تسجيل الدخول

مشاهدة النسخة كاملة : بقايا ..


الأستاذ الأستاذ
2011-03-06, 20:25
بقلم القاص: يوسف بن يزة (http://www.arabicstory.net/index.php/click.php?p=author&aid=520) - الجزائر

مدخل: الشجرة التي تغطي الغابة أضحت عارية، تفقد أوراقها ورقة، ورقة… أغصانها تعانقت، جذورها غزت أعماق الأرض تتشبث بأديمها..، تأبى الركوع، ترفع رأسها أبدا يغزو عنان السماء.. لكنها تفقد أوراقها مصفرة ذابلة، تسقط واحدة تلو الأخرى… الشجرة أضحت عارية والخريف يأبى الرحيل..
النص:.. خالتي حليمة هكذا كنا نسميها.. تأتي صباحا إلى الحي الجامعي تلتحف ملاءة سوداء… تستيقظ باكرا لتقطع مسافة بين مقر سكناها ومقر العمل حيث تقوم بأعمال التنظيف ثم تعود مساء وكلها نشاط وحيوية…
ذات صباح خالتي حليمة لم تأت وافتقد الحي ابتسامتها المميزة وهي تغدو وتروح كفراشة الربيع… ولأننا نحبها ذهبنا لزيارته…
نقطة سوداء تتراءى من بعيد أسفل حائط أبيض… نحن الآن في طريقنا إلى منزل خالتي حليمة، الطريق أمامنا يمتد كحبل لا ينتهي.. نتقدم شيئا فشيئا… النقطة السوداء أسفل الحائط تكبر وتكبر… شبح خالتي حليمة يظهر بوضوح… إنها هنا تسند ظهرها إلى الحائط… السواد يكسو جسمها المتهالك من رأسها إلى أخمص قدميها… ابتسامتها المعتادة غارت في أعماق حزن عميق يطبع تقاسيم وجهها الوقور والدمع يسري عبر تجاعيده وديانا تشق مساحات خديها المطبوعتين بأختام عقدها الخامس.. في حجرها طفل صغير تملأه الحيرة وهو يبحث عن حنانها الذي افتقده… خالتي حليمة لم تعد كما كانت.. هي كومة من الحزن تغطيها أسمال بالية… نظرت إلينا وأجهشت بالبكاء قائلة: أنتم أيضا أبنائي… شفتاها ترتجفان ويداها تداعبان شعر الطفل الذي بدا عليه أنه لم يفهم شيئا.. خالتي حليمة لا تزال هادئة والدمع لم يغادر مقلتيها.. فجأة.. يرتفع العويل وتتراص النائحات صفا يرددن كلمات مبهمة ذ.. الصراخ يزداد حدة.. الكل ينتحب… خالتي حليمة لا تزال هادئة مطأطئة رأسها وفي حجرها الطفل الصغير يهدهد بقايا قرص خبز الشعير بأطراف أصابعه ويقضم منه تارة… الضجيج يملأ الآفاق والأعناق مشرئبة إلى الطريق المؤدي إلى القرية..
