِلى الجنة تأكل وتشرب وتتنعم {وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ} أي ومريم ابنة عمران مثلٌ آخر في الإِيمان {الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا} أي حفظت فرجها وصانته عن مقارنة الفواحش، فهي عفيفةٌ شريفة طاهرة، لا كما زعم اليهود عليهم لعنة الله، أنها زنت وأن ولدها عيسى ابن زنى {فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا} أي فنفخ رسولنا جبريل في فتحة جيبها، فوصل أثر ذلك إِلى فرجها فحملت بعيسى قال ابن كثير: إِن الله بعث جبريل فتمثل لها في صورة بشر، وأمره أن ينفخ بفيه في جيب درعها، فنزلت النفخة فولجت في فرجها فكان منه الحمل بعيسى عليه السلام {وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ} أي وآمنت بشرائع الله القدسية، وكتبه السماوية {وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ} أي وكانت من القوم المطيعين، العابدين لله عز وجل، وهو ثناءٌ عليها بكثرة العبادة والطاعة، والخشوع، وفي الحديث (كمل من الرجل كثير، ولم يكمل من النساء إِلا آسية امرأة فرعون، ومريم ابنة عمران، وخديجة بنت خويلد، وفضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام).

yacine414
2011-04-02, 09:21
سورة الملك



بعضٌ من أدلة قدرته تعالى

حال الأشقياء الكفار

حال السعداء الأبرار

توعد الله كفار مكة المكذبين

توبيخ الله للمشركين في عبادتهم الأصنام

دعاء كفار مكة على النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين بالهلاك



بَين يَدَيْ السُّورَة



* سورة المُلْك من السور المكية، شأنها شأن سائر السور المكية، التي تعالج موضوع العقيدة في أصولها الكبرى، وقد تناولت هذه السورة أهدافاً رئيسية ثلاثة وهي "إثبات عظمة الله وقدرته على الإِحياء والإِماتة .. وإِقامة الأدلة والبراهين على وحدانية رب العالمين .. ثم بيان عاقبة المكذبين الجاحدين للبعث والنشور".



* ابتدأت السورة الكريمة بتوضيح الهدف الأول، فذكرت أن الله جل وعلا بيده المُلْك والسلطان، وهو المهيمن على الأكوان، الذي تخضع لعظمته الرقاب وتعنو له الجباه، وهو المتصرف في الكائنات بالخلق والإِيجاد، والإِحياء والإِماتة {تبارك الذي بيده المُلْك ..} الآيات.



* ثم تحدثت عن خلق السماوات السبع، وما زيَّن الله به السماء الدنيا من الكوكب الساطعة، والنجوم اللامعة، وكلها أدلة على قدرة الله ووحدانيته {الذي خلق سبع سماواتٍ طباقاً..} الآيات.



* ثم تناولت الحديث عن المجرمين بشيءٍ من الإِسهاب، وهم يرون جهنم تتلظى وتكاد تتقطع من شدة الغضب والغيظ على أعداء الله، وقارنت بين مآل الكافرين والمؤمنين، على طريقة القرآن في الجمع بين الترهيب والترغيب {إذا أُلقوا فيها سمعوا لها شهيقاً وهي تفور ..}.



* وبعد أن ساقت بعض الأدلة والشواهد على عظمة الله وقدرته، حذَّرت من عذابه وسخطه أن يحل بأولئك الكفرة الجاحدين {أأمنتم منْ في السماء أن يخسف بكم الأرض فإِذا هي تمور ..} الآيات.



* وختمت السورة الكريمة بالإِنذار والتحذير للمكذبين بدعوة الرسول، من حلول العذاب بهم في الوقت الذي كانوا يتمنون فيه موت الرسول صلى الله عليه وسلم وهلاك المؤمنين {قل أرأيتم إن أهلكني اللهُ ومن معي أو رحمنا فمن يجير الكافرين من عذاب أليم} ؟ الآيات ويا له من وعيد شديد، ترتعد له الفرائص !!

فضلهــَا:

تسمى هذه السورة "الواقية" و"المنجية" لأنها تقي قارئها من عذاب القبر فقد قال صلى الله عليه وسلم (هي المانعة وهي المنجية، تنجى من عذاب القبر) أخرجه الترمذي.



بعضٌ من أدلة قدرته تعالى



{تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ(1)الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ(2)الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَانِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ(3)ثُمَّ ارْجِعْ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ(4)وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ(5)}



{تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ} أي تمجَّد وتعالى اللهُ العلي الكبير، المفيض على المخلوقات من فنون الخيرات، الذي بقبضة قدرته ملك السماوات والأرض، يتصرف فيهما كيف يشاء، قال ابن عباس: بيده الملك، يعزُّ من يشاء ويذل من يشاء، ويحيي ويميت، ويغني ويفقر، ويعطي ويمنع {وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} أي وهو القادر على كل شيء له القدرة التامة، والتصرف الكامل في كل الأمور، من غير منازع ولا مدافع .. ثم بيَّن تعالى آثار قدرته، وجليل حكمته فقال {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ} أي أوجد في الدنيا الحياة والموت، فأحيا من شاء وأمات من شاء، وهو الواحد القهار، وإِنما قدم الموت لأنه أهيب في النفوس وأفزع قال العلماء: ليس الموت فناءً وانقطاعاً بالكلية عن الحياة، وإِنما هو انتقال من دار إِلى دار، ولهذا ثبت في الصحيح أن الميت يسمع، ويرى، ويُحسُّ وهو في قبره كما قال عليه السلام (إِنَّ أحدكم إِذا وضع في قبره وتولَّى عنه أصحابه وإِنه ليسمع قرع نعالهم) الحديث وقال صلى الله عليه وسلم: (والذي نفسي بيده ما أنتم بأسمع لما أقول منهم لكنهم لا يجيبون) فالموتُ هو انقطاع تعلق الروح بالبدن، ومفارقتها للجسد {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} أي ليمتحنكم ويختبركم - أيها الناس - فيرى المحسن منكم من المسيء، قال القرطبي: أن يعاملكم معاملة المختبر، فإِن الله تعالى عالم بالمطيع والعاصي أزلاً {وَهُوَ الْعَزِيزُ} أي الغالبُ في انتقامه ممن عصاه {الْغَفُورُ} لذنوب من تاب وأناب إِليه {الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا} أي خلق سبع سماواتٍ متطابقة، بعضها فوق بعض، كل سماء كالقبة للأُخرى {مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَانِ مِنْ تَفَاوُتٍ} أي لست ترى أيها السامع في خلق الرحمن البديع من نقص أو خلل، أو اختلاف أو تنافر، بل هي في غاية الإِحكام والإِتقان، وإِنما قال {فِي خَلْقِ الرَّحْمَانِ} ولم يقل "فيهن" تعظيماً لخلقهن، وتنبيهاً على باهر قدرة الله {فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ}؟ أي فكرّر النظر في السماوات وردّده في خلقهن المحكم، هل ترى من شقوق وصدوع؟ {ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ} أي ثم ردِّد النظر مرةً بعد أُخرى، وانظر بعين الاعتبار في هذه السماوات العجيبة، مرةً بعد مرة {يَنقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا} أي يرجع إِليك بصرك خاشعاً ذليلاً، لم ير ما تريد {وَهُوَ حَسِيرٌ} أي وهو كليلٌ متعب قد بلغ الغاية في الإِعياء، قال الإِمام الفخر الرازي: المعنى إِنك إِذا كررت نظرك لم يرجع إِليك بصرك بما طلبته من وجود الخلل والعيب، بل رجع خاسئاً مبعداً لم ير ما يهوى مع الكلال والإِعياء، وقال القرطبي: أي اردد طرفك وقلّب البصر في السماء {كَرَّتَيْن} أي مرةً بعد أخرى، يرجع إِليك البصر خاشعاً صاغراً، متباعداً عن أن يرى شيئاً من ذلك العيب والخلل، وإِنما أمر بالنظر كرتين، لأن الإِنسان إِذا نظر في الشيء مرة لا يرى عيبه، ما لم ينظر إِليه مرة أخرى، والمراد بالكرتين التكثير بدليل قوله {يَنقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ} وهو دليلٌ على كثرة النظر .. ثم بيَّن تعالى ما زين به السماء من النجوم الزاهرة والكواكب الساطعة فقال {وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ} اللام لام القسم و{قد} للتحقيق والمعنى والله لقد زينا السماء القريبة منكم أيها الناس بكواكب مضيئة ساطعة، هي السماء الأولى أقرب السماواتِ إِلى الأرض، قال المفسرون: سميت الكوكب مصابيح لإِضاءتها بالليل إِضاءة السراج {وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ} أي وجعلنا لها فائدةً أُخرى وهي رجم أعدائكم الشياطين، الذين يسترقون السمع، قال قتادة: خلق الله تعالى النجوم لثلاثٍ: زينةً للسماء، ورجوماً للشياطين، وعلامات يُهتدى بها في البر والبحر، وقال الخازن: فإِن قيل: كيف تكون زينةً للسماء، ورجوماً للشياطين، وكونها زينة يقتضي بقاءها، وكونها رجوماً يقتضي زوالها، فكيف الجمع بين هاتين الحالتين؟ فالجواب أنه ليس المراد أنهم يرمون بأجرام الكواكب، بل يجوز أن تنفصل من الكواكب شعلة وتُرمى الشياطين بتلك الشعلة وهي الشهب، ومثلها كمثل قبسٍ يؤخذ من النار وهي على حالها، أقول: ويؤيده قوله تعالى {إِلا من خطف الخطفة فأتبعه شهابٌ ثاقب} فعلى هذا، الكواكب لا يرحم بها، وإِنما يكون الرجم بالشهب {وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ} أي وهيأنا وأعددنا للشياطين في الآخرة - بعد الإِحراق بالشهب في الدنيا - العذاب المستعر، وهو النار الموقدة.



حال الأشقياء الكفار



{وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ(6)إِذَا أُلْقُوا فِيهَا سَمِعُوا لَهَا شَهِيقًا وَهِيَ تَفُورُ(7)تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ(8)قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلا فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ(9)وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ(10)فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقًا لأَصْحَابِ السَّعِيرِ(11)}



{وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ} أي وللكافرين بربهم عذاب جهنم أيضاً، فليس العذاب مختصاً بالشياطين بل هو لكل كافر بالله من الإِنس والجن {وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} أي وبئست النار مرجعاً ومصيراً للكافرين .. ثم وصف تعالى جهنم وما فيها من العذاب والأهوال والأغلال فقال {إِذَا أُلْقُوا فِيهَا} أي إِذا قذفوا وطرحوا في جهنم كما يطرح الحطبُ في النار العظيمة {سَمِعُوا لَهَا شَهِيقًا} أي سمعوا لجهنم صوتاً منكراً فظيعاً كصوت الحمار، لشدة توقدها وغليانها، قال ابن عباس: الشهيقُ لجهنم عند إِلقاء الكفار فيها، تشهق إِليهم شهقة البغلة للشعير، ثم تزفرُ زفرة لا يبقى أحدٌ إِلا خاف {وَهِيَ تَفُورُ} أي وهي تغلي بهم كما يغلي المرجل - القدر - من شدة الغضب ومن شدة اللهب، قال مجاهد: تفور بهم كما يفور الحبُّ القليل في الماء الكثير {تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ} أي تكاد جهنم تتقطع وينفصل بعضها من بعض، من شدة غيظها وحنقها على أعداء الله {كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ} أي كلما طرح فيها جماعةٌ من الكفرة {سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا} أي سألتهم الملائكة الموكلون على جهنم - وهم الزبانية - سؤال توبيخ وتقريع { أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ} أي ألم يأتكم رسولٌ ينذركم ويخوفكم من هذا اليوم الرهيب؟ قال المفسرون: وهذا السؤال زيادة لهم في الإِيلام، ليزدادوا حسرةً فوق حسرتهم، وعذاباً فوق عذابهم {قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا} أيأجابوا نعم لقد جاءنا رسول منذر، وتلا علينا ءايات الله، ولكننا كذبناه وانكرنا رسالته {وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ} أي وقلنا إِمعاناً في التكذيب وتمادياً في النكير: ما أنزل الله شيئاً من الوحي على أحدٍ، قال الرازي: هذا اعترافٌ منهم بعدل الله، وإِقرار بأن الله أزاح عللهم ببعثة الرسل الكرم، ولكنهم كذبوا الرسل وقالوا ما نزَّل الله من شيء {إِنْ أَنْتُمْ إِلا فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ} هذا من تتمة كلام الكفار أي ما أنتم يا معشر الرسل إِلا في بعدٍ عن الحق، وضلال واضح عميق {وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ} أي وقال الكفار: لو كانت لنا عقول ننتفع بها أو كنا نسمع سماع طالب للحق، ملتمسٍ للهدى {مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ} أي ما كنا نستوجب الخلود في جهنم {فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبهِمْ} أي فأقروا بإِجرامهم وتكذيبهم للرسل {فَسُحْقًا لأَصْحَابِ السَّعِيرِ} أي فبعداً وهلاكاً لأهل النار، قال ابن كثير: عادوا على أنفسهم بالملامة، وندموا حيث لا تنفعهم الندامة، والجملة دعائيه أي أبعدهم الله من رحمته وسحقهم سحقاً.





حال السعداء الأبرار



{إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ(12)وَأَسِرُّوا قَوْلَكمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ(13)أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ(14)هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ(15)}



سبب نزول الآية (13):

{وأسروا ..}: قال ابن عباس: نزلت في المشركين كانوا ينالون من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فخبَّره جبريل عليه السلام بما قالوا فيه ونالوا منه، فيقول بعضهم لبعض: أسرّوا قولكم لئلا يسمع إله محمد.



ثم لما ذكر حال الأشقياء الكفار أتبعه بذكر حال السعداء الأبرار فقال {إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ} أي يخافون ربهم ولم يروه، ويكفُّون عن المعاصي طلباً لمرضاة الله {لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ} أي لهم عند الله مغفرةٌ عظيمة لذنوبهم، وثواب جزيل لا يعلم قدره غير الله تعالى {وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ} الخطاب لجميع الخلق أي أخفوا قولكم وكلامكم أيها الناس أو أعلنوه واظهروه، فسواءٌ أخفيتموه أو أظهرتموه فإِن الله يعلمه {إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} أي لأنه تعالى العالم بالخفايا والنوايا، يعلم ما يخطر في القلوب، وما توسوس به الصدور، قال ابن عباس: نزلت في المشركين كانوا ينالون من رسول الله صلى الله عليه وسلم فيخبره جبريل بما قالوا، فقال بعضهم لبعض: أسرُّوا قولكم لا يسمع إِله محمد، فأخبره الإله أنه لا تخفى عليه خافية {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ}؟ أي ألا يعلم الخالق مخلوقاته؟ كيف لا يعلم سرّ المخلوقات وجهرها وهو الذي خلقها وأوجدها من عدم؟ {وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} أي والحال أنه اللطيف بالعباد، الذي يعلم دقائق الأمور وغوامضها، الخبير الذي لا يعزب عن علمه شيء، فلا تتحرك ذرة، ولا تسكن أو تضطرب نفسٌ إِلا وعنده خبرها .. ثم ذكر تعالى دلائل قدرته ووحدانيته، وآثار فضله وامتنانه على العباد فقال {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ ذَلُولاً} أي الله جل وعلا جعل لكم الأرض لينةً سهلة المسالك {فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا} أي فاسلكوا أيها الناس في جوانبها وأطرفها، قال ابن كثير: أي فسافروا حيث شئتم من أقطارها، وتردّدوا في أقاليمها وأرجائها للمكاسب والتجارات {وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ} أي وانتفعوا بما أنعم به جل وعلا عليكم من أنواع الكسب والرزق، قال الألوسي: كثيراً ما يُعبر عن وجوه الانتفاع بالأكل لأنه الأهم الأعم، وفي الآية دليل على ندب التسبب والكسب، وهو لا ينافي التوكل، فقد مرَّ عمر رضي الله عنه بقومٍ فقال: من أنتم؟ فقالوا: المتوكلون فقال: بل أنتم المتواكلون، إِنما المتوكل رجلٌ ألقى حبه في بطن الأرض وتوكل على ربه عز وجل {وَإِلَيْهِ النُّشُورُ} أي وإِليه تعالى المرجع بعد الموت والفناء، للحساب والجزاء .



توعد الله كفار مكة المكذبين



{ءأمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ الأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ(16)أَمْ أَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ(17)وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ(18)أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلا الرَّحْمَانُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ(19)}



ثم توعّد تعالى كفار مكة المكذبين لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال {ءأَمِنتمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ الأَرْضَ} أي هل أمنتم يا معشر الكفار ربكم العليَّ الكبير أن يخسف بكم الأرض فيغيبكم في مجاهلها، بعد ما جعلها لكم ذلولاً تمشون في مناكبها؟ {فَإِذَا هِيَ تَمُورُ} أي فإِذا بها تضطرب وتهتز بكم هزاً شديداً عنيفاً، قال الرازي: والمراد أنَّ الله تعالى يحرك الأرض عند الخسف بهم حتى تضطرب وتتحرك، فتعلو عليهم وهم يخسفون فيها فيذهبون، والأرضُ فوقهم تمور فتلقيهم إِلى أسفل سافلين {أَمْ أَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا} أي أم أمنتم الله العليَّ الكبير أن يرسل عليكم حجارة من السماء، كما أرسلها على قوم لوطٍ وأصحاب الفيل؟ {فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ} أي فستعلمون عند معاينة العذاب، كيف يكون إِنذاري وعقابي للمكذبين!! وفيه وعيد وتهديدٌ شديد، وأصلها {نذيري} و {نكيري} حذفت الياء مراعاة لرءوس الآيات {وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} أي ولقد كذبت كفار الأمم السابقة رسلهم، كقوم نوحٍ وعادٍ وثمود وأمثالهم، وهذا تسلية للرسول صلى الله عليه وسلم وتهديد لقومه المشركين {فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ} أي فكيف كان إِنكاري عليهم بنزول العذاب؟ ألم يكن في غاية الهول والفظاعة؟ ثم لما حذَّرهم ما عسى أن يحل بهم من الخسف وإِرسال الحاصب، نبَّههم على الاعتبار بالطير، وما أحكم الله من خلقها، وعن عجز آلهتهم المزعومة عن خلق شيءٍ من ذلك فقال {أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ} أي أولم ينظروا نظر اعتبار إلى الطيور فوقهم، باسطاتٍ أجنحتهن في الجو عند طيرانها وتحليقها، {وَيَقْبِضْنَ} أي ويضممنها إِذا ضربن بها جنوبهن وقتاً بعد وقت؟ ولما كان الغالب هو فتح الجناحين فكأنه هو الثابت عبَّر عنه بالاسم {صَافَّات} وكان القبض متجدداً عبَّر عنه بالفعل {وَيَقْبِضْنَ} قال ابن جزي: فإِن قيل: لِمَ لم يقل "قابضات" على طريقة {صَافَّات}؟ فالجواب أن بسط الجناحين هو الأصل في الطيران، كما أن مدَّ الأطراف هو الأصل في السباحة، فذكره بصيغة اسم الفاعل {صَافَّات} لدوامه وكثرته، وأما قبضُ الجناحين فإِنما يفعله الطائر قليلاً للاستراحة والاستعانة، فلذلك ذكره بلفظ الفعل لقلته {مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلا الرَّحْمَانُ} أي ما يمسكهن في الجو عن السقوط في حال البسط والقبض، إِلا الخالق الرحمن الذي وسعت رحمته كل ما في الأكوان، قال الرازي: وذلك أنها مع ثقلها وضخامة أجسامها، لم يكن بقاؤها في جو الهواء إِلا بإِمساك الله وحفظه، وإِلهامها كيفية البسط والقبض المطابق للمنفعة من رحمة الرحمن {إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ} أي يعلم كيف يخلق، وكيف يبدع العجائب، بمقتضى علمه وحكمته.



توبيخ الله للمشركين في عبادتهم الأصنام



{أَمَّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ جُندٌ لَكُمْ يَنصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمَانِ إِنِ الْكَافِرُونَ إِلا فِي غُرُورٍ(20)أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ(21)أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ(22)قُلْ هُوَ الَّذِي أَنشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مَا تَشْكُرُونَ(23)قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ(24)وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ(25)قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ(26)فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَقِيلَ هَذَا الَّذِي كُنتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ(27)}



ثم وبَّخ تعالى المشركين في عبادتهم لما لا ينفع ولا يسمع فقال {أَمَّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ جُندٌ لَكُمْ يَنصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمَانِ}؟ أي من هذا الذي يستطيع أن يدفع عنكم عذاب الله من الأنصار والأعوان؟! قال ابن عباس: أي من ينصركم مني إِن أردتُ عذابكم؟ {إِنِ الْكَافِرُونَ إِلا فِي غُرُورٍ} أي ما الكافرون في اعتقادهم أن آلهتهم تنفع أو تضرُّ إِلا في جهل عظيم، وضلال مبين، حيث ظنوا الأوهام حقائق، فاعتزوا بالأوثان والأصنام {أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ}؟ أي من هذا الذي يرزقكم غير الله إِن منع الله عنكم رزقه؟ والخطاب في الآيتين للكفار على وجه التوبيخ والتهديد، وإِقامة الحجة عليهم {بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ} أي بل تمادوا في الطغيان، وأصرّوا على العصيان، ونفروا عن الحق والإِيمان .. ثم ضرب تعال مثلاً للكافر والمؤمن فقال: {أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}؟ أي هل من يمشي منكساً رأسه، لا يرى طريقه فهو يخبط خبط عشواءً، مثل الأعمى الذي يتعثر كل ساعة فيخرّ لوجهه، هل هذا أهدى أم من يمشي منتصب القامة، يرى طريقه ولا يتعثر في خطواته، لأنه يسير على طريق بيّن واضح؟ قال المفسرون: هذا مثل ضربه الله للمؤمن والكافر، فالكافر كالأعمى الماشي على غير هدى وبصيرة، لا يهتدي إلى الطريق فيتعسف ولا يزال ينكب على وجهه، والمؤمن كالرجل السويّ الصحيح البصر، الماشي على الطريق المستقيم فهو آمن من الخبط والعثار، هذا مثلهما في الدنيا، وكذلك يكون حالهما في الآخرة، المؤمن يحشر يمشي سوياً على صراط مستقيم، والكافر يحشر يمشي على وجهه إِلى دركات الجحيم، قال قتادة: الكافر أكبَّ على معاصي الله فحشره الله يوم القيامة على وجهه، والمؤمن كان على الدين الواضح فحشره الله على الطريق السويّ يوم القيامة، وقال ابن عباس: هو مثلٌ لمن سلك طريق الضلالة ولمن سلك طريق الهدى .. ثم ذكَّرهم تعالى بنعمه الجليلة، ليعرفوا قبح ما هم عليه من الكفر والإِشراك فقال {قُلْ هُوَ الَّذِي أَنشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ} أي قل لهم يا محمد: الله جل وعلا هو الذي أوجدكم من العدم، وأنعم عليكم بهذه النعم "السمع والبصر والعقل" وخصَّ هذه الجوارح بالذكر لأنها أداة العلم والفهم {قَلِيلاً مَا تَشْكُرُونَ} أي قلَّما تشكرون ربكم على نعمه التي لا تُحصى، قال الطبري: أي قليلاً ما تشكرون ربكم على هذه النعم التي أنعمها عليكم {قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الأَرْضِ} أي خلقكم وكثَّركم في الأرض {وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} أي وإِليه وحده مرجعكم للحساب والجزاء {وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} أي متى يكون الحشر والجزاء الذي تعدوننا به؟ إِن كنتم صادقين فيما تخبرونا به من مجيء الساعة والحشر، وهذا استهزاء منهم {قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ} أي قل لهم يا محمد: علم وقت قيام الساعة ووقت العذاب عند الله تعالى لا يعلمه غيره {وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ} أي وما أنا إِلا رسولٌ منذر أخوفكم عذاب الله امتثالاً لأمره .. ثم أخبر تعالى عن حال المشركين في ذلك اليوم العصيب فقال {فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً} أي فلما رأوا العذاب قريباً منهم، وعاينوا أهوال القيامة {سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا} أي ظهرت على وجوههم آثار الاستياء، فعلتها الكآبة والغم والحزن، وغشيها الذل والانكسار، قال أبو حيّان: أي ساءت رؤية العذاب وجوههم، وظهر فيها السوء والكآبة، كمن يساق الى القتل {وَقِيلَ هَذَا الَّذِي كُنتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ} أي وقالت لهم الملائكة توبيخاً وتبكيتاً: هذا الذي كنتم تطلبونه في الدنيا وتستعجلونه استهزاءً وتكذيباً.



دعاء كفار مكة على النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين بالهلاك



{قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِي اللَّهُ وَمَنْ مَعِي أَوْ رَحِمَنَا فَمَنْ يُجِيرُ الْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ(28)قُلْ هُوَ الرَّحْمَانُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ(29)قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ(30)}



{قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِي اللَّهُ وَمَنْ مَعِي أَوْ رَحِمَنَا} أي قل يا محمد لهؤلاء المشركين الذين يتمنون هلاكك: أخبروني إن أماتني الله ومن معي من المؤمنين، أو رحمنا بتأخير آجالنا {فَمَنْ يُجِيرُ الْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} أي فمن يحميكم من عذاب الله الأليم، ووضع لفظ {الْكَافِرِينَ} عوضاً عن الضمير "يجيركم" تشنيعاً وتسجيلاً عليهم بالكفر، قال المفسرون: كان الكفار يتمنون هلاك النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين، فأمره الله أن يقول لهم: إِن أهلكني الله بالإِماتة وأهلك من معي، فأي راحةٍ وأي منفعة لكم فيه، ومن الذي يجيركم من عذاب الله إِذا نزل بكم؟ هل تظنون أن الأصنام تخلصكم وتنقذكم من العذاب الأليم؟ {قُلْ هُوَ الرَّحْمَانُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا} أي قل لهم: آمنا بالله الواحد الأحد، وعليه اعتمدنا في جميع أمورنا، لا على الأموال والرجال {فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} أي فسوف تعلمون عن قريب من هو في الضلالة نحن أم أنتم؟ وفيه تهديد للمشركين {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا} أي قل لهم يا محمد: أخبروني إِذا صار الماء غائراً ذاهباً في أعماق الأرض، بحيث لا تستطيعون إِخراجه {فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ} أي فمن الذي يخرجه لكم حتى يكون ظاهراً جارياً على وجه الأرض؟ هل يأتيكم غير الله به؟ فلم تشركون مع الخالق الرازق غيره من الأصنام والأوثان؟

yacine414
2011-04-02, 09:23
سورة القلم



بيان رفعة قدر النبي صلى الله عليه وسلم

الأخلاق الذميمة عند الكفار

قصة أصحاب الحديقة

جزاء المؤمنين المتقين

تخويف الكفار من قدرة الله، وأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالصبر



بَين يَدَيْ السُّورَة



* سورة القلم من السور المكية التي تعنى بأصول العقيدة والإِيمان، وقد تناولت هذه السورة ثلاثة مواضيع أساسية وهي:

أ- موضوع الرسالة، والشبه التي أثارها كفار مكة حول دعوة محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم.

ب- قصة أصحاب الجنة "البستان"، لبيان نتيجة الكفر بنعم الله تعالى.

ج- الآخرة وأهوالها وشدائدها، وما أعدَّ الله للفريقين: المسلمين والمجرمين.

ولكن المحور الذي تدور عليه السورة الكريمة هو موضوع إِثبات نبوة محمد صلى الله عليه وسلم.



* ابتدأت السورة الكريمة بالقسم على رفعة قدر الرسول صلى الله عليه وسلم وشرفه وبراءته مما ألصقه به المشركون من اتهامه - وحاشاه - بالجنون، وبينت أخلاقه العظيمة، ومناقبه السامية {ن والقلم وما يسطرون ما أنت بنعمة ربك بمجنون وإِنَّ لك لأجراً غير ممنون وإِنك لعلى خُلُقٍ عظيم} .. الآيات.



* ثم تناولت موقف المجرمين من دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم وما أعدَّ الله لهم من العذاب والنكال {فلا تطع المكذبين ودُّوا لو تُدهن فيدهنون ولا تطع كل حلاَّف مهين ..} الآيات.



* ثم ضربت مثلاً لكفار مكة في كفرانهم نعمة الله العظمى ببعثة خاتم الرسل صلى الله عليه وسلم إليهم وتكذيبهم به بقصة أصحاب الجنة "الحديقة" ذاتِ الأشجار والزروع والثمار، حيث جحدوا نعمة الله ومنعوا حقوق الفقراء والمساكين، فأحرق الله حديقتهم وجعل قصتهم عبرةً للمعتبرين {إنا بلوناهم كما بلونا أصحاب الجنة إذْ أقسموا ليصر مُنَّها مصبحين ولا يستثنون فطاف عليها طائف من ربك وهم نائمون فأصبحت كالصريم} الآيات.



* ثم قارنت السورة بين المؤمنين والمجرمين، على طريقة القرآن في الجمع بين الترغيب والترهيب {أفنجعل المسلمين كالمجرمين ..} الآيات.



* وتناولت السورة الكريمة القيامة وأحوالها وأهوالها، وموقف المجرمين في ذلك اليوم العصيب، الذي يكلفون فيه بالسجود لربِّ العالمين فلا يقدرون {يوم يكشف عن ساقٍ ويدعون إلى السجود فلا يستطيعون} الآيات.



* وختمت السورة الكريمة بأمر الرسول صلى الله عليه وسلم بالصبر على أذى المشركين، وعدم التبرم والضجر بما يلقاه في سبيل تبليغ دعوة الله كما حدث من يونس عليه السلام حين ترك قومه وسارع إلى ركوب البحر {فاصبر لحكم ربك ولا تكن كصاحب الحوت إذ نادى وهو مكظوم} الآيات.





بيان رفعة قدر النبي صلى الله عليه وسلم



{ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ(1)مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ(2)وَإِنَّ لَكَ لأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ(3)وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ(4)فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ(5)بِأَيِّيكُمُ الْمَفْتُونُ(6)إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ(7)}



سبب النزول:

نزول الآية (2) {ما أنت ..}:

أخرج ابن المنذر عن ابن جريج قال: كانوا يقولون للنبّي صلى الله عليه وسلم: إنه مجنون، ثم شيطان، فنزلت: {ما أنت بنعمة ربِّك بمجنون}.



نزول الآية (4) {وإِنك لعلى خلق عظيم}:

سئلت عائشة رضي الله عنها عن خلقه، فقالت: كان خلقه القرآن، ألست تقرأ القرآن: {قد أفلح المؤمنون} إلى عشر ءايات [المؤمنون: 10].



{ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ} نون حرف من الحروف المقطعة، ذكر للتنبيه على إعجاز القرآن .. أقسم تعالى بالقلم الذي يكتب الناس به العلوم والمعارف، فإن القلم أخو اللسان ونعمة من الرحمن على عباده والمعنى: أُقسم بالقلم وما يكتبه الكاتبون على صدق محمد وسلامته مما نسبه إليه المجرمون من السفه والجنون، وفي القسم بالقلم والكتابة إشادة بفضل الكتابة والقراءة، فالإِنسان من بين سائر المخلوقات خصه الله بمعرفة الكتابة ليفصح عما في ضميره {الذي علَّم بالقلم * علَّم الإِنسان ما لم يعلم} وحسبك دليلاً على شرف القلم أن الله أقسم به في هذه السورة تمجيداً لشأن الكاتبين، ورفعاً من قدر أهل العلم، ففي القلم البيان كما في اللسان، وبه قوام العلوم والمعارف، قال ابن كثير: والظاهر من قوله تعالى {وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ} أنه جنس القلم الذي يكتب به، وهو قسم منه تعالى لتنبيه خلقه على ما أنعم به عليهم من تعليم الكتابة التي بها تنال العلوم {مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ} أي لست يا محمد بفضل الله وإنعامه عليك بالنبوة مجنوناً، كما يقول الجهلة المجرمون، {يا أيها الذي نُزِّل عليه الذكر إنك لمجنون} قال ابن عطية: هذا جواب القسم، وقوله {بنعمة ربك} اعتراض كما تقول للإِنسان: أنت - بحمد الله - فاضل {وَإِنَّ لَكَ لأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ} أي وإِنّ لك لثواباً على ما تحملت من الأذى في سبيل تبليغ دعوة الله غير مقطوع ولا منقوص {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} أي وإنك يا محمد لعلى أدب رفيع جم، وخلق فاضل كريم، فقد جمع الله فيه الفضائل والكمالات .. يا له من شرف عظيم، لم يدرك شأوه بشر، فربُّ العزة جل وعلا يصف محمداً بهذا الوصف الجليل {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} وقد كان من خلقه صلى الله عليه وسلم العلم والحلم، وشدة الحياء، وكثرة العبادة والسخاء، والصبر والشكر، والتواضع والزهد، والرحمة والشفقة، وحسن المعاشرة والأدب، إلى غير ذلك من الخلال العلية، والأخلاق المرضية ولقد أحسن القائل:

إذا الـلــه أثنى بالذي هو أهــله عليك فما مقدار ما تمدح الورى؟

{فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ} أي فسوف ترى يا محمد، ويرى قومك ومخالفوك -كفار مكة - إذا نزل بهم العذاب {بِأَيِّيكُمُ الْمَفْتُونُ} أي أيكم الذي فتن بالجنون؟ هل أنت كما يفترون، أم هم بكفرهم وانصرافهم عن الهدى؟ قال القرطبي: والمفتون: المجنون الذي فتنه الشيطان، ومعظم السورة نزل في "الوليد بن المغيرة" و "أبي جهل" وقد كان المشركون يقولون: إن بمحمد شيطاناً، وعنوا بالمجنون هذا، فقال الله تعالى سيعلمون غداً بأيهم المجنون أي الشيطان الذي يحصل من مسه الجنون واختلاط العقل {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ} أي هو سبحانه العالم بالشقي المنحرف عن دين الله وطريق الهدى {وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} أي وهو العالم بالتقي المهتدي إلى الدين الحق، وهو تعليل لما قبله وتأكيد للوعد والوعيد كأنه يقول: إنهم هم المجانين على الحقيقة لا أنت، حيث كانت لهم عقول لم ينتفعوا بها، ولا استعملوها فيما ينجيهم ويسعدهم.



الأخلاق الذميمة عند الكفار



{فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ(8)وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ(9)وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلافٍ مَهِينٍ(10)هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ(11)مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ(12)عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ(13)أَنْ كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ(14)إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ ءاياتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ(15)سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ(16)}



{فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ} أي فلا تطع رؤساء الكفر والضلال الذين كذبوا برسالتك وبالقرآن، فيما يدعونك إليه، قال الرازي: دعاه رؤساء أهل مكة إلى دين آبائه، فنهاه الله أن يطيعهم، وهذا من الله إلهاب وتهييج للتشدد في مخالفتهم {وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ} أي تمنوا لو تلين لهم يا محمد، وتترك بعض ما لا يرضونه مصانعة لهم، فيلينوا لك ويفعلوا مثل ذلك، قال ابن جزي: المداهنة: هي الملاينة والمداراة فيما لا ينبغي، روي أن الكفار قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: لو عبدت آلهتنا لعبدنا إلهك فنزلت الآية {وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلافٍ} أي ولا تطع يا محمد كثير الحلف بالحق والباطل، الذي يكثر من الحلف مستهيناً بعظمة الله {مَهِينٍ} أي فاجر حقير {هَمَّازٍ} أي مغتاب يأكل لحوم الناس بالطعن والعيب {مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ} أي يمشي بالنميمة بين الناس، وينقل حديثهم ليوقع بينهم وهو الفنان، وفي الحديث الصحيح (لا يدخل الجنة نمام) {مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ} أي بخيل ممسك عن الإِنفاق في سبيل الله {مُعْتَدٍ أَثِيمٍ} أي ظالم متجاوز في الظلم والعدوان، كثير الآثام والإِجرام، وجاءت الأوصاف {حلاف، هماز مشاء، مناع} بصيغة المبالغة للدلالة على الكثرة {عُتُلٍّ} أي جاف غليظ، قاسي القلب عديم الفهم {بَعْدَ ذَلِكَ} أي بعد تلك الأوصاف الذميمة التي تقدمت {زَنِيمٍ} أي ابن زنا، وهذه أشد معايبه وأقبحُها، أنه لصيق دعي ليس له نسب صحيح، قال المفسرون: نزلت في "الوليد بن المغيرة" فقد كان دعياً في قريش وليس منهم، ادعاه أبوه بعد ثمان عشرة سنة - أي تبناه ونسبه لنفسه بعد أن كان لا يعرف له أب - قال ابن عباس: لا نعلم أحداً وصفه الله بهذه العيوب غير هذا، فألحق به عاراً لا يفارقه أبداً، وإِنما ذَمَّ بذلك لأن النطفة إِذا خبثت خبث الولد، وروي أن الآية لما نزلت جاء الوليد إلى أمه فقال لها: إن محمداً وصفني بتسع صفات، كلها ظاهرة فيَّ اعرفها غير التاسع منها يريد أنه {زَنِيم} فإن لم تصدقيني ضربت عنقك بالسيف، فقالت له: إن أباك كان عنيناً - أي لا يستطيع معاشرة النساء - فخفت على المال فمكنت راعياً من نفسي فأنت ابن ذلك الراعي، فلم يعرف أنه ابن زنا حتى نزلت الآية {أَنْ كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ} أي لأن كان ذا مال وبنين قال في القرآن ما قال، وزعم أنه أساطير الأولين؟ وكان ينبغي أن يقابل النعمة بالشكر لا بالجحود والتكذيب {إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ ءاياتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ} أي إذا قرئت ءايات القرآن على ذلك الفاجر قال مستهزئاً ساخراً: إنها خرافات وأباطيل المتقدمين اختلقها محمد ونسبها إلى الله، قال تعالى رداً عليه متوعداً له بالعذاب {سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ} أي سنجعل له علامة على أنفه بالخطم عليه يعرف بها إلى موته، وكنى بالخرطوم عن أنفه على سبيل الاستخفاف به، لأن الخرطوم للفيل والخنزير، فإذا شبه أنف الإِنسان به كان ذلك غاية في الإِذلال والإِهانة كما يعبر عن شفاه الناس بالمشافر، وعن أيديهم وأرجلهم بالأظلاف والحوافر، قال ابن عباس: سنخطم أنفه بالسيف فنجعل ذلك علامة باقية على أنفه ما عاش، وقد خطم يوم بدر بالسيف، قال الإِمام الفخر الرازي: لما كان الوجه أكرم موضع في الجسد، والأنف أكرم موضع من الوجه لارتفاعه عليه، ولذلك جعلوه مكان العز والحمية واشتقوا منه الأَنفَة، وقال في الذليل: رغم أنفه، فعبر بالوسم على الخرطوم عن غاية الإِذلال والإِهانة، لأن السمة على الوجه شين، فكيف على أكرم موضع من الوجه!!





سبب النزول:

نزول الآية (17):

{إنا بلوناهم ..}: أخرج ابن أبي حاتم عن ابن جريج أن أبا جهل قال يوم بدر: خذوهم أخذاً، فاربطوهم في الحبال، ولا تقتلوا منهم أحداً، فنزلت: {إنا بلوناهم كما بلونا أصحاب الجنة} أي في قدرة أهل مكة على المؤمنين، كما اقتدر أصحاب الجنة على الجنة.



قصة أصحاب الحديقة



{إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ(17)وَلا يَسْتَثْنُونَ(18)فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ(19)فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ(20)فَتَنَادَوا مُصْبِحِينَ(21)أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَارِمِينَ(22)فَانطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ(23)أَنْ لا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ(24)وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ(25)فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ(26)بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ(27)قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلا تُسَبِّحُونَ(28)قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ(29)فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلاوَمُونَ(30)قَالُوا يَاوَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ(31)عَسَى رَبُّنَا أَنْ يُبْدِلَنَا خَيْرًا مِنْهَا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ(32)كَذَلِكَ الْعَذَابُ وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ(33)}



ثم ذكر تعالى قصة أصحاب الحديقة وما ابتلاهم تعالى به من إتلاف الزروع والثمار وضربه مثلاً لكفار مكة فقال {إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ} أي إنا اختبرنا أهل مكة بالقحط والجوع بدعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم كما اختبرنا أصحاب البستان المشتمل على أنواع الثمار والفواكه، وكلفنا أهل مكة أن يشكروا ربهم على النعم، كما كلفنا أصحاب الجنة أن يشكروا ويعطوا الفقراء حقوقهم، قال المفسرون: كان لرجل مسلم بقرب صنعاء بستان فيه من أنواع النخيل والزروع والثمار، وكان إذا حان وقت الحصاد دعا الفقراء فأعطاهم نصيباً وافراً منه وأكرمهم غاية الإِكرام فلما مات الأب ورثه أبناؤه الثلاثة فقالوا: عيالنا كثير والمال قليل ولا يمكننا أن نعطي المساكين كما كان يفعل أبونا، فتشاوروا فيما بينهم وعزموا على ألا يعطوا أحداً من الفقراء شيئاً، وأن يجنوا ثمرها وقت الصباح خفية عنهم، وحلفوا على ذلك، فأرسل الله تعالى ناراً على الحديقة ليلاً أحرقت الأشجار وأتلفت الثمار، فلما أصبحوا ذهبوا إلى حديقتهم فلم يروا فيها شجراً ولا ثمراً، فظنوا أنهم أخطأوا الطريق، ثم تبين لهم أنها بستانهم وحديقتهم وعرفوا أن الله تعالى عاقبهم فيها بنيتهم السيئة، فندموا وتابوا بعد أن فات الأوان {إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ} أي حين حلفوا ليقطعن ثمرها وقت الصباح، قبل أن يخرج إليهم المساكين {وَلا يَسْتَثْنُونَ} أي ولم يقولوا إن شاء الله حين حلفوا، كأنهم واثقون من الأمر {فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ} أي فطرقها طارق من عذاب الله، وهم في غفلة عما حدث لأنهم كانوا نياماً، قال الكلبي: أرسل الله عليها ناراً من السماء فاحترقت وهم نائمون {فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ} أي فأصبحت كالزرع المحصود إذا أصبح هشيماً يابساً، قال ابن عباس: أصبحت كالرماد الأسود، قد حرموا خير جنتهم بذنبهم {فَتَنَادَوا مُصْبِحِينَ} أي نادى بعضهم بعضاً حتى أصبحوا ليمضوا على الميعاد إلى بستانهم {أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَارِمِينَ} أي اذهبوا مبكرين إلى ثماركم وزروعكم وأعنابكم إن كنتم حاصدين للثمار تريدون قطعها {فَانطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ} أي فانطلقوا نحو البستان وهم يخفون كلامهم خوفاً من أن يشعر بهم المساكين قائلين {أَنْ لا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ} أي لا تدخلوا في هذا اليوم أحداً من الفقراء إلى البستان ولا تمكنوه من الدخول {وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ} أي ومضوا على قصد وقدرة في أنفسهم يظنون أنهم تمكنوا من مرادهم، قال ابن عباس: {عَلَى حَرْدٍ} على قدرة وقصد، وقال السدّيّ: على حنق وغضب، وقال الحسن: على فاقة وحاجة، وقول ابن عباس أظهر {فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ} أي فلما رأوا حديقتهم سوداء محترقة، قد استحالت من النضارة والبهجة إلى السواد والظلمة، قالوا لقد ضللنا الطريق إليها وليست هذه حديقتنا، قال أبو حيان: كان قولهم ذلك في أول وصولهم إليها، أنكروا أنها هي واعتقدوا أنهم أخطأوا الطريق، ثم وضح لهم أنها هي وأنه أصابها من عذاب الله ما أذهب خيرها فقالوا عند ذلك {بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ} أي لسنا مخطئين للطريق بل نحن محرومون، حرمنا ثمرها وخيرها بجنايتنا على أنفسنا {قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلا تُسَبِّحُونَ}؟ أي قال أعقلهم وأفضلهم رأياً: هلا تسبحون الله فتقولون "سبحان الله" أو "إن شاء الله"، قال أبو حيّان: نبههم ووبخهم على تركهم ما حضهم عليه من التسبيح، ولو ذكروا الله وإحسانه إليهم لامتثلوا ما أمر به من مواساة المساكين، واقتفوا سنة أبيهم في ذلك، فلما غفلوا عن ذكر الله وعزموا على منع المساكين ابتلاهم الله، وقال الرازي: إن القوم حين عزموا على منع الزكاة واغتروا بمالهم وقوتهم، قال الأوسط لهم توبوا عن هذه المعصية قبل نزول العذاب، فلما رأوا حالة البستان ذكرهم بالكلام الأول، فاشتغلوا بالتوبة ولكن بعد خراب البصرة {قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ} أي فقالوا حينئذٍ: تنزه الله ربنا عن الظلم فيما فعل، بل نحن كنا الظالمين لأنفسنا في منعنا حق المساكين {فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلاوَمُونَ} أي يلوم بعضهم بعضاً يقول هذا أنت أشرت علينا بهذا الرأي، ويقول ذاك: بل أنت، ويقول آخر: أنت الذي خوفتنا الفقر ورغبتنا في جمع المال، فهذا هو التلاوم {قَالُوا يَاوَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ} أي قالوا يا هلاكنا وتعاستنا إن لم يغفر لنا ربنا، فقد كنا عاصين وباغين في منعنا الفقراء، وعدم التوكل على الله، قال الرازي: والمراد أنهم استعظموا جرمهم {عَسَى رَبُّنَا أَنْ يُبْدِلَنَا خَيْرًا مِنْهَا} أي لعل الله يعطينا أفضل منها بسبب توبتنا واعترافنا بخطيئتنا {إِنَّا إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ} أي فنحن راجون لعفوه، طالبون لإِحسانه وفضله .. ساق تعالى هذه القصة ليعلمنا أن مصير البخيل ومانع الزكاة إلى التلف، وأنه يضن ببعض ماله في سبيل الله فيهلك كل ماله مصحوباً بغضب الله، ولذلك عقب تعالى بعد ذكر هذه القصة بقوله {كَذَلِكَ الْعَذَابُ وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} أي مثل هذا العذاب الذي نزل بأهل الجنة ينزل بقريش، ولعذاب الآخرة أعظم وأشد من عذاب الدنيا لو كان عندهم فهم وعلم، قال ابن عباس: هذا مثل لأهل مكة حين خرجوا إلى بدر، وحلفوا ألا يرجعوا إلى مكة حتى يقتلوا محمداً صلى الله عليه وسلم وأصحابه، ويشربوا الخمور، وتضرب القينات - المغنيات - على رؤوسهم، فأخلف الله ظنهم، فقتلوا وأُسروا وانهزموا كأهل هذه الجنة لما خرجوا عازمين على الصرام فخابوا .



جزاء المؤمنين المتقين



{إِنَّ لِلْمتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ(34)أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ(35)مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ(36)أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ(37)إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَمَا تَخَيَّرُونَ(38)أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ عَلَيْنَا بَالِغَةٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ(39)سَلْهُم أَيُّهُمْ بِذَلِكَ زَعِيمٌ(40)أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ فَلْيَأْتُوا بِشُرَكَائِهِمْ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ(41)يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ(42)خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ(43)}



ثم أخبر تعالى عن حال المؤمنين المتقين بعد أن ذكر حال المجرمين من كفار مكة فقال {إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ} أي إن للمتقين في الآخرة حدائق وبساتين ليس فيها إلا النعيم الخالص، الذي لا يشوبه كدر ولا منغص كما هو حال الدنيا {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ}؟ الاستفهام للإِنكار والتوبيخ أي أفنساوي بين المطيع والعاصي، والمحسن والمجرم؟ {مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ}؟ تعجب منهم حيث إنهم يسوُّون المطيع بالعاصي، والمؤمن بالكافر، فإن مثل هذا لا يصدر عن عاقل {أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ}؟ أي هل عندكم كتاب منزل من السماء تقرؤون وتدرسون فيه {إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَمَا تَخَيَّرُونَ} هذه الجملة مفعول لتدرسون أي تدرسون في هذا الكتاب ما تشتهون وتطلبون؟ وهذا توبيخ آخر للمشركين فيما كانوا يزعمونه من الباطل حيث قالوا: إن كان ثمة بعث وجزاء، فسنعطى خيراً من المؤمنين كما أعطينا في الدنيا، قال الطبري: وهذا توبيخ لهؤلاء القوم وتقريع لهم فيما كانوا يقولون من الباطل، ويتمنون من الأماني الكاذبة {أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ عَلَيْنَا بَالِغَةٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} أي هل لكم عهود ومواثيق مؤكدة من جهتنا ثابتة إلى يوم القيامة؟ {إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ} هذا جوابه أي إن لكم الذي تريدونه وتحكمون به؟ قال ابن كثير: المعنى أمعكم عهود ومواثيق مؤكدة أنه سيحصل لكم ما تريدون وتشتهون {سَلْهُم أَيُّهُمْ بِذَلِكَ زَعِيمٌ} أي سل يا محمد هؤلاء المكابرين أيهم كفيل وضامن بهذا الذي يزعمون؟ وفيه نوع من السخرية والتهكم بهم، حيث يحكمون بأمور خارجة عن العقول، يرفضها المنطق وتأباها العدالة {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ فَلْيَأْتُوا بِشُرَكَائِهِمْ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ} أي أم لهم شركاء وأرباب يكفلون لهم بذلك، فليأتوا بهم إن كانوا صادقين في دعواهم، قال ابن جزي: وهذا تعجيز للكفار والمراد إن كان لكم شركاء يقدرون على شيء، فأتوا بهم وأحضروهم حتى نرى حالهم .. ولما أبطل مزاعمهم وسفه أحلامهم، شرع في بيان أهوال الآخرة وشدائدها فقال {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ} أي اذكر يا محمد لقومك ذلك اليوم العصيب الذي يكشف فيه عن أمر فظيع شديد في غاية الهول والشدة، قال ابن عباس: هو يوم القيامة يوم كرب وشدة، قال القرطبي: والأصل فيه أن من وقع في شيء يحتاج فيه إلى الجد شمر عن ساقه، فاستعير الساق والكشف عنها في موضع الشدة كقول الراجز:

قد كشفت عن ساقها فشدوا وجدَّت الحرب بكم فجدوا

{وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ} أي ويدعى الكفار للسجود لرب العالمين فلا يستطيعون لأن ظهر أحدهم يصبح طبقاً واحداً، وفي الحديث (يسجد لله كل مؤمن ومؤمنة، ويبقى من كان يسجد في الدنيا رياء وسمعة فيذهب ليسجد فيعود ظهره طبقاً واحداً) {خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ} أي ذليلة متواضعة أبصارهم لا يستطيعون رفعها {تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ} أي تغشاهم وتلحقهم الذلة والهوان {وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ} أي والحال أنهم كانوا في الدنيا يدعون إلى السجود وهم أصحاء الأجسام معافون فيأبون، قال الإِمام الفخر الرازي: لا يدعون إلى السجود تعبداً وتكليفاً، ولكن توبيخاً وتعنيفاً على تركهم السجود في الدنيا، ثم إنه تعالى يسلب عنهم القدرة على السجود ويحول بينهم وبين الاستطاعة حتى تزداد حسرتهم وندامتهم على ما فرطوا فيه، حين دعوا إليه في الدنيا وهم سالمو الأطراف والمفاصل.



تخويف الكفار من قدرة الله، وأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالصبر



{فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ(44)وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ(45)أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ(46)أَمْ عِنْدَهُمْ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ(47)فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ(48)لَوْلا أَنْ تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ(49)فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ(50)وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ(51)وَمَا هُوَ إِلا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ(52)}



{فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ} أي اتركني يا محمد ومن يكذب بهذا القرآن لأكفيك شره وأنتقم لك منه!! وهذا منتهى الوعيد {سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ} أي سنأخذهم بطريق الاستدراج بالنعم، إلى الهلاك والدمار، من حيث لا يشعرون، قال الحسن: كم من مفتون بالثناء عليه، وكم من مغرور بالستر عليه، قال الرازي: الاستدراج أن يستنزله إليه درجة حتى يورطه فيه، فكلما أذنبوا ذنباً جدَّد الله لهم نعمة وأنساهم الاستغفار، فالاستدراج إنما حصل لهم من الإِنعام عليهم، لأنهم يحسبونه تفضيلاً لهم على المؤمنين، وهو في الحقيقة سبب لهلاكهم {وَأُمْلِي لَهُمْ} أي أُمهلهم وأُطيل في أعمارهم ليزدادوا إثماً {إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ} أي إن انتقامي من الكافرين قوي شديد وفي الحديث (إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته) ثم قرأ صلى الله عليه وسلم {وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد} وإنما سمى إحسانه كيداً كما سماه استدارجاً لكونه في صورة الكيد، فما وقع لهم من سعة الأرزاق، وطول الأعمار، وعافية الأبدان، إحسانٌ في الظاهر، وبلاء في الباطن، لأن المقصود معاقبتهم وتعذيبهم به {أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ} أي أتسألهم يا محمد غرامة مالية على تبليغ الرسالة، فهم معرضون عن الإِيمان بسبب ذلك التكليف الثقيل ببذلهم المال؟ والغرض توبيخهم في عدم الإِيمان فإن الرسول لا يطلب منهم شيئاً من الأجر، قال الخازن: المعنى أتطلب منهم أجراً فيثقل عليهم حمل الغرامات في أموالهم فيثبطهم عن الإِيمان {أَمْ عِنْدَهُمْ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ} أي أم هل عندهم اللوح المحفوظ الذي فيه الغيب، فهم ينقلون منه أنهم خير من أهل الإِيمان، فلذلك أصروا على الكفر والطغيان؟ وهو استفهام على سبيل الإِنكار والتوبيخ {فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ} أي فاصبر يا محمد على أذاهم، وامض لما أُمرت به من تبليغ رسالة ربك {وَلا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ} أي ولا تكن في الضجر والعجلة، كيونس بن متى عليه السلام، لما غضب على قومه لأنهم لم يؤمنوا فتركهم وركب البحر ثم التقمه الحوت، وكان من أمره ما كان {إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ} أي حين دعا ربه في بطن الحوت وهو مملوء غماً وغيظاً بقوله {لا إله إلا أنت سبحانك إني كنتُ من الظالمين}{لَوْلا أَنْ تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ} أي لولا أن تداركته رحمة الله {لَنُبِذَ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ} أي لطرح في الفضاء الواسع الخالي من الأشجار والجبال، وهو ملام على ما ارتكب، ولكن الله أنعم عليه بالتوفيق للتوبة فلم يبق مذموماً {فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ} أي فاصطفاه ربه واختاره لنفسه فجعله من المقربين، قال ابن عباس: رد الله إليه الوحي وشفعه في قومه {وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ} أي ولقد كاد الكفار من شدة عداوتهم لك يا محمد أن يصرعوك بأعينهم ويهلكوك، من قولهم نظر إلي نظراً كاد يصرعني، قال ابن كثير: وفي الآية دليل على أن العين وإصابتها وتأثيرها حق بأمر الله عز وجل، ويؤيده حديث (لو كان شيء يسبق القدر لسبقته العين) {لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ} أي حين سمعوك تقرأ القرآن، ويقولون من شدة بغضهم وحسدهم لك: إن محمداً مجنون، قال تعالى رداً عليهم {وَمَا هُوَ إِلا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ} أي وما هذا القرآن المعجز إلا موعظة وتذكير للإِنس والجن، فكيف ينسب من نزل عليه إلى الجنون؟! ختم تعالى السورة ببيان عظمة القرآن، كما بدأها ببيان عظمة الرسول، ليتناسق البدء مع الختام في أروع بيان وأجمل ختام.

yacine414
2011-04-02, 09:25
سورة الحاقَّة



تعظيم يوم القيامة وإهلاك المكذبين به

أهوال يوم القيامة

جزاء الأبرار بعد الحساب

حال الأشقياء يوم القيامة

تعظيم القرآن وتأكيد نزوله من عند الله



بَين يَدَيْ السُّورَة



* سورة الحاقة من السور المكية، شأنها شأن سائر السور المكية في تثبيت العقيدة والإِيمان، وقد تناولت أموراً عديدة كالحديث عن القيامة وأهوالها، والساعة وشدائدها، والحديث عن المكذبين وما جرى لهم، مثل قوم عاد، وثمود، وقوم لوط، وفرعون، وقوم نوح، وغيرهم من الطغاة المفسدين في الأرض، كما تناولت ذكر السعداء والأشقياء، ولكنَّ المحور الذي تدور عليه السورة هو "إثبات صدق" القرآن وأنه كلام الحكيم العليم، وبراءة الرسول صلى الله عليه وسلم مما اتهمه به أهل الضلال.



* ابتدأت السورة الكريمة ببيان أهوال القيامة والمكذبين بها، وما عاقب تعالى به أهل الكفر والعناد {الحاقة ما الحاقة وما أدراك ما الحاقة كذبت ثمودُ وعادٌ بالقارعة فأمَّا ثمود فأُهلكوا بالطاغية وأمَّا عادٌ فأهلكوا بريحٍ صرصرٍ عاتية ..} الآيات.



* ثم تناولت الوقائع والفجائع التي تكون عند النفخ في الصور، من خراب العالم، واندكاك الجبال، وانشقاق السماوات الخ {فإِذا نُفخ في الصُّور نفخةٌ واحدةٌ وحُملت الأرضُ والجبال فدُكَّتا دكةً واحدة ..} الآيات.



* ثم ذكرت حال السعداء والأشقياء في ذلك اليوم المفزع، حيث يعطى المؤمن كتابه بيمينه، ويلقى الإِكرام والإِنعام، ويعطى الكافر كتابه بشماله، ويلقى الذل والهوان {فأمَّا من أوتي كتابه بيمينه فيقول هاؤم اقرءوا كتابيه ... وأما من أوتي كتابه بشماله ..} الآيات.



* وبعد هذا العرض لأحوال الأبرار والفجار، جاء القسم البليغ بصدق الرسول، وصدق ما جاء به من الله، وردّ افتراءات المشركين الذين زعموا أن القرآن سحر أو كهانة {فلا أُقسم بما تبصرون وما لا تبصرون إنه لقول رسول كريم}.



* ثم ذكرت البرهان القاطع على صدق القرآن، وأمانة الرسول صلى الله عليه وسلم في تبليغه الوحي كما نزل عليه، بذلك التصوير الذي يهز القلب هزاً، ويثير في النفس الخوف والفزع من هول الموضوع {ولو تقوَّل علينا بعض الأقاويل لأخذنا منه باليمين ثم لقطعنا منه الوتين ..} الآيات.



* وختمت السورة بتمجيد القرآن وبيان أنه رحمة للمؤمنين وحسرة على الكافرين {وإنه لتذكرة للمتقين وإِنه لحسرة على الكافرين وإِنه لحق اليقين فسبح باسم ربك العظيم}.





تعظيم يوم القيامة وإهلاك المكذبين به



{الْحَاقَّةُ(1)مَا الْحَاقَّةُ(2)وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ(3)كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بِالْقَارِعَةِ(4)فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ(5)وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ(6)سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ(7)فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ(8)وَجَاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكَاتُ بِالْخَاطِئَةِ(9)فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَابِيَةً(10)إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ(11)لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ(12)}



{الْحَاقَّةُ} اسم للقيامة سميت بذلك لتحقق وقوعها، فهي حقٌ قاطع، وأمر واقع، لا شك فيه ولا جدال {مَا الْحَاقَّةُ}؟ التكرار لتفخيم شأنها، وتعظيم أمرها، وكان الأصل أن يقال: ما هي؟ ولكنه وضع الظاهر موضع الضمير زيادة في التعظيم والتهويل {وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ}؟ وما أعلمك يا محمد ما هي القيامة؟ إِنك لا تعلمها إِذ لم تعاينها، ولم تر ما فيها من الأهوال، فإِنها من العظم والشدة بحيث لا يحيط بها وصف ولا خيال، وهذا على طريقة العرب فإنهم إِذا أرادوا تشويق المخاطب لأمرٍ أتوا بصيغة الاستفهام يقولون: أتدري ماذا حدث؟ والآية من هذا القبيل زيادة في التعظيم والتهويل كأنه قال: إِنها شيء مريع وخطب فظيع .. ثم بعد أن عظَّم أمرها وفخّم شأنها، ذكر من كذَّب بها وما حلَّ بهم بسبب التكذيب، تذكيراً لكفار مكة وتخويفاً لهم فقال {كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بِالْقَارِعَةِ} أي كذب قوم صالح، وقوم هود بالقيامة، التي تقرع القلوب بأهوالها {فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ} أي فأمَّا ثمود - قوم صالح - فأُهلكوا بالصيحة المدمرة، التي جاوزت الحدَّ في الشدة، قال قتادة: هي الصيحة التي خرجت عن حدِّ كل صيحة {وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ} أي وأما عاد - قوم هود - فأُهلكوا بالريح العاصفة ذات الصوت الشديد وهي الدَّبور وفي الحديث (نصرتُ بالصبا، وأُهلكت عادٌ بالدَّبور) (عاتية) أي متجاوزة الحدَّ في الهبوب والبرودة، كأنها عتت على خزانها فلم يتمكنوا من ضبطها، قال ابن عباس: ما أرسل الله من ريح قط إِلا بمكيال، ولا أنزل قطرة قطُّ إِلا بمكيال، إِلا يوم نوحٍ ويوم عاد، فإِن الماء يوم نوح طغى على الخزان فلم يكن لهم عليه سبيل ثم قرأ {إِنَّا لما طغى الماء حملناكم في الجارية} وإِن الريح عتت على خزانها فلم يكن لهم عليها سبيل ثم قرأ {بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ} {سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا} أي سلطها الله عليهم سبع ليالٍ وثمانية أيام متتابعة لا تفتر ولا تنقطع {فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى} أي فترى أيها المخاطب القوم في منازلهم موتى، لا حراك بهم {كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ} أي كأنهم أصول نخلٍ متآكلة الأجواف، قال المفسرون: كانت الريح تقطع رؤوسهم كما تقطع رءوس النخل، وتدخل من أفواههم وتخرج من أدبارهم حتى تصرعهم، فيصبحوا كالنخلة الخاوية الجوف {فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ}؟ أي فهل ترى أحداً من بقاياهم؟ أو تجد لهم أثراً؟ لقد هلكوا عن آخرهم كقوله تعالى {فأصبحوا لا يُرى إِلا مساكنهم} {وَجَاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ} أي وجاء فرعون الجبار، ومن تقدَّمه من الأمم الطاغية التي كفرت برسلها {وَالْمُؤْتَفِكَاتُ} أي والأمم الذين انقلبت بهم ديارهم - قرى قوم لوط - حيث جعل الله عاليها سافلها، قال الصاوي: {وَالْمُؤْتَفِكَاتُ} أي المنقلبات وهي قرى قوم لوط، التي اقتلعها جبريل ورفعها على جناحه قرب السماء ثم قلبها، وكانت خمس قرى {بِالْخَاطِئَةِ} أي بالفعلة الخاطئة المنكرة، وهي الكفر والعصيان {فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ} أي فعصى فرعون رسول الله موسى، وعصى قوم لوطٍ رسولهم لوطاً {فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَابِيَةً} أي فأخذهم الله أخذةً زائدةً في الشدة، على عقوبات من سبقهم، كما أن جرائمهم زادت في القبح والشناعة على سائر الكفار {إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ} أي لما تجاوز الماء حدَّه حتى علا كل شيء وارتفع فوقه حملناكم في السفينة {لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً} أي لنجعل تلك الحادثة عظةً للناس وعبرة، تدل على انتقام الله ممن كذَّب رسله {وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ} أي وتحفظها وتذكرها أذن واعية للمواعظ، تنتفع بما تسمع، قال القرطبي: والمقصود من قصص هذه الأمم وذكر ما حلَّ بهم من العذاب، زجر هذه الأمة عن الاقتداء بهم في معصية الرسول صلى الله عليه وسلم، ولهذا ختم الآية بقوله {وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ} قال قتادة: الواعية هي التي عقلت عن الله وانتفعت بما سمعت من كتاب الله عزّ وجّل.



أهوال يوم القيامة



{فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ(13)وَحُمِلَتِ الأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً(14)فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ(15)وَانشَقَّتِ السَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ(16)وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ(17)يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ(18)}



ولما ذكر قصص المكذبين، أتبعه بذكر أهوال القيامة وشدائدها فقال {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ} أي فإِذا نفخ إِسرافيل في الصور نفخةً واحدة لخراب العالم، قال ابن عباس: هي النفخة الأولى التي يحصل عنها خراب الدنيا {وَحُملَتِ الأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً} أي ورفعت الأرض والجبال عن أماكنها، فضرب بعضها ببعضٍ حتى تندق وتتفتَّت وتصير كثيباً مهيلاً {فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ} أي ففي ذلك الحين قامت القيامة الكبرى، وحدثت الداهية العظمى {وَانشَقَّتْ السَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ} أي وانصدعت السماء فهي يومئذٍ ضعيفة مسترخية، ليس فيها تماسك ولا صلابة {وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا} أي والملائكة على أطرافها وجوانبها، قال المفسرون: وذلك لأن السماء مسكن الملائكة، فإذا انشقت السماء وقفوا على أطرافها فزعاً مما داخلهم من هول ذلك اليوم، ومن عظمة ذي الجلال، الكبير المتعال {وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ} أي ويحمل عرش الرحمن ثمانية من الملائكة العظام فوق رءوسهم، وقال ابن عباس: ثمانية صفوفٍ من الملائكة لا يعلم عددهم إِلا الله {يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ} أي في ذلك اليوم الرهيب، تعرضون على ملك الملوك ذي الجلال للحساب والجزاء، لا يخفى عليه منكم أحدٌ، ولا يغيب عنه سرٌّ من أسراركم، لأنه العالم بالظواهر والسرائر والضمائر.



جزاء الأبرار بعد الحساب



{فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمْ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ(19)إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ(20)فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ(21)فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ(22)قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ(23)كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الأَيَّامِ الْخَالِيَةِ(24)}



ثم بيَّن تعالى حال السعداء والأشقياء في ذلك اليوم فقال {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ} أي فأما من أعطي كتاب أعماله بيمينه لأنه من السعداء { فَيَقُولُ هَاؤُمْ اقْرَءُوا كِتَابِيه} أي فيقول ابتهاجاً وسروراً: خذوا اقرءوا كتابي، والهاء في {كِتَابيه} هاء السكت وكذلك في {حِسَابِيه} و{ماليه} و{سلطانيه} قال الرازي: ويدل قوله {هاؤم اقرءوا كتابيه} على أنه بلغ الغاية في السرور، لأنه لما أُعطي كتابه بيمينه، علم أنه من الناجين ومن الفائزين بالنعيم، فأحب أن يظهر ذلك لغيره حتى يفرحوا بما ناله {إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيه} أي إِني أيقنت وتحققت بأني سألقى حسابي وجزائي يوم القيامة، فأعددت له العدة من الإِيمان، والعمل الصالح، قال الحسن: إِن المؤمن أحسن الظنَّ بربه فأحسن العمل، وإِنَّ المنافق أساء الظن بربه فأساء الظن بربه فأساء العمل، وقال الضحاك: كل ظنٍ في القرآن من المؤمن فهو يقين، ومن الكافر فهو شك .. قال تعالى مبيناً جزاءه {فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ} أي فهو في عيشة هنيئة مرضية، يرضى بها صاحبها، لما ورد في الصحيح أنهم يعيشون فلا يموتون أبداً، ويصحون فلا يمرضون أبداً، وينعمون فلا يرون بؤساً أبداً {فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ} أي في جنةٍ رفيعة القدر، وقصور عالية شاهقة {قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ} أي ثمارها قريبة، يتناولها القائم، والقاعد، والمضطجع، قال ابن جزي: القطوف جمع قطف وهو ما يجتنى من الثمار ويقطف كالعنقود، روي أن العبد يأخذها بفمه من شجرها وهو قائم أو قاعد أو مضطجع {كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا} أي يقال لهم تفضلاً وإِنعاماً: كلوا واشربوا أكلاً وشرباً هنيئاً، بعيداً عن كل أذى، سالماً من كل مكروه {بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الأَيَّامِ الْخَالِيَةِ} أي بسبب ما قدمتم من الأعمال الصالحة في الأيام الماضية يعني أيام الدنيا.