من بعيد يتراءى موكب من السيارات تتقدمهم سيارة إسعاف وأخرى عسكرية.. الموكب يقترب في هدوء تستقبله القرية بضوضاء عارمة، امتزج النواح وصراخ الأطفال بنباح الكلاب… منظر ألقى هالة من الحزن على القرية التي تستقبل في هذه اللحظات فقيدا آخر هو الابن الثاني لخالتي حليمة الذي يلقى حتفه بهذه الطريقة… يصل الموكب، تنهض خالتي حليمة، ترفع عينيها إلى السماء وتطلق زغرودة رددتها الجبال طويلا حتى صارت الدنيا تزغرد… يصطف مجموعة من الجنود بزيهم الأخضر المهيب… منظرهم أيقض فيها ذكريات راحت تبحث عن تفاصيلها في بقايا ذاكرتها علها تجد السلوى وهي تستقبل ابنها في تابوت مسجى براية تناسقت الألوان لتجعل منها منظرا يشرح النفوس ويقهر هالة الموت التي تحوم على المكان.. خالتي حليمة لا تزال هادئة تذرف دموعا غزيرة دون أن تنبس ببنت شفة… أمر حير جميع الحاضرين.. تخطو باتجاه سيارة الإسعاف… الجنود ينحنون إكراما لها… ترفع الغطاء عن التابوت بهدوء وتجلد.. الطفل الصغير لا يزال ممسكا بطرف ثوبها، يقتفي آثارها.. تلقي نظرة وتبعث بصرخة من الأعماق… إنها العاصفة التي تلي الهدوء الحذر .. هالها منظر ابنها الذي استحال إلى بقايا جسم بشري جمعت أجزاؤه و ركمت في ثوب أبيض، فراحت تلطم خديها وتصرخ في هستيريا استجابت لها القرية فصار النواح يشكل سمفونية حزينة تملأ الأجواء… الطفل الصغير بدوره راح يبكي وهو يتتبع خطواتها العشوائية.. الجميع واقفون لا يبدون حراكا كأنهم تماثيل قدت من حجر الصوان.. أعينهم شاخصة وهم يتفرجون على هذه المسرحية التي أراد القدر أن يعيد عرضها في القرية وأن تكون خالتي حليمة بطلتها للمرة الثانية.. باقي نساء القرية ممن مررن بنفس التجربة وجدن الفرصة للتعبير عن مكنوناتهن ... خالتي حليمة.. أم الرجال.. هكذا كانت تسمى، أضحت وحيدة رفقة الطفل الصغير الذي لا يزال يبحث عن هدوئها ليركن إلى صدرها، يمتص منه الأمن و الطمأنينة.. خالتي حليمة .. خنساء العصر.. فقدت ابنها البكر رفقة زوجها في حرب التحرير ومنذ شهور اختفى آخر ولم تعد تعرف عنه شيئا، وقبل أيام شيعت ثالثا إلى دار القرار وهي اليوم تعيد الكرة… إنها الشجرة التي تغطي الغابة، أضحت عارية، تفقد أوراقها ورقة ورقة.. أغصانها تعانقت.. جذورها غزت أعماق الأرض تتشبث بأديمها.. تأبى الركوع .. ترفع رأسها أبدا يغزوا عنان السماء، لكنها تفقد أوراقها، مصفرة ذابلة.. تسقط واحدة تلو الأخرى.. الشجرة أضحت عارية تفقد شرفها والخريف يأبى الرحيل... خالتي حليمة منذ ذلك اليوم لم تعد تأتي إلى الحي الجامعي، فهي تذهب كل صباح إلى مقبرة القرية .. هناك حيث تقضي اليوم مع عائلتها باكية تستأنس بذاكرتها لتقاوم وحشة المكان و الزمان، ثم تعود في المساء لإحضار ابنها الصغير من المدرسة وتبني على أنقاض الموت حياة بسيطة، يقودها شعاع ابنها الذي استحال إلى بقايا حلم لا تزال تناضل من أجل تحقيقه.

الأستاذ الأستاذ
2011-03-06, 20:28
وفي ومخلصة

من قصص الكاتب يوسف بن يزة

مدخل: عندما انتفضت شوارع الجمهورية في وجه التمثال الأعظم.. أصدرت السلطات مرسوما يقضي بوقف حضر استيراد المرايا.
النص:
قال الوثن.. ورحت أشق التلال والوهاد.. أمخر عباب البحر، أطوي الفيافي طيا.. أبحث عن طيفها الذي سكن ذاكرتي منذ مئات السنين.. كان عليّ أن أدخل عوالم الجن والكائنات المتحولة بعد أن طفت بالأرض وباقي كواكب السماء.. حسدونا يا صديقي.. أمطرونا بسهامهم المسمومة.. قالوا.. محال أن تعشق الشمس القمر.. محال أن يستحيل المحاق إلى بدر.. محال أن يصير المحال حقيقة.. وكانت الشمس تهوى القمر.. وكان القمر يحيا بنورها.. ألم يقل العلماء إن ضوء القمر ماهو إلا انعكاس لضوء الشمس.. تخيل يا صديقي لو أن القمر احتفظ بنور الشمس لنفسه.. كيف ستكون ليالي العشاق..؟ تخيل يا صديقي لو أن القمر أخفى وجهه عن الكون.. هكذا يريده الخفافيش أن يفعل.. لكن القمر يحب الشمس.. يغازلها من الغسق.. إلى تباشير الصبح.. يختلي بها في أرجاء الكون الفسيح، يحرصهما الإله وملائكة الرحمة.. هذان العاشقان يا صديقي في الآفاق يجسدان رغبة الإله.. إنه الحب.. يقولون وراء كل رجل عظيم امرأة.. أنا يا صديقي لم أر مثل هذا الحب الأبدي.. يلتقيان منذ الأزل يراقبان الطبيعة.. يسخران من عبث الأقدار.. ثابتان لا يشوبهما التغيير.. هذا القمر يحب تلك الشمس.. أي معنى للوفاء أصدق من هذا..؟ آه يا صديقي.. لو رأيته يعانقها لأدركت عظمة الخالق.. ذات يوم.. اشتاق لرؤيتها بعد شتاء من الغيوم والكدر.. ولما انجلت عن الدنيا سحابات العتمة قفز القمر من مداره وارتمى في حضنها.. عانقها طويلا.. ضمها إلى صدره.. قبلها حتى استحالت أنفاسها إلى لهيب يلفح الوجود.. أتدري ماذا حصل.. غابت الشمس عن الدنيا.. امتص القمر كامل إشعاعها.. بقبلة واحدة.. إنه الحب يا صديقي.. وهؤلاء الجبناء يسمونه كسوفا.. لم يجرؤ أحد أن يقول إن القمر يحب الشمس.. أحيانا.. يعانقها.. لا أحد، لأن الحسد يمنعهم.. وراء كل قمر عظيم يا صديقي شمس عظيمة، تمنحه الدفء في الفراغ الكوني البارد.. تمنحه الحنان في الأرجاء الفسيحة الموحشة.. وتمنحه النور الذي يهديه إلى عشاق الأرض.. إلى تلك القلوب المتعلقة ببعضها البعض.. هذا القمر يا صديقي.. وفي لحبيبته.. يدور حول الأرض، لكنه يعشق الشمس.. بنورها يحيا من أجلها.. هناك في الآفاق.. لا أحد يزعجهما.. يتسامران ليلا لينام القمر نهارا.. لا يا صديقي.. إنه لا ينام.. بل يختفي خجلا من نورها العظيم.. رأيته يعانقها ذات يوم في وضح النهار.. عندها أظلمت الدنيا وقال الناس.. لقد انكسفت الشمس.. هذه الشمس يا صديقي مخلصة لحبيبها، تغيب عنا ولا تغيب عنه، تبتعد عنا شتاء لتقترب منه.. تقترب منا صيفا لتقترب منه.. هذه المخلصة يا صديقي تحب ذاك الوفي.. إنها سنة كونية نادرة ترسم معاني الحب.. فما أتعسكم يا طواحين الخبث والهوى الفاسق.. أمامكم أمثلة لا تحصى وأنتم تمارسون الخيانة بسبق الإصرار والترصد.. ولم يصمت الوثن حتى نهرته بعنف.. كفى.. كفى.. يا صديقي ما عدت أقدر على مقاومة كلماتك.. وسكت الوثن..