حال الأشقياء يوم القيامة



{وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ(25)وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ(26)يَا لَيْتَهَا كَانَتْ الْقَاضِيَةَ(27)مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ(28)هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ(29)خُذُوهُ فَغُلُّوهُ(30)ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ(31)ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ(32)إِنَّهُ كَانَ لا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ(33)وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ(34)فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ(35)وَلا طَعَامٌ إِلا مِنْ غِسْلِينٍ(36)لا يَأْكُلُهُ إِلا الْخَاطِئُونَ(37)}



ولما ذكر حال السعداء أعقبه بذكر حال الأشقياء فقال {وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ} أي وأما من أعطي كتابه بشماله وهذه علامة الشقاوة والخسران {فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيه} أي فيقول اذا رأى قبائح أعماله: يا ليتني لم أعط كتابي، قال المفسرون: وذلك لِما يحصل له من الخجل والافتضاح فيتمنى عندئذٍ أنه لم يعط كتاب أعماله، ويندم أشد الندم {وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيه} أي ولم عرف عظم حسابي وشدته، والاستفهام للتعظيم والتهويل {يَا لَيْتَهَا كَانَتْ الْقَاضِيَةَ} أي يا ليت الموتة الأولى التي متُّها في الدنيا، كانت القاطعة لحياتي، فلم أبعث بعدها ولم أُعذب، قال قتادة: تمنى الموت ولم يكن شيء عنده أكره من الموت، لأنه رأى تلك الحالة أشنع وأمرَّ ممَّا ذاقه من الموت {مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيه} أي ما نفعني مالي الذي جمعته ولا دفع عني من عذاب الله شيئاً {هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيه} أي زال عني ملكي وسلطاني، ونسبي وجاهي، فلا معين لي ولا مجير، ولا صديق ولا نصير {خُذُوهُ فَغُلُّوهُ} أي يقول تعالى لزبانية جهنم: خذوا هذا المجرم الأثيم فشدوه بالأغلال، قال القرطبي: فيبتدره مائة ألف ملك، ثم تجمع يده الى عنقه، فذلك قوله تعالى {فَغُلُّوهُ} {ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ} أي ثم أدخلوه النار العظيمة المتأججة، ليصلى حرَّها {ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ} أي ثم أدخلوه في سلسلةٍ حديدية طولها سبعون ذراعاً، قال ابن عباس: بذراع الملك، تدخل السلسلة من دبره، وتخرج من حلقه، ثم يجمع بين ناصيته وقدميه والسلسلة هي حلق منتظمة، كل حلقة منها في حلقة، يلف بها حتى لا يستطيع حراكاً .. لمّا بيَّن العذاب الشديد بيَّن سببه فقال {إِنَّهُ كَانَ لا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ} أي كان لا يصدق بوحدانية الله وعظمته، قال أبو حيّان: بدأ بأقوى أسباب تعذيبه وهو كفره بالله، وهو تعليلٌ مستأنف كأن قائلاً قال: لم يعذِّب هذا العذاب البليغ؟ فأجيب إِنه كان لا يؤمن بالله {وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ} أي ولا يُحثُّ نفسه ولا غيره على إِطعام المسكين، قال المفسرون: ذكر الحضَّ دون الفعل للتنبيه على أن تارك الحضّ بهذه المنزلة، فكيف بتارك الإِحسان والصدقة؟ {فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ} أي فليس له في الآخرة صديق يدفع عنه العذاب، لأن الأصدقاء يتحاشونه، ويفرُّون منه {وَلا طَعَامٌ إِلا مِنْ غِسْلِينٍ} أي وليس له طعام إِلا صديد أهل النار، الذي يسيل من جراحاتهم {لا يَأْكُلُهُ إِلا الْخَاطِئُونَ} أي لا يأكله إِلا الآثمون المجرمون المرتكبون للخطايا والآثام، قال المفسرون: {الْخَاطِئُونَ} جمع خاطئ وهو الذي يتعمد الذنب، والمخطئ الذي يفعل الشيء خطأ دون قصد، ولهذا قال {الْخَاطِئُونَ} ولم يقل المخطئون.









تعظيم القرآن وتأكيد نزوله من عند الله



{فَلا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ(38)وَمَا لا تُبْصِرُونَ(39)إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ(40)وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلاً مَا تُؤْمِنُونَ(41)وَلا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ(42)تَنزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ(43)وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ(44)لأخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ(45)ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ(46)فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ(47)وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ(48)وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ(49)وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكَافِرِينَ(50)وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ(51)فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ(52)}



سبب النزول:

نزول الآيات (38 - 40):

{فلا أقسم}: قال مقاتل: سبب ذلك أن الوليد بن المغيرة قال: إن محمداً ساحر، وقال أبو جهل: شاعر، وقال عقبة: كاهن، فقال الله عز وجل: {فلا أقسم ..} أي أقسم.

ولما ذكر أحوال السعداء من أهل الجنة، ثم أحوال الأشقياء من أهل النار، ختم الكلام بتعظيم القرآن فقال {فَلا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ * وَمَا لا تُبْصِرُونَ} أي فأقسم بالمشاهدات والمغيبات، أُقسم بما ترونه ولا ترونه، مما هو واقعٌ تحت الأبصار، وما غاب وخفي عن الأنظار، و {لا} في قوله {فَلا أُقْسِمُ} لتأكيد القسم وليست نافية، قال الإِمام الفخر الرازي: والآية تدل على العموم والشمول، لأنها لا تخرج عن قسمي: مبصرٍ وغير مبصر، فشملت الخالق والخلق، والدنيا والآخرة، والأجسام والأرواح، والإِنس والجن، والنعم الظاهرة والباطنة، قال قتادة: هو عام في جميع مخلوقاته جلَّ وعلا، وقال عطاء: ما تبصرون من آثار القدرة، وما لا تبصرون من أسرار القدرة {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} أي إِن هذا القرآن لكلام الرحمن، يتلوه ويقرؤه رسولٌ كريم، هو محمد عليه أفضل الصلاة والتسليم، قال القرطبي: والرسول ههنا محمد صلى الله عليه وسلم ونسب القول إِليه لأنه تاليه ومبلغه عن الله تعالى {وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ} أي وليس القرآن كلام شاعر كما تزعمون، لأنه مباين لأوزان الشعر كلها، فليس شعراً ولا نثراً {قَلِيلاً مَا تُؤْمِنُونَ} أي قلَّما تؤمنون بهذا القرآن، قال مقاتل: يعني بالقليل أنهم لا يصدقون بأن القرآن من الله، بمعنى لا يؤمنون به أصلاً، والعرب تقول: قلَّما يأتينا يريدون لا يأتينا {وَلا بِقَوْلِ كَاهِنٍ} أي وليس هو بقول كاهنٍ يدعي معرفة الغيب، لأن القرآن يغاير بأسلوبه سجع الكهان {قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ} أي قلَّما تتذكرون وتتعظون {تَنزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} أي هو تنزيلٌ من ربِّ العزة جل وعلا كقوله تعالى {وإِنه لتنزيل ربِّ العالمين نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين بلسانٍ عربي مبين} والغرض من الآية تبرئه الرسول صلى الله عليه وسلم مما نسبه إِليه المشركون من دعوى السحر والكهانة، ثم أكَّد ذلك بأعظم برهان على أن القرآن من عند الله فقال {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ} أي لو اختلق محمد بعض الأقوال، ونسب إِلينا ما لم نقله {لأخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ} أي لانتقمنا منه بقوتنا وقدرتنا {ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ} أي ثم لقطعنا نياط قلبه حتى يموت، قال القرطبي: والوتينُ عرق يتعلق به القلب، إِذا انقطع مات صاحبه والغرض أنه تعالى يعاجله بالعقوبة ولا يمهله، لو نسب إِلى الله شيئاً ولو قليلاً، فإِن تسمية الأقوال بالأقاويل للتصغير والتحقير {فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ} أي فما يقدر أحد منكم أن يحجز بيننا وبينه، لو أردنا حينئذٍ عقوبته، ولا أن يدفع عنه عذابنا، قال الخازن: المعنى إِن محمداً لا يتكلم الكذب علينا لأجلكم، مع علمه أنه لو تكلم لعاقبناه، ولا يقدر أحدٌ على دفع عقوبتنا عنه {وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ} أي وإِن هذا القرآن لعظةٌ للمؤمنين المتقين الذين يخشون الله، وخصَّ المتقين بالذكر لأنهم المنتفعون به {وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ} أي ونحن نعلم أن منكم من يكذب بهذا القرآن مع وضوح آياته، ويزعم أنه أساطير الأولين، وفي الآية وعيدٌ لمن كذب بالقرآن {وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكَافِرِينَ} أي وإِنه لحسرة عليهم في الآخرة، لأنهم يتأسفون إِذا رأوا ثواب من آمن به {وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ} أي وإِنه لحقٌ يقينيٌ لا يحوم حوله ريبٌ، ولا يشك عاقل أنه كلام رب العالمين {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} أي فنزّه ربك العظيم عن السوء والنقائص، واشكره على ما أعطاك من النعم العظيمة، التي من أعظمها نعمة القرآن.

yacine414
2011-04-02, 09:26
سورة المَعَارِج



تهديد طغاة أهل مكة بعذاب يوم القيامة

طبيعة الإنسان وحرصه الشديد على حطام الدنيا

أحوال الكفار المكذبين بالرسول صلى الله عليه وسلم



بَين يَدَيْ السُّورَة



* سورة المعارج من السور المكية، التي تعالج أصول العقيدة الإِسلامية، وقد تناولت الحديث عن القيامة وأهوالها، والآخرة وما فيها من سعادة وشقاوة، وراحةٍ ونصب، وعن أحوال المؤمنين والمجرمين، في دار الجزاء والخلود، والمحورُ الذي تدور عليه السورة الكريمة هو الحديث عن كفار مكة وإِنكارهم للبعث والنشور، واستهزاؤهم بدعوة الرسول صلى الله عليه وسلم.



* ابتدأت السورة الكريمة بالحديث عن طغيان أهل مكة، وعن تمردهم على طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم، واستهزائهم بالإِنذار والعذاب الذي خُوفوا به، وذكرت مثلاً لطغيانهم بما طلبه بعض صناديدهم وهو "النضر بن الحارث" حين دعا أن يُنزل الله عليه وعلى قومه العذاب العاجل، ليستمتعوا به في الدنيا قبل الآخرة، وذلك مكابرةً في الجحود والعناد {سأل سائلٌ بعذابٍ واقع للكافرين ليس له دافع من الله ذي المعارج} الآيات.



* ثم تناولت الحديث عن المجرمين في ذلك اليوم الفظيع الذي تتفطر فيه السماوات، وتتطاير فيه الجبال فتصير كالصوف الملوَّن ألواناً غريبة {يوم تكون السماءُ كالمُهْل وتكون الجبال كالعهن ولا يسأل حميمٌ حميماً يبصَّرونهم يودُّ المجرم لو يفتدي من عذابِ يومئذٍ ببنيه وصاحبته وأخيه وفصيلته التي تؤويه ومن في الأرض جميعاً ثم ينجيه}.



* ثم استطردت السورة إلى ذكر طبيعة الإِنسان، فإِنه يجزع عند الشدة، ويبطر عند النعمة، فيمنع حقَّ الفقير والمسكين {إنَّ الإِنسان خُلق هلوعاً إِذا مسَّه الشرُّ جزوعاً وإِذا مسَّه الخير منوعاً}.



* ثم تحدثت عن المؤمنين وما اتصفوا به من جلائل الصفات، وفضائل الأخلاق، وبينت ما أعدَّ الله لهم من عظيم الأجر في جنات الخلد والنعيم {إلا المصلين الذين هم على صلاتهم دائمون والذين في أموالهم حق معلوم للسائل والمحروم} الآيات.



* ثم تناولت الكفرة المستهزئين بالرسول، الطامعين في دخول جنات النعيم {فما للذين كفروا قِبَلك مهطعين * عن اليمين وعن الشمال عزين * أيطمع كل امرئٍ منهم أن يُدخل جنة نعيم* كلاَّ إنا خلقناهم مما يعلمون}.



* وختمت السورة الكريمة بالقسم الجليل برب العالمين على أن البعث والجزاء حقٌ لا ريب فيه، وعلى أن الله تعالى قادر على أن يخلق خيراً منهم {فلا أُقسم برب المشارق والمغارب إنا لقادرون على أن نبدِّل خيراً منهم وما نحن بمسبوقين .. إلى قوله خاشعة أبصارهم ترهقهم ذلة ذلك اليوم الذي كانوا يوعدون}.

* * *





تهديد طغاة أهل مكة بعذاب يوم القيامة



{سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ(1)لِلْكَافِرينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ(2)مِنْ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ(3)تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ(4)فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلاً(5)إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا(6)وَنَرَاهُ قَرِيبًا(7)يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ(8)وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ(9)وَلا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا(10)يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ(11)وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ(12)وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْويهِ(13)وَمَنْ فِي الأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنجِيهِ(14)كَلا إِنَّهَا لَظَى(15)نَزَّاعَةً لِلشَّوَى(16)تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى(17)وَجَمَعَ فَأَوْعَى(18)}



سبب النزول:

نزول الآيتين (1ـ2):

أخرج النسائي وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله تعالى: {سأل سائل} قال: هو النضر بن الحارث، قال: {اللهم إن كان هذا هو الحقَّ من عندك فأمطر علينا حجارةً من السماء}. وأخرج ابن أبي حاتم عن السُّدي في قوله : {سأل سائل} قال: نزلت بمكة في النضر بن الحارث، وقد قال: {اللهم إن كان هذا هو الحقَّ من عندك ..} الآية. وكان عذابه يوم بدر. وأخرج ابن المنذر عن الحسن قال: نزلت {سأل سائل بعذاب واقع} فقال الناس: على من يقع العذاب؟ فأنزل الله: {للكافرين ليس له دافع}.



{سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ} أي دعا داعٍ من الكفار لنفسه ولقومه بنزول عذاب واقع لا محالة قال المفسرون : السائل هو "النضر بن الحارث" من صناديد قريش وطواغيها، لمَّا خوفهم رسول الله عذاب الله قال استهزاء {اللهم إِن كان هذا هو الحقَّ من عندك فأمطر علينا حجارةً من السماء أو ائتنا بعذابٍ أليم} فأهلكه الله يوم بدر، ومات شر ميتة، ونزلت الآية بذمه {لِلْكَافِرينَ} أي دعا بهذا العذاب على الكافرين {لَيْسَ لَهُ دَافعٌ} أي لا رادَّ إِذا أراد الله وقوعه، وهو نازل بهم لا محالة، سواءً طلبوه أو لم يطلبوه، وإِذا نزل العذاب فلن يرفع أو يُدفع {من الله ذي المعارج} أي هو صادر من الله العظيم الجليل، صاحب المصاعد التي تصعد بها الملائكة، وتنزل بأمره ووحيه، ثم فصَّل ذلك بقوله {تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ} أي تصعد الملائكة الأبرار وجبريل الأمين الذي خصه الله بالوحي إلى الله عز وجل {فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} أي في يومٍ طوله خمسون ألف سنة من سني الدنيا، قال ابن عباس: هو يوم القيامة جعله الله على الكافرين مقدار خمسين ألف سنة ثم يدخلون النار للاستقرار، قال المفسرون: والجمع بين هذه الآية وبين قوله تعالى في سورة السجدة {فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} أن القيامة مواقف ومواطن، فيها خمسون موطناً كل موطن ألف سنة، وأن هذه المدة الطويلة تخف على المؤمن حتى تكون أخفَّ عليه من صلاة مكتوبة {فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلاً} أي فاصبر يا محمد على استهزاء قومك وأذاهم ولا تضجر، فإِن الله ناصرك عليهم، وهذا تسليةٌ له عليه الصلاة والسلام، لأن استعجال العذاب إِنما كان على وجه الاستهزاء برسول الله صلى الله عليه وسلم فأمره الله بالصبر، قال القرطبي: والصبر الجميل هو الذي لا جزع فيه، ولا شكوى لغير الله {إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا} أي إِن هؤلاء المستهزئين يستبعدون العذاب ويعتقدون أنه غير نازل، لإِنكارهم للبعث والحساب {وَنَرَاهُ قَرِيبًا} أي ونحن نراه قريباً لأن كل ما هو آتٍ قريب .. ثم أخبر تعالى عن هول العذاب وشدته وعن أهوال يوم القيامة فقال {يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ} أي تكون السماء سائلة غير متماسكة، كالرصاص المذاب، قال ابن عباس: كدردي الزيت أي كعكر الزيت {وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ} أي وتكون الجبال متناثرة متطايرة، كالصوف المنقوش إِذا طيَّرته الريح، قال القرطبي: العهن الصوف الأحمر أو ذو الألوان، شبَّه الجبال به في تلونها ألواناً، وأول ما تتغير الجبال تصير رملاً مهيلاً، ثم عهناً منقوشاً، ثم هباءً منثوراً .. هذه حال السماء والأرض في ذلك اليوم المفزع، أما حال الخلائق فهي كما قال تعالى {وَلا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا} أي لا يسأل صديق صديقه، ولا قريب قريبه عن شأنه، لشغل كل إِنسانٍ بنفسه، وذلك لشدة ما يحيط بهم من الهول والفزع {يُبَصَّرُونَهُمْ} أي يرونهم ويعرفونهم، حتى يرى الرجل أباه وأخاه وقرابته وعشيرته، فلا يسأله ولا يكلمه بل يفر منه كقوله تعالى {وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ} {يوم يفرُّ المرءُ من أخيه، وأُمه وأبيه، وصاحبته وبنيه، لكل امرئٍ منهم يومئذٍ شأنُ يُغنيه} قال ابن عباس: {يبصَّرونهم} أي يعرف بعضهم بعضاً ويتعارفون بينهم، ثم يفرُّ بعضهم من بعض {يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ} أي يتمنى الكافر - مرتكب جريمة الجحود والتكذيب - لو يفدي نفسه من عذاب الله، بأعز من كان عليه في الدنيا من ابنٍ، وزوجةٍ، وأخٍ {وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْويهِ} أي وعشيرته التي كانت تضمه إِليها، ويتكل في نوائبه عليها، وليس هذا فحسب بل يتمنى لو يفتدي بجميع أهل الأرض {وَمَنْ فِي الأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنجِيهِ} أي وبجميع من في الأرض من البشر وغيرهم ثم ينجو من عذاب الله، ولكن هيهات أن ينجو المجرم من العذاب، أو ينقذه ذلك من شدة الكرب، وفادح الخطب، قال الإِمام الفخر الرازي: و{ثم} لاستبعاد الإِنجاء يعني يتمنى لو كان هؤلاء جميعاً تحت يده، وبذلهم في فداء نفسه ثم ينجيه ذلك، وهيهات أن ينجيه {كَلا إِنَّهَا لَظَى} {كَلا } أداة زجر وتعنيف أي لينزجر هذا الكافر الأثيم وليرتدع عن هذه الأماني، فليس ينجيه من عذاب الله فداء، بل أمامه جهنم تتلظَّى نيرانها وتلتهب {نَزَّاعَةً لِلشَّوَى} أي تنزع بشدة حرها جلدة الرأس من الإِنسان كلما قلعت عادت كما كانت زيادة في التنكيل والعذاب، وخصَّها بالذكر لأنها أشد الجسم حساسيةً وتأثراً بالنار {تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى} أي تنادي جهنم وتهتف بمن كذب بالرحمن، وأعرض عن الإِيمان، قال ابن عباس: تدعو الكافرين والمنافقين بأسمائهم بلسان فصيح تقول: إِليَّ يا كافر، إِليَّ يا منافق، ثم تلتقطهم كما يلتقط الطير الحب {وَجَمَعَ فَأَوْعَى} أي وتدعو من جمع المال وخبأه وكنزه في الخزائن والصناديق، ولم يؤد منه حقَّ الله وحق المساكين، قال المفسرون: والآية وعيدٌ شديد لم يبخل بالمال، ويحرص على جمعه، فلا ينفقه في سبيل الخير، ولا يخرج منه حق الله وحقَّ المسكين، وقد كان الحسن البصري يقول: يا ابن آدم سمعتَ وعيدَ الله ثم أوعيت الدنيا أي جمعتها من حلالٍ وحرامٍ!!



طبيعة الإنسان وحرصه الشديد على حطام الدنيا



{إِنَّ الإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا(19)إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا(20)وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا(21)إِلا الْمُصَلِّينَ(22)الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ دَائِمُونَ(23)وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ(24)لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ(25)وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ(26)وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ(27)إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ(28)وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ(29)إِلا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ(30)فَمَنْ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْعَادُونَ(31)وَالَّذِينَ هُمْ لأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ(32)وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ(33)وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ يُحَافِظُونَ(34)أُوْلَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ(35)}



ثم أخبر تعالى عن طبيعة الإِنسان، وما جبل عليه من الحرص الشديد على جمع حطام الدنيا فقال {إِنَّ الإِنسَانَ خُلقَ هَلُوعًا} أي إِن الإِنسان جبل على الضجر، لا يصبر على بلاء، ولا يشكر على نعماء، قال المفسرون: الهلع: شدة الحرص وقلة الصبر، يقال: جاع فهلع، والمراد بالإِنسان العموم بدليل الاستثناء منه، والاستثناء معيار العموم، ثم فسَّره تعالى بقوله {إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا} أي إِذا نزل به مكروه من فقر، أو مرضٍ، أو خوف، كان مبالغاً في الجزع مكثراً منه، واستولى عليه اليأس والقنوط {وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا} أي وإِذا أصابه خيرٌ من غنى، وصحة وسعة رزق كان مبالغاً في المنع والإِمساك، فهو إِذا أصابه الفقر لم يصبر، وإِذا أغناه الله لم ينفق، قال ابن كيسان: خلق الله الإِنسان يحب ما يسره، ويهرب مما يكرهه، ثم تعبَّده بإِنفاق ما يحب والصبر على ما يكره {إِلا الْمُصَلِّينَ} استثناهم من أفراد البشر الموصوفين بالهلع، لأن صلاتهم تحملهم على قلة الاكتراث بالدنيا، فلا يجزعون من شرها ولا يبخلون بخيرها {الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ دَائِمُونَ} أي مواظبون على أداء الصلاة، لا يشغلهم عنها شاغل، لأن نفوسهم صفت من أكدار الحياة، بتعرضهم لنفحات الله {وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ} أي في أموالهم نصيبٌ معيَّن فرضه الله عليهم وهو الزكاة {لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} أي للفقير الذي سأل ويتكفف الناس، والمحروم الذي يتعفف عن السؤال، فيُظن أنه غنيٌ فيحرم كقوله تعالى {يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف} {وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ} أي يؤمنون بيوم الحساب والجزاء، ويصدِّقون بمجيئه تصديقاً جازماً لا يشوبه شك أو ارتياب، فيستعدون له بالأعمال الصالحة {وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ} أي خائفون على أنفسهم من عذاب الله، يرجون الثواب ويخافون العقاب {إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ} أي لأن عذاب الله لا ينبغي أن يأمنه إِنسان، إِلاَّ من أمنَّه الرحمن والأمور بخواتيمها .. إِنَّ هؤلاء المصدقين المشفقين قلَّما تزدهيهم الدنيا، أو يبطرهم نعيمها، أو يجزعون على ما فاتهم من حطامها، فسواءٌ عليهم أخسروا حظوظ الدنيا أم غنموا، إِذ أن لديهم من الفكر في جلال ربهم، وذكر معادهم، ما يشغلهم عن الجزع إِذا مسَّهم الشر، ويربأ بهم عن المنع إِذا مسهم الخير، ثم ذكر تعالى الفريق الخامس من الموفقين للخيرات وفعل الطاعات فقال {والذين هم لفروجهم حافظون} أي أعفاء لا يرتكبون المحارم، ولا يتلوثون بالمآثم، قد صانوا أنفسهم عن الزنى والفواحش {إِلا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} أي يقتصرون على ما أحلَّ الله لهم من الزوجات المنكوحات، والرقيقات المملوكات {فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ} أي فإِنهم غير مؤاخذين لأن وضع الشهوة فيما أباح الله من الزوجات والمملوكات، حلالٌ يؤجر عليه الإِنسان، لما فيه من تكثير النسل والذرية {فَمَنْ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْعَادُونَ} أي فمن طلب لقضاء شهوته غير الزوجات والمملوكات، فقد تعدَّى حدود الله وعرَّض نفسه لعذاب الله، قال الطبري: من التمس لفرجه منكحاً سوى زوجته أو ملك يمينه، ففاعلوا ذلك هم العادون، الذين تعدوا حدود ما أحل الله لهم، إِلى ما حرَّمه عليهم، فهم الملومون {وَالَّذِينَ هُمْ لأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ} أي يؤدون الأمانات، ويحفظون العهود، فإِذا ائتمنوا لم يخونوا، وإِذا عاهدوا لم يغدروا {وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ} أي يشهدون بالحق على القريب والبعيد، ولا يكتمون الشهادة ولا يغيرونها، بل يؤدونها على وجهها الكامل، بحيث تصان بها حقوق الناس ومصالحهم، وخصَّها بالذكر مع اندراجها في الأمانات، تنبيهاً على فضلها لأن في إِقامتها إِحياء للحقوق، وفي تركها تضييع للحقوق {وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ يُحَافِظُونَ} هذا هو الوصف الثامن من أوصاف المؤمنين الذين وفقهم الله إِلى تطهير نفوسهم من خلق الهلع المذموم أي يراعون شرائط الصلاة ويلتزمون آدابها، ولا سيما الخشوع والتدبر ومراقبة الله فيها، وإِلاَّ كانت حركات صورية لا يجني العبد ثمرتها، فإِن فائدة الصلاة أن تكف عن المحارم {أُوْلَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ} ولما كانت الصلاة عمود الإِسلام بولغ في التوكيد فيها، فذكرت في أول الخصال الحميدة وفي آخرها، ليعلم مرتبتها في الأركان التي بني عليها الإِسلام، قال القرطبي: ذكر تعالى من أوصافهم في البدء {الذين هم على صلاتهم دائمون} ثم قال في الختم {وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ يُحَافِظُونَ} والدوام غير المحافظة، فدوامهم عليها أن يحافظوا على أدائها، لا يخلون بها ولا يشتغلون عنها بشيءٍ من الشواغل، ومحافظتهم عليها أن يراعوا إِسباغ الوضوء لها ومواقيتها، ويقيموا أركانها، ويكملوها بسننها وآدابها، ويحفظوها من الإِحباط باقتراف المآثم، فالدوام يرجع إلى نفس الصلوات، والمحافظة ترجع إلى أحوالها، وبعد أن ذكر تعالى أوصاف المؤمنين المتقين، ذكر مآلهم وعاقبتهم فقال {أُوْلَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ} أي أولئك المتصفون بتلك الأوصاف الجليلة، والمناقب الرفيعة، {أُوْلَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ} أي أولئك المتصفون بتلك الأوصاف الجليلة، والمناقب الرفيعة، مستقرون في جنات النعيم، التي أكرمهم الله فيها بأنواع الكرامات، مع الإِنعام والتكريم بأنواع الملاذ والمشتهيات، لا تصافهم بمكارم الأخلاق.





أحوال الكفار المكذبين بالرسول صلى الله عليه وسلم



{فَمَالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ(36)عَنْ الْيَمِينِ وَعَنْ الشِّمَالِ عِزِينَ(37)أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ(38)كَلا إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ(39)فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ(40)عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْرًا مِنْهُمْ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ(41)فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ(42)يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الأَجْدَاثِ سِرَاعًا كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ(43)خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ(44)}



سبب النزول:

نزول الآية (38):

{أيطمع}: قال المفسرون: كان المشركون يجتمعون حول النبي صلى الله عليه وسلم يستمعون كلامه، ولا ينتفعون به، بل يكذبون به ويستهزئون ويقولون: لئن دخل هؤلاء الجنة، لندخلنها قَبْلهم، وليكونَنّ لنا فيها أكثر مما لهم، فأنزل الله تعالى هذه الآية: {أيطمع كل امرئ منهم أن يُدْخَل جنة النعيم}.



{فَمَالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ}؟ أي ما لهؤلاء الكفرة المجرمين، مسرعين نحوك يا محمد، مادين أعناقهم إِليك، مقبلين بأبصارهم عليك؟ قال المفسرون: كان المشركون يجتمعون حول النبي صلى الله عليه وسلم حلقاً حلقاً، يسمعون كلامه ويستهزئون به وبأصحابه، ويقولون: إِن دخل هؤلاء الجنة - كما يقول محمد - فلندخلها قبلهم فنزلت الآية {عَنْ الْيَمِينِ وَعَنْ الشِّمَالِ عِزِينَ} أي جالسين عن يمينك وعن شمالك فرقاً فرقاً، وجماعات جماعاتٍ يتحدثون ويتعجبون؟ قال أبو عبيدة: عزين أي جماعات في تفرقة ومنه حديث (مالي أراكم عزين؟ ألا تصفون كما تصفُّ الملائكة عند ربها) {أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ} استفهام إِنكاري مع التقريع والتوبيخ أي أيطمع كل واحد من هؤلاء الكفار، أن يدخله الله جنات النعيم، وقد كذب خاتم المرسلين؟ {كلا} ردع وزجر أي ليس الأمر كما يطمعون، فإِنهم لا يدخلونها أبداً ثم قال {كَلا إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ} أي خلقناهم من الأشياء المستقذرة، من نطفة، ثم من علقة، ثم من مضغة، فمن أين يتشرفون بدخول جنات النعيم قبل المؤمنين، وليس لهم فضل يستوجبون به دخول الجنة؟ وإِنما يستوجب دخول الجنة من أطاع الله، قال القرطبي: كانوا يستهزئون بفقراء المسلمين ويتكبرون عليهم فقال تعالى {إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ} أي من القذر فلا يليق بهم هذا التكبر {فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ} أي فأقسم برب مشارق الشمس والقمر والكواكب ومغاربها {إِنَّا لَقَادِرُونَ * عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْرًا مِنْهُمْ} أي قادرون على إِهلاكهم، واستبدالهم بقومٍ أفضل منهم وأطوع لله {وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ} أي ولسنا بعاجزين عن ذلك {فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا} أي اتركهم يا محمد يخوضوا في باطلهم ويلعبوا في دنياهم، واشتغل أنت بما أُمرت به، وهو أمرٌ على جهة الوعيد والتهديد للمشركين {حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمِ الَّذِي يُوعَدُونَ} أي حتى يلاقوا ذلك اليوم العصيب الرهيب، الذي لا ينفعهم فيه توبة ولا ندم {يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الأَجْدَاثِ سِرَاعًا} أي يوم يخرجون من القبور إِلى أرض المحشر مسرعين {كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ} أي كأنهم يسعون ويستبقون إِلى أصنامهم التي نصبوها ليعبدوها، شبَّه حالة إِسراعهم إِلى موقف الحساب، بحالة إِسراعهم وتسابقهم في الدنيا، إلى آلهتم وطُواغيتهم، وفي هذا التشبيه تهكم بهم، وتعريض بسخافة عقولهم، إِذا عبدوا ما لا يستحق العبادة، وتركوا عبادة الواحد الأحد {خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ} أي خاضعة منكسرة أبصارهم إِلى الأرض لا يرفعونها خجلاً من الله {تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ} أي يغشاهم الذل والهوان من كل مكان، وعلى وجوههم آثار الذلة والانكسار {ذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ} أي هذا هو اليوم الذي وعدوا به في الدنيا وكانوا يهزءون ويكذبون، فاليوم يرون عقابهم وجزاءهم!!

yacine414
2011-04-02, 09:27
سورة نوح



قصة نوح مع قومه

شكوى نوح إلى ربه، ومعاناته مع قومه

مقابلة قوم نوح بأقبح الأقوال والأفعال





بَين يَدَيْ السُّورَة



* سورة نوح مكية، شأنها شأن سائر السور المكية التي تعنى بأصول العقيدة، وتثبيت قواعد الإِيمان، وقد تناولت السورة تفصيلاً قصة شيخ الأنبياء "نوح" عليه السلام، من بدء دعوته حتى نهاية حادثة الطوفان، التي أغرق الله بها المكذبين من قومه، ولهذا سميت "سورة نوح"، وفي السورة بيانٌ لسنة الله تعالى في الأمم التي انحرفت عن دعوة الله، وبيان لعاقبة المرسلين، وعاقبة المجرمين، في شتَّى العصور والأزمان.



* ابتدأت السورة الكريمة بإِرسال الله تعالى لنوح عليه السلام، وتكليفه بتبليغ الدعوة وإِنذار قومه من عذاب الله {إنا أرسلنا نوحاً إلى قومه أن أنْذِر قومك من قبل أن يأتيهم عذاب أليم}.



* ثم ذكرت السورة جهاد نوحٍ، وصبره، وتضحيته في سبيل تبليغ الدعوة، فقد دعا قومه ليلاً ونهاراً، وسراً وجهاراً، فلم يزدهم ذلك إلا إِمعاناً في الضلال والعصيان {قال ربِّ إني دعوتُ قومي ليلاً ونهاراً، فلم يزدهم دعائي إلا فراراً}.



* ثم تابعت السورة تذكّرهم بإِنعام الله وإفضاله على لسان نوح عليه السلام، ليجدّوا في طاعة الله، ويروا آثار قدرته ورحمته في هذا الكون {ألم تروا كيف خلق الله سبع سماواتٍ طباقاً وجعل القمر فيهن نوراً وجعل الشمس سراجاً * واللهُ أنبتكم من الأرض نباتاً * ثم يعيدكم فيها ويخرجكم إخراجاً}! !



* ومع كل هذا التذكير والنصح والإِرشاد، فقد تمادى قومه في الكفر والضلال والعناد، واستخفوا بدعوة نبيهم نوح عليه السلام حتى أهلكهم الله بالطوفان {قال نوحٌ ربِّ إنهم عصوني واتبعوا من لم يزده مالُه وولده إلا خساراً ومكروا مكراً كُبَّاراً وقالوا لا تذرنَّ آلهتكم ولا تَذرنَّ وداً ولا سُواعاً ..} الآيات.



* وختمت السورة الكريمة بدعاء نوح عليه السلام على قومه بالهلاك والدمار، بعد أن مكث فيهم تسعمائة وخمسين سنة يدعوهم إلى الله، فما لانت قلوبهم، ولا انتفعت بالتذكير والإِنذار {وقال نوح رب لا تذر على الأرض من الكافرين دياراً * إنك إنْ تذرهم يُضلّوا عبادك ولا يلدوا إلا فاجراً كفاراً * رب اغفر لي ولوالديَّ ولمن دخل بيتي مؤمناً وللمؤمنين والمؤمنات ولا تزد الظالمين إلا تباراً}.

* * *



قصة نوح مع قومه



{إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ(1)قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ(2)أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ(3) يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ(4)}



{إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ} أي بعثنا شيخ الأنبياء نوحاً عليه السلام إلى سكان جزيرة العرب، قال الألوسي: واشتهر أنه عليه السلام كان يسكن أرض الكوفة وهناك أرسل {أَنْ أَنذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} أي بأن خوف قومك وحذرهم إن لم يؤمنوا من عذاب شديد مؤلم، وهو عذاب الطوفان في الدنيا، وعذاب النار في الآخرة {قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ} أي فدعاهم إلى الله وقال لهم: إني لكم منذر، موضح لحقيقة الأمر، أُنذركم وأُخوفكم عذاب الله، فأمري واضح ودعوتي ظاهرة، قال المفسرون: نوح عليه السلام أول نبي أرسل، ويقال له: شيخ المرسلين، لأنه أطولهم عمراً فقد مكث في قومه كما قص القرآن الكريم {ألف سنة إلا خمسين عاماً} يدعوهم إلى الله، ومع طول هذه المدة لم يؤمن معه إلا قليل، وقد أفرد القرآن قصته في هذه السورة الكريمة التي تسمى "سورة نوح" من بدء الدعوة إلى نهايتها، حيث أهلك الله قومه بالطوفان، وهو أحد الرسل الكبار من أولي العزم وهم خمسة "نوح،إبراهيم، موسى، عيسى، محمد" صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، وقد شاع الكفر في زمانه وذاع، واشتهر قومه بعبادة الأوثان، واكثروا من البغي والظلم والعصيان، فبعث الله لهم نوحاً عليه السلام وكان من خبرهم مع نبيهم ما قصه الله علينا في القرآن {أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ} أي فقال لهم: اعبدوا الله وحده، واتركوا محارمه، واجتنبوا مآثمه، وأطيعوني فيما أمرتكم به من طاعة الله، وترك عبادة الأوثان والأصنام {يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ} أي إنكم إن فعلتم ما أمرتكم به، يمحو الله عنكم ذنوبكم التي اقترفتموها، وإنما قال {مِنْ ذُنُوبِكُمْ} أي بعض ذنوبكم التي حصلت قبل الإِسلام، لأن الإِيمان يجب ما قبله من الذنوب لا ما بعده {وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} أي ويمد في أعماركم إن أطعتم ربكم، إلى وقت مقدر ومقرر في علم الله تعالى، مع التمتع بالحياة السعيدة، والعيش الرغيد، قال المفسرون: المراد بتأخير الأجل هو التأخير بلا عذاب، أي يمهلهم في الدنيا بدون عذاب إلى انتهاء آجالهم، وأما العمر فهو محدود لا يتقدم ولا يتأخر {فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون} ولهذا قال بعده {إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لا يُؤَخَّرُ} أي إن عمر الإِنسان عند الله محدود، لا يزيد ولا ينقص، وإنما أضيف الأجل إلى الله سبحانه لأنه هو الذي كتبه وأثبته {لَوْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} أي لو كنتم تعلمون ذلك لسارعتم إلى الإِيمان.



شكوى نوح إلى ربه، ومعاناته مع قومه



{قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهَارًا(5)فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلا فِرَارًا(6)وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا(7)ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا(8)ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا(9)فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا(10)يُرْسِلْ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا(11)وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا(12)مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا(13)وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا(14)أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا(15)وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا(16)وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الأَرْضِ نَبَاتًا(17)ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا(18)وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ بِسَاطًا(19)لِتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلاً فِجَاجًا(20)}



{قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهَارًا} أي قال نوح بعد أن بذل غاية الجهد، وضاقت عليه الحيل: يا رب إني دعوت قومي إلى الإِيمان والطاعة، في الليل والنهار، من غير فتور ولا توانٍ {فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلا فِرَارًا} أي لم يزدهم دعائي لهم إلى الإِيمان إلا هرباً، وشروداً عن الحق، وإِعراضاً عنه .. ثم وصف نفورهم وصور إعراضهم أبلغ تصوير فقال {وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ} أي كلما دعوتهم إلى الإِقرار بوحدانية الله والعمل بطاعته، ليكون سبباً في مغفرة ذنوبهم، قال ابن جزي: ذكر المغفرة التي هي سبب عن الإِيمان، لينظر قبح إعراضهم عنه، فإنهم أعرضوا عن سعادتهم {جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ} أي سدوا آذانهم لئلا يسمعوا دعوتي {وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ} أي غطوا رؤوسهم ووجوههم بثيابهم، لئلا يسمعوا كلامي أو يروني، قال أبو حيّان: والظاهر أن ذلك حقيقة، سدوا مسامعهم حتى لا يسمعوا ما دعاهم إليه، وتغَطَّوا بثيابهم حتى لا ينظروا إليه، كراهة وبغضاً من سماع النصح ورؤية الناصح، ويجوز أن يكون ذلك كناية عن المبالغة في إعراضهم عمَّا دعاهم إليه، فهم بمنزلة من سد سمعه، ومنع بصره {وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا} أي واستمروا على الكفر والطغيان، واستكبروا عن الإِيمان استكباراً عظيماً، وفيه إِشارة إلى فرط عنادهم، وغلوهم في الضلال {ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا} أي دعوتهم علناً على رؤوس الأشهاد، مجاهراً بدعوتي لهم دون خوف أو تحفظ {ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا} أي أخبرتهم سراً وعلناً، خفيةً وجهراً، وسلكت معهم كل طريق في الدعوة إليك، قال المفسرون: والعطف بثُمَّ يشعر بأن الإِعلان والإِسرار الأخيرين، كانا طريقة ثالثة سلكها نوح في الدعوة، غير طريقة السر المحضة، وغير طريقة الجهر المحضة، فكان في الطريقة الثالثة يعلن لهم الدعوة مرة حيث يصلح الإِعلان، ويسرها لهم أخرى حيث يتوقع نفع الإِسرار، ثم وضح ما وعظهم به سراً وعلانية فقال {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا} أي آمنوا بالله وتوبوا عن الكفر والمعاصي، فإن ربكم تواب رحيم، يغفر الذنب ويقبل التوب {يُرْسِلْ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا} أي ينزل المطر عليكم غزيراً متتابعاً، شديد الانسكاب {وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ} أي يكثر أموالكم وأولادكم {وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا} أي ويجعل لكم الحدائق الفسيحة، ذات الأشجار المظلة المثمرة، ويجعل لكم الأنهار تجري خلالها .. أطمعهم نوح عليه السلام بالحصول على بركات السماء وبركات الأرض، إن هم آمنوا بالله الذي بيده مفاتيح هذه الخزائن، وأتاهم من طريق القلب لتحريك العواطف، ولبيان أن ما هم فيه من انحباس الأمطار، وما حرموه من الرزق والذرية، إنما سببه كفرهم بالله الذي بيده وحده إرسال المطر، وإِغداق الرزق، والإِمداد بالأموال والبنين، وأنه لا ينبغي لهم أن يكفروا بهذا الإِله القادر، ويعبدوا آلهة أخرى اختاروها، لا تضر ولا تنفع، ثم عاد فهزَّ نفوسهم هزاً، وعطفها نحو الإِيمان بأسلوب آخر من أساليب البيان فقال {مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا} أي مالكم أيها القوم لا تخافون عظمة الله وسلطانه، ولا ترهبون له جانباً!! قال ابن عباس: أي ما لكم لا تعظمون الله حق عظمته! {وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا} أي وقد خلقكم في أطوار مختلفة، وأدوار متباينة، طوراً نطفة، وطوراً علقة، وطوراً مضغة، إلى سائر الأحوال العجيبة، فتبارك الله أحسن الخالقين .. ثم نبههم إلى دلائل القدرة والوحدانية، منبثة في هذا الكون الفسيح فقال {أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا} أي ألم تشاهدوا يا معشر القوم عظمة الله وقدرته، وتنظروا نظر اعتبار، وتفكر وتدبر، كيف أن الله العظيم الجليل خلق سبع سماوات سماء فوق سماء، متطابقة بعضها فوق بعض وهي في غاية الإِبداع والإِتقان!! {وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا} أي وجعل القمر في السماء الدنيا، منوراً لوجه الأرض في ظلمة الليل، قال الإِمام الفخر الرازي: القمر في السماء الدنيا وليس في السماوات بأسرها، وهذا كما يقال: السلطان في العراق ليس المراد ان ذاته حاصلة في كل أنحائها، بل إن ذاته في حيز م جملة أنحاء العراق، فكذا ههنا، وقال أبو حيّان: والقمر في السماء الدنيا، وصح كون السماوات ظرفاً للقمر لأنه لا يلزم من الظرف أن يملأ المظروف، تقول زيد في المدينة وهو جزء منها {وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا} أي وجعل الشمس مصباحاً مضيئاً يستضيء به أهل الدنيا كما يستضيء الناس بالسراج في بيوتهم، ولما كان نور الشمس أشدّ، وأتم، وأكمل في الانتفاع من نور القمر، عبر عن الشمس بالسراج لأنه يضيء بنفسه، وعبر عن القمر بالنور لأنه يستمد نوره من غيره، ويؤيده ما تقرر في علم الفلك من أن نور الشمس ذاتي فيها، ونور القمر عرضي مكتسب من نورها، فسبحان من أحاط بكل شيئ علماً {وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الأَرْضِ نَبَاتًا} بعد أن ذكر دليل الآفاق، ذكر هنا دليل الأنفس، وذلك لأن في ذكر هذه الأمور، دلالة واضحة على عظمة الله، وقدرته وباهر مصنوعاته والمعنى خلقكم وأنشأكم من الأرض كما يخرج النبات، وسلّكم من تراب الأرض كما يسل النبات منها، قال المفسرون: لما كان إخراجهم وإِنشاؤهم إنما يتم بتناولهم عناصر الغذاء الحيوانية والنباتية المستمدة من الأرض، كانوا من هذه الجهة مشابهين للنباتات التي تنمو بامتصاص غذائها من الأرض، فلذا سمى خلقهم وإنشاءهم إنباتاً، أو يكون ذلك إشارة إلى خلق آدم حيث خلق من تراب الأرض، ثم جاءت منه ذريته، فصح نسبتهم إلى أنهم أنبتوا من الأرض {ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا} أي يرجعكم إلى الأرض بعد موتكم فتدفنون فيها، ثم يخرجكم منها يوم البعث والحشر للحساب والجزاء، وأكده بالمصدر {إِخْرَاجًا} لبيان أن ذلك واقع لا محالة، وهذه الآية كقوله تعالى {منها خلقناكم، وفيها نعيدكم، ومنها نخرجكم تارة أُخرى} {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ بِسَاطًا} أي جعلها فسيحة ممتدة ممهدة لكم، تتقلبون عليها كما يتقلب الرجل على بساطه، قال ابن جزي: شبه الأرض بالبساط في امتدادها واستقرار الناس عليها، وأخذ بعضهم من الآية أنها غير كروية، وفي ذلك نظر، وقال الألوسي: وليس في الآية دلالة عل أن الأرض مبسوطة غير كروية، لأن الكرة العظيمة يرى كل من عليها ما يليه مسطحاً، ثم إن اعتقاد الكروية أو عدمها ليس بلازم في الشريعة، لكن كرويتها كالأمر اليقيني، ومعنى جعلها بساطاً أي تتقلبون عليها كالبساط {لِتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلاً فِجَاجًا} أي لتسلكوا في الأرض طرقاً واسعة في أسفاركم، وتنقُّلكم في أرجائها ..



مقابلة قوم نوح بأقبح الأقوال والأفعال



{قَالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلا خَسَارًا(21)وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا(22)وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّاً وَلا سُوَاعًا وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا(23)وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا وَلا تَزِدْ الظَّالِمِينَ إِلا ضَلالاً(24)مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصَارًا(25)وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا(26)إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلا فَاجِرًا كَفَّارًا(27)رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِي مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلا تَبَارًا(28)}



ولما أصروا على العصيان، وقابلوه بأقبح الأقوال والأفعال، حكى عنهم ما قصه القرآن {قَالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي} أي إنهم بالغوا في تكذيبي وعصيان أمري {وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلا خَسَارًا} أي واتَّبعوا أغنياءهم ورؤساءهم، الذين أبطرتهم الأموال والأولاد، فهلكوا واخسروا سعادة الدارين، فصاروا أسوة لهم في الخسارة {وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا} أي ومكر بهم بالرؤساء مكراً عظيماً متناهياً في الكبر، قال الألوسي: {كُبَّارًا} مبالغة في الكبر أي كبيراً في الغاية، وذلك احتيالهم في الدين، وصدهم الناس عنه، وإغراؤهم وتحريضهم عن أذية نوح عليه السلام {وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ} أي لا تتركوا عبادة الأوثان والأصنام، وتعبدوا رب نوح {وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُوَاعًا وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا} أي ولا تتركوا - على وجه الخصوص - هذه الأصنام الخمسة - وداً، وسواعاً، ويغوث، ويعوق، ونسراً، قال الصاوي: وهذه أسماء أصنام كانوا يعبدونها، وكانت أكبر أصنامهم وأعظمها عندهم، ولذا خصوها بالذكر، وهذا من شدة كفرهم، وفرط تعنتهم في المكر والاحتيال، فقد كانوا يلبسون ثوب المتنصح المخلص، ويسلكون في تثبيت الضعفاء على عبادة الآباء شتى الأساليب في المكر والخداع {وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا} أي وقد أضل كبراؤهم خلقاً وناساً كثيرين، بما زينوا لهم من طرق الغواية والضلال، ثم دعا عليهم بالضلال فقال {وَلا تَزِدْ الظَّالِمِينَ إِلا ضَلالاً} أي ولا تزدهم يا رب على طغيانهم وعدوانهم، إلا ضلالاً فوق ضلالهم، قال المفسرون: دعا عليهم لما يئس من إيمانهم بإخبار الله له بقوله {لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن} فاستجاب الله دعاءه وأغرقهم، ولهذا قال تعالى {مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا} أي من أجل ذنوبهم وإجرامهم، وإصرارهم على الكفر والطغيان، أُغرقوا بالطوفان وأدخلوا النيران، قال ابن جزي: وهذا من كلام الله تعالى إخباراً على أمرهم، و{ما} في {مِمَّا} زائدة للتأكيد، وإنما قدم هذا المجرور للتأكيد أيضاً، ليبين أن إغراقهم وإدخالهم النار إنما كان بسبب خطاياهم وهي الكفر وسائر المعاصي {فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصَارًا} أي لم يجدوا من ينصرهم أو يدفع عنهم عذاب الله، قال أبو السعود: وفيه تعريض باتخاذهم آلهة من دون الله تعالى، وأنها غير قادرة على نصرهم، وتهكم بهم {وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا} أي لا تترك أحداً على وجه الأرض من الكافرين، قال ابن جزي: و{دَيَّار} من الأسماء المستعملة في النفي العام يقال: ما في الدار ديار أ ي ما فيها أحد.. ثم علل ذلك بقوله {إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ} أي إنك إن أبقيت منهم أحداً، أضلوا عبادك عن طريق الهدى {وَلا يَلِدُوا إِلا فَاجِرًا كَفَّارًا} أي ولا يأتي من أصلابهم إلا كل فاجر وكافر، قال الإِمام الفخر الرازي: فإن قيل: كيف عرف نوح ذلك؟ قلنا بالاستقراء، فإِنه لبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاماً، فعرف طباعهم وجربهم، وكان الرجل ينطلق بابنه إليه ويقول: يا بني احذر هذا فإنه كذاب، وإن أبي أوصاني بمثل هذه الوصية، فيموت الكبير وينشأ الصغير على ذلك، فلذلك قال {وَلا يَلِدُوا إِلا فَاجِرًا كَفَّارًا} .. ولما دعا على الكفار أعقبه بالدعاء للمؤمنين فقال {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِي مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} بدأ بنفسه ثم بأبويه، ثم عمَّم لجميع المؤمنين والمؤمنات، ليكون ذلك أبلغ وأجمع {وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلا تَبَارًا} أي ولا تزد يا رب من جحد بآياتك وكذب رسلك، إلا هلاكاً وخساراً في الدنيا والآخرة.

yacine414
2011-04-02, 09:28
سورة الجِنّ



إيمان الجن بالقرآن ، ومنزل القرآن

أحوال الجن بعد بعثة النبي صلى الله عليه وسلم

المساجد لله ، والنافع والضار هو الله

قيام الساعة من خصوصيات الله عالم الغيب





بَين يَدَيْ السُّورَة



* سورة الجن مكية وهي تعالج أصول العقيدة الإِسلامية "الوحدانية، الرسالة، البعث والجزاء" ومحور السورة يدور حول الجنِّ، وما يتعلق بهم من أمور خاصة، بدءاً من استماعهم للقرآن، إلى دخولهم في الإِيمان، وقد تناولت السورة بعض الأنباء العجيبة الخاصة بهم، كاستراقهم للسمع، ورميهم بالشهب المحرقة، واطلاعهم على بعض الأسرار الغيبية، إلى غير ذلك من الأخبار المثيرة.



* ابتدأت السورة الكريمة بالإِخبار عن استماع فريق من الجن للقرآن، وتأثرهم بما فيه من روعة البيان، حتى آمنوا به فور استماعه ودعوا قومهم إلى الإِيمان {قل أُوحي إِليَّ أنه استمع نفر من الجن فقالوا إنا سمعنا قرآناً عجباً ..} الآيات.



* ثم انتقلت للحديث عن تمجيدهم وتنزيههم لله جل وعلا، وإِفرادهم له بالعبادة، وتسفيههم لمن جعل لله ولداً {وأنه تعالى جدُّ ربنا ما اتخذ صاحبةً ولا ولداً * وأنه كان يقول سفيهنا على الله شططاً ..} الآيات.



* ثم تحدثت السورة عن استراق الجن للسمع، وإِحاطة السماء بالحرس من الملائكة، وإِرسال الشهب على الجن بعد بعثة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتعجبهم من هذا الحدث الغريب {وأنّا لمسنا السماء فوجدناها ملئت حرساً شديداً وشُهُباً * وأنا كنا نقعد منها مقاعد للسمع فمن يستمع الآن يجدْ له شهاباً رصداً ..} الآيات.



* ثم تحدثت السورة عن انقسام الجن إلى فريقين : مؤمنين، وكافرين ومآل كل من الفريقين {وأنَّا منا المسلمون ومنا القاسطون فمن أسلم فأولئك تحرَّوا رشداً * وأمَّا القاسِطُون فكانوا لجهنم حطباً}.



* ثم انتقلت للحديث عن دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعن التفاف الجن حوله حين سمعوه يتلو القرآن {وأنه لما قام عبد الله يدعوه كادوا يكونون عليه لِبَداً * قل إِنما أدعو ربي ولا أشرك به أحداً}.



* ثم أمرت الرسول عليه السلام أن يعلن استسلامه وخضوعه لله، ويفرده جلَّ وعلا بإِخلاص العمل، وأن يتبرأ من الحوْل والطَّوْل {قل إِنما أدعو ربي ولا أشرك به أحداً * قل إني لا أملك لكم ضراً ولا رشداً * قل إني لن يجيرني من الله أحدٌ، ولن أجد من دونه ملتحداً}.



* وختمت السورة ببيان اختصاص الله جل وعلا بمعرفة الغيب، وإِحاطته بعلم جميع ما في الكائنات {عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحداً * إلا من ارتضى من رسول فإِنه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصداً ..} الآيات إلى آخر السورة الكريمة.





إيمان الجن بالقرآن ، ومنزل القرآن



{قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنْ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا(1)يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا(2)وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلا وَلَدًا(3)وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى اللَّهِ شَطَطًا(4)وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا(5)وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنْ الإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنْ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا(6)وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَمَا ظَنَنتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَدًا(7)}



سبب النزول:

نزول الآية (1):

{قل: أوحي ...}: أخرج البخاري ومسلم والترمذي وغيرهم عن ابن عباس قال: ما قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم على الجن ولا رآهم، ولكنه انطلق في طائفة من أصحابه عامدين إلى سوق عُكَاظ، وقد حيل بين الشياطين وبين خبر السماء، وأرسلت عليهم الشهب، فرجعوا إلى قومهم، فقالوا: ما هذا إلا لشيء قد حدث، فاضربوا مشارق الأرض ومغاربها، فانظروا هذا الذي حدث، فانطلقوا فانصرف النفر الذين توجهوا نحو تِهَامة، إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو بنخلة، وهو يصلي بأصحابه صلاة الفجر، فلما سمعوا القرآن استمعوا له، فقالوا: هذا والله الذي حال بينكم وبين خبر السماء.

فهنالك رجعوا إلى قومهم، فقالوا: يا قومنا، إنا سمعنا قرآناً عجباً، فأنزل الله على نبيّه: {قل: أوحي إلي} وإنما أوحي إليه قول الجن.



نزول الآية (6):

{وأنه كان رجال ..}: أخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ ابن حين في العظمة عن كردم بن أبي السائب الأنصاري قال: خرجت مع أبي إلى المدينة في حاجة، وذلك أول مرة ما ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فآوانا المبيت إلى راعي غنم، فلما انتصف الليل، جاء ذئب، فأخذ حَمَلاً من الغنم، فوثب الراعي، فقال: عامر الوادي، جارك، فنادى مناد، لا نراه يا سِرْحان، فأتى الْحَمَل يشتد حتى دخل في الغنم، وأنزل الله على رسوله بمكة: {وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجنّ} الآية.

وأخرج ابن سعد عن أبي رجاء العطاردي من بني تميم قال: بُعث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد رعيت على أهلي، وكفيت مهنتهم، فلما بعث النبي صلى الله عليه وسلم خرجنا هرباً، فأتينا على فلاة من الأرض، وكنا إذا أمسينا بمثلها قال شيخنا: إنا نعوذ بعزيز هذا الوادي من الجن الليلة، فقلنا ذاك، فقيل لنا: إنما سبيل هذا الرجل شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، من أقرَّ بها، أَمِن على دمه وماله، فرجعنا فدخلنا في الإسلام، قال أبو رجاء: إني لأرى هذه الآية نزلت فيّ وفي أصحابي: {وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن، فزادوهم رهقاً}.



{قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنْ الْجِنِّ} أي قل يا محمد لقومك: إن ربي أوحى إلي أن جماعة من الجن استمعوا لتلاوتي للقرآن، فآمنوا به وصدقوه وأسلموا {فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا} أي فقالوا لقومهم حين رجعوا إِليهم: إنا سمعنا قرآناً عجيباً، مؤثراً في حسن نظمه، وبلاغة أسلوبه، وما حواه من بديع الحِكَم والعظات و{عَجَبًاً} مصدر وصف به للمبالغة، قال المفسرون: استمعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ القرآن في صلاة الفجر، ولم يشعر بهم ولا باستماعهم، وإنما أخبر به الرسول بواسطة الوحي بدليل قوله {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ} ويؤيده ما قصه الله على نبيه في سورة الأحقاف من خبرهم {وإِذْ صرفنا إليك نفراً من الجن يستمعون القرآن فلما حضروه قالوا أنصتوا فلما قضي ولوا إلى قومهم منذرين} والغرض من الإِخبار عن استماع الجن، توبيخ وتقريع قريش والعرب في كونهم تباطؤوا عن الإِيمان، إذ كانت الجن خيراً منهم وأسرع إلى الإِيمان، فإنهم حين ما سمعوا القرآن استعظموه وآمنوا به ورجعوا إلى قومهم منذرين، بخلاف العرب الذين نزل بلسانهم، فإنهم كذبوا واستهزؤوا وهم يعلمون أنه كلام معجز، وأن محمداً أمي لا يقرأ ولا يكتب، وشتان ما بين موقف الإِنس والجن!! {يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ} أي يهدي هذا القرآن إلى الحق والرشاد والصواب فصدقنا به {وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا} أي ولن نعود إلى ما كنا عليه من الشرك، ولن نجعل لله شريكاً بعد اليوم من خلقه، قال الخازن: وفي الآية دليل على أن أولئك النفر كانوا مشركين {وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا} أي تعالت عظمة ربنا وجلاله {مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلا وَلَدًا} أي ليس له زوجة ولا ولد، لأن الزوجة تتخذ للحاجة، والولد للاستئناس، والله تعالى منزه عن النقائص {وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى اللَّهِ شَطَطًا} أي وأن الأحمق الجاهل فينا كان ينسب إلى الله ما لا يليق بجلاله وقدسيته ويقول قولاً شططاً بعيداً عن الحق وحدِّ الاعتدال، قال مجاهد: السفيه هو إبليس دعاهم إلى عبادة غير الله {وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} أي كنا نظن أن أحداً لن يكذب على الله تعالى لا من الإِنس ولا من الجن في نسبة الصاحبة والولد إليه، فلما سمعنا هذا القرآن وآمنا به علمنا أنهم كانوا يكذبون على الله في ذلك، قال الطبري: وإنما أنكر هؤلاء النفر من الجن أن تكون قد علمت أن أحداً يجترئ على الكذب على الله لما سمعت القرآن، لأنهم قبل أن يسمعوه وقبل أن يعلموا تكذيب الله للزاعمين لله الصاحبة والولد كانوا يحسبون أن إبليس صادق، فلما سمعوا القرآن أيقنوا أنه كان كاذباً في ذلك فسموه سفيهاً {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنْ الإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنْ الْجِنِّ} أي كان خلائق من الإِنس يستجيرون برجال من الجن {فَزَادُوهُمْ رَهَقًا} أي فزاد الإِنس الجن باستعاذتهم بهم إِثماً وطغياناً، وعتواً وضلالاً، قال أبو السعود: كان الرجل إِذا أمسى في واد قفر وخاف على نفسه قال: أعوذ بسيد هذا الوادي من سفهاء قومه - يريد الجن وكبيرهم - فإذا سمعوا بذلك استكبروا وقالوا: سدنا الإِنس والجن، فزاد الرجال الجن تكبراً وعتواً، فذلك قوله {فزادوهم رهقاً} {وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَمَا ظَنَنتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَدًا} أي وأن كفار الإِنس ظنوا كما ظننتم يا معشر الجن، أن الله لن يبعث أحداً بعد الموت، فقد أنكروا البعث كما أنكرتموه أنتم.







أحوال الجن بعد بعثة النبي صلى الله عليه وسلم



{وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا(8)وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعْ الآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا(9)وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا(10)وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا(11)وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعجِزَ اللَّهَ فِي الأَرْضِ وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَبًا(12)وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَى آمَنَّا بِهِ فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلا يَخَافُ بَخْسًا وَلا رَهَقًا(13)وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُوْلَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا(14)وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا(15)وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لأسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا(16)لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا(17)}



سبب النزول:

نزول الآية (16):

{وأن لو استقاموا}: أخرج الخرائطي عن مقاتل في قوله: {وأن لو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماءً غدقاً} قال: نزلت في كفار قريش حين مُنعوا المطر سبع سنين.



{وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا} يقول الجن: وأنا طلبنا بلوغ السماء لاستماع كلام أهلها، فوجدناها قد ملئت بالملائكة الكثيرين الذين يحرسونها، وبالشهب المحرقة التي تقذف من يحاول الاقتراب منها {وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ} أي كنا قبل بعثة محمد نطرق السماء لنستمع إلى أخبارها ونلقيها إلى الكهان {فَمَنْ يَسْتَمِعْ الآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا} أي فمن يحاول الآن استراق السمع، يجد شهاباً ينتظره بالمرصاد يحرقه ويهلكه {وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الأَرْضِ} أي لا نعلم نحن معشر الجن ما الله فاعل بسكان الأرض، ولا نعلم هل امتلاء السماء بالحرس والشهب لعذاب يريد الله أن ينزله بأهل الأرض؟ {أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا} أي أم لخير يريده الله بهم، بأن يبعث فيهم رسولاً مرشداً يرشدهم إلى الحق؟ وهذا من أدب الجن حيث نسبوا الخير إلى الله، ولم ينسبوا الشر إليه فقالوا: أشر أريد بمن في الأرض؟ أم أراد بهم ربهم رشداً؟ قال ابن كثير: وقد كانت الكواكب يرمى بها قبل ذلك، وهذا هو الذي حملهم على تطلب السبب، فأخذوا يضربون مشارق الأرض ومغاربها، فرأوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ بأصحابه في الصلاة، فعرفوا أن هذا الذي حفظت من أجله السماء، فدنوا منه حرصاً على سماع القرآن ثم أسلموا {وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ} أي منا قوم صالحون أبرار، عاملون بما يرضي الله، ومنا قوم ليسوا صلحاء، قال ابن جزي: وأرادوا بقولهم {دُونَ ذَلكَ} أي الذين ليس صلاحهم كاملاً، أو الذين ليس لهم صالح {كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا} أي كنا فرقاً شتى، ومذاهب مختلفة، فمنا الصالح ومنا الطالح، وفينا التقي والشقي {وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعجِزَ اللَّهَ فِي الأَرْضِ وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَبًا} أي علمنا وأيقنا أن الله قادر علينا، وأننا في قبضته وسلطانه أينما كنا، لن نعجزه بهرب، ولن نتفلت من عقابه إذا أراد بنا سوءاً، قال القرطبي: أي علمنا بالاستدلال والتفكر في ءايات الله، أنا في قبضته وسلطانه لن نفوته بهرب ولا غيره .. ثم عادوا إلى شكر الله تعالى على نعمة الإِيمان واهتدائهم بسماع ءايات القرآن فقالوا {وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَى آمَنَّا بِهِ} أي لما سمعنا القرآن العظيم آمنا به وبمن أنزله، وصدقنا محمداً صلى الله عليه وسلم في رسالته {فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلا يَخَافُ بَخْسًا وَلا رَهَقًا} أي فمن يؤمن بالله تعالى فلا يخشى نقصاناً من حسناته ولا ظلماً بزيادة سيئاته، قال ابن عباس: لا يخاف أن ينقص من حسناته، ولا أن يزاد في سيئاته، لأن البخس النقصان، والرهق العدوان {وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ} أي وأنا بعد سماعنا القرآن منا من أسلم، وصدق برسالة محمد صلى الله عليه وسلم، ومنا من جار عن الحق وكفر، قال المفسرون: يقال قسط الرجل إذا جار، وأقسط إذا عدل، واسم الفاعل من الأول قاسط، ومن الثاني مقسط ومنه {إن الله يحب التوابين ويحب المقسطين} وأما القاسط فهو الظالم الجائر {فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُوْلَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا} أي فمن اعتنق الإِسلام واتبع الرسول عليه السلام، فأولئك الذين قصدوا الرشد، واهتدوا إلى طريق السعادة والنجاة {وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا} أي وأما الكافرون الجائرون عن طريق الحق والإِيمان، فسيكونون وقوداً لجهنم، توقد بهم كما توقد بكفار الإِنس .. وإلى هنا انتهى كلام الجن، مما يدل على قوة إيمانهم، وصدقهم وإخلاصهم، ثم قال تعالى مخبراً عن أهل مكة {وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ} أي لو آمن هؤلاء الكفار، واستقاموا على شريعة الله {لأسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا} أي لبسطنا لهم في الرزق، ووسعنا عليهم في الدنيا، زيادة على ما يحصل لهم في الآخرة من النعيم الدائم، وبذلك يجوزون عز الدنيا والآخرة، قال ابن جزي: الماء الغدق: الكثير، وذلك استعارة في توسيع الرزق، والطريقة هي طريقة الإِسلام وطاعة الله والمعنى: لو استقاموا على ذلك لوسع الله أرزاقهم فهو كقوله {ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركاتٍ من السماء والأرض} {لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ} أي لنختبرهم به أيشكرون أم يكفرون؟ {وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا} أي ومن يعرض عن طاعة الله وعبادته، يدخله ربه عذاباً شديداً شاقاً لا راحة فيه، قال قتادة: {صَعَدًا} عذاباً لا راحة فيه، وقال عكرمة: هو صخرة ملساء في جهنم يكلف صعودها، فإذا انتهى إلى أعلاها حُدِر إلى جهنم.





المساجد لله ، والنافع والضار هو الله



{وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا(18)وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا(19)قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَدًا(20)قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا رَشَدًا(21)قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنْ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا(22)إِلا بَلاغًا مِنْ اللَّهِ وَرِسَالاتِهِ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا(23)حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ نَاصِرًا وَأَقَلُّ عَدَدًا(24)}



سبب النزول:

نزول الآية (18):

{وأن المساجد لله}: أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: قالت الجن: يا رسول الله، ائذن لنا، فنشهد معك الصلوات في مسجدك، فأنزل الله: {وأن المساجد لله، فلا تدعوا مع الله أحداً}. وروي ذلك أيضاً عن الأعمش.