الأستاذ الأستاذ
2011-03-06, 20:31
طيش رصاصة

قصة بقلم: يوسف بن يزة

مدخل: عندما يستبد الطيش يستحيل العيش
النص:
أخيرا تحررت من عقالها.. كالسهم الناري انطلقت من فوهة البندقية.. شقراء تسبح في الأجواء بسرعة الضوء.. أطلقت صرخة مدوية معلنة بداية حريتها.. كانت لحظة ميلاد متفردة.. تحركت السبابة.. لامست الزناد.. حدثت شرارة.. سرت قشعريرة في جسديهما.. الزناد يحب السبابة، هكذا اعتقد الصياد عندما لاحظ أن شيئا ما يحدث تحت ماسورة البندقية.. هناك انجذاب غير طبيعي بين السبابة والزناد.. هكذا فهم الصياد.. مرة أخرى لامست السبابة الزناد.. توقف الزمن للحظة.. دهش الصياد.. هناك عصيان مدني تحت ماسورة البندقية.. حاول أن يسحب يده.. لكنها رفضت.. فجأة لاح في الأفق سرب من طيور النورس.. زم شفتيه.. جحظت عيناه ثم راحت تلاحق السرب.. تحت ماسورة البندقية كان الاشتباك في قمة عنفوانه.. قبلت السبابة الزناد.. عانقته.. ضمها إليه بعنف فتراجع إلى الوراء بضع مليمترات.. حدث انفجار.. بهت الصياد.. تفرقت النوارس وقذف الرعب ببعضها في خضم الموج المتلاطم.. كان البحر غاضبا ولا أحد علم بسبب غضبه، بعد الانفجار سمع الناس زغرودة قادمة من جهة الشاطئ.. اخترق صوتها هدوءا كان يلف عاشقين تحت السرو في الضاحية الجنوبية لمدينة الأوثان.. من فوهة البندقية ولدت رصاصة.. من علاقة غرامية محرمة بين السبابة والزناد.. رغم أنف الصياد.. ولدت لقيطة.. انطلقت من الفراغ بسرعة الضوء.. تبحث عن حضن يستقبلها.. عاهر فاجر.. شعرها أصفر يغري.. قوامها نحيف كالمها في الفيافي تتبختر.. في لمح البصر أبصرت جسدين تحت شجرة السرو.. استطلعت الأمر.. بدا الجسدان جسدا واحدا.. ثم صارا جسدين.. أكلتها الغيرة.. صارت تتأفف.. أقبلت على أحدهما اختارت موضع النبض فيه.. اخترقته.. تفجر شلال دم.. شعرت بزلزال يهز الجسد.. واصلت اختراقه.. نفذت منه.. أحست بقواها تخور.. عقدت العزم على مواصلة الطريق.. بكل حقد دفين.. اخترقت الجسد الآخر..تفجر شلال دم.. مكثت في موضع النبض برهة ثم انفجرت.. وقبل أن تلفظ أنفاسها الأخيرة.. رددت كلمات.. قالت.. ما ذنب المسمار يا خشبة.. أحست بالندامة.. أدركت جسامة ما اقترفت.. ثم راحت تهوي في قعر ملتهبة على وقع أنات كانت أذناها تلتقطها من الفضاء الخارجي

الأستاذ الأستاذ
2011-03-06, 20:47
الحلم المحظور

قصة ، من : يوسف بن يزة (http://www.arabicstory.net/index.php/click.php?p=author&aid=520)