نزول الآية (20):

{قل: إنما أدعو ربي}: سبب نزولها كما ذكر الشوكاني : أن كفار قريش قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: إنك جئت بأمر عظيم، وقد عاديت الناس كلهم، فارجع عن هذا فنحن نجيرك.



نزول الآية (22):

{قل: إني لن يجيرني ..}: أخرج ابن جرير عن حضرمي أنه ذكر أن جنياً من الجن من أشرافهم ذا تَبَع قال: إنما يريد محمد أن يجيره الله، وأنا أجيره، فأنزل الله: {قل: إني لن يجيرني من الله أحد} الآية.



{وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} هذا من جملة الموحى به للرسول {قل أُوحي إلي} والمعنى وأوحي إلي أن المساجد وبيوت العبادة هي مختصة بالله، فلا تعبدوا فيها غيره وأخلصوا له العبادة فيها، قال مجاهد: كان اليهود والنصارى إذا دخلوا كنائسهم وبيعهم أشركوا بالله فيها، فأمر الله عز وجل نبيه والمؤمنين أن يخلصوا الدعوة لله إذا دخلوا المساجد كلها {وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ} أي وأنه لما قام محمد صلى الله عليه وسلم يعبد ربه {كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا} أي كاد الجن يركب بعضهم بعضاً من شدة الازدحام، حرصاً على سماع القرآن، قال ابن عباس: كادوا ينقضون عليه لاستماع القرآن، وإنما وصفه تعالى بالعبودية، ولم يذكره باسمه زيادة في تشريفه وتكريمه عليه السلام {قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَدًا} أي قل يا محمد لهؤلاء الكفار الذين طلبوا منك أن ترجع عن دينك: إنما أعبد ربي وحده، ولا أشرك مع الله غيره بشراً ولا صنماً، قال الصاوي: سبب نزولها أن كفار قريش قالوا له: إنك جئت بأمر عظيم، وقد عاديت الناس كلهم، فارجع عن هذا فنحن نجيرك وننصرك فنزلت {قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا رَشَدًا} أي قل يا محمد في محاجَّة هؤلاء: إني لا أقدر أن أدفع عنكم ضراً، ولا أجلب لكم نفعاً، وإنما الذي يملك هذا هو الله رب العالمين {قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنْ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا} أي قل لهم أيضاً: إنّه لن ينقذني من عذاب الله أحد إن عصيته، ولن أجد لي نصيراً ولا ملجأً منه، فكيف أجيبكم إلى ما طلبتم؟ قال قتادة: {مُلْتَحَدًا} ملجأً ونصيراً {إِلا بَلاغًا مِنْ اللَّهِ وَرِسَالاتِهِ} أي لا أجد ملجأً إلا إذا بلغت رسالة ربي، ونصحتكم وأرشدتكم كما أمرني الله فحينئذ يجيرني ربي من العذاب كقوله تعالى {يا أيها الرسول بلغ ما أُنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلَّغت رسالته} قال ابن كثير: أي لا يجيرني منه ويخلصني إلا إبلاغي الرسالة التي أوجب أداءها عليَّ {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا} أي ومن كذب الله ورسوله، ولم يؤمن بلقاء الله، وأعرض عن سماع الآيات وتدبر الرسالات، فإن جزاءه جهنم لا يخرج منها أبداً وإنما جمع {خَالِدِينَ} حملاً على معنى {مَنْ} لأن لفظها مفرد ومعناها جمع {حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ} أي حتى إذا رأى المشركون ما يوعدون من العذاب {فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ نَاصِرًا وَأَقَلُّ عَدَدًا} أي فسيعلمون حينئذ من هم أضعف ناصراً ومعيناً، وأقل نفراً وجنداً؟ هل هم؟ أم المؤمنون الموحدون؟ ولا شك أن الله ناصر عباده المؤمنين، فهم الأقوى ناصراً والأكثر عدداً، لأن الله معهم وملائكته الأبرار.





قيام الساعة من خصوصيات الله عالم الغيب



{قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ مَا تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَدًا(25)عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا(26)إِلا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا(27)لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا(28)}



سبب النزول:

قال مقاتل: إن المشركين لما سمعوا قوله تعالى: {حتى إذا رأوا ما يُوعَدون فسيَعْلَمون من أضعفُ ناصراً وأقلعدداً} قال النضر بن الحارث: متى يكون هذا اليوم الذي توعدنا به ؟ فأنزل الله تعالى: {قل إن أدري أقريب ما توعدون} إلى آخر الآيات.



{قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ مَا تُوعَدُونَ}؟ أي قل لهم يا محمد: ما أدري هل هذا العذاب الذي وعدتم به قريب زمنه {أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَدًا} أي أم هو بعيد له مدة طويلة وأجل محدود؟ قال المفسرون: كان صلى الله عليه وسلم كلما خوف المكذبين نار جهنم، وحذرهم أهوال الساعة، أظهروا الاستخفاف بقوله، وسألوه متى هذا العذاب؟ ومتى تقوم هذه الساعة؟ فأمره تعالى أن يقول لهم: لا أدري وقت ذلك، هل هو قريب أم بعيد؟ {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا} أي هو جل وعلا عالم بما غاب عن الأبصار، وخفي عن الأنظار، فلا يطلع على غيبه أحداً من خلقه {إِلا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ} أي إلا من اختاره الله وارتضاه لرسالته ونبوته، فيظهره الله على ما يشاء من الغيب، قال المفسرون: لا يطلع الله على غيبه أحداً إلا بعض الرسل، فإنه يطلعهم على بعض الغيب، ليكون معجزة لهم، إن الرسل مؤيدون بالمعجزات، ومنها الإِخبار عن بعض المغيبات، كما قال عن عيسى {وأُنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم} {فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا} أي فإنه تعالى يرسل من أمام الرسول ومن خلفه، ملائكة وحرساً يحفظونه من الجن، ويحرسونه في ضبط ما يلقيه تعالى إليه من علم الغيب، قال الطبري: أي فإنه تعالى يرسل من أمامه ومن خلفه حرساً وحفظةً يحفظونه من الجن {لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالاتِ رَبِّهِمْ} أي ليعلم الله - علم ظهور فإنه تعالى عالم بما كان وما يكون - أن رسله الكرام قد بلغوا عنه وحيه كما أوحاه إليهم محفوظاً من الزيادة والنقصان، قال ابن كثير: المعنى أن الله يحفظ رسله بملائكته ليتمكنوا من أداء رسالاته، ويحفظ ما ينزله إليهم من الوحي، ليعلم أن قد أبلغوا رسالات ربهم، مع العلم بأنه تعالى يعلم الأشياء قبل كونها قطعاً لا محالة {وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ} أي أحاط علمه بما عند الرسل، فلا يخفى عليه شيء من أمورهم {وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا} أي علم تعالى علم ضبط واستقصاء جميع الأشياء، المنبثَّة في الأرضين والسماوات من القطر، والرمل، وورق الأشجار، وزبد البحار، فلا يغيب عنه شيء، ولا يخفى عليه أمر، فكيف لا يحيط علماً بما عند رسله من رسالاته ووحيه، التي أمرهم بتبليغها إلى خلقه؟ وكيف يمكن لرسله أن يفرطوا في تلك الرسالات، أو يزيدوا أو ينقصوا أو يحرفوا فيها او يغيروا، وهو تعالى محيط بها، محص لجميع الأشياء جليلها وحقيرها؟ {وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو ويعلم ما في البر والبحر، وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين}.

yacine414
2011-04-02, 09:30
سورة المُزَّمِّل



نداء لطيفٌ من الله لرسوله صلى الله عليه وسلم بأن لا يجهد نفسه

توعد الله لصناديد قريش

تذكير وإرشاد بأنواع الهداية



بَين يَدَيْ السُّورَة



* سورة المزمل مكية، وهي تتناول جانباً من حياة الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم، في تبتله، وطاعته، وقيامه الليل، وتلاوته لكتاب الله عز وجل، ومحورُ السورة يدور حول الرسول عليه الصلاة والسلام، ولهذا سميت "سورة المزمِّل".



* ابتدأت السورة الكريمة بنداء الرسول صلى الله عليه وسلم نداءً شفيفاً لطيفاً، ينمُّ عن لطف الله عز وجل ورحمته بعبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم الذي كان يجهد نفسه في عبادة الله ابتغاء مرضاته {يا أيها المزَّمّلُ * قم الليل إلا قليلاً، نصفه أو انقص منه قليلاً * أو زد على ورتل القرآن ترتيلاً}.



* ثم تناولت السورة موضوع ثقل الوحي الذي كلف الله به رسوله، ليقوم بتبليغه للناس بجد ونشاط، ويستعين على ذلك بالاستعداد الروحي بإِحياء الليل في العبادة {إنا سنلقي عليك قولاً ثقيلاً * إنَّ ناشئة الليل هي أشدُّ وطأً وأقوم قيلاً* إن لك في النهار سبحاً طويلاً}.



* وأمرت السورة الرسول عليه السلام بالصبر على أذى المشركين، وهجرهم هجراً جميلاً إلى أن ينتقم الله منهم {واصبر على ما يقولون واهجرهم هجراً جميلاً * وذرني والمكذبين أُولي النَّعمة ومهلهم قليلاً}.



* ثم توعد الله المشركين بالعذاب والنكال يوم القيامة، حيث يكون فيه من الهول والفزع ما يشيب له رءوس الولدان {إنَّ لدينا أنكالاً وجحيماً * وطعاماً ذا غصةٍ وعذاباً أليماً * يوم ترجف الأرض والجبال وكانت الجبال كئيباً مهيلاً ..} الآيات.



* وختمت السورة الكريمة بتخفيف الله عن رسوله وعن المؤمنين من قيام الليل رحمة به وبهم، ليتفرغ الرسول وأصحابه لبعض شئون الحياة {إن ربك يعلم أنك تقوم أدنى من ثلثي الليل ونصفه وثلثه وطائفةٌ من الذين معك ..} إلى قوله {وما تقدموا لأنفسكم من خيرٍ تجدوه عند الله هو خيراً وأعظم أجراً واستغفروا الله إن الله غفور رحيم}.



نداء لطيفٌ من الله لرسوله صلى الله عليه وسلم بأن لا يجهد نفسه



{يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ(1)قُمِ اللَّيْلَ إِلاً قَلِيلاً(2)نِصْفَهُ أَوْ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً(3)أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً(4)إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً(5)إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلاً(6)إِنَّ لَكَ فِي اَلنَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلاً(7)وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً(8)رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لاً إِلَهَ إِلاً هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً(9)وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلاً(10)}



سبب النزول:

نزول الآية (1، 2):

{يا أيها المزمل قم الليل إلا قليلاً}: أخرج الحاكم عن عائشة قالت: لما أنزلت {يا أيها المزمل قم الليل إلا قليلاً} قاموا سنة حتى وِرْمَت أقدامهم، فأنزلت: {فاقرؤوا ما تيسر منه}.

وأخرج أحمد والبخاري ومسلم والترمذي وغيرهم عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "جاورت بحراء، فلما قضيت جواري هبطت فنوديت، فنظرت عن يميني، فلم أر شيئاً، ونظرت عن شمالي فلم أر شيئاً، فنظرت خلفي، فلم أر شيئاً، فرفعت رأسي، فإذا الذي جاءني بحراء جالس على كرسي بين السماء والأرض، فجُثثت (فزعت) منه رعباً، فرجعت فقلت: دثِّروني دثِّروني". وفي رواية: "فجئت أهلي، فقلت: زمِّلوني زمِّلوني"، فأنزل الله: {يا أيها المدثر} وقال جمهور العلماء: وعلى إثرها نزلت {يا أيها المزمل}.



{يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ} أي يا أيها المتلفف بثيابه، وأصله المتزمل وهو الذي تلفف وتغطى، وخطابه صلى الله عليه وسلم بهذا الوصف {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ} فيه تأنيسٌ وملاطفة له عليه السلام قال السهيلي، إن العرب إذا قصدت ملاطفة المخاطب وترك معاتبته سموه باسم مشتق من حالته التي هو عليها كقول النبي صلى الله عليه وسلم لعلي - حين غاضب فاطمة وقد نام ولصق بجنبه التراب - قم أبا تراب، إشعاراً بأنه ملاطفٌ له، وغير عاتب عليه، والفائدة الثانية: التنبيهُ لكل متزمل راقد ليله، ليتنبه إلى قيام الليل وذكر الله تعالى، لأنه الاسم المشتق من الفعل، يشترك فيه المخاطب، وكل من اتصف بتلك الصفة، وسبب هذا التزمل ما روي في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما جاءه وهو في غار حراء - في ابتداء الوحي - رجع إلى خديجة يرجف فؤاده فقال: زملوني، زملوني، لقد خشيت على نفسي، وأخبرها بما جرى، فنزلت {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ} أي يا أيها الذي تلفف بقطيفته، واضطجع في زاوية بيته، وقد أشبه من يُؤثر الراحة والسكون، ويحاول التخلص مما كُلف به من مهمات الأمور {قُمِ اللَّيْلَ إِلاً قَلِيلاً} أي دع التزمل والتلفف، وانشط لصلاة الليل، والقيام فيه ساعات في عبادة ربك، لتستعد للأمر الجليل، والمهمة الشاقة، ألا وهي تبليغ دعوة ربك للناس، وتبصيرهم بالدين الجديد .. ثم وضَّح المقدار الذي ينبغي أن يصرفه في عبادة الله فقال {نِصْفَهُ أَوْ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً * أَوْ زِدْ عَلَيْهِ} أي قم للصلاة والعبادة نصف الليل، أو أقل من النصف قليلاً، أو أكثر من النصف، والمراد أن تكون هذه الساعات طويلة بحيث لا تقل عن ثلث الليل، ولا تزيد على الثلثين، قال ابن عباس: إن قيام الليل كان فريضة على رسول الله صلى الله عليه وسلم لقوله {قُمْ اللَّيْلَ} ثم نسخ بقوله تعالى {فاقرءوا ما تيسَّر منه} وكان بين أول هذا الوجوب ونسخه سنة، وهذه هي السورة التي نسخ آخرها أولها، حيث رحم المؤمنين فأنزل التخفيف عليهم بقوله {إن ربك يعلم أنك تقوم أدنى من ثلثي الليل، ونصفه وثُلثه، وطائفةٌ من الذين معك ..} الآية {وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً} أي اقرأ القرآن أثناء قيامك في الليل قراءة تثبت وتؤَدة وتمهل، ليكون عوناً لك على فهم القرآن وتدبره، قال الخازن: لما أمره تعالى بقيام الليل أتبعه بترتيل القرآن، حتى يتمكن المصلي من حضور القلب، والتفكر والتأمل في حقائق الآيات ومعانيها، فعند الوصول إلى ذكر الله يستشعر بقلبه عظمة الله وجلاله، وعند ذكر الوعد والوعيد يحصل له الرجاء والخوف، وعند ذكر القصص والأمثال يحصل له الاعتبار، فيستنير القلب بنور معرفة الله، والإِسراع في القراءة يدل على عدم الوقوف على المعاني، فظهر بذلك أن المقصود من الترتيل، إنما هو حضور القلب عند القراءة، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقطِّع القراءة حرفاً حرفاً - أي يقرأ القرآن بتمهل، ويخرج الحروف واضحة - لا يمر بآية رحمةٍ إلا وقف وسأل، ولا يمر بآية عذابٍ إلا وقف وتعوَّذ .. ثم بعد أن أمره تعالى باطراح النوم، وقيام الليل، وتدبر القرآن وتفهمه، انتقل إلى بيان السبب في هذه الأوامر الثلاثة، ذات التكليف الصعب الشاق فقال {إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً} أي سننزل عليك يا محمد كلاماً عظيماً جليلاً، له هيبة وروعةٌ وجلال، إنّه كلام الملك العلاَّم، قال الإِمام الفخر الرازي: والمراد من كونه ثقيلاً هو عِظَم قدره، وجلالة خطره، وكل شيء نفس وعظم خطره فهو ثقيل، وهذا معنى قول ابن عباس {قَوْلاً ثَقِيلاً} يعني كلاماً عظيماً، وقيل المراد ما في القرآن من الأوامر والنواهي، التي هي تكاليف شاقة ثقيلة على المكلفين، ووجه النظم عندي أنه لما أمره بصلاة الليل فكأنه قال: إنما أمرتك بصلاة الليل، لأنا سنلقي عليك قولاً عظيماً، ولا بد أن تصيّر نفسك مستعدة لذلك القول العظيم، وذلك بصلاة الليل، فإن الإِنسان إذا اشتغل بعبادة الله في الليلة الظلماء، وأقبل على ذكره والتضرع بين يديه، استعدت نفسه لإِشراق وجلال الله فيها أقول: وهذا المعنى لطيف في الربط بين قيام الليل، وتلاوة القرآن، فإن الله تعالى كلَّف رسوله أن يدعو الناس إلى دين جديد، فيه تكاليف شاقة على النفس، وأن يكلفهم العمل بشرائعه وأحكامه، ولا شك أن مثل هذا التكليف، يحتاج إلى مجاهدة للنفس ومصابرة، لما فيه من حملهم على ترك ما ألفوه من العقائد، ونبذ ما ورثوه من أسلافهم من العادات، فأنت يا محمد معرَّضٌ لمتاعب كثيرة، وأخطار جمة في سبيل هذه الدعوة، وحمل الناس على قبولها، فكيف يمكن أن تقوم بهذه المهمة الكبيرة، وأنت على ما أنت عليه من التزمل والتلفف، والخلود إلى الراحة والسكون، والبعد عن المشاقِّ، ومجاهدة النفس بطول العبادة وكثر التهجد، ودراسة ءايات القرآن دراسة تفهم وتدبر؟ فانشط من مضجعك إذاً، واسهر معظم ليلك في مناجاة ربك، استعداداً لتحمل مشاق الدعوة، والتبشير بهذا الدين الجديد، ويا لها من لفتةٍ كريمة، تيقَّظَ لها قلبُ النبي الكريم عليه الصلاة والسلام، فشمَّر عن ساعة الجد والعمل، وقام بين يدي ربه حتى تشققت قدماه .. ثم بيَّن تعالى فضل إحياء الليل بالعبادة فقال {إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ} أي إن ساعات الليل وأوقاته التي فيها التفرغ والصفاء، وما ينشئه المرء ويحدثه من طاعةٍ وعبادة، يقوم لها من مضجعه بعد هدأةٍ من الليل {هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا} أي هي أشد على المصلي وأثقل من صلاة النهار، لأن الليل جعل للنوم والراحة، فقيامه على النفس أشد وأثقل، ومن شأن هذه الممارسة الصعبة أن تقوّي النفوس، وتشد العزائم، وتصلب الأبدان، ولا ريب أن مصاولة الجاحدين أعداء الله تحتاج إلى نفوس قوية، وأبدان صلبة {وَأَقْوَمُ قِيلاً} أي أثبتُ وأبينُ ، فهدوء الصوت في الليل، وسكون البشر فيه، أعون للنفس على التدبر والتفطن، والتأمل في أسرار القرآن ومقاصده {إِنَّ لَكَ فِي اَلنَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلاً} أي إن لك في النهار تصرفاً وتقلباً، واشتغالاً طويلاً في شؤونك، فاجعل ناشئة الليل لتهجدك وعبادتك، قال ابن جزي: السبحُ هنا عبارة عن التصرف في الأعمال والأشغال والمعنى: يكفيك النهار للتصرف في أشغالك، وتفرغ بالليل لعبادة ربك .. وبعد أن قرر الخطاب الإِلهي هذه المقدمات التي هي بمثابة تمهيدٍ وبساطٍ للدعوة،انتقل إلى أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بتبليغ الدعوة، وتعليمه كيفية السير فيها عملاً، بعد أن مهدها له نظراً فقال {وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً} أي استعن على دعوتك بذكر الله ليلاً ونهاراً، وانقطع إليه انقطاعاً تاماً في عبادتك وتوكلك عليه، ولا تعتمد في شأنٍ من شؤونك على غيره تعالى، قال ابن كثير: أي أكثر من ذكره وانقطع إليه جل وعلا، وتفرغ لعبادته إذا فرغت من أشغالك مع إخلاص العبادة له {رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لاً إِلَهَ إِلاً هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً} أي هو جل وعلا الخالق المتصرف بتدبير شؤون الخلق، وهو المالك لمشارق الأرض ومغاربها، لا إله غيره ولا ربِّ سواه، فاعتمد عليه وفوّض أمورك إليه {وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ} أي اصبر على أذى هؤلاء السفهاء المكذبين فيما يتقولونه عليك من قولهم: "ساحر، شاعر، مجنون" فإن الله ناصرك عليهم {وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلاً} أي اتركهم ولا تتعرض لهم بأذى ولا شتيمة، قال المفسرون: الهجر الجميل هو الذي لا عتاب معه، ولا يشوبه أذى ولا شتم، وقد كان هذا قبل أن يؤمر بالقتال كما قال سبحانه {وإذا رأيتَ الذين يخوضون في ءاياتنا فأعرض عنهم} ثم أُمر صلى الله عليه وسلم بقتالهم وقتلهم، والحكمة في هذا أن المؤمنين كانوا قلة مستضعفين، فأمروا بالصبر وبالمجاهدة الليلية، حتى يُعدُّوا أنفسهم بهذه التربية الروحية على مناجزة الأعداء، وحتى يكثر عددهم فيقفوا في وجه الطغيان، أما قبل الوصول إلى هذه المرحلة فينبغي الصبر والاقتصار على الدعوة باللسان ..



توعد الله لصناديد قريش



{وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلاً(11)إِنَّ لَدَيْنَا أَنكَالاً وَجَحِيمًا(12)وَطَعَامًا ذَا غُصَّةٍ وَعَذَابًا أَلِيمًا(13)يَوْمَ تَرْجُفُ الأَرْضُ وَالْجِبَالُ وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيبًا مَهِيلاً(14)إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولاً شَاهِدًا عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولاً(15)فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذًا وَبِيلاً(16)فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا(17)السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولاً(18)}



ثم قال تعالى متوعداً ومتهدداً صناديد قريش {وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ} أ ي دعني يا محمد وهؤلاء المكذبين بآياتي، أصحاب الغنى، والتنعم في الدنيا، والترف والبطر فأنا أكفيك شرهم، قال الصاوي: المعنى اتركني أنتقم منهم، ولا تشفع لهم، وهذا من مزيد التعظيم له صلى الله عليه وسلم، وإجلال قدره {وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلاً} أي وأمْهِلهمْ زمناً يسيراً حتى ينالوا العذاب الشديد، قال المفسرون: أمهلهم الله تعالى إلى أن هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة، فلما خرج منها سلَّط عليهم السنين المجدبة وهو العذاب العام، ثم قتل صناديدهم ببدر وهو العذاب الخاص .. ثم وصف تعالى ما أعده لهم من العذاب في الآخرة فقال {إِنَّ لَدَيْنَا أَنكَالاً وَجَحِيمًا} أي إنَّ لهم عندنا في الآخرة قيوداً عظيمة ثقيلة يقيدون بها، وناراً مستعرة هي نار الجحيم يحرقون بها، قال ابن جزي: الأنكال جمع نِكْل وهو القيد من الحديد، وروي أنها قيود سودٌ من نار {وَطَعَامًا ذَا غُصَّةٍ} أي وطعاماً كريهاً غير سائغ، يغصُّ به الإِنسان وهو الزقوم والضريع، قال ابن عباس: شوك من نار يعترض في حلوقهم لا يخرج ولا نزل {وَعَذَابًا أَلِيمًا} أي وعذاباً وجيعاً مؤلماً، زيادة على ما ذكر من النكال والأغلال .. ثم ذكر تعالى وقت هذا العذاب فقال {يَوْمَ تَرْجُفُ الأَرْضُ وَالْجِبَالُ} أي يوم تتزلزل الأرض وتهتز بمن عليها اهتزازاً عنيفاً شديداً هي وسائر الجبال، وذلك يوم القيامة {وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيبًا مَهِيلاً} أي وتصبح الجبال على صلابتها تلاً من الرمل سائلاً متناثراً، بعد أن كانت صلبة جامدة، قال ابن كثير: أي تصير الجبال ككثبان الرمل، بعد ما كانت حجارة صماء، ثم إنها تُنسف نسفاً فلا يبقى منها شيء إلا ذهب كقوله تعالى {ويسألونك عن الجبال فقل ينسفها ربي نسفاً * فيذرها قاعاً صفصفاً * لا ترى فيها عوجاً ولا أمتاً} أي لا شيء ينخفض ولا شيء يرتفع .. ذكر تعالى العذاب المؤلم الذي أعده للمشركين، ومكانه وهو الجحيم، وآلاته وهي القيود وطعام الزقوم، ووقته وهو عند اضطراب الأرض وتزلزلها بمن عليها، وأراد بذلك تخويف المكذبين وتهديدهم بأنه تعالى سيعاقبهم بذلك كله، إن بقوا مستمرين في تكذيبهم لرسول الله عليه الصلاة والسلام، ثم أعقبه بتذكيرهم بما حلَّ بالأمم الباغية التي قد خلت من قبلهم، وكيف عصت وتمردت فأنزل بها من أمره ما أنزل، وضرب لهم المثل بفرعون الجبار فقال {إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولاً شَاهِدًا عَلَيْكُمْ} أي بعثنا لكم يا أهل مكة محمداً صلى الله عليه وسلم شاهداً على أعمالكم، يشهد عليكم بما صدر منكم من الكفر والعصيان {كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولاً} أي كما بعثنا إلى ذلك الطاغية فرعون الجبار، رسولاً من أولئك الرسل العظام "أولي العزم" وهو موسى بن عمران، قال الخازن: وإِنما خصَّ فرعون وموسى بالذكر من بين سائر الأمم والرسل، لأن محمداً صلى الله عليه وسلم آذاه أهل مكة واستخفوا به لأنه وُلد فيهم، كما أن فرعون ازدرى بموسى وآذاه لأنه ربَّاه {فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ} أي فكذب فرعون بموسى ولم يؤمن به، وعصى أمره كما عصيتم يا معشر قريش محمداً صلى الله عليه وسلم وكذبتم برسالته {فَأَخَذْنَاهُ أَخْذًا وَبِيلاً} أي فأهلكناه إهلاكاً شديداً فظيعاً، خارجاً عن حدود التصور، وذلك بإغراقه في البحر مع قومه، قال أبو السعود: وفي الآية التنبيه على أنه سيحيق بهؤلاء ما حاق بأولئك لا محالة، و "الوبيلُ" الثقيل الغليظ من قولهم كلأٌ وبيل أي وخيم لا يستمرأ لثقله .. ويعد أن ذكر الله تعالى أخذه لفرعون، وأن ملكه وجبروته لم يدفعا عنه العذاب، عاد فذكَّر كفار مكة بالقيامة وأهوالها ليبيّن لهم أنهم لن يفلتوا من العذاب كما لم يفلت فرعون مما حدث له فقال {فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا} أي كيف لا تحذرون وتخافون يا معشر قريش عذاب يوم هائل إن كفرتم بالله ولم يؤمنوا به؟ وكيف تأمنون ذلك اليوم الرهيب الذي يشيب فيه الوليد من شدة هوله، وفظاعة أمره؟ قال الطبري: وإِنما تشيب الولدان من شدة هوله وكربه، وذلك حين يقول الله لآدم: أخرج من ذريتك بعث النار، من كل ألفٍ تسعمائة وتسعة وتسعون، فيشيب هنالك كل وليد .. ثم زاد في وصفه وهوْله فقال {السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ} أي السماء متشققة ومتصدّعة من هول ذلك اليوم الرهيب العصيب {كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولاً} أي كان وعده تعالى بمجيء ذلك اليوم واقعاً لا محالة، لأن الله لا يخلف الميعاد.

تذكير وإرشاد بأنواع الهداية



{إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً(19)إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَي اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَؤُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَؤُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا وَمَا تُقَدِّمُوا لأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ(20)}



{إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ} أي إن هذه الآيات المخوّفة، التي فيها القوارع والزواجر، عظةٌ وعبرةٌ للناس {فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً} أي فمن شاء من الغافلين الناسين، أن يستفيد من هذه التذكرة قبل فوات الأوان، فليسلك طريقاً موصلاً إلى الرحمن، بالإِيمان والطاعة، فالأسبابُ ميسرة، والسبل معبَّدة، قال المفسرون: والغرض الحضُّ على الإِيمان وطاعة الله عز وجل، والترغيب في الأعمال الصالحة، لتبقى ذخراً في الآخرة .. ثم عادت الآيات الكريمة للحديث عمَّا بدأته في أول السورة من قيام الليل فقال تعالى {إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَي اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ} أي إن ربك يا محمد يعلم أنك تقوم مع أصحابك للتهجد والعبادة أقل من ثلثي الليل، وتارة تقومون نصفه، وتارةً ثلثه كقوله تعالى {كانوا قليلاً من الليل ما يهجعون * وبالأسحار هم يستغفرون} {وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ} أي والله جل وعلا هو العالم بمقادير الليل والنهار، وأجزائهما وساعاتهما، لا يفوته علم ما تفعلون من قيام هذه الساعات في غلس الظلام ابتغاء رضوانه، وهو تعالى المدبّر لأمر الليل والنهار {عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ} أي علم تعالى أنكم لن تطيقوا قيام الليل كله ولا معظمه، فرحمكم ورجع عليكم بالتخفيف، قال الطبري: أي علم ربكم أن لن تطيقوا قيامه، فتاب عليكم بالتخفيف عليكم {فَاقْرَؤُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} أي فصلوا ما تيسر لكم من صلاة الليل، وإنما عبَّر عن الصلاة بالقراءة، لأن القراءة أحد أجزاء الصلاة، قال ابن عباس: سقط عن أصحاب رسول الله قيام الليل وصارت تطوعاً، وبقي ذلك فرضاً على رسول الله صلى الله عليه وسلم .. ثم بين تعالى الحكمة في هذا التخفيف فقال {عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى} أي علم تعالى أنه سيوجد فيكم من يعجزه المرضُ عن قيام الليل، فخفف عنكم رحمة بكم {وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} أي قوماً آخرين يسافرون في البلاد للتجارة، يطلبون الرزق وكسب المال الحلال {وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} أي وقوم آخرون وهم الغزاة المجاهدون، يجاهدون في سبيل الله لإِعلاء كلمته ونشر دينه، وكل من هذه الفرق الثلاثة يشقُّ عليهم قيام الليل، فلذلك خفف الله عنهم .. ذكر تعالى في هذه الآية الأعذار التي تكون للعباد تمنعهم من قيام الليل، فمنها المرض، ومنها السفر للتجارة، ومنها الجهاد في سبيل الله، ثم كرر الأمر بقراءة ما تيسر من القرآن تأكيداً للتخفيف عنهم، قال الإِمام الفخر الرازي: أما المرضى فإنهم لا يمكنهم الاشتغال بالتهجد لمرضهم، وأما المسافرون والمجاهدون فهم مشغولون في النهار بالأعمال الشاقة، فلو لم يناموا في الليل لتوالت أسباب المشقة عليهم، فلذلك خفف الله عنهم وصار وجوب التهجد منسوخاً في حقهم {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ} أي فصلوا ما تيسَّر لكم من صلاة الليل، واقرؤوا في صلاتكم ما تيسر من القرآن {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} أي وأدوا الصلاة المفروضة على الوجه الأكمل، والزكاة الواجبة عليكم إلى مستحقيها، قال المفسرون: قلَّما يُذكر الأمر بالصلاة في القرآن، إلا ويُقرن معه الأمر بالزكاة، فإن الصلاة عماد الدين بين العبد وربه، والزكاة كذلك عماد الدين بينه وبين إخوانه، والصلاة أعظم العبادات البدنية، والزكاة أعظم العبادات المالية {وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا} أي تصدقوا في وجوه البر والإِحسان ابتغاء وجه الله، قال ابن عباس: يريد سائر الصدقات سوى الزكاة، من صلة الرحم، وقرى الضيف وغيرهما {وَمَا تُقَدِّمُوا لأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ} أي أيَّ شيء تفعلوه أيها الناس من وجوه البر والخير تلقوا أجره وثوابه عند ربكم {هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا} أي تجدوا ذلك الأجر والثواب يوم القيامة خيراً لكم مما قدمتم في الدنيا من صالح الأعمال، فإن الدنيا فانية والآخرة باقية، وما عند الله خيرٌ للأبرار {وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ} أي اطلبوا مغفرة الله في جميع أحوالكم، فإن الإِنسان قلَّما يخلو من تقصير أو تفريط {إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} أي عظيم المغفرة، واسع الرحمة .. ختم تعالى السورة بإرشاد المنفقين المحسنين، إلى أن يطلبوا من الله الصفح والعفو، إذ ربما كانوا لم يخلصوا النية في الإِنفاق، أو لم يحسنوا العمل في الإقراض، فيضعوا النفقة في غير مواضعها، أو ينفقوها فيما لهم فيه غرض وشهوة، وهو ختم يتناسق مع موضوع الإِنفاق، فسبحان منزل القرآن بأوضح بيان!!

yacine414
2011-04-02, 09:32
سورة المُدَّثِّر



تكليف الرسول صلى الله عليه وسم بأعباء الدعوة ومهمة التبليغ

قصة الوليد بن المغيرة والتشنيع عليه

الحكمة من تخصيص عدد خزنة جهنم

الحوار القائم بين أصحاب اليمين والمجرمين



بَين يَدَيْ السُّورَة



* سورة المدثر مكية، شأنها كسابقتها - سورة المزمل - تتحدث عن بعض جوانب من شخصية الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم، ولهذا سميت سورة المدَّثر.



* ابتدأت السورة الكريمة بتكليف الرسول بالنهوض بأعباء الدعوة، والقيامة بمهمة التبليغ بجدٍ ونشاط، وإِنذار الكفار، والصبر على أذى الفجار، حتى يحكم الله بينه وبين أعدائه {يا أيها المدَّثِّر قم فأنْذرْ وربَّك فكبِّر وثيابك فطهِّر والرجز فاهجر ولا تمنن تستكثر ولربك فاصبرْ}.



* ثم توالت السورة تنذر وتهدد أولئك المجرمين، بيومٍ عصيب شديد لا راحة لهم فيه، لما فيه من الأهوال والشدائد {فإِذا نقر في الناقور فذلك يومئذٍ يوم عسير على الكافرين غير يسير}.



* وبعد ذلك البيان الذي يرتعد له الإِنسان، تحدثت السورة عن قصة ذلك الشقي الفاجر "الوليد بن المغيرة" الذي سمع القرآن وعرف أنه كلام الله، ولكنه في سبيل الزعامة وحب الرئاسة زعم أنه من قبيل السحر الذي تعارفه البشر {ذرْني ومنْ خلقت وحيداً وجعلتُ له مالاً ممدوداً وبنين شهوداً ومهَّدتُ له تمهيداً ثم يطْمعُ أنْ أزيدَ كلاَّ إِنه كان لآياتنا عنيداً سأُرهِقُهُ صعُوداً إِنَّه فكَّر وقدَّر فَقُتِلَ كيفَ قدَّر .. إلى قوله تعالى: سأُصليهِ سَقَر}.



* ثم تحدثت السورة عن النار التي أوعد الله بها الكفار، وعن خزنتها الأشداء، وزبانيتها الذين كلفوا بتعذيب أهلها، وعددهم والحكمة من تخصيص ذلك العدد {وما أدراك ما سقر لا تبقي ولا تذر لوَّاحة للبشر عليها تسعة عشر وما جعلنا أصحاب النار إلا ملائكة وما جعلنا عدتهم إلا فتنةً للذين كفروا ..} الآيات.



* وأقسمت السورة بالقمر وضيائه، والصبح وبهائه، على أن جهنم إحدى البلايا العظام {كلا والقمر والليل إذْ أدْبر والصبح إذ أسفر إنها لإِحدى الكُبر نذيراً للبشر لمن شاء منكم أن يتقدم أو يتأخر}.

* ثم تحدثت السورة عن الحوار الذي يجري بين المؤمنين والمجرمين، في سبب دخولهم الجحيم {إلا أصحاب اليمين في جنات يتساءلون عن المجرمين ما سلككم في سقر قالوا لم نك من المصلين ولم نك نطعم المسكين وكنا نخوض مع الخائضين} الآيات.



* وختمت السورة ببيان سبب إعراض المشركين عن الإِيمان {كلا بل لا يخافون الآخرة كلا إِنه تذكرة فمن شاء ذكره وما يذكرون إلا أن يشاء الله هو أهل التقوى وأهل المغفرة}.





تكليف الرسول صلى الله عليه وسم بأعباء الدعوة ومهمة التبليغ



{يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ(1)قُمْ فَأنذِرْ(2)وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ(3)وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ(4)وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ(5)وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ(6)وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ(7)فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ(8)فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ(9)عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ(10)}



سبب النزول :

تقدم في سورة المزمل ما ملخصه: أخرج الشيخان عن جابر وقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "جاورت بحراء شهراً، فلما قضيت جواري، نزلت، فاستنبطت الوادي، فنوديت، فرفعت رأسي، فإذا الملَك الذي جاءني بحراء، فرجعت، فقلت: دثروني. فأنزل الله: {يا أيها المدثر قم فأنذر}".



{يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنذِرْ} أي يا أيها المتغطي بقطيفته يريد النوم والراحة، قم من مضجعك قيام عزم وتصميم، وحذر الناس من عذاب الله إن لم يؤمنوا، خوطب صلى الله عليه وسلم بهذا اللفظ "المدثر" مؤانسة له صلى الله عليه وسلم وتلطفاً، كما خوطب بلفظ {المزمل} في السورة السابقة، قال المفسرون: كان صلى الله عليه وسلم يتعبد في غار حراء فجاءه جبريل بالآيات الكريمة {اقرأ باسم ربك الذي خلق ..} الآيات وهي أول ما نزل عليه من القرآن، فرجع يرجف فؤاده فقال لخديجة: زملوني، زملوني فنزلت {يا أيها المزمل قم الليل إلا قليلاً} الآيات ثم فتر الوحي فحزن صلى الله عليه وسلم فبينا هو يمشي سمع صوتاً من السماء، فرفع رأسه فإذا الملك الذي جاءه بحراء جالس علىكرسي بين السماء والأرض، فعراه صلى الله عليه وسلم من رؤيته الرعب والفزع، فجاء إلى أهله فقال: دثروني، دثروني فأنزل الله {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنذِرْ} قال القرطبي: وفي هذا النداء ملاطفة في الخطاب، من الكريم إلى الحبيب، إذ ناداه بوصفه ولم يقل "يا محمد" ليستشعر اللين والملاطفة من ربه، ومثله قول النبي صلى الله عليه وسلم لحذيفة بن اليمان يوم الخندق: "قم يا نومان" {وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ} أي عظم ربك، وخصه بالتمجيد والتقديس، وأفرده بالعظمة والكبرياء، فليس هناك من هو أكبر من الله، قال الألوسي: أي اخصص ربك بالتكبير، وهو وصفه تعالى بالكبرياء والعظمة، اعتقاداً وقولاً، وإنما ذكرت هذه الجملة بعد الأمر بالإِنذار، تنبيهاً للنبي صلى الله عليه وسلم على عدم الاكتراث بالكفار، فإن نواصي الخلائق بيد الجبار، فلا ينبغي أن يبالي الرسول بأحد من الخلق، ولا أن يرهب سوى الله، فإن كل كبير مقهور تحت عظمته تعالى وكبريائه {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} أي وثيابك فطهرها من النجاسات والمستقذرات، فإن المؤمن طيبٌ طاهر، لا يليق منه أن يحمل الخبيث، قال ابن زيد: كان المشركون لا يتطهرون، فأمره الله أن يتطهر وأن يطهر ثيابه، وقال ابن عباس: كنَّى بالثياب عن القلب والمعنى وقلبك فطهر من الإِثم والمعاصي واستشهد بقول غيلان

وإنــي بحمـــد اللـــه لا ثــوب فــاجر ليســــت ولا من غــدرة أتـقــنع

يقول العرب: فلان طاهر الثياب أو نقي الثياب، يريدون وصفه بالنقاء من المعايب وذميم الصفات، ويقولون: فلان دنس الثياب إذا كان موصوفاً بالأخلاق الذميمة، قال الرازي: والسبب في حسن هذه الكناية، أن الثوب كالشيء الملازم للإنسان، فلهذا السبب جعلوا الثوب كناية عن الإنسان، فقالوا: المجدُ في ثوبه، والعفة في إزاره {وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} أي اترك عبادة الأصنام والأوثان ولا تقربها، قال ابن زيد: الرجز: الآلهة التي كانوا يعبدونها، فأمره أن يهجرها فلا يأتيها ولا يقربها، وقال الإمام الفخر الرازي: الرجز: اسم للقبيح المستقذر كالرجس قال تعالى {فاجتنبوا الرجس من الأوثان} وقوله {وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} كلام جامع لمكارم الأخلاق، كأنه قيل له: اهجر الجفاء، والسفه، وكل قبيح، ولا تتخلق بأخلاق هؤلاء المشركين، والمراد بالهجر الأمر بالمداومة على ذلك الهجران، كما يقول المسلم: {اهدنا الصراط المستقيم} ليس معناه أنه ليس على الهداية، بل المراد ثبتنا على هذه الهداية {وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ} أي ولا تعط الناس عطاء وتستكثره، لأن الكريم يستقل ما يعطي وإن كان كثيراً، واعط عطاء من لا يخاف الفقر، وقال ابن عباس: لا تعط عطية تلتمس بها أفضل منها بمعنى: لا تعط شيئاً لتعطى أكثر منه، وسرُّ النهي أن يكون العطاء خالياً عن انتظار العوض تعففاً وكمالاً، فإن النبي صلى الله عليه وسلم مأمور بأشرف الآداب وأجل الأخلاق {وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ} أي اصبر على أذى قومك، ابتغاء وجه ربك .. ثم أخبر تعالى عن أهوال القيامة وشدائدها فقال: {فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ} أي فإذا نفخ في الصور، نفخة البعث والنشور، وعبر عن النفخ وعن الصور، بالنقر في الناقور، لبيان هول الأمر وشدته، فإن النقر في كلام العرب معناه الصوت وإذا اشتد الصوت أصبح مفزعاً فكأنه يقول: اصبر على أذاهم، فبين أيديهم يوم هائل يلقون فيه عاقبة أذاهم، وتلقى عاقبة صبرك، ولهذا قال بعده {فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ} أي فذلك اليوم يوم شديد هائل، يشتد فيه الهول ويعسر الأمر عليهم، والإشارة بالبعيد {فَذَلِك} للإِيذان ببعد منزلته في الهول والفظاعة {عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ} أي هو عسير على الكافرين، غير هين ولا يسير عليهم، لأنهم يناقشون الحساب، وتسود وجوههم، ويحشرون زرقاً، ويفتضحون على رؤوس الأشهاد، قال الصاوي: ودلت الآية على أنه يسير على المؤمنين، لأنه قيد عسره بالكافرين، وفيها زيادة وعيد وغيظ للكافرين، وبشرى وتسلية للمؤمنين.





قصة الوليد بن المغيرة والتشنيع عليه



{ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا(11)وَجَعَلْتُ لَهُ مَالاً مَمْدُودًا(12)وَبَنِينَ شُهُودًا(13)وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا(14)ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ(15)كَلا إِنَّهُ كَانَ لآيَاتِنَا عَنِيدًا(16)سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا(17)إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ(18)فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ(19)ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ(20)ثُمَّ نَظَرَ(21)ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ(22)ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ(23)فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلا سِحْرٌ يُؤْثَرُ(24)إِنْ هَذَا إِلا قَوْلُ الْبَشَرِ(25)سَأُصْلِيهِ سَقَرَ(26)وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ(27)لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ(28)لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ(29)عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ(30)}



سبب النزول:

نزول الآية (11):

{ذَرْني ..} أخرج الحاكم وصححه وابن جرير وابن أبي حاتم عن أبن عباس: أن الوليد بن المغيرة جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقرأ عليه القرآن، فكأنه رقّ له، فبلغ ذلك أبا جهل، فأتاه، فقال: يا عم، إن قومك يريدون أن يجمعوا لك مالاً ليعطوكه، فإنك أتيت محمداً، لتتعرض لما قِبَله، قال: لقد علمت قريش أني من أكثرها مالاً، قال: فقل فيه قولاً يبلغ قومك أنك منكر له، وأنك كاره له، فقال: وماذا أقول؟ فوالله، ما فيكم رجل أعلم بالشعر مني ولا أعلم برَجَزه ولا بقصيده مني، والله ما يشبه الذي يقول شيئاً من هذا، ووالله إن لقوله لحلاوة، وإن عليه لطِلاوة، وإن أعلاه لمثمر، وإن أسفله لمُغْدِق، وإنه يعلو وما يُعْلَى عليه، وإنه ليحطم ما تحته، قال: لا يرضى عنك قومك حتى تقول فيه، قال: فدعني حتى أفكر فيه، فقال: {هذا سحر يؤثر} يأثره عن غيره، فنزلت: {ذرني ومن خلقت وحيداً}.



نزلت الآية (30):

{عليها تسعة عشر}: أخرج ابن أبي حاتم والبيهقي في البعث وابن مردويه عن البراء أن رهطاً من اليهود سألوا رجلاً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم عن خزنة جهنم، فجاء، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم، فنزل عليه ساعتئذ: {عليها تسعة عشر}.



ثم أخبر عن قصة ذلك الشقي الكافر "الوليد بن المغيرة" وقوله التشنيع في القرآن فقال {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا} أي دعني يا محمد وهذا الشقي، الذي خلقته في بطن أُمه وحيداً فريداً، لا مال له ولا ولد، ولا حول له ولا مدد، ثم كفر بي وكذب بآياتي، قال المفسرون: نزلت في “الوليد بن المغيرة" كان من أكابر قريش، ولذلك لقب الوحيد وريحانة قريش، وقد أنعم الله عليه بنعم الدنيا من المال والبنين، وأغدق عليه الرزق فكان ماله كالنهر الدافق، وكان للوليد بستان في الطائف لا ينقطع ثمره صيفاً ولا شتاء، فكفر بأنعم الله وبدلها كفراً، وقابلها بالجحود بآيات الله والافتراء عليها، وفيه نزل {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا} وهو أسلوب بليغ في التهديد، كما نزلت في الآيات المتقدمة في سورة نون، {ولا تطع كل حلاف مهين .. إلى .. سنسمه على الخرطوم} وهو الذي آذى رسول الله صلى الله عليه وسلم وكاد له، فإن صناديد قريش لما برموا برسول الله، وضاقت عليهم الحيل في إسكاته، وإطفاء نور دعوته، لجأوا إلى الوليد فأشار عليهم بأن يلقبوه صلى الله عليه وسلم بالساحر، ويأمروا عبيدهم وصبيانهم أن ينادوا بذلك في مكة، فجعلوا ينادون إن محمداً ساحر، فحزن لذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت الآيات الكريمة في معرض تهديده وتخويفه، ليكون ذلك أدعى للكسر من كبريائه ثم قال تعالى {وَجَعَلْتُ لَهُ مَالاً مَمْدُودًا} أي جعلت له المال الواسع المبسوط، من الإبل، والخيل، والغنم، والبساتين النضرة، قال البيضاوي: {مَمْدُودًا} أي مبسوطاً كثيراً، وكان له الزرع والضرع والتجارة، قال ابن عباس: كان ماله ممدوداً ما بين مكة والطائف، وقال مقاتل: كان له بستان لا ينقطع نفعه شتاء ولا صيفاً {وَبَنِينَ شُهُودًا} أي وأولاداً مقيمين معه في بلده، يحضرون معه المحافل والمجامع، يستأنس بهم ولا يتنغَّص عيشه لفراقهم، قال المفسرون: كان له عشرة بنين لا يفارقونه سفراً ولا حضراً، وكان مستأنساً لا بهم وله بهم عز ومنعة، أسلم منهم ثلاثة "خالد، وهشام، والوليد" وبعد أن ذكر من مظاهر المال والبنين عاد فعمم الخيرات الدنيوية التي أنعم بها الله عليه فقال {وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا} أي بسطت بين يديه الدنيا بسطاً، ويسرت له تكاليف الحياة، ومظاهر الجاه والعز والسيادة، فكان في قريش عزيزاً منيعاً، وسيداً مطاعاً {ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ} أي ثم بعد هذا العطاء الجزيل يطمع أن أزيد له في ماله وولده وقد كفر بي، قال الفخر الرازي: لفظ {ثُمَّ} هنا للإنكار والتعجب، كما تقول لصاحبك: أنزلتك داري، وأطمعتك وأكرمتك ثم أنت تشتمني!! أي ومع كل هذا الإنعام والإكرام فقد كفر وجحد، وبدل أن يشكر الوليد لربه هذا الإحسان، ويقابله بالطاعة والإيمان، عكس الأمر وقابله بالجحود والكفران {كَلا} ردع وزجر أي ليرتدع هذا الفاجر الأثيم عن ذلك الطمع الفاسد، ثم علل ذلك بقوله {كَلا إِنَّهُ كَانَ لآيَاتِنَا عَنِيدًا} أي لأنه معاند للحق، جاحد بآيات الله، مكذب لرسوله، فكيف يطمع بالزيادة هذا الشقي العنيد؟ {سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا} أي سأكلفه وألجئه إلى عذاب صعب شاق لا يطاق، تضعف عنه قوته كما تضعف قوة من يصعد في الجبل، قال القرطبي: {صَعُودًا} صخرة ملساء يكلف صعودها، فإذا صار في أعلاها حدر في جهنم، فيهوي ألف عام قبل إن يبلغ قرارها وفي الحديث "الصعود جبل من نار يصعد فيه الكافر سبعين خريفاً، ثم يهوي فيه كذلك أبداً" {إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ} أي إنه فكر في شأن النبي والقرآن، وأجال رأيه وذهنه الثاقب، ثم رتب وهيأ كلاماً في نفسه، ماذا يقول في القرآن؟ وبماذا يطعن فيه؟ قال تعالى دعاء عليه {فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ} أي قاتله الله وأخزاه على تلك الكلمة الحمقاء التي أجالها في نفسه، حيث قال عن القرآن، إنه سحر، وقال عن محمد إنه ساحر، وفي الآية استهزاء به وتهكم، حيث قدر ما يصلح تقديره، ولا يسوغ أن يقوله عاقل، قال أبو حيّان: يقول العرب عند استعظام الأمر والتعجب منه: قاتله الله، ومرادهم أنه بلغ المبلغ الذي يحسد عليه ويدعي عليه من حُسَّاده، والاستفهام في قوله {كَيْفَ قَدَّرَ}؟ في معنى ما أعجب تقديره وأغربه؟ كقولهم أي رجل هذا؟ أ ي ما أعظمه؟ {ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ} كرر العبارة تأكيداً لذمه وتقبيحاً لحاله، ولغاية التهكم به، كأنه قال: قاتله الله ما أروع تفكيره، وأبدع رأيه الحصيف؟ حيث قال عن القرآن إنه سحر يؤثر؟ قال المفسرون: مر الوليد بالنبي صلى الله عليه وسلم وهو يصلي ويقرأ القرآن، فاستمع لقراءته وتأثر بها، فانطلق الوليد حتى أتى مجلس قومه من بني مخزوم فقال: والله لقد سمعت من محمداً آنفاً كلاماً، ما هو من كلام الإِنس ولا من كلام الجن، والله إن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإن أعلاه لمثمر، وإن أسلفه لمغدق، وإنه ليعلو وما يعلى عليه، ثم انصرف إلى منزله، فقالت قريش: لقد صبأ والله الوليد، ولتصبأن قريش كلها! فقال أبو جهل: أنا أكفيكموه، فانطلق حتى جلس إلى جانب الوليد حزيناً، فقال له الوليد: ما لي أراك حزيناً يا ابن أخي؟! فقال: كيف لا أحزن وهذه قريش تجمع لك مالاً ليعينوك به على كبر سنك، ويزعمون أنك زيَّنت كلام محمد وصبأت لتصيب من فضل طعامه، وتنال من ماله!! فغضب الوليد وقال: ألم تعلم قريش أني من أكثرهم مالاً وولداً؟! وهل شبع محمد وأصحابه من الطعام حتى يكون لهم فضل طعام؟ ثم قام مع أبي جهل حتى أتى مجلس قومه فقال لهم: تزعمون أن محمداً مجنون فهل رأيتموه يخنق؟ قالوا : اللهم لا، قال : تزعمون أنه كاهن فهل رأيتموه تكهن قط؟ قالوا: اللهم لا، قال: تزعمون أنه شاعر فهل رأيتموه نطق بشعر قط؟ قالوا اللهم لا، قال: تزعمون أنه كذاب، فهل جربتم عليه كذباً قط؟ قالوا اللهم لا، فقالت قريش للوليد: فما هو؟ ففكر في نفسه ثم قال: ما هو إلا ساحر، أما رأيتموه يفرِّق بين الرجل وأهله وولده، وما هذا الذي يقوله إلا سحر يؤثر، فذلك قوله تعالى {إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ} الآيات تركنا الوليد يفكر ويقدر، ولنرجع إليه لنرى ماذا فعل بعد، قال تعالى {ثُمَّ نَظَرَ} أي أجال النظر مرة أُخرى متفكراً في شأن القرآن {ثُمَّ عَبَسَ} أي ثم قطب وجهه وكلحه ضيقاً بما يقول {وَبَسَرَ} أي وزاد في القبض والكلوح، كالمهتم المتفكر في أمر يدبره، قال ابن جزي: البسور تقطيب الوجه وهو أشد من العبوس {ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ} أي ثم أعرض عن الإِيمان، وتكبر عن اتباع الهدى والحق {فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلا سِحْرٌ يُؤْثَرُ} أي فقال: ما هذا الذي يقوله محمد إلا سحر ينقله ويرويه عن السحرة {إِنْ هَذَا إِلا قَوْلُ الْبَشَرِ} أي ليس هذا كلام الله، وما هو إلا كلام المخلوقين، يخدع به محمد القلوب، ويؤثر فيها كما يؤثر السحر بالمسحور، قال الألوسي: هذا كالتأكيد للجملة الأولى، لأن المقصود منهما نفي كونه قرآناً أو من كلام الله تعالى، ولذلك لم يعطف عليها بالواو، وفي وصف إشكاله واستنباطه هذا القول السخيف استهزاء به، وإشارة إلى أنه عن الحق بمعزل، ويظهر من تتبع أحوال الوليد، أنه إنما قال ذلك عناداً وحمية جاهلية، لا جهلاً بحقيقة الحال، ألا ترى ثناءه على القرآن ونفيه عن جميع ما نسبوا إليه من الشعر والكهانة والجنون!! {سَأُصْلِيهِ سَقَرَ} أي سأدخله جهنم يتلظى حرها، ويذوق عذابها {وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ}؟ استفهام للتهويل والتفظيع أي وما أعلمك أي شيء هو سقر؟ {لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ} أي لا تبقي على شيء فيها إلا أهلكته، ولا تترك أحداً من الفجار إلا أحرقته، قال ابن عباس: لا تبقي من الدم والعظم واللحم شيئاً، فإذا أعيد خلقهم من جديد تعاود إحراقهم بأشد مما كانت وهكذا أبداً {لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ} أي تلوح وتظهر لأنظار الناس من مسافات بعيدة لعظمها وهولها كقوله تعالى {وبرزت الجحيم لمن يرى} قال الحسن: تلوح لهم من مسيرة خمسمائة عام حتى يروها عياناً فهي بارزة إلى أنظارهم، يرونها من غير استشراف ولا مدِّ أعناق {عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ} أي خزنتها الموكلون عليها تسعة عشر ملكاً من الزبانية الأشداء كقوله تعالى {عليها ملائكة غلاظٌ شداد لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون} قال ابن عباس: "ما بين منكبي الواحد منهم مسيرة سنة، وقوة الواحد منهم أن يضرب بالمقمع فيدفع بتلك الضربة سبعين ألف انسان في قعر جهنم" قال الألوسي: روي عن ابن عباس أنها لما نزلت {عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ} قال أبو جهل لقريش: ثكلتكم أُمهاتكم، أسمع ابن أبي كبشة - يعني محمداً - يخبركم أن خزنة النار تسعة عشر، وأنتم الدَّهم - أي العدد - الشجعان، أفيعجز كل عشرةٍ منكم أن يبطشوا برجل منهم؟ فقال أبو الأشداد الجمحي: - وكان شديد البطش - أنا أكفيكم سبعة عشر فاكفوني أنتم اثنين، فأنزل الله.





الحكمة من تخصيص عدد خزنة جهنم



{وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلا مَلائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا وَلا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلاً كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلا هُوَ وَمَا هِيَ إِلا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ(31)كَلا وَالْقَمَرِ(32)وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ(33)وَالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ(34)إِنَّهَا لإِحْدَى الْكُبَرِ(35)نَذِيرًا لِلْبَشَرِ(36)لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ(37)}



سبب النزول:

نزول للآية (31):

{وما جعلنا ..} : قال ابن إسحاق وقتادة: قال أبو جهل يوماً: يا معشر قريش، يزعم محمد أن جنود الله الذين يعذبونكم في النار تسعة عشر، وأنتم أكثر الناس عدداً، أفيعجز مئة رجل منكم عن رجل منهم، فأنزل الله: {وما جعلنا أصحاب النار إلا ملائكة} الآية.

وقال السُّدِّي: لما نزلت {عليها تسعة عشر} قال رجل من قريش يدعى أبا الأشد بن كَلَدة الْجُمَحي - وكان شديد البطش -: يا معشر قريش لا يهولَنَّكم التسعة عشر، أنا أدفع عنكم بمنكبي الأيمن عشرة من الملائكة، وبمنكبي الأيسر التسعة، فأنزل الله: {وما جعلنا أصحاب النار إلا ملائكة}.

وفي رواية: أن الحارث بن كَلَدة قال: أن أكفيكم سبعة عشر، واكفوني أنتم اثنين، فنزل قوله: {وماجعلنا أصحاب النار إلا ملائكة} أي لم يجعلهم رجالاً تستطيعون مغالبتهم.



{وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلا مَلائِكَةً} أي وما جعلنا خزنة النار إلا من الملائكة الغلاظ الشداد، ولم نجعلهم من البشر حتى يصارعوهم ويغالبوهم {وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا} أي لم نجعل ذلك العدد إلاَّ سبباً لفتنة وضلال المشركين، حيث استقلوا بعددهم واستهزؤوا حتى قال أبو جهل: أفيعجز كل مائةٍ منكم أن يبطشوا بواحدٍ منهم ثم تخرجون من النار؟ قال الطبري: وإِنما جعل الله الخبر عن عدد خزنة جهنم فتنةً للكافرين، لتكذيبهم بذلك وقول بعضهم لأصحابه - على سبيل الاستهزاء - أنا أكفيكموهم {لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} أي ليتيقن أهل الكتاب من صدق محمد، وأن هذا القرآن من عند الله، إِذ يجدون هذا العدد في كتبهم المنزَّلة {وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا} أي ويزداد المؤمنون تصديقاً لله ورسوله، بما يشهدون من صدق أخبار نبيهم صلى الله عليه وسلم وتسليم أهل الكتاب لما جاء في القرآن موافقاً للتوراة والإِنجيل {وَلا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ} أي ولا يشك أهل الكتاب والمؤمنون في عددهم، وهذا تأكيدٌ لما قبله لأنه لما ذكر اليقين نفى عنهم الشك، فكان قوله {ولا يرتاب} مبالغة وتأكيداً، وهو ما يسميه علماء البلاغة الإِطناب {وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلاً} أي وليقول الذين في قلوبهم شك ونفاق والكافرون من أهل مكة: أيَّ شيء أراد الله بهذا القول العجيب، الذي هو مثل في الغرابة والبداعة؟ ولما يخوفنا بواسطته من سقر وخزنتها التسعة عشر؟ قال الرازي: إِثبات اليقين في بعض الأحوال لا ينافي حصول الارتياب بعد ذلك، فالمقصود من إِعادة هذا الكلام هو أنه حصل لهم يقين جازم بحيث لا يحصل عقيبه البتة شك ولا ريب، وقد كان صلى الله عليه وسلم يعلم من حال قريش أنه متى أخبرهم بهذا العدد العجيب فإِنهم يستهزئون به ويضحكون منه، ولذلك بيَّن تعالى الغاية من ذكر هذا الخبر أوضح بيان {كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} أي مثل ما أضلَّ الله أبا جهل وأصحابه، يضلُّ الله عن الهداية والإِيمان من أراد إِضلاله، ويهدي من أراد هدايته، وله الحكمة البالغة، والحجة الدامغة {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلا هُوَ} أي وما يعلم عدد الملائكة، وقوتهم وضخامة خلقهم، وكثرتهم إِلا الله رب العالمين، وفي الآية ردٌّ على أبي جهل حين قال: أما لربِّ محمد أعوان إلاّ تسعة عشر؟ {وَمَا هِيَ إِلا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ} أي وما هذه النار التي وصفها لكم الجبار، إلا موعظة وتذكرة للخلق ليخافوا ويطيعوا {كَلا وَالْقَمَرِ} {كَلا} كلمة ردع وزجر ثم أقسم تعالى بالقمر على أن سقر حق، والمعنى ليرتدع أولئك المستهزئون بالوحي والقرآن عن فعلهم وسوء صنيعهم، وأُقسم بالقمر {وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ} أي وأُقسم بالليل حين ولَّى بظلمته ذاهباً {وَالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ} أي وبالصبح إِذا تبلَّج وأضاء، ونشر ضياءه على الأرجاء {إِنَّهَا لإِحْدَى الْكُبَرِ} أي إِن جهنم لإِحدى الدواهي الكبيرة، والبلايا الخطيرة، فكيف يستهزئون بها ويكذبون؟ قال أبو حيان: أقسم تعالى بهذه الأشياء تشريفاً لها، وتنبيهاً على ما يظهر فيها من عجائب الله وقدرته، وقوام الوجود بإِيجادها، أقسم على أن جهنم إِحدى الدواهي العظيمة التي لا نظير لها - وفي الآية إِيماء إِلى أن الشمس والقمر مخلوقان لله، وأنهما في حركاتهما وإِدبارهما وإِسفارهما، ونشوء الليل والنهار عنهما، مسخران لأمره تعالى، ساجدان بين يدي قدرته وقهره، فكيف يحسن بالبشر أن يعبدوهما ويكفروا بالإِله الذي خلقهما؟ ثم قال تعالى عن جهنم {نَذِيرًا لِلْبَشَرِ} أي هي إِنذار للخلق ليتقوا ربهم {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ} أي لمن أراد من العباد أن يتقرب إلى ربه بفعل الخيرات أو يتأخر بفعل الموبقات، قال أبو حيّان: والمراد بالتقدم والتأخر: السبق إلى الخير والتخلف عنه كقوله تعالى {فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر} قال ابن عباس: من شاء اتبع طاعة الله، ومن شاء تأخر عنها بمعصيته.





الحوار القائم بين أصحاب اليمين والمجرمين

{كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ(38)إِلا أَصْحَابَ الْيَمِينِ(39)فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ(40)عَنْ الْمُجْرِمِينَ(41)مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ(42)قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ(43)وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ(44)وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ(45)وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ(46)حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ(47)فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ(48)فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ(49)كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ(50)فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ(51)بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتَى صُحُفًا مُنَشَّرَةً(52)كَلا بَلْ لا يَخَافُونَ الآخِرَةَ(53)كَلا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ(54)فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ(55)وَمَا يَذْكُرُونَ إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ(56)}



سبب النزول:

نزول الآية (52):

{بل يريد ...}: أخرج ابن المنذر عن السُّدِّي قال: قالوا: لئن كان محمد صادقاً، فليصبح تحت رأس كل رجل منا صحيفة فيها براءته وأمنه من النار، فنزلت: {بل يريد كل امرئ منهم أن يؤتى صحفاً منشَّرة}.

وفي رواية: أن أبا جهل وجماعة من قريش قالوا: يا محمد، لن نؤمن بك حتى تأتي كل واحد منا بكتاب من السماء، عنوانه: من رب العالمين إلى فلان بن فلان، ونؤمر فيه باتباعك.



{كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ} أي كل نفس محبوسة بعملها، مرهونةٌ عند الله بكسبها، ولا تفك حتى تؤدي ما عليها من الحقوق والعقوبات {إِلا أَصْحَابَ الْيَمِينِ} أي إِلا فريق السعداء المؤمنين، فإِنهم فكوا رقابهم وخلَّصوها من السجن والعذاب، بالإِيمان وطاعة الرحمن {فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ * عَنِ الْمُجْرِمِينَ} أي هم في جناتٍ وبساتين لا يدرك وصفها، يسأل بعضهم بعضاً عن حال المجرمين الذين في النار، والسؤال لزيادة تبكيت أولئك المجرمين وتوبيخهم، وإِدخال الألم والحسرة على نفوسهم، يقولون لهم {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ}؟ ما الذي أدخلكم جهنم، وجعلكم تذوقون سعيرها؟ قال في البحر: وسؤالهم سؤال توبيخ لهم وتحقير، وإِلاّ فهم عالمون ما الذي أدخلهم النار {قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ} أي قال المجرمون مجيبين للسائلين: لم نكن من المصلين في الدنيا لرب العالمين {وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ} أ ي ولم نكن نتصدق ونحسن إلى الفقراء والمساكين، قال ابن كثير: مرادهم في الآيتين: ما عبدنا ربنا، ولا أحسنا إلى خلقه من جنسنا {وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ} أي وكنا نتحدث بالباطل مع أهل الغواية والضلالة، ونقع معهم فيما لا ينبغي من الأباطيل، قال ابن جزي: والخوض هو كثرة الكلام بما لا ينبغي من الباطل وشبهه {وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ} أي نكذب بيوم القيامة، وبالجزاء والمعاد، وإِنما أخر التكذيب بيوم الدين تعظيماً له، لأنه أعظم جرائمهم وأفحشها {حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ} أ ي حتى جاءنا الموت ونحن في تلك المنكرات والضلالات، قال تعالى معقباً على اعترافهم بتلك الجرائم {فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ} أي ليس لهم شافع ينقذهم من عذاب الله، ولو شفع لهم أهل الأرض ما قبلت شفاعتهم فيهم، قال ابن كثير: من كان متصفاً بمثل هذه الصفات، فإِنه لا تنفعه يوم القيامة شفاعة شافع فيه، لأن الشفاعة إِنما تنجع إِذا كان المحل قابلاً، فأما من وافى الله كافراً فإِنه مخلد في النار أبداً .. ولما ذكر تعالى قبائحهم وشنائعهم عاد بالتوبيخ والتقريع عليهم فقال {فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ}؟ فما لهؤلاء المشركين معرضين عن القرآن وآياته، وما فيه من المواعظ البليغة والنصائح والإِرشادات؟ {كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ} أي كأن هؤلاء الكفار حمر وحشية نافرة وشاردة {فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ} أي هربت ونفرت من الأسد من شدة الفزع، قال أبو حيّان: شبههم تعالى بالحمر النافرة مذمة لهم وتهجيناً، وقال ابن عباس: الحمر الوحشية إِذا عاينت الأسد هربت، كذلك هؤلاء المشركون إِذا رأوا محمداً صلى الله عليه وسلم هربوا منه كما يهرب الحمار من الأسد ثم قال: والقسورة: الأسد {بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتَى صُحُفًا مُنَشَّرَةً} أي بل يطمع كل واحد من هؤلاء المجرمين أن ينزل عليه كتاب من الله كما أُنزل على محمد صلى الله عليه وسلم، ويريد أن يتنزَّل عليه الوحي كما تنزَّل على الرسل والأنبياء، والغرض من الآية بيان إِمعانهم في الضلالة وكأنه يقول: دع عنك ذكر إِعراضهم وغباوتهم ونفارهم نفار العجماوات مما فيه خيرهم وسعادتهم، واستمع لما هو أعجب وأغرب، وذلك طمع كل فردٍ منهم أن يكون رسولاً يوحي إليه، وهيهات أن يصل الأشقياء إلى مراتب الأنبياء، ثم قال تعالى {كَلا بَلْ لا يَخَافُونَ الآخِرَةَ} أي ليرتدعوا وينزجروا عن مثل ذلك الطمع، بل الحقيقة أنهم قوم لا يصدقون بالبعث والحساب، ولا يؤمنون بالنعيم والعذاب، وهذا هو الذي أفسدهم وجعلهم يعرضون عن مواعظ القرآن {كَلا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ} كرَّر الردع والزجر لهم بقوله {كَلا} ثم قال {إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ} أي إِنَّ هذا القرآن موعظة بليغة، كافية لا تعاظهم لو أرادوا لأنفسهم السعادة {فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ} أي فمن شاء اتعظ بما فيه، وانتفع بهداه {وَمَا يَذْكُرُونَ إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} أي وما يتعظون به إِلا أن يشاء الله لهم الهدى فيتذكروا ويتعظوا، وفيه تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم وترويح عن قلبه الشريف، مما كان يخامره من إِعراضهم وتكذيبهم له {هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ} أي هو جل وعلا أهلٌ لأن يتقى لشدة عقابه، وأهل لأن يغفر الذنوب لكرمه وسعة رحمته، قال الألوسي: أي حقيقٌبأن يتقى عذابه ويطاع، وحقيقٌ بأن يغفر لمن آمن به وأطاعه وفي الحديث عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ هذه الآية {هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ} ثم قال "قال ربكم: أنا أهل أن أُتقى، فمن اتقاني فلم يجعل معي إِلهاً فأنا أهلٌ أن أغفر له".

yacine414
2011-04-02, 09:34
سورة القيامة



إثبات البعث والقسم بالنفس اللوامة

حرص النبي صلى الله عليه وسلم على عدم تفلت القرآن

تفريط الكفار بالدنيا، وإحياء الموتى



بَين يَدَيْ السُّورَة



* سورة القيامة مكية، وهي تعالج موضوع "البعث والجزاء" الذي هو أحد أركان الإِيمان، وتركّز بوجه خاص على القيامة وأهوالها، والساعة وشدائدها، وعن حالة الإِنسان عند الاحتضار، وما يلقاه الكافر في الآخرة من المصاعب والمتاعب، ولذلك سميت سورة القيامة.



* ابتدأت السورة الكريمة بالقَسَم بيوم القيامة وبالنفس اللوامة، على أن البعث حقٌ لا ريب فيه {لا أُقسم بيوم القيامة ولا أُقسم بالنفس اللوامة أيحسب الإِنسان أن لن نجمع عظامه؟ بلى قادرين على أن نسوي بنانه}.



* ثم ذكرت طرفاً من علامات ذلك اليوم المهول، الذي يُخسف فيه القمر، ويتحير البصر، ويجمع فيه الخلائق والبشر للحساب والجزاء {فإذا برق البصرُ * وخَسفَ القمرُ * وجُمِع الشمسُ والقمرُ * يقول الإِنسانُ يومئذٍ أينَ المفرُّ ؟ كلا لا وَزَرَ * إلى ربك يومئذٍ المستَقَرُّ}.



* وتحدثت السورة عن اهتمام الرسول بضبط القرآن عند تلاوة جبريل عليه السلام، فقد كان عليه السلام يجهد نفسه في متابعة جبريل، ويحرك لسانه معه ليسرع في حفظ ما يتلوه، فأمره تعالى أن يستمع للتلاوة ولا يحرك لسانه به {لا تُحركْ به لسانك لتعجلَ به * إِن علينا جمعه وقرآنه * فإِذا قرأناه فاتَّبعْ قرآنه * ثم إِن علينا بيانه}.



* وذكرت السورة انقسام الناس في الآخرة إلى فريقين: سعداء وأشقياء، فالسعداء وجوههم مضيئة تتلألأ بالأنوار، ينظرون إلى الربّ جل وعلا، والأشقياء وجوههم مظلمة قاتمة يعلوها الذل والقترة {وجوهُ يومئذٍ ناضرة * إلى ربها ناظرة * ووجوهٌ يومئذٍ باسرة * تظن أن يفعل بها فاقرة}.



* ثم تحدثت السورة عن حال المرء وقت الاحتضار، حيث تكون الأهوال والشدائد، ويلقى الإِنسان من الكرب والضيق ما لم يكن في الحسبان {كلا إذا بلغت التراقي * وقيل من راق؟ وظنَّ أنه الفراق * والتفَّتِ الساقُ بالساق * إلى ربك يومئذٍ المساق * فلا صدَّق ولا صلَّى * ولكن كذَّب وتولى * ثم ذهب إلى أهله يتمطى ..}.



* وختمت السورة الكريمة بإثبات الحشر والمعاد بالأدلة والبراهين العقلية {أيحسب الإِنسان أن يترك سُدى * ألم يك نطفةً من منيٍ يُمْنَى ؟ ثم كان علقةً فخلق فسوَّى * فجعل منه الزوجين الذكر والأنثى * أليس ذلك بقادرٍ على أن يُحيي الموتى} ؟







إثبات البعث والقسم بالنفس اللوامة



{لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ(1)وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ(2)أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ(3)بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ(4)بَلْ يُرِيدُ الإِنسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ(5)يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ(6)فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ(7)وَخَسَفَ الْقَمَرُ(8)وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ(9)يَقُولُ الإِنسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ(10)كَلا لا وَزَرَ(11)إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ(12)يُنَبَّأُ الإِنسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ(13)بَلِ الإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ(14)وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ(15)}



سبب النزول:

نزول الآية (3 - 4):

{أيحسب الإنسان ..}: روي أن عدي بن ربيعة قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: يا محمد حدّثني عن يوم القيامة متى يكون أمره؟ فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: لو عاينت ذلك اليوم لم أصدقك، ولم أومن به، أو يجمع الله هذه العظام بعد بلاها؟! فنزلت.



{لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} أي أقسم بيوم القيامة، يوم الحساب والجزاء {وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ} أي وأقسم بالنفس المؤمنة التقية، التي تلوم صاحبها على ترك الطاعات، وفعل الموبقات، قال المفسرون: {لا} لتأكيد القسم، وقد اشتهر في كلام العرب زيادة {لا} قبل القسم لتأكيد الكلام، كأنه من الوضوح والجلاء بحيث لا يحتاج إلى قسم، وجوابُ القسم محذوف تقديره "لتبعثنَّ ولتحاسبنَّ" دل عليه قول {أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ}؟ .. أقسم تعالى بيوم القيامة لعظمه وهوله، وأقسم بالنفس التي تلوم صاحبها على التقصير في جنب الله، وتستغفر وتنيب مع طاعتها وإحسانها، قال الحسن البصري: هي نفس المؤمن، إن المؤمن ما تراه إلا يلوم نفسه: ماذا أردتُ بكلامي؟ وماذا أردتُ بعملي؟ وإن الكافر يمضي ولا يحاسب نفسه ولا يعاتبها {أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ} الاستفهام للتوبيخ والتقريع، أي أيظن هذا الإِنسان الكافر، المكذب للبعث والنشور، أن لن نقدر على جمع عظامه بعد تفرقها؟ قال المفسرون: نزلت هذه الآية في "عدي بن ربيعة" جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا محمد: حدثني عن يوم القيامة، متى يكون؟ وكيف أمره؟ فأخبره رسوله الله صلى الله عليه وسلم فقال: لو عاينتُ ذلك اليوم لم أصدقك يا محمد ولم أومن بك، كيف يجمع الله العظام؟ فنزلت هذه الآية، قال تعالى رداً عليه {بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ} أي بل نجمعها ونحن قادرون على أن نعيد أطراف أصابعه، التي هي أصغر أعضائه، وأدقها أجزاءً وألطفها التئاماً، فكيف بكبار العظام؟ وإنما ذكر تعالى البنان - وهي رءوس الأصابع - لما فيها من غرابة الوضع، ودقة الصنع، لأن الخطوط والتجاويف الدقيقة التي في أطراف أصابع إنسان، لا تماثلها خطوطٌ أُخرى في أصابع شخص آخر على وجه الأرض، ولذلك يعتمدون على بصمات الأصابع في تحقيق شخصية الإِنسان في هذا العصر {بَلْ يُرِيدُ الإِنسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ} أي بل يريد الإِنسان بهذا الإِنكار أن يستمر على الفجور، ويقدم على الشهوات والآثام، دون وازع من خُلُق أو دين، وينطلق كالحيوان ليس له همٌ إلا نيل شهواته البهيمية، ولذلك ينكر القيامة ويكذب بها {يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ} أي يسأل هذا الكافر الفاجر - على سبيل الاستهزاء والتكذيب - متى يكون هذا اليوم يوم القيامة؟ قال الرازي: والسؤال هنا سؤال متعنت ومستبعد لقيام الساعة، ونظيره {فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ}؟ ولذلك ينكر المعاد ويكذب بالبعث والنشور، والغرض من الآية {ليفجر أمامه} إنَّ الإِنسان الذي يميل طبعه إلى الاسترسال في الشهوات، والاستكثار من اللذات، لا يكاد يُقر بالحشر والنشر، وبعث الأموات، لئلا تتنغص عليه اللذات الجسمانية، فيكون أبداً منكراً لذلك، قائلاً على سبيل الهزء والسخرية: أَيَّان يومُ القيامة، قال تعالى رداً على هؤلاء المنكرين {فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ} أي فإذا زاغ البصر وتحيَّر، وانبهر من شدة الأهوال والمخاطر {وَخَسَفَ الْقَمَرُ} أي ذهب ضوءه وأظلم {وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ} أي جمع بينهما يوم القيامة، وأُلقيا في النار ليكونا عذاباً على الكفار، قال عطاء: يجمعان يوم القيامة ثم يُقذفان في البحر، فيكون نار الله الكبرى {يَقُولُ الإِنسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ} أي يقول الفاجر الكافر في ذلك اليوم: أين المهرب؟ وأين الفرار والمنجى من هذه الكارثة الداهية؟ يقول قول الآيس، لعلمه بأنه لا فرار حينئذٍ {كَلا لا وَزَرَ} ردعٌ له عن طلب الفرار، أي ليرتدع وينزجر عن ذلك القول، فلا ملجأ له، ولا مغيث من عذاب الله {إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ} أي إلى الله وحده مصير ومرجع الخلائق، قال الألوسي: إليه جل وعلا وحده استقرار العباد، لا ملجأ ولا منجى لهم غيره ... والمقصود من الآيات بيان أهوال الآخرة العظيمة، والإِنسان يطيش عقله، ويذهب رشده، ويبحث عن النجاة والمخلص، ولكن هيهات فقد جاءت القيامة وانتهت الحياة {يُنَبَّأُ الإِنسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ} أي يُخبر الإِنسان في ذلك اليوم بجميع أعماله، صغيرها وكبيرها، عظيمها وحقيرها، ما قدَّمه منها في حياته، وما أخره بعد مماته، من سنةٍ حسنة أو سيئة، ومن سمعة طيبةٍ أو قبيحة، وفي الحديث (من سنَّ سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة، من غير أن ينقص من أجورهم شيء، ومن سنَّ سنةً سيئة فعليه وزرها ووزرُ من عمل بها إلى يوم القيامة، من غير أن ينقص من أوزارهم شيء) {بَلِ الإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ} أي بل هو شاهد على نفسه، وسوء عمله، وقبح صنيعه، لا يحتاج إلى شاهد آخر كقوله {كفى بنفسك اليوم عليك حسيباً} والهاءُ في {بَصِيرَةٌ} للمبالغة كراوية وعلاَّمة، قال ابن عباس: الإِنسان شاهد على نفسه وحده، يشهد عليه سمعُه، وبصره، ورجلاه، وجوارحه {وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ} أي ولو جاء بكل معذرة ليبرِّر إجرامه وفجوره، فإنه لا ينفعه ذلك، لأنه شاهدٌ على نفسه، وحجةٌ بينة عليها، قال الفخر الرازي: المعنى أن الإِنسان وإن اعتذر عن نفسه، وجادل عنها، وأتى بكل عذر وحجة، فإنه لا ينفعه ذلك لأنه شاهد على نفسه بما جنت واقترفت من الموبقات.



حرص النبي صلى الله عليه وسلم على عدم تفلت القرآن



{لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ(16)إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ(17)فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ(18)ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ(19)كَلا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ(20)وَتَذَرُونَ الآخِرَةَ(21)وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ(22)إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ(23)وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ(24)تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ(25)}



سبب النزول:

نزول الآية (16):

{لا تحرِّك به لسانك ..}: أخرج البخاري ومسلم وأحمد عن ابن عباس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أنزل الوحي، يحرِّك به لسانه، يريد أن يحفظه، فأنزل الله: {لا تحرك به لسانك لتعجل به} الآية.



وبعد هذا البيان انتقل الحديث إلى القرآن، وطريقة تلقي الوحي عن جبريل فقال تعالى مخاطباً رسوله {لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ} أي لا تحرك بالقرآن لسانك عند إلقاء الوحي عليك بواسطة جبريل، لأجل أن تتعجل بحفظه مخافة أن يتفلَّت منك {إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ} أي إن علينا أن نجمعه في صدرك يا محمد وأن تحفظه {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} أي فإِذا قرأه عليك جبريل، فأنصت لاستماعه حتى يفرغ، ولا تحرك شفتيك أثناء قراءته {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} أي ثم إن علينا بيان ما أشكل عليك فهمه يا محمد من معانيه وأحكامه، قال ابن عباس: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعالج في التنزيل شدة، فكان يحرك به لسانه وشفتيه، مخافة أن ينفلت منه يريد أن يحفظه فأنزل الله {لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ ..} الآيات، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك إذا أتاه جبريل عليه السلام أطرق واستمعْ وأَنصت قال: أن نبينه بلسانك وقال ابن كثير: كان صلى الله عليه وسلم يبادر إلى أخذ القرآن، ويسابق الملك في قراءته، فأمره الله عز وجل أن يستمع له، وتكفل له أن يجمعه في صدره، وأن يبينه له ويوضحه، فالحالة الأولى جمعه في صدره، والثانية تلاوتُه، والثالثة تفسيره وإيضاح معناه ثم عاد الحديث عن المكذبين بيوم الدين فقال تعالى مخاطباً كفار مكة {كَلا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ * وَتَذَرُونَ الآخِرَةَ} أي ارتدعوا يا معشر المشركين، فليس الأمر كما زعمتم أن لا بعث ولا حساب ولا جزاء، بل أنتم قومٌ تحبون الدنيا الفانية، وتتركون الآخرة الباقية، ولذلك لا تفكرون في العمل للآخرة ومسراتها الباقية، وصف ما يكون يوم القيامة من انقسام الخلق إلى فريقين: أبرار، وفجار والمعنى وجوه أهل السعادة يوم القيامة مشرقة حسنة مضيئة، من أثر النعيم، وبشاشة السروة عليها، كقوله تعالى {تعرف في وجوههم نضرة النعيم} {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إلى ربِّها ناظِرة} أي تنظر إلى جلال ربها، وتهيم في جماله، أعظم نعيم لأهل الجنة رؤية المولى جل وعلا والنظر إلى وجهه الكريم بلا حجاب، قال الحسن البصري: تنظر إلى الخالق، وحُقَّ لها أن تنضر وهي تنظر إلى الخالق، وبذلك وردت النصوص الصحيحة {وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ} أي ووجوهٌ يوم القيامة عابسة كالحة، شديدة العبوس والكلوح، وهي وجوه الأشقياء أهل الجحيم {تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ} أي تتوقع أن تتنزل بها داهية عظمى، تقصم فقار الظهر، قال ابن كثير: هذه وجوه الفجار تكون يوم القيامة كالحة عابسة، تستيقن أنها هالكة، وتتوقع أن تحل بها داهية تكسر فقار الظهر.





تفريط الكفار بالدنيا، وإحياء الموتى



{كَلا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِي(26)وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ(27)وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ(28)وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ(29)إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ(30)فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى(31)وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى(32)ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى(33)أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى(34)ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى(35)أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى(36)أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى(37)ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى(38)فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأُنثَى(39)أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى(40)}



سبب النزول:

نزول الآية (34، 35):

{أولى لك فأولى ..}: أخرج ابن جرير وابن مردويه عن ابن عباس قال: لما نزلت: {عليها تسعة عشر} [المدثر: 30] قال أبو جهل لقريش: ثكلِتكم أمهاتُكم، يخبركم ابن أبي كبشة أن خزنة جهنم تسعة عشر، وأنتم الدَّهم (العدد) والشجعان، أفيعجز كل عشرة منكم أن يبطشوا برجل من خزنة جهنم، فأوحى الله تعالى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأتي أبا جهل، فيقول له: {أولى لك فأولى، ثم أولى لك فأولى}.



{كَلا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِي} {كَلا} ردعٌ وزجر عن إيثار العاجلة أي ارتدعوا يا معشر المشركين عن ذلك، وتنبهوا لما بين أيديكم من الأهوال والمخاطر، فإن الدنيا دار الفناء، ولا بد أن تتجرعوا كأس المنية، وإذا بلغت الروح {التَّرَاقِي} أعالي الصدر، وشارف الإِنسان عل الموت {وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ} أي وقال أهله وأقرباؤه: من يرقيه ويشفيه ممَّا هو فيه؟ قال أبو حيّان: ذكَّرهم تعالى بصعوبة الموت، وهو أول مراحل الآخرة، حين تبلغ الروح التراقي - وهي عظام أعلى الصدر - فقال أهله: من يرقي ويطب ويشفي هذا المريض؟ {وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ} أي وأيقن المحتضر أنه سيفارق الدنيا والأهل والمال، لمعاينته ملائكة الموت {وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ} أي والتفت إحدى ساقي المحتضر على الأخرى، من شدة كرب الموت وسكراته، قال الحسن: هما ساقاه إذا التفتا في الكفن، وروي عن ابن عباس أن المراد اجتمعت عليه شدة مفارقة الدنيا، مع شدة الموت وكربه، فيكون ذلك من باب التمثيل للأمر الهائل العظيم، حيث يلتقي عليه شدة كرب الدنيا، مع شدة كرب الآخرة، كما يقال: شمَّرت الحرب عن ساق، استعارة لشدتها {إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ} أي إِلى الله جل وعلا مساق العباد، يجتمع عنده الأبرار والفجار، ثم يُساقون إلى الجنة أو النار، قال الخازن: أي مرجع العباد إلى الله تعالى، يساقون إليه يوم القيامة ليفصل بينهم .. ثم أخبر تعالى عن حال الجاحد المكذب فقال {فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى} أي لم يصدق بالقرآن، ولم يصل للرحمن، قال أبو حيان: والجمهور على أنها نزلت في "أبي جهل" وكادت أن تصرح به في قوله {يَتَمَطَّى} فإنها كانت مشيته ومشية قومه بني مخزوم، وكان يكثر منها {وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى} أي ولكن كذب بالقرآن، وأعرض عن الإِيمان {ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى} أي ذهب يتبختر في مشيته، وذلك عبارة عن التكبر والخيلاء {أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى} أي ويلٌ لك يا أيها الشقي ثم ويلٌ لك، قال المفسرون: هذه العبارة في لغة العرب ذهبت مذهب المثل في التخويف والتحذير والتهديد، وأصلها أنها أفعل تفضيل من وليه الشيء إذا قاربه ودنا منه أي وليّك الشر وأوشك أن يصيبك، فاحذر وانتبه لأمرك... روي أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ بيد أبي جهل ثم قال له: {ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى} فقال أبو جهل: أتتوعدني يا محمد وتهددني؟ والله لا تستطيع أنتَ وربُك أن تفعلا بي شيئاً، والله إني لأعزُّ أهل الوادي، ثم لم يلبث أن قتل ببدر شر قتلة {ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى} كرره مبالغة في التهديد والوعيد، كأنه يقول: إني أكرر عليك التحذير والتخويف، فاحذر وانتبه لنفسك، قبل نزول العقوبة بك .. ولما ذكر في أول السورة إمكان البعث، ذكر في آخر السورة الأدلة على البعث والنشور فقال {أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى}؟ أي أفيظن الإِنسان أن يُترك هملاً، من غير بعثٍ ولا حساب ولا جزاءٍ؟ وبدون تكليف بحيث يبقى كالبهائم المرسلة؟ لا ينبغي له ولا يليق به هذا الحُسبان {أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى} الاستفهام للتقرير أي أما كان هذا الإِنسان نطفة ضعيفة من ماءٍ مهين، يراق ويُصب في الأرحام؟ والغرض بيان حقارة حاله كأنه يقول إنه مخلوق من المني الذي يجري مجرى البول {ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى} أي ثم أصبح بعد ذلك قطعة من دم غليظ متجمد يشبه العلقة، فخلقه الله بقدرته في أجمل صورة، وسوَّى صورته وأتقنها في أحسن تقويم {فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأُنثَى} أي فجعل من هذا الإِنسان صنفين: ذكراً وأنثى بقدرته تعالى، هذا هو أصل الإِنسان وتركيبه، فكيف يليق بمثل هذا الضعيف أن يتكبر على طاعة الله؟ {أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى} أي أليس ذلك الإِله الخالق الحكيم، الذي أنشأ هذه الأشياء العجيبة، وأوجد الإِنسان من ماءٍ مهين، بقادرٍ على إعادة الخلق بعد فنائهم؟ بل إنه على كل شيء قدير روي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا قرأ هذه الآية قال: "سبحانك اللهم بلى".

yacine414
2011-04-02, 09:35
سورة الإنسان



خلق الإنسان وهدايته السبيل

ما أعده الله للأبرار والفجار في دار القرار

وصف نعيم أهل الجنة

حال الرسول صلى الله عليه وسلم مع المعاندين من قومه





بَين يَدَيْ السُّورَة



* سورة الدهر من السور المدنية، وهي تعالج أموراً تتعلق بالآخرة، وبوجه خاص تتحدث عن نعيم المتقين الأبرار، في دار الخلد والإِقامة في جنات النعيم، ويكاد يكون جوُّ السورة هو جو السور المكية لإِيحاءاتها وأسلوبها ومواضيعها المتنوعة.



* ابتدأت السورة الكريمة ببيان قدرة الله في خلق الإِنسان في أطوار، وتهيئته ليقوم بما كلف به من أنواع العبادة، حيث جعل الله تعالى له السمع والبصر وسائر الحواس {هل أتى الإِنسان حينٌ من الدهر لم يكن شيئاً مذكوراً * إِنا خلقنا الإِنسان من نطفةٍ أمشاجِ نبتليه فجعلناه سميعاً بصيراً}.



* ثم تحدثت عن النعيم الذي أعده الله في الآخرة لأهل الجنة {إنَّ الأبرار يشربون من كأس كان مزاجها كافوراً * عيناً يشرب بها عباد الله يفجرونها تفجيراً}.



* ثم ذكرت أوصاف هؤلاء السعداء بشيء من الإِسهاب، فوصفتهم بالوفاء بالنذر، وإِطعام الفقراء ابتغاء مرضاة الله، والخوف من عذاب الله، وذكر أنَّ الله تعالى قد آمنهم من ذلك اليوم العبوس الذي تكلح فيه الوجوه {يوفون بالنذر ويخافون يوماً كان شره مستطيراً * ويطعمون الطعام على حبه مسكيناً ويتيماً وأسيراً * إِنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاءً ولا شكوراً} الآيات.



* وأشادت - بعد ذكر أوصافهم - بما لهم عند الله من الأجر والكرامة في دار الإِقامة، وبما حباهم الله من الفضل والنعيم يوم الدين {وجزاهم بما صبروا جنةً وحريراً * متكئين فيها على الأرائك لا يرون فيها شمساً ولا زمهريراً * ودانيةً عليها ظلالها وذللت قطوفها تذليلاً}.



* وتتابعت السورة في سرد نعيم أهل الجنة في مأكلهم، ومشربهم، وملبسهم، وخدمهم الذين يطوفون عليهم صباح مساء {ويطاف عليهم بآنيةٍ من فضة وأكواب كانت قواريرا * قوارير من فضة قدَّروها تقديراً * ويسقون فيها كأساً كان مزاجها زنجبيلاً * عيناً فيها تسمى سلسبيلاً * ويطوف عليهم ولدانٌ مخلدون إِذا رأيتهم حسبتهم لؤلؤاً منثوراً}.



* وختمت السورة الكريمة ببيان أن هذا القرآن تذكرة لمن كان له قلبٌ يعي، أو فكر ثاقب يستضيء بنوره {إِن هذه تذكرة فمن شاء اتخذ إِلى ربه سبيلاً * وما تشاءون إِلا أن يشاء الله إِن الله كان عليماً حكيماً * يدخل من يشاء في رحمته والظالمين أعد لهم عذاباً أليماً}.



خلق الإنسان وهدايته السبيل



{هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا(1)إِنَّا خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا(2)إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا(3)}.



{هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ} أي قد مضى على الإِنسان وقت طويل من الزمان {لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا} أي كان في العدم، لم يكن له ذكر ولا وجود، قال ابن كثير: يخبر تعالى عن الإِنسان أنه أوجده بعد أن لم يكن شيئاً يذكر لحقارته وضعفه، قال المفسرون: {هَلْ أَتَى} بمعنى قد أتى كما تقول: هل رأيت صنيع فلان، وقد علمت أنه قد رآه، وتقول: هل أكرمتك، هل وعظتك؟ ومقصودك أن تقرره بأنك قد أكرمته ووعظته، والمرادُ بالإِنسان الجنس، وبالحين مدة لبثه في بطن أمه، والغرض من الآية تذكير الإِنسان بأصل نشأته، فقد كان شيئاً منسياً لا يفطن له، وكان في العدم جرثومة في صلب أبيه، وماءً مهيناً لا يعلم به إِلا الذي يريد أن يخلقه، ومرَّ عليه حينٌ من الدهر كانت الكرة الأرضية خالية منه، ثم خلقه الله، وأبدع تكوينه وإنشاءه، بعد أن كان مغموراً ومنسياً لا يعلم به أحد .. وبعد أن قرر أن الإِنسان مرَّ عليه وقت لم يكن موجوداً، أخذ يشرح كيف أفاض عليه نعمة الوجود، واختبره بالتكاليف الشرعية بعد أن متَّعه بنعمة العقل والحواس فقال {إِنَّا خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ} أي نحن بقدرتنا خلقنا هذه الانسان من ماءٍ مهين - وهي المنيُّ - الذي ينطف من صلب الرجل، ويختلط بماء المرأة "البويضة الأنثوية" فيتكون منهما هذا المخلوق العجيب، قال ابن عباس: {أَمْشَاجٍ} يعني أخلاط، وهو ماء الرجل وماء المرأة اذا اجتمعا واختلطا، ثم ينتقل بعد من طور إلى طور، ومن حال إِلى حال {نَبْتَلِيهِ} أي لنختبره بالتكاليف الشرعية، والأوامر الإِلهية، لننظر أيشكر أم يكفر؟ وهل يستقيم في سيره أم ينحرف ويزيغ؟ {نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا} أي فجعلناه من أجل ذلك عاقلاً مميزاً، ذا سمع وبصر، ليسمع الآيات التنزيلية، ويبصر الدلائل الكونية، على وجود الخالق الحكيم، قال الإِمام الفخر الرازي: أعطاه تعالى ما يصح معه الابتلاء وهو السمع والبصر، وهما كنايتان عن الفهم والتمييز، كما قال تعالى حاكياً عن إِبراهيم {لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر }؟ وقد يراد بهما الحاستان المعروفتان، وخصَّهما بالذكر لأنهما أعظم الحواسِّ وأشرفها {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ} أي بيَّنا للإِنسان وعرَّفناه طريق الهدى والضلال، والخير والشر، ببعثة الرسل، وإِنزال الكتب .. أخبر تعالى أنه بعد أن ركبه وأعطاه الحواس الظاهرة والباطنة، بيَّن له سبيل الهدى والضلال، ومنحه العقل وترك له حرية الاختيار، ثم هو بعد ذلك إِما أن يشكر، أو يكفر، ولهذا قال بعده {إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا} أي إِما أن يكون مؤمناً شاكراً لنعمة الله، فيسلك سبيل الخير والطاعة، وإِما أن يكون شقياً فاجراً، فيكفر بنعمة الله ويسلك سبيل الشر والفجور، قال المفسرون: المراد هديناه السبيل ليكون إِمَّا شاكراً وإِمّا كفوراً، فالله تعالى دلَّ الإِنسان على سبيل الشكر والكفر، وعلى الإِنسان أن يختار سلوك هذا أو ذاك، وهذه الآية من جملة الآيات الكثيرة الدالة على أن للإِنسان إِرادةً واختياراً هما مناط التكليف، كقوله تعالى {من كانَ يريد العاجلة عجَّلنا له فيها ما نشاء} إِلى {ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها} وكقوله {وقُل الحقُّ من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر} فلا إِكراه لأحدٍ ولا إِجبار، وإِنما هو بمحض الإِرادة والاختيار.





ما أعده الله للأبرار والفجار في دار القرار



{إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلاسِلاً وَأَغْلالاً وَسَعِيرًا(4)إِنَّ الأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا(5)عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا(6)يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا(7)وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا(8)إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُورًا(9)إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا(10)فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا(11)وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا(12)}.



سبب النزول:

نزول الآية (8):

{ويطمعون الطعام ..}: أخرج ابن المنذر عن ابن جرير في قوله: {وأسيراً} قال: لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يأسر أهل الإسلام، ولكنها نزلت في أسارى أهل الشرك، كانوا يأسرونهم في العذاب، فنزلت فيهم، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يأمرهم بالإصلاح إليهم.



ثم بعد هذا البيان الواضح، بيَّن ما أعدَّه للأبرار والفجار في دار القرار فقال {إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلاسِلاً وَأَغْلالاً وَسَعِيرًا} أي هيأنا للكافرين المجرمين قيوداً تشدُّ بها أرجلهم، وأغلالاً تُغلُّ بها أيديهم إلى أعناقهم، وسعيراً أي ناراً موقدة مستعرة يحرقون بها كقوله تعالى {إذِ الأغلال في أعناقهم والسَّلاسل يسبحون * في الحميم ثمَّ في النار يُسجرون} {إِنَّ الأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا} أي الذين كانوا في الدنيا أبراراً بطاعتهم الله تعالى، فإِنهم يشربون كأساً من الخمر، ممزوجة بأنفس أنواع الطيب وهو الكافور، قال المفسرون: الكافور طيبٌ معروف يستحضر من أشجار ببلاد الهند والصين، وهو من أنفس أنواع الطيب عند العرب، والمراد أن من شرب تلك الكأس وجدها في طيب رائحتها، وفوحان شذاها كالكافور، قال ابن عباس: الكافور اسم عين ماءٍ في الجنة يقال له عين الكافور تمتزج الكأس بماء هذه العين وتختم بالمسك فتكون ألذَّ شراب، ولهذا قال تعالى {عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ } أي هذا الكافور يتدفق من عينٍ جارية من عيون الجنة يشرب منها عباد الله الأبرار، وصفهم بالعبودية تكريماً لهم وتشريفاً بإِضافتهم إِليه تعالى {عِبَادُ اللَّهِ} والمراد بهم المؤمنون المتقون {يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا} أي يجرونها حيث شاؤوا من الدور والقصور، قال الصاوي: المراد أنها سهلة لا تمتنع عليهم، ورد أن الرجل منهم يمشي في بيوته، ويصعد إِلى قصوره وبيده قضيب يشير به إلى الماء، فيجري معه حيثما دار في منازله، ويتبعه حيثما صعد إِلى أعلى قصوره.. ولمّا ذكر ثواب الأبرار، بيَّن صفاتهم الجليلة التي استحقوا بها ذلك الأجر الجزيل فقال {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ} أي يوفون بما قطعوه على أنفسهم من نذرٍ في طاعة الله، إِذا نذروا طاعةً فعلوها، قال الطبري: النذرُ كلُّ ما أوجبه الإِنسان على نفسه من فعل، فإِذا نذروا بروا بوفائهم لله، بالنذور التي في طاعة الله، من صلاة، وزكاة، وحج، وصدقة، قال المفسرون: وهذا مبالغة في وصفهم بأداء الواجبات، لأن من وفى بما أوجبه هو على نفسه، كان بما أوجبه الله عليه أوفى {وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا} أي ويخافون هول يومِ عظيم كانت أهواله وشدائده - من تفطر السماوات، وتناثر الكواكب، وتطاير الجبال، وغير ذلك من الأهوال - ممتدة منتشرة فاشية، بالغة أقصى حدود الشدة والفزع، قال قتادة: استطار والله شرُّ ذلك اليوم حتى بلغ السماوات والأرض {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ} أي ويطعمون الطعام مع شهوتهم له، وحاجتهم إِليه {مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا} أي فقيراً لا يملك من حطام الدنيا شيئاً، ويتيماً مات أبوه وهو صغير، فعدم الناصر والكفيل، وأسيراً من أُسر في الحرب من المشركين، قال الحسن البصري: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُؤتى بالأسير، فيدفعه إِلى بعض المسلمين ويقول له: أحسن إليه فيكون عنده اليومين والثلاثة فيؤثره على نفسه .. نبّه تعالى إِل أن أولئك الأبرار مع حاجتهم إِلى ذلك الطعام، في سدّ جوعتهم وجوعة عيالهم، يطيبون نفساً عنه للبؤساء، ويؤثرونهم به على أنفسهم كقوله تعالى {ويُؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة} {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ} أي إنما نحسن إِليكم ابتغاء مرضاة الله وطلب ثوابه {لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُورًا} أي لا نبتغي من وراء هذا الإِحسان مكافأةً، ولا نقصد الحمد والثناء منكم، قال مجاهد: أما والله ما قالوه بألسنتهم، ولكن علم الله به من قلوبهم، فأثنى عليهم به، ليرغب في ذلك راغب {إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا} أي إِنما نفعل ذلك رجاء أن يقينا الله هول يومٍ شديد، تعبس فيه الوجوه من فظاعة أمره، وشدة هوله، وهو يومٌ قمطرير أي شديد عصيب {فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ} أي حماهم الله ودفع عنهم شرَّ ذلك اليوم وشدته {وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا} أي وأعطاهم نضرةً في الوجه، وسروراً في القلب، والتنكير في {سُرُورًا} للتعظيم والتفخيم {وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا} أي وأثابهم بسبب صبرهم على مرارة الطاعة والإِيثار بالمال، جنةً واسعة وألبسهم فيها الحرير كما قال تعالى {ولباسهم فيها حرير} .. وفي الآية إِيجازٌ، آخذٌ بأطراف الإِعجاز، فقد أشار تعالى بقوله {جَنَّةً} إلى ما يتمتع به أولئك الأبرار في دار الكرامة من أصناف الفواكه والثمار، والمطاعم والمشارب الهنية، فإِن الجنة لا تسمَّى جنة إِلا وفيها كل أسباب الراحة كما قال تعالى {وفيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين} وأشار بقوله {وَحَرِيرًا} إلى ما يتمتعون به من أنواع الزينة واللباس، التي من أنفسها وأغلاها عند العرب الحرير، فقد جمع لهم أنواع الطعام والشراب واللباس، وهو قُصارى ما تتطلع له نفوس الناس.





وصف نعيم أهل الجنة



{مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الأَرَائِكِ لا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلا زَمْهَرِيرًا(13)وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلاً(14)وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَ(15)قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا(16)وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْسًا كَانَ مِزَاجُهَا زَنجَبِيلاً(17)عَيْنًا فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلاً(18)وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَنثُورًا(19)وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا(20)عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا(21)إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُورًا(22)}.



سبب النزول:

نزول الآية (20):

{وإذا رأيت ثَمَّ ..}: أخرج ابن المنذر عن عكرمة قال: دخل عمر بن الخطاب على النّبي صلى الله عليه وسلم، وهو راقد على حصير من جريد، وقد أثَّر في جنبه، فبكى عمر، فقال: ما يبكيك؟ قال: ذكرت كسرى ومُلْكه، وهُرْمز، وصاحب الحبَشة ومُلْكه، وأنت رسول الله صلى الله عليه وسلم على حصير من جريد، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أما ترضى أن لهم الدنيا، ولنا الآخرة، فأنزل الله تعالى: {وإذا رأيت ثم رأيت نعيماً ومُلْكاً كبيراً}.



ولما ذكر طعامهم ولباسهم وصف نعيمهم ومساكنهم فقال {مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الأَرَائِكِ} أي مضطجعين في الجنة على الأسرَّة المزيَّنة بفاخر الثياب والستور، قال المفسرون: الأرائك جمع أريكة وهي السرير ترخى عليه الحجلة، والحجلة هي ما يسدل على السرير من فاخر الثياب والستور، وإِنما خصُّهم بهذه الحالة لأنها أتم حالات المتنعم {لا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلا زَمْهَرِيرًا} أي لا يجدون فيها حراً ولا برداً، لأن هواءها معتدل فلا حرَّ ولا قرَّ، وإِنما هي نسمات تهبُّ من العرش تحيي الأنفاس {وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُهَا} أي ظلال الأشجار في الجنة قريبةٌ من الأبرار {وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلاً} أي أدنيت ثمارها منهم، وسهل عليهم تناولها، قال ابن عباس: إِذا همَّ أن يتناول من ثمارها تدلَّت إِليه حتى يتناول منها ما يريد .. ولما وصف طعامهم ولباسهم ومسكنهم، وصف بعد ذلك شرابهم فقال {وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ} أي يدور عليهم الخدم بالأواني الفضية فيها الطعام والشراب - على عادة أهل الترف والنعيم في الدنيا - فيتناول كل واحدٍ منهم حاجته، وهذه الأواني هي الصّحاف بعضها من فضة وبعضها من ذهب كما قال تعالى {يطاف عليهم بصحاف من ذهب} قال الرازي: ولا منافاة بين الآيتين، فتارةً يسقون بهذا، وتارة بذاك {وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَ} أي وأكواب - وهي كالأقداح - رقيقة شفافة كالزجاج في صفائه، قال أبو حيّان: ومعنى {كانت} أن الله تعالى أوجدها بقدرته، فيكون تفخيماً لتلك الخلقة العجيبة الشأن، الجامعة بين بياض الفضة ونصوعها، وشفيف القوارير وصفائها {قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ} أي هي جامعة بين صفاء الزجاج، وحسن الفضة، قال ابن عباس: ليس في الدنيا شيء مما في الجنة إِلا الأسماء - يعني أن ما في الجنة أسمى وأشرف وأعلى - ولو أخذت فضةً من فضة الدنيا، فضربتها حتى جعلتها مثل جناح الذباب، لم ير الماء من ورائها، ولكنَّ قوارير الجنة ببياض الفضة، مع صفاء القوارير {قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا} أي قدَّرها السُّقاة على مقدار حاجتهم، لا تزيد ولا تنقص، وذلك ألذُّ وأشهى، قال ابن عباس: أتوا بها على قدر الحاجة لا يفضلون شيئاً، ولا يشتهون بعدها شيئاً {وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْسًا كَانَ مِزَاجُهَا زَنجَبِيلاً} أي يسقى هؤلاء الأبرار في الجنة كأساً من الخمر ممزوجةً بالزنجبيل، والعرب تستلذ من الشراب ما مزج بالزنجبيل لطيب رائحته، قال القرطبي: فرغبوا في نعيم الآخرة بما اعتقدوه نهاية النعمة والطيب، قال قتادة: الزنجبيل اسمٌ لعينٍ في الجنة يشرب منها المقربون صرفاً، وتمزج لسائر أهل الجنة {عَيْنًا فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلاً} أي يشربون من عين في الجنة تسمى السلسبيل، لسهولة مساغها وانحدارها في الحلق، قال المفسرون: السلسبيل: الماء العذب، السهل الجريان في الحلق لعذوبته وصفائه، وإِنما وصف بأنه سلسبيل، لأن ذلك الشراب يكون في طعم الزنجبيل، ولكن ليس فيه لذعته، فيشعر الشاربون بطعمه، لكنهم لا يشعرون بحرافته، فيبقى الشراب سلسبيلاً، سهل المساغ في الحلق .. ثم وصف بعد ذلك خدم أهل الجنة فقال {وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ} أي ويدور على هؤلاء الأبرار، غلمانٌ ينشئهم الله تعالى لخدمة المؤمنين {مُخَلَّدُون} أي دائمون على ما هم عليه من الطراوة والبهاء، قال القرطبي: أي باقون على ما هم عليه من الشباب، والنضارة، والغضاضة، والحسن، لا يهرمون ولا يتغيرون، ويكونون على سن واحدة على مرِّ الأزمنة {إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَنثُورًا} أي إِذا نظرتهم منتشرين في الجنة لخدمة أهلها، خلتهم لحسنهم وصفاء ألوانهم وإِشراق وجوهم، كأنهم اللؤلؤ المنثور، قال الرازي: هذا من التشبيه العجيب، لأن اللؤلؤ إِذ كان متفرقاً يكون أحسن في المنظر، لوقوع شعاع بعضه على بعض فيكون أروع وأبدع {وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا} أي وإِذا رأيت هناك ما في الجنة من مظاهر الأنس والسرور، رأيت نعيماً لا يكاد يوصف، وملكاً واسعاً عظيماً لا غاية له، كما في الحديث القدسي (أعددتُ لعبادي الصالحين، ما لا عينٌ رأتْ، ولا أُذنٌ سمعت، ولا خطَر على قلب بشر) قال ابن كثير: وثبت في الصحيح أن (أقل أهل الجنة منزلةً من له قدر الدنيا وعشرة أمثالها) فإِذا كان هذا عطاؤه تعالى لأدنى من يكون في الجنة، فما ظنك بمن هو أعلى منزلةً وأحظى عنده تعالى؟ ثم زاد تعالى في بيان وصف نعيمهم فقال {عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ} أي تعلوهم الثياب الفاخرة الخضراء، المزينة بأنواع الزينة، من الحرير الرقيق - وهو السندس - والحرير الثخين وهو - الاستبرق - فلباسهم في الجنة الحرير كما قال تعالى {ولباسهم فيها حرير} قال المفسرون: السندس ما رقَّ من الحرير، والاستبرق ما غلظ من الحرير، وهذا لباس الأبرار في الجنة، وإِنما قال {عَالِيَهُم} لينبه على أن لهم عدة من الثياب، ولكنَّ الذي يعلوها هي هذه، فتكون أفضلها {وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ} أي وألبسوا في الجنة أساور فضية للزينة والحلية وعبَّر بالماضي إِشارةً لتحقق وقوعه، قال الصاوي: فإِن قيل: كيف قال هنا {أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ} وفي سورة الكهف {يحلون فيها من أساور من ذهب} وفي سورة فاطر {يحلون فيها من أساور من ذهبٍ ولؤلؤاً} فالجواب أنهم تارةً يلبسون الذهب فقط، وتارةً يلبسون الفضة، وتارة يلبسون اللؤلؤ فقط على حسب ما يشتهون، ويمكن أن يجمع في يد أحدهم أسورة الذهب والفضة واللؤلؤ {وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا} أ ي سقاهم الله - فوق ذلك النعيم - شراباً طاهراً لم تدنسه الأيدي، وليس بنجس كخمر الدنيا، قال الطبري: سُقي هؤلاء الأبرار شراباً طهوراً، ومن طُهْره أنه لا يصير بولاً نجساً، بل رشحاً من أبدانهم كرشح المسك، روي أن الرجل من أهل الجنة يقسم له شهوة مائة رجل من أهل الدنيا، فإِذا أكل سقي شراباً طهوراً، فيصير رشحاً يخرج من جلده أطيبُ ريحاً من المسك الإِذخر {إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً} أي يقال لهم بعد دخولهم الجنة ومشاهدتهم نعيمها: هذا مقابل أعمالكم الصالحة في الدنيا {وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُورًا} أي وكان عملكم مقبولاً مرضياً، جوزيتم عليه أحسن الجزاء، مع الشكر والثناء.. مرَّ في الآيات السابقة أن الله تعالى أعدَّ للكافرين السلاسل والأغلال، كما هيأ للأبرار أرائك يتكئون عليها، وعليهم ثياب السندس والاستبرق، وفي معاصمهم أساور الفضة، وبين أيديهم ولدانٌ مخلدون كأنهم اللؤلؤ المنثور، يطوفون على أولئك الأبرار بصحاف الفضة وأكوابها الصافية النقية، وقد ملئت شراباً ممزوجاً بالزنجبيل والكافور، وكلُّ ذلك للترغيب والترهيب، على طريقة القرآن في المقارنة بين أحوال الأبرار والفجار.





حال الرسول صلى الله عليه وسلم مع المعاندين من قومه



{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلاً(23)فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا(24)وَاذْكُرْ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلاً(25)وَمِنْ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً(26)إِنَّ هَؤُلاءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءهُمْ يَوْمًا ثَقِيلاً(27)نَحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَا أَمْثَالَهُمْ تَبْدِيلاً(28)إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً(29)وَمَا تَشَاءونَ إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا(30)يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا(31)}.



سبب النزول:

نزول الآية (24):

أخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن المنذر عن قتادة أنه بلغه أن أبا جهل قال: لئن رأيت محمداً يصلي لأطأن عنقه، فأنزل الله: {ولا تطع منهم آثماً أو كفوراً}.



وبعد هذا الوضوح والبيان، كان المشركون يقابلون كل هذه الآيات بالصدِّ والإِعراض، والاستهزاء بالقرآن وبمحمد عليه الصلاة والسلام، وكان الرسول يتألم ويحزن لموقف المعاندين، لذلك جاءت الآيات تشدُّ من عزيمته، وتسلِّيه وتخفف عن قلبه الشريف آثار الهمِّ والضجر {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلاً} أي نحن الذين أنزلنا عليك يا محمد هذا القرآن مفرقاً، لتذكرهم بما فيه من الوعد والوعيد، والترغيب والترهيب، فلا تبتئس ولا تحزن ولا تضجر، فالقرآن حقٌ ووعده صدقٌ {فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ} أي اصبر يا محمد وانتظر حكم ربك وقضاءه، فلا بدَّ أن ينتقم منهم، ويقر عينك بإِهلاكهم، إِنْ عاجلاً أو آجلاً {وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ} أي ولا تطع من هؤلاء الفجرة من كان {آثِمًا} منغمساً في الشهوات، غارقاً في الموبقات {أَوْ كَفُورًا} أي ولا تطع من كان مبالغاً في الكفر والضلال، لا ينزجر ولا يرعوي، وصيغة {كفور} من صيغ المبالغة ومعناها المبالغ في الكفر والجحود، قال المفسرون: نزلت في "عتبة بن ربيعة" و "الوليد بن المغيرة" قالا للنبي صلى الله عليه وسلم: إِن كنت تريد النساء والمال فارجع عن هذا الأمر ونحن نكفيك ذلك، فقال عتبة: أنا أُزوجك ابنتي وأسوقها لك من غير مهر، وقال الوليد: أنا أعطيك من المال حتى ترضى فنزلت، والأحسنُ أنها على العموم لأن لفظها عام فهي تشمل كل فاسق وكافر {وَاذْكُرْ اسْمَ رَبِّكَ} أي صلِّ لربك وأكثر من عبادته وطاعته {بُكْرَةً وَأَصِيلاً} أي في أول النهار وآخره، في الصباح والمساء {وَمِنْ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ} أي ومن الليل فصلِّ له، متهجداً مستغرقاً في مناجاته {وَسَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً} أي وأكثر من التهجد والقيام لربك في جناح الظلام والناس نيام كقوله تعالى {ومن الليل فتهجد به نافلة لك عسى أن يبعثك ربك مقاماً محموداً} والمقصود أن يكون عابداً لله ذاكراً له في جميع الأوقات، في الليل والنهار، والصباح والمساء، بقلبه ولسانه، ليتقوى على مجابهة أعدائه .. وبعد تسلية النبي الكريم، عاد إِلى شرح أحوال الكفرة المجرمين فقال {إِنَّ هَؤُلاءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ} أي إِن هؤلاء المشركين يفضلون الدنيا على الآخرة، وينهمكون في لذائذها الفانية {وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْمًا ثَقِيلاً} أي ويتركون أمامهم يوماً عسيراً شديداً، عظيم الأهوال والشدائد، وهو يوم القيامة {نَحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ} أي نحن بقدرتنا أوجدناهم من العدم، وأحكمنا ربط مفاصلهم بالأعصاب والعروق، حتى كانوا أقوياء أشداء {وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَا أَمْثَالَهُمْ تَبْدِيلاً} أي ولو أردنا أهلكناهم، ثم بدلنا خيراً منهم يكونون أعبد لله وأطوع، وفي الآية تهديدٌ ووعيد {إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ} أي هذه الآيات الكريمة بمعناها الدقيق، ولفظها الرشيق، موعظة وذكرى، يتذكر بها العاقل، وينزجر بها الجاهل {فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً} أي فمن أراد الانتفاع والاعتبار وسلوك طريق السعادة، فليعتبر بآيات القرآن، وليستنر بنوره وضيائه، وليتخذ طريقاً موصلاً إلى ربه، بطاعته وطلب مرضاته، فأسباب السعادة ميسورة، وسبل النجاة ممهدة {وَمَا تَشَاءونَ إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} أي وما تشاءون أمراً من الأمور، إِلا بتقدير الله ومشيئته، ولا يحصل شيء من الطاعة والاستقامة إِلا بإذنه تعالى وإِرادته، قال ابن كثير: أي لا يقدر أحدٌ أن يهدي نفسه، أو يدخل في الإِيمان، أو يجر لنفسه نفعاً، إِلا بمشيئة الله تعالى {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا} أي عالم بأحوال خلقه، حكيم في تدبيره وصنعه، يعلم من يستحق الهداية فييسِّرها له، ومن يستحق الضلالة فيسهل له أسبابها، وله الحكمة البالغة والحجة الدامغة {يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ} أي يدخل من شاء من عباده جنَّته ورضوانه حسب مشيئته وحكمته وهم المؤمنون {وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} أي وأما المشركون الظالمون فقد هيأ لهم عذاباً شديداً مؤلماً في دار الجحيم، ختم السورة الكريمة ببيان مآل المتقين، ومآل الكفرة المجرمين.

yacine414
2011-04-02, 09:37
سورة المرسلات



حتمية يوم القيامة

تخويف الله الكفار من بطشه وانتقامه

أحوال الأشقياء المجرمين

أحوال السعداء المتقين وبعض أحوال المجرمين



بَين يَدَيْ السُّورَة



* سورة المرسلات مكية، وهي كسائر السور المكية تعالج أمور العقيدة، وتبحث عن شؤون الآخرة، ودلائل القدرة والوحدانية، وسائر الأمور الغيبية.



* ابتدأت السورة الكريمة بالقسم بأنواع الملائكة، المكلفين بتدبير شؤون الكون، على أن القيامة حقُّ، وأن العذاب والهلاك واقع على الكافرين {والمرسلات عرفاً * فالعاصفات عصفاً * والناشرات نشراً * فالفارقات فرقاً * فالملقيات ذكراً * عذراً أو نذراً * إِنما توعدون لواقع}.



* ثم تحدثت عن وقت ذلك العذاب الذي وُعد به المجرمون {فإِذا النجوم طمست * وإِذا السماء فرجت * وإِذا الجبال نسفت * وإِذا الرسل أقتت * لأي يومٍ أُجلت * ليوم الفصل * وما أدراك ما يوم الفصل}.



* وتناولت السورة بعد ذلك دلائل قدرة الله الباهرة على إِعادة الإِنسان بعد الموت، وإِحيائه بعد الفناء {ويلٌ يومئذٍ للمكذبين * ألم نهلك الأولين * ثم نتبعهم الآخرين * كذلك نفعل بالمجرمين* ويلٌ يومئذٍ للمكذبين * ألم نخلقكم من ماءٍ مهين} الآيات.



* ثم تحدثت عن مآل المجرمين في الآخرة وما يلقون فيه من نكال وعقاب {ويلٌ يومئذٍ للمكذبين * انطلقوا إِلى ما كنتم به تكذبون * انطلقوا إِلى ظلٍ ذي ثلاث شعب * لا ظليلٍ ولا يغني من اللهب * إِنها ترمي بشرر كالقصر * كأنه جمالت صفر ..} الآيات.



* وبعد الحديث عن المجرمين، تحدثت السورة عن المؤمنين المتقين، وذكرت ما أعده الله تعالى لهم من أنواع الإِفضال والإِكرام {إِن المتقين في ظلال وعيون * وفواكه مما يشتهون * كلوا واشربوا هنيئاً بما كنتم تعملون * إن كذلك نجزي المحسنين}.



* وختمت السورة الكريمة ببيان سبب امتناع الكفار، عن عبادة الله الواحد القهار، وهو الطغيان والإِجرام {ويلٌ يومئذ للمكذبين * كلوا وتمتعوا قليلاً إِنكم مجرمون * ويلٌ يومئذٍ للمكذبين* وإِذا قيل لهم اركعوا لا يركعون * ويلٌ يومئذٍ للمكذبين * فبأي حديث بعده يؤمنون}.



حتمية يوم القيامة



{وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفًا(1)فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفًا(2)وَالنَّاشِرَاتِ نَشْرًا(3)فَالْفَارِقَاتِ فَرْقًا(4)فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْرًا(5)عُذْرًا أَوْ نُذْرًا(6)إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَوَاقِعٌ(7)فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ(8)وَإِذَا السَّمَاءُ فُرِجَتْ(9)وَإِذَا الْجِبَالُ نُسِفَتْ(10)وَإِذَا الرُّسُلُ أقِّتَتْ(11)لأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ(12)لِيَوْمِ الْفَصْلِ(13)وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الْفَصْلِ(14)وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ(15)}



{وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفًا} أي أُقسم بالرياح حين تهبُّ متتابعة، يقفو بعضها إِثر بعض، قال المفسرون: هي رياح العذاب التي يهلك الله بها الظالمين {فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفًا} أي وأُقسم بالرياح الشديدة الهبوب، إِذا أُرسلت عاصفة شديدة، قلعت الأشجار، وخربت الديار، وغيَّرت الآثار {وَالنَّاشِرَاتِ نَشْرًا} أي وأُقسم بالملائكة الموكلين بالسحب يسوقونها حيث شاء الله، لتنشر رحمة الله - المطر - فتحيي به البلاد والعباد {فَالْفَارِقَاتِ فَرْقًا} أي وأقسم بالملائكة التي تفرق بين الحق والباطل، والحلال والحرام {فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْرًا} أي وأقسم بالملائكة تنزل بالوحي، وتلقي كتب الله تبارك وتعالى إِلى الأنبياء عليهم الصلاة والسلام {عُذْرًا أَوْ نُذْرًا} أي تلقي الوحي إِعذاراً من الله للعباد لئلا يبقى لهم حجة عند الله، أو إِنذاراً من الله للخلق بالنقمة والعذاب {إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَوَاقِعٌ} هذا هو جواب القسم أي إِنَّ ما توعدون به من أمر القيامة، وأمر الحساب والجزاء، كائن لا محالة، قال المفسرون: أقسم تعالى بخمسة أشياء، تنبيهاً على جلالة قدر المقسم به، وتعظيماً لشأن المقسم عليه، فأقسم بالرياح التي تحمل الرحمة والعذاب، وتسوق للعباد الخير أو الشر، وبالملائكة الأبرار، الذين يتنزلون بالوحي للإِعذار والإِنذار، أقسم على أن أمر القيامة حق لا شك فيه، وأن ما أوعد الله تعالى به المكذبين، من مجيء الساعة والثواب والعقاب، كائن لا محالة، فلا ينبغي الشك والامتراء .. ثم بيَّن تعالى وفصَّل وقت وقوع ذلك فقال {فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ} أ ي محيت النجوم وذهب نورها وضياؤها {وَإِذَا السَّمَاءُ فُرِجَتْ} أي شقت السماء وتصدَّعت {وَإِذَا الْجِبَالُ نُسِفَتْ} أي تطايرت الجبال وتناثرت حتى أصبحت هباءً تذروه الرياح كقوله تعالى {ويسألونك عن الجبال فقل ينسفها ربي نسفاً} {وَإِذَا الرُّسُلُ أقِّتَتْ} أي جعل للرسل وقتٌ وأجل، للفصل بينهم وبين الأمم، وهو يوم القيامة كقوله تعالى {يوم يجمع اللهُ الرسل فيقول ماذا أُجبتم}؟ وأصل {أُقتت} وُقِّتت من الوقت أي جعل لها وقت محدد، قال الطبري: أي أُجّلت للاجتماع لوقتها يوم القيامة، وقال مجاهد: هو الوقت الذي يحضرون فيه للشهادة على أممهم {لأيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ}؟ استفهامٌ لتعظيم ذلك اليوم، والتعجيب لما يقع فيه من الهول والشدة أي لأي يومٍ عظيم أُخرت الرسل؟ ثم قال {لِيَوْمِ الْفَصْلِ} أي ليوم القضاء والفصل بين الخلائق، يوم يفصل الله بين الأنبياء وأممهم المكذبين بحكمه العادل {وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الْفَصْلِ}؟ استفهام للتعظيم والتهويل أي وما أعلمك أيها الإِنسان بيوم الفصل وهوله؟ فإِن ذلك اليوم أعظم من أن يعرف أمره إِنسان، أو يحيط به عقل أو وجدان، ووضع الظاهر {مَا يَوْمُ الْفَصْلِ} مكان الضمير "ما هو" لزيادة تفظيع وتهويل أمره، قال الإِمام الفخر الرازي: عجَّب العباد من تعظيم ذلك اليوم فقال: لأي يومٍ أُجّلت الأمور المتعلقة بهؤلاء الرسل، وهي تعذيب من كذَّبهم، وتعظيم من ءامن بهم، وظهور ما كانوا يدعون الخلق إِلى الإِيمان به، من الأهوال والعرض والحساب، ثم إِنه تعالى بين ذلك فقال {لِيَوْمِ الْفَصْلِ} وهو يومٌ يفصل الرحمن بين الخلائق، ثم أتبع ذلك تعظيماً ثانياً فقال {وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الْفَصْلِ} أي وما أعلمك ما هو يوم الفصل وشدته ومهابته؟ وجواب الشرط {فإِذا النجوم} الخ محذوف لدلالة الكلام عليه تقديره: وقع ما توعدون به، وجرى ما أخبركم به الرسل من مجيء القيامة، والحذف على هذه الصورة من أساليب الإِيجاز البياني الذي امتاز به القرآن {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ} أي هلاك عظيم وخسار كبير في ذلك اليوم لأولئك المكذبين بهذا اليوم الموعود، قال المفسرون: كرَّر هذه الجملة {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ} في هذه السورة عشر مرات لمزيد الترغيب والترهيب، وفي كل جملة وردت أخبارٌ عن أشياء من أحوال الآخرة، وتذكير بأحوال الدنيا، فناسب أن يذكر الوعيد عقيب كل جملة منها بالويل والدمار للكفرة الفجار، ولما كان - في سورة الإِنسان السابقة - ذكر بعضاً من أحوال الكفار في الآخرة، وأطنب في وصف أحوال المؤمنين هناك، جاء في هذه السورة بالإِطناب في وصف الكفار، والإِيجاز في وصف المؤمنين.



تخويف الله الكفار من بطشه وانتقامه





{أَلَمْ نُهْلِكِ لأَوَّلِينَ(16)ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الآخِرِينَ(17)كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ(18)وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ(19)أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ(20)فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَكِينٍ(21) إِلَى قَدَرٍ مَعْلُومٍ(22)فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ(23)وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ(24)أَلَمْ نَجْعَلِ الأَرْضَ كِفَاتًا(25)أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا(26)وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ شَامِخَاتٍ وَأَسْقَيْنَاكُمْ مَاءً فُرَاتًا(27)وَيْلٌ يوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ(28)انطَلِقُوا إِلَى مَا كُنتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ(29)}



ثم بعد أن أكد الخبر بيوم القيامة، وأنه حق كائن لا محالة، وبعد أن خوَّف المكذبين من شدة هول ذلك اليوم، وفظاعة ما يقع فيه، عاد فخوَّفهم من بطش الله وانتقامه بأسلوب آخر فقال {أَلَمْ نُهْلِكِ الأَوَّلِينَ}؟ أي ألم نهلك السابقين بتكذيبهم للرسل، كقوم نوحٍ وعادٍ وثمود؟ {ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الآخِرِينَ}؟ أي ثم ألحقنا بهم المتأخرين ممن كانوا مثلهم في التكذيب والعصيان، كقوم لوط وشعيب وقوم موسى "فرعون وأتباعه" ومن على شاكلتهم {كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ} أي مثل ذلك الإِهلاك الفظيع نفعل بهؤلاء المجرمين "كفار مكة" لتكذيبهم لسيد المرسلين صلى الله عليه وسلم {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ} أي هلاك ودمار لكل مكذب بالتوحيد والنبوة، والبعث والحساب {أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ} تذكير للمكذبين وتعجيب من غفلتهم وذهولهم عن أبسط الأمور المشاهدة، وهي أن من خلقهم من النطفة الحقيرة الضعيفة كان قادراً على إِعادة خلقهم للعبث والحساب والمعنى: ألم نخلقكم يا معشر الكفار من ماءٍ ضعيف حقير هو منيُّ الرجل؟ وفي الحديث القدسي يقول الله عز وجل (ابن آدم أنَّى تعجزني وقد خلقتك من مثل هذه) الحديث {فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَكِينٍ} أي فجعلنا هذا الماء المهين في مكان حريز وهو رحم المرأة {إِلَى قَدَرٍ مَعْلُومٍ} أي إِلى مقدار من الزمن محدَّد معيَّن، معلوم عند الله تعالى وهو وقت الولادة، {فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ} أي فقدرنا على خلقه من النطفة، فنعم القادرون نحن حيث خلقناه في أحسن الصور، وأجمل الأشكال {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ} أي هلاك ودمار للمكذبين بقدرتنا، قال الصاوي: هذه الآية تذكير من الله تعالى للكفار بعظيم إِنعامه عليهم، وبقدرته على ابتداء خلقهم، والقادرُ على الابتداء قادر على الإِعادة، ففيها ردٌّ على المنكرين للبعث .. ثم ذكَّرهم بنعمة إِيجادهم على الأرض حال الحياة، ومواراتهم في باطنها بعد الموت فقال {أَلَمْ نَجْعَلِ الأَرْضَ كِفَاتًا * أَحْيَاءً ‎وَأَمْوَاتًا}؟ أي ألم نجعل هذه الأرض التي تعيشون عليها كالأم لكم، تجمع الأحياء على ظهرها، والأموات في بطنها؟ قال المفسرون: الكفت: الجمع والضم، فالأرض تجمع وتضم إِليها جميع البشر، فهي كالأم لهم، الأحياء يسكنون فوق ظهرها في المنازل والدور، والأموات يسكنون في بطنها في القبور {منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى} قال الشعبي: بطنها لأمواتكم وظهرها لأحيائكم {وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ شَامِخَاتٍ} أي وجعلنا في الأرض جبالاً راسخات عاليات مرتفعات لئلا تضطرب بكم {وَأَسْقَيْنَاكُمْ مَاءً فُرَاتًا} أي وأسقيناكم ماءً عذباً حلواً بالغ العذوبة، أنزلناه لكم من السحاب، وأخرجناه لكم من العيون والأنهار، لتشربوا منه أنتم ودوابكم، وتسقوا منه زرعكم وأشجاركم {وَيْلٌ يوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ * انطَلِقُوا إِلَى مَا كُنتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ} أي انطلقوا إِلى عذاب جهنم الذي كنتم تكذبون به في دار الدنيا، وهذا الكلام تقوله لهم خزنة النار تقريعاً وتوبيخاً.



أحوال الأشقياء المجرمين



{انطَلِقُوا إِلَى ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ(30)لا ظَلِيلٍ وَلا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ(31)إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ(32)كَأَنَّهُ جِمَالَةٌ صُفْرٌ(33)وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ(34)هَذَا يَوْمُ لا يَنطِقُونَ(35)وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ(36)وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ(37)هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْنَاكُمْ وَالأَوَّلِينَ(38)فَإِنْ كَانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِي(39)وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ(40)}



ثم وضَّح ذلك العذاب وفصَّله فقال {انطَلِقُوا إِلَى ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ} أي اذهبوا فاستظلوا بدخانٍ كثيف من دخان جهنم، يتفرع منه ثلاث شعب {لا ظَلِيلٍ وَلا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ} أي لا يظل من يكون تحته، ولا يقيه حر الشمس كما هو حال الظل الممدود، ولا هو يدفع عنه أيضاً ألسنة النار المندلعة من كل جانب، قال الطبري: لا هو يظلهم من حرها، ولا يكنهم من لهبها، وذلك أنه يرتفع من وقود جهنم الدخان، فإِذا تصاعد تفرَّق شعباً ثلاثة، قال المفسرون: سمَّى العذاب ظلاً تهكُّماً واستهزاءً بالمعذبين، فالمؤمنون في ظلال وعيون، والمجرمون في سموم وحميم، وظلٍ من يحموم، واليحموم دخانٌ أسود قاتم، فكيف يصح أن يسمى ما هم فيه ظلاً إِلا على طريق التهكم والاستهزاء؟ ثم زاد تعالى في وصف جهنم وأهوالها فقال {إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ} أي إِن جهنم تقذف بشرر عظيم من النار، كلُّ شرارةٍ منه كأنها القصر العظيم، قال ابن كثير: يتطاير الشرر من لهبها كالحصون {كَأَنَّهُ جِمَالَةٌ صُفْرٌ} أي كأن شرر جهنم المتطاير منها الإِبل الصفر في لونها وسرعة حركتها، قال الرازي: شبَّه تعالى الشرر في العظم بالقصر، وفي اللون والكثرة وسرعة الحركة بالجمالات الصفر، وهذا التشبيه من روائع صور التشبيه، لأن الشرارة إِذا كانت مثل القصر الضخم، فيكف تكون حال تلك النار الملتهبة؟ أجارنا الله من نار جهنم بفضله ورحمته {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ} أي هلاك ودمار للمكذبين بآيات الله {هَذَا يَوْمُ لا يَنطِقُونَ} أي هذا اليوم الرهيب، الذي لا ينطق فيه أولئك المكذبون ولا يتكلمون كلاماً ينفعهم، فهم في ذلك اليوم خرس بكم {وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ} أي ولا يقبل لهم عذرٌ ولا حجة فيما أتوا به من القبائح والجرائم، بل لا يؤذن لهم في الاعتذار، لأنه لا تسمع منهم تلك الحجج والأعذار ولا تقبل كقوله تعالى {يوم لا ينفع الظالمين معذرتهم} {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ * هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْنَاكُمْ وَالأَوَّلِينَ} أي يقال لهم: هذا يوم الفصل بين الخلائق، الذي يفصل الله فيه بحكمه العادل بين السعداء والأشقياء، جمعناكم فيه مع من تقدمكم من الأمم لنحكم بينكم جميعاً {فَإِنْ كَانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِي} أي فإِن كان لكم حيلة في الخلاص من العذاب فاحتالوا، وانقذوا أنفسكم من بطش الله وانتقامه إِن قدرتم، وهذا تعجيزٌ لهم وتوبيخ {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ} أي هلاك يومئذٍ للمكذبين بيوم الدين.





أحوال السعداء المتقين وبعض أحوال المجرمين



{إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلالٍ وَعُيُونٍ(41)وَفَوَاكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ(42)كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ(43)إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنينَ(44)وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ(45)كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلاً إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ(46)وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ(47)وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ(48)وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ(49)فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ(50)}



سبب النزول:

نزول الآية (48):

{اركعوا ..}: أخرج ابن المنذر عن مجاهد في قوله: {وإذا قيل لهم اركعوا، لا يركعون} قال: نزلت في ثقيف، امتنعوا من الصلاة، فنزل ذلك فيهم. وقال مقاتل: قال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: "أسلموا" وأمرهم بالصلاة، فقالوا: لا ننحني فإنها مَسَبَّة علينا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا خير في دين ليس فيه ركوع ولا سجود".



وبعد أن ذكر أحوال الأشقياء المجرمين، أعقبه بذكر أحوال السعداء المتقين فقال {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلالٍ وَعُيُونٍ} أي الذين خافوا ربهم في الدنيا، واتقوا عذابه بامتثال أوامره واجتناب نواهيه، هم يوم القيامة في ظلال الأشجار الوارفة، وعيون الماء الجارية، يتنعمون في دار الخلد، والكرامة، على عكس أولئك المجرمين المكذبين، الذين هم في ظلٍ من يحموم - وهو دخان جهنم الأسود - الذي لا يقي حراً، ولا يدفع عطشاً، ولا يجد المستظل به مما يشتهيه لراحته سوى شرر النار الهائل {وَفَوَاكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ} أي وفواكه كثيرة متنوعة مما يستلذون ويستطيبون {كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} أي ويقال لهم على سبيل الأنس والتكريم: كلوا أكلاً لذيذاً واشربوا شرباً هنيئاً، بسبب ما قدمتم في الدنيا من صالح الأعمال {إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنينَ} أي إِنا مثل ذلك الجزاء العظيم نجزي من أحسن عمله، وأخلص نيته، واتقى ربه {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ} أي هلاك ودمار للمكذبين بيوم الدين {كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلاً إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ} أي يقال للكفار على سبيل التهديد والوعيد: كلوا من لذائذ الدنيا، واستمتعوا بشهواتها الفانية، كما هو شأن البهائم التي همُّها ملء بطونها ونيل شهواتها زماناً قليلاً الى منتهى آجالكم، فإِنكم مجرمون لا تستحقون الإِنعام والتكريم {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ} أي هلاك ودمار يوم القيامة للمكذبين بنعم الله {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ} أي وإِذا قيل لهؤلاء المشركين صلُّوا لله، واخشعوا في صلاتكم لعظمته وجلاله، لا يخشعون ولا يصلون، بل يظلون على استكبارهم يصرون، قال مقاتل: نزلت هذه الآية في ثقيف، امتنعوا عن الصلاة وقالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم: حطَّ عنا الصلاة فإِنا لا ننحني، إِنها مسبة علينا، فأبى وقال: لا خير في دينٍ لا صلاة فيه {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ} أي هلاكٌ ودمار يوم القيامة للمكذبين بأوامر الله ونواهيه {فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ}؟ أي فبأي كتابٍ وكلام بعد هذا القرآن المعجز الواضح يصدّقون إِن لم يؤمنوا بالقرآن؟ فإِذا كذبوا بالقرآن ولم يؤمنوا به، مع بلوغه الغاية في الإِعجاز، ونصوع الحجة، وروعة البيان، فبأي شيءٍ بعد ذلك يؤمنون؟ قال القرطبي: كرر قوله {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ} عشر مراتٍ للتخويف والوعيد، وقيل: إِنه ليس بتكرار، لأنه أراد بكلِّ قولٍ منه غير الذي أراده بالآخر، كأنه ذكر شيئاً فقال: ويلٌ لمن يكذب بهذا، ثم ذكر شيئاً آخر فقال: ويل لمن يكذب بهذا، وهكذا إِلى آخر السورة الكريمة.

yacine414
2011-04-02, 09:54
سورة النبأ



الإخبار عن البعث وتأكيد وقوعه

وصف يوم القيامة، وعذاب المجرمين

أحوال السعداء الأبرار

معاودة تأكيد وقوع يوم القيامة



بَين يَدَيْ السُّورَة



* سورة عمَّ مكية وتسمى سورة {النبأ} لأن فيها الخبر الهام عن القيامة والبعث والنشور، ومحور السورة يدور حول إِثبات "عقيدة البعث" التي طالما أنكرها المشركون.



* ابتدأت السورة الكريمة بالإِخبار عن موضوع القيامة، والبعث والجزاء، هذا الموضوع الذي شغل أذهان الكثيرين من كفار مكة، حتى صاروا فيه ما بين مصدّق ومكذب {عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ* عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ ..} الآيات.



* ثم أقامت الدلائل والبراهين على قدرة رب العالمين، فإِن الذي يقدر على خلق العجائب والبدائع، لا يعجزه إِعادة خلق الإِنسان بعد فنائه {أَلَمْ نَجْعَلْ الأَرْضَ مِهَادًا* وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا* وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا* وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا} الآيات.



* ثم أعقبت ذلك بذكر البعث، وحدَّدت وقته وميعاده، وهو يوم الفصل بين العباد، حيث يجمع الله الأولين والآخرين للحساب {إِن يوم الفصل كان ميقاتاً * يوم ينفخ في الصور فتأتون أفواجاً ..} الآيات.



* ثم تحدثت عن جهنم التي أعدها الله للكافرين، وما فيها من ألوان العذاب المهين {إِن جهنم كانت مرصاداً * للطاغين مآباً * لابثين فيها أحقاباً} الآيات.



* وبعد الحديث عن الكافرين، تحدثت عن المتقين، وما أعدَّ الله تعالى لهم من ضروب النعيم، على طريقة القرآن في الجمع بين الترهيب والترغيب {إِنَّ للمتقين مفازاً * حدائق وأعناباً * وكواعب أتراباً * وكأساً دِهاقاً} الآيات.



* وختمت السورة الكريمة بالحديث عن هول يوم القيامة، حيث يتمنى الكافر أن يكون تراباً فلا يحشر ولا يحاسب {إِنا أنذرناكم عذاباً قريباً يوم ينظر المرء ما قدمت يداه ويقول الكافر يا ليتني كنت تراباً}.



الإخبار عن البعث وتأكيد وقوعه

{عَمَّ يَتَسَاءلُونَ(1)عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ(2)الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ(3)كَلا سَيَعْلَمُونَ(4)ثُمَّ كَلا سَيَعْلَمُونَ(5)أَلَمْ نَجْعَلِ الأَرْضَ مِهَادًا(6)وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا(7)وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا(8)وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا(9)وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا(10)وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا(11)وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا(12)وَجَعَلْنَا سِرَاجًا وَهَّاجًا(13)وَأَنزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجًا(14)لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَبَاتًا(15)وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا(16)}



سبب النزول:

نزول الآية (1):

{عَمَّ يَتَسَاءلُونَ}: أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن الحسن البصري قال: لما بعث النبي صلى الله عليه وسلم جعلوا يتساءلون بينهم، فنزلت: {عَمَّ يَتَسَاءلُونَ*عَنْ النَّبَإِ الْعَظِيمِ}.





{عَمَّ يَتَسَاءلُونَ}؟ أي عن أيّ شيءٍ يسأل هؤلاء الجاحدون بعضهم بعضاً؟ وأصل {عَمَّ} عنْ ما، أدغمت الميم في النون وحذفت ألف {ما} الاستفهامية، وليس المراد هنا مجرد الاستفهام وإِنما المراد تفخيم الأمر وتعظيمه، وقد كان المشركون يتساءلون عن البعث فيما بينهم، ويخوضون فيه إِنكاراً واستهزاءً فجاء اللفظ بصيغة الاستفهام للتفخيم والتهويل وتعجيب السامعين من أمر المشركين، ثم ذكر تعالى ذلك الأمر الخطير فقال {عَنْ النَّبَإِ الْعَظِيمِ} أي يتساءلون عن الخبر العظيم الهام وهو أمر البعث {الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ} أي الذي اختلفوا فيه ما بين شاكٍ في وقوعه، ومكذب منكرٍ لحصوله {كَلا سَيَعْلَمُونَ} ردعٌ وزجر أي ليرتدعْ أولئك المكذبون عن التساؤل عن البعث، فسيعلمون حقيقة الحال، حين يرون البعث أمراً واقعاً، ويرون عاقبة استهزائهم {ثُمَّ كَلا سَيَعْلَمُونَ} تأكيد للوعيد مع التهويل أي سيعلمون ما يحل بهم من العذاب والنكال .. ثم أشار تعالى إِلى الأدلة الدالة على قدرته تعالى، ليقيم الحجة على الكفار فيما أنكروه من أمر البعث، وكأنه يقول: إِن الإِله الذي قدر على إِيجاد هذه المخلوقات العظام، قادرٌ على إِحياء الناس بعد موتهم فقال {أَلَمْ نَجْعَلِ الأَرْضَ مِهَادًا} أي ألم نجعل هذه الأرض التي تسكنونها ممهدة للاستقرار عليها، والتقلب في أنحائها؟ جعلناها لكم كالفراش والبساط لتستقروا على ظهرها، وتستفيدوا من سهولها الواسعة بأنواع المرزوعات؟ {وَالْجبَالَ أَوْتَادًا} أي وجعلنا الجبال كالأوتاد للأرض تثبتها لئلا تميد بكم كما يثبت البيت بالأوتاد، قال ابن جزي: شبَّهها بالأوتاد لأنها تمسكُ الأرض أن تميد {وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا} أي وجعلناكم أيها الناس أصنافاً ذكوراً وإِناثاً، لينتظم أمر النكاح والتناسل، ولا تنقطع الحياة عن ظهر هذا الكوكب الأرضي {وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا} أي وجعلنا النوم راحة لأبدانكم، قاطعاً لأشغالكم، تتخلصون به من مشاق العمل بالنهار {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا} أي جعلنا الليل كاللباس يغشاكم ويستركم بظلامه، كما يستركم اللباس، وتغطيكم ظلمته كما يغطي الثوبُ لابَسه، قال في التسهيل: شبهه بالثياب التي تُلبس لأنه سترٌ عن العيون {وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا} أي وجعلنا النهار سبباً لتحصيل المعاش، تتصرفون فيه لقضاء حوائجكم، قال ابن كثير: جعلناه مشرقاً مضيئاً ليتمكن الناس من التصرف فيه، بالذهاب المجيء للمعاش والتكسب والتجارات وغير ذلك {وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا} أي وبنينا فوقكم أيها الناس سبع سمواتٍ محكمة الخلق بديعة الصنع، متينةً في إِحكامها وإِتقانها، لا تتأثر بمرور العصور والأزمان، خلقناها بقدرتنا لتكون كالسقف للأرض كقوله تعالى {وجلعنا السماءَ سقفاً محفوظاً} وقوله {والسماءَ بنيناها بأيدٍ وإِنا لموسعون} {وَجَعَلْنَا سِرَاجًا وَهَّاجًا} أي وأنشأنا لكم شمساً منيرة ساطعة، يتوهج ضوءها ويتوقد لأهل الأرض كلهم، دائمة الحرارة والتوقد، قال المفسرون: الوهَّاج المتوقد الشديد الإِضاءة، الذي يضطرم ويلتهب من شدة لهبه، وقال ابن عباس: المنير المتلألئ {وَأَنزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجًا} أي وأنزلنا من السحب التي حان وقتُ إِمطارها ماءً دافقاً منهمراً بشدةٍ وقوة، قال ابن جزي: المعصرات هي السحب، مأخوذةٌ من العصر لأن السحاب ينعصر فينزل منه الماء، شبهت السحابة التي حان وقت إِمطارها بالجارية التي قد دنا حيضها {لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَبَاتًا} أي لنخرج بهذا الماء أنواع الحبوب والزروع، التي تنبت في الأرض غذاءً للإِنسان والحيوان {وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا} أي وحدائق وبساتين كثيرة الأشجار والأغصان، ملتفةً بعضها على بعض لكثرة أغصانها وتقارب أشجارها .. ذكر تعالى هذه الأدلة التسع على قدرته تعالى، كبرهانٍ واضح على إِمكان البعث والنشور، فإِن من قدر على هذه الأشياء قادرٌ على البعث والإِحياء لهذا قال بعده.



وصف يوم القيامة، وعذاب المجرمين



{إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتًا(17)يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجًا(18) وَفُتِحَتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ أَبْوَابًا(19)وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا(20)إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا(21)لِلْطَّاغِينَ مَآبًا(22)لابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا(23)لا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلا شَرَابًا(24)إِلا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا(25)جَزَاءً وِفَاقًا(26)إِنَّهُمْ كَانُوا لا يَرْجُونَ حِسَابًا(27)وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كِذَّابًا(28)وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَابًا(29) فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلا عَذَابًا(30)}





{إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتًا} أي إن يوم الحساب والجزاء، ويوم الفصل بين الخلائق، له وقت محدودٌ معلوم في علمه تعالى وقضائه، لا يتقدم ولا يتأخر {ذلك يومٌ مجموع له الناسُ وذلك يوم مشهود * وما نؤخره إِلا لأجل معدود} قال القرطبي: سمي يوم الفصل لأن الله تعالى يفصل فيه بين خلقه، وقد جعله وقتاً وميعاداً للأولين والآخرين {يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجًا} أي يكون ذلك يوم ينفخ في الصور نفخة القيامة من القبور، فتحضرون جماعات جماعات، وزمراً زمراً للحساب والجزاء، ثم ذكر تعالى أوصاف ذلك اليوم الرهيب فقال {وَفُتِحَتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ أَبْوَابًا} أي تشققت السماء من كل جانب، حتى كان فيها صدوعٌ وفتوحٌ كالأبواب في الجدران، من هول ذلك اليوم كقوله تعالى {إِذا السماء انشقت} وعبَّر بالماضي {وَفُتِحَتْ} لتحقق الوقوع {وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا} أي ونسفت الجبال وقلعت من أماكنها، حتى أصبح يخيَّل إِلى الناظر أنها شيء وليست بشيء، كالسراب يظنه الرائي ماءً وليس بماء، قال الطبري: صارت الجبال بعد نسفها هباءً منبثاً لعين الناظر، كالسراب الذي يظنه من يراه ماءً وهو في الحقيقة هباء {إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا} أي إِن جهنم تنتظر وتترقب نزلاءها الكفار، كما يترصد الإِنسان ويترقب عدوه ليأخذه على حين غرة، قال المفسرون: المرصاد المكان الذي يرصد فيه الراصد العدو، وجهنم تترصَّد أعداء الله لتعذبهم بسعيرها، وهي مترقبة ومتطلعة لمن يمرُّ عليها من الكفار الفجار لتلتقطهم إِليها {لِلْطَّاغِينَ مَآبًا} أي هي مرجع ومأوى ومنزل للطغاة المجرمين {لابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا} أي ماكثين في النار دهوراً متتابعة لا نهاية لها، قال القرطبي: أي ماكثين في النار ما دامت الأحقاب - أي الدهور - وهي لا تنقطع، كلما مضى حقب جاء حقب، لأن أحقاب الآخرة لا نهاية لها، قال الربيع وقتادة: هذه الأحقاب لا انقضاء لها ولا انقطاع {لا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلا شَرَابًا} أي لا يذوقون في جهنم برودةً تخفف عنهم حرَّ النار، ولا شراباً يسكِّنُ عطشهم فيها {إِلا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا} أي إِلاّ ماءً حاراً بالغاً الغاية في الحرارة، وغساقاً أي صديداً يسيل من جلود أهل النار{جَزَاءً وِفَاقًا} أي عاقبهم الله بذلك جزاءً موافقاً لأعمالهم السيئة {إِنَّهُمْ كَانُوا لا يَرْجُونَ حِسَابًا} أي لم يكونوا يتوقعون الحساب والجزاء، ولا يؤمنون بلقاء الله، فجازاهم الله بذلك الجزاء العادل {وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كِذَّابًا} أي وكانوا يكذبون بآيات الله الدالة على البعث وبالآيات القرآنية تكذيباً شديداً {وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَابًا} أي وكل ما فعلوه من جرائم وآثام ضبطناه في كتاب لنجازيهم عليه {فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلا عَذَابًا} أي فذوقوا يا معشر الكفار فلن نزيدكم على استغاثتكم إِلاَّ عذاباً فوق عذابكم، قال المفسرون: ليس في القرآن على أهل النار آية هي أشد من هذه الآية، كلما استغاثوا بنوعٍ من العذاب أغيثوا بأشد منه.



أحوال السعداء الأبرار



{إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا(31)حَدَائِقَ وَأَعْنَابًا(32)وَكَوَاعِبَ أَتْرَابًا(33)وَكَأْسًا دِهَاقًا(34)لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلا كِذَّابًا(35)جَزَاءً مِنْ رَبِّكَ عَطَاءً حِسَابًا(36)}



ولما ذكر تعالى أحوال الأشقياء أهل النار، ذكر بعدها أحوال السعداء الأبرار فقال: {إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا} أي إِن للمؤمنين الأبرار الذين أطاعوا ربهم في الدنيا، موضع ظفر وفوز بجنات النعيم، وخلاص من عذاب الجحيم، ثم فسَّر هذا الفوز فقال {حَدَائِقَ وَأَعْنَابًا} أي بساتين ناضرة فيها من جميع الأشجار والأزهار، وفيها كروم الأعناب الطيبة المتنوعة من كل ما تشتهيه النفوس {وَكَوَاعِبَ أَتْرَابًا} أي ونساءً عذارى نواهد قد برزت أَثْداؤهنَّ، وهنَّ في سنٍ واحدة، قال ابن جزي: الكواعب جمع كاعب وهي الجارية التي خرج ثديها {وَكَأْسًا دِهَاقًا} أي وكأساً من الخمر ممتلئةً صافية، قال القرطبي: المرادُ بالكأس الخمرُ كأنه قال: وخمراً ذات دِهاقٍ أي مملوءة قد عُصرت وصُفّيت {لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلا كِذَّابًا} أي لا يسمعون في الجنة كلاماً فارغاً لا فائدة فيه، ولا كذباً من القول لأن الجنة دار السلام، وكل ما فيها سالمٌ من الباطل والنقص {جَزَاءً مِنْ رَبِّكَ عَطَاءً حِسَابًا} أي جازاهم الله بذلك الثواب العظيم، تفضلاً منه وإِحساناً كافياً على حسب أعمالهم.



معاودة تأكيد وقوع يوم القيامة



{رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الرَّحْمَانِ لا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَابًا(37)يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا لا يَتَكَلَّمُونَ إِلا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَانُ وَقَالَ صَوَابًا(38)ذَلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآبًا(39)إِنَّا أَنذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا يَوْمَ يَنظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَالَيْتَنِي كُنتُ تُرَابًا(40)}





{رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الرَّحْمَانِ} أي هذا الجزاء صادرٌ من الرحمن الذي شملت رحمته كل شيء {لا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَابًا} أي لا يقدر أحدٌ أن يخاطبه في دفع بلاء، أو رفع عذاب في ذلك اليوم، هيبةً وجلالاً {يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا} أي في ذلك اليوم الرهيب يقف جبريل والملائكة مصطفين خاشعين {لا يَتَكَلَّمُونَ إِلا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَانُ وَقَالَ صَوَابًا} أي لا يتكلم أحد منهم إِلاّ من أذن الله له بالكلام والشفاعة ونطق بالصواب، قال الصاوي: وإِذا كان الملائكة الذين هم أفضل الخلائق وأقربهم من الله لا يقدرون أن يشفعوا إِلا بإِذنه، فكيف يملك غيرهم؟ {ذَلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ} أي ذلك هو اليوم الكائن الواقع لا محالة {فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآبًا} أي فمن شاء أن يسلك إلى ربه مرجعاً كريماً بالإِيمان والعمل الصالح فلْيفعلْ، وهو حثٌ وترغيب {إِنَّا أَنذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا} الخطاب لكفار قريش المنكرين للبعث أي إنا حذرناكم وخوفناكم عذاباً قريباً وقوعه هو عذاب الآخرة، سمَّاه قريباً لأن كل ما هو آتٍ قريب {يَوْمَ يَنظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ} أي يوم يرى كل إِنسان ما قدَّم من خير أو شر مثبتاً في صحيفته كقوله تعالى {ووجدوا ما عملوا حاضراً} {وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَالَيْتَنِي كُنتُ تُرَابًا} أي ويتمنى الكافر له أنه لم يخلق ولم يُكلَّف ويقول: يا ليتني كنت تراباً حتى لا أحاسب ولا أعاقب، قال المفسرون: وذلك حين يحشر الله الحيوانات يوم القيامة فيقتصُّ للجمّاء من القرناء، وبعد ذلك يصيّرها تراباً، فيتمنى الكافر أن لو كان كذلك حتى لا يعذب.

yacine414
2011-04-02, 10:00
سورة عَبَسَ



معاتبة الله لنبيه صلى الله عليه وسلم

القرآن موعظة وذكرى

الرزق مقسوم لبني البشر

أهوال يوم القيامة





بَين يَدَيْ السُّورَة



* سورة عَبَسَ من السور المكية، وهي تتناول مواضيع تتعلق بالعقيدة وأمر الرسالة، كما أنها تتحدث عن دلائل القدرة، والوحدانية في خلق الإِنسان، والنبات، والطعام، وفيها الحديث عن القيامة وأهوالها، وشدة ذلك اليوم العصيب.



* ابتدأت السورة الكريمة بذكر قصة ذلك الصحابي الأعمى "عبد الله بن أُم مكتوم" رضي الله عنه الذي جاء إِلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يطلب منه أن يعلمه مما علمه الله، ورسولُ الله صلى الله عليه وسلم مشغول مع جماعة من كبراء قريش يدعوهم إِلى الإِسلام، فعبس صلى الله عليه وسلم وجهه وأعرض عنه، فنزل القرآن بالعتاب {عَبَسَ وَتَوَلَّى* أَنْ جَاءهُ الأَعْمَى* وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى* أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى* أَمَّا مَنْ اسْتَغْنَى* فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى} الآيات.



* ثم تحدثت عن جحود الإِنسان، وكفره الفاحش بربه مع كثرة نعم الله تعالى عليه {قُتِلَ الإِنْسَان مَا أَكْفَرَهُ * مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ* مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ * ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ..} الآيات.



* ثم تناولت دلائل القدرة في هذا الكون، حيث يسَّر الله للإِنسان سُبُل العيش فوق سطح هذه المعمورة {فَلْيَنْظُرْ الإِنسَانُ إِلَى طَعَامِهِ* أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا* ثُمَّ شَقَقْنَا الأَرْضَ شَقًّا* فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا* وَعِنَبًا وَقَضْبًا* وَزَيْتُونًا وَنَخْلاً} الآيات.



* وختمت السورة الكريمة ببيان أهوال القيامة، وفرار الإِنسان من أحبابه من شدة الهول والفزع، وبينت حال المؤمنين وحال الكافرين في ذلك اليوم العصيب {فَإِذَا جَاءتْ الصَّاخَّةُ* يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ* وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ* وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ* لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ* وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ* ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ* وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ* تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ* أُوْلَئِكَ هُمْ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ}.







معاتبة الله لنبيه صلى الله عليه وسلم:



{عَبَسَ وَتَوَلَّى(1)أَنْ جَاءهُ الأَعْمَى(2)وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى(3)أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى(4)أَمَّا مَنْ اسْتَغْنَى(5)فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى(6)وَمَا عَلَيْكَ أَلا يَزَّكَّى(7)وَأَمَّا مَنْ جَاءكَ يَسْعَى(8)وَهُوَ يَخْشَى(9)فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى(10) }.



سبب النزول:

نزول الآية (1):

{عَبَسَ}: أخرج الترمذي والحاكم عن عائشة رضي الله عنها قالت: أنزل {عَبَسَ وَتَوَلَّى} في ابن أم مكتوم الأعمى، أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجعل يقول: يا رسول الله، أرشدني، وعند رسول الله صلى الله عليه وسلم رجل من عظماء المشركين، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرض عنه، ويقبل على الآخر، فيقول له: أترى بما أقول بأساً ؟ فيقول: لا، فنزلت: {عَبَسَ وَتَوَلَّى* أَنْ جَاءهُ الأَعْمَى}. وأخرج أبو يعلى مثله عن أنس.



{عَبَسَ وَتَوَلَّى* أَنْ جَاءهُ الأَعْمَى} أي كلح وجهه وقطَّبه وأعرض عنه كارهاً، لأنْ جاءه الأعمى يسأل عن أمور دينه قال الصاوي: إِنما أتى بضمائر الغيبة {عَبَسَ وَتَوَلَّى} تلطفاً به صلى الله عليه وسلم وإِجلالاً له، لما في المشافهة بتاء الخطاب ما لا يخفى من الشدة والصعوبة واسم الأعمى "عبد الله بن أم مكتوم" وكان بعد نزول ءايات العتاب إِذا جاءه يقوله له: مرحباً بمن عاتبني فيه ربي، ويبسط له رداءه {وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى} أي وما يُعلمك ويخبرك يا محمد لعلَّ هذا الأعمى الذي عبستَ في وجهه، يتطهر من ذنوبه بما يتلقاه عنك من العلم والمعرفة !! {أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى} أي أو يتعظ بما يسمع فتنفعه موعظتك !! {أَمَّا مَنْ اسْتَغْنَى} أي أما من استغنى عن اللهِ وعن الإِيمان، بما له من الثروة والمال {فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى} أي فأنت تتعرَّض له وتصغي لكلامه، وتهتم بتبليغه دعوتك {وَمَا عَلَيْكَ أَلا يَزَّكَّى} أي ولا حرج عليك إنْ لم يتطهر من دنس الكفر والعصيان، ولست بمطالب بهدايته، إِنما عليك البلاغ قال الألوسي: وفيه مزيد تنفيرٍ له صلى الله عليه وسلم عن مصاحبتهم، فإِن الإِقبال على المدبر مخلٌّ بالمروءة كما قال:

والله لو كرهتْ كفـي مُصاحبتي يوماً لقلتُ لها عن صُحبْتي بيْني

{وَأَمَّا مَنْ جَاءكَ يَسْعَى} أي وأمَّا من جاءك يسرع ويمشي في طلب العلم للهِ ويحرص على طلب الخير {وَهُوَ يَخْشَى} أي وهو يخاف الله تعالى ويتقي محارمه {فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى} أي فأنت يا محمد تتشاغل عنه، وتتلهى بالانصراف عنه إِلى رؤساء الكفر والضلال ! !





القرآن موعظة وذكرى:

{كَلا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ(11)فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ(12)فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ(13) مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَة ٍ(14)بِأَيْدِي سَفَرَةٍ(15)كِرَامٍ بَرَرَةٍ(16)قُتِلَ الإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ(17)مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ(18)مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ(19)ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ(20)ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ(21)ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ(22)كَلا لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ(23)}.



سبب النزول:

نزول الآية (17):

{قُتِلَ الإِنْسَانُ..} : أخرج ابن المنذر عن عكرمة في قوله: {قُتِلَ الإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ} قال: نزلت في عُتْبة بن أبي لَهَب حين قال: كفرت برب النجم.



{كَلا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ} أي لا تفعل بعد اليوم مثل ذلك، فهذه الآيات موعظة وتبصرة للخلق، يجب أن يتعظ بها ويعمل بموجبها العقلاء {فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ} أي فمن شاء من عباد الله اتعظ بالقرآن، واستفاد من إِرشاداته وتوجيهاته، قال المفسرون: كان صلى الله عليه وسلم بعد هذا العتاب، لا يعبس في وجه فقير قط، ولا يتصدى لغني أبداً، وكان الفقراء في مجلسه أمراء، وكان إِذا دخل عليه "ابن أم مكتوم" يبسط له رداءه ويقول: مرحباً بمن عاتبني فيه ربي .. ثم بعد هذا البيان أخبر عن جلالة قدر القرآن فقال {فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ} أي هو في صحفٍ مكرمة عند الله {مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ} أي عالية القدر والمكانة، منزهة عن أيدي الشياطين، وعن كل دنسٍ ونقص {بِأَيْدِي سَفَرَةٍ} أي بأيدي ملائكة جعلهم الله سفراء بينه وبين رسله {كِرَامٍ بَرَرَةٍ} أي مكرمين معظمين عند الله، أتقياء صلحاء {لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} ثم ذكر تعالى قبح جريمة الكافر، وإِفراطه في الكفر والعصيان مع كثرة إِحسان الله إِليه فقال {قُتِلَ الإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ} أي لعن الكافر وطرد من رحمة الله، ما أشدَّ كفره بالله مع كثرة إِحسانه إِليه وأياديه عنده ؟

قال الألوسي: والآية دعاءُ عليه بأشنع الدعوات وأفظعها، وتعجيبٌ من إِفراطه في الكفر والعصيان، وهذا في غاية الإِيجاز والبيان {مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ} أي من أي شيء خلق الله هذا الكافر حتى يتكبر على ربه ؟ ثم وضَّح ذلك فقال {مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ} أي من ماءٍ مهين حقير بدأ خلقه، فقدَّره في بطن أمه أطواراً من نطفة ثم من علقة إِلى أن تمَّ خلقه قال ابن كثير: قدَّر رزقه، وأجله، وعمله، وشقيّ أو سعيد {ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ} أي ثم سهَّل له طريق الخروج من بطن أمه قال الحسن البصري : كيف يتكبر من خرج من سبيل البول مرتين ؟ يعني الذكر والفرج {ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ} أي ثم أماته وجعل له قبراً يُوارى فيه إِكراماً له، ولم يجعله ملقى للسباع والوحوش والطيور قال الخازن: وهذه تكرمة لبني آدم على سائر الحيوانات {ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ} أي ثم حين يشاء الله إِحياءه، يحييه بعد موته للبعث والحساب والجزاء، وإِنما قال {إِذَا شَاءَ} لأن وقت البعث غير معلوم لأحد، فهو إِلى مشيئة الله تعالى، متى شاء أن يحيي الخلق أحياهم {كَلا لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ} أي ليرتدع وينزجر هذا الكافر عن تكبره وتجبره، فإِنه لم يؤد ما فرض عليه، ولم يفعل ما كلفه به ربه من الإِيمان والطاعة.



الرزق مقسوم لبني البشر:

{فَلْيَنْظُرِ الإِنسَانُ إِلَى طَعَامِهِ(24)أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا(25)ثُمَّ شَقَقْنَا الأَرْضَ شَقًّا(26)فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا(27)وَعِنَبًا وَقَضْبًا(28)وَزَيْتُونًا وَنَخْلا(29)وَحَدَائِقَ غُلْبًا(30)وَفَاكِهَةً وَأَبًّا(31)مَتَاعًا لَكُمْ وَلأَنْعَامِكُمْ(32)}.



ولما ذكر خلق الإِنسان، ذكر بعده رزقه، ليعتبر بما أغدق الله عليه من أنواع النعم، فيشكر ربه ويطيعه فقال {فَلْيَنْظُرْ الإِنسَانُ إِلَى طَعَامِهِ} أي فلينظر هذا الإِنسان الجاحد نظر تفكر واعتبار، إِلى أمر حياته، كيف خلقه بقدرته، ويسره برحمته، وكيف هيأ له أسباب المعاش، وخلق له الطعام الذي به قوام حياته ؟! ثم فصَّل ذلك فقال {أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا} أي أنا بقدرتنا أنزلنا الماء من السحاب على الأرض إِنزالاً عجيباً {ثُمَّ شَقَقْنَا الأَرْضَ شَقًّا} أي شققنا الأرض بخروج النبات منها شقاً بديعاً {فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا* وَعِنَبًا وَقَضْبًا} أي فأخرجنا بذلك الماء أنواع الحبوب والنباتات: حباً يقتات الناس به ويدخرونه، وعنباً شهياً لذيذاً، وسائر البقول مما يؤكل رطباً {وَزَيْتُونًا وَنَخْلا} أي وأخرجنا كذلك أشجار الزيتون والنخيل، يخرج منها الزيت والرطب والتمر {وَحَدَائِقَ غُلْبًا} أي وبساتين كثيرة الأشجار، ملتفة الأغصان {وَفَاكِهَةً وَأَبًّا* مَتَاعًا لَكُمْ وَلأَنْعَامِكُمْ} أي وأنواع الفواكه والثمار، كما أخرجنا ذلك وأنبتناه ليكون منفعة ومعاشاً لكم أيها الناس ولأنعامكم قالابن كثير: وفي هذه الآيات امتنانٌ عل العباد وفيها استدلال بإِحياء النبات من الأرض الهامدة، على إِحياء الأجسام بعدما كانت عظاماً باليةً وأوصالاً متفرقة.



أهوال يوم القيامة:

{فَإِذَا جَاءتِ الصَّاخَّةُ(33)يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ(34)وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ(35)وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ(36)لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ(37)وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ(38)ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ(39)وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ(40)تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ(41)أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ(42)}.



ثم ذكر تعالى بعد ذلك أهوال القيامة فقال {فَإِذَا جَاءتِ الصَّاخَّةُ} أي فإِذا جاءت صيحة القيامة التي تصخ الآذان حتى تكاد تصمها {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ* وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ* وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ} أي في ذلك اليوم الرهيب يهرب الإِنسان من أحبابه، من أخيه، وأمه، وأبيه، وزوجته، وأولاده لاشتغاله بنفسه قال ابن جزي: ذكر تعالى فرار الإِنسان من أحبابه، ورتبهم على مراتبهم في الحنو والشفقة، فبدأ بالأقل وختم بالأكثر، لأن الإِنسان أشدُّ شفقةً على بنيه من كل من تقدم ذكره {لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} أي لكل إِنسان منهم في ذلك اليوم العصيب، شأنٌ يشغله عن شأن غيره، فإِنه لا يفكر في سوى نفسه، حتى إِن الأنبياء صلوات الله عليهم ليقول الواحد منهم يومئذٍ "نفسي نفسي" .. ولما بيَّن تعالى حال القيامة وأهوالها، بيَّن بعدها حال الناس وانقسامهم في ذلك اليوم إِلى سعداء وأشقياء، فقال في وصف السعداء: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ} أي وجوه في ذلك اليوم مضيئة مشرقة من البهجة والسرور {ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ} أي فرحة مسرورة بما رأته من كرامة الله ورضوانه، مستبشرة بذلك النعيم الدائم {وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ} أي ووجوه في ذلك اليوم عليها غبارٌ ودخان {تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ} أي تغشاها وتعلوها ظلمةٌ وسواد {أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ} أي أولئك الموصوفون بسواد الوجوه، هم الجامعون بين الكفر والفجور، قال الصاوي: جمع الله تعالى إلى سواد وجوههم الغَبرة كما جمعوا الكفر إِلى الفجور.

yacine414
2011-04-02, 10:01
سورة التكوير



القيامة وما يصحبها من انقلاب كوني

القسم على صدق القرآن وصحة رسالة محمد صلى الله عليه وسلم



بَين يَدَيْ السُّورَة



* سورة التكوير من السور المكية، وهي تعالج حقيقتين هامتين هما: "حقيقة القيامة" وحقيقة "الوحي والرسالة" وكلاهما من لوازم الإِيمان.



* ابتدأت السورة الكريمة ببيان القيامة وما يصاحبها من انقلاب كوني هائل، يشمل الشمس، والنجوم، والجبال، والبحار، والأرض، والسماء، والأنعام، والوحوش، كما يشمل البشر، ويهز الكون هزاً عنيفاً طويلاً، ينتثر فيه كل الوجود، ولا يبقى شيء إِلا وقد تبدَّل وتغيَّر من هول ما يحدث في ذلك اليوم الرهيب {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ* وَإِذَا النُّجُومُ انكَدَرَتْ* وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ* وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ* وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ* وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ} الآيات.



* ثم تناول حقيقة الوحي، وصفة النبي الذي يتلقاه، ثم شأن القوم المخاطبين بهذا الوحي الذي نزل لينقلهم من ظلمات الشرك والضلال، إِلى نور العلم والإِيمان {فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ* الْجَوَارِ الْكُنَّسِ* وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ* وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ* إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} الآيات.



* وختمت السورة الكريمة ببيان بطلان مزاعم المشركين حول القرآن العظيم، وذكرت أنه موعظةٌ من الله تعالى لعباده {فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ* إِنْ هُوَ إِلا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ* لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ* وَمَا تَشَاءُونَ إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ}.



القيامة وما يصحبها من انقلاب كوني



{إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ(1)وَإِذَا النُّجُومُ انكَدَرَتْ(2)وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ(3)وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ(4)وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ(5)وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ(6)وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ(7)وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ(8)بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ(9)وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ(10)وَإِذَا السَّمَاءُ كُشِطَتْ(11)وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ(12)وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ(13)عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ(14)}.



{إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ} هذه الآيات بيانٌ لأهوال القيامة وما يكون فيها من الشدائد والكوارث، وما يعتري الكون والوجود من مظاهر التغيير والتخريب والمعنى: إِذا الشمس لُفَّت ومُحِيَ ضوءها {وَإِذَا النُّجُومُ انكَدَرَتْ} أي وإِذا النجوم تساقطت من مواضعها وتناثرت {وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ} أي وإِذا الجبال حركت من أماكنها، وسُيّرت في الهواء حتى صارت كالهباء كقوله تعالى {وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الأَرْضَ بَارِزَةً} {وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ} أي وإِذا النوق الحوامل تركت هملاً بلا راعٍ ولا طالب، وخصَّ النوق بالذكر لأنها كرائم أموال العرب {وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ} أي وإِذا الوحوش جُمعت من أوكارها وأجحارها ذاهلةً من شدة الفزع {وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ} أي وإِذا البحار تأججت ناراً، وصارت نيراً تضطرم وتلتهب {وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ} أي وإِذا النفوس قُرنت بأشباهها، فقرن الفاجر مع الفاجر، والصالح مع الصالح قال الطبري: يُقرن بين الرجل الصالح مع الرجل الصالح في الجنة، وبين الرجل السوء مع الرجل السُّوء في النار {وَإِذَا الْمَوْءودَةُ سُئِلَتْ} أي وإِذا البنت التي دفنت وهي حية سئلت توبيخاً لقاتلها: ما هو ذنبها حتى قتلت ؟ قال ابن جزي: الموءودة هي البنت التي كان بعض العرب يدفنها حيَّةً من كراهته لها أو غيرته عليها، فتسأل يوم القيامة {بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ} ؟ على وجه التوبيخ لقاتلها {وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ} أي وإِذا صحف الأعمال نشرت وبسطت عند الحساب {وَإِذَا السَّمَاءُ كُشِطَتْ} أي وإِذا السماء أزيلت ونزعت من مكانها كما ينزع الجلد عن الشاة {وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ} أي وإِذا نار جهنم أوقدت لأعداء الله تعالى {وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ} أي وإِذا الجنة أدنيت وقربت من المتقين {عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ} أي علمت كل نفسٍ ما أحضرتْ من خيرٍ أو شر، وهذه الجملة {عَلِمتْ نَفْسٌ} هي جواب ما تقدم من أول السورة {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ} إِلى هنا، والمعنى إِذا حدثت تلك الأمور العجيبة الغريبة، علمت حينئذٍ كل نفسٍ ما قدمته من صالح أو طالح.





القسم على صدق القرآن وصحة رسالة محمد صلى الله عليه وسلم



{فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ(15)الْجَوَارِ الْكُنَّسِ(16)وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ(17)وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ(18)إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ(19)ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ(20)مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ(21)وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ(22)وَلَقَدْ رَآهُ بِالأُفُقِ الْمُبِينِ(23)وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ(24)وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ(25)فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ(26)إِنْ هُوَ إِلا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ(27)لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ(28) وَمَا تَشَاءُونَ إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ(29)}.



سبب النزول :

نزول الآية (29) :

{وَمَا تَشَاءُونَ..}: أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن سليمان بن موسى قال: لما أنزلت {لمن شاء منكم أن يستقيم} قال أبو جهل: ذاك إلينا، إن شئنا استقمنا، وإن شئنا لم نستقم، فأنزل الله : {وَمَا تَشَاءُونَ إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ}.



ثم أقسم تعالى على صدق القرآن، وصحة رسالة محمد عليه السلام فقال {فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ} أي فأقسم قسماً مؤكداً بالنجوم المضيئة التي تختفي بالنهار، وتظهر بالليل {الْجَوَارِ الْكُنَّسِ} أي التي تجري وتسير مع الشمس والقمر ثم تستتر وقت غروبها، كما تستتر الظباء في كنائسها - مغاراتها - قال القرطبي: النجوم تخنس بالنهار وتظهر بالليل، وتكنس وقت غروبها، كما تستتر الظباء في كناسها - مغاراتها - قال القرطبي: النجوم تخنس بالنهار وتظهر بالليل، وتكنس وقت غروبها أي تستتر، كما تكنس الظِباء في المغار وهو الكناس {وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ} أي وأقسم بالليل إِذا أقبل بظلامه حتى غطَّى الكون {وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ} أي وبالصبح إِذا أضاء وتبلَّج، واتَّسع ضياؤه حتى صار نهاراً واضحاً {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} هذا هو المقسم عليه إِن هذا القرآن الكريم، لكلامُ الله المنزَّل بواسطة ملك عزيز على الله هو جبريل كقوله تعالى {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ* عَلَى قَلْبِكَ} قال المفسرون: أراد بالرسول "جبريل" قوله بعده {ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ} أي شديد القوة، صاحب مكانة رفيعة، ومنزلة سامية عند الله جل وعلا {مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ} أي مطاعٍ هناك في الملأ الأعلى، تطيعه الملائكة الأبرار، مؤتمن على الوحي الذي ينزل به على الأنبياء {وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ} قال الخازن: أقسم تعالى على أن القرآن نزل به جبريل الأمين، وأن محمداً صلى الله عليه وسلم ليس بمجنون كما يزعم أهل مكة، فنفى تعالى عنه الجنون، وكون القرآن من عند نفسه {وَلَقَدْ رَآهُ بِالأُفُقِ الْمُبِينِ} أي وأقسمُ لقد رأى محمد صلى الله عليه وسلم جبريل في صورته الملكية التي خلقه الله عليها بجهة الأفق الأعلى البيّن من ناحية المشرق حيث تطلع الشمس قال أبو حيّان: وهذه الرؤية بعد أمر غار حراء، حين رأى جبريل على كرسي بين السماء والأرض، في صورته له ستمائة جناح قد سدَّ ما بين المشرق والمغرب {وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ} أي وما محمد على الوحي ببخيل يقصِّر في تبليغه وتعليمه، بل يبلغ رسالة ربه بكل أمانةٍ وصدق {وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ} أي وما هذا القرآن بقول شيطان ملعون كما يقول المشركون {فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ} أيْ فأيَّ طريقٍ تسلكون في تكذيبكم للقرآن، واتهامكم له بالسحر والكهانة والشعر، مع وضوح آياته وسطوع براهينه ؟ وهذا كما تقول لمن ترك الطريق المستقيم: هذا الطريق الواضح فأين تذهب ؟ {إِنْ هُوَ إِلا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ} أي ما هذا القرآن إِلا موعظة وتذكرة للخلق أجمعين {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ} أي لمن شاء منكم أن يتبع الحق، ويستقيم على شريعة الله، ويسلك طريق الأبرار {وَمَا تَشَاءُونَ إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} أي وما تقدرون على شيء إِلا بتوفيق الله ولطفه، فاطلبوا من الله التوفيق إِلى أفضل طريق.

yacine414
2011-04-02, 10:03
سورة الانفطار



أمارات الانقلاب الكوني، وجحود الإنسان نعم الله

توبيخ المشركين على تكذيبهم بيوم الحساب



بَين يَدَيْ السُّورَة



* سورة الانفطار من السور المكية، وهي تعالج - كسابقتها سورة التكوير - الانقلاب الكوني الذي يصاحب قيام الساعة، وما يحدث في ذلك اليوم الخطير من أحداث جسام، ثم بيان حال الأبرار، وحال الفجار، يوم البعث والنشور.



* ابتدأت السورة الكريمة ببيان مشاهد الانقلاب الذي يحدث في الكون، من انفطار السماء، وانتثار الكواكب، وتفجير البحار، وبعثرة القبور، وما يعقب ذلك من الحساب والجزاء {إِذَا السَّمَاءُ انفَطَرَتْ* وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انتَثَرَتْ* وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ* وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ* عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ}.



* ثم تحدثت عن جحود الإِنسان وكفرانه لنعم ربه، وهو يتلقى فيوض النعمة منه جل وعلا، ولكنه لا يعرف للنعمة حقها، ولا يعرف لربه قدره، ولا يشكر على الفضل والنعمة والكرامة {يَاأَيُّهَا الإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ* الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ* فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ} ؟!



* ثم ذكرت علَّة هذا الجحود والإِنكار ووضحت أن الله تعالى وكَّل بكل إِنسان ملائكةً يسجلون عليه أعماله، ويتعقبون أفعاله {كَلا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ* وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ* كِرَامًا كَاتِبِينَ* يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ}.



* وذكرت السورة انقسام الناس في الآخرة إِلى قسمين : أبرار، وفجار، وبيَّنت مآل كل من الفريقين {إن الأبرار لفي نعيم * وإن الفجار لفي جحيم * يصلونها يوم الدين ..} الآيات.



* وختمت السورة الكريمة بتصوير ضخامة يوم القيامة وهوله، وتجرد النفوس يومئذٍ من كل حول وقوة، وتفرد الله جل وعلا بالحكم والسلطان {وما أدراك ما يوم الدين * ثم ما أدراك ما يوم الدين * يوم لا تملك نفسٌ لنفسٍ شيئاً، والأمر يومئذٍ لله}.







أمارات الانقلاب الكوني، وجحود الإنسان نعم الله

{إِذَا السَّمَاءُ انفَطَرَتْ(1)وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انتَثَرَتْ(2)وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ(3)وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ(4)عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ(5)يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ(6)الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ(7)فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ(8)}



سبب النزول :

نزول الآية (6) :

{يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ} : أخرج ابن أبي حاتم عن عكرمة في قوله : {يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ..} الآية قال :نزلت في أُبيّ بن خَلَف. وقيل : نزلت في أبي الأشدّ بن كَلَدة الْجُمَحِيّ، وقال ابن عباس: الإنسان هنا الوليد بن المغيرة.



{ إِذَا السَّمَاءُ انفَطَرَتْ } أي إِذا السماء انشقت بأمر الله لنزول الملائكة كقوله تعالى {ويوم تشقق السماءُ بالغمام ونُزِّل الملائكةُ تنزيلاً} {وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انتَثَرَتْ} أي وإِذا النجوم تساقطت وتناثرت، وزالت عن بروجها وأماكنها {وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ} أي وإِذا البحار فتح بعضها إِلى بعض، فاختلط عذبها بمالحها، وأصبحت بحراً واحداً {وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ} أي وإِذا القبور قلبت، ونبش ما فيها من الموتى، وصار ما في باطنها ظاهراً على وجهها {عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ} هذا هو الجواب أي علمت عندئذٍ كل نفس ما أسلفت من خير أو شر، وما قدمت من صالح أو طالح قال الطبري: ما قدمت من عمل صالح، وما أخرت من شيء سنَّه فعمل به بعده ثم بعد ذكر أحوال الآخرة وأهوالها، انتقلت الآيات لتذكير الإِنسان الغافل الجاهل بما أمامه من أهوال وشدائد فقال تعالى { يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ} أيْ أيُّ شيءٍ خدعك بربك الحليم الكريم، حتى عصيته وتجرأت على مخالفة أمره، مع إِحسانه إِليك وعطفه عليك ؟ وهذا توبيخ وعتاب كأنه قال : كيف قابلتَ إِحسان ربك بالعصيان، ورأفته بك بالتمرد والطغيان {هل جزاء الإِحسان إِلاّ الإِحسانُ} ؟ ثم عدَّد نعمه عليه فقال {الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ} أي الذي أوجدك من العدم، فجعلك سوياً سالم الأعضاء، تسمع وتعقل وتبصر {فَعَدَلَكَ} أي جعلك معتدل القامة منتصباً في أحسن الهيئات والأشكال {فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ} أي ركبك في أي صورة شاءها واختارها لك من الصور الحسنة العجيبة ولم يجعلك في الشكل كالبهيمة كقوله تعالى {لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ}.



توبيخ المشركين على تكذيبهم بيوم الحساب



{كَلا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ(9)وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ(10)كِرَامًا كَاتِبِينَ(11)يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ(12)إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ(13)وَإِنَّ الفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ(14)يَصْلَونَهَا يَوْمَ الدِّينِ(15)وَمَا هُمْ عَنْهَا بِغَائِبِينَ(16)وَمَا أَدرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ(17)ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَومُ الدِّينِ(18) يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِّنَفْسٍ شَيْئًا وَالأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لله}.



ثم وبَّخ المشركين على تكذيبهم بيوم الدين فقال {{كَلا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ} أي ارتدعوا يا أهل مكة، ولا تغتروا بحلم الله، بل أنتم تكذبون بيوم الحساب والجزاء {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ} أي والحالُ أن عليكم ملائكة حفظة يضبطون أعمالكم ويراقبون تصرفاتكم قال القرطبي: أي عليكم رقباء من الملائكة {كِرَامًا كَاتِبِينَ} أي كراماً على الله، يكتبون أقوالكم وأعمالكم {يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ} أي يعلمون ما يصدر منكم من خير وشر، ويسجلونه في صحائف أعمالكم، لتجازوا به يوم القيامة .. ثم بيَّن تعالى انقسام الخلق يوم القيامة إِلى أبرار وفجار، وذكر مآل كلٍ من الفريقين فقال {إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ} أي إِن المؤمنين الذين اتقوا ربهم في الدنيا، لفي بهجة وسرور لا يوصف، يتنعمون في رياض الجنة بما لا عينٌ رأتْ ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، وهم مخلدون في الجنة {وَإِنَّ الفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ} أي وإِن الكفرة الفجار، الذين عصوا ربهم في الدنيا، لفي نار محرقةٍ، وعذاب دائم مقيم في دار الجحيم {يَصْلَونَهَا يَوْمَ الدِّينِ} أي يدخلونها ويقاسون حرها يوم الجزاء الذي كانوا يكذبون به {وَمَا هُمْ عَنْهَا بِغَائِبِينَ} أي وليسوا بغائبين عن جهنم، بعيدين عنها لا يرونها، بل هي أمامهم يَصْلَونَ ويذوقون سعيرها ولا يخرجون منها أبداً. {وَمَا أَدرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ} تعظيمٌ له وتهويل أي ما أعلمك ما هو يوم الدين ؟ وأيُّ شيءٍ هو في شدته وهوله ؟ {ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَومُ الدِّينِ} ؟ كرر ذكره تعظيماً لشأنه، وتهويلاً لأمره كقوله {الحاقة ما الحاقة ؟ وما أدراك ما الحاقة} ؟ كأنه يقول : إِن يوم الجزاء من شدته بحيث لا يدري أحدٌ مقدار هوله وعظمته، فهو فوق الوصف والبيان {يَومَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِّنَفْسٍ شَيْئًا} أي هو ذلك اليوم الرهيب الذي لا يستطيع أحد أن ينفع أحداً بشيء من الأشياء، ولا أن يدفع عنه ضراً {وَالأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لله} أي والأمر في ذلك اليوم لله وحده لا ينازعه فيه أحد.

yacine414
2011-04-02, 10:04
سورة المُطَفِّفِين



عقاب المطففين في الكيل والوزن

مآل الفجار

مآل الأبرار

معاملة الكفار في الآخرة بمثل معاملتهم للمؤمنين في الدنيا



بَين يَدَيْ السُّورَة



* هذه السورة الكريمة مكية، وأهدافها نفس أهداف السور المكية، تعالج أمور العقيدة وتتحدث عن الدعوة الإِسلامية في مواجهة خصومها الألداء.



* ابتدأت السورة الكريمة بإِعلان الحرب على المطففين في الكيل والوزن، الذين لا يخافون الآخرة ولا يحسبون حساباً للوقفة الرهيبة بين يدي أحكم الحاكمين {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ* الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ* وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ* أَلا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ* لِيَوْمٍ عَظِيمٍ* يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ}.



* ثم تحدثت عن الأشقياء الفجار، وصوَّرت جزاءهم يوم القيامة، حيث يساقون إِلى الجحيم مع الزجر والتهديد {كَلا إِنَّ كِتَابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ* وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ* كِتَابٌ مَرْقُومٌ* وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ} الآيات.



* ثم عرضت لصفحة المتقين الأبرار، وما لهم من النعيم الخالد الدائم، في دار العز والكرامة، وذلك في مقابلة ما أعدَّه الله للأشقياء الأشرار، على طريقة القرآن في الجمع بين الترغيب والترهيب {إِنَّ الأبرار لفي نعيم * على الأرائك ينظرون * تعرف في وجوههم نضرة النعيم * يُسقون من رحيقٍ مختوم * ختامه مسك وفي ذلك فليتنافس المتنافسون}.



* وختمت السورة الكريمة بمواقف أهل الشقاء والضلال، من عباد الله الأخيار، حيث كانوا يهزءون بهم في الدنيا ويسخرون عليهم لإِيمانهم وصلاحهم {إِن الذين أجرموا كانوا من الذين آمنوا يضحكون * وإذا مروا بهم يتغامزون} إلى آخر السورة الكريمة.





عقاب المطففين في الكيل والوزن



{وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ(1)الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ(2)وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ(3)أَلا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ(4)لِيَوْمٍ عَظِيمٍ(5)يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ(6)}



سبب النزول :

نزول الآية (1) :

أخرج النسائي وابن ماجه بسند صحيح عن ابن عباس قال : لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة، كانوا من أبخس الناس كيلاً، فأنزل الله : {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ} فأحسنوا الكيل بعد ذلك.



{وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ} أي هلاك وعذاب ودمار، لأولئك الفجار الذين ينقصون المكيال والميزان، ثم بيَّن أوصافهم القبيحة بقوله {الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ} أي إِذا أخذوا الكيل من الناس أخذوه وافياً كاملاً لأنفسهم {وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ} أي وإِذا كالوا للناس أو وزنوا لهم، ينقصون الكيل والوزن قال المفسرون: نزلت في رجلٍ يُعرف بـ "أبي جهينة" كان له صاعان، يأخذ بأحدهما ويعطي بالآخر وهو وعيدٌ لكل من طفَّف الكيل والوزن، وقد أهلك الله قوم شعيب لبخسهم في المكيال والميزان، وفي الحديث (ولا طففوا الكيل إِلاّ منعوا النبات وأُخذوا بالسنين) {أَلا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ* لِيَوْمٍ عَظِيمٍ} أي ألا يعلم ويستيقن أولئك المطففون أنهم سيبعثون ليوم عصيب، شديد الهول، كثير الفزع ؟! {يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} أي يوم يقفون في المحشر حفاةً عراةً، خاشعين خاضعين لرب العالمين قال أبو حيّان: وفي هذا الإِنكار والتعجيب، ووصف اليوم بالعظم، وقيام الناس لله خاضعين، ووصفهُ برب العالمين، دليلٌ على عظم هذا الذنب وهو التطفيف، وفي الحديث عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} حتى يغيب أحدهم في رشحه إِلى أنصاف أُذنيه.



مآل الفجار



{كَلا إِنَّ كِتَابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ(7)وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ(8)كِتَابٌ مَرْقُومٌ(9)وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ(10)الذين يكذبون بيوم الدين(11)وما يكذِّب به إلا كلُّ معتدٍ أثيم(12) إِذا تتلى عليه آياتُنا قال أساطيرُ الأولين(13)كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون(14)كلاَّ إِنهم عن ربهم يومئذٍ لمحجوبون(15)ثمَّ إِنَّهم لصالوا الجحيم(16)ثم يُقال هذا الذي كنتم به تكذبون(17)}



ثم ذكر تعالى مآل الفجار، ومآل الأبرار فقال {كَلا إِنَّ كِتَابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ} أي ليرتدع هؤلاء المطففون عن غفلتهم عن البعث والجزاء، فإِن كتاب أعمال الأشقياء الفجار، لفي مكان ضيّق في أسفل سافلين {وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ} استفهام للتعظيم والتهويل أي هل تعلم ما سجين؟ {كِتَابٌ مَرْقُومٌ} أي هو كتاب مكتوبٌ كالرقم في الثوب، لا ينسى ولا يمحى، أُثبتت فيه أعمالهم الشريرة قال ابن كثير : {سِجِّينٌ} مأخوذ من السجن وهو الضيق، ولما كان مصير الفجار إِلى جهنم وهي أسفل سافلين، وهي تجمع الضيق والسفول، أخبر تعالى أنه كتاب مرقوم أي مكتوبٌ مفروغ منه، لا يزاد فيه أحد ولا ينقص منه أحد {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ} أي هلاك ودمار للمكذبين {الذين يكذبون بيوم الدين} أي يكذبون بيوم الحساب والجزاء {وما يكذِّب به إلا كلُّ معتدٍ أثيم} أي وما يكذب بيوم الحساب والجزاء ألا كل متجاوز الحد في الكفر والضلال، مبالغ في العصيان والطغيان، كثير الآثام، ثم وضّح من إِجرامه فقال {إِذا تتلى عليه آياتُنا قال أساطيرُ الأولين} أي إِذا تليت عليه آيات القرآن، الناطقة بحصول البعث والجزاء، قال عنها: هذه حكايات وخرافات الأوائل، سطروها وزخرفوها في كتبهم {كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون} أي ليرتدع هذا الفاجر عن ذلك القول الباطل، فليس القرآن أساطير الأولين، بل غطَّى على قلوبهم ما كسبوا من الذنوب، فطمس بصائرهم فصاروا لا يعرفون الرشد من الغي قال المفسرون: الرَّان هو الذنب على الذنب حتى يسودَّ القلب {كلاَّ إِنهم عن ربهم يومئذٍ لمحجوبون} أي ليرتدع هؤلاء المكذبون عن غيهم وضلالهم، فهم في الآخرة محجوبون عن رؤية المولى جل وعلا فلا يرونه قال الشافعي: وفي هذه الآية دليل على أن المؤمنين يرونه عز وجل وقال مالك: لما حجب أعداءه فلم يروه، تجلَّى لأوليائه حتى رأوه {ثمَّ إِنَّهم لصالوا الجحيم} أي ثم إِنهم مع الحرمان عن رؤية الرحمن، لداخلو الجحيم وذائقو عذابها الأليم {ثم يُقال هذا الذي كنتم به تكذبون} أي ثم تقول لهم خزنة جهنم على وجه التقريع والتوبيخ: هذا العذاب الذي كنتم تكذبون به في الدنيا {أفسحرٌ هذا أم أنتم لا تُبصرون}؟



مآل الأبرار



{كلاَّ إِن كتاب الأبرار لفي علّيين(18)وما أدراك ما علِّيون(19)كتابٌ مرقومٌ(20) يشهده المقربون(21)إِن الأبرار لفي نعيم(22) على الأرائك ينظرون(23)تعرفُ في وجوههم نضرةَ النَّعيم(24)يُسْقونَ من رحيقٍ مختوم(25)ختامُه مسك وفي ذلك فليتنافس المُتنافسون(26)ومزاجه منْ تسنيم(27)عيناً يشربُ بها المقربون(28)}



وبعد الحديث عن حال الفجار، ذكر تعالى نعيم الأبرار فقال {كلاَّ إِن كتاب الأبرار لفي علّيين} {كلاَّ} ردعٌ وزجر أي ليس الأمر كما يزعمون من مساواة الفجار بالأبرار، بل كتابهم في سجين، وكتاب الأبرار في عليين، وهومكان عالٍ مشرَّف في أعلى الجنة قال ابن جزي : ولفظ {علِّيين} للمبالغة، وهو مشتق من العلوِّ لأنه سبب في ارتفاع الدرجات في الجنة، أو لأنه في مكان عليٍّ رفيع فقد روي أنه تحت العرش {وما أدراك ما علِّيون} تفخيمٌ وتعظيم لشأنه أي وما أعلمك يا محمد ما هو عليّون ؟ {كتابٌ مرقومٌ} {يشهده المقربون} أي كتابُ الأبرار كتابٌ مسطَّر، مكتوب في أعمالهم، وهو في عليين في أعلى درجات الجنة، يشهده المقربون من الملائكة قال المفسرون : إِن روح المؤمن إِذا قُبضت صُعد بها إِلى السماء، وفتحت لها أبواب السماء، وتلقتها الملائكةُ بالبشرى، ثم يخرجون معها حتى ينتهوا إِلى العرش، فيخرج لهم رقٌّ فيكتب فيه ويختم عليه بالنجاة من الحساب والعذاب ويشهده المقربون {إِن الأبرار لفي نعيم} أي إِن المطيعين لله في الجنات الوارفة، والظلال الممتدة يتنعمون {على الأرائك ينظرون} أي هم على السرر المزينة بفاخر الثياب والستور، ينظرون إِلى ما أعدَّ الله لهم من أنواع الكرامة والنعيم في الجنة {تعرفُ في وجوههم نضرةَ النَّعيم} أي إِذا رأيتهم تعرف أنهم أهل نعمة، لما ترى في وجوههم من النور والبياض والحسن، ومن بهجة السرور ورونقه {يُسْقونَ من رحيقٍ مختوم} أي يُسقون من خمرٍ في الجنة، بيضاء طيبة صافية، لم تكدرها الأيدي، قد ختم على تلك الأواني فلا يفك ختمها إِلا الأبرار {ختامُه مسك} أي آخر الشراب تفوح منه رائحة المسك {وفي ذلك فليتنافس المُتنافسون} أي وفي هذا النعيم والشراب الهنيء، فليرغب بالمبادرة إِلى طاعة الله، وليتسابق المتسابقون قال الطبري : التنافسُ مأخوذ من الشيء النفيس الذي يحرص عيه الناس، وتشتهيه وتطلبه نفوسهم والمعنى فليستبقوا في طلب هذا النعيم، ولتحرص عليه نفوسهم {ومزاجه منْ تسنيم} أي يمزج ذلك الرحيق من عينٍ عالية رفيعة، هي أشرف شراب أهل الجنة وأعلاه تسمى "التسنيم"، ولهذا قال بعده {عيناً يشربُ بها المقربون} أي هي عينٌ في الجنة يشرب منها المقرّبون وحدهم، وتمزج لسائر أهل الجنة قال ابن جزي: تسنيم اسمٌ لِعَينٍ في الجنة يشرب منها المقربون صرفاً، ويمزج منه الرحيق الذي يشرب منه الأبرار، فدل ذلك على أن درجة المقربين فوق درجة الأبرار.





معاملة الكفار في الآخرة بمثل معاملتهم للمؤمنين في الدنيا



{إِن الذينَ أجرموا كانوا من الذين آمَنوا يضحكون(29)وإِذا مروا بِهم يتغامزُون(30) وإِذا انقلبوا إِلى أهلهم انقلبوا فكهين(31)وإِذا رأوهم قالوا إِنَّ هؤلاء لضالُّون(32)وما أُرسلوا عليهم حافظين(33)فاليوم الذين آمنوا من الكفار يضحكون(34) على الأرائك ينظرون(35)هل ثُوّب الكفَّار ما كانوا يفعلون(36)}



سبب النزول:

نزول الآية (29):

ذكر العلماء في سبب النزول وجهين :

الأول: أن المراد من قوله تعالى: {إن الذين أجرموا} أكابر المشركين كأبي جهل والوليد بن المغيرة والعاص بن وائل السَّهْمي، كانوا يضحكون من عمار وصهيب وبلال وغيرهم من فقراء المسلمين ويستهزئون بهم.

الثاني: جاء علي بن أبي طالب رضي الله عنه في نفر من المسلمين، فسخر منهم المنافقون، وضحكوا، وتغامزوا، ثم رجعوا إلى أصحابهم، فقالوا: رأينا اليوم الأصلع، فضحكوا منه، فنزلت هذه الآية قبل أن يصل عليّ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.



ولما ذكر تعالى نعيم الأبرار، أعقبه بذكر مآل الفجار، تسليةً للمؤمنين وتقوية لقلوبهم فقال {إِن الذينَ أجرموا كانوا من الذين آمَنوا يضحكون} أي إن المجرمين الذين من طبيعتهم الإِجرام وارتكاب الآثام، كانوا في الدنيا يضحكون من المؤمنين استهزاءً بهم قال في التسهيل : نزلت هذه الآية في صناديد قريش كأبي جهل وغيره، مرَّ بهم علي بن أبي طالب وجماعة من المؤمنين، فضحكوا منهم واستخفوا بهم {وإِذا مروا بِهم يتغامزُون} أي وإِذا مرَّ هؤلاء المؤمنين، غمز بعضهم بعضاً بأعينهم سخرية واستهزاءً بهم قال المفسرون: كان المشركون إِذا مرَّ بهم أصحاب رسول الله، تغامزوا بأعينهم احتقاراً لهم وازدراءً يقولون: جاءكم ملوك الدنيا، يسخرون منهم لإِيمانهم واستمساكهم بالدين {وإِذا انقلبوا إِلى أهلهم انقلبوا فكهين} أي وإِذا انصرف المشركون ورجعوا إِلى منازلهم وأهليهم، رجعوا متلذذين يتفكهون بذكر المؤمنين والاستخفاف بهم قال أبو حيّان: أي رجعوا متلذذين بذكرهم وبالضحك منهم استخفافاً بأهل الإِيمان {وإِذا رأوهم قالوا إِنَّ هؤلاء لضالُّون} أي وإِذا رأى الكفار المؤمنين قالوا: إِن هؤلاء لضالون لإِيمانهم بمحمد، وتركهم شهوات الحياة قال تعالى رداً عليهم {وما أُرسلوا عليهم حافظين} أي وما أُرسل الكفار حافظين على المؤمنين، يحفظون أعمالهم ويشهدون برشدهم أو ضلالهم، وفيه تهكم وسخرية بالكفار كأنه يقول : أنا ما أرسلتهم رقباء، ولا وكلتهم بحفظ أعمال عبادي المؤمنين، حتى يرشدوهم إِلى مصالحهم، فلم يشغلون أنفسهم فيما لا يعنيهم ؟ {فاليوم الذين آمنوا من الكفار يضحكون} أي ففي هذا اليوم - يوم القيامة - يضحك المؤمنون من الكفار، كما ضحك الكفار منهم في الدنيا، جزاءً وفاقاً {على الأرائك ينظرون} أي والمؤمنون على أسرَّة الدر والياقوت، ينظرون إِلى الكفار ويضحكون عليهم قال القرطبي: يقال لأهل النار وهم في النار اخرجوا، فتفتح لهم أبواب النار، فإِذا رأوها قد فتحت أقبلوا إِليها يريدون الخروج، والمؤمنون ينظرون إِليهم على الأرائك، فإِذا انتهوا إِلى أبوابها أغلقت دونهم، فيضحك منهم المؤمنون {هل ثُوّب الكفَّار ما كانوا يفعلون} أي هل جوزي الكفار في الآخرة بما كانوا يفعلونه بالمؤمنين من السخرية والاستهزاء ؟ نعم.

yacine414
2011-04-02, 10:04
سورة الانشقاق



أهوال يوم القيامة، وانقسام الناس فريقين

تأكيد وقوع يوم القيامة، وما يرافقه من أهوال



بَين يَدَيْ السُّورَة



* سورة الانشقاق مكية، وقد تناولت الحديث عن أهوال القيامة، كشأن سائر السور المكية التي تعالج أصول العقيدة الإِسلامية.



* ابتدأت السورة الكريمة بذكر بعض مشاهد الآخرة، وصوَّرت الانقلاب الذي يحدث في الكون عند قيام الساعة {إِذَا السَّمَاءُ انشَقَّتْ* وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ* وَإِذَا الأَرْضُ مُدَّتْ* وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ*}.



* ثم تحدثت عن خلق الإِنسان الذي يكدّ ويتعب في تحصيل أسباب رزقه ومعاشه، ليقدِّم لآخرته ما يشتهي من صالحٍ أو طالحٍ، ومن خيرٍ أو شر، ثم هناك الجزاء العادل {يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلاقِيهِ* فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ* فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا} الآيات.



* ثم تناولت موقف المشركين من هذا القرآن العظيم، وأقسمت بأنهم سيلقون الأهوال والشدائد، ويركبون الأخطار في ذلك اليوم العصيب الذي لا ينفع فيه مال ولا ولد {فَلا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ* وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ* وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ* لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ} الآيات.



* وختمت السورة الكريمة بتوبيخ المشركين على عدم إِيمانهم بالله، مع وضوح آياته وسطوع براهينه، وبشرتهم بالعذاب الأليم في دار الجحيم {فَمَا لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ* وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمْ الْقُرْآنُ لا يَسْجُدُونَ* بَلْ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ* وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ* فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ* إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ}.



أهوال يوم القيامة، وانقسام الناس فريقين

{إِذَا السَّمَاءُ انشَقَّتْ(1)وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ(2)وَإِذَا الأَرْضُ مُدَّتْ(3)وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ(4)وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ(5)يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلاقِيهِ(6)فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ(7)فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا(8)وَيَنقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا(9)وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ(10)فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا(11) وَيَصْلَى سَعِيرًا(12)إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُورًا(13)إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ(14)بَلَى إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيرًا(15) }.



{إِذَا السَّمَاءُ انشَقَّتْ} هذه الآيات بيان لأهوال القيامة، وتصويرٌ لما يحدث بين يدي الساعة من كوارث وأهوال يفزع لها الخيال والمعنى: إِذا تشققت السماء وتصدَّعت مؤذنة بخراب الكون قال الألوسي: تنشق لهول يوم القيامة {وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ} أي واستمعت لأمر ربها وانقادت لحكمه وحُقَّ لها أن تسمع وتطيع وأن تنشق من أهوال القيامة {وَإِذَا الأَرْضُ مُدَّتْ} أي وإِذا الأرض زادت سَعَةً بإِزالة جبالها وآكامها، وصارت مستوية لا بناء فيها ولا وهاد ولا جبال {وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ} أي رمت ما في جوفها من الموتى والكنوز والمعادن وتخلت عنهم قال القرطبي: أخرجت أمواتها وتخلت عنهم، وألقت ما في بطنها من الكنوز والمعادن كما تلقي الحامل ما في بطنها من الحمل، وذلك يؤذن بعظم الهول {وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ} أي واستمعت لأمر ربها وأطاعت، وحُقَّ لها أن تسمع وتطيع .. وجواب {إِذَا} محذوف ليكون أبلغ في التهويل أي إِذا حدث كل ما تقدم، لقي الإِنسان من الشدائد والأهوال، ما لا يحيط به الخيال .. ثم أخبر تعالى عن كدِّ الإِنسان وتعبه في هذه الحياة، وأنه يلقى جزاءه عند الله فقال {يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلاقِيهِ} الخطاب عام لكل إِنسان أي أنت يا ابن آدم جاهدٌ ومجدٌّ بأعمالك التي عاقبتها الموت، والزمانُ يطير وأنت في كل لحظة تقطع شوطاً من عمرك القصير، فكأنك سائر مسرعٌ إِلى الموت، ثم تلاقي ربك فيكافئك على عملك، إِن كان خيراً فخيرٌ، وإِن كان شراً فشرٌّ قال أبو حيّان: كادحٌ أي جاهد في عملك من خير وشر طول حياتك إِلى لقاء ربك، فملاقٍ جزاء كدحك من ثواب وعقاب .. ثم ذكر تعالى انقسام الناس إِلى سعداء، وأشقياء وإِلى من يأخذ كتابه بيمينه، ومن يأخذ كتابه بشماله فقال {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ} أي فأما من أعطي كتاب أعماله بيمينه، وهذه علامة السعادة {فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا} أي فسوف يكون حسابه سهلاً هيناً يُجازى على حسناته، ويُتجاوز عن سيئاته، وهذا هو العرضُ كما جاء في الحديث الصحيح {وَيَنقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا} أي ويرجع إِلى أهله في الجنة مبتهجاً مسروراً بما أعطاه الله من الفضل والكرامة {وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ} أي وأمَّا من أعطي كتاب أعماله بشماله من وراء ظهره، وهذه علامة الشقاوة {فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا} أي يصيح بالويل والثبور، ويتمنى الهلاك والموت {وَيَصْلَى سَعِيرًا} أي ويدخل ناراً مستعرة، يقاسي عذابها وحرَّها {إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُورًا} أي لأنه كان في الدنيا مسروراً مع أهله، غافلاً لاهياً، لا يفكر في العواقب، ولا تخطر بباله الآخرة قال ابن زيد: وصف الله أهل الجنة بالمخافة والحزن والبكاء في الدنيا، فأعقبهم به النعيم والسرور في الآخرة، ووصف أهل النار بالسرور في الدنيا والضحك فيها، فأعقبهم به الحزن الطويل {إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ} أي إِنه ظنَّ لن يرجع إِلى ربه، ولن يحييه الله بعد موته للحساب والجزاء، فلذلك كفر وفجر {بَلَى إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيرًا} أي بلى سيعيده الله بعد موته، ويجازيه على أعماله كلها خيرها وشرها، فإِنه تعالى مطلع على العباد، لا تخفى عليه خافية من شؤونهم.



تأكيد وقوع يوم القيامة، وما يرافقه من أهوال

{فَلا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ(16)وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ(17)وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ(18) لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ(19)فَمَا لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ(20)وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لا يَسْجُدُونَ(21)بَلْ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ(22)وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ(23)فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ(24) إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ(25)}



{فَلا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ} {لا} لتأكيد القسم أي فأقسم قسماً مؤكداً بحمرة الأفق بعد غروب الشمس {وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ} أي وبالليل وما جمع وضمَّ إِليه، وما لفَّ في ظلمته من الناس والدواب والهوام قال المفسرون: الليل يسكن فيه كل الخلق، ويجمع ما كان منتشراً في النهار من الخلق والدواب والأنعام، فكلٌ يأوي إِلى مكانه وسربه، ولهذا امتن تعالى على العباد بقوله {وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا} فإِذا جاء النهار انتشروا، وإِذا جاء الليل أوى كل شيء إِلى مأواه {وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ} أي وأقسمُ بالقمر إِذا تكامل ضوؤه ونوره، وصار بدراً ساطعاً مضيئاً {لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ} هذا جواب القسم أي لتلاقُنَّ يا معشر الناس أهوالاً وشدائد في الآخرة عصيبة قال الألوسي: يعني لتركبن أحوالاً بعد أحوال، هي طبقات في الشدة بعضها أرفع من بعض، وهي الموتُ وما بعده من مواطن القيامة وأهوالها وقال الطبري: المراد أنهم يلقون من شدائد يوم القيامة وأهواله أحوالاً {فَمَا لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} استفهام يقصد به التوبيخ أي فما لهؤلاء المشركين لا يؤمنون بالله، ولا يصدّقون بالبعث بعد الموت، بعد وضوح الدلائل وقيام البراهين على وقوعه؟ {وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لا يَسْجُدُونَ} أي وإِذا سمعوا آيات القرآن، لم يخضعوا ولم يسجدوا للرحمن؟ {بَلْ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ} أي بل طبيعة هؤلاء الكفار التكذيب والعناد والجحود، ولذلك لا يخضعون عند تلاوته {وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ} أي والله أعلم بما يجمعون في صدورهم من الكفر والتكذيب قال ابن عباس: {يُوعُونَ} أي يضمرون من عداوة الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين {فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} أي فبشرهم على كفرهم وضلالهم بعذاب مؤلم موجع، واجعل ذلك بمنزلة البشارة لهم قال ابن جزي: ووضع البشارة في موضع الإِنذار تهكم بالكفار {إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} أي لكنْ الذين صدَّقوا الله ورسوله، وجمعوا بين الإِيمان وصالح الأعمال {لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ} أي لهم ثوابٌ في الآخرة غير منقوص ولا مقطوع، بل هو دائم مستمر. ختم تعالى السورة الكريمة ببيان نعيم الأبرار، بعد أن ذكر مآل الفجار، وهو توضيح لما أجمله في أول السورة من ملاقاة كل عامل لجزائه في قوله {يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلاقِيهِ}.

yacine414
2011-04-02, 10:06
سورة الْبُرُوج



قصة أصحاب الأخدود

عقاب الكفار وثواب المؤمنين

انتقام الله الشديد من أعداء رسله وأوليائه





بَين يَدَيْ السُّورَة



* هذه السورة الكريمة من السور المكية، وهي تعرض لحقائق العقيدة الإِسلامية، والمحورُ الذي تدور عليه السورة الكريمة هي حادثة "أصحاب الأخدود" وهي قصة التضحية بالنفس في سبيل العقيدة والإِيمان.



* ابتدأت السورة الكريمة بالقسم بالسماء ذات النجوم الهائلة، ومداراتها الضخمة، التي تدور فيها تلك الأفلك، وباليوم العظيم المشهود وهو يوم القيامة، وبالرسل والخلائق على هلاك ودمار المجرمين، الذين طرحوا المؤمنين في النار ليفتنوهم عن دينهم {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ* وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ* وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ* قُتِلَ أَصْحَابُ الأُخْدُودِ* النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ* إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ* وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ} الآيات.



* ثم تلاها الوعيد والإِنذار لأولئك الفجار على فعلتهم القبيحة الشنيعة {إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ}.



* وبعد ذلك تحدثت عن قدرة الله على الانتقام من أعدائه الذين فتنوا عباده وأولياءه {إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ* إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ* وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ* ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ}.



* وختمت السورة الكريمة بقصة الطاغية الجبار "فرعون" وما أصابه وقومه من الهلاك والدمار بسبب البغي والطغيان {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ* فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ* بَلْ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ* وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ* بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ* فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ} وهو ختم رائع يناسب موضوع السورة الكريمة.



قصة أصحاب الأخدود



{وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ(1)وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ(2)وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ(3)قُتِلَ أَصْحَابُ الأُخْدُودِ(4)النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ(5)إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ(6)وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ(7)وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ(8)الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ(9)}.



{وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ} أي وأُقسم بالسماء البديعة ذات المنازل الرفيعة، التي تنزلها الكواكب أثناء سيرها قال المفسرون: سميت هذه المنازل بروجاً لظهورها، وشبهت بالقصور لعلوها وارتفاعها لأنها منازل للكواكب السيارة {وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ} أي وأُقسم باليوم الموعود وهو يوم القيامة، الذي وعد الله به الخلائق بقوله {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ} {وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ} أي وأُقسم بمحمد والأنبياء الذين يشهدون على أممهم يوم القيامة، وبجميع الأمم والخلائق الذين يجتمعون في أرض المحشر للحساب كقوله تعالى {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا} وقيل: الشاهد هذه الأمة، والمشهود سائر الأمم ودليله {لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} {قُتِلَ أَصْحَابُ الأُخْدُودِ} هذا هو جواب القسم، والجملة دعائية أي قاتل الله ولعن أصحاب الأخدود، الذين شقوا الأرض طولاً وجعلوها أخاديد، وأضرموا فيها النار ليحرقوا بها المؤمنين قال القرطبي: الأخدودُ الشقُّ العظيم المستطيل في الأرض كالخندق وجمعه أخاديد، ومعنى {قُتِلَ} أي لعن، قال ابن عباس: كل شيءٍ في القرآن {قُتِلَ} فهو لعن .. ثم فصَّل تعالى المراد من الأخدود فقال {النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ} أي النار العظيمة المتأججة، ذات الحطب واللهب، التي أضرمها الكفار في تلك الأخاديد لإِحراق المؤمنين قال أبو السعود: وهذا وصف لها بغاية العظم، وارتفاع اللهب، وكثرة ما فيها من الحطب، والقصدُ وصف النار بالشدة والهول .. ثم بالغ تعالى في وصف المجرمين فقال {إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ*وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ} أي حين هم جلوس حول النار، يتشفون بإِحراق المؤمنين فيها، ويشهدون ذلك الفعل الشنيع والغرض تخويف كفار قريش، فقد كانوا يعذبون من أسلم من قومهم، ليرجعوا عن الإِسلام، فذكر الله تعالى قصة "أصحاب الأخدود" وعيداً للكفار، وتسليةً للمؤمنين المعذبين، ثم قال تعالى {وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} أي وما كان لهم ذنب ولا انتقموا منهم، إِلا لأنهم آمنوا بالله العزيز الحميد الغالب الذي لا يُضام من لاذَ بجنابه، الحميد في جميع أقواله وأفعاله، والغرضُ أن سبب البطش بهم، وتحريقهم بالنار، لم يكن إِلا إيمانهم بالله الواحد الأحد، وهذا ليس بذنب يستحقون به العقوبة، لكنّه الطغيان والإِجرام {الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} أي هذا الإِله الجليل المالك لجميع الكائنات، المستحق للمجد والثناء قال أبو حيّان: وإِنما ذكر الأوصاف التي يستحق بها تعالى أن يؤمن به، وهو كونه تعالى {عزيزاً} أي غالباً قادراً يُخشى عقابه {حميداً} أي مُنعماً يجب له الحمد على نعمه {لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} أي وكل من فيهما يحق عليه عبادته والخشوع له، إِنما ذكر ذلك تقريراً لأن ما نقموه منهم هو الحقُّ الذي لا ينقمه إِلا مبطلٌ منهمك في الغي {وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} أي هو تعالى مطَّلع على أعمال عباده، لا تخفى عليه خافية من شؤونهم، وفيه وعدٌ للمؤمنين، ووعيدٌ للمجرمين.



عقاب الكفار وثواب المؤمنين

{إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ(10)إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ(11)}.



ثم شدَّد تعالى النكير على المجرمين الذين عذبوا المؤمنين فقال {إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} أي عذبوا وأحرقوا المؤمنين والمؤمنات بالنار ليفتنوهم عن دينهم {ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا} أي ثم لم يرجعوا عن كفرهم وطغيانهم {فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ} أي فلهم عذاب جهنم المخزي بكفرهم، ولهم العذاب المحرق بإِحراقهم المؤمنين .. ولما ذكر مصير المجرمين أعقبه بذكر مصير المؤمنين فقال {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} أي الذين جمعوا بين الإِيمان الصادق والعمل الصالح {لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ} أي لهم البساتين والحدائق الزاهرة، التي تجري من تحت قصورها أنهار الجنة قال الطبري: هي أنهار الخمر واللبن والعسل {ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ} أي ذلك هو الظفر العظيم بغاية المطلوب، الذي لا سعادة ولا فوز بعده.



انتقام الله الشديد من أعداء رسله وأوليائه

{إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ(12)إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ(13)وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ(14)ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ(15)فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ(16)هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ(17)فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ(18)بَلْ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ(19) وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ(20)بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ(21)فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ(22)}.



ثم أخبر تعالى عن انتقامه الشديد من أعداء رسله وأوليائه فقال {إِنَّ بطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ} أي إِن انتقام الله وأخذه الجبابرة والظلمة، بالغ الغاية في الشدة قال أبو السعود: البطش الأخذ بعنف، وحيث وصف بالشدة فقد تضاعف وتفاقم، وهو بطشه بالجبابرة والظلمة وأخذه إِياهم بالعذاب والانتقام {إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ}أي هو جل وعلا الخالق القادر، الذي يبدأ الخلق من العدم، ثم يعيدهم أحياء بعد الموت {وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ} أي وهو الساتر لذنوب عباده المؤمنين، اللطيف المحسن إِلى أوليائه، المحبُّ لهم قال ابن عباس: يودُّ أولياءه كما يودُّ أحدكم أخاه بالبشرى والمحبة {ذُو الْعَرْشِ} أي صاحب العرش العظيم، وإِنما أضاف العرش إِلى الله وخصَّه بالذكر، لأن العرش أعظم المخلوقات، وأوسعُ من السماواتِ السبع، وخلقُه بهذا الوصف يدل على عظمة خالقه {الْمَجِيدُ} أي هو تعالى المجيدُ، العالي على جميع الخلائق، المتصف بجميع صفات الجلال والكمال {فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} أي يفعل ما يشاء، ويحكم ما يريد، لا معقب لحكمه ولا رادَّ لقضائه قال القرطبي: أي لا يمتنع عليه شيء يريده. روي أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه قيل له وهو في مرض الموت: هل نظر إِليك الطبيبُ ؟ قال : نعم : قالوا : فماذا قال لك ؟ قال قال لي :{إِني فعَّال لما أريد}. {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ} ؟ استفهامٌ للتشويق أي هل بلغك يا محمد خبر الجموع الكافرة، الذين تجنَّدوا لحرب الرسل والأنبياء ؟ هل بلغك ما أحل الله بهم من البأس، وما أنزل عليهم من النقمة والعذاب ؟ قال القرطبي : يؤنسه بذلك ويسليه، ثم بيَّن تعالى مَنْ هم فقال {فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ} أي هم فرعون وثمود، أولي البأس والشدة، فقد كانوا أشد بأساً، وأقوى مراساً من قومك، ومع لك فقد أخذهم الله تعالى بذنوبهم {بَلْ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ} أي لم يعتبر كفار قريش بما حلَّ بأولئك الكفرة المكذبين، بل هم مستمرون في التكذيب فهم أشد منهم كفراً وطغياناً {وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ} أي والله تعالى قادرٌ عليهم، لا يفوتونه ولا يعجزونه، لأنهم في قبضته في كل حينٍ وزمان {بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ} أي بل هذا الذي كذبوا به، كتابٌ عظيم شريف، متناهٍ في الشرف والمكانة، قد سما على سائر الكتب السماوية، في إِعجازه ونظمه وصحة معانيه {فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ} أي هو في اللوح المحفوظ الذي في السماء، محفوظٍ من الزيادة والنقص، والتحريف والتبديل.

yacine414
2011-04-02, 10:06
سورة الطَّارِق



توكيل الملائكة بحفظ النفوس

قسمه تعالى على صدق الكتاب المعجز





بَين يَدَيْ السُّورَة



* هذه السورة الكريمة من السور المكية، وهي تعالج بعض الأمور المتعلقة بالعقيدة الإِسلامية، ومحور السورة يدور حول الإِيمان بالبعث والنشور، وقد أقامت البرهان الساطع والدليل القاطع على قدرة الله جل وعلا على إِمكان البعث، فإِن الذي خلق الإِنسان من العدم قادرٌ على إِعادته بعد موته.



* ابتدأت السورة الكريمة بالقسم بالسماء ذات الكواكب الساطعة، التي تطلع ليلاً لتضيء للناس سُبلهم، ليهتدوا بها في ظلمات البر والبحر، على أن كلَّ إِنسان قد وُكل به من يحرسه، ويتعهد أمره من الملائكة الأبرار {وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ* وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ* النَّجْمُ الثَّاقِبُ* إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ}.



* ثم ساقت الأدلة والبراهين، على قدرة ربّ العالمين، على إِعادة الإِنسان بعد فنائه {فَلْيَنظُرِ الإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ* خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ* يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ* إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ}.



* ثم أخبرت عن كشف الأسرار، وهتك الأستار في الآخرة، حيث لا معين للإِنسان ولا نصير {يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ* فَمَا لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلا نَاصِرٍ}.



* وختمت السورة الكريمة بالحديث عن القرآن العظيم، معجزة محمد صلى الله عليه وسلم الخالدة، وحجته البالغة إِلى الناس أجمعين، وبيَّنت صدق هذا القرآن، وأوعدت الكفرة المجرمين بالعذاب الأليم {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْعِ* وَالأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ* إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ* وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ* إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا* وَأَكِيدُ كَيْدًا* فَمَهِّلْ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا}.



توكيل الملائكة بحفظ النفوس



{وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ(1)وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ(2)النَّجْمُ الثَّاقِبُ(3)إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ(4)فَلْيَنظُرِ الإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ(5)خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ(6) يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ(7)إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ(8)يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ(9)فَمَا لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلا نَاصِرٍ(10)}.



{وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ} أي أقسم بالسماء وبالكواكب النيرة، التي تظهر ليلاً وتختفي نهاراً قال المفسرون: سُمي النجم طارقاً لأنه إِنما يظهر بالليل ويختفي بالنهار، وكلُّ ما يجيء ليلاً فهو طارق {وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ} استفهام للتفخيم والتعظيم أي وما الذي أعلمك يا محمد ما حقيقة هذا النجم ؟ ثم فسره بقوله {النَّجْمُ الثَّاقِبُ} أي النجم المضيء الذي يثقب الظلام بضيائه قال الصاوي: قد كثر منه تعالى في كتابه المجيد ذكرُ الشمس والقمر والنجوم، لأن أحوالها في أشكالها وسيرها ومطالعها، ومغاربها عجيبة دالة على انفراد خالقها بالكمالات، لأن الصّنعة تدل على الصانع {إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ} هذا جواب القسم أي كلُّ نفسٍ إِلا عليها حافظ من الملائكة، يحفظ عملها ويحصي عليها ما تكسب من خيرٍ وشر كقوله {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ* كِرَامًا كَاتِبِينَ} قال ابن كثير: أي كلُّ نفسٍ عليها من الله حافظ يحرسها من الآفات .. ثم أمر تعالى بالنظر والتفكر في خلق الإِنسان، تنبيهاً على إمكان البعث والحشر فقال {فَلْينظُرِ الإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ} ؟ أي فلينظر الإِنسان في أول نشأته نظرة تفكر واعتبار، من أي شيءٍ خلقه الله ؟ {خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ} أي خلق من المنيّ المتدفق، الذي ينصب بقوة وشدة، يتدفق من الرجل والمرأة فيتكون منه الولد بإذن الله {يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ} أي يخرج هذا الماء من بين الصلب وعظم الصدر، من الرجل والمرأة {إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ} أي إن الله تعالى الذي خلق الإِنسان ابتداءً، قادر على إِعادته بعد موته قال ابن كثير: نبه تعالى الإِنسان على ضعف أصله الذي خلق منه، وأرشده إِلى الاعتراف بالمعاد، لأن من قدر على البداءة، فهو قارد على الإِعادة بطريق الأولى {يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ} أي يوم تمتحن القلوب وتختبر، ويُعرف ما بها من العقائد والنيات، ويميز بين ما طاب منها وما خبث {فَمَا لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلا نَاصِرٍ} أي فليس للإِنسان في ذلك الوقت قوة تدفع عنه العذاب، ولا ناصر ينصره ويجيره، قال ابن جزي : لما كان دفع المكاره في الدنيا إِما بقوة الإِنسان، أو بنصرة غيره له، أخبره الله تعالى أنه يعدمها يوم القيامة، فلا قوة له في نفسه، ولا أحد ينصره من الله.



قسمه تعالى على صدق الكتاب المعجز



{وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْعِ(11)وَالأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ(12)إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ(13)وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ(14)إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا(15)وَأَكِيدُ كَيْدًا(16)فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا(17)}.



ولما ذكر تعالى أمر المبدأ والمعاد، عاد فأقسم على صدق هذا الكتاب المعجز فقال {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْعِ} أي أُقسم بالسماء ذات المطر، الذي يرجع على العباد حيناً بعد حين قال ابن عباس: الرَّجع المطرُ ولولاه لهلك الناس وهلكت مواشيهم {وَالأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ} أي وأُقسم بالأرض التي تتصدع وتنشق، فيخرج منها النبات والأشجار والأزهار قال ابن عباس: هو انصداعها عن النبات والثمار .. أقسم سبحانه وتعالى بالسماء التي تفيض علينا الماء، وبالأرض التي تخرج لنا الثمار والنبات، والسماء للخلق كالأب، والأرض لهم كالأم، ومن بينهما تتولد النعم العظيمة، والخيرات العميمة، التي بها بقاء الإِنسان والحيوان {إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ} أي إِن هذا القرآن لقولٌ فاصل بين الحق والباطل، قد بلغ الغاية في بيانه وتشريعه وإِعجازه {وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ} أي ليس فيه شيءٌ من اللهو والباطل والعبث، بل هو جدٌّ كله، لأنه كلام أحكم الحاكمين، فجديرٌ بقارئه أن يتعظ بآياته، ويستنير بتوجيهاته وإِرشاداته {إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا} أي إِن هؤلاء المشركين - كفار مكة - يعملون المكايد لإِطفاء نور الله، وإِبطال شريعة محمد صلى الله عليه وسلم {وَأَكِيدُ كَيْدًا} أي وأجازيهم على كيدهم بالإِمهال ثم النكال، حيث آخذهم أخذ عزيزٍ مقتدر كقوله تعالى {سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ} قال أبو السعود: أي أقابلهم بكيد متين لا يمكن رده حيث أستدرجهم من حيث لا يعلمون {فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا} أي لا تستعجل في هلاكهم والانتقام منهم، وأمهلهم قليلاً فسوف ترى ما أصنع بهم، وهذا منتهى الوعيد والتهديد.

yacine414
2011-04-02, 10:08
سورة الأَعْلَى



تنزيه الله عز وجل وتمجيده

التذكير، وتطهير النفس من الشرك، وتفضيل الآخرة على الدنيا



بَين يَدَيْ السُّورَة



* سورة الأَعْلَى من السور المكية، وهي تعالج باختصار المواضيع الآتية :

1- الذاتِ العلية وبعض صفات الله جل وعلا، والدلائل على القدرة والوحدانية.

2- الوحي والقرآن المنزَّل على خاتم الرسل صلى الله عليه وسلم وتيسير حفظه عليه صلى الله عليه وسلم.

3- الموعظة الحسنة التي ينتفع بها أهل القلوب الحيَّة، ويستفيد منها أهل السعادة والإِيمان.

* ابتدأت السورة الكريمة بتنزيه الله جل وعلا، الذي خلق فأبدع، وصوَّر فأحسن، وأخرج العشب، والنبات، رحمة بالعباد {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى * الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى * وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى..} الآيات.

* ثم تحدثت عن الوحي والقرآن، وآنست الرسول صلى الله عليه وسلم بالبشارة بتحفيظه هذا الكتاب المجيد، وتيسير حفظه عليه، بحيث لا ينْساه أبداً {سَنُقْرِئُكَ فلا تَنسَى* إِلا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى}.



* ثم أمرت بالتذكير بهذا القرآن، الذي يستفيدُ من نوره المؤمنون، ويتعظ بهديه المتقون، {فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتْ الذِّكْرَى* سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى* وَيَتَجَنَّبُهَا الأَشْقَى..} الآيات.



* وختمت السورة ببيان فوز من طهَّر نفسه من الذنوب والآثام، وزكاها بصالح الأعمال {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى* وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى} إِلى نهاية السورة الكريمة.



تنزيه الله عز وجل وتمجيده



{سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى(1)الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى(2)وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى(3)وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى(4)فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى(5)سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنسَى(6)إِلا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى(7)وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى(8)}.



{سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} أي نزِّه يا محمد ربك العلي الكبير عن صفات النقص، وعما يقوله الظالمون، مما لا يليق به سبحانه وتعالى من النقائص والقبائح، وفي الحديث أنه صلى الله عليه وسلم كان إِذا قرأ هذه الآية قال: "سبحان ربي الأعلى" .. ثم ذكر من أوصافه الجليلة، ومظاهر قدرته الباهرة، ودلائل وحدانيته وكماله فقال {الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى} أي خلق المخلوقات جميعها، فأتقن خلقها، وأبدع صنعها، في أجمل الأشكال، وأحسن الهيئات قال أبو حيّان: أي خلق كل شيء فسواه، بحيث لم يأت متفاوتاً، بل متناسباً على إحكام وإتقان، للدلالة على أنه صادر من عالم حكيم {وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى} أي قدَّر في كل شيء خواصه ومزاياه بما تجلُّ عنه العقول والأفهام، وهدى الإِنسان لوجه الانتفاع بما أودعه فيها، وهدى الإِنعام إلى مراعيها، ولو تأملت ما في النباتات من الخواص، وما في المعادن من المزايا والمنافع، واهتداء الإِنسان لاستخراج الأدوية والعقاقير النافعة من النباتات، واستخدام المعادن في صنع المدافع والطائرات، لعلمتَ حكمةَ العلي القدير، الذي لولا تقديره وهدايته لكنا نهيم في دياجير الظلام كسائر الأنعام قال المفسرون: إِنما حذف المفعول لإفادة العموم أي قدَّر لكل مخلوق وحيوان ما يصلحه، فهداه إليه وعَرَّفه وجه الانتفاع به {وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى} أي أنبت ما ترعاه الدواب، من الحشائش والأعشاب {فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى} أي فصيَّره بعد الخضرة أسود بالياً، بعد أن كان ناضراً زاهياً، ولا يخفى ما في المرعى من المنفعة بعد صيرورته هشيماً يابساً، فإنه يكون طعاماً جيداً لكثير من الحيوانات، فسبحان من أحكم كل شيء {أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} !! وبعد أن ذكر دلائل قدرته ووحدانيته، ذكر فضله وإنعامه على رسوله فقال {سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنسَى} أي سنقرئك يا محمد هذا القرآن العظيم فتحفظه في صدرك ولا تنساه {إِلا مَا شَاءَ اللَّهُ} أي لكن ما أراد الله نسخه فإنك تنساه .. وفي هذه الآية معجزة له عليه الصلاة والسلام، لأنه كان أمياً لا يقرأ ولا يكتب، وكان مع ذلك لا ينسى ما أقرأه جبريل عليه السلام، وكونه يحفظ هذا الكتاب العظيم من غير دراسة ولا تكرار ولا ينساه أبداً، من أعظم البراهين على صدق نبوته صلى الله عليه وسلم قال ابن كثير: هذا إخبار من الله تعالى ووعدٌ لرسوله صلى الله عليه وسلم بأنه سيقرئه قراءة لا ينساها {إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى} أي هو تعالى عالم بما يجهر به العباد وما يخفونه من الأقوال والأفعال، لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء {وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى} أي ونوفقك للشريعة السمحة البالغة اليسر، التي هي أيسر وأسهل الشرائع السماوية، وهي شريعة الإِسلام.



التذكير، وتطهير النفس من الشرك، وتفضيل الآخرة على الدنيا



{فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى(9)سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى(10)وَيَتَجَنَّبُهَا الأَشْقَى(11) الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى(12)ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَا(13)قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى(14)وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى(15)بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا(16) وَالآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى(17)إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الأُولَى(18)صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى(19)}.



{فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى} أي فذكر يا محمد بهذا القرآن حيث تنفع الموعظة والتذكرة كقوله {فذكر بالقرآن من يخاف وعيد} قال ابن كثير: ومن ههنا يؤخذ الأدب في نشر العلم، فلا يضعه عند غير أهله، كما قال علي رضي الله عنه "ما أنت بمحدّث قوماً حديثاً لا تبلغه عقولهم، إلا كان فتنة لبعضهم" وقال: حدثوا الناس بما يعرفون، أتحبون أن يكذب الله ورسوله" ؟ {سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى} أي سينتفع بهذه الذكرى والموعظة من يخاف الله تعالى {وَيَتَجَنَّبُهَا الأَشْقَى} أي ويرفضها ويبتعد عن قبول الموعظة الكافر المبالغ في الشقاوة {الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى} أي الذي يدخل نار جهنم المستعرة، العظيمة الفظيعة قال الحسن: النار الكبرى نارُ الآخرة، والصغرى نارُ الدنيا {ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَا} أي لا يموت فيستريح، ولا يحيا الحياة الطيبة الكريمة، بل هو دائم في العذاب والشقاء {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى} أي قد فاز من طهَّر نفسه بالإِيمان، وأخلص عمله للرحمن {وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى} أي وذكر عظمة ربه وجلاله، فصلى خشوعاً وامتثالاً لأمره {بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} أي بل تفضلون أيها الناس هذه الحياة الفانية على الآخرة الباقية، فتشتغلون لها وتنسون الآخرة {وَالآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} أي والحال أن الآخرة خيرٌ من الدنيا وأبقى، لأن الدنيا فانية، والآخرة باقية،والباقي خيرٌ من الفاني، فكيف يؤثر عاقلٌ ما يفنى على ما يبقى ؟ وكيف يهتم بدار الغرور. ويترك الاهتمام بدار البقاء والخلود ؟ قرأ ابن مسعود هذه الآية فقال لأصحابه: أتدرون لم آثرنا الحياة الدنيا على الآخرة ؟ قالوا: لا، قال: لأن الدنيا أحضرت وعجلت لنا بطعامها، وشرابها، ونسائها، ولذاتها، وبهجتها، وإن الآخرة غُيبتْ وزُويت عنا، فأحببنا العاجل، وتركنا الآجل {إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الأُولَى* صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى} أي إنَّ هذه المواعظ المذكورة في هذه السورة، مثبتة في الصحف القديمة المنزلة على إبراهيم وموسى عليهما السلام، فهي مما توافقت فيه الشرائع، وسطرته الكتب السماوية، كما سطره هذا الكتاب المشهود.

yacine414
2011-04-02, 10:08
سورة الْغَاشِيَة



أهوال القيامة وأحوال الكفار في النار

حال السعداء أهل الجنة

التفكر في الخلق



بَين يَدَيْ السُّورَة



* سورة الْغَاشِيَة مكية، وقد تناولت موضوعين أساسيين وهما :

1- القيامة وأحوالها وأهوالها، وما يلقاه الكافر من العناء والبلاء، وما يلقاه المؤمن فيها من السعادة والهناء.

2- الأدلة والبراهين على وحدانية رب العالمين، وقدرته الباهرة، في خلق الإِبل العجيبة، والسماء البديعة، والجبال المرتفعة، والأرض الممتدة الواسعة، وكلها شواهد على وحدانية الله وجلال سلطانه. وختمت السورة الكريمة بالتذكير برجوع الناس جميعاً إلى الله سبحانه للحساب والجزاء.





أهوال القيامة وأحوال الكفار في النار



{هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ(1)وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ(2)عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ(3)تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً(4)تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ(5)لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلا مِنْ ضَرِيعٍ(6)لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ(7)}.



{هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ} الاستفهام للتشويق إلى استماع الخبر، وللتنبيه والتفخيم لشأنها أي هل جاءك يا محمد خبرُ الداهية العظيمة التي تغشى الناس وتعمُّهم بشدائدها وأهوالها، وهي القيامة ؟ قال المفسرون: سميت غاشية لأنها تغشى الخلائق بأهوالها وشدائدها، وتعمُّهم بما فيها من المكاره والكوارث العظيمة {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ} أي وجوهٌ في ذلك اليوم ذليلة خاضعةٌ مهينة {عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ} أي دائبة العمل فيما يُتعبها ويشقيها في النار قال المفسرون: هذه الآية في الكفار، يتعبون ويشقون بسبب جر السلاسل والأغلال، وخوضهم في النار خوض الإِبل في الوحل، والصعود والهبوط في تلالها ودركاتها كما قال تعالى {إِذْ الأَغْلالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ* فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ} وهذا جزاء تكبرهم في الدنيا عن عبادة الله، وانهماكهم في اللذات والشهوات {تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً} أي تدخل ناراً مسعَّرة شديدة الحر قال ابن عباس: قد حميت فهي تتلظى على أعداء الله {تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ} أي تسقى من عين متناهية الحرارة، وصل حرها وغليانها درجة النهاية {لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلا مِنْ ضَرِيعٍ} أي ليس لأهل النار طعام إلا الضريع وهو نبتٌ ذو شوك تسميه قريش "الشبرق" وهو أخبث طعامِ وأبشعه وهو سم قاتل قال قتادة: هو شر الطعام وأبشعه وأخبثه .. ذكر تعالى هنا أن طعامهم الضريع {لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلا مِنْ ضَرِيعٍ} وقال في الحاقَّة {وَلا طَعَامٌ إِلا مِنْ غِسْلِينٍ} ولا تنافي بينهما، لأن العقاب ألوان، والمعذبون أنواع، فمنهم من يكون طعامه الزقوم، ومنهم من يكون طعامه الضريع، ومنهم من يكون طعامه الغسلين، وهكذا يتنوع العذاب {لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ} أي لا يفيد القوة والسمن في البدن، ولا يدفع الجوع عن آكله قال أبو السعود: أي ليس من شأنه الإِسمانُ والإِشباع، كما هو شأن طعام الدنيا، وقد روي أنه يُسلَّط عليهم الجوع بحيث يضطرهم إلى أكل الضريع، فإذا أكلوه يُسلط عليهم العطش فيضطرهم إلى شرب الحميم، فيشوي وجوههم ويقطع أمعاءهم {وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءهُمْ}.





حال السعداء أهل الجنة



{وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاعِمَةٌ(8)لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ(9)فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ(10)لا تَسْمَعُ فِيهَا لاغِيةً(11)فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ(12)فِيهَا سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ(13)وَأَكْوَابٌ مَوْضُوعَةٌ(14)وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ(15)وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ(16) }.



ولما ذكر حال الأشقياء أهل النار، أتبعه بذكر حال السعداء أهل الجنة فقال {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاعِمَةٌ} أي وجوه المؤمنين يوم القيامة ناعمة ذات بهجةٍ وحسن، وإشراق ونضارة كقوله تعالى {تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ} {لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ} أي لعملها الذي عملته في الدنيا وطاعتها لله راضية مطمئنة، لأن هذا العمل أورثها الفردوس دار المتقين {فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ} أي في حدائق وبساتين مرتفعة مكاناً وقدراً، وهم في الغرفات آمنون {لا تَسْمَعُ فِيهَا لاغِيَةً} أي لا تسمع في الجنة شتماً، أو سباً، أو فحشاً قال ابن عباس: لا تسمع أذى ولا باطلاً {فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ} أي فيها عيونٌ تجري بالماء السلسبيل لا تنقطع أبداً قال الزمخشري: التنوين في {عينٌ} للتكثير أي عيونٌ كثيرة تجري مياهها {فِيهَا سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ} أي في الجنة أسرة مرتفعة، مكلله بالزبرجد والياقوت، عليها الحور العين، فإِذا أراد وليُّ الله أن يجلس على تلك السرر العالية تواضعت له {وَأَكْوَابٌ مَوْضُوعَةٌ} أي واقداح موضوعة على حافات العيون، معدة لشرابهم لا تحتاج إلى من يملأَها {وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ} أي ووسائد - مخدَّات - قد صُفَّ بعضها إلى جانب بعض ليستندوا عليها {وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ} أي وفيها طنافس فاخرة لها حمل رقيق مبسوطة في أنحاء الجنة.



التفكر في الخلق



{أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ(17)وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ(18)وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ(19)وَإِلَى الأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ(20)فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ(21)لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ(22)إِلا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ(23)فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الأَكْبَرَ(24)إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ(25)ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ(26)}



سبب النزول :

نزول الآية (17) :

{أَفَلا يَنْظُرُونَ..}: أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وعبد بن حميد عن قتادة قال: لما نعت الله ما في الجنة، عجب من ذلك أهل الضلالة، فأنزل الله: {أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ}.



ثم ذكر تعالى الدلائل والبراهين الدالة على قدرته ووحدانيته فقال {أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ} أي أفلا ينظر هؤلاء الناس نظر تفكر واعتبار، إلى الإِبل - الجمال - كيف خلقها الله خلقاً عجيباً بديعاً يدل على قدرة خالقها ؟! قال ابن جزي: في الآية حضٌ على النظر في خلقتها، لما فيها من العجائب في قوتها، وانقيادها مع ذلك لكل ضعيف، وصبرها على العطش، وكثرة المنافع التي فيها، من الركوب والحمل عليها، وأكل لحومها، وشرب ألبانها وغير ذلك {وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ} أي وإلى السماء البديعة المحكمة، كيف رفع الله بناءها، وأعلى سمكها بلا عمد ولا دعائم ؟ {وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ} أي إلى الجبال الشاهقة كيف نصبت على الأرض نصباً ثابتاً راسخاً لا يتزلزل ؟ ! {وَإِلَى الأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ} أي وإلى الأرض التي يعيشون عليها، كيف بسطت ومُهدت حتى صارت شاسعة واسعة يستقرون عليها، ويزرعون فيها أنواع المزروعات؟! قال الألوسي: ولا ينافي هذا، القول بأنها كرة أو قريبة من الكرة لمكان عظمها. والحكمةُ في تخصيص هذه الأشياء بالذكر، أن القرآن نزل على العرب وكانوا يسافرون كثيراً في الأودية والبراري منفردين عن الناس، والإِنسان إذا ابتعد عن المدينة أقبل على التفكر، فأول ما يقع بصره على البعير الذي يركبه فيرى منظراً عجيباً، وإن نظر فوقه لم ير غير السماء، وإن نظر يميناً وشمالاً لم ير غير الجبال، وإن نظر إلى أسفل من بعيره الذي هو راكبٌ عليه لم يرَ غير الأرض وهذه كلها مخلوقات تدلّ على قدرة خالق ذلك وصانعه، وأنه الرب العظيم، الخالق المالك المتصرف، الذي لا يستحق العبادة سواه .. ولما ذكر تعالى دلائل التوحيد ولم يعتبر بذلك الكفار، أمر نبيه صلى الله عليه وسلم بوعظهم وتذكيرهم فقال {فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ} أي فعظهم يا محمد وخوّفهم، ولا يهمنَّك أنهم لا ينظرون ولا يتفكرون، فإنما أنت واعظ ومرشد {لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ} أي لست بمتسلط عليهم ولا قاهر لهم حتى تجبرهم على الإِيمان {إِلا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ} أي لكن من أعرض عن الوعظ والتذكير، وكفر بالله العلي القدير {فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الأَكْبَرَ} أي فيعذبه الله بنار جهنم الدائم عذابها قال القرطبي: وإنما قال {الأَكْبَرَ} لأنهم عُذبوا في الدنيا بالجوع والقحط والقتل والأسر {إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ} أي إلينا رجوعهم بعد الموت {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ} أي ثم إن علينا وحدنا حسابهم وجزاءهم.

yacine414
2011-04-02, 10:09
سورة الْفَجْر



التذكير بقوم عاد وثمود وفرعون وما حل بهم من العذاب

حال الطغاة المتجبرين، وجحود الإنسان

ندم المقصرين عند رؤية العذاب



بَين يَدَيْ السُّورَة



* سورة الْفَجْر مكية، وهي تتحدث عن أمور ثلاثة رئيسية وهي :



1- ذكر قصص بعض الأمم المكذبين لرسل الله، كقوم عاد، وثمود، وقوم فرعون، وبيان ما حلَّ بهم من العذاب والدمار بسبب طغيانهم {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ..} الآيات.



2- بيان سنة الله تعالى في ابتلاء العباد في هذه الحياة بالخير والشر، والغنى والفقر، وطبيعة الإِنسان في حبه الشديد للمال {فَأَمَّا الإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ..} الآيات.



3- الآخرة وأهوالها وشدائدها، وانقسام الناس يوم القيامة إِلى سعداء وأشقياء، وبيان مآل النفس الشريرة، والنفس الكريمة الخيِّرة {كَلا إِذَا دُكَّتْ الأَرْضُ دَكًّا دَكًّا* وَجَآءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا* وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى} إِلى نهاية السورة الكريمة.



التذكير بقوم عاد وثمود وفرعون وما حل بهم من العذاب



{وَالْفَجْرِ(1)وَلَيَالٍ عَشْرٍ(2)وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ(3)وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ(4)هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ(5)أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ(6)إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ(7)الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلادِ(8)وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ(9)وَفِرْعَوْنَ ذِي الأَوْتَادِ(10)الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ(11)فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ(12)فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ(13)إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ(14)}.



{وَالْفَجْرِ* وَلَيَالٍ عَشْرٍ} هذا قسمٌ أي أُقسم بضوء الصبح عند مطاردته ظلمة الليل، وبالليالي العشر المباركات من أول ذي الحجة، لأنها أيام الاشتغال بأعمال الحج قال المفسرون : أقسم تعالى بالفجر لما فيه من خشوع القلب في حضرة الرب، وبالليالي الفاضلة المباركة وهي عشر ذي الحجة، لأنها أفضل أيام السنة، كما ثبت في صحيح البخاري (ما من أيام العمل الصالح أحبُّ إِلى الله فيهن من هذه الأيام - يعني عشر ذي الحجة - قالوا: ولا الجهاد في سبيل الله ؟ قال: ولا الجهادُ في سبيل الله، إِلا رجلاً خرج بنفسه وماله ثم لم يرجع من ذلك بشيء) {وَالشَّفعِ وَالْوَتْرِ} أي وأُقسم بالزوج والفرد من كل شيء فكأنه تعالى أقسم بكل شيء، لأن الأشياء إِما زوجٌ وإِما فردٌ، أو هو قسمٌ بالخلق والخالق، فإِن الله تعالى واحد "وتر" والمخلوقات ذكرٌ وأنثى "شفع" {وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ} أي وأُقسم بالليل إِذا يمضي بحركة الكون العجيبة، والتقييد بسريانه لما فيه من وضوح الدلالة على كمال القدرة، ووفور النعمة {هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ} أي هل فيما ذكر من الأشياء قسمٌ مقنع لذي لب وعقل ؟! والاستفهام تقريريٌ لفخامة شأن الأمور المقسم بها، كأنه يقول : إِن هذا لقسمٌ عظيمٌ عند ذوي العقول والألباب، فمن كان ذا لُب وعقل علم أن ما أقسم الله عز وجل به من هذه الأشياء فيها عجائب، ودلائل تدل على توحيده وربوبيته، فهو حقيق بأن يُقسم به لدلالته على الإِله الخالق العظيم قال القرطبي: قد يُقسم الله بأسمائه وصفاته لعلمه، ويُقسم بأفعاله لقدرته كما قال تعالى {وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالأُنْثَى} ويُقسم بمفعولاته لعجائب صنعه كما قال {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا} {وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ} {وَالْفَجْرِ* وَلَيَالٍ عَشْرٍ} وجواب القسم محذوف تقديره: ورب هذه الأشياء ليعذبنَّ الكفار، ويدل عليه قوله {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ} ؟ أي ألم يبلغك يا محمد ويصل إِلى علمك، ماذا فعل الله بعاد قوم هود ؟ {إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ} أي عاداً الأولى أهل إرم ذات البناء الرفيع، الذين كانوا يسكنون بالأحقاف بين عُمان وحضرموت {الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلادِ} أي تلك القبيلة التي لم يخلق الله مثلهم في قوتهم، وشدتهم، وضخامة أجسامهم ! والمقصود من ذلك تخويف أهل مكة بما صنع تعالى بعاد، وكيف أهلكهم وكانوا أطول أعماراً، وأشدَّ قوة من كفار مكة؟! قال ابن كثير: وهؤلاء "عاد الأولى" وهم الذين بعث الله فيهم رسوله "هوداً" عليه السلام فكذبوه وخالفوه وكانوا عتاة متمردين جبارين، خارجين عن طاعة الله مكذبين لرسله، فذكر تعالى كيف أهلكهم ودمَّرهم، وجعلهم أحاديث وعِبراً {وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ} أي وكذلك ثمود الذين قطعوا صخر الجبال، ونحتوا بيوتاً بوادي القُرى {وكانوا ينحتون من الجبال بيوتاً آمنين} وكانت مساكنهم في الحجر بين الحجاز وتبوك قال المفسرون: أول من نحت الجبال والصخور والرخام قبيلة ثمود وكانوا لقوتهم يخرجون الصخور، وينقبون الجبال فيجعلونها بيوتاً لأنفسهم، وقد بنوا ألفاً وسبعمائة مدينة كلها بالحجارة بوادي القرى {وَفِرْعَوْنَ ذِي الأَوْتَادِ} أي وكذلك فرعون الطاغية الجبار، ذي الجنود والجموع والجيوش التي تشد ملكه قال أبو السعود: وصف بذلك لكثرة جنوده وخيامهم التي يضربونها في منازلهم أو لتعذيبه بالأوتاد {الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ} أي أولئك المتجبرين "عاداً، وثمود، وفرعون" الذين تمردوا وعتوا عن أمر الله، وجاوزوا الحدَّ في الظلم والطغيان {فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ} أي فأكثروا في البلاد الظلم والجور والقتل، وسائر المعاصي والآثام {فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ} أي فأنزل عليهم ربك ألواناً شديدة من العذاب بسب إِجرامهم وطغيانهم قال المفسرون: استعمل لفظ الصبّ لاقتضائه السرعة في النزول على المضروب، كما قال القائل "صببنا على الظالمين سياطنا" والمراد أنه تعالى أنزل على كل طائفة نوعاً من العذاب، فأُهلكت عادٌ بالريح، وثمود بالصيحة، وفرعون وجنوده بالغرق كما قال تعالى {فَكُلا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا} {إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ} أي إِن ربك يا محمد ليرقب عمل الناس، ويحصيه عليهم، ويجازيهم به قال ابن جزي: المرصاد المكان الذي يترقب فيه الرصد، والمراد أنه تعالى رقيب على كل إِنسان، وأنه لا يفوته أحد من الجبابرة والكفار، وفي ذلك تهديدٌ لكفار قريش.



حال الطغاة المتجبرين، وجحود الإنسان



{فَأَمَّا الإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ(15)وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ(16)كَلا بَل لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ(17)وَلا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ(18)وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلاً لَمًّا(19)وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا(20)}.



ولما ذكر تعالى ما حلَّ بالطغاة المتجبرين، ذكر هنا طبيعة الإِنسان الكافر، الذي يبطر عند الرخاء، ويقنط عند الضراء فقال {فَأَمَّا الإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ} أي إِذا اختبره وامتحنه ربه بالنعمة {فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ} أي فأكرمه بالغنى واليسار، وجعله منعماً في الدنيا بالبنين والجاه والسلطان {فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ} أي فيقول ربي أحسن إليَّ بما أعطاني من النعم التي أستحقها، ولم يعلم أن هذا ابتلاء له أيشكر أم يكفر ؟ {وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ} أي وأما إِذا اختبره وامتحنه ربه بالفقر وتضييق الرزق {فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ} أي فيقول غافلاً عن الحكمة: إِن ربي أهانني بتضييقه الرزق عليَّ قال القرطبي: وهذه صفة الكافر الذي لا يؤمن بالبعث، وإِنما الكرامة عنده والهوان بكثرة الحظّ في الدنيا وقلّته، وأما المؤمن فالكرامة عنده أن يكرمه الله بطاعته وتوفيقه المؤدي إلى حظ الآخرة، وإِن وسَّع عليه في الدنيا حمده وشكره، وإِنما أنكر تعالى على الإِنسان قوله {رَبِّي أَكْرَمَنِ} وقوله {رَبِّي أَهَانَنِ} لأنه إِنما قال ذلك على وجه الفخر والكبر، لا على وجه الشكر، وقال: أهانن على وجه التشكي من الله وقلة الصبر، وكان الواجب عليه أن يشكر على الخير، ويصبر على الشر، ولهذا ردعه وزجره بقوله {كَلا بَل لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ} أي ليس الإِكرام بالغنى، والإِهانة بالفقر كما تظنون، بل الإِكرام والإِهانة بطاعة الله ومعصيته ولكنكم لا تعلمون، ثم قال { بَل لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ} أي بل أنتم تفعلون ما هو شرٌ من ذلك، وهو أنكم لا تكرمون اليتيم مع إِكرام الله لكم بكثرة المال !! {وَلا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ} أي ولا يحض بعضكم بعضاً ولا يحثه على إِطعام المحتاج وعون المسكين {وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلاً لَمًّا} أي وتأكلون الميراث أكلاً شديداً، لا تسألون أمن حلالٍ هو أم من حرام ؟ قال ابن جزي: هو أن يأخذ في الميراث نصيبه ونصيب غيره، لأن العرب كانوا لا يُعطون من الميراث أنثى ولا صغيرا، بل ينفرد به الرجال {وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا} أي وتحبون المال حباً كثيراً مع الحرص والشره، وهذا ذمٌ لهم لتكالبهم على المال، وبخلهم بإِنفاقه.





ندم المقصرين عند رؤية العذاب



{كَلا إِذَا دُكَّتِ الأَرْضُ دَكًّا دَكًّا(21)وَجَآءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا(22)وَجِاْىءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى(23)يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي(24)فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ(25)وَلا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ(26)يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ(27)ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً(28)فَادْخُلِي فِي عِبَادِي(29)وَادْخُلِي جَنَّتِي(30)}.



سبب النزول :

نزول الآية (27) :

{يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ..} : أخرج ابن أبي حاتم عن بريدة في قوله: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ} قال : نزلت في حمزة.

وأخرج أيضاً عن ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من يشتري بئر رُومة، يستعذب بها، غفر الله له، فاشتراها عثمان، فقال : هل لك أن تجعلها سقاية للناس ؟ قال: نعم، فأنزل الله في عثمان: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ..}.



{كَلا إِذَا دُكَّتِ الأَرْضُ دَكًّا دَكًّا} {كَلا} للردع أي ارتدعوا أيها الغافلون وانزجروا عن ذلك، فأمامكم أهوال عظيمة في ذلك اليوم العصيب، وذلك حين تزلزل الأرض وتحرك تحريكاً متتابعاً، قال الجلال: أي زلزلت حتى ينهدم كل بناءٍ عليها وينعدم {وَجَآءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا} أي وجاء ربك يا محمد لفصل القضاء بين العباد، وجاءت الملائكة صفوفاً متتابعة صفاً بعد صف قال ابن جزي: قال المنذر بن سعيد: معناه ظهوره للخلق هنالك، وهذه الآية وأمثالها مما يجب الإِيمان به من غير تكييفٍ ولا تمثيل وقال ابن كثير: قام الخلائق من قبورهم لربهم، وجاء ربك لفصل القضاء بين خلقه، وذلك بعدما يستشفعون إِليه بسيد ولد آدم محمد صلى الله عليه وسلم، فيجيء الربُ تبارك وتعالى لفصل القضاء، والملائكة يجيئون بين يديه صفوفاً صفوفاً {وَجِاْىءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ} أي وأحضرت جهنم ليراها المجرمون كقوله {وَبُرِّزَتْ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرَى} وفي الحديث (يُؤتى بجهنم يومئذٍ لها سبعون ألف زمام، مع كل زمام سبعون ألف ملك يجرّونها) {يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الإِنْسَانُ} أي في ذلك اليوم الرهيب، والموقف العصيب، يتذكر الإِنسان عمله، ويندم على تفريطه وعصيانه، ويريد أن يقلع ويتوب {وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى} أي ومن أين يكون له الانتفاع بالذكرى وقد فات أوانها ؟! {يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي} أي يقول نادماً متحسراً: يا ليتني قدمت عملاً صالحاً ينفعني في آخرتي، لحياتي الباقية قال تعالى {فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ} أي ففي ذلك اليوم ليس أحد أشد عذاباً من تعذيب الله من عصاه {وَلا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ} أي ولا يقيد أحدٌ بالسلاسل والأغلال مثل تقييد الله للكافر الفاجر، وهذا في حق المجرمين من الخلائق، فأما النفس الزكية المطمئنة فيقال لها {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ} أي يا أيتها النفس الطاهرة الزكية المطمئنة بوعد الله التي لا يلحقها اليوم خوفٌ ولا فزع {ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً} أي ارجعي إِلى رضوان ربك وجنته، راضيةً بما أعطاك الله من النعم، مرضيةً عنده بما قدمت من عمل قال المفسرون: هذا الخطاب والنداء يكون عند الموت، فيقال للمؤمن عند احتضاره تلك المقالة {فَادْخُلِي فِي عِبَادِي} أي فادخلي في زمرة عبادي الصالحين {وَادْخُلِي جَنَّتِي} أي وادخلي جنتي دار الأبرار الصالحين.

yacine414
2011-04-02, 10:12
سورة البلد



اغترار الإنسان بقوته

تذكير الله بنعمه للعظة والتوجيه



بَين يَدَيْ السُّورَة



* هذه السورة الكريمة مكية، وأهدافها نفس أهداف السور المكية، من تثبيت العقيدة والإِيمان، والتركيز على الإِيمان بالحساب والجزاء، والتمييز بين الأبرار والفجار.



* ابتدأت السورة الكريمة بالقسم بالبلد الحرام، الذي هو سكنُ النبي عليه الصلاة والسلام، تعظيماً لشأنه، وتكريماً لمقامه الرفيع عند ربه، ولفتاً لأنظار الكفار إلى أن إيذاء الرسول في البلد الأمين من أكبر الكبائر عند الله تعالى.



* ثم تحدثت عن بعض كفار مكة، الذين اغتروا بقوتهم، فعاندوا الحقَّ، وكذبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنفقوا أموالهم في المباهاة والمفاخرة، ظناً منهم أن إنفاق الأموال يدفع عنهم عذاب الله، وقد ردت عليهم الآيات بالحجة القاطعة والبرهان الساطع.



* ثم تناولت أهوال القيامة وشدائدها، وما يكون بين يدي الإِنسان في الآخرة من مصاعب ومتاعب وعقباتٍ لا يستطيع أن يقطعها ويجتازها إلا بالإِيمان والعمل الصالح.



* وختمت السورة الكريمة بالتفريق بين المؤمنين والكفار في ذلك اليوم العصيب، وبينت مآل السعداء، ومآل الأشقياء، في دار الجزاء.





اغترار الإنسان بقوته



{لا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ(1)وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ(2)وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ(3)لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي كَبَدٍ(4)أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ(5)يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالاً لُبَدًا(6)أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ(7)}.



سبب النزول:

نزول الآية (5) :

{أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقدِرَ}: روي أن هذه الآية: {أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ؟} نزلت في أبي الأشدّ بن كَلَدة الْجُمَحي، الذي كان مغتراً بقوته البدنية. قال ابن عباس: كان أبو الأشدّين يقول: أنفقت في عداوة محمد مالاً كثيراً، وهو في ذلك كاذب.



نزول الآية (6) :

{يَقُولُ أَهْلَكْتُ..} قال مقاتل: نزلت في الحارث بن عامر بن نوفل، أذنب، فاستفتى النبي صلى الله عليه وسلم، فأمره أن يُكَفِّر، فقال: لقد ذهب مالي في الكفّارات والنفقات، منذ دخلت في دين محمد. وهذا القول منه يحتمل أن يكون استطالة بما أنفق، فيكون طغياناً منه، أو أسفاً عليه، فيكون ندماً منه.



{لا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ} هذا قسمٌ، أقسم سبحانه بالبلد الحرام "مكة" التي شرَّفها الله تعالى بالبيت العتيق - قبلة أهل الشرق والغرب - وجعلها مهبط الرحمات، وإليها تجبى ثمرات كل شيء، وجعلها حرماً آمناً، وجعل حرمتها منذ خلق السماوات والأرض، فلما استجمعت تلك المزايا والفضائل أقسم الله تعالى بها قال ابن جزي: أراد بالبلد "مكة" باتفاق، وأقسم بها تشريفاً لها {وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ} أي وأنت يا محمد ساكنٌ ومقيم بمكة بلد الله الأمين قال البيضاوي أقسم بالبلد الحرام وقيَّده بحلوله عليه السلام فيه - أي إقامته فيه - إظهاراً لمزيد فضله، وإشعاراً بأن شرف المكان بشرف أهله {وَوَالِدٍ} أي وأُقسم بآدم وذريته الصالحين قال مجاهد: الوالد آدم عليه السلام {وَمَا وَلَدَ} جميع ذريته قال ابن كثير: وما ذهب إليه مجاهد وأصحابه حسنٌ قوي، لأنه تعالى لما أقسم بأُم القرى وهي المساكن، أقسم بعده بالساكن وهو "آدم" أبو البشر وولده وقال الخازن: أقسم الله تعالى بمكة لشرفها وحرمتها، وبآدم بالأنبياء والصالحين من ذريته، لأن الكافر - وإن كان من ذريته - لا حرمة له حتى يقسم به {لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي كَبَدٍ} هذا هو المقسم عليه أي لقد خلقنا الإِنسان في تعب ومشقة، فإنه لا يزال يقاسي أنواع الشدائد، من وقت نفخ الروح فيه إلى حين نزعها منه قال ابن عباس: {فِي كَبَدٍ} أي في مشقة وشدة، من حمله، وولادته، ورضاعه، وفطامه، ومعاشه، وحياته، وموته، وأصل الكبد: الشدة، وقيل: لم يخلق الله خلقاً يكابد ما يكابد ابن آدم، وهو مع ذلك أضعف الخلق قال أبو السعود: والآية تسليةٌ لرسول الله صلى الله عليه وسلم مما كان يكابده من كفار مكة .. ثم أخبر تعالى عن طبيعة الإِنسان الجاحد بقدرة الله، والمكذب للبعث والنشور فقال {أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ} أي أيظن هذا الشقي الفاجر، المغتر بقوته، أنَّ الله تعالى لا يقدر عليه لشدته وقوته ؟ قال المفسرون: نزلت في "أبي الأشد بن كلدة" كان شديداً مغتراً بقوته، وكان يبسط له الأديم – الجلد – فيوضع تحت قدميه، ويقول: من أزالني عنه فله كذا، فيجذبه عشرة فيتقطع قطعاً ولا تزلّ قدماه، ومعنى الآية: أيظن هذا القوي المارد، المستضعف للمؤمنين، أنه لن يقدر على الانتقام منه أحد ؟ {يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالاً لُبَدًا} أي يقول هذا الكافر: أنفقت مالاً كثيراً في عداوة محمد صلى الله عليه وسلم قال الألوسي: أي يقول فخراً ومباهاة على المؤمنين: أنفقت مالاً كثيراً، وأراد بذلك ما أنفقه "رياءً وسمعةً" وعبر عن الإِنفاق بالإِهلاك، إظهاراً لعدم الاكتراث، وأنه لم يفعل ذلك رجاء نفع، فكأنه جعل المال الكثير ضائعاً، وقيل يقول ذلك إظهاراً لشدة عداوته لرسول الله صلى الله عليه وسلم {أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ}؟ أي أيظن أنَّ الله تعالى لم يره حين كان ينفق، ويظن أن أعماله تخفى على رب العباد ؟ ليس الأمر كما يظن، بل إن الله رقيب مطلعٌ عليه، سيسأله يوم القيامة ويجازيه عليه.



تذكير الله بنعمه للعظة والتوجيه





{أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ(8)وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ(9)وَهَدَيْنَاهُ النجْدَيْنِ(10)فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ(11)وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ(12)فَكُّ رَقَبَةٍ(13)أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ(14)يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ(15)أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ(16)ثُمَّ كَانَ مِنْ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ(17)أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ(18)وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا هُمْ أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ(19)عَلَيْهِمْ نَارٌ مُوصَدَةٌ(20)}.



ثم ذكَّره تعالى بنعمه عليه ليعتبر ويتعظ فقال {أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ} أي ألم نجعل له عينين يبصر بهما ؟ {وَلِسَانًا} أي ولساناً ينطق به فيعبر عما في ضميره ؟ {وَشَفَتَيْنِ} أي وشفتين يطبقهما على فمه، ويستعين بهما على الأكل والشرب والنفخ وغير ذلك ؟ قال الخازن: يريد أن نعم الله على عبده متظاهرة، يقرره بها كي يشكره {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} أي وبينا له طريقي الخير والشر، والهدى والضلال، ليسلك طريق السعادة، ويتجنب طريق الشقاوة قال ابن مسعود: {النَّجْدَيْنِ} الخير والشر كقوله تعالى {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا} {فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ} أي فهلا أنفق ماله في اجتياز العقبة الكؤود، بدل أن ينفقه في عداوة محمد صلى الله عليه وسلم ؟! قال أبو حيّان: والعقبةُ استعارةٌ للعمل الشاق على النفس، من حيث بذل المال، تشبيهاً لها بعقبة الجبل وهو ما صعب منه وقت الصعود، فإنه يلحقه مشقة في سلوكها، ومعنى اقتحمها دخلها بسرعة وشدة، وهو مثلٌ ضربه الله تعالى لمجاهدة النفس، والهوى، والشيطان، حتى ينال رضى الرحمن {وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ} أي وما أعلمك ما اقتحام العقبة ؟ وفيه تعظيم لشأنها وتهويل .. ثم فسرها تعالى بقوله {فَكُّ رَقَبَةٍ} أي هي عتق الرقبة في سبيل الله، وتخليص صاحبها من الأسر والرقِّ، فمن أعتق رقبة كانت له فداء من النار {أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ} أي أو أن يطعم الفقير في يوم عصيب ذي مجاعة، قال الصاوي وقيَّد الإِطعام بيوم المجاعة، لأن إخراج المال فيه أشد على النفس {يَتِيماً ذَا مَقْرَبَةٍ} أي أطعم اليتيم الذي بينه وبينه قرابة {أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ} أو المسكين الفقير البائس الذي قد لصق بالتراب من فقره وضره، وهو كناية عن شدة الفقر والبؤس قال ابن عباس: هو المطروح على ظهر الطريق لا يقيه من التراب شيء {ثُمَّ كَانَ مِنْ الَّذِينَ آمَنُوا} أي عمل هذه القربات لوجه الله تعالى، وكان مع ذلك مؤمناً صادق الإِيمان قال المفسرون: وفي الآية إشارة إلى أن هذه القُرَب والطاعات لا تنفع إلا مع الإِيمان {وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ} أي وأوصى بعضهم بعضاً بالصبر على الإِيمان وطاعة الرحمن، وبالرحمة والشفقة على الضعفاء المساكين {أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ} أي هؤلاء الموصوفون بهذه الصفات الجليلة، هم أصحاب الجنة الذين يأخذون كتبهم بأيمانهم، ويسعدون بدخول جنات النعيم {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا هُمْ أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ} قرن بين الأبرار والفجار على طريقة القرآن في الترغيب والترهيب، لبيان المفارقة الهائلة بين أهل الجنة وأهل النار، وبين السعداء والأشرار أي والذين جحدوا نبوة محمد وكذبوا بالقرآن هم أهل الشمال - أهل النار - لأنهم يأخذون كتبهم بشمائلهم، وعبر عنهم بضمير الغائب إشارة إلى أنهم غائبون عن حضرة قدسه، وكرامة أُنسه {عَلَيْهِمْ نَارٌ مُوصَدَةٌ} أي عليهم نارٌ مطبقة مغلقة، لا يدخل فيها روحٌ ولا ريحان، ولا يخرجون منها أبد الزمان .. اللهم لا تقتلنا بغضبك، ولا تهلكنا بعذابك، ونجنا من ذلك يا رب.

yacine414
2011-04-02, 10:13
سورة الشَّمْس



قسمه تعالى بنفسه ومخلوقاته على فلاح التقيّ وخسران الشقيّ

الاعتبار بقصة ثمود، وحال من طغى



بَين يَدَيْ السُّورَة



* سورة الشَّمْس مكية، وقد تناولت موضوعين اثنين وهما:

1- موضوع النفس الإِنسانية، وما جبَلها الله عليه من الخير والشر، والهدى والضلال.

2- وموضوع الطغيان ممثلاً في {ثَمُودُ} الذين عقروا الناقة فأهلكهم الله ودمرهم.



* ابتدأت السورة الكريمة بالقسم بسبعة أشياء من مخلوقات الله جل وعلا، فأقسم تعالى بالشمس وضوئها الساطع، وبالقمر إِذا أعقبها وهو طالع، ثم بالنهار إِذا جلا ظلمة الليل بضيائه، وبالليل إِذا غطَّى الكائنات بظلامه، ثم بالقادر الذي أحكم بناء السماء بلا عمد، وبالأرض الذي بسطها على ما جمد، وبالنفس البشرية التي كملها الله وزينها بالفضائل والكمالات، أقسم بهذه الأمور على فلاح الإِنسان ونجاحه إِذا اتقى الله، وعلى شقاوته وخسرانه إِذا طغى وتمرد.



* ثم ذكر تعالى قصة {ثَمُودُ} قوم صالح حين كذبوا رسولهم، وطغوا وبغوا في الأرض، وعقروا الناقة التي خلقها الله تعالى من صخر أصم معجزةً لرسوله صالح عليه السلام، وما كان من أمر هلاكهم الفظيع الذي بقي عبرةً لمن يعتبر، وهو نموذج لكل كافرٍ فاجرٍ مكذب لرسل الله.



* وقد ختمت السورة الكريمة بأنه تعالى لا يخاف عاقبة إِهلاكهم وتدميرهم، لأنه {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ}.



قسمه تعالى بنفسه ومخلوقاته على فلاح التقيّ وخسران الشقيّ



{وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا(1)وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاهَا(2)وَالنَّهَارِ إِذَا جَلاهَا(3)وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا(4)وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا(5)وَالأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا(6)وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا(7)فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا(8)قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا(9)وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا(10)}.



{وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا} أي أُقسم بالشمس وضوئها الساطع إِذا أنار الكون وبدَّد الظلام {وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاهَا} أي وأُقسم بالقمر إِذا سطع مضيئاً، وتبع الشمس طالعاً بعد غروبها قال المفسرون: وذلك في النصف الأول من الشهر، إِذا غربت الشمس تلاها القمر في الإِضاءة وخلقها في النور، وحكمةُ القسم بالشمس أن العالم في وقت غيبة الشمس عنهم كالأموات، فإِذا ظهر الصبح وبزغت الشمس دبت فيهم الحياة، وصار الأموات أحياء فانتشروا لأعمالهم وقت الضحوة، وهذه الحالة تشبه أحوال القيامة، ووقتُ الضحى يشبه استقرار أهل الجنة فيها، والشمسُ والقمر مخلوقان لمصالح البشر، والقسم بهما للتنبيه على ما فيهما من المنافع العظيمة {وَالنَّهَارِ إِذَا جَلاهَا} أي وأقسم بالنهار إِذا جلا ظلمة الله بضيائه، وكشفها بنوره وقال ابن كثير: إِذا جلا البسيطة وأضاء الكون بنوره {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا} أي وأقسمُ بالليل إِذا غطَّى الكون بظلامه، ولفَّه بشبحه، فالنهار يجلي المعمورة ويظهرها، والليل يغطيها ويسترها، قال الصاوي: وأتى بالفعل مضارعاً { يَغْشَاهَا} ولم يقل {غشيها} مراعاةً للفواصل {وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا} أي وأقسم بالقادر العظيم الذي بنى السماء، وأحكم بناءها بلا عمد قال المفسرون: {وَمَا} اسم موصول بمعنى "منْ" أي والسماء ومن بناها والمراد به الله رب العالمين، بدليل قوله بعده {فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} كأنه قال: والقادر العظيم الشأن الذي بناها، فدلَّ بناؤها وإِحكامها على وجوده، وكمال قدرته {وَالأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا} أي وأقسمُ بالأرض ومن بسطها من كل جانب، وجعلها ممتدة ممهَّدة، صالحة لسكنى الإِنسان والحيوان، وهذا لا ينافي كرويتها كما قال المفسرون، لأن الغرض من الآية الامتنان بجعل الأرض ممتدة واسعة، ميسّرة للزراعة والفلاحة وسكنى الإِنسان {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا} أي وأقسمُ بالنفس البشرية وبالذي أنشأها وأبدعها، وجعلها مستعدة لكمالها، وذلك بتعديل أعضائها، وقواها الظاهرة والباطنة، ومن تمام تسويتها أن وهبها العقل الذي تميز به بين الخير والشر، والتقوى والفجور، ولهذا قال {فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} أي وعرَّفها الفجور والتقوى، وما تميز به بين رشدها وضلالها قال ابن عباس: بيَّن لها الخير والشر، والطاعة والمعصية، وعرَّفها ما تأتي وما تتقي قال المفسرون: أقسم سبحانه بسبعة أشياء "الشمس، والقمر، والليل، والنهار، والسماء، والأرض، والنفس البشرية" إِظهاراً لعظمة قدرته، وانفراده بالألوهية، واشارةً إِلى كثرة مصالح تلك الأشياء وعظم نفعها وأنها لا بد لها من صانع ومدبر لحركاتها وسكناتها وقال الإِمام الفخر الرازي: لما كانت الشمس أعظم المحسوسات، ذكرها تعالى مع أوصافها الأربعة الدالة على عظمها، ثم ذكر سبحانه ذاته المقدسة، ووصفها - جلَّ وعلا - بصفاتٍ ثلاث ليحظى العقل بإِدراك جلال الله تعالى وعظمته، كما يليق به جلَّ جلاله، فكان ذلك طريقاً إِلى جذب العقل من حضيض عالم المحسوسات، إِلى بيداء أوج كبريائه جلَّ شأنه {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا} هذا هو جواب القسم أي لقد فاز وأفلح من زكَّى نفسه بطاعة الله، وطهَّرها من دنس المعاصي والآثام {وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} أي وقد خسر وخاب من حقَّر نفسه بالكفر والمعاصي، وأوردها موارد الهلكة، فإِنَّ من طاوع هواه، وعصى أمر مولاه، فقد نقص من عداد العقلاء، والتحق بالجهلة الأغبياء.



العبرة بقصة ثمود، وحال من طغى



{كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا(11)إِذْ انْبَعَثَ أَشْقَاهَا(12)فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا(13)فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا(14)وَلا يَخَافُ عُقْبَاهَا(15) }.



ثم ضرب تعالى مثلاً لمن طغى وبغى، ولم يطهر نفسه من دنس الكفر والعصيان، فذكر {ثَمُودَ} قوم صالح عليه السلام فقال {كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا} أي كذبت ثمود نبيها بسبب طغيانها {إِذْ انْبَعَثَ أَشْقَاهَا} أي حين انطلق أشقى القوم بسرعةٍ ونشاط يعقر الناقة قال ابن كثير: وهو "قدار بن سالف" الذي قال الله فيه {فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَى فَعَقَرَ} وكان عزيزاً شريفاً في قومه، ورئيساً مطاعاً فيهم، وهو أشقى القبيلة {فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ} أي فقال لهم صالح عليه السلام {نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا} أي احذروا ناقة الله أن تمسوها بسوء، واحذروا أيضاً أن تمنعوها من سُقياها أي شربها ونصيبها من الماء كما قال تعالى {لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ} {فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا} أي فكذبوا نبيهم صالحاً وقتلوا الناقة، ولم يلتفتوا إلى تحذيره {فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا} أي فأهلكهم اللهُ ودمَّرهم عن آخرهم بسبب إِجرامهم وطغيانهم قال الخازن: والدمدمة: هلاكٌ باستئصال والمعنى أطبق عليهم العذاب طبقاً فلم ينفلت منهم أحد {فَسَوَّاهَا} أي فسوَّى بين القبيلة في العقوبة فلم يفلت منهم أحد، لا صغير ولا كبير، ولا غنيٌ ولا فقير {وَلا يَخَافُ عُقْبَاهَا} أي ولا يخاف تعالى عاقبة إِهلاكهم وتدميرهم، كما يخاف الرؤساء والملوك عاقبة ما يفعلون، لأنه تعالى لا يُسأل عما يفعل.

yacine414
2011-04-02, 10:14
سورة اللَّيْل



اختلاف عمل الخلائق وتباين طرقهم

قد أعذر من أنذر



بَين يَدَيْ السُّورَة



* سورة اللَّيْل مكية، وهي تتحدث عن سعي الإِنسان وعمله، وعن كفاحه ونضاله في هذه الحياة، ثم نهايته إلى النعيم أو إِلى الجحيم.



* ابتدأت السورة الكريمة بالقسم بالليل إِذا غشي الخليقة بظلامه، وبالنهار إِذا أنار الوجود بإِشراقه وضيائه، وبالخالق العظيم الذي أوجد النوعين الذكر والأنثى، أقسم على أن عمل الخلائق مختلف، وطريقهم متباين {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى *وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى *وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالأُنْثَى *إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى}.



* ثم وضحت سبيل السعادة، وسبيل الشقاء، ورسمت الخطَّ البياني لطالب النجاة، وبينت أوصاف الأبرار والفجار، وأهل الجنة وأهل النار {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى *وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى *فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى *وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى* وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى *فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى}.

* ثم نبهت إِلى اغترار بعض الناس بأموالهم التي جمعوها، وثرواتهم التي كدسوها، وهي لا تنفعهم في القيامة شيئاً، وذكَّرتهم بحكمة الله في توضيحه لعباده طريق الهداية وطريق الضلالة {وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى *إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى *وَإِنَّ لَنَا لَلآخِرَةَ وَالأُولَى}.



* ثم حذَّرت أهل مكة من عذاب الله وانتقامه، ممن كذَّب بآياته ورسوله، وأنذرهم من نار حامية تتوهج من شدة حرها، لا يدخلها ولا يذوق سعيرها إِلا الكافر الشقي، المعرض عن هداية الله {فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى* لا يَصْلاهَا إِلا الأَشْقَى * الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى}.



* وختمت السورة بذكر نموذج للمؤمن الصالح، الذي ينفق ماله في وجوه الخير، ليزكي نفسه ويصونها من عذاب الله، وضربت المثل بأبي بكر الصديق رضي الله عنه حين اشترى بلالاً وأعتقه في سبيل الله {وَسَيُجَنَّبُهَا الأَتْقَى* الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى* وَمَا لأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى* إِلا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأَعْلَى* وَلَسَوْفَ يَرْضَى}.

* * *



اختلاف عمل الخلائق وتباين طرقهم



{وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى(1)وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى(2)وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالأُنْثَى(3)إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى(4)فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى(5)وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى(6)فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى(7)وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى(8)وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى(9)فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى(10)وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى(11)}.



سبب النزول:

نزول الآية (5):

{فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى..}: أخرج ابن جرير والحاكم عن عامر بن عبد الله بن الزبير قال: كان أبو بكر رضي الله عنه يعتق على الإسلام بمكة، فكان يعتق عجائز ونساء إذا أسلمن، فقال له أبوه (أبو قحافة): أي بني ! أراك تعتق أناساً ضعفاء، فلو أنك تعتق رجالاً جلداء، يقومون معك، ويمنعونك، ويدفعون عنك، فقال: أي أبتِ، إنما أريد ما عند الله، فنزلت هذه الآيات فيه: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى..} إلى آخر السورة.



نزول الآية (8):

{وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ }: قال ابن عباس: نزلت في أُمية بن خَلَف.



{وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى} أي أُقسمُ بالليل إِذا غطَّى بظلمته الكون، وستر بشبحه الوجود {وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى} أي وأُقسمُ بالنهار إِذا تجلَّى وانكشف، وأنار العالم وأضاء الكون قال المفسرون: أقسم تعالى بالليل لأنه سكنٌ لكافة الخلق، يأوي فيه الإِنسان والحيوان إِلى مأواه، ويسكن عن الاضطراب والحركة، ثم أقسم بالنهار لأن فيه حركة الخلق وسعيهم إِلى اكتساب الرزق، والحكمة في هذا القسم ما في تعاقب الليل والنهار من مصالح لا تُحصى فإِنه لو كان العمر كله ليلاً لتعذر المعاش، ولو كان كله نهاراً لما سكن الإِنسان إِلى الراحة، ولاختلت مصالح البشر {وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالأُنْثَى} أي وأُقسمُ بالقادر العظيم الذي خلق صنفي الذكر والأنثى، من نطفةٍ إِذا تمنى .. أقسم تعالى بذاته على خلق النوعين {الذَّكَرَ وَالأُنْثَى} للتنبيه على أنه الخالق المبدع الحكيم، إِذْ لا يُعقل أن هذا التخالف بين الذكر والأنثى يحصل بمحض الصدفة من طبيعة بلهاء لا شعور لها فإِن الأجزاء الأصلية في المنيّ متساوية، فتكوينُ الولد من عناصر واحدة تارةً ذكراً، وتارة أنثى، دليلٌ على أن واضع هذا النظام عالم، بما يفعل، محكم لما يصنع {إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى} هذا هو جواب القسم أي إِن عملكم لمختلف، فمنكم تقيٌ ومنكم شقي، ومنكم صالحٌ ومنكم طالح، ثم فسَّره بقوله {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى} أي فأما من أعطى ماله وأنفق ابتغاء وجه الله، واتقى ربه فكف عن محارم الله قال ابن كثير: أعطى ما أُمر بإخراجه، واتقى الله في أموره {وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى} أي وصدَّق بالجنة التي أعدَّها الله للأبرار {فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى} أي فسنهيئه لعمل الخير، ونسهّل عليه الخصلة المؤدية لليسر، وهي فعل الطاعات وترك المحرمات {وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاستَغْنَى} أي وأمَّا من بخل بإِنفاق المال، واستغنى عن عبادة ذي الجلال قال ابن عباس: بخل بماله، واستغنى عن ربه عزَّ وجل {وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى} أي وكذَّب بالجنة ونعيمها {فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى} أي فسنهيئه للخصلة المؤدية للعسر، وهي الحياة السيئة في الدنيا والآخرة وهي طريق الشر قال المفسرون: سمَّى طريقة الخير يسرى لأن عاقبتها اليسر وهي دخول الجنة دار النعيم، وسمَّى طريقة الشرِّ عسرى لأن عاقبتها العسر وهو دخول الجحيم {وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى} استفهام إِنكاري أيْ أيُّ شيء ينفعه ماله إِذا هلك وهوى في نار جهنم ؟ هل ينفعه المال، ويدفع عنه الوبال ؟





قد أعذر من أنذر



{إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى(12)وَإِنَّ لَنَا لَلآخِرَةَ وَالأُولَى(13) فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى(14)لا يَصْلاهَا إِلا الأَشْقَى(15)الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى(16)وَسَيُجَنَّبُهَا الأَتْقَى(17)الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى(18)وَمَا لأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى(19)إِلا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأَعْلَى(20)وَلَسَوْفَ يَرْضَى(21)}.



سبب النزول:

نزول الآية (17):

{ وَسَيُجَنَّبُهَا..}: أخرج ابن أبي حاتم عن عروة: أن أبا بكر الصديق أعتق سبعة، كلهم يعذب في الله، وفيه نزلت: {وَسَيُجَنَّبُهَا الأَتْقَى} إلى آخر السورة.



نزول الآية (19)}:

{وَمَا لأَحَدٍ.. }: روى عطاء عن ابن عباس قال: إن بلالاً لما أسلم، ذهب إلى الأصنام فسلم عليها، وكان عبداً لعبد الله بن جُدْعان، فشكا إليه المشركين ما فعل، فوهبه لهم، ومئة من الإبل ينحرونها لآلهتهم، فأخذوه وجعلوا يعذبونه في الرمضاء، وهو يقول: أحَدٌ أحَدٌ فمرَّ به رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ينجيك أحدٌ أحدٌ. ثم أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر: أن بلالاً يعذّب في الله، فحمل أبو بكر رطلاً من ذهب، فابتاعه به.

فقال المشركون: ما فعل أبو بكر ذلك إلا لِيَدٍ كانت لبلال عنده، فأنزل الله تعالى: {وَمَا لأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى إِلا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأَعْلَى}.



{إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى} أي إِنَّ علينا أن نبيِّن للناس طريق الهدى من طريق الضلالة، ونوضّح سبيل الرشد من سبيل الغي كقوله {وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} {وَإِنَّ لَنَا لَلآخِرَةَ وَالأُولَى} أي لنا ما في الدنيا والآخرة، فمن طلبهما من غير الله فقد أخطأ الطريق {فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى} أي فحذرتكم يا أهل مكة ناراً تتوقَّد وتتوهج من شدة حرارتها {لا يَصْلاهَا إِلا الأَشْقَى} أي لا يدخلها للخلود فيها ولا يذوق سعيرها، إِلاّ الكافر الشقي .. ثم فسَّره تعالى بقوله {الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى} أي كذَّب الرسل وأعرض عن الإِيمان {وَسَيُجَنَّبُهَا الأَتْقَى} أي وسيبعد عن النار التقيُ النقيُّ، المبالغ في اجتناب الشرك والمعاصي .. ثم فسَّره تعالى بقوله {الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى} أي الذي ينفق ماله في وجوه الخير ليزكي نفسه {وَمَا لأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى} أي وليس لأحدٍ عنده نعمة حتى يكافئه عليها، وإِنما ينفق لوجه الله قال المفسرون: نزلت الآيات في حقِّ "أبي بكر الصديق" حين اشترى بلالاً وأعتقه في سبيل الله فقال المشركون: إِنما فعل ذلك لِيَدٍ كانت له عنده فنزلت {إِلا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأَعْلَى} أي ليس له غاية إِلا مرضاة الله {وَلَسَوْفَ يَرْضَى} أي ولسوف يعطيه الله في الآخرة ما يرضيه وعْدٌ كريم من رب رحيم.

yacine414
2011-04-02, 10:17
سورة الضُّحَى



إنعام الله تعالى على نبيه صلى الله عليه وسلم



بَين يَدَيْ السُّورَة



* سورة الضُّحَى مكية، وهي تتناول شخصية النبي الأعظم صلى الله عليه وسلم، وما حباه الله به من الفضل والإِنعام في الدنيا والآخرة، ليشكر الله على تلك النعم الجليلة.



* ابتدأت السورة الكريمة بالقسم على جلالة قدر الرسول صلى الله عليه وسلم وأن ربه لم يهجره ولم يبغضه كما زعم المشركون، بل هو عند الله رفيع القدر، عظيم الشأن والمكانة {وَالضُّحَى* وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى* مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى* وَلَلآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الأُولَى*}.



* ثم بشرته بالعطاء الجزيل في الآخرة، وما أعدَّه الله تعالى لرسوله من أنواع الكرامات، ومنها الشفاعة العظمى {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى}.



* ثم ذكَّرته بما كان عليه في الصغر، من اليتم، والفقر، والفاقة، والضياع، فآواه ربه وأغناه، وأحاطه بكلأه وعنايته {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى * وَوَجَدَكَ ضَالاًّ فَهَدَى* وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى}.



* وختمت السورة بتوصيته صلى الله عليه وسلم بوصايا ثلاث، مقابل تلك النعم الثلاث، ليعطف على اليتيم، ويرحم المحتاج، ويمسح دمعة البائس المسكين {فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ * وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ * وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} وهو ختمٌ يتناسق فيه جمال اللفظ مع روعة البيان.





إنعام الله تعالى على نبيه صلى الله عليه وسلم



{وَالضُّحَى(1)وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى(2)مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى(3)وَللآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الأُولَى(4)وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى(5)أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى(6)وَوَجَدَكَ ضَالا فَهَدَى(7)وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى(8)فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ(9)وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ(10)وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ(11) }.



سبب النزول:

نزول الآية (1) : وما بعدها:

أخرج الشيخان وغيرهما عن جندب قال: اشتكى النبي صلى الله عليه وسلم، فلم يقم ليلة أو ليلتين، فأتته امرأة، فقالت: يا محمد، ما أرى شيطانك إلا قد تركك، فأنزل الله: {وَالضُّحَى* وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى* مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى*}.



نزول الآية (4):

{لَلآخِرَةُ خَيْرٌ..}: أخرج الطبراني في الأوسط عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "عُرض عليّ ما هو مفتوح لأمتي بعدي، فسرّني" فأنزل الله: {لَلآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الأُولَى} وإسناده حسن.



نزول الآية (5):

أخرج الحاكم والبيهقي في الدلائل والطبراني وغيرهم عن ابن عباس قال: عُرض على رسول الله صلى الله عليه وسلم ما هو مفتوح على أمته كَفْراً كَفْراً - أي قرية قرية - فسُرّ به، فأنزل الله : {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى}.



{وَالضُّحَى * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى} أقسم تعالى بوقت الضحى وهو صدر النهار حين ترتفع الشمسُ، وأقسم بالليل إِذا اشتد ظلامه، وغطَّى كل شيء في الوجود قال ابن عباس: {سَجَى} أقبل بظلامه قال ابن كثير: هذا قسمٌ منه تعالى بالضحى وما جعل فيه من الضياء، وبالليل إِذا سكن فأظلم وادلهمَّ، وذلك دليلٌ ظاهر على قدرته تعالى {مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى} أي ما تركك ربك يا محمد منذ اختارك، ولا أبغضك منذ أحبك، وهذا ردٌّ على المشركين حين قالوا: هجره ربه، وهو جواب القسم {وَللآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الأُولَى} أي وللدارُ الأخرة خيرٌ لك يا محمد من هذه الحياة الدنيا، لأن الآخرة باقية، والدنيا فانية، ولهذا كان عليه السلام يقول : اللهم لا عيش إِلا عيشُ الآخرة {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} أي سوف يعطيك ربك في الآخرة من الثواب، والكرامة، والشفاعة، وغير ذلك إِلى أن ترضى قال ابن عباس: هي الشفاعة في أُمته حتى يرضى، لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر أمته فقال: اللهم أُمتي أُمتي وبكى، فقال الله يا جبريل اذهب إِلى محمد واسأله ما يبكيك ؟ - وهو أعلم – فأتى جبريل رسول الله صلى الله عليه وسلم وسأله فأخبره رسول الله بما قال ، قال الله: يا جبريل اذهب إِلى محمد وقل له: إِنا سنرضيك في أمتك ولا نسوؤك، وفي الحديث (لكل نبي دعوةٌ مستجابة، فتعجَّل كل نبي دعوته، وإِني اختبأت دعوتي شفاعتي لأمتي يوم القيامة) الحديث قال الخازن: والأولى حملُ الآية على ظاهرها ليشمل خيري الدنيا والآخرة معاً، فقد أعطاه الله تعالى في الدنيا النصر والظفر على الأعداء، وكثرة الأتباع والفتوح، وأعلى دينه، وجعل أمته خير الأمم، وأعطاه في الآخرة الشفاعة العامة، والمقام المحمود، وغير لك من خيري الدنيا والآخرة .. ثم لما وعده بهذا الوعد الجليل، ذكَّره بنعمه عليه في حال صغره ليشكر ربه فقال {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى} أي ألم تكنْ يا محمد يتيماً في صغرك، فآواك الله إِلى عمك أبي طالب وضمَّك إِليه ؟ قال ابن كثير: وذلك أن أباه توفي وهو حملٌ في بطن أمه، ثم توفيت أُمه وله من العمر ست سنين، ثم كان في كفالة جده "عبد المطلب" إِلى أن تُوفي وله من العمر ثمان سنين، فكفله عمه "أبو طالب" ثم لم يزل يحوطه وينصره ويرفع من قدره حتى ابتعثه الله على رأس الأربعين وأبو طالب على عبادة الأوثان مثل قومه ومع ذلك كان يدفع الأذى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكلُّ هذا من حفظ الله له، وكلاءته وعنايته به {وَوَجَدَكَ ضَالا فَهَدَى} أي ووجدك تائهاً عن معرفة الشريعة والدين فهداك إِليها كقوله تعالى {مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ} قال الإِمام الجلال: أي وجدك ضالاً عما أنت عليه الآن من الشريعة فهداك إليها، وقيل: ضلَّ في بعض شعاب مكة وهو صغير فردَّه الله إلى جده قال أبو حيان: لا يمكن حمله على الضلال الذي يقابله الهدى، لأن الأنبياء معصومون من ذلك قال ابن عباس: هو ضلاله وهو في صغره في شعاب مكة، وقيل: ضلَّ وهو مع عمه في طريق الشام {وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى} أي ووجدك فقيراً محتاجاً فأغناك عن الخلق، بما يسَّر لك من أسباب التجارة .. ولمَّا عدَّد عليه هذه النعم الثلاث، وصَّاه بثلاث وصايا مقابلها فقال {فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ} أي فأما اليتيم فلا تحتقره ولا تغلبه على ماله قال مجاهد: أي لا تحتقره وقال سفيان: لا تظلمه بتضييع ماله، والمراد كن لليتيم كالأب الرحيم، فقد كنت يتيماً فآواك الله {وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ} أي وأمَّا السائل المستجدي الذي يسأل عن حاجة وفقر، فلا تزجره إِذا سألك ولا تُغلظ له القول بل أعطه أو ردَّه رداً جميلاً قال قتادة: ردَّ المسكين برفقٍ ولين {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} أي حدِّثْ الناس بفضل الله وإِنعامه عليك، فإِن التحدث بالنعمة شكر لها قال الألوسي: كنت يتيماً وضالاً وعائلاً، فآواك الله وهداك وأغناك، فلا تنس نعمة الله عليك في هذه الثلاث، فتعطَّف على اليتيم، وترحَّم على السائل، فقد ذقت اليُتْمَ والفقر، وأرشد العباد إِلى طريق الرشاد، كما هداك ربك.

yacine414
2011-04-02, 10:18
سورة الشرح



نعم الله على نبيه صلى الله عليه وسلم



بَين يَدَيْ السُّورَة



* سورة الشرح مكية، وهي تتحدث عن مكانة الرسول الجليلة، ومقامه الرفيع عند الله تعالى، وقد تناولت الحديث عن نعم الله العديدة على عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم، وذلك بشرح صدره بالإِيمان، وتنوير قلبه بالحكمة والعرفان، وتطهيره من الذنوب والأوزار، وكل ذلك بقصد التسلية لرسول الله عليه السلام عما يلقاه من أذى الفجار، وتطييب خاطره الشريف بما منحه الله من الأنوار {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ* وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ* الَّذِي أَنقَضَ ظَهْرَكَ}.



* ثم تحدثت عن إِعلاء منزلة الرسول، ورفع مقامه في الدنيا والآخرة، وقرن اسمه صلى الله عليه وسلم باسم الله تعالى {وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ}.



* وتناولت السورة دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم وهو بمكة يقاسي مع المؤمنين الشدائد والأهوال من الكفرة المكذبين، فآنسه بقرب الفرج وقرب النصر على الأعداء {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا* إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا}.



* وختمت بالتذكير للمصطفى صلى الله عليه وسلم بواجب التفرغ لعبادة الله، بعد انتهائه من تبليغ الرسالة، شكراً لله على ما أولاه من النعم الجليلة {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ *وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ}.

* * *





نعم الله على نبيه صلى الله عليه وسلم



{أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ(1)وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ(2)الَّذِي أَنقَضَ ظَهْرَكَ(3)وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ(4)فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا(5)إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا(6)فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ(7)وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ(8) }.



سبب النزول:

نزول الآية (6):

{إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا}: نزلت لما عيَّر المشركون المسلمين بالفقر. وأخرج ابن جرير عن الحسن البصري قال: لما نزلت هذه الآية: {إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا} قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أبشروا أتاكم اليسر، لن يغلب عسر يسرين".



{أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} استفهامٌ بمعنى التقرير أي قد شرحنا لك صدرك يا محمد بالهدى والإِيمان، ونور القرآن كقوله تعالى {فَمَنْ يُرِدْ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ} قال ابن كثير: أي نَوَّرناه وجعلناه فسيحاً، رحيباً، واسعاً، وكما شرح الله صدره كذلك جعل شرعه فسيحاً، سمحاً، سهلاً، لا حرج فيه ولا إصرْ ولا ضيق وقال أبو حيان: شرحُ الصدر تنويره بالحكمة، وتوسيعه لتلقي ما يوحى إِليه وهو قول الجمهور، وقيل: هو شق جبريل لصدره في صغره وهو مرويٌ عن ابن عباس {وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ} أي حططنا عنك حملك الثقيل {الَّذِي أَنقَضَ ظَهْرَكَ} أي الذي أثقل وأوهن ظهرك قال المفسرون: المراد بالوزر الأمور التي فعلها صلى الله عليه وسلم، وَوَضْعُها عنه هو غفرانها له كقوله تعالى {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} وليس المراد بالذنوب المعاصي والآثام، فإِن الرسل معصومون من مفارقة الجرائم، ولكن ما فعله عليه السلام عن اجتهاد وعوقب عليه، كإِذنه صلى الله عليه وسل للمنافقين في التخلف عن الجهاد حين اعتذروا، وأخذه الفداء من أسرى بدر، وعبسه في وجه الأعمى ونحو ذلك، قال ابن جزي: وإِنما وصفت ذنوب الأنبياء بالثقل، وهي صغائر مغفورة لهم، لهمِّهم بها وتحسرهم عليها، فهي ثقيلة عندهم لشدة خوفهم من الله وهذا كما ورد في الأثر (إِنَّ المؤمن يرى ذنوبه كالجبل يقع عليه، والمنافق يرى ذنوبه كالذبابة تطير فوق أنفه) والنقيضُ هو الصوتُ الذي يسمع من المحمل فوق ظهر البعير من شدة الحمل {وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ} أي رفعنا شأنك، وأعلينا مقامك في الدنيا والآخرة، وجعلنا اسمك مقروناً باسمي قال مجاهد: لا أُذكر إِلا ذكرت معي وقال قتادة: رفع الله ذكره في الدنيا والآخرة، فليس خطيب، ولا متشهد، ولا صاحب صلاة إِلا ينادي: أشهد أن لا إِله إِلا الله وأن محمداً رسول الله، وفي الحديث (أتاني جبريل فقال لي يا محمد: إِن ربك يقول: أتدري كيف رفعت ذكرك ؟ قلت: الله تعالى أعلم، قال: إِذا ذكرتُ ذكرتَ معي) قال أبو حيّان: قرن الله ذكر الرسول بذكره جل وعلا في كلمة الشهادة، والأذان والإِقامة، والتشهد، والخطب، وفي غير موضع من القرآن، وأخذ على الأنبياء وأممهم أن يؤمنوا به كما قال حسان بن ثابت:

وضمَّ الإِله اسم النبي إِلى اسمه إِذا قـال في الخمس المؤذن أشهد

وشـقَّ له مـن اسمه ليُجلـه فـذو العـرش محمودٌ وهذا محمد

{فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا} أي بعد الضيق يأتي الفرج، وبعد الشدة يكون المخرج قال المفسرون: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في مكة في ضيق وشدة هو وأصحابه، بسبب أذى المشركين للرسول والمؤمنين، فوعده الله باليسر، كما عدَّد عليه النعم في أول السورة تسلية وتأنيساً له، لتطيب نفسه ويقوى رجاؤه، وكأن الله تعالى يقول: إِنَّ الذي أنعم عليك بهذه النعم الجليلة، سينصرك عليهم، ويظهر أمرك، ويبدل لك هذا العسر بيسرٍ قريب، ولذلك كرره مبالغة فقال: {إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا} أي سيأتي الفرج بعد الضيق، واليسر بعد العسر فلا تحزن ولا تضجر وفي الحديث "لن يغلب عسرٌ يسرين" {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ} أي فإِذا فرغت يا محمد من دعوة الخلق، فاجتهد في عبادة الخالق، وإِذا انتهيت من أمور الدنيا، فأتعب نفسك في طلب الآخرة {وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ} أي اجعل همَّك ورغبتك فيما عند الله، لا في هذه الدنيا الفانية قال ابن كثير: المعنى إِذا فرغت من أمور الدنيا وأشغالها، وقطعت علائقها، فانصب إِلى العبادة، وقم إِليها نشيطاً فارغ البال، وأخلص لربك النية والرغبة.

yacine414
2011-04-02, 10:19
سورة التِّين



تكريم بني البشر وتحذيرهم من التكذيب بالبعث والجزاء



بَين يَدَيْ السُّورَة



* سورة التِّين مكية، وهي تعالج موضوعين بارزين هما:

الأول: تكريم الله جل وعلا للنوع البشري.

الثاني: موضوع الإِيمان بالحساب والجزاء.



* ابتدأت السورة بالقسم بالبقاع المقدسة والأماكن المشرفة، التي خصها الله تعالى بإِنزال الوحي فيها على أنبيائه ورسله وهي "بيت المقدس" و "جبل الطور" و "مكة المكرمة" على أن الله تعالى كرَّم الإِنسان، فخلقه في أجمل صورة، وأبدع شكل، وإِذا لم يشكر نعمة ربه فسيرد إِلى أسفل دركات الجحيم {وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ* وَطُورِ سِينِينَ* وَهَذَا الْبَلَدِ الأَمِينِ}.



* ووبخت الكافر على إِنكاره للبعث والنشور، بعد تلك الدلائل الباهرة التي تدل على قدرة رب العالمين، في خلقه للإِنسان في أحسن شكل، وأجمل صورة {لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ}.



* وختمت ببيان عدل الله بإِثابة المؤمنين، وعقاب الكافرين {فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ* أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ} ؟ وفيها تقرير للجزاء، وإِثبات للمعاد.



تكريم بني البشر وتحذيرهم من التكذيب بالبعث والجزاء



{وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ(1)وَطُورِ سِينِينَ(2)وَهَذَا الْبَلَدِ الأَمِينِ(3)لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ(4)ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ(5)إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ(6)فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ(7)أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ(8) }



{وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ} هذا قسمٌ أي أُقسمُ بالتين والزيتون لبركتهما وعظيم منفعتهما قال ابن عباس: هو تينكم الذي تأكلون، وزيتونكم الذي تعصرون منه الزيت وقال عكرمة: أقسم تعالى بمنابت التين والزيتون، فإِن التين ينبتُ كثيراً بدمشق، والزيتون ببيت المقدس .. وهو الأظهر، ويدل عليه أن الله تعالى عطف عليه الأماكن "جبل الطور" و "البلد الأمين" فيكون بالجبل المبارك الذي كلَّم الله عليه موسى وهو "طُورِ سيناء" ذو الشجر الكثير، الحسن المبارك قال الخازن: سمي "سِينِينَ" و "سنياء" لحسنه ولكونه مباركاً، وكلُّ جبلٍ فيه أشجارٌ مثمرة يسمى سينين وسيناء {وَهَذَا الْبَلَدِ الأَمِينِ} أي وأُقسم بالبلد الأمين "مكة المكرمة" التي يأمن فيها من دخلها على نفسه وماله كقوله تعالى {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ} ! ! قال الألوسي: هذه أقسام ببقاع مباركة شريفة على ما ذهب إليه الكثيرون، فأما البلد الأمين فمكة المكرمة - حماها الله - بلا خلاف، وأما طور سينين فالجبل الذي كلم الله تعالى موسى عليه، ويقال له: طور سيناء، وأما التين والزيتون منبتيهما، وقيل: المراد بهما الشجران المعروفان وهو قول ابن عباس ومجاهد، والغرض من القسم بتلك الأشياء الإِبانة عن شرف البقاع المباركة، وما ظهر فيها من الخير والبركة ببعثة الأنبياء والمرسلين وقال ابن كثير: ذهب بعض الأئمة إلى أن هذه محالٌ ثلاث، بعث الله في كلٍ منها نبياً مرسلاً من أولي العزم أصحاب الشرائع الكبار فالأول: محلة التين والزيتون وهي "بيت المقدس" التي بعث الله فيها عيسى عليه السلام والثاني: طور سينين وهو "طور سيناء" الذي كلَّم الله عليه موسى بن عمران والثالث: البلد الأمين الذي من دخله كان آمناً، وهو الذي أرسل الله فيه محمداً صلى الله عليه وسلم، وقد ذكر في آخر التوراة هذه الأماكن الثلاثة "جاء اللهُ من طور سيناء - الجبل الذي كلم الله عليه موسى - وأشرق من ساعير - يعني جبل بيت المقدس الذي بعث الله منه عيسى - واستعلن من جبال فاران - يعني جبال مكة التي أرسل الله منها محمداً صلى الله عليه وسلم" فذكرهم بحسب ترتيبهم بالزمان، وأقسم بالأشرف ثم الأشرف منه، ثم جنس الإِنسان في أحسن شكل، متصفاً بأجمل وأكمل الصفات، من حسن الصورة، وانتصاب القامة، وتناسب الأعضاء، مزيناً بالعلم والفهم، والعقل والتمييز، والنطق والأدب، قال مجاهد: {أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} أحسن صورة، وأبدع خلق {ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ} أي ثم أنزلنا درجته إِلى أسفل سافلين، لعدم قيامه بموجب ما خلقناه عليه، حيث لم يشكر نعمة خلقنا له في أحسن صورة، ولم يستعمل ما خصصناه به من المزايا في طاعتنا، فلذلك سنرده إِلى أسفل سافلين وهي جهنم قال مجاهد والحسن: {أَسْفَلَ سَافِلِينَ} أسفل دركات النار وقال الضحاك: أي رددناه إِلى أرذل العمر، وهو الهرم بعد الشباب، والضعف بعد القوة قال الألوسي: والمتبادرُ من السياقِ الإِشارة إلى حالة الكفار يوم القيامة، وأنه يكون على أقبح صورة وأبشعها، بعد أن كان على أحسن صورة وأبدعها {إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} أي إِلا المؤمنين المتقين الذين جمعوا بين الإِيمان والعمل الصالح {فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ} أي فلهم ثواب دائم غير مقطوع عنهم، وهو الجنة دار المتقين {فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ} الخطاب للإِنسان على طريقة الالتفات فما سبب تكذيبك أيها الإنسان، بعد هذا البيان وبعد وضوح الدلائل والبراهين ؟ فإِن خلق الإِنسان من نطفة، وإِيجاده في أجمل شكل وأبدع صورة، من أوضح الدلائل على قدرة الله عز وجل على البعث والجزاء، فما الذي يدعوك إِلى التكذيب بيوم الدين بعد هذه البراهين ؟ {أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ} أي أليس الله الذي خلق وأبدع، بأعدل العادلين حكماً وقضاءً وفضلاً بين العباد ؟‍ ‍‍ وفي الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إِذا قرأها قال: بلى وأنا على ذلك من الشاهدين.

yacine414
2011-04-02, 10:21
سورة العَلَق



حث الإنسان على العلم، والتحذير من اتباع الهوى

فرعون هذه الأمة وتهديد الطغاة ووعيدهم





بَين يَدَيْ السُّورَة



* سورة العَلَق وتسمى {سورة اقْرَأْ} مكية وهي تعالج القضايا الآتية:



أولاً: موضوع بدء نزول الوحي على خاتم الأنبياء محمد صلى الله عليه وسلم.

ثانياً: موضوع طغيان الإِنسان بالمال وتمرده على أوامر الله.

ثالثاً: قصة الشقي "أبي جهل" ونهيه الرسول صلى الله عليه وسلم عن الصلاة.



* ابتدأت السورة ببيان فضل الله على رسوله الكريم بإِنزاله هذا القرآن "المعجزة الخالدة" وتذكيره بأول النعماء وهو يتعبد ربه بغار حراء، حيث تنزَّل عليه الوحي بآيات الذكر الحكيم {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ.. إلى .. عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ}.



* ثم تحدثت عن طغيان الإِنسان في هذه الحياة بالقوة الثراء، وتمرده على أوامر الله بسبب نعمة الغنى، وكان الواجب عليه أن يشكر ربه على إِفضاله، لا أن يجحد النعماء، وذكَّرته بالعودة إِلى ربه لينال الجزاء {كَلا إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى* أَنْ رَّءآهُ اسْتَغْنَى* إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى}.



* ثم تناولت قصة "أبي جهل" فرعون هذه الأمة، الذي كان يتوعد الرسول ويتهدده، وينهاه عن الصلاة، انتصاراً للأوثان والأصنام {أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى* عَبْدًا إِذَا صَلَّى} الآيات.



* وختمت السورة بوعيد ذلك الشقي الكافر، بأشد العقاب إِن استمر على ضلاله وطغيانه، كما أمرت الرسول الكريم بعدم الإِصغاء إلى وعيد ذلك المجرم الأثيم {كَلا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعَا بِالنَّاصِيَةِ} إِلى ختام السورة {كَلا لا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ}.



* وقد بدأت السورة بالدعوة إِلى القراءة والتعلم، وختمت بالصلاة والعبادة، ليقترن العلم بالعمل، ويتناسق البدء مع الختام.





حث الإِنسان على العلم، والتحذير من اتباع الهوى



{اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ(1)خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ(2)اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ(3)الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ(4)عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ(5)كَلا إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى(6)أَنْ رَّءآهُ اسْتَغْنَى(7)إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى(8) }.



سبب النزول:

نزول (6):

{كَلا إِنَّ الإِنسَانَ.. }: أخرج أحمد ومسلم والنسائي وابن المنذر وغيرهم عن أبي هريرة قال: قال أبو جهل: هل يُعفِّر محمدٌ وجْهَه بين أظهركم ؟ فقيل: نعم، فقال: واللات والعزى، لئن رأيته يفعل لأطأنّ على رقبته، ولأعفرنّ وجهه في التراب، فأنزل الله: {كَلا إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى} الآيات.

ثم إنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصلاة، فنكص على عقبيه، فقالوا له: مالك يا أبا الحكم ؟ فقال: إن بيني وبينه لخندقاً من نار، وهولاً شديداً.



{اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} هذا خطاب إِلهي وجه إِلى النبي صلى الله عليه وسلم وفيه دعوةٌ إِلى القراءة والكتابة والعلم، لأنه شعار دين الإِسلام أي إِقرأ يا محمد القرآن مبتدئاً ومستعيناً باسم ربك الجليل، الذي خلق جميع المخلوقات، وأوجد جميع العوالم، ثم فسَّر الخلق تفخيماً لشأن الإِنسان فقال {خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ} أي خلق هذا الإِنسان البديع الشكل، الذي هو أشرف المخلوقات من العلقة - وهي الدودة الصغيرة - وقد أثبت الطبُّ الحديث أن المنيّ الذي خلق منه الإِنسان محتوٍ على حيواناتٍ وديدان صغيرة لا تُرى بالعين، وإِنما ترى بالمجهر الدقيق - الميكروسكوب - وأن لها رأساً وذنباً، فتبارك الله أحسن الخالقين قال القرطبي: خصَّ الإِنسان بالذكر تشريفاً له، والعلقةُ قطعة من دمٍ رطب، سميت بذلك لأنها تعلق لرطوبتها بما تمرُّ عليه {اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ} أي اقرأ يا محمد وربك العظيم الكريم، الذي لا يساويه ولا يدانيه كريم، وقد دلَّ على كمال كرمه أنه علَّم العباد ما لم يعلموا {الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ* عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} أي الذي علَّم الخطَّ والكتابة بالقلم، وعلَّم البشر ما لم يكونوا يعرفونه من العلوم والمعارف، فنقلهم من ظلمة الجهل إِلى نور العلم، فكما علَّم سبحانه بواسطة الكتابة بالقلم، فإِنه يعلمك بلا واسطة وإِن كنت أمياً لا تقرأ ولا تكتب قال القرطبي: نبَّه تعالى على فضل علم الكتابة، لما فيه من المنافع العظيمة التي لا يحيط بها إِنسان، وما دُونت العلوم ولا قُيدت الحكم، ولا ضبطت أخبار الأولين ومقالاتهم، ولا كتبُ الله المنزَّلة إِلا بالكتابة، ولولاها ما استقامت أمور الدنيا والدين .. وهذه الآيات الخمس هي أول ما تنزَّل من القرآن، كما ثبت في الصحاح أن النبي صلى الله عليه وسلم نزل عليه الملك وهو يتعبَّد بغار حراء، فقال: اقرأ، فقال: ما أنا بقارئ .. إلخ قال ابن كثير: أول شيء نزل من القرآن هذه الآيات المباركات، وهنَّ أوّل رحمةٍ رحم الله بها العباد، وأول نعمة أنعم الله بها عليهم، وفيها التنبيه على ابتداء خلق الإِنسان من علقة، وأن من كرمه تعالى أن علَّم الإِنسان ما لم يعلم، فشرفه وكرَّمه بالعلم، وهو القدر الذي امتاز به "آدم" على الملائكة .. ثم أخبر تعالى عن سبب بطر الإِنسان وطغيانه فقال {كَلا إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى} أي حقاً إِن الإِنسان ليتجاوز الحد في الطغيان، واتباع هوى النفس، ويستكبر على ربه عز وجل {أَنْ رَّءآهُ اسْتَغْنَى} أي من أجل أن رأى نفسه غنياً، وأصبح ذا ثروة ومال أشر وبطر، ثم توعَّده وتهدده بقوله {إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى} أي إِنَّ إِلى ربك - أيها الإِنسانُ - المرجعُ والمصير فيجازيك على أعمالك، وفي الآية تهديدٌ وتحذير لهذا الإِنسان من عاقبة الطغيان، ثم هو عام لكل طاغٍ متكبر قال المفسرون: نزلت هذه الآيات إِلى آخر السورة في "أبي جهل" بعد نزول صدر السورة بمدة طويلة، وذلك أن أبا جهل كان يطغى بكثرة ماله، ويبالغ في عداوة الرسول صلى الله عليه وسلم والعبرةُ بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.





فرعون هذه الأمة وتهديد الطغاة ووعيدهم



{أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى(9)عَبْدًا إِذَا صَلَّى(10)أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ عَلَى الْهُدَى(11)أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى(12)أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى(13) أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى(14)كَلا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعَا بِالنَّاصِيَةِ(15)نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ(16)فَلْيَدْعُ نَادِيَه(17) سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ(18)كَلا لا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وِاقْتَرِب}:



سبب النزول:

نزول الآية (9):

{أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى}: أخرج ابن جرير عن ابن عباس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي، فجاءه أبو جهل، فنهاه، فأنزل الله: {أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى* عَبْدًا إِذَا صَلَّى} إلى قوله: {كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ}.



سبب نزول الآية: (17):

{فَلْيَدْعُ نَادِيَه}: أخرج أحمد والترمذي والنسائي وابن جرير عن ابن عباس قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي، فجاءه أبو جهل، فقال: ألم أنهك عن هذا ؟ فزجره النبي صلى الله عليه وسلم، فقال أبو جهل: إنك لتعلم ما بها نادٍ أكثر مني، فأنزل الله: {فَلْيَدْعُ نَادِيَه* سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ} وهو حسن صحيح كما قال الترمذي.



{أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى*عَبْدًا إِذَا صَلَّى} تعجيبٌ من حال ذلك الشقي الفاجر أي أخبرني يا محمد عن حال ذلك المجرم الأثيم، الذي ينهى عبداً من عباد الله عن الصلاة، ما أسخف عقله، وما أشنع فعله !! قال أبو السعود: هذه الآية تقبيحٌ وتشنيعٌ لحال الطاغي وتعجيب منها، وإِيذان بأنها من الشناعة والغرابة بحيث يقضى منها العجب، وقد أجمع المفسرون على أن العبد المصلي هو محمد صلى الله عليه وسلم، وأن الذي نهاه هو اللعين "أبو جهل" حيث قال: لئن رأيتُ محمداً يصلي لأطأن على عنقه {أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ عَلَى الْهُدَى} أي أخبرني إِن كان هذا العبد المصلي - وهو النبي صلى الله عليه وسلم - الذي تنهاه عن الصلاة صالحاً مهتدياً، على الطريقة المستقيمة في قوله وفعله!! {أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى} أي أو كان آمراً بالإِخلاص والتوحيد، داعياً إِلى الهدى والرشاد، كيف تزجره وتنهاه !! فما أبلهك أيها الغبي الذي تنهي من هذه أوصافه: عبدٌ لله مطيعٌ مهتدٍ منيب، داع إِلى الهدى والرشاد ؟! وما أعجب هذا ؟ ! ثم عاد لخطاب الرسول صلى الله عليه وسلم فقال {أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى} أي أخبرني يا محمد إِن كذَّب بالقرآن، وأعرض عن الإِيمان {أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى} أي ألم يعلم ذلك الشقي أن الله مطَّلع على أحواله، مراقب لأفعاله، وسيجازيه عليها !! ويله ما أجهله وأغباه ؟! ثم ردعه وزجره فقال {كَلا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ} أي ليرتدع هذا الفاجر "أبو جهل" عن غيه وضلاله، فوالله لئن لم ينته عن أذى الرسول، ويكف عمَّا هو عليه من الكفر والضلال {لَنَسْفَعَا بِالنَّاصِيَةِ} أي لنأخذنه بناصيته - مقدم شعر الرأس - فلنجرنه إِلى النار بعنفٍ وشدة ونقذفه فيها {نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ} أي صاحب هذه الناصية كاذبٌ فاجرٌ، كثير الذنوب والإِجرام قال ابن جزي: ووصفها بالكذب والخطيئة مجازٌ، والكاذب الخاطئ في الحقيقة صاحبها، والخاطئ الذي يفعل الذنب معتمداً، والمخطئ الذي يفعله بدون قصد {فَلْيَدْعُ نَادِيَه} أي فليدع أهل ناديه وليستنصر بهم {سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ} أي سندعوا خزنة جهنم، الملائكة الغلاظ الشداد، روي أن أبا جهل مرَّ على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يصلي عند المقام فقال: ألم أنهك عن هذا يا محمد ! فأغلظ له رسول الله صلى الله عليه وسلم القول، فقال أبو جهل: بأي شيء تهددني يا محمد ! والله إِني لأكثر أهل الوادي هذا نادياً فأنزل الله {فَلْيَدْعُ نَادِيَه * سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ} قال ابن عباس : لو دعا ناديه لأخذته ملائكة العذاب من ساعته {كَلا لا تُطِعْهُ} أي ليرتدع هذا الفاجر، ولا تطعه يا محمد فيما دعاك إِليه من ترك الصلاة {وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ} أي وواظب على سجودك وصلاتك، وتقرَّب بذلك إِلى ربك وفي الحديث "أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد".

yacine414
2011-04-02, 10:22
سورة الْقَدْر



بدء نزول القرآن، وفضائل ليلة القدر



بَين يَدَيَّ السّورَة





* سورة الْقَدْر مكية، وقد تحدثت عن بدء نزول القرآن العظيم، وعن فضل ليلة القدر على سائر الأيام والشهور، لما فيها من الأنوار والتجليات القدسية، والنفحات الربانية، التي يفيضها الباري جل وعلا على عباده المؤمنين، تكريماً لنزول القرآن المبين، كما تحدثت عن نزول الملائكة الأبرار حتى طلوع الفجر، فيا لها من ليلةٍ عظيمة القدر، هي خير عند الله من ألف شهر !!





بدء نزول القرآن، وفضائل ليلة القدر



{إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ(1)وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ(2)لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ(3)تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ(4)سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ(5)}



سبب النزول:

نزول الآية (1):

أخرج ابن أبي حاتم والواحدي عن مجاهد: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر رجلاً من بني إسرائيل لبس السلاح في سبيل الله ألف شهر، فعجب المسلمون من ذلك، فأنزل الله: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ* وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ* لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ*} التي لبس ذلك الرجل السلاح فيها في سبيل الله.



نزول الآية (3):

أخرج ابن جرير عن مجاهد قال: كان في بني إسرائيل رجل يقوم الليل حتى يصبح، ثم يجاهد العدو بالنهار حتى يمسي، فعمل ذلك ألف شهر، فأنزل الله: {لَيْلَةُ الْقَدْرِ* لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ} عملها ذلك الرجل.



{إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} أي نحن أنزلنا هذا القرآن المعجز في ليلة القدر والشرف قال المفسرون: سميت ليلة القدر لعظمها وقدرها وشرفها، والمرادُ بإِنزال القرآن إِنزالهُ من اللوح المحفوظ إِلى السماء الدنيا، ثم نزل به جبريل إِلى الأرض في مدة ثلاث وعشرين سنة كما قال ابن عباس: أنزل الله القرآن جملةً واحدة من اللوح المحفوظ إِلى بيت العزة من السماء الدنيا، ثم نزل مفصلاً بحسب الوقائع في ثلاث وعشرين سنة على رسول الله صلى الله عليه وسلم {وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ} تعظيمٌ وتفخيمٌ لأمرها أي وما أعلمك يا محمد ما ليلةُ القدر والشرف ؟ قال الخازن: وهذا على سبيل التعظيم لها والتشويق لخبرها كأنه قال: أي شيء يبلغ علمك بقدرها ومبلغ فضلها ؟! ثم ذكر فضلها من ثلاثة أوجه فقال تعالى {لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ} أي ليلة القدر في الشرف والفضل خيرٌ من ألف شهر، لما اختصت به من شرف إِنزال القرآن الكريم فيها قال المفسرون: العمل الصالح في ليلة القدر خيرٌ من العمل في ألف شهر ليس فيها ليلة القدر، وقد روي أن رجلاً لبس السلاح وجاهد في سبيل الله ألف شهر، فعجب رسول الله والمسلمون من ذلك، وتمنى رسول الله صلى الله عليه وسلم لأُمته فقال يا رب: جعلت أُمتي أقصر الأمم أعماراً، وأقلها أعمالاً !! فأعطاه الله ليلة القدر، وقال: ليلةُ القدر خيرٌ لك ولأمتك من ألف شهر، جاهد فيها ذلك الرجل قال مجاهد: علمها وصيامها وقيامها خيرٌ من ألف شهر، هذا هو الوجه الأول من فضلها ثم قال تعالى {تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ} أي تنزل الملائكةُ وجبريل إِلى الأرض في تلك الليلة بأمر ربهم من أجل كل أمرٍ قدَّره الله وقضاه لتلك السنة إِلى السنة القابلة، وهذا هو الوجه الثاني من فضلها، والوجه الثالث قوله تعالى {سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ} أي هي سلام من أول يومها إِلى طلوع الفجر، تسلّم فيها الملائكة على المؤمنين، ولا يُقدّر الله فيها إلا الخير والسلامة لبني الإِنسان.

yacine414
2011-04-02, 10:23
سورة الْبَيِّنَة



تكذيب اليهود والنصارى ببعثته صلى الله عليه وسلم

مآل كل من الأشرار والأبرار في دار الجزاء



بَين يَدَيْ السُّورَة



* سورة الْبَيِّنَة وتسمى {سورة لَمْ يَكُنِ } مدنية، وهي تعالج القضايا الآتية:

1- موقف أهل الكتاب من رسالة محمد صلى الله عليه وسلم.

2- موضوع إِخلاص العبادة لله جلّ وعلا.

3- مصير كل من السعداء والأشقياء في الآخرة.



* ابتدأت السورة الكريمة بالحديث عن "اليهود والنصارى" وموقفهم من دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم، بعد أن بان لهم الحقُّ وسطعت أنواره، وبعد أن عرفوا أوصاف النبي المبعوث آخر الزمان، وكانوا ينتظرون بعثته ومجيئه، فلما بعث خاتم الرسل كذبوا برسالته، وكفروا وعاندوا.



* ثم تحدثت السورة عن عنصر هام من عناصر الإِيمان، وهو "إِخلاص العبادة" لله العلي الكبير، الذي أمر به جميع أهل الأديان، وإِفراده جلَّ وعلا بالذكر، والقصد، والتوجه في جميع الأقوال والأفعال والأعمال، خالصة لوجهه الكريم.



* كما تحدثت عن مصير أهل الإِجرام - شرِّ البرية - من كفرة أهل الكتاب والمشركين، وخلودهم في نار الجحيم، وعن مصير المؤمنين، أصحاب المنازل العالية - خير البرية - وخلودهم في جنات النعيم، مع النبيّين، والصديقين، والشهداء، والصالحين، جزاء طاعتهم وإِخلاصهم لرب العالمين.



تكذيب اليهود والنصارى ببعثته صلى الله عليه وسلم



{لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمْ الْبَيِّنَةُ(1)رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُوا صُحُفًا مُطَهَّرَةً(2)فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ(3)وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءتْهُمْ الْبَيِّنَةُ(4)وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ(5) }



{لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا} أي لم يكن أهل الكفر والجحود، الذين كفروا بالله وبرسوله، ثم بيَّنهم بقوله {مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ} أي من اليهود والنصارى أهل الكتاب، ومن المشركين عبدة الأوثان والأصنام {مُنفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمْ الْبَيِّنَةُ} أي منفصلين ومنتهين عما هم عليه من الكفر، حتى تأتيهم الحجة الواضحة، وهي بعثة محمد صلى الله عليه وسلم ولهذا فسَّرها بقوله {رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ} أي هذه البيّنة هي رسالة محمد صلى الله عليه وسلم المرسل من عند الله تعالى {يَتْلُوا صُحُفًا مُطَهَّرَةً} أي يقرأ عليهم صحفاً منزَّهة عن الباطل عن ظهر قلب، لأن النبي صلى الله عليه وسلم أميٌ لا يقرأ ولا يكتب قال القرطبي: أي يقرأ ما تتضمن الصحف من المكتوب، يتلوها عن ظهر قلبه لا عن كتاب، لأنه عليه السلام كان أمياً لا يكتب ولا يقرأ قال ابن عباس: {مُطَهَّرَةً} من الزور، والشك، والنفاق، والضلالة وقال قتادة: مطهَّرة عن الباطل {فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ} أي فيها أحكام قيمة لا عوج فيها، تبيّن الحق من الباطل قال الصاوي: المراد بالصحف القراطيس التي يكتب فيها القرآن، والمراد بالكتب الأحكام المكتوبة فيها، وإِنما قال {فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ} لأن القرآن جمع ثمرة كتب الله المتقدمة .. ثم ذكر تعالى من لم يؤمن من أهل الكتاب فقال {وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءتْهُمْ الْبَيِّنَةُ} أي وما اختلف اليهود والنصارى في شأن محمد صلى الله عليه وسلم، إِلا من بعد ما جاءتهم الحجة الواضحة، الدالة على صدق رسالته، وأنه الرسول الموعود به في كتبهم قال أبو السعود: والآية مسوقةٌ لغاية التشنيع على أهل الكتاب خاصة، وتغليظ جناياتهم، ببيان أن تفرقهم لم يكن إِلا بعد وضوح الحق، وتبيّن الحال، وانقطاع الأعذار بالكلية، كقوله تعالى {وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءهُمْ الْعِلْمُ} وقال ابن جزي: أي ما اختلفوا في نبوة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم إِلا من بعد ما علموا أنه حق، وإِنما خصَّ أهل الكتاب هنا بالذكر، لأنهم كانوا يعلمون صحة نبوته، بما يجدون في كتبهم من ذكره {وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} أي والحال أنهم ما أُمروا في التوراة والإِنجيل إِلا بأن يعبدوا الله وحده، مخلصين العبادة لله جلّ وعلا، ولكنهم حرَّفوا وبدَّلوا، فعبدوا أحبارهم ورهبانهم كما قال تعالى {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا} {حُنَفَاءَ} أي مائلين عن الأديان كلها إِلى دين الإِسلام، مستقيمين على دين إِبراهيم، دين الحنيفية السمحة، الذي جاء به خاتم المرسلين {وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ} أي وأُمروا بأن يؤدوا الصلاة على الوجه الأكمل، في أوقاتها بشروطها وخشوعها وآدابها، ويعطوا الزكاة لمستحقيها عن طيب نفس قال الصاوي: وخصَّ الصلاة والزكاة لشرفهما {وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} أي وذلك المذكور من العبادة والإِخلاص، وإِقام الصلاة وإِيتاء الزكاة، هو دين الملة المستقيمة - دين الإِسلام - فلماذا لا يدخلون فيه ؟



مآل كل من الأشرار والأبرار في دار الجزاء



{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُوْلَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ(6)إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ(7)جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ(8)}



ثم ذكر تعالى مآل كل من الأبرار والأشرار، في دار الجزاء والقرار فقال {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا} أي إِنَّ الذين كذبوا بالقرآن وبنبوة محمد عليه السلام، من اليهود والنصارى وعبدة الأوثان، هؤلاء جميعهم يوم القيامة في نار جهنم، ماكثين فيها أبداً لا يخرجون منها ولا يموتون {أُوْلَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ} أي أولئك هم شر الخلق على الإِطلاق قال الإمام الفخر الرازي: فإِن قيل: لم ذكر {كَفَرُوا} بلفظ الفعل، {وَالْمُشْرِكِينَ} باسم الفاعل؟ فالجواب تنبيهاً على أن أهل الكتاب ما كانوا كافرين من أول الأمر، لأنهم كانوا مصدقين بالتوراة والإِنجيل، ومقرين بمبعث محمد صلى الله عليه وسلم ثم إِنهم كفروا بذلك بعد مبعثه عليه السلام، بخلاف المشركين فإِنهم ولدوا على عبادة الأوثان، وإِنكار الحشر والقيامة، وقوله {أُوْلَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ} لإِفادة الحصر أي شرٌ من السراق لأنهم سرقوا من كتاب الله صفة محمد صلى الله عليه وسلم وشرٌّ من قطاع الطريق، لأنهم قطعوا طريق الحق على الخلق، ولما ذكر مقر الأشقياء، ذكر بعده مقر السعداء فقال {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} أي إِن المؤمنين الذين جمعوا بين الإِيمان وصالح الأعمال {أُوْلَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ} أي هم خير الخليقة التي خلقها الله وبرأها {جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ} أي ثوابهم في الآخرة على ما قدموا من الإِيمان والأعمال الصالحة {جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ} أي جنات إِقامة تجري من تحت قصورها أنهار الجنة {خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا} أي ماكثين فيها أبداً، لا يموتون ولا يخرجون منها، وهم في نعيم دائم لا ينقطع {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} أي رضي الله عنهم بما قدموا في الدنيا من الطاعات وفعل الصالحات، ورضوا عنه بما أعطاهم من الخيرات والكرامات {ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ} أي ذلك الجزاء والثواب الحسن لمن خاف الله واتقاه، وانتهى عن معصية مولاه.

yacine414
2011-04-02, 10:25
سورة الزلزلة



علامات القيامة، ومجازاة المطيع والعاصي



بَين يَدَيْ السُّورَة



* سورة الزلزلة مدنية، وهي في أسلوبها تشبه السور المكية، لما فيها من أهوال وشدائد يوم القيامة، وهي هنا تتحدث عن الزلزال العنيف الذي يكون بين يدي الساعة، حيث يندك كل صرحٍ شامخ، وينهار كل جبل راسخ، ويحصل من الأمور العجيبة الغريبة ما يندهش له الإِنسان، كإِخراج الأرض ما فيها من موتى، وإِلقائها ما في بطنها من كنوز ثمينة من ذهبٍ وفضة، وشهادتها على كل إِنسان بما عمل على ظهرها تقول: عملت يوم كذا، كذا وكذا، وكل هذا من عجائب ذلك اليوم الرهيب، كما تتحدث عن انصراف الخلائق من أرض المحشر إِلى الجنة أو النار، وانقسامهم إِلى أصناف ما بين شقي وسعيد.





علامات القيامة، ومجازاة المطيع والعاصي



{إِذَا زُلْزِلَتْ الأَرْضُ زِلْزَالَهَا(1)وَأَخْرَجَتِ الأَرْضُ أَثْقَالَهَا(2)وَقَالَ الإِنسَانُ مَا لَهَا(3)يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا(4)بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا(5)يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ(6)فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه(7)وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه(8)}.



سبب النزول :

نزول الآية (7،8):

{فَمَنْ يَعْمَلْ..} : أخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير قال: لما نزلت: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ} الآية، كان المسلمون يرون أنهم لا يُؤْجَرون على الشيء القليل، إذا أَعْطَوْه، وكان آخرون يرون أنهم لا يلامون على الذنب اليسير: الكذبة، والنظرة، والغيبة، وأشباه ذلك، ويقولون: إنما وعد الله النار على الكبائر، فأنزل الله : {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه}.



وقد سمّى رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ..} الجامعة الفاذّة، حين سئل عن زكاة الْحُمُر، فقال فيما أخرجه البخاري ومسلم عن أبي هريرة : "ما أنزل الله فيها شيئاً إلا هذه الآية الفاذَّة الجامعة: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه}".



{إِذَا زُلْزِلَتْ الأَرْضُ زِلْزَالَهَا} أي إِذا حركت الأرض تحريكاً عنيفاً، واضطربت اضطراباً شديداً، واهتزت بمن عليها اهتزازاً يقطع القلوب ويُفزع الألباب كقوله تعالى {اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ} قال المفسرون: إِنما أضاف الزلزلة إِليها {زِلْزَالَهَا} تهويلاً كأنه يقول: الزلزلة التي تليق بها على عظم جرمها، وذلك عند قيام الساعة تتزلزل وتتحرك تحريكاً متتابعاً، وتضطرب بمن عليها، ولا تسكن حتى تلقي ما على ظهرها من جبل وشجر وبناءٍ وقلاع {وأخرجتِ الأرضُ أثقالها} أي وأخرجت الأرض ما في بطنها من الكنوز والموتى قال ابن عباس: أخرجت موتاها وقال منذر ابن سعيد: أخرجت كنوزها وموتاها وفي الحديث (تلقي الأرض أفلاذ كبدها أمثال الأسطوانة من الذهب والفضة، فيجيء القاتل فيقول في هذا قتلتُ،ويجيء القاطع فيقول في هذا قطعتُ رحمي، ويجيء السارقُ فيقول في هذا قطعت يدي، ثم يدعونه فلا يأخذون منه شيئاً) {وَقَالَ الإِنسَانُ مَا لَهَا} ؟ أي وقال الإِنسان: ما للأرض تزلزلت هذه الزلزلة العظيمة، ولفظت ما في بطنها ؟! يقول ذلك دهشة وتعجباً من تلك الحالة الفظيعة {يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا} أي في ذلك اليوم العصيب - يوم القيامة - تتحدث الأرض وتخبر بما عُمل عليها من خير أو شر، وتشهد على كل إِنسان بما صنع على ظهرها، عن أبي هريرة قال: قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: {يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا} فقال: (أتدرون ما أخبارها ؟ قالوا: اللهُ ورسولهُ أعلم، قال: فإِن أخبارها أن تشهد على كل عبدٍ أو أمةٍ بما عمل على ظهرها، تقول: عمل يوم كذا، كذا وكذا، فهذه أخبارها) وفي الحديث (تحفَّظوا من الأرض فإِنها أمكم، وإِنه ليس من أحدٍ عاملٍ عليها خيراً أو شراً إِلا وهي مخبرة به) {بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا} أي ذلك الإِخبار بسبب أن الله جلت عظمته أمرها بذلك، وأذن لها أن تنطق بكل ما حدث وجرى عليها، فهي تشكو العاصي وتشهد عليه، وتشكر المطيع وتثني عليه، والله على كل شيء قدير {يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا} أي في ذلك اليوم يرجع الخلائق من موقف الحساب، وينصرفون متفرقين فرقاً فرقاً، فآخذٌ ذات اليمين إِلى الجنة، وآخذٌ ذات الشمال إِلى النار {لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ} أي لينالوا جزاء أعمالهم من خير أو شر {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه} أي فمن يفعل من الخير زنة ذرةٍ من التراب، يجده في صحيفته يوم القيامة ويلق جزاءه عليه قال الكلبي: الذرةُ أصغرُ النمل وقال ابن عباس: إِذا وضعت راحتك على الأرض ثم رفعتها، فكلُّ واحد مما لصق به من التراب ذرة {وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه} أي ومن يفعل من الشر زنة ذرةٍ من التراب، يجده كذلك ويلق جزاءه عليه قال القرطبي: وهذا مَثَلٌ ضربه الله تعالى في أنه لا يغفل من عمل ابن آدم صغيرة ولا كبيرة، وهو مِثْلَ قوله تعالى {إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ}.

yacine414
2011-04-02, 10:26
سورة الْعَادِيَات

جحود الإنسان لنعم الله وإهماله الاستعداد للآخرة



بَين يَدَيْ السُّورَة





* سورة الْعَادِيَات مكية، وهي تتحدث عن خيل المجاهدين في سبيل الله، حين تغير على الأعداء، فيسمع لها عند عَدوها بسرعة صوتٌ شديد، وتقدح بحوافرها الحجارة فيتطاير منها النار، وتثير التراب والغبار، وقد بدأت السورة بالقسم بخيل الغُزاة - إِظهاراً لشرفها وفضلها عند الله - على أن الإِنسان كفور لنعمة الله تعالى عليه، جحودٌ لآلائه وفيوض نعمائه، وهو معلن لهذا الكفران والجحود بلسان حاله ومقاله، كما تحدثت عن طبيعة الإِنسان وحبه الشديد للمال، وختمت السورة الكريمة ببيان أن مرجع الخلائق إِلى الله للحساب والجزاء، ولا ينفع في الآخرة مال ولا جاه، وإِنما ينفع العمل الصالح.







جحود الإنسان لنعم الله وإهماله الاستعداد للآخرة



{وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا(1)فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا(2)فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا(3)فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا(4)فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا(5)إِنَّ الإِنسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ(6)وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ(7)وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ(8)أَفَلا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ(9)وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ(10)إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ(11)}



سبب النزول:

نزول الآية (1):

أخرج البزار وابن أبي حاتم والحاكم عن ابن عباس قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم خيلاً، ولبثت شهراً، لا يأتيه منها خبر، فنزلت : {وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا}.



{وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا} أي أُقسمُ بخيل المجاهدين المسرعات في الكرّ على العدو، يُسمع لأنفاسها صوتٌ جهير هو الضبحُ قال ابن عباس: الخيل إِذا عدت قالت: أُحْ، أُحْ فذلك ضبحها قال أبو السعود: أقسم سبحانه بخيل الغزاة التي تعدو نحو العدو وتضبح وهو صوت أنفاسها عند عدوها {فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا} أي فالخيل شرر النار من الأرض بوقع حوافرها على الحجارة من شدة الجري {فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا} أي فالخيل التي تغير على العدو وقت الصباح قبل طلوع الشمس قال الألوسي: هذا هو المعتادُ في الغارات، كانوا يعدون ليلاً لئلا يشعر بهم العدو، ويهجمون صباحاً ليروا ما يأتون وما يذرون {فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا} أي فأثارت الخيل الغبار الكثيف لشدة العدو، في الموضع الذي أغرن به {فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا} أي فتوسطن به جموع الأعداء، وأصبحن وسط المعركة .. أقسم سبحانه وتعالى بأقسام ثلاثة على أمور ثلاثة، تعظيماً للمقسم به وهو خيل المجاهدين في سبيل الله، التي تسرع على أعداء الله، وتقدح النار بحوافرها، وتُغير على الأعداء وقت الصباح، فتثير الغبار، وتتوسط العدو فتصيبه بالرعب والفزع، أما الأمور التي أقسم عليها فهي قوله {إِنَّ الإِنسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ} أي إِن الإِنسان لجاحد لنعم ربه، شديد الكفران قال ابن عباس: جاحدٌ لنعم الله وقال الحسن: يذكر المصائب وينسى النعم {وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ} أي وإِن الإِنسان لشاهد على كنوده، لا يقدر أن يجحده لظهور أثره عليه {وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ} أي وإِنه لشديد الحب للمال حريصٌ على جمعه، وهو لحب عبادة الله وشكر نعمه ضعيفٌ متقاعس .. ثم بعد أن عدَّد عليه قبائح أفعاله خوَّفه فقال {أَفَلا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ} أي أفلا يعلم هذا الجاهل إِذا أُثير ما في القبور وأُخرج ما فيها من الأموات {وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ} أي وجمع وأبرز ما في الصدور من الأسرار والخفايا التي كانوا يسرونها {إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ} أي إِنَّ ربهم لعالم بجميع ما كانوا يصنعون، ومجازيهم عليها أوفر الجزاء، وإِنما خص علمه بهم في ذلك اليوم - يوم القيامة - لأنه يوم الجزاء، بقصد الوعيد والتهديد، فهو تعالى عالم بهم في ذلك اليوم وغيره.

yacine414
2011-04-02, 10:27
سورة الْقَارِعَة



أهوال القيامة، وحال الناس مع الميزان



بَين يَدَيْ السُّورَة





* سورة الْقَارِعَةُ مكية، وهي تتحدث عن القيامة وأهوالها، والآخرة وشدائدها، وما يكون فيها من أحداث وأهوال عظام، كخروج الناس من القبور، وانتشارهم في ذلك اليوم الرهيب كالفراش المتطاير، المنتشر هنا وهناك، يجيئون ويذهبون على غير نظام من شدة حيرتهم وفزعهم.



* كما تحدثت عن نسف الجبال وتطايرها حتى تصبح كالصوف المنبث المتطاير في الهواء، بعد أن كانت صلبةً راسخة فوق الأرض، وقد قرنت بين الناس والجبال تنبيهاً على تأثير تلك القارعة في الجبال حتى صارت كالصوف المندوف، فكيف يكون حال البشر في ذلك اليوم العصيب ؟



* وختمت السورة الكريمة بذكر الموازين التي توزن بها أعمال الناس، وانقسام الخلق إِلى سعداء وأشقياء حسب ثقل الموازين وخفتها، وسميت السورة الكريمة بالقارعة لأنها تقرع القلوب والأسماء بهولها.



أهوال القيامة، وحال الناس مع الميزان



a{الْقَارِعَةُ(1)مَا الْقَارِعَةُ(2)وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ(3)يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ(4)وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنفُوشِ(5)فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ(6)فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ(7)وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ(8)فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ(9)وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ(10)نَارٌ حَامِيَةٌ(11)}



{الْقَارِعَةُ مَا الْقَارِعَةُ} أي القيامة وأيُّ شيء هي القيامة ؟ إِنها في الفظاعة والفخامة بحيث لا يدركها خيال، ولا يبلغها وهمُ إنسان فهي أعظم من أن توصف أو تصوَّر، ثم زاد في التفخيم والتهويل لشأنها فقال {وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ} ؟ أي أيُّ شيء أعلمك ما شأن القارعة في هولها على النفوس ؟ إِنها لا تُفزع القلوب فحسب، بل تؤثّر في الأجرام العظيمة، فتؤثر في السماوات بالانشقاق، وفي الأرض بالزلزلة، وفي الجبال بالدكّ والنسف، وفي الكواكب بالانتثار، وفي الشمس والقمر بالتكوير والانكدار إِلى غير ما هنالك قال أبو السعود: سميت القيامة قارعة لأنها تقرع القلوب والأسماع بفنون الأهوال والأفزاع، ووضع الظاهر موضع الضمير {مَا الْقَارِعَةُ} تأكيداً للتهويل، والمعنى أيُّ شيء عجيب هي في الفخامة والفظاعة، ثم أكد هولها وفظاعتها بقوله {وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ} ؟ ببيان خروجها عن دائرة علوم الخلق، بحيث لا تكاد تنالها دراية أحد .. وبعد هذا التخويف والتشويق إِلى معرفة شيءٍ من أحوالها، جاء التوضيح والبيان بقوله تعالى {يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ} أي ذلك يحدث عندما يخرج الناسُ من قبورهم فزعين، كأنهم فراش متفرق منتشر هنا وهناك، يموج بعضهم في بعض من شدة الفزع والحيرة قال الرازي: شبه تعالى الخلق وقت البعث ههنا بالفراش المبثوث، وفي آية أُخرى بالجراد المنتشر، أما وجه التشبيه بالفراش، فلأن الفراش إِذا ثار لم يتجه إِلى جهةٍ واحدة، بل كل واحدة منها تذهب إِلى غير جهة الأُخرى، فدلَّ على أنهم إِذا بُعثوا فزعوا، وأما وجه التشبيه بالجراد فهو في الكثرة، يصبحون كغوغاء الجراد يركب بعضه بعضاً، فكذلك الناس إِذا بُعثوا يموج بعضُهم في بعض كالجراد والفراش كقوله تعالى {وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بعْضٍ} {وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنفُوشِ} هذا هو الوصف الثاني من صفات ذلك اليوم المهول أي وتصير الجبال كالصوف المنتثر المتطاير، تتفرق أجزاؤها وتتطاير في الجو، حتى تكون كالصوف المتطاير عند الندف قال الصاوي: وإِنما جمع بين حال الناس وحال الجبال، تنبيهاً على أن تلك القارعة أثَّرت في الجبال العظيمة الصلبة، حتى تصير كالصوف المندوف مع كونها غير مكلفة، فكيف حال الإِنسان الضعيف المقصود بالتكليف والحساب !! ثم ذكر تعالى حالة الناس في ذلك اليوم، وانقسامهم إِلى شقي وسعيد فقال {فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ} أي رجحت موازين حسناته، وزادت حسناتُه على سيئاته {فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ} أي فهو في عيش هنيءٍ رغيد سعيد، في جنان الخلد والنعيم {وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ} أي نقصت حسناته عن سيئاته، أولم يكن له حسناتٌ يُعتدُّ بها {فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ} أي فمسكنه ومصيره جهنم يهوي في قعرها، سَّماها أُماً لأن الأم مأوى الولد ومفزعه، فنار جهنم تؤوي هؤلاء المجرمين، كما يأوي الأولاد إِلى أمهم، وتضمهم إِليها كما تضم الأم الأولاد إِليها قال أبو السعود: {هَاوِيَةٌ} اسم من أسماء النار، سميت بها لغاية عمقها وبعد مهواها، روي أن أهل النار يهوون فيها سبعين خريفاً {وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ}؟ استفهام للتفخيم والتهويل أي وما أعلمك ما الهاوية؟ ثم فسَّرها بقوله {نَارٌ حَامِيَةٌ} أي هي نار شديدة الحرارة، قد خرجت عن الحد المعهود، فإِن حرارة أي نارٍ إذا سُعرت وأُلقي فيها أعظم الوقود لا تعادل حرارة جهنم، أجارنا الله منها بفضله وكرمه.

yacine414
2011-04-02, 10:28
سورة التَّكَاثُر

الالتهاء بالتفاخر بزينة الدنيا



بَين يَدَيْ السُّورَة



* سورة التَّكَاثُر مكية، وهي تتحدث عن انشغال الناس بمغريات الحياة، وتكالبهم على جمع حطام الدنيا، حتى يقطع الموت عليهم متعتهم، ويأتيهم فجأة وبغتة، فينقلهم من القصور إِلى القبور.

الموتُ يأتي بغتةً والقبرُ صندوقُ العمل



* وقد تكرر في هذه السورة الزجر والإِنذار تخويفاً للناس، وتنبيهاً لهم على خطئهم، باشتغالهم بالفانية عن الباقية {كَلا سَوْفَ تَعْلَمُونَ *ثُمَّ كَلا سَوْفَ تَعْلَمُونَ}.



* وختمت السورة الكريمة ببيان المخاطر والأهوال التي سيلقونها في الآخرة، والتي لا يجتازها ولا ينجو منها إِلا المؤمن الذي قدَّم صالح الأعمال.





الالتهاء بالتفاخر بزينة الدنيا



{أَلْهاكُمُ التَّكَاثُرُ(1)حَتَّى زُرْتُمْ الْمَقَابِرَ(2)كَلا سَوْفَ تَعْلَمُونَ(3)ثُمَّ كَلا سَوْفَ تَعْلَمُونَ(4)كَلا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ(5)لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ(6)ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ(7)ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ(8)}



سبب النزول:

تقدم سبب نزول السورة.

أخرج أحمد ومسلم والترمذي والنسائي عن عبد الله بن الشِّخِّير قال: انتهيت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو يقول: "{أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ} يقول ابن آدم: مالي مالي، وهل لك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت، أو تصدقت فأمضيت".

وقال مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يقول العبد: مالي مالي، وإنما له من ماله ثلاث: ما أكل فأفنى، أو لبس فأبلى، أو تصدق فأمضى، وما سوى ذلك فذاهب، وتاركه للناس".



{أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ} أي شغلكم أيها الناسُ التفاخر بالأموال والأولاد والرجال عن طاعة الله، وعن الاستعداد للآخرة {حَتَّى زُرْتُمْ الْمَقَابِرَ} أي حتى أدرككم الموت، ودفنتم في المقابر، والجملةُ خبرٌ يراد به الوعظ والتوبيخ قال القرطبي: المعنى شغلكم المباهاة بكثرة المال والأولاد عن طاعة الله، حتى مُتُّم ودفنتم في المقابر {كَلا سَوْفَ تَعْلَمُونَ} زجرٌ وتهديدٌ أي ارتدعوا أيها الناس وانزجروا عن الاشتغال بما لا ينفع ولا يفيد، فسوف تعلمون عاقبة جهلكم وتفريطكم في جنب الله، وانشغالكم بالفاني عن الباقي {ثُمَّ كَلا سَوْفَ تَعْلَمُونَ} وعيدٌ إِثر وعيد، زيادة في الزجر والتهديد أي سوف تعلمون عاقبة تكاثركم وتفاخركم إِذا نزل بكم العذاب في القبر {ثُمَّ كَلا سَوْفَ تَعْلَمُونَ} أي في الآخرة إِذا حلَّ بكم العذاب {كَلا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ} أي ارتدعوا وانزجروا فلو علمتم العلم الحقيقي الذي لا شك فيه ولا امتراء، وجواب {لَوْ} محذوفٌ لقصد التهويل أي لو عرفتم ذلك لما ألهاكم التكاثر بالدنيا عن طاعة الله، ولما خُدعتم بنعيم الدنيا عن أهوال الآخرة وشدائدها كما قال صلى الله عليه وسلم: (لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً) الحديث قال ابن جزي : وجوابُ {لَوْ} محذوفٌ تقديره: لو تعلمون لازدجرتم واستعددتم للآخرة، وإِنما حذف لقصد التهويل، فيقدر السامع أعظم ما يخطر بباله كقوله تعالى {وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ} {لَتَرَوْنَ الْجَحِيمَ} أي أُقسم وأؤكد بأنكم ستشاهدون الجحيم عياناً ويقيناً قال الألوسي: هذا جواب قسم مضمر، أكد به الوعيد، وشدَّ به التهديد، وأوضح به ما أنذروه بعد إِبهامه تفخيماً أي والله لترون الجحيم {ثُمَّ لَتَرَوْنَهَا عَيْنَ الْيَقِينِ} أي ثم لترونها رؤية حقيقة بالمشاهدة العينية قال أبو حيّان: زاد التوكيد بقوله {عَيْنَ الْيَقِينِ} نفياً لتوهم المجاز في الرؤية الأولى {ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنْ النَّعِيمِ} أي ثم لتسألنَّ في الآخرة عن نعيم الدنيا من الأمن والصحة، وسائر ما يُتلذذ به من مطعم، ومشرب، ومركب، ومفرش.

yacine414
2011-04-02, 10:29
سورة الْعَصْر

منهج الاستقامة في الحياة



بَين يَدَيْ السُّورَة



* سورة الْعَصْر مكية، وقد جاءت في غاية الإِيجاز والبيان، لتوضيح سبب سعادة الإِنسان أو شقاوته، ونجاحه في هذه الحياة أو خسرانه ودماره.



* أقسم تعالى بالعصر وهو الزمان الذي ينتهي فيه عمر الإِنسان، وما فيه من أصناف العجائب، والعِبَر الدالة على قدرة الله وحكمته، على أن جنس الإِنسان في خسارة ونقصان، إلا من اتصف بالأوصاف الأربعة وهي {الإِيمان} و {العمل الصالح} و {التواصي بالحق} و {الاعتصام بالصبر} وهي أسس الفضيلة، وأساس الدين، لهذا قال الإِمام الشافعي رحمه الله: لو لم ينزل الله سوى هذه السورة لكفت الناس.



منهج الاستقامة في الحياة



{وَالْعَصْرِ(1)إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ(2)إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ(3)}



{وَالْعَصْرِ* إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ} أي أُقسمُ بالدهر والزمان لما فيه من أصناف الغرائب والعجائب، والعبر والعظات، على أن الإِنسان في خسران، لأنه يفضِّل العاجلة على الآجلة، وتغلب عليه الأهواء والشهوات قال ابن عباس: العصر هو الدهر أقسم تعالى به لاشتماله على أصناف العجائب وقال قتادة: العصرُ هو آخر ساعات النهار، أقسم به كما أقسم بالضحى لما فيهما من دلائل القدرة الباهرة، والعظة البالغة .. وإِنما أقسم تعالى بالزمان لأنه رأس عمر الإِنسان، فكل لحظةٍ تمضي فإِنها من عمرك ونقص من أجلك، كما قال القائل :

إِنــا لنفـرحُ بالأيـام نقطعــها وكلُّ يومٍ مضى نقصٌ من الأجل

قال القرطبي: أقسم الله عز وجل بالعصر - وهو الدهر - لما فيه من التنبيه بتصرف الأحوال وتبدلها، وما فيها من الدلالة على الصانع، وقيل: هو قسمٌ بصلاة العصر لأنها أفضل الصلوات {إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} أي جمعوا بين الإِيمان وصالح الأعمال، فهؤلاء هم الفائزون لأنهم باعوا الخسيس بالنفيس، واستبدلوا الباقيات الصالحات عوضاً عن الشهوات العاجلات {وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ} أي أوصى بعضهم بعضاً بالحق، وهو الخير كله، من الإِيمان، والتصديق، وعبادة الرحمن {وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} أي وتواصوا بالصبر على الشدائد والمصائب، وعلى فعل الطاعات، وترك المحرمات .. حكم تعالى بالخسار على جميع الناس إِلا من أتى بهذه الأشياء الأربعة وهي: الإِيمان، والعمل الصالح، والتواصي بالحق، والتواصي بالصبر، فإِن نجاة الإِنسان لا تكون إِلا إِذا كمَّل الإِنسان نفسه بالإِيمان والعمل الصالح، وكمَّل غيره بالنصح والإِرشاد، فيكون قد جمع بين حق الله، وحق العباد، وهذا هو السرُّ في تخصيص هذه الأمور الأربعة.

yacine414
2011-04-02, 10:30
سورة الهُمَزَة

جزاء الطَّعان بالناس



بَين يَدَيْ السُّورَة





* سورة الهُمَزَة مكية، وقد تحدثت عن الذين يعيبون الناس،ويأكلون أعراضهم، بالطعن والانتقاص والازدراء، وبالسخرية والاستهزاء فعل السفهاء.



* كما ذمت الذين يشتغلون بجمع الأموال، وتكديس الثروات، كأنهم مخلدون في هذه الحياة، يظنون - لفرط جهلهم وكثرة غفلتهم - أن المال سيخلدهم في الدنيا.



* وختمت بذكر عاقبة هؤلاء التعساء الأشقياء، حيث يدخلون ناراً لا تخمد أبداً، تحطم المجرمين ومن يلقى فيها من البشر، لأنها الحطمة نار سقر ! !



جزاء الطَّعان بالناس



{وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ(1)الَّذِي جَمَعَ مَالا وَعَدَّدَهُ(2)يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ(3)كَلا لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ(4)وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ(5)نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ(6)الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الأَفْئِدَةِ(7)إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُوصَدَةٌ(8)فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ(9)}.



{وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ} أي عذاب شديد وهلاك ودمار، لكل من يعيب الناس ويغتابهم ويطعن في أعراضهم، أو يلمزهم سراً بعينه أو حاجبه قال المفسرون: نزلت في السورة في "الأخنس ابن شريق" لأنه كان كثير الوقيعة في الناس، يلمزهم ويعيبهم مقبلين ومدبرين، والحكم عامٌ لأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، {الَّذِي جَمَعَ مَالا وَعَدَّدَهُ} أي الذي جمع مالاً كثيراً وأحصاه، وحافظ على عدده لئلا ينقص فمنعه من الخيرات قال الطبري: أي أحصى عدده ولم ينفقه في سبيل الله ولم يؤد حقَّ الله فيه ولكنه جمعه فأوعاه وحفظه {يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ} أي يظن هذا الجاهل لفرط غفلته أن ماله سيتركه مخلداً في الدنيا لا يموت {كَلا لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ} أي ليرتدع عن هذا الظنّ فواللهِ ليطرحنَّ في النار التي تحطم كل ما يُلقى فيها وتلتهمه {وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ} تفخيمٌ وتهويلٌ لشأنها أي وما الذي أعلمك ما حقيقة هذه النار العظيمة؟ إِنها الحطمة التي تحطم العظام وتأكل اللحوم، حتى تهجم على القلوب، ثم فسرها بقوله {نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ} أي هي نار الله المسعَّرة بأمره تعالى وإِرادته، ليست كسائر النيران فإِنها لا تخمد أبداً، وفي الحديث (أُوقد على النار ألفُ سنة حتى احمرت، ثم أُوقد عليها ألف سنة حتى ابيضَّت، ثم أُوقد عليها ألفُ سنة حتى اسودَّت، فهي سوداء مظلمة) {الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الأَفْئِدَةِ} أي التي يبلغ ألمها ووجعها إلى القلوب فتحرقها قال القرطبي: وخصَّ الأفئدة لأن الألم إِذا صار إِلى الفؤاد مات صاحبه، فإِنهم في حال من يموت وهم لا يموتون كما قال تعالى {لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَا} فهم إِذاً أحياء في معنى الأموات {إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُوصَدَةٌ} أي إِن جهنم مطبقة مغلقةٌ عليهم، لا يدخل إِليهم روح ولا ريحان {فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ} أي وهم موثوقون في سلاسل وأغلال، تشدُّ بها أيديهم وأرجلهم، بعد إِطباق أبواب جهنم عليهم، فقد يئسوا من الخروج بإِطباق الأبواب عليهم، وتمدد العمد إِيذاناً بالخلود إِلى غير نهاية.

yacine414
2011-04-02, 10:32
سورة الْفِيل

قصة أصحاب الفيل



بَين يَدَيْ السُّورَة





* سورة الْفِيل مكية، وهي تتحدث عن قصة "أصحاب الفيل" حين قصدوا هدم الكعبة المشرفة، فردَّ الله كيدهم في نحورهم، وحمى بيته من تسلطهم وطغيانهم، وأرسل على جيش "أبرهة الأشرم" وجنوده أضعف مخلوقاته، وهي الطير التي تحمل في أرجلها ومناقيرها حجارة صغيرة، ولكنها أشدُّ فتكاً وتدميراً من الرصاصات القاتلة، حتى أهلكهم الله وأبادهم عن آخرهم، وكان ذلك الحدث التاريخي الهام، في عام ميلاد سيد الكائنات محمد بن عبد الله، سنة سبعين وخمسمائة ميلادية، وكان من أعظم الإِرهاصات الدالة على صدق نبوته صلى الله عليه وسلم.



قصة أصحاب الفيل



{أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ(1)أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ(2) وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ(3)تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ(4)فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ(5) }



{أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ} أي ألم يبلغك يا محمد وتعلم علماً يقيناً كأنه مشاهد بالعين، ماذا صنع الله العظيم الكبير بأصحاب الفيل الذين قصدوا الاعتداء على البيت الحرام ؟ قال المفسرون: روي أن "أبرهة الأشرم" ملك اليمن، بنى كنيسةً بصنعاء وأراد أن يصرف إِليها الحجيج، فجاء رجلٌ من كنانة وتغوَّط فيها ليلاً ولطخ جدرانها بالنجاسة احتقاراً لها، فغضب "أبرهة" وحلف أن يهدم الكعبة، وجاء مكة بجيش كبير على أفيال، يتقدمهم فيل هو أعظم الفيلة، فلما وصل قريباً من مكة فرَّ أهلها إلى الجبال، خوفاً من جنده وجبروته، وأرسل الله تعالى على جيش أبرهة طيوراً سوداً، مع كل طائر ثلاثة أحجار، حجر في منقاره وحجران في رجليه، فرمتهم الطيور بالحجارة، فكان الحجر يدخل في رأس الرجل ويخرج من دبره فيرميه جثة هامدة، حتى أهلكهم الله ودمَّرهم عن آخرهم، وكانت قصتهم عبرة للمعتبرين قال أبو السعود: وتعليقُ الرؤية بكيفية فعله جل وعلا {كَيْفَ فَعَلَ} لا بنفسه بأن يقال: "ألم تر ما فعل ربك" الخ لتهويل الحادثة، والإِيذان بوقوعها على كيفية هائلة، وهيئةٍ عجيبة دالة على عظم قدرة الله تعالى، وكمال علمه وحكمته وشرف رسوله صلى الله عليه وسلم فإِن ذلك من الإِرهاصات لما روي أن القصة وقعت في السنة التي ولد فيها النبي عليه الصلاة والسلام {أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ} أي ألم يهلكهم ويجعل مكرهم وسعيهم في تخريب الكعبة في ضياعٍ وخسار؟! {وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ} أي وسلَّط عليهم من جنوده طيراً أتتهم جماعات، متتابعة بعضها في إِثر بعض، وأحاطت بهم من كل ناحية {تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ} أي تقذفهم بحجارة صغيرة من طين متحجر، كأنها رصاصات ثاقبة لا تصل إلى أحدٍ إِلا قتلته {فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ} أي فجعلهم كورق الشجر الذي عصفت به الريح، وأكلته الدواب ثم راثته، فأهلكهم عن بَكْرة أبيهم، وهذه القصة تدل على كرامة الله للكعبة، وإِنعامه على قريش بدفع العدو عنهم، فكان يجب عليهم أن يعبدوا الله ويشكروه على نعمائه، وفيها مع ذلك عجائب وغرائب من قدرة الله على الانتقام من أعدائه قال أبو حيّان: كان صرف ذلك العدو العظيم عام مولده السعيد عليه السلام، إِرهاصاً بنبوته إِذ مجيء تلك الطيور على الوصف المنقول، من خوارق العادات والمعجزات المتقدمة بين أيدي الأنبياء عليهم السلام، وقد أهلكهم الله تعالى بأضعف جنوده وهي الطير التي ليست من عادتها أنها تقتل.

yacine414
2011-04-02, 10:32
سورة قُرَيْش

التذكير بنعم الله على قريش



بَين يَدَيْ السُّورَة



* تحدثت هذه السورة عن نعم الله الجليلة على أهل مكة، حيث كانت لهم رحلتان: رحلة في الشتاء إِلى اليمن، ورحلة في الصيف إِلى الشام من أجل التجارة، وقد أكرم الله تعالى قريشاً بنعمتين عظميتين من نعمه الكثيرة هما: نعمةُ الأمن والاستقرار، ونعمة الغنى واليسار {فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ* الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ}.





التذكير بنعم الله على قريش



{لإِيلافِ قُرَيْشٍ(1)إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ(2)فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ(3)الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ(4)}.



سبب النزول:

نزول الآية (1):

روى البيهقي في كتاب الخلافيات عن أم هانئ بنت أبي طالب : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "فضّل الله قريشاً بسبع خلال: أني منهم، وأن النبوة فيهم، والحجابة والسقاية فيهم، وأن الله نصرهم على الفيل، وأنهم عبدوا الله عز وجل عشر سنين لا يعبده غيرهم، وأن الله أنزل فيهم سورة من القرآن، ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَانِ الرَّحِيمِ . لإيلافِ قُرَيْشٍ* إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ * فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ* الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ*}" قال ابن كثير: وهو حديث غريب.



{لإِيلافِ قُرَيْشٍ إِيلافِهِمْ } هذه اللام متعلقة بالفعل الذي بعدها {فَلْيَعْبُدُوا} ومعنى {الإِيلاف} الإِلفُ والاعتياد يقال: ألف الرجل الأمر إلفاً وإِلافاً، وآلفه غيره إيلافاً والمعنى: من أجل تسهيل الله على قريش وتيسيره لهم ما كانوا يألفونه من الرحلة في الشتاء إِلى اليمن، وفي الصيف إِلى الشام كما قال تعالى {رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ} أي في رحلتي الشتاء والصيف، حيث كانوا يسافرون للتجارة، ويأتون بالأطعمة والثياب، ويربحون في الذهاب والإِياب، وهم آمنون مطمئنون لا يتعرض لهم أحد بسوء، لأن الناس كانوا يقولون: هؤلاء جيرانُ بيت الله وسُكان حرمه، وهم أهل الله لأنهم ولاة الكعبة، فلا تؤذوهم ولا تظلموهم، ولما أهلك الله أصحاب الفيل، وردَّ كيدهم في نحورهم، ازداد وقع أهل مكة في القلوب، وازداد تعظيم الأمراء والملوك لهم، فازدادت تلك المنافع والمتاجر، فلذلك جاء الامتنان على قريش، وتذكيرهم بنعم الله ليوحدوه ويشكروه {فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ} أي فليعبدوا الله العظيم الجليل، ربَّ هذا البيت العتيق، وليجعلوا عبادتهم شكراً لهذه النعمة الجليلة التي خصَّهم بها قال المفسرون: وإِنما دخلت الفاء {فَلْيَعْبُدُوا} لما في الكلام من معنى الشرط كأنه قال: إِن لم يعبدوه لسائر نعمه، فليعبدوه من أجل إِيلافهم الرحلتين، التي هي من أظهر نعمه عليهم، لأنهم في بلادٍ لا زرع ولا ضرع، ولهذا قال بعده {الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ} أي هذا الإِله الذي أطعمهم بعد شدة جوع، وآمنهم بعد شدة خوف، فقد كانوا يسافرون آمنين لا يتعرض لهم أحد، ولا يُغير عليهم أحد لا في سفرهم ولا في حضرهم كما قال تعالى {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ} وذلك ببركة دعوة أبيهم الخليل إِبراهيم عليه السلام حيث قال {رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا} وقوله {وَارْزُقْهُمْ مِنْ الثَّمَرَاتِ} أفلا يجب على قريش أن يفردوا بالعبادة هذا الإله الجليل، الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف ؟!

yacine414
2011-04-02, 10:33
سورة الْمَاعُون

حال الكافر الجاحد والمنافق المرائي



بَين يَدَيْ السُّورَة





* هذه السورة مكية، وقد تحدثت بإِيجاز عن فريقين من البشر هما:

أ- الكافر الجاحد لنعم الله، المكذب بيوم الحساب والجزاء.

ب- المنافق الذي لا يقصد بعمله وجه الله، بل يرائي في أعماله وصلاته.



* أما الفريق الأول: فقد ذكر تعالى من صفاتهم الذميمة، أنهم يهينون اليتيم ويزجرونه غلظةً لا تأديباً، ولا يفعلون الخير، حتى ولو بالتذكير بحق المسكين والفقير، فلا هم أحسنوا في عبادة ربهم، ولا أحسنوا إِلى خلقه.



* وأما الفريق الثاني: فهم المنافقون، الغافلون عن صلاتهم، الذين لا يؤدونها في أوقاتها، والذين يقومون بها "صورة" لا "معنى" المراءون بأعمالهم، وقد توعدت الفريقين بالويل والهلاك، وشنعت عليهم أعظم تشنيع، بأسلوب الاستغراب والتعجيب من ذاك الصنيع !!.





حال الكافر الجاحد والمنافق المرائي



{أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ(1)فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ(2)وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ(3)فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ(4)الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ(5)الَّذِينَ هُمْ يُرَاءونَ(6)وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ(7)}.



سبب النزول:

نزول الآية (1):

{أَرَأَيْتَ} قال ابن عباس: نزلت في العاص بن وائل السَّهْمي وقال السُّدِّي: نزلت في الوليد بن المغيرة. وقيل: في أبي جهل، كان وصياً ليتيم، فجاءه عرياناً يسأله من مال نفسه، فدفعه. وقال ابن جريج: نزلت في أبي سفيان، وكان ينحر في كل أسبوع جَزُوراً، فطلب منه يتيم شيئاً، فقَرَعه بعصاه، فأنزل الله هذه السورة.



نزول الآية (4):

{فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ}: أخرج ابن المنذر عن ابن عباس في قوله: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ} قال: نزلت في المنافقين كانوا يراؤون المؤمنين بصلاتهم إذا حضروا، ويتركونها إذا غابوا، ويمنعونهم العارِيّة، أي الشيء المستعار.



{أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ} ؟ استفهام للتعجيب والتشويق أي هل عرفت الذي يكذب الجزاء والحساب في الآخرة ؟ هل عرفت من هو، وما هي أوصافه ؟ إِن أردت أنْ تعرفه {فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ} أي فذلك هو الذي يدفع اليتيم دفعاً عنيفاً بجفوة وغلظة، ويقهره ويظلمه ولا يعطيه حقه {وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ} أي ولا يحث على إِطعام المسكين قال أبو حيان : وفي قوله {وَلا يَحُضُّ} إِشارة إِلى أنه هو لا يُطعم إِذا قدر، وهذا من باب الأولى لأنه إِذا لم يحضَّ غيره بخلاً، فلأن يترك هو ذلك فعلاً أولى وأحرى وقال الرازي: فإِن قيل: لِم قال {وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ} ولم يقل: ولا يُطعم المسكين ؟ فالجواب أنه إِذا منَع اليتيم حقه، فكيف يطعم المسكين من مال نفسه ؟ بل هو بخيل من مال غيره، وهذا هو النهاية في الخسة، ويدل على نهاية بخله، وقساوة قلبه، وخساسة طبعه، والحاصل أنه لا يُطعم المسكين ولا يأمر بإِطعامه، لأنه يكذّب بالقيامة، ولو آمن بالجزاء وأيقن بالحساب لما صدر عنه ذلك {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ} أي هلاكٌ وعذابٌ للمصلين المنافين، المتصفين بهذه الأوصاف القبيحة {الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ} أي الذين هم غافلون عن صلاتهم، يؤخرونها عن أوقاتها تهاوناً بها قال ابن عباس: هو المصلي الذي إِن صلى لم يزح لها ثواباً، وإِن تركها لم يخش عليها عقاباً وقال أبو العالية: لا يصلونها لمواقيتها، ولا يتمون ركوعها ولا سجودها، وقد سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الآية فقال: (هم الذين يؤخرون الصلاة عن وقتها) قال المفسرون: لمَّا قال تعالى {عنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ} بلفظة {عَنْ} عُلم أنها في المنافقين، ولهذا قال بعض السلف: الحمد لله الذي قال {عَنْ صَلاتِهِمْ} ولم يقل "في صلاتهم" لأنه لو قال "في صلاتهم" لكانت في المؤمنين، والمؤمنُ قد يسهو في صلاته، والفرق بين السهوين واضح، فإِن سهو المنافق سهو تركٍ وقلة التفات إِليها، فهو لا يتذكرها ويكون مشغولاً عنها، والمؤمن إِذا سها في صلاته تداركه في الحال وجبره بسجود السهو، فظهر الفارق بين السهوين، ثم زاد في بيان أوصافهم الذميمة فقال {الَّذِينَ هُمْ يُرَاءونَ} أي يصلون أمام الناس رياءً ليقال إِنهم صلحاء، ويتخشعون ليقال إِنهم أتقياء، ويتصدقون ليقال إِنهم كرماء، وهكذا سائر أعمالهم للشهرة والرياء {وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ} أي ويمنعون الناس المنافع اليسيرة، من كل ما يستعان به كالإِبرة، والفأس، والقدر، والملح، والماء وغيرها قال مجاهد: الماعون العارية للأمتعة وما يتعاطاه الناس بينهم كالفأس والدلو والآنية وقال الطبري: أي يمنعون الناس منافع ما عندهم، وأصل الماعون من كل شيء منفعته .. وفي الآية زجر عن البخل بهذه الأشياء القليلة الحقيرة، فإِن البخل بها نهاية البخل وهو مخل بالمروءة.

yacine414
2011-04-02, 10:34
سورة الْكَوْثَر

إكرام النبي صلى الله عليه وسلم بنهر الكوثر



بَين يَدَيْ السُّورَة





* سورة الْكَوْثَر مكية، وقد تحدثت عن فضل الله العظيم على نبيه الكريم، بإِعطائه الخير الكثير والنعم العظيمة في الدنيا والآخرة، ومنها نهر { الْكَوْثَرَ} وغير ذلك من الخير العظيم العميم، وقد دعت الرسول إلى إِدامة الصلاة، ونحر الهدي شكراً لله.



* وختمت السورة ببشارة الرسول صلى الله عليه وسلم بخزي أعدائه، ووصفت مبغضيه بالذلة والحقارة، والانقطاع من كل خير في الدنيا والآخرة، بينما ذِكرُ الرسول مرفوعٌ على المنائر والمنابر، واسمه الشريف على كل لسان، خالدٌ إِلى آخر الدهر والزمان.





إكرام النبي صلى الله عليه وسلم بنهر الكوثر



{إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ(1)فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ(2)إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ(3)}.



سبب نزول السورة:

أخرج البزار وغيره بسند صحيح عن ابن عباس قال: قدم كعب بن الأشرف مكة، فقال له قريش: أنت سيدهم، ألا ترى هذا المنصبر المنبتر من قومه، يزعم أنه خير منا، ونحن أهل الحجيج، وأهل السقاية، وأهل السدانة ! قال: أنتم خير منه، فنزلت: {إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ}.



{إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} الخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم تكريماً لمقامه الرفيع وتشريفاً أي نحن أعطيناك يا محمد الخير الكثير الدائم في الدنيا والآخرة، ومن هذا الخير "نهر الكوثر" وهو كما ثبت في الصحيح (نهرٌ في الجنة، حافتاه من ذهب، ومجراه على الدُّر والياقوت، تربتُه أطيبُ من المسك، وماؤه أحلى من العسل، وأبيض من الثلج، من شرب منه شربةً لما يظمأ بعدها أبداً) عن أنس قال: (بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم بين أظهرنا، إِذْ أغفى إِغفاءةً ثم رفع رأسه مبتسماً فقلنا: ما أضحكك يا رسول الله ؟ قال: أُنزلت عليَّ آنفاً سورة فقرأ بسم الله الرحمن الرحيم {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} السورة ثم قال: أتدرون ما الكوثر؟ قلنا: الله ورسوله أعلم قال: فإِنه نهرٌ وعدنيه ربي عز وجل، فيه خيرٌ كثير، هو حوضٌ ترد عليه أُمتي يوم القيامة، آنيتُه عدد النجوم، فيختلج العبد - أي ينتزع ويقتطع - منهم فأقول: إِنه من أمتي! فيقال إِنك لا تدري ما أحدث بعدك) قال أبو حيان: وذكر في الكوثر ستةً وعشرون قولاً، والصحيحُ هو ما فسره به رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (هو نهرٌ في الجنة حافتاه من ذهب، ومجراه على الدر والياقوت، تربتُه أطيب من المسك، وماؤه أحلى من العسل) وعن ابن عباس: الكوثرُ: الخير الكثير {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} أي فصلِّ لربك الذي أفاض ما أفاض عليك من الخير خالصاً لوجهه الكريم، وانحر الإِبل التي هي خيار أموال العرب شكراً له على ما أولاك ربك من الخيرات والكرامات قال ابن جزي: كان المشركون يصلون مكاءً وتصدية، وينحرون للأصنام فقال الله لنبيه صلى الله عليه وسلم: صلِّ لربك وحده، وانحر لوجهه لا لغيره، فيكون ذلك أمراً بالتوحيد والإِخلاص {إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ} أي إِن مبغضك يا محمد هو المنقطع عن كل خير قال المفسرون: لما مات "القاسم" ابن النبي صلى الله عليه وسلم قال العاص بن وائل: دعوه فإنه رجلٌ أبتر لا عقب له -أي لا نسل له- فإِذا هلك انقطع ذكره فأنزل الله تعالى هذه السورة، وأخبر تعالى أن هذا الكافر هو الأبتر وإِن كان له أولاد، لأنه مبتور من رحمة الله -أي مقطوع عنها- ولأنه لا يُذكر إِلا ذكر باللعنة، بخلاف النبي صلى الله عليه وسلم فإِن ذكره خالد إِلى آخر الدهر، مرفوع على المآذن والمنابر، مقرون بذكر الله تعالى، والمؤمنون من زمانه إِلى يوم القيامة أتباعه فهو كالوالد لهم صلوات الله وسلامه عليه.

yacine414
2011-04-02, 10:39
سورة الْكَافِرُون

البراءة من الشرك والضلال



بَين يَدَيْ السُّورَة



* سورة الْكَافِرُون مكية، وهي سورة التوحيد والبراءة من الشرك والضلال، فقد دعا المشركون رسول الله صلى الله عليه وسلم إِلى المهادنة، وطلبوا منه أن يعبد آلهتم سنة، ويعبدوا إِلهه سنة، فنزلت السورة تقطع أطماع الكافرين، وتفصل النزاع بين الفريقين: أهل الإِيمان، وعبدة الأوثان، وترد على الكافرين تلك الفكرة السخيفة في الحال والاستقبال.





البراءة من الشرك والضلال



{قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ(1)لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ(2)وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ مَا أَعْبُدُ(3)وَلا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدتُّمْ(4)وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ(5)لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ(6) }.



سبب نزولها:

أخرج الطبراني وابن أبي حاتم عن ابن عباس: "أن قريشاً دعت رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أن يعطوه مالاً، فيكون أغنى رجل بمكة، ويزوِّجوه ما أراد من النساء، فقالوا: هذا لك يا محمد، وتكفّ عن شتم آلهتنا، ولا تذكرها بسوء، فإن لم تفعل فاعبد آلهتنا سنة، قال: حتى أنظر ما يأتيني من ربي، فأنزل الله: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} إلى آخر السورة، وأنزل: {قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونَنِي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ} [الزمر: 64]".



{قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} أي قل يا محمد لهؤلاء الكفار الذين يدعونك إِلى عبادة الأوثان والأحجار {لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ} أي لا أعبد هذه الأصنام والأوثان التي تعبدونها، فأنا بريءٌ من آلهتكم ومعبوداتكم التي لا تضر ولا تنفع ولا تغني عن عابدها شيئاً قال المفسرون: إِن قريشاً طلبت من الرسول صلى الله عليه وسلم أن يعبد آلهتهم سنة، ويعبدوا إِلهه سنة، فقال، معاذ الله أن نشرك بالله شيئاً فقالوا: فاستلم بعض آلهتنا نصدّقك ونعبد إلهك، فنزلت السورة فغدا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المسجد الحرام وفيه الملأ من قريش، فقام على رؤوسهم فقرأها عليهم فأيسوا منه وآذوه وآذوا أصحابه وفي قوله {قُلْ} دليل على أنه مأمور بذلك من عند الله، وخطابه صلى الله عليه وسلم لهم بلفظ {يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} ونسبتهم إلى الكفر -وهو يعلم أنهم يغضبون من أن يُنسبوا إلى ذلك- دليلٌ على أنه محروسٌ من عند الله، فهو لا يبالي بهم ولا بطواغيتهم {وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ} أي ولا أنتم يا معشر المشركين عابدون إلهي الحق الذي أعبده وهو الله وحده، فأنا أعبد الإله الحقَّ وهو الله ربُّ العالمين، وأنتم تعبدون الأحجار والأوثان، وشتان بين عبادة الرحمن، وعبادة الهوى والأوثان !! {وَلا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدتُّمْ} تأكيدٌ لما سبق من البراءة من عبادة الأحجار، وقطعٌ لأطماع الكفار كأنه قال: لا أعبد هذه الأوثان في الحال ولا في الاستقبال، فأنا لا أعبد ما تعبدونه أبداً ما عشتُ، لا أعبد أصنامكم الآن، ولا فيما يستقبل من الزمان {وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ} أي ولستم أنتم في المستقبل بعابدين إِلهي الحق الذي أعبده {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} أي لكم شرككم، ولي توحيدي، وهذا غاية في التبرؤ من عبادة الكفار، والتأكيد على عبادة الواحد القهار، قال المفسرون: معنى الجملتين الأوليين: الاختلاف التام في المعبود، فإِله المشركين الأوثان، وإِله محمد الرحمن، ومعنى الجملتين الآخرتين: الاختلاف التام في العبادة، كأنه قال: لا معبودنا واحد، ولا عبادتنا واحدة.

yacine414
2011-04-02, 10:41
سورة النصر



قرب أجل النبي صلى الله عليه وسلم



بَين يَدَيْ السُّورَة



* سورة النصر مدنية، وهي تتحدث عن "فتح مكة" الذي عزَّ به المسلمون، وانتشر الإِسلام في الجزيرة العربية، وتقلمت أظافر الشرك والضلال، وبهذا الفتح المبين دخل الناس في دين الله، وارتفعت راية الإِسلام، واضمحلت ملة الأصنام، وكان الإِخبار بفتح مكة قبل وقوعه، من أظهر الدلائل على صدق نبوته عليه أفضل الصلاة والسلام.





قرب أجل النبي صلى الله عليه وسلم



{إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ(1)وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا(2)فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا(3) }.



سبب نزولها:

أخرج البخاري وغيره عن ابن عباس قال: "كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يُدْخلني مع أشياخ بدر، فكأن بعضهم وَجَد في نفسه، فدعاهم ذات يوم، فأدخله معهم. قال ابن عباس: فما رأيت أنه دعاني فيهم يومئذ إلا ليريهم، فقال: ما تقولون في قول الله عز وجل: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} ؟ فقال بعضهم: أمرنا أن نحمد الله ونستغفره إذا نَصَرنا وفتَح علينا، وسكت بعضهم، فلم يقل شيئاً، فقال لي: أكذاك تقول يا ابن عباس ؟ فقلت: لا. فقال: ما تقول ؟ فقلت: هو أجل رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلمه الله له، قال: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} فذلك علامة أجلك، {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا} فقال عمر: لا أعلم منها إلا ما تقول".



{إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم، يذكّره ربه بالنعمة والفضل عليه وعلى سائر المؤمنين، والمعنى: إِذا نصرك الله يا محمد على أعدائك، وفتح عليك مكة أم القرى قال المفسرون: الإِخبارُ بفتح مكة قبل وقوعه إِخبارٌ بالغيب، فهو من أعلام النبوَّة {وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا} أي ورأيت العرب يدخلون في الإِسلام جماعاتٍ جماعات من غير حربٍ ولا قتال، وذلك بعد فتح مكة صارت العرب تأتي من أقطار الأرض طائعة قال ابن كثير: إِنَّ أحياء العرب كانت تنتظر فتح مكة، يقولون: إن ظهر على قومه فهو نبيٌّ، فلما فتح الله عليه مكة دخلوا في دين الله أفواجاً فلم تمض سنتان حتى استوثقت جزيرة العرب إِيماناً، ولم يبق في سائر قبائل العرب إِلا مظهرٌ للإِسلام {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ} أي فسبّح ربك وعظمه ملتبساً بحمده على هذه النعم، واشكره على ما أولاك من النصر على الأعداء، وفتح البلاد، وإِسلام العباد {وَاسْتَغْفِرْهُ} أي اطلب منه المغفرة لك ولأُمتك {إِنَّهُ كانَ تَوَّابًا} أي إِنه جلّ وعلا كثير التوبة، عظيم الرحمة لعباده المؤمنين.

yacine414
2011-04-02, 10:43
سورة المسد

جزاء أبي لهب وامرأته



بَين يَدَيْ السُّورَة





* سورة المسد مكية، وتسمى سورة اللهب، وسورة تبَّتْ، وقد تحدثت عن هلاك "أبي لهب" عدّو الله ورسوله، الذي كان شديد العداء لرسول الله صلى الله عليه وسلم، يترك شغله ويتبع الرسول صلى الله عليه وسلم ليفسد عليه دعوته، ويصدَّ الناس عن الإِيمان به، وقد توعدته السورة في الآخرة بنارٍ موقدة يصلاها ويشوى بها، وقرنت زوجته به في ذلك، واختصها بلون من العذاب شديد، هو ما يكون حول عنقها من حبلٍ من ليفٍ تجذب به في النار، زيادة في التنكيل والدمار.





جزاء أبي لهب وامرأته



{تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ(1)مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ(2)سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ(3)وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ(4)فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ(5) }



سبب النزول:

عن ابن عباس قال: لما نزلت {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} صعد النبي صلى الله عليه وسلم على الصفا ونادى: يا بني فهر، يا بني عدي، لبطون من قريش حتى اجتمعوا، فجعل الرجل إِذا لم يستطع أن يخرج أرسل رسولاً لينظر ما هو الخبر، فاجتمعت قريش وجاء عمه "أبو لهب" فقالوا: ما وراءك ؟ فقال صلى الله عليه وسلم: أرأيتكم لو أخبرتكم أنَّ خيلاً بالوادي تريد أن تغير عليكم أكنتم مصدِّقي ؟ قالوا: نعم ما جربنا عليك كذباً قط، قال: {نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ} فقال له أبو لهب: تباً لك يا محمد سائر اليوم، ألهذا جمعتنا ؟ فأنزل الله {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} .. السورة.

ب- وعن طارق المحاربي قال: "بينا أنا بسوق ذي المجاز إِذْ أنا بشاب حديث السن يقول أيها الناس: "قولوا لا إِله إِلا الله تفلحوا" وإِذا رجل خلفه يرميه قد أدمى ساقيه وعرقوبيه - مؤخر القدم - ويقول : يا أيها الناس إِنه كذابٌ فلا تصدقوه، فقلت: من هذا ؟ فقالوا هو محمد يزعم أنه نبي، وهذا عمه "أبو لهب" يزعم أنه كذاب".



{تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ} أي هلكت يدا ذلك الشقي {أَبِي لَهَبٍ} وخاب وخسر وضلَّ عمله {وَتَبَّ} أي وقد هلك وخسر، الأول دعاءٌ، والثاني إِخبارٌ كما يقال: أهلكه اللهُ وقد هلك قال المفسرون: التبات هو الخسار المفضي إِلى الهلاك، والمراد من اليد صاحبُها، على عادة العرب في التعبير ببعض الشيء عن كله وجميعه، وأبو لهب هو "عبد العُزى بن عبد المطلب" عم النبي صلى الله عليه وسلم وامرأته العوراء "أم جميل" أخت أبي سفيان، وقد كان كلٌ منهما شديد العداوة للرسول صلى الله عليه وسلم فلما سمعت امرأته ما نزل في زوجها وفيها، أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو جالس في المسجد عند الكعبة ومعه أبو بكر رضي الله عنه، وفي يدها فهْر - قطعة - من الحجارة، فلما دنت من الرسول صلى الله عليه وسلم أخذ الله بصرها عنه فلم تر إِلاّ أبا بكر، فقالت: يا أبا بكر: بلغني أن صاحبك يهجوني، فوالله لو وجدته لضربت بهذا الحجر فاه، ثم أنشدت تقول:

مُذمَّماً عصينا. وأمره أبينَا. ودينه قليْنا

ثم انصرفت فقال أبو بكر يا رسول الله: أما تراها رأتك ؟ قال: ما رأتني لقد أخذ الله بصرها عني، وكانت قريش يسبون الرسول صلى الله عليه وسلم يقولون: مذمماً بدل "محمد" وكان يقول صلوات الله عليه: ألا تعجبون كيف صرف الله عني أذى قريش ؟ يسبون ويهجون مذمماً وأنا محمد! ؟ قال الخازن: فإِن قلت: لم كناه وفي التكنية تشريف وتكرمة؟ فالجواب من وجوه:

أحدهما: أنه كان مشتهراً بالكنية دون الاسم، فلو ذكره باسمه لم يعرف.

الثاني: أنه كان اسمه "عبد العزى" فعدل عنه إِلى الكنية لما فيه من الشرك -لأن العزَّى صنم فلم تضف العبودية إِلى صنم.

الثالث: أنه لما كان من أهل النار، ومآله إِلى النار، والنارُ ذاتُ لهب، وافقت حاله كنيته وكان جديراً بأن يذكر بها {مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ} أي لم يفده ماله الذي جمعه، ولا جاهه وعزه الذي اكتسبه قال ابن عباس: {وَمَا كَسَبَ} من الأولاد، فإِن ولد الرجل من كسبه .. روي أن الرسول صلى الله عليه وسلم لما دعا قومه إِلى الإِيمان، قال أبو لهب: إِن كان ما يقول ابن أخي حقاً، فإِني أفتدي نفسي من العذاب بمالي وولدي فنزلت قال الألوسي: كان لأبي لهب ثلاثة أبناء "عُتبة" و "معتب" و "عُتيبة" وقد أسلم الأولان يوم الفتح، وشهدا حنيناً والطائف، وأما "عُتيبة" فلم يسلم، وكانت "أم كلثوم" بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم عنده، وأختها "رُقية" عند أخيه عُتبة، فلما نزلت السورة قال أبو لهب لهما: رأسي ورأسكما حرام إِن لم تطلقا ابنتي محمد، فطلقاهما ولما أراد "عُتيبة" - بالتصغير - الخروج إلى الشام مع أبيه قال: لآتينَّ محمداً وأوذينَّه فأتاه فقال يا محمد: إِني كافر بالنجم إِذا هوى، وبالذي دنا فتدلى، ثم تفل أمام النبي صلى الله عليه وسلم وطلَّق ابنته "أم كلثوم" فغضب صلى الله عليه وسلم ودعا عليه فقال: (اللهم سلط عليه كلباً من كلابك) فافترسه الأسد، وهلك أبو لهب بعد وقعة بدر بسبع ليالٍ بمرضٍ معدٍ كالطاعون يسمى "العدسة" وبقي ثلاثة أيام حتى أنتن، فلما خافوا العار حفروا له حفرة ودفعوه إِليها بعود حتى وقع فيها ثم قذفوه بالحجارة حتى واروه، فكان الأمر كما أخبر به القرآن {سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ} أي سيدخل ناراً حامية، ذات اشتعال وتوقُّد عظيم، وهي نار جهنم {وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ} أي وستدخل معه نار جهنم، امرأته العوراء "أم جميل" التي كانت تمشي بالنميمة بين الناس، وتوقد بينهم نار العداوة والبغضاء قال أبو السعود: كانت تحمل حزمة من الشوك والحسك فتنثرها بالليل في طريق النبي صلى الله عليه وسلم لإِيذائه وقال ابن عباس: كانت تمشي بالنميمة بين الناس لتفسد بينهم {فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ} أي في عنقها حبلٌ من ليف قد فتل فتلاً شديداً، تعذب به يوم القيامة قال مجاهد: هو طوقٌ من حديد وقال ابن المسيب: كانت لها قلادة فاخرة من جوهر، فقالت: واللاتِ والعُزَّى لأنفقنها في عداوة محمد، فأعقبها الله منها حبلاً في جيدها من مسد النار.

yacine414
2011-04-02, 10:44
سورة الإخلاص

توحيد الله وتنزيهه



بَين يَدَيْ السُّورَة





* سورة الإِخلاص مكية، وقد تحدثت عن صفات الله جل وعلا الواحد الأحد، الجامع لصفات الكمال، المقصود على الدوام، الغني عن كل ما سواه، المتنزه عن صفات النقص، وعن المجانسة والمماثلة، وردت على النصارى بالقائلين بالتثليث، وعلى المشركين الذين جعلوا لله الذرية والبنين.





توحيد الله وتنزيهه



{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ(1)اللَّهُ الصَّمَدُ(2)لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ(3)وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ(4) }



سبب نزول السورة:

أخرج الإمام أحمد والترمذي وابن جرير عن أبي بن كعب: أن المشركين قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: يا محمد، انسب لنا ربك، فأنزل الله تعالى: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ *}.



{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} أي قل يا محمد لهؤلاء المشركين المستهزئين: إِن ربي الذي أعبده، والذي أدعوكم لعبادته هو واحد أحد لا شريك له، ولا شبيه له ولا نظير، لا في ذاته، ولا في صفاته، ولا في أفعاله، فهو جل وعلا واحد أحد، ليس كما يعتقد النصارى بالتثليث "الآب، والابن، وروح القدس" ولا كما يعتقد المشركون بتعدد الآلهة قال ابن جزي: واعلم أن وصف الله تعالى بالواحد له ثلاثة معانٍ، كلها صحيحة في حقه تعالى:

الأول: أنه واحد لا ثاني معه فهو نفيٌ للعدد.

والثاني: أنه واحد لا نظير ولا شريك له، كما تقول: فلان واحد في عصره أي لا نظير له. والثالث: أنه واحد لا ينقسم ولا يتبعض.

والمراد بالسورة نفي الشريك رداً على المشركين، وقد أقام الله في القرآن براهين قاطعة على وحدانيته تعالى، وذلك كثير جداً، وأوضحها أربعة براهين:

الأول: قوله تعالى {أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ}؟ - وهذا دليل الخلق والإِيجاد - فإِذا ثبت أن الله تعالى خالق لجميع الموجودات، لم يصح أن يكون واحد منها شريكاً له.

والثاني: قوله تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} وهو دليل الإِحكام والإِبداع.

والثالث: قوله تعالى: {قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلا} وهو دليل القهر والغلبة.

الرابع: قوله تعالى {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ} -وهو دليل التنازع والاستعلاء ثم أكد تعالى وحدانيته واستغناءه عن الخلق فقال: {اللَّهُ الصَّمَدُ} أي هو جل وعلا المقصود في الحوائج على الدوام، يحتاج إِليه الخلق وهو مستغنٍ عن العالمين قال الألوسي: الصَّمد السيدُ الذي ليس فوقه أحد، الذي يصمدُ إِليه-أي يلجأ إِليه- الناسُ في حوائجهم وأمورهم{لَمْ يَلِدْ} أي لم يتخذ ولداً، وليس له أبناء وبنات، فكما هو متصف بالكمالات، منزَّه عن النقائص قال المفسرون: في الآية ردٌّ على كل من جعل لله ولداً، كاليهود في قولهم: {عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ} والنصارى في قولهم: {الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ} وكمشركي العرب في زعمهم أن {الملائكة بنات الله} فردَّ الله تعالى على الجميع في أنه ليس له ولد، لأن الولد لا بدَّ أن يكون من جنس والده، والله تعالى أزلي قديم، ليس كمثله شيء، فلا يمكن أن يكون له ولد، ولأن الولد لا يكون إِلا لمن له زوجة، والله تعالى ليس له زوجة وإِليه الإِشارة بقوله تعالى: {بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ} ؟! {وَلَمْ يُولَدْ} أي ولم يولد من أبٍ ولا أُمٍ، لأن كل مولود حادث، والله تعالى قديم أزلي، فلا يصح أن يكون مولوداً ولا أن يكون له والد، وقد نفت الآية عنه تعالى إِحاطة النسب من جميع الجهات، فهو الأول الذي لا ابتداء لوجوده، القديم الذي كان ولم يكن معه شيء غيره {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} أي وليس له جل وعلا مثيلٌ، ولا نظير، ولا شبيه أحدٌ من خلقه، لا في ذاته، ولا في صفاته، ولا في أفعاله {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} قال ابن كثير: هو مالك كل شيء وخالقه، فكيف يكون له من خلقه نظيرٌ يساميه، أو قريب يدانيه ؟ تعالى وتقدَّس وتنزَّه، وفي الحديث القدسي (يقول الله عز وجل: كذبني ابن آدم ولم يكن له ذلك، وشتمني ولم يكن له ذلك، فأما تكذيبه إِياي فقوله: لن يعيدني كما بدأني، وليس أول الخلق بأهون عليَّ من إِعادته، وأما شتمه إِياي فقوله: اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا، وأنا الأحد الصمد، الذي لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ).

yacine414
2011-04-02, 10:46
سورة الْفَلَق

الاستعاذة بالله من المخلوقات الشريرة



بَين يَدَيْ السُّورَة



* سورة الْفَلَق مكية، وفيها تعليم للعباد أن يلجأوا إِلى حمى الرحمن، ويستعيذوا بجلاله وسلطانه من شر مخلوقاته، ومن شر الليل إِذا أظلم، لما يصيب النفوس فيه من الوحشة، ولانتشار الأشرار والفجار فيه، ومن شر كل حاسد وساحر، وهي إحدى المعوذتين اللتين كان صلى الله عليه وسلم يعوِّذ نفسه بهما.





الاستعاذة بالله من المخلوقات الشريرة



{قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ(1)مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ(2)وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ(3)وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ(4)وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ(5) }



سبب نزول المعوذتين:

السبب: قصة سحر لَبيد بن الأعصم اليهودي رسولَ الله صلى الله عليه وسلم كما جاء في الصحيحين عن عائشة، فإنه سحره في جُفّ (قشر الطلع) فيه مشاطة رأسه صلى الله عليه وسلم، وأسنان مشطه، ووتر معقود فيه إحدى عشرة عُقْدة مغروز بالإبر، فأنزلت عليه المعوذتان، فجعل كلما قرأ آية انحلت عقدة، ووجد صلى الله عليه وسلم في نفسه خِفّة، حتى انحلت العُقْدة الأخيرة، فقام، فكأنما نشط من عِقال. وجعل جبريل يَرْقى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيقول : "باسم الله أرقيك، من كل شيء يؤذيك، من شر حاسد وعَيْن، والله يشفيك".



{قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} أي قل يا محمد ألتجئ وأعتصم برب الصبح الذي ينفلق عنه الليل، وينجلي عنه الظلام قال ابن عباس: {الْفَلَقِ} الصبحُ كقوله تعالى: {فَالِقُ الإِصْبَاحِ} وفي أمثال العرب: هو أبينُ من فلق الصبح قال المفسرون: سبب تخصيص الصبح بالتعوذ أن انبثاق نور الصبح بعد شدة الظلمة، كالمثل لمجيء الفرج بعد الشدة، فكما أن الإِنسان يكون منتظراً لطلوع الصباح، فكذلك الخائف يترقب مجيء النجاح {مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ} أي من شر جميع المخلوقات من الإِنس، والجن، والدواب، والهوام، ومن شر كل مؤذٍ خلقه الله تعالى {وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ} أي ومن شر الليل إِذا أظلم واشتد ظلامه، فإِن ظلمة الليل ينتشر عندها أهل الشر من الإِنس والجن ولهذا قالوا في المثل "الليلُ أخفى للويل" قال الرازي: وإِنما أُمر أن يتعوذ من شر الليل، لأن في الليل تخرج السباع من آجامها، والهوام من مكانها، ويهجم السارقُ والمكابر، ويقع الحريق، ويقل فيه الغوث {وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ} أي ومن شر السواحر اللواتي يعقدن عقداً في خيوط وينفثن - أي ينفخن - فيها ليضروا عباد الله بسحرهن، ويفرقوا بين الرجل وزوجه {وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ} قال أبو حيّان: وسبب نزول المعوذتين قصة "لبيد بن الأعصم" الذي سحر رسول الله صلى الله عليه وسلم في مشطٍ ومشاطة وجف - قشر الطلع - طليعةٍ ذكر، ووترٍ معقود فيه إِحدى عشر عقدة، مغروزٍ بالإِبر، فأنزلت عليه المعوذتان، فجعل كلما قرأ آية انحلت عقدة ووجد في نفسه خفة صلى الله عليه وسلم حتى انحلت العقدة الأخيرة فقام فكأنما نشط من عقال {وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ} أي ومن شر الحاسد الذي يتمنى زوال النعمة عن غيره، ولا يرضى بما قسمه الله تعالى له.

yacine414
2011-04-02, 10:48
سورة النَّاس

الاستعاذة من شر الشياطين



بَين يَدَيْ السُّورَة



* سورة النَّاس مكية، وهي ثاني المعوذتين، وفيها الاستجارة والاحتماء برب الأرباب من شر أعدى الأعداء، إِبليس وأعوانه من شياطين الإِنس والجن، الذين يغوون الناس بأنواع الوسوسة والإِغواء.



* وقد ختم الكتاب العزيز بالمعوذتين وبدأ بالفاتحة، ليجمع بين حسن البدء، وحسن الختم، وذلك غاية الحسن والجمال، لأن العبد يستعين بالله ويلتجئ إِليه، من بداية الأمر إِلى نهايته.





الاستعاذة من شر الشياطين



{قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ(1)مَلِكِ النَّاسِ(2)إِلَهِ النَّاسِ(3)مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ(4)الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ(5)مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ(6) }



{قُلْ أَعُوذُ} أي قل يا محمد أعتصم وألتجئ وأستجير {بِرَبِّ النَّاسِ} أي بخالق الناس ومربيهم ومدبر شئونهم، الذي أحياهم وأوجدهم من العدم، وأنعم عليهم بأنواع النعم قال المفسرون: إِنما خصَّ الناس بالذكر - وإِن كان جلت عظمته رب جميع الخلائق - تشريفاً وتكريماً لهم، من حيث إِنه تعالى سخَّر لهم ما في الكون، وأمدهم بالعقل والعلم، وأسجد لهم ملائكة قدسه، فهم أفضل المخلوقات على الإِطلاق {مَلِكِ النَّاسِ} أي مالك جميع الخلق حاكمين ومحكومين، ملكاً تاماً شاملاً كاملاً، يحكمهم، ويضبط أعمالهم، ويدبّر شؤونهم، فيعز ويذل، ويغني ويُفقر {إِلَهِ النَّاسِ} أي معبودهم الذي لا ربَّ لهم سواه. قال القرطبي: وإِنما قال {مَلِكِ النَّاسِ* إِلَهِ النَّاسِ} لأن في الناس ملوكاً فذكر أنه ملكهم، وفي الناس من يعبد غيره فذكر إنه إِلههم ومعبودهم، وأنه الذي يجب إن يستعاذ به ويُلجأ إِليه، دون الملوك والعظماء، وترتيب السورة بهذا الشكل في منتهى الإِبداع، وذلك لأن الإِنسان أولاً يعرف أن له رباً، لما يشاهده من أنواع التربية {رَبِّ النَّاسِ} ثم إِذا تأمل عرف أن هذا الرب متصرفٌ في خلقه، غني عن خلقه فهو الملك لهم {مَلِكِ النَّاسِ} ثم إِذا زاد تأمله عرف أنه يستحق أن يُعبد، لأنه لا عبادة إِلا للغني عن كل ما سواه، المفتقر إِليه كل ما عداه {إِلَهِ النَّاسِ} وإِنما كرر لفظ الناس ثلاثاً ولم يكتف بالضمير، لإِظهار شرفهم وتعظيمهم والاعتناء بشأنهم، كما حسن التكرار في قول الشاعر:

لا أرى الموتَ يسبقُ الموتَ شيء نغَّص الموتُ ذا الغِنَى والفقيرا

قال ابن كثير: هذه ثلاث صفات من صفات الرب عز وجل "الربوبية" و "الملك" و "الإِلهية" فهو ربُّ كل شيء ومليكه وإِلهه، وجميع الأشياء مخلوقة ومملوكة له، فأُمر المستعيذَ أن يتعوذ بالمتصف بهذه الصفات {مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ} أي من شر الشيطان الذي يلقي حديث السوء في النفس، ويوسوس للإِنسان ليغريه بالعصيان { الْخَنَّاسِ} الذي يخنس أي يختفي ويتأخر إِذا ذكر العبد ربه، فإِذا غفل عن الله عاد فوسوس له وفي الحديث "إِن الشيطان واضع خطمه - أنفه - على قلب ابن آدم، فإِذا ذكر الله خنس، وإِذا نسي الله التقم قلبه فوسوس" {الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ} أي الذي يلقي لشدّة خبثه في قلوب البشر صنوف الوساوس والأوهام. قال القرطبي: ووسوستُه هو الدعاء لطاعته بكلام خفي يصل مفهومه إلى القلب من غير سماع صوت {مِنْ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ} {مِنْ} بيانية أي هذا الذي يوسوس في صدور الناس، هو من شياطين الجِن والإِنس كقوله تعالى: {شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا} فالآية استعاذة من شر الإِنس والجن جميعاً، ولا شك أن شياطين الإِنس، أشدُّ فتكاً وخطراً من شياطين الجن، فإِن شيطان الجن يخنس بالاستعاذة، وشيطان الإِنس يُزين له الفواحش ويغريه بالمنكرات، ولا يثنيه عن عزمه شيء، والمعصوم من عصمه الله.

yacine414
2011-04-02, 10:51
بحمد الله أكملت نسخ تفسير كل سور القرآن الكريم، أتمنى ان يستفيد منها الجميع

لقاء الجنة
2011-04-02, 12:44
http://www.kulilk.com/up/upload/4414c_4761.gif

adoula 41
2011-04-05, 17:18
شكرا على هذا الموضوع المتميز أظن أنك قد تعبت عند وضعه

حكيم مخلوف
2011-04-05, 17:42
بارك الله فيك على هذا الموضوع القيم

نسرين ز
2011-12-06, 16:54
شكرا على هذا الموضوع المفيد و جزاك الله خيرا