.. هناك حيث تربو الهزيمة في كنف النصر، هناك حيث يعشش الذل في عز العز والشرف.. بين تلك الشامخات التي تغازل النجوم في صمت، وتلك الوديان التي تغزو الأعماق غير آبهة بشرود الآفاق ومن يرتادها. على نتوء يعلو جلبة الطبيعة ترقد مركوندة في هدوء سحري، تمتد من سفح الجبل إلى السفح الآخر، تتخللها وديان كأنها العروق في الجسم تبث الحياة في كل مكان، هي تجاعيد على أديمها تنبئ بجلال الروح التي تسكنها..
منذ ذلك الزمن الموغل في الماضي تلتحف بساطا أخضرا كأنه السندس يملأ الأجفان حياة.. هي هدية الرب إلى شياطين الإنس، بين الفينة والأخرى تخرج عن المألوف تزهو مع إشراقة شمس كل صباح، تغني للورى، تنشد أعذب الألحان مع زقزقات العصافير التي تستقبل الصباح، تسبح رب الأكوان..
هناك حيث لا تزال نائمة في ليل أبدي صنعه أهلها من جلابيب عقولهم المنخورة، المهزومة بأساطير صنع منها الدهر قوتا لعياله...
في لحظة استرقها الزمن من يومياتهم الصاخبة ولدت صبية حسناء، جاءت إلى الحياة مع أفول آخر شعاع من الشمس، يودع الوجود في يوم خريفي غاضب، جاءت كضيفة ترجو البقاء، صبية يشع محياها نورا، وتتقد عيناها رغبة في الحياة، فرح الأهل بالقادم الجديد وأقاموا الطقوس تبركا بها واختاروا لها من الأسماء اسم بلدتهم " مركوندة".
عاشت مركوندة في كنف أسرتها تجعل من خدمة والديها سببا لوجودها.. التحقت بـ "الصرعوفة" ترعى الغنم منذ صباها، وراحت تجوب البطاح والوهاد في السابعة وتعلمت صناعة "الكسرة" في العاشرة..، كبرت "مركوندة" وكبر معها الأمل في حياة تنسيها تعاسة الماضي، تعلمت كيف تمخض اللبن في جلد الماعز المعلق على قائمة ثلاثية الأرجل، تعلمت كيف تحلب البقرة وتركب الحمار لتزود أباها بالمؤونة في الحقل.. "مركوندة" جسد فتاة يواجه قسوة الطبيعة بإرادة رجل جلد.. تعلمت من جبال " الرفاعة " رفعتها وشموخها ومن ثلوج الشتاء كيف يكون قلبها ناصع البياض، واتخذت من قسوة الطبيعة مثالا للحرص على راحة والديها.. هي الركيزة الخامسة في بيت له ثلاث جدران والرابع جذع شجرة بلوط.
في ليلة مقمرة جلست مركوندة قرب التنور وبجانبها أمها صاحبة الستين عاما.. تتسامران، تتحدثان عن حصاد اليوم من أخبار الجيران وأحوالهم، تمسك بيدها قطعة خشبية، ترسم أشكالا غريبة في رماد التنور، تحرك بها الفحم تارة وتنفخ فيه تارة أخرى.. كان الجميع غارقا في صمت يقطعه صفير الرياح في الخارج وثغاء النعاج في الزريبة، فجأة تتظاهر "مركوندة" بالإعياء، تخاطب أمها قائلة:
هل يمكنني أن أزور الطبيب هذا الأسبوع .؟! تفاجأت الأم بهذا السؤال وتلعثم لسانها.. نظرت إليها مستغربة وقالت: ويحك لو سمعك أبوك لذبحك.. لأحرقك.
.. تندهش الفتاة وتدفن رأسها في صدر أمها وقد امتلأت رعبا وبعد صمت قالت:
بل قولي سيطفئ الحريق الذي في داخلي، الموت أرحم من هذا السجن..
تنهرها الأم ملمحة:
لابد أن بك سحرا، لابد أنك أصبت بمكروه " فلانة " ـ تقصد جارتهم ـ تلك الحسودة التي تكرهنا..
تضحك الفتاة والأسى يعصر قلبها، ترفع رأسها معلقة:
المسحور من يسجنني في هذا القفص الأسود.. تذكر السواد وهي تخدش أديم التنور الأسود.. و تعود الأم إلى أيام شبابها.. تذكرت طقوس العائلة ورغبتها في الانطلاق.. وذلك الشاب الذي اقتحم حياتها بدون إذن، نظرت إلى ابنتها في شفقة وابتسمت بوقار أعاد الفتاة إلى عالمها وقالت:
أعلم أن مرضك لا يملك الطبيب دواءه..
فاستدارت البنت حياء وخجلا، وقالت محاولة تغيير الموضوع:
ترى إلى متى نبقى هكذا تائهين مثل تلال الصحراء لا تمل من التنقل مرغمة؟.. ترى إلى متى يبقى مصيرنا في أيدي غيرنا..؟.
تنهدت طويلا وسكتت محدقة في التنور تراقب شعاعا أرسله القمر عبر إحدى ثقوب السقف وراح يداعب بقايا الحطب المحترق، بدت وكأنها تحدثه قائلة:
أنت تشبهني، قد تسجنك السحب، لكنك تتحرر بين الفينة والأخرى، كلنا أسرى المجهول، كلنا ضحايا الجبروت.. حياتنا مربع يشكل أركانه الاستبداد .. الحياة كوخ أسود وفقط..
تصمت.. الرياح لا تزال في الخارج مصفرة، تحس الفتاة بثقل يغزو جسدها، تقاوم ثم تستلم، لقد غلبها النعاس، كانت متعبة جدا..
نامت "مركوندة" قرب التنور تجعل من أديم الأرض بساطا ومن سقف الكوخ لحافا، ومن التنور تمتص دفئا يغذي أحلامها.. تغيب الفتاة كشمس متعبة من الاحتراق، هناك حيث تستحم وتسبح في أحلامها اللذيذة بينما يدخل والدها عائدا من الحقل وينادي عليها بصوت جهوري فتتدخل الأم طالبة الهدوء موضحة بأن ابنتها مريضة..
يجلس الوالد قرب التنور يتأملها، كانت المرة الأولى التي يرى فيها ابنته طريحة الفراش.. يستفسر عن حالتها فتجيبه الأم بأن الطبيب وحده من يملك الإجابة عن سؤاله، يرمقها بنظرة غريبة طالبا منها إحضار الطعام، فجأة يسمع ابنته تتكلم وهي نائمة، كانت تغازل بن عمها وغريمه، لقد باحت بمكنوناتها رغما عنها، لقد علم الأب بالسر الذي طالما أخفته في صدرها،.. هكذا إذن يا ابنة الفحل .. كلمة قالها وهو يروح ويجيء غير مصدق بأن ابنته ترتكب المحظور ..
كيف لها أن تتكلم مع ابن الجيران؟ ثم من تكون هذه التي تجلب العار لوالدها بكل هذه الوقاحة؟، وكيف يكون موقفه مع الجيران عندما يعلمون …؟!،
أسئلة استعرضها في مخيلته وقد أخذ الغضب يسري في جسده حتى بدأ يرتجف، يسكت مرة أخرى مواصلا الاستماع إليها، كانت تبتسم في نومها وقد أصبحت كلماتها أكثر وضوحا، نائمة في صورة ميتة أو ميتة في صورة نائمة وقد تدحرج شعاع القمر نحوها وارتسم على وجنتيها مشكلا حلقة صفراء.. بدا وكأنه يقبلها، يعوضها حنان والدها الذي افتقدته منذ ولادتها، كانت ملاكا نائما وقد تعاظمت ملامح البشر على محياها وازداد دم الوالد غليانا.. ينهض من مكانه، ينظر يمينا ثم شمالا، يرفع عصاه وينهال على الفتاة ضربا وهو يصرخ في هستيريا المجانين..
صار هاكذا يا واحد الخاينة .. فاستفاقت من نومها مذعورة، تصرخ، تطلب النجدة، تهرع الأم لإنقاذها فتأخذ نصيبها من الضرب، بينما تتسلل البنت هاربة، وقد لاحقها الوالد بكلماته قائلا:
لن تعودي إلى هذا البيت مادمت حيا.. تهرب الفتاة في ليلة داجية، هائمة بين الوديان.. لأول مرة تحس أنها تملك حرية اختيار المسلك، حائرة تشق طريقها نحو المجهول، بين الفينة والأخرى تلتفت إلى الوراء علها تجد والدها يرجو عودتها موضحا الأمر، لكن طال انتظارها، هي حتى الآن تنتظر.

1993

- مركوندة: قرية بالأوراس الجزائري
- الكسرة: خبز الشعير
- الصرعوفة: قطيع الغنم
- الرفاعة: من جبال الأوراس

حـبـيـبو عـبـدو السوفي
2012-05-29, 22:51
مشكور يأستاذ بارك الله فيك وخاصة 2


:dj_17: