yacine414
2011-02-22, 11:38
تقديم عام :
إن المطلع على وضعية الأطفال وأساليب معاملتهم في العهود السابقة يندهش من المكانة الدنيا التي كانوا يحتلونها في المجتمع ومن المعاملة السيئة والمنحطة بل والمشمئزة التي كانوا يعاملون بها، إذ كان الأطفال يقتلون بمجرد ولادتهم كما كانوا بمثابة متاع يباع ويشترى، أما الأطفال غير الشرعيين فكانوا يقتلون كما يقتل الأطفال الذين يولدون بإعاقة معينة، وكان للأب حق التخلص من ابنه في أي وقت شاء وبأي وسيلة شاء، وكان الإناث من الأطفال أسوأ حظا وأكثر تعرضا للخطر لأنهن كن يعتبرن مجرد وسيلة للإنجاب والنسل فقط. وفي ظل وضع كهذا كانوا يتعرضون لأبشع أنواع الاستغلال كأن يقعوا ضحية الاستغلال الجنسي، ولم يكن الحس العام آنذاك يعتبر ذلك شيئا مخلا بالآداب، ولم يقف الأمر عند هذا الحد بخصوص تعذيب الأطفال وتوجيه الأذى إليهم وإنما امتد إلى جعلهم خدما في البيوت والقيام بالسخرة في محلات الدعارة واتخاذهم وسيلة لإرضاء الرغبات الجنسية للراشدين كما كان يمارس عليهم أبشع أنواع التعذيب الجسدي حيث كانت تسلخ جلودهم أو تشوه أجسامهم بعد عمليات تشوبه رهينة فيتحولون إلى كائنات تثير الضحك والاستهزاء في المحافل الرسمية، فضلا عن ذلك كان الأطفال يقتلون أو يدفنون أحيانا ليقدموا قربانا إلى الآلهة .
وأمام هذا الوضع، فقد كان لزاما انتظار قدوم الدين الإسلامي السمح الذي قضى على هذه الممارسات والإعتداءات الشنيعة في حق براءة الأطفال، فأولى لهم اهتماما كبيرا منذ كونهم أجنة في بطون أمهاتهم رعاهم مواليدا وأطفالا، فحدد حقوق الطفل على أسرته ومجتمعه حيث أكد على ضرورة إحاطته بكل ما يحتاجه من وسائل تكفل حسن نمو وسلامة دينه وجسمه ونفسيته.
ولنا في الآيات القرآنية العديدة التي دعت إلى حماية الطفولة وتكريمها خير مثال يوضح ذلك، حيث يقول عز وجل: "ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق نحن نرزقكم وإياهم، إن قتلهم كان خطئا كبيرا" . كما يقول عز وجل: "إذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسودا وهو كظيم يتوارى من القوم من سوء ما بشر به أيمسكه على هون أم يدسه في التراب ألا ساء ما يحكمون" ولنا أيضا خير مثال في السنة النبوية الطافحة بالمودة والنبل اتجاه الأطفال فعن عائشة رضي الله عنها قالت: جاء أعرابي إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فقال: إنكم تقبلون الصبيان وما نقبلهم، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: "أو أملك لك أن نزع الله الرحمة من قلبك" كما سئل النبي صلى الله عليه وسلم "أي أهل بيتك أحب إليك؟ قال صلى الله عليه وسلم: الحسن والحسين" .
وقد كان العنصر الأكثر أهمية وخصوصية في المعالجة الإسلامية لحقوق الإنسان عموما وحقوق الطفل على وجه الخصوص يتركز في القناعة بأنها مفروضة للأبد بإرادة الله وأنها لم تنتزع بنضال أو صراع قوي أو طبقات سياسية بل تقررت للإنسان بعينه في كل زمان ومكان وهي حقوق تحفظ إنسانية الفرد وتحترم ذاته وكيانه دون أن تتم التضحية بمصالح الجماعة .
وعلى هدي ما جاءت به الشريعة الإسلامية، وإيمانا من المجتمع الدولي بأهمية الطفل والطفولة كمرحلة أولى في حياة الإنسان فقد تعالت العديد من الأصوات داعية إلى الاهتمام بها، وقد تم ذلك خاصة خلال القرن العشرين الذي كان بحق قرن الطفل بكل ما في الكلمة من معنى وقد صدق تنبؤ الباحثين الذين تكهنوا بذلك في بداية القرن الماضي حيث تحقق للطفل من رعاية واهتمام ما لم ينله في العهود السابقة، فغدا الطفل حقا "مالئ الدنيا وشاغل الناس" إذ استقطب اهتمام العلوم القانونية والنفسية والتربوية والاجتماعية والطبية ...
فكان ذلك إيذانا بصدور العديد من المواثيق والعهود الدولية الداعية إلى الاهتمام بالطفل، وإذا ما أردنا أن نؤرخ لمرحلة الاهتمام بقضايا الطفولة ضمن قواعد القانون الدولي نقول بأن اهتمام المنتظم الدولي بحقوق الطفل كان قبل المناداة بإقرار حقوق الإنسان بصفة عامة.
فقد بدأ الاهتمام بالطفولة على المستوى الدولي في إطار عصبة الأمم بإصدار إعلان جنيف لحقوق الطفل سنة 1924 وإلى وقتنا الحاضر وبالضبط سنة 1989 تاريخ صدور الاتفاقية الأممية لحقوق الطفل التي تشكل حاليا منعطفا حاسما في تاريخ الاهتمام بالطفولة بحيث أصبح ينظر إلى حقوق الطفل على أساس أنها حقوق إنسانية وعالمية لا يمكن التغاضي عنها أو تأجيلها.
وقد لقيت هذه الاتفاقية ترحيبا كبيرا حيث صادقت عليها معظم بلدان العالم فكان بلدنا من البلدان السباقة للإنخراط في هذه المسيرة وهذا ما يؤكده خطاب الملك الراحل الحسن الثاني "وما تصديقه على اتفاقية الأمم المتحدة لحقوق الطفل في شهر يونيو 1993 بفيينا إلا دليلا على اهتمامنا وحرصنا على تطبيق مبادئها وتوصياتها".
ولقد بذل المغرب جهودا كبرى منذ توقيعه على الإتفاقية الأممية لحقوق الطفل من أجل النهوض بأوضاع الطفولة وتكريس حقوقها من خلال ملاءمة التشريعات الوطنية مع توصياتها وإنشاء مؤسسات خاصة بالأطفال مثل المرصد الوطني لحقوق
الطفل برلمان الطفل ، المجالس الجماعية للأطفال ...
وعلى الرغم من المجهودات الكبرى التي بذلها المغرب سواء على المستوى القانوني أو المؤسساتي من أجل حماية الطفولة فإن نسبة مهمة من الأطفال لا تزال تتعرض لكافة أشكال سوء المعاملة والممارسات المحطة بالكرامة الإنسانية من استغلال جنسي وعنف بدني ونفسي واختطاف واستغلال اقتصادي حتى في أبشع صوره... وهذا ما يؤكده خطاب الملك محمد السادس للمؤتمر الوطني لحقوق الطفل حيث قال "نؤكد أن فئات من أطفالنا ما زالت تعاني الاستغلال وسوء المعاملة والتعرض للانحراف وغياب الرعاية الأسرية".
وحقيقة إن الاعتراف الرسمي بوضعية الطفل ضحية سوء المعاملة دليل قوي على الرغبة في الإصلاح لمواجهة الظاهرة التي أصبحت تشكل وصمة العار الأكثر حساسية ومرارة في جبين المجتمع المغربي.
وتجدر الإشارة هنا إلى أن إساءة معاملة الأطفال ظاهرة لها ماض طويل ولكن تاريخ الاهتمام بها قصير جدا، حيث لم تحظ باهتمام كبير إلا في العقود الثلاثة الماضية ارتباطا بتنامي الاهتمام بحقوق الطفل باعتبار الطفولة أما المستقبل وصانعته فهي نصف الحاضر وكل المستقبل وأفضل رأسمال تراهن عليه البشرية في وقتنا الحاضر لخوض غمار التنمية الحقيقية.
ووعيا بخطورة الظاهرة وما تفرزه من انعكاسات خطيرة على الطفل الأسرة والمجتمع فقد دعت الأميرة للامريم رئيسة المرصد الوطني لحقوق الطفل خلال الدورة التاسعة للمؤتمر الوطني لحقوق الطفل كل المهتمين بقضايا الطفولة إلى الاهتمام بهذه الظاهرة حيث جاء في رسالتها "إن الدورة التاسعة للمؤتمر الوطني لحقوق الطفل التي تنعقد هذه السنة تحت شعار أمن وسلامة الأطفال والتي ستشارك فيها مختلف الأطر المعنية ستنكب بناء على نفس المنهجية التي اعتمدت في دراسة هذا الموضوع للتداول حول الأطفال ضحايا سوء المعاملة ومن بينها على الخصوص الاستغلال الجنسي الاستغلال الاقتصادي، إشكاليات ظواهر الأطفال المحتاجين إلى رعاية أسرية، الآثار السلبية للمخدرات على اليافعين أخطار هجرة الأطفال بجميع أشكالها، مخاطر داء فقدان المناعة المكتسبة على الطفولة وكذا وضعية الطفلة وحمايتها".
وإيمانا منا بالخطورة الكبيرة لسلوكيات إساءة معاملة الأطفال، فإن القول بمجرد الاكتفاء بدراسة الظاهرة لاستجلاء أسبابها وانعكاساتها على الطفل، الأسرة والمجتمع يعد أمرا غير مجد ما لم نتطرق لأوجه الحماية الجنائية التي أقرها المشرع للأطفال الضحايا.
فمن الثابت أن الاكتفاء بمجرد إقرار حقوق خاصة للطفل يعد بلا معنى ما لم تواكبها نصوص جنائية تعزز هذه الحماية وتؤكد تنفيذها، بحيث يصبح الجانب التشريعي محور المحاور جميعها وقطب الرحى بما يتضمنه من جزاءات من شأنها الردع والإيلام حال انتهاك حقوق الطفل أو تجاوزها أو المساس بها، لاسيما وأن الطفل ولأسباب بيولوجية ونفسية واجتماعية تتمثل في الضعف الجسماني وعدم النضج العقلي وقلة خبرته وإدراكه يكون أكثر احتمالية للوقوع ضحية لجرائم إساءة المعاملة .
ومن هنا تظهر أهمية دراسة موضوع الحماية الجنائية للطفل ضحية سوء المعاملة لكن قبل الحديث عن أهمية دراسة هذا الموضوع يجب أن نوضح مصطلحات الموضوع.
أولا: تعريف مصطلحات الموضوع:
إن تحديد نطاق البحث يتطلب تحديد المقصود بالكلمات التي يتكون منها عنوان البحث: الحماية الجنائية –الطفل- ضحية سوء المعاملة.
1- الحماية الجنائية:
حفلت الندوات والمؤتمرات وكذا وسائل الإعلام خلال العقود الأخيرة بالحديث عن حقوق الطفل وما يجب أن يتمتع به من عناية وحماية خاصة، وبما أن حقوق الطفل لا يكون لها أدنى أثر ما لم تحظ بحماية جنائية متميزة، فإنه من اللازم توضيح المقصود بالحماية الجنائية ويمكن القول في هذا الخصوص بأن الحماية الجنائية المقصودة في هذا البحث تنقسم إلى نوعين حماية موضوعية والثانية إجرائية.
فالحماية الموضوعية تستهدف تتبع الأنشطة ذات العلاقة بالمصلحة المراد حمايتها وذلك بجعل صفة الطفولة عنصرا تكوينيا في التجريم أو بجعلها ظرفا مشددا للعقاب .
فيما الحماية المسطرية أو الإجرائية تعني الضمانات الحمائية التي أقرها المشرع في قانون المسطرة الجنائية لإقرار حماية خاصة للطفل الضحية عند لجوئه إلى المؤسسة القضائية للدفاع عن حقوقه.
والحماية الجنائية (الموضوعية أو الإجرائية) قد تكون عامة يستفيد منها الشخص الراشد كما يستفيد منها الطفل، كما قد تكون خاصة وهذا هو المهم بالنسبة إلينا لإبراز مدى تمتع الطفل بحماية خاصة تميزه كطفل، حماية تمليها ظروفه الخاصة والمتمثلة في ضعف مداركه وعجزه عن الدفاع عن نفسه أو عرضه أو مواجهة أساليب الإغراء أو الإفساد التي يتعرض لها.
2- الطفـل:
إن تحديد المقصود بمصطلح "الطفل" وتحديد المرحلة الزمنية في عمر الكائن البشري المسماة بالطفولة يكتسي أهمية كبيرة تتجاوز مجرد المدلولات اللفظية أو المناقشات الفقهية، فالحقيقة إن تحديد المقصود بالطفل يرتبط بمجموعة متنوعة من الحقوق التي يتمتع بها من يصدق عليه هذا الوصف، وبمجموعة متنوعة من الالتزامات يتحملها والدي الطفل ومن يقوم على رعايته كذا سلطات الدولة المعنية .
وعليه، فالطفل لغة يعني الناعم الرخص من كل شيء ومن ثم فإن الطفل في الإنسان هو الصغير الذي لم يشتد عوده بعد، والطفولة هي مرحلة من عمر الإنسان ما بين ولادته إلى أن يصير بالغا متكاملا.
أما اصطلاحا، فالطفل ودون الخوض في تعداد التعاريف التي تختلف باختلاف الثقافات يمكن تعريفه من الوجهة الإسلامية بأنه إنسان لم يصل سن البلوغ، باعتبار أن هذا العنصر هو مناط التكليف في الشريعة الإسلامية إلى جانب العقل .
أما تعريف الطفل في الاتفاقيات الدولية، فإنه على الرغم من ورود مصطلح "الطفل" و"الطفولة" في العديد من الوثائق الدولية، واتفاقيات وإعلانات حقوق الإنسان، إلا أن معظم هذه الوثائق لم تحدد أو لم تحدد على وجه الدقة المقصود بهذين التعبيرين ولم تضع حدا أقصى لسن الطفل وتعد اتفاقية حقوق الطفل الوثيقة الدولية الأولى التي تعرف بشكل واضح وصريح المقصود بالطفل، فطبقا لنص المادة الأولى من الاتفاقية يقصد بمصطلح الطفل كل إنسان لم يتجاوز الثامنة عشرة، ما لم يبلغ سن الرشد قبل ذلك بموجب القانون المنطبق عليه" .
وارتباطا بموضوعنا فالقانون الجنائي يعرف التذبذب وعدم الانسجام بين نصوصه بخصوص تحديد السن (الطفولة) التي يقف عندها حد التمتع ببعض المقتضيات الخاصة بالطفولة، فتارة يحدد الحد الأقصى للطفولة عند بلوغ الشخص 16 سنة ، وتارة يرفع هذا الحد إلى حدود بلوغ سن 18 سنة كاملة . لهذا فإنه من الضروري الدعوة إلى توحيد سن الطفولة سواء داخل القانون الجنائي أو داخل المنظومة القانونية المغربية التي تعرف تباينا بهذا الخصوص، وذلك لتحقيق الإنسجام فيما بينها، ولتكون ملائمة لما جاءت به اتفاقية حقوق الطفل وهنا أقترح أن يتم الاتفاق على تمديد سن الطفولة في كل النصوص القانونية إلى حين بلوغ 18 سنة كاملة.
2-إساءة معاملة:
يعتبر مفهوم الإساءة للطفل من المفاهيم الحديثة نسبيا في الثقافة الغربية، فقد ولد هذا المفهوم في مطلع الستينات من القرن الماضي كنتيجة لأعمال طبيب العظام الأنجليزي "Kempe" وعلى الرغم من انتقال المفهوم إلى الثقافات الإنسانية عامة، وتطورت آليات جديدة لتعريف المفهوم والظواهر التي يعبر عنها وتطوير أدوات جديدة لقياس حجم وأشكال الإساءة للطفل في العديد من الثقافات الإنسانية عامة والثقافات الغربية خاصة، إلا أن الثقافة العربية لا تزال تقف على أعتاب هذا المفهوم تارة، وتتحفظ عليه تارة، وترفضه جملة وتفصيلا تارة أخرى .
ومن بين المفاهيم الكلاسيكية التي طرحت عن هذه الظاهرة ما قدمه كامب وآخرون سنة 1962 "من متلازمة الطفل المنسحق" وتصف هذه المتلازمة سوء معاملة الطفل على أنها إيقاع الأذى الخطير أو إصابات خطرة بالأطفال الصغار بواسطة الوالدين أو مقدمي الرعاية وغالبا ما ينتج عن الإصابات التي تشمل كسورا وتجمعات دموية بالدماغ وإصابات متعددة في الأنسجة الرخوة، عجز مستديم وحدوث وفاة".
ويطرح "فونتانا 1964 Fontana مفهوم سوء المعاملة في إطار متلازمة "إساءة المعاملة" ويرى بأن سوء معاملة الأطفال هي إحدى النهايات الطرفية لطائفة من إساءة المعاملة التي تتضمن أيضا الحرمان الانفعالي والإهمال وسوء التغذية ويوسع جيل (GIL 1974) مفهوم سوء معاملة الطفل ليشمل أي فعل يحرم الطفل من أن يحقق إمكاناته الجسمية والنفسية .
وبعد ذلك توالت مجموعة من التعاريف المختلفة باختلاف الجهة الصادرة عنها فقد اعتبر مجلس أوربا لعام 1978 سوء المعاملة تعبر عن الأفعال والانتهاكات التي تمس الطفل بشكل خطير وتضر بوحدته الجسمانية وتطوره الجسدي والعاطفي والفكري والمعنوي وتتمظهر في الجروح الجسدية والنفسية.
أما الجمعية الفرنسية للإعلام والبحث حول الطفل ضحية سوء المعاملة فقد عرفت سوء المعاملة بأنها استعمال للقوة البدنية أو امتناع عن إسعاف يمارس على الطفل من قبل والديه أو راشدين مكلفين به بقصد إلحاق الضرر به أو جرحه أو قتله .
والحقيقة، أن وضع تعريف شامل وموحد لظاهرة سوء معاملة الأطفال أمر في غاية الصعوبة لسببن على الأقل:
السبب الأول: يتمثل في تعدد أشكال الاعتداءات التي يمكن إدراجها ضمن الظاهرة وهي إما مادية أو معنوية:
- الاعتداءات المادية: الضرب، الجرح، التعريض للخطر، الاغتصاب، هتك العرض، الانتهاك الجنسي، استغلال القوة البدنية والعقلية...
- الاعتداءات المعنوية والنفسية: الإهمال، المقاطعة، التجاهل، الشتم التجريح...
السبب الثاني: يتمثل في كون "سوء" و"إساءة معاملة الأطفال" من المفاهيم غير المحددة نظريا وإجرائيا وترجع صعوبة تحديدها لإرتباطها بالسياق الاجتماعي والثقافي والزماني الخاص بسلوك التعدي، حيث إن سلوكيات سوء المعاملة مرتبطة بالعرف والقبول الاجتماعي وحدود مكانية وزمانية محددة وبالتالين فإن الإطار المرجعي للحكم على هذه السلوكيات متغير ومحكوم ثقافيا مما يجعله متباين اجتماعيا.
كما أن المفهوم ذاته يتضمن معان متعددة ومحكومة بإدراك الملاحظ وبنيّة الفاعل، وبالإطار المرجعي للفاعل والملاحظ، فما يرتكب من الأهل بقصد التربية يختلف عما يرتكب من الأهل لغايات مرضية أو إشباع حاجات جنسية منحرفة، وما يرتكب في ثقافة ما ويعد إساءة معاملة ليس بالضرورة أن يكون كذلك في ثقافة أخرى أو حتى داخل المجتمع الواحد .
والحقيقة أن تعدد مفاهيم إساءة معاملة الأطفال قد يخلق موقفا عمليا وعلميا قد لا يتضح معه نطاق الظاهرة وحدودها والمتغيرات العامة فيها، الأمر الذي قد يخلق بدوره صورة غامضة أو غير محددة المعالم لا تخضع لشروط التحكم في الظاهرة وقابليتها للمطاوعة والمعالجة، فوضوح المفهوم وتحديد المصطلح مسألة مهمة وملحة، لأنها تنطوي على تنظيمات عديدة في النواحي التشخيصية لتلك الحالات، واستراتيجيات وآلات التدخل الإرشادي والنفسي والعلاجي والغطاء التشريعي والقانوني لهذه الظاهرة .
وعلى الرغم من الصعوبات التي تثار بخصوص تعريف هذه الظاهرة، فإنني أتفق مع التعريف الذي خلص إليه المرصد الوطني لحقوق الطفل لتعني بذلك إساءة معاملة الأطفال: "التصرفات الإرادية أو غير الإرادية الصادرة عن أي شخص كيفما كانت صفته والتي تلحق بأية وسيلة كانت السلامة الجسمانية والعقلية والمعنوية للطفل وتحدث لديه ضررا ماديا أو معنويا أو نفسيا أحس به الطفل الضحية أو لم يحس به، وأيا كان المجال الذي يوجد فيه".
ثانيا: أهمية دراسة الموضوع ودواعي اختياره:
إزاء ما تقدم، وإزاء الرغبة في حماية الطفل ضحية إساءة المعاملة، كان لابد من البحث عن مدى إقرار المنظومة القانونية المغربية لحماية زجرية خاصة للطفل من شأنها أن تقوي مركزه داخل المجتمع لكونه ضعيف جسديا ولم يكتمل بعد نضجه العقلي ومن ثم يسهل على من يريد إساءة معاملته أن يرتكب جرائمه ضد الطفل دون أن يخشى فشله في ذلك، خاصة وأن أغلب حالات إساءة معاملة الأطفال تبقى في عداد "الرقم الأسود" بسبب طابعي السرية والكتمان الذين غالبا ما يكتنفانها باعتبارها من الطوبوهات الاجتماعية.
وتزداد الأهمية درجة في كون بحث هذا الموضوع سيمكن من التعريف بالظاهرة وتسليط الأضواء عليها للفت انتباه المسؤولين إلى خطورتـها ودرجة انتشارها، لبحث السبل اللازمة لضمان حماية جنائية من شأنها أن توفر للأطفال حياة آمنة ينعمون فيها برعاية صحية ونفسية واجتماعية، وأن تكفل لهم الأمن على حياتهم وسلامتهم البدنية، وتصون لهم أعراضهم وأخلاقهم.
وتبقى أكبر أهمية يكتسيها بحث هذا الموضع تتمثل في جمع مختلف النصوص القانونية الزجرية والعقابية التي تم إقرارها حماية للطفل من الاعتداءات والانتهاكات التي قد تطال حقوقه وكذا معرفة الأسس التي استند إليها المشرع المغربي لتقرير حماية جنائية خاصة بالطفل الضحية والعمل على تقييمها، إذ أن هذه الحماية تبقى في جانب كبير منها قابلة للجدل والنقاش، بالإضافة إلى محاولة تلمس إلى أي حد استطاع المشرع المغربي من خلال هذه المقتضيات تحقيق الحماية التي كان يتوخاها للطفل.
كما أن هذا البحث يمكن أن يكون مرجعية تسهل البحث لكل شخص يهتم بحق الطفل في الحماية بالإضافة إلى ذلك، فإنه سيساهم في ملئ الفراغ الحاصل في الخزانة القانونية المغربية بخصوص كتابات حول حماية الأطفال من ظاهرة إساءة المعاملة خاصة وأن الموضوع يتسم بالجدة ولم تتم إثارته في المغرب إلا في بضع سنوات خلت.
ثالثا: إشكالية الموضوع والخطة المتبعة لدراسته:
نظرا لأهمية الموضع وتشعب أفكاره وارتباط بعضها ببعض، فإن محاولة دراسته تطرح إشكالية رئيسية يمكن بلورتها على الشكل الآتي:
ما هي أوجه الحماية الزجرية التي تقرها المنظومة القانونية للأطفال ضحايا سوء المعاملة؟
وللإجابة عن إشكالية من هذا الحجم يستلزم طرح بعض التساؤلات الفرعية أذكرها كما يلي:
- ما هي أشكال إساءة معاملة الأطفال؟
- وما هي أسباب الظاهرة؟
- وإلى حد استطاعت النصوص القانونية أن تضمن حماية فعلية للأطفال من هذه الظاهرة؟
- وما هي التدابير المقررة لحماية الطفل الضحية؟
- وما هي الجهود المبذولة لمحاربة الظاهرة والحلول القمينة التي يمكن اقتراحها لمواجهتها.
إن هذه التساؤلات الفرعية تفضي بنا إلى استجلاء المحاور الأساسية للموضوع والتي سنتوسع من خلالها في بسط الموضوع وتعميق التحليل والنقاش:
القسم الأول: مظاهر الحماية الجنائية للطفل ضحية سوء المعاملة.
القسم الثاني: حماية جنائية ناقصة ودور القضاء في تجاوزها.
القسم الأول
مظاهر الحماية الجنائية للطفل
ضحية سوء المعاملة.
يعد الطفل برعم الحياة وغدا حقه في هذه الحياة حقا أساسيا تتفرع منه عدة حقوق تحميه وتحيطه بالأمان حتى يبلغ السن التي تجعله مؤهلا جسديا وعقليا ونفسيا لتولي أموره والتعرف على واجباته اتجاه مجتمعه واتجاه الآخرين.
ولم تكن حقوق الطفل في الحماية شيئا يذكر أو يشكل أهمية منذ نشأة الإنسان الأولى، إلا أن الحاجة إلى التطور وحماية الجنس البشري التي استشعرها الإنسان بدأت تنشئ حقوقا متفاوتة للطفل لا تشكل في حد ذاتها حماية حقيقية له واستمرت هذه الحقوق بالتطور والتنامي كلما تقدمت الحضارة وتقدم الفكر الإنساني، حتى بلغ ذروته في عصر النور الإسلامي الذي جسد أسمى صور الحماية لهذه الفئة الضعيفة الحساسة في المجتمع.
فتصاعدت الأصوات من مختلف أنحاء العالم تدعوا الدول إلى التدخل بشكل فاعل من خلال النصوص الجنائية لكفالة حق الطفل في الحماية من سوء المعاملة خاصة بعد إصدار المنتظم الدولي للعديد من المواثيق والإعلانات الدولية التي تعنى بحقوق الطفل ومن أهمها اتفاقية حقوق الطفل لسنة 1989 التي دعت الدول إلى الحفاظ على حياة الطفل ونموه وكذا الحفاظ على هويته وحقه في التربية والتعليم والصحة والراحة وأن يحظى بمستوى معيشي ملائم لنموه وكذا حمايته من أي استغلال ومن جميع أنواع العنف .
وباعتبار إساءة معاملة الطفل هي كل فعل أو امتناع عن فعل يعرض سلامة وصحة الطفل البدنية والعقلية والنفسية والإجتماعية للخطر، فإنها تنطوي على مساس خطير بالحقوق السالفة الذكر خاصة وأن الطفل يتميز بضعف قوته البدنية وضعف مقدوراته الذهنية، لذلك فقد كان لزاما أن يدعو المنتظم الدولي الدول المصادقة على الاتفاقية إلى تحصين الحقوق التي تم إقرارها لصالح الطفل بنصوص جنائية خاصة لحمايته من جرائم إساءة المعاملة.
ولما كان القانون الجنائي من الأدوات الأكثر توظيفا من طرف الدولة وذلك لحماية المراكز القانونية للأشخاص وحماية حقوق الإنسان من الاعتداءات المحتملة وإيمانا من المشرع المغربي بأهمية الزجر والعقاب في حماية الأطراف الضعيفة داخل المجتمع كالطفل مثلا، فقد تضمنت الترسانة القانونية المغربية مقتضيات زجرية هامة تجرم كل فعل أو امتناع قد يترتب عنه شكل من أشكال الإيذاء للطفل.
وتجدر الإشارة إلى أن المشرع المغربي قد خص الطفل بحماية متميزة في بعض التشريعات الأخرى كما هو حاصل في مدونة الشغل التي ذهبت إلى حد إقرار عقوبات حبسية حماية للطفل من الاستغلال الاقتصادي باعتباره أخطر أشكال سوء المعاملة وأكثرها شيوعا داخل المجتمع المغربي.
ومن هذا المنطلق إذن ومن خلال استقراء نصوص القانون الجنائي المغربي وكذا بعض النصوص الزجرية الواردة في إطار مدونات قانونية أخرى أو بصفة مستقلة تركز اهتمامنا في هذا القسم لإبراز مظاهر الحماية الجنائية للطفل ضحية سوء المعاملة وذلك من خلال التقسيم التالي:
الفصل الأول: الحماية الجنائية لحق الطفل في الحياة وسلامته البدنية والنفسية.
الفصل الثاني: الحماية الجنائية لأخلاق الطفل وصحته.
الفصل الأول
الحماية الجنائية لحق الطفل في الحياة
وسلامته البدنية والنفسية.
من المعلوم أن الطفل يتميز بضعف قدراته الجسمية والعقلية التي تجعله فريسة سهلة لمن يرغب في إساءة معاملته، على عكس الشخص البالغ الذي كثيرا ما تمكنه قدراته الجسمية من مقاومة الاعتداء وربما قد تمكنه قدراته العقلية من تفادي الوقوع فريسة للتغرير به من قبل الجاني، الأمر الذي يستوجب وجود رادع أكثر للجاني يجعله يتردد قبل إقدامه على جريمته ضد الطفل.
ومن هذا المنطلق ووعيا من المشرع المغربي بوضعية الطفل هذه، فقد أقر نصوصا زجرية لحماية حقه في الحياة والنماء منذ مراحل حياته الأولى إلى حين اكتمال نضجه البدني والعقلي وذلك ببلوغه سن 18 سنة (المبحث الأول) كما أقر نصوصا أخرى تهدف صيانة بدنه ونفسيته من أي اعتداء (المبحث الثاني).
المبحث الأول
الحماية الجنائية لحق الطفل في الحياة والنماء.
يعتبر الحق في الحياة ن بين الحقوق المقدسة والأصلية، فقد أقرته كل الشرائح السماوية باعتباره أساس وجود الإنسان، لذلك جرمت الشريعة الإسلامية أي اعتداء على حياة الإنسان مصداقا لقوله عز من قائل: "من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا" كما أكدت كل الأوفاق الدولية على هذا الحق، من خلال دعوة الدول إلى ضمان هذا الحق وتحصينه عن طريق تفعيل مقتضيات الترسانة القانونية الداخلية (المطلب الأول) وهو حق تتفرع عند كل الحقوق الأخرى من أجل ضمان نماء الطفل وحمايته من كل أشكال التعريض للخطر (المطلب الثاني).
المطلب الأول: حماية الطفل من القتل:
تنص المادة السادسة من اتفاقية حقوق الطفل على أن تقر جميع الدول الأطراف في الاتفاقية بأن لكل طفل حقا أصيلا ألا وهو حقه في الحياة، وينبغي على كل دولة اتخاذ كل ما في وسعها لحماية حياة الطفل.
وحق الطفل في الحياة لا يثبت له بمجرد ولادته حيا من بطن أمه فحسب (الفقرة الثانية) وإنما يثبت له منذ بداية الحمل (الفقرة الأولى).
الفقرة الأولى: الحماية الجنائية لحق الطفل في الحياة جنينا ووليدا:
تبدأ الحماية الجنائية لحق الطفل في الحياة قبل ولادته، أي منذ وجوده جنينا في بطن أمه (أولا) وتمتد هذه الحماية لتشمل باقي حياته وذلك ابتداء من المرحلة التي يعتبر فيها الطفل وليدا (ثانيا).
أولا: تجريم الإجهاض:
يمكن تعريف الإجهاض بأنه إسقاط الجنين قبل أوانه الطبيعي، أي إنهاء حياة إنسان ما زال لم تكتمل بعد خلقته بسبب وجوده في بطن أمه . وهو بذلك يعتبر اعتداء خطيرا على حياة إنسان لازال في طور التخلق، ونظرا لما لهذه الجريمة من خطورة –لمساسها بالحق في الحياة- فقد أجمعت كل الشرائع السماوية والقوانين الوضعية على تجريمها.
ولذلك عاقب الفصل (445 ق.ج) بشدة مقترف هذه الجريمة أكان ذلك برضى المرأة أو بدونه، ولا تهم الوسيلة المستعملة في ذلك، كالعنف، أو أي شكل من أشكال التحايل أو مواد طبية، أو أية وسيلة أخرى يعتقد الفاعل أنها ستحقق النتيجة، كل ما يهم هو اتجاه إرادة الجاني إلى تحقيق النية الإجرامية ، سواء حصلت النتيجة الإجرامية وهي الإجهاض الفعلي أو لم تحصل لأن العقاب سيطال الجاني سواء تم إسقاط الجنين أو وقف عند حد الجريمة الموقوفة، الخائبة أو المستحيلة، سواء كانت الاستحالة بالنسبة لمحل الجريمة، وذلك عند انعدام وجود حمل مثلا، أو بالنسبة للمواد والأدوات المستخدمة لارتكاب هذه الجريمة حيث عاقب الفصل (455 ق.ج) على هذه الجريمة حتى ولو كانت الأدوية أو المواد أو الأجهزة أو الأشياء المقترحة كوسائل فعالة للإجهاض غير قادرة عمليا على تحقيقه.
ولتعزيز حماية حق الجنين في الحياة، فقد عاقب المشرع الجنائي المغربي التحريض على الإجهاض بأية وسيلة من الوسائل المشار إليها في الفصل (455 ق.ج).
ولدعم هذه الحماية، فقد نصت المادتان (456 و457 ق.ج) على تطبيق الحرمان بقوة القانون من أية وظيفة في مصحة أو مؤسسة تستقبل الحوامل على كل من صدر عليه الحكم بالإدانة بإحدى جرائم الإجهاض، سواء صدر الحكم داخل المغرب أو خارجه وتعاقب المادة 458 المخالف للمنع المفروض بالفصلين (456 و457 ق.ج) .
وتجدر الإشارة بخصوص جريمة الإجهاض، إلى أن المشرع قد خرج على القواعد العامة فيما يتعلق بقواعد الاشتراك المنصوص عليها في الفصل 129، حيث عاقب المشارك حتى ولم تتم جريمة الفاعل الأصلي.
لكن بالرجوع إلى الفصل (454 ق.ج) نجده ينص على تمتيع الأم التي أجهضت نفسها عمدا أو حاولت ذلك أو قبلت أن يجهضها غيرها أو رضيت باستعمال ما رشدت إليه، أو ما أعطي لها لهذا الغرض بعذر مخفف للعقوبة.
وما تمتيع المشرع المغربي المرأة بهذا العذر المخفف للعقوبة، إلا دليلا على مراعاة الأسباب والضغوطات النفسية التي قد تعتري المرأة وتدفعها إلى اقتراف هذه الجريمة ضد جنينها وضد نفسها، كدفع العار عنها إذا كان الحمل من سفاح، أو بدافع الشفقة إذا كان الجنين مشوه الخلقة...
إلا أنه في نظري يجب إلغاء هذا العذر المخفف للعقوبة، لأنه مهما كان المبرر الذي دفع المرأة لارتكاب الإجهاض، فإنه لن يصل إلى جسامة وخطورة الجرم المرتكب في حق الحياة البشرية، لأن مجرد وجـود الجنين في بطـن أمه يكون قد نال حرمة يعتبر قتله، قتلا للنفس البشرية ويدخل في حكم الآية الكريمة "من قتل نفسا بغير حق أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا" .
وما دام الجنين مرتبطا بأمه، فإنه قد تترتب عن إجهاضه آثار وانعكاسات خطيرة على صحة الأم والتي قد تؤدي إلى وفاتها، لذلك نجد الفصل (449 ق.ج) يشدد العقوبة في حالة الوفاة من عشر سنوات إلى عشرين سنة.
غير أنه إذا كان المبدأ هو العقاب على الإجهاض أو حتى مجرد التحريض عليه، فإن المشرع أباحه استثناء إذا استوجبته ضرورة المحافظة على صحة الأم، متى قام به علانية طبيب أو جراح بإذن من الزوج، ولا يطالب بهذا الإذن إذا ارتأى الطبيب أن حياة الأم في خطر، لكن بعد إشعار الطبيب الرئيسي للعمالة أو الإقليم الفصـل (453 ق.ج).
وعموما بعد قراءة مختلف النصوص المجرمة للإجهاض، فإننا نجدها متعددة وتشدد في العقاب، إلا أن السؤال الذي يمكن طرحه هنا هو هل يمكن لهذه المقتضيات الزجرية أن تضمن حماية واقعية وحقيقية لحق الجنين في الحياة؟
الجواب هو النفي طبعا، ما دامت جرائم الإجهاض تمارس في المغرب بشكل مخيف للغاية والأغلب الأعم منها يبقى في عداد الرقم الأسود ، خاصة وأن جرائم الإجهاض تمارس أحيانا بمباركة من ألفاظ النص القانوني المرنة (الفصل 453)، حيث غالبا ما يبرر الطبيب طلب الحصول على رخصة إجراء عمليات الإجهاض (بضرورة المحافظة على صحة الأم) وهل يتأكد الطبيب الرئيسي للعمالة أو الإقليم من التبريرات التي عللت بها طلبات الإجهاض وذلك عن طريق إجراء فحوصات مضادة؟ كما أن إعمال العبارة المرنة الموجودة في النص تسهل على الأقل إفلات الجاني من العقاب.
وما يشجع الأطباء وغيرهم على ارتكاب جرائم الإجهاض هو الأرباح الطائلة التي تجنى من وراء هذه العمليات، خاصة في حالة الحمل من سفاح، حيث تكون الرغبة جامعة للتخلص منه، مهما كانت التكلفة وذلك اتقاء للعار والفضيحة.
لذلك يتعين على السلطات العمومية أن تفرض رقابة شديدة على المصحات والأماكن التي يفترض أن يجرى فيها الإجهاض، وأيضا تتبع حالات النساء الحوامل خاصة عند اقتراب موعد الولادة لحماية الطفل الوليد من القتل خاصة حالة الحمل من زنا.
ثانيا: جريمة قتل الأم لوليدها:
لقد كفل المشرع الجنائي المغربي حق الإنسان في الحياة، حيث عاقب بشدة على جريمة القتل العمد في صورتها البسيطة بالسجن المؤبد أو بالإعدام في حالة اقترانها بظرف من ظروف التشديد.
إلا أن المشرع أخذ بعين الاعتبار بعض الظروف التي قد تدفع الشخص لارتكاب جريمة القتل وذلك تحت تأثير قوى معينة مما يستدعي النظر إلى مسؤوليته بعين التخفيف في العقاب.
وأمام الاختلاف البين في حالات جرائم القتل، لم يجد المشرع الجنائي المغربي بدا من تنويع الجزاءات المستحقة وفق ما يقتضيه مبدأ تفريد العقاب . كما هو الشأن في حالة قتل الأم لطفلها الوليد التي تعتبر من الحوادث الناذرة، ذلك أن عاطفة الأمومة تطغى على النساء بصفة عامة فمن الناذر أن تتجرأ أم على قتل وليدها، إلا إذا قام لديها سبب أدى بها إلى الإقدام على قتل وليدها .
ومن بين الأسباب التي قد تدفع المرأة إلى قتل وليدها، الضغوط النفسية والاجتماعية والنظرة السيئة للمرأة التي تحمل سفاحا، وما يلحق بها من عار بعد اتضاح ثمرة سفاحها أو بدافع الشفقة والرحمة إذا كان الوليد مشوه الخلقة أو لرغبة الأم في قطع علاقتها نهائيا بزوجها الذي طلقها مثلا .
وعلى كل حال، فقد ارتأى المشرع الجنائي المغربي تخفيف عقوبة الأم التي تقتل وليدها سواء كانت فاعلة أصلية أو مشاركة إذ تعاقب بالسجن من خمس إلى عشر سنوات (الفصل 397 ق.ج).
كما ذهبت بعض التشريعات المقارنة إلى الأخذ بهذا العذر فخففت عقوبة الأم التي تقتل وليدها، كما هو الشأن بالنسبة للفصل 551 من قانون العقوبات اللبناني وقانون الجزاء الكويتي (م159) وقانون العقوبات العراقي (م407) وجانب من الدول الغربية كقانون العقوبات الإيطالي.
غير أن السؤال المطروح في هذا الإطار هو هل تستفيد الأم التي تقتل وليدها لوحدها من هذا العذر؟ وهل تستفيد منه في حالة قتل الوليد غير الشرعي أم حتى في حالة قتل الوليد الشرعي؟
بالنسبة للإجابة عن السؤال الأول، فإن المشرع الجنائي المغربي نص صراحة من خلال (الفصل 397 ق.ج) على استفادة الأم القاتلة لوحدها من هذا العذر المخفف للعقوبة دون استفادة مشاركيها أو المساهمين معها في القتل، وذلك خلافا لقانون العقوبات الإيطالي الذي لم يشترط استفادة الأم لوحدها من هذا العذر، بل أي شخص يريد من ارتكابه لهذه الجريمة إنقاذ شرفه أو شرف شخص آخر تربطه به صلة مباشرة، كالزوج والأب والأم والأخ والعم والخال أو العمة أو الخالة أو أي شخص آخر تربطه بالأسرة قرابة مباشرة .
وعلى خلاف معظم التشريعات، فإن قانون العقوبات المصري لم ينص على حكم خاص لقتل الطفل حديث الولادة، سواء كان من الأم أيا كان غرضها من القتل أو سواء كان من الأب أو ذوي الأم ولو كان اتقاء للعار .
أما بالنسبة للسؤال الثاني، فإنه وإن كان من غير المألوف أن تقدم الأم على قتل وليدها الشرعي، فإن هذا لا يعني انعدام إمكانية افتراق هذه الجريمة كما هو حال الأم التي تقتل وليدها المشوه الخلقة، غير أن المشرع الجنائي المغربي لم يميز بين الوليد الشرعي وغير الشرعي، فقد جاء النص عاما ومن ثم فالأم تستفيد من عذر التخفيف سواء كان الوليد شرعيا أو غير شرعي.
وبذلك يكون المشرع الجنائي المغربي قد ساير التشريع الجنائي الفرنسي الذي يقرر هذا العذر سواء كان قتل الأم لوليدها اتقاء للعار أو غيره ومهما كانت البواعث دنيئة ، على خلاف بعض التشريعات العربية التي تمتع الأم بهذا العذر متى كان القتل اتقاء للعار فقط كما هو الشأن بالنسبة لقانون العقوبات السوري الكويتي واللبناني.
وأخيرا نخلص إلى أن حماية الوليد من القتل في القانون الجنائي المغربي تبقى قاصرة لكون المشرع أخذ بالباعث كعذر قانوني مهما كانت نية المجرم دنيئة، كما أنه لم يحدد، ما هو الوليد، أي مرحلة ابتداء الوليد ومرحلة انتهائه. وإذا ثبت هذا أتساءل عن حق الطفل في الحماية من جرائم القتل في باقي مراحل حياته؟
الفقرة الثانية: قتل الطفل خلال باقي مراحل حياته:
أقصد بالقتل العادي للطفل كل أشكال القتل التي قد يتعرض لها الطفل باستثناء حالة قتل الأم لوليدها . وتناول هذه الأشكال من القتل العمد للأطفال يقتضي التعرف على موقف المشرع الجنائي المغربي من مرتكب هذه الجريمة بيان ما إذا كانت الحماية الجنائية الموضوعية التي يقرها تجعل من صفة الطفل ظرفا مشددا للعقاب؟ أم عنصرا تكوينيا للتجريم؟ وذلك من أجل ضمان حماية خاصة للطفل من الوقوع فريسة سهلة لهذه الجرائم نظرا لضعف قدرته الجسمية وعدم نضجه العقلي.
بالرجوع إلى القانون الجنائي المغربي، نجده لم يعرف القتل، بل اكتفى فقط بالإشارة إليه من خلال (الفصل 392 ق.ج) قائلا كل من تسبب عمدا في قتل غير يعد قاتلا "لذلك تدخل فقهاء القانون الجنائي من اجل وضع تعريف له، إذ عرفه البعض بأنه إزهاق روح إنسان بدون وجه حق ظلما وعدوانا أو أنه كل فعل أو امتناع مجرم صادر عن إنسان لإزالة حياة إنسان آخر خلافا للقانون .
ولا جدال في خطورة جريمة القتل وتهديدها للكيان الفردي والاجتماعي معا ولذلك كانت عقوبتها صارمة على مر العصور في الشرائع السماوية والوضعية على السواء . وقد نظر لها المشرع الجنائي المغربي، بدوره نظرة، خطورة على استقرار الفرد وأمنه فعاقب عليها بعقوبة السجن المؤبد أو بالإعدام في حالة اقترانها بظرف من ظروف التشديد (ف 392 ق ج).
وبذلك يكون الفصل (ف 392 ق.ج) لم يُميز بين ما إذا كان القتل واقعا على طفل أو على شخص راشد. لكن الوقوف على مقتضيات هذا الفصل لوحده يعد غير كاف من اجل التعرف على موقف المشرع الجنائي المغربي من الأخذ بصفة الطفل كظرف مشدد للعقاب أو عنصر تكويني في جريمة القتل، لذلك يلزم طرق أبواب باقي فصول القانون الجنائي لمعرفة ذلك.
وعليه بالإستناد إلى الفصل 410 نجده يقرر أشد العقوبات (الإعدام) في حالة موت الطفل الناتج عن ارتكاب العنف ضده أو إيذائه أو حرمانه من التغذية أو العناية هذا الحكم كما يسري على أصول الطفل أو من له سلطة عليه أو المكلف برعايته،
فإنه يسري أيضا على باقي الأشخاص .
من خلال مقتضيات هذا الفصل إذن، يتبين لنا أن المشرع الجنائي المغربي اعتبر صفة الطفل المجني عليه كظرف مشدد للعقوبة، وهذا ما تعززه أيضا مقتضيات (الفصل 463 ق.ج) التي تنص على انه إذا نتج عن التعريض للخطر أو الترك موت الطفل وكانت لدى الجاني نية إحداثه فإنه يعاقب بالعقوبات المقررة في الفصول 392 إلى 397 ق.ج .
ولاشك أن وضع المشرع الجنائي المغربي للفصلين 410 و463 لم يكن من أجل مجاراة التشريع والاجتهاد المقارنين كما يقول البعض ، وإنما بهدف إقرار حماية خاصة للطفل نظرا لضعف قدراته الجسمية والعقلية، لأنه قد يقع فريسة سهلة لمن يرغب قي قتله عكس الشخص البالغ الذي قد تمكنه قدراته الجسمانية من مقاومة الاعتداء وربما قد تمكنه قدراته العقلية من عدم الوقوع فريسة التغريد به من قبل الجاني، الأمر الذي يستوجب وجود رادع أكثر للجاني يجعله يتردد قبل إقدامه على جريمته ضد الطفل، فإذا كانت القدرات الجسمانية والعقلية للراشد تحول كثيرا دون الإقدام على ارتكاب جريمة القتل ضده، فإن تشديد العقاب على قتل الصغير من شأنه أن يحقق نفس الردع.
وهذا ما أخذت به بعض التشريعات المقارنة –بل ذهبت أبعد من ذلك- كالتشريع الإيطالي الذي جعل من قتل الطفل عمدا ظرفا مشددا للعقاب، إذ عاقب على جريمة القتل العادي بالأشغال الشاقة المؤقتة، بينما عاقب على جريمة قتل الطفل عمدا بالأشغال الشاقة المؤبدة وأيضا التشريع السوري الذي جعل بدوره من صفة الطفل ظرفا مشددا للعقاب، إذ عاقب القاتل بالأشغال الشاقة المؤقتة لكن إذا كان الضحية طفلا لم يبلغ سن 15 وقت وقوع الاعتداء عليه، فإن الجاني يعاقب بالأشغال الشاقة المؤبدة وتشدد العقوبة إذا كان القاتل أبا أو جدا للطفل الضحية، إذ يعاقب في هذه الحالة بالإعدام.
وختاما، على الرغم من كون المشرع الجنائي المغربي أولى عناية خاصة لحق الطفل في الحياة، باعتباره حقا أصيلا ومقدسا ليس للطفل فحسب، وإنما للإنسان عموما، فإنه لم يأخذ بعين الاعتبار بعض خصوصيات الطفل التي كان ينبغي أن تأخذ في الحسبان، كما هو الشأن بالنسبة لتمديد حق الطفل في الحماية الخاصة من الجرائم المنصوص عليها في المواد السالفة الذكر حتى سن الثامنة عشر بدل تحديده في 15 سنة (ف 408) التي يحيل عليها الفصل (411 ق.ج) وذلك بهدف تمديد مجال حمايته. لأنه على الرغم من بلوغ الطفل 15 سنة فما فوق، فإنه لا يقدر الدفاع عن نفسه لأن عوده لم يشتد بعد، كما أن تصرفاته في هذه المرحلة العمرية (المراهقة) تطغى عليها الرعونة وعدم الإتزان مما قد يجعل منه ضحية سهلة المنال لمن يرغب في قتله.
وما مطالبتنا برفع سن الطفل الضحية في هذه الجرائم إلى سن الثامنة عشرة ليس من أجل مجاراة الاتفاقيات الدولية التي صادق عليها المغرب (خاصة اتفاقية حقوق الطفل لسنة 1989) فحسب، وإنما أيضا من اجل تحقيق الانسجام بين مواد القانون الجنائي خاصة وأن هذا التمييز في تحديد السن ليس له أي مبرر إذا أخذنا بعين الاعتبار خطورة الجرائم المنصوص عليها في (الفصول 411 و463 ق.ج) والتي قد تعصف بحق الطفل في الحياة.
المطلب الثاني: الحماية الجنائية للطفل المعرض للخطر:
يعيش الطفل عالة على غيره، وحملا على حاضنه ويرجع ذلك إلى ضعفه وعدم قدرته على التعبير عما قد يؤذيه أو يقلق راحته، فكان لزاما على المشرع أن يتدخل ليوفر الحماية القانونية الواجبة للطفل الذي يكون في أمس الحاجة إلى بيئة ملائمة تساعده على النمو السليم.
وبما أن الطفل في غاية من الضعف، خاصة خلال مراحل حياته الأولى، فإن أبسط الاعتداءات أو المخاطر من شأنها أن تؤدي إلى تعريض حياته للخطر، لذلك تدخل المشرع الجنائي المغربي فجرم العديد من الأفعال كاختطاف الأطفال (الفقرة الأولى) أو جرائم إهمال الأسرة (الفقرة الثانية) لما قد يترتب عنها من تعريض لحياة الطفل للخطر، ولما تنطوي عليه من إساءة معاملة خطرة للطفل.
الفقرة الأولى: حماية الطفل من الاختطاف:
الاختطاف هو الاستيلاء على الشخص دون رضاه، وهو بذلك يعتبر بين أخطر أشكال الاعتداءات التي يمكن أن يتعرض لها الإنسان، لمساسه بالحرية الشخصية، مع ما قد يترتب عن ذلك من أخطار قد تصل إلى حد قتل المخطوف، خاصة كلما كان المخطوف قاصرا وذلك بسبب ضعف قدرته الجسمية والعقلية حيث يمكن أن يقع بسهولة ضحية الاختطاف.
ونظرا لخطورة جرائم الاختطاف على القاصرين، فقد تعامل معها المشرع الجنائي المغربي بنوع من التشدد في التجريم والعقاب، حيث ينص (الفصل 471) على معاقبة الخاطف بالسجن من خمس إلى عشر سنوات، إذا استعمل العنف أو التهديد أو التدليس لاختطاف قاصر دون الثامنة عشر عاما أو لاستدراجه أو إغرائه أو نقله من الأماكن التي وضعه فيها من له سلطة أو إشراف عليه، سواء فعل ذلك بنفسه أو بواسطة غيره.
وما يلاحظ بهذا الخصوص أن المشرع المغربي لم يميز بين اختطاف الطفل حديث الولادة والطفل غير حديث الولادة كما فعلت بعض التشريعات المقارنة كالمشرع الكويتي الذي قسم خطف الأطفال إلى نوعين متغايرين ، فجعل نصا قانونيا يحكم واقعه خطف الأطفال حديثي العهد بالوردة كما أقر نصوصا أخرى تحكم خطف الأطفال القصر وأيضا المشرع المصري الذي نهج بدوره نفس التفرقة.
ولتجاوز هذا الأمر عمل المشرع الجنائي المغربي على التنصيص في الفصل 472 على رفع عقوبة جريمة اختطاف القاصر الذي لا تتجاوز سنة اثني عشر عاما، من عشر إلى عشرين سنة سجنا. إلا أنه خفض هذه العقوبة فجعلها متراوحة بين خمس إلى عشر سنوات، إذا ما عثر على القاصر حيا قبل صدور الحكم بمؤاخذة الجاني.
وما أخذ المشرع الجنائي المغربي بهذا التخفيف في العقوبة إلا مراعاة منه لمصلحة الطفل، وذلك من أجل تشجيع الجاني على العدول عن فكرة القتل إذا كان قد اختطفه لهذا الغرض.
ولسد الباب أما بعض الجناة الذين قد تدفعهم حاجتهم المادية إلى خطف أطفال قاصرين من أجل مطالبة آبائهم أوكل من له سلطة أو إشراف عليهم بفدية مالية مقابل إطلاق سراحهم، فقد عمل المشرع الجنائي المغربي على رفع العقوبة في مثل هذه الحالات إلى السجن المؤبد أو الإعدام في حالة ما إذا تبع الاختطاف مـوت القاصـر (ف 474 ق.ج).
غير أن عقوبة الجاني تخفف إذا اختطف أو غرر بقاصر تقل سنه عن ثمان عشرة سنة بدون استعمال عنف أو تهديد أو تدليس، إذ يعاقب في هذه الحالة بالحبس من سنة إلى خمس سنوات، وغرامة من مائتين إلى خمسمائة درهم.
أما إذا تزوج الجاني القاصرة البالغة التي اختطفها أو غرر بها، فإن النيابة العامة لا يمكنها أن تحرك المتابعة في هذه الحالة إلا بناء على شكوى من الشخص الذي له الحق قانونا في إبطال الزواج ولا يجوز الحكم بمؤاخذته إلا بعد صدور الحكم بهذا البطلان فعلا.
وبإعمال هذا الفصل يكون المشرع الجنائي المغربي قد انتزع ما وفره من ضمانات لحماية القاصر من الاختطاف، لان الأخذ بمثل هذا الحكم سيفتح أمام الجاني بابا واسعا للتهرب من العقاب خاصة إذا علمنا أن أغلب الأطفال ضحايا الاختطاف هم إناث.
إذ يمكن للجاني أن يتزوج المختطفة ومن ثم سيضع وليها أو من له سلطة عليها أمام أمر الواقع، ولا يمكنه في مثل هذه الحالة إلا أن يبارك هذا الزواج، خاصة إذا كان الجاني قد افتض المختطفة، نظرا لما تمثله العذرية من أهمية بالنسبة للفتاة والأسرة معا في المجتمع.
وحتى على فرض تفضيل مصلحة القاصرة المختطفة في مثل هذه الحالة بإعطاء وليها أو من له سلطة عليها بإمكانية إقرار زواجها من الخاطف، فليس كل قاصرة (بالغة) قادرة على الزواج لأن الفتاة قد تبلغ بمجرد بلوغها الثانية عشر من عمرها.
وحتى على فرض أنها بالغة وأن سنها يفوق 16 سنة، فمن سيسمح لها بالزواج في مثل هذه الحالة ونحن نعلم أن المادة 20 من مدونة الأسرة لا تسمح بزواج القاصر إلا بعد الحصول على إذن قضائي من القاضي المكلف بالأسرة، أم أن المشرع قصد بهذا الزواج ذلك الذي يتم في الواقع، أي دون توثيق؟
لهذه الأسباب أقترح إلغاء هذه الفقرة (الفقرة الثانية من الفصل 475 ق.ج) لأنها تضعف حق القاصرة في الحماية من جرائم الاختطاف، لكونها تشكل ثغرة كبيرة قد يستغلها ذووا النفوس الخسيسة للتهرب من العقاب، لأنه حتى ولو كان هذا الزواج سيساهم في تخفيف جزء غير يسير من الأضرار النفسية والمعنوية التي قد تصيب المختطفة، إلا أن هذا الزواج في الأغلب الأعم سيكون مصيره الفشل لأن الخاطف لم يتزوج المخطوفة عن قناعة وإنما لينجو بجلدته من العقاب، ثم بعد ذلك سيبادر إلى تطليقها لتجد الفتاة نفسها تعيش ويلات جريمة إختطافها من جديد.
وهنا لابد أن أضيف بأنه كان على المشرع المغربي أن يحدو حدو بعض التشريعات المقارنة التي تقيم تمييزا في العقاب بين الحالة التي يقع فيها الاختطاف على أنثى وتلك التي يكون ضحيتها ذكرا . كما هو الشأن بالنسبة لقانون العقوبات المصري الذي ينص في مادته 289 على أن "كل من خطف من غير تحايل ولا إكراه طفلا لم يبلغ سنه ست عشرة سنة كاملة بنفسه أو بواسطة غيره، يعاقب بالسجن من ثلاث سنين إلى سبعة، أما إذا كان المخطوف أنثى، فتكون العقوبة الأشغال الشاقة المؤقتة أو السجن من ثلاث إلى عشر سنوات".
ومن بين المآخذ على المشرع المغربي في هذا الإطار، هي أنه لم يتطرق إلى بعض الآثار التي قد تترتب عن الاختطاف، كالاغتصاب أو هتك العرض أو تسخير المخطوف للأعمال الإباحية أو الاتجار فيه...
وبناء على ذلك فإنه لابد من الإشادة بموقف المشرع المصري الذي نص صراحة على تشديد عقوبة الخاطف إذا اغتصب المخطوفة لتصل إلى حد الإعدام وهي عقوبة من شأنها أن تحقق ردعا وعبرة في نفوس الجناة (المادة 290 ق.ع) الذين سولت لهم أنفسهم ارتكاب هاتين الجريمتين الجسيمتين معا.
وإذا كانت جريمة الاختطاف، أو التغرير بالطفل عادة ترتكب من قبل الغرباء عن الطفل فإنها أحيانا قد ترتكب من قبل والديه أنفسهم . ولأجل ضمان حماية الطفل في مثل هذه الحالة فقد نص الفصل 477 ق.ج على أنه "إذا صدر حكم قضائي بالحضانة وكان نهائيا أو نافذا بصفة مؤقتة، فإن الأب أو الأم أو أي شخص يمتنع عن تقديم القاصر إلى من له الحق في المطالبة به وكذلك إذا اختطفه أو غرر به، ولو دون تدليس أو عنف أو حمل غيره على التغرير به أو اختطافه ممن عهد إليه بحضانته أو من المكان الذي وضعه فيه، فإنه يعاقب بالحبس من شهر إلى سنة وغرامة من مائتين إلى ألف درهم".
غير أن هذه العقوبة يمكن أن ترفع إلى ثلاث سنوات إذا كان مرتكب هذه الجريمة قد حرم من الولاية الأبوية على القاصـر، ولتعـزيز هذه الحماية، فإن المادة (478 ق.ج) تعاقب كل من تعمد إخفاء قاصر مخطوف أو مهرب أو مغرر به أو هارب من سلطة من لهم الولاية القانونية عليه، وكذلك من تعمد تهريبه من البحث عنه بالحبس من سنة إلى خمس سنوات وغرامة من مائتين إلى خمسمائة درهم أو بإحدى هاتين العقوبتين فقط.
الفقرة الثانية: الحماية الجنائية للطفل المتخلى عنه والطفل المهمل:
يعتبر الطفل في أمس الحاجة إلى الحماية من بعض الجرائم الخطيرة التي عادة ما يرتكبها أهله أو من عهد إليهم بحمايته، من قبيل جرائم الترك والتخلي (الفقرة الأولى) وأيضا جرائم إهمال الأسرة (الفقرة الثانية) لما يؤديان إليه من تعريض لحياة الطفل للخطر.
أولا: حماية الطفل المتخلى عنه:
لعل من بين مظاهر الاختلالات المجتمعية الأكثر حساسية ومرارة "ظاهرة الأطفال المتخلى عنهم"، ظاهرة تكاد تلازم كل مجتمع وتختلف دائرة حجمها باختلاف صرامة الجهاز القيمي داخل كل مجتمع... وكذا باختلاف الظروف الاقتصادية والاجتماعية وخصوصا منها الطابع السوسيوثقافي والقانوني .
وهي ظاهرة تشكل خطرا بليغا على الطفل بحكم تكوينه العضوي والذهني، لأنه لا يملك في السنوات الأولى من عمره القدرة على حماية نفسه من الخطر، كما لا يملك القدرة على إدراك ما يحيق به من المخاطر التي قد يتعرض لها.
وبما أن الطفل غير قادر على العيش لوحده، وإنما يعيش عالة على غيره وفي كنفه حتى ولو كان له مال يتعيش منه، فهو دائما في حاجة إلى من يوليه الرعاية التي تتطلب من الولي أو ممن كلف برعايته لهذه الاعتبارات أحاط المشرع الجنائي المغربي الطفل بحماية خاصة من جرائم ترك الأطفال أو تعريضهم للخطر .
وعلى هذا الأساس ينص الفصل (459 ق.ج) على أن "كل من عرض أو ترك طفلا دون سن الخامسة عشرة أو عاجزا لا يستطيع أن يحمي نفسه بنفسه بسبب حالته الجسمية أو العقلية في مكان خال من الناس أو حمل غيره على ذلك يعاقب لمجرد هذا الفعل بالحبس من سنة إلى ثلاث سنوات"، وترفع هذه العقوبة من سنتين إلى خمس إذا نشأ عن التعريض للخطر أو عن الترك مرض أو عجز لمدة تزيد عن عشرين يوما، كما تشدد العقوبة في حال تعرض الطفل لعاهة مستديمة لتصبح هي السجن من خمس إلى عشر سنوات. ولتوسيع جانب الحماية فإنه يمكن أن يعاقب المجرم في الحالة التي تطبق فيها عليه عقوبة جنحية فقط بالحرمان من واحد أو أكثر من الحقوق المنصوص عليها في الفصل (40 ق.ج) وبالمنع من الإقامة من خمس إلى عشر سنوات (الفصل 467-1).
ولمزيد من الضمانات الحمائية جعل (الفصل 462 ق.ج) من صفة الجاني ظرفا مشددا للعقوبة، وذلك لما تنطوي عليه صفة أصول الطفل أو من هم مكلفون بحفظه ورعايته قانونا أو اتفاقا أو عرفا من خطورة على الطفل المجني عليه بدلا من كونها محلا لثقة الطفل واطمئنانه.
وقد أقام المشرع الجنائي المغربي تمييزا في العقوبة، بين جريمة التخلي التي ترتكب في مكان غير خال من الناس وتلك التي ترتكب في مكان خال من الناس، باعتبار أن هذا الأخير يشكل خطرا كبيرا على الطفل.
وتجدر الإشارة هنا إلى أنه ليس المقصود من توظيف المشرع لعبارة مكان خال من الناس أن يكون المحل خاليا من الناس في جميع الأوقات كمنطقة نائية مهجورة مثلا، إنما المراد أن يكون المحل المذكور خاليا من الناس وقت التخلي عن الطفل . لكن هل يمكن اعتبار ترك الأم لطفلها وحيدا في منزلها مكانا خاليا من الناس؟ لقد أجاب المجلس الأعلى على هذا السؤال في القرار الصادر في 16 من شتنبر 1999 حيث جاء في حيثياته بأن "إهمال الأم لرضيعها وتركه وحيدا في منزلها دون تعهد بالتغذية والرعاية في الأوقات المناسبة مما نتج عنه هزاله ووفاته لا ينطبق عليه الوصف القانوني الوارد في الفصلين 461 و462 من القانون الجنائي والذي يتضمن تعريض الطفل العاجز للخطر وتركه في مكان خال من الناس دون نية الرجوع إليه أو بقائه تحت عهده أو مسؤولية مرتكب الفعل" .
كما أود أن أشير إلى أن جريمة تعريض الطفل للخطر من الجرائم الإيجابية التي تتحقق بعمل إيجابي ويتضح ذلك من خلال الفصل 461 ق.ج بقوله "من عرض أو ترك طفلا" لكن تفسير هذا الفصل لا يمنع من تصور وقوع الجريمة بدون عمل إيجابي، أي بالترك أو الامتناع، فإذا وجد شخص طفلا في مكان خال من الناس وتركه مع علمه بما يتعرض له من خطر وهو في هذه الحالة ولم يتخذ أي إجراء لإنقاذه، أو التبليغ عنه، وتوافر لديه القصد الجنائي، يعتبر مرتكبا لجريمة تعريض الطفل للخطر بطريق الترك أو بالامتناع .
ولتعزيز حماية الطفل من جرائم التخلي فقد أفرد القانون الجنائي عقوبات رادعة في حق كل من حرض الأبوين أو أحدهما للتخلي عن طفلهما الوليد أو الذي سيولد أو قدم أو حاول أن يقدم وساطة للتكفل بطفل وليد أو سيولد أو لتبنيه (الفصل 466 ق.ج) كما عاقب بالحبس من شهر إلى ستة أشهر وغرامة من مائتين إلى خمسة آلاف درهم كل من حمل الوالدين أو أحدهما على التعهد في عقد بالتخلي عن طفل سيولد لهما أو حاول ذلك (ف 467 ق.ج).
وأخيرا يمكن القول بأنه على الرغم من تشدد المشرع الجنائي المغربي في العقاب عن جرائم التخلي عن الأطفال –خاصة الأطفال حديثي العهد- وتعريضهم للخطر، فإن الظاهرة تعرف تزايدا قل نظيره خاصة خلال العقود الأخيرة، وما يشهد على ذلك هو الاكتظاظ الذي تشهده المؤسسات الخيرية التي تعنى بالأطفال المتخلى عنهم، ويبقى السبب المباشر لانتشار هذه الظاهرة هو ارتفاع حالات الاغتصاب وتفشي العلاقات الجنسية غير المشروعة، فإذا ما ترتب عنها حمل، فإنه يثير سخط المجتمع السبب الذي يؤثر على الأم فيجعلها تتخلص من مولودها بتركه أو التخلي عنه.
ثانيا: حماية الطفل من جرائم إهمال الأسرة:
تعتبر الأسرة لبنة أولى في صرح المجتمع الإنساني، وكلما كانت الأسرة متماسكة مترابطة تجمعها أواصر المحبة والتضامن في السراء والضراء، وكلما تعاونت في أداء وظيفتها الإنسانية كان المجتمع، مجتمعا صالحا وأفرز شعبا طيب الأعراق .
ولتحقيق هذا المسعى، فقد جرم القانون الجنائي المغربي العديد من الجرائم التي من شأنها أن تقوض أمن الأسرة واستقرارها، ومن بين هذه الجرائم نجد جريمة إهمال الأسرة لما تترتب عنها من نتائج مضرة بالأطفال وبما أقره الشرع من الزواج من تساكن ومودة ورحمة.
وفي هذا الخصوص ينص الفصل (479 ق.ج) على أنه:
يعاقب بالحبس من شهر إلى سنة وبالغرامة من 200 إلى 2000 درهم أو بإحدى هاتين العقوبتين فقط.
1- الأب أو الأم، إذا ما ترك أحدهما بيت الأسرة دون موجب قاهر لمدة تزيد عن شهرين وتملص من كل أو بعض واجباته المعنوية والمادية الناشئة عن الولاية أو الوصاية أو الحضانة.
ولا تنقطع أجل الشهرين إلا بالرجوع إلى بيت الأسرة رجوعا ينم عن استئناف الحياة العائلية بصورة نهائية.
2- الزوج الذي يترك عمدا لأكثر من شهرين ودون موجب قاهر زوجته وهو يعلم أنها حامل.
لقد استهدف المشرع من إيراده لهذا الفصل، ضمان استقرار المحيط الأسري من اجل تحقيق جو عائلي مناسب لحياة الطفل عن طريق زجر الهجر المقصود لبيت الأسرة الذي قد يقدم عليه أحد الأبوين لما يترتب عليه من حرمان للطفل من حقوقه المادية والمعنوية الناشئة عن الولاية الأبوية أو تلك الناشئة عن الحضانة أو الوصاية كما حددتها مدونة الأسرة.
كما يظهر هذا الفصل أن الطفل هو محل الحماية بامتياز حتى ولو كان جنينا في بطن أمه ، أما في حالة انعدام وجود أطفال أو حمل، فإنه لا يمكن متابعة أحد الزوجين من أجل هذه الجريمة –إهمال الأسرة- وهذا مسلك منتقد، لأن الحق في الأسرة لا يثبت للطفل بمجرد ولادته أو منذ وجوده جنينا في بطن أمه وإنما هو سابق لوجوده الفعلي .
إلا أن السؤال الذي يطرح نفسه بإلحاح في هذا الإطار، ماذا يقصد المشرع 'بالأم والأب" أو بصيغة أخرى، هل يمكن متابعة الأب الطبيعي أو بالتبني من أجل جنحة إهمال الأسرة؟
للجواب على هذا السؤال لابد من الرجوع إلى مدونة الأسرة التي تنظم الواجبات المادية والمعنوية من طرف الأب والأم اتجاه أبنائهما.
بالرجوع إلى مدونة الأسرة نجدها لا تعترف بالأسرة الطبيعية أو المتبنية طبقا للمادتين (148 و149م.أ) لكونهما تخالفان النظام العام المغربي ومن ثم فالأسرة التي تؤخذ بعين الاعتبار وتستفيد من الحماية هي الأسرة الشرعية. وبناء على ذلك فلا يمكن للإبن الطبيعي أو المتبنى الاستفادة من الحماية الجنائية التي يضمنها الفصل 479 ق.ج. باستثناء حالة واحدة تنص عليها مدونة الأسرة في المادة 146 التي تقرر من خلالها شرعية العلاقة التي تربط بين الابن غير الشرعي وأمه، فهذا النص يزيل كل شك فيما يخص حماية الولد الطبيعي عند تملص الأم من واجباتها اتجاهه .
ولمزيد من الضمانات لحماية الطفل من جرائم إهمال الأسرة نقد نص الفصل 480 ق.ج على عقوبات مماثلة لتلك المنصوص عليها في الفصل السابق ضد الشخص الذي صدر عليه حكم نهائي أو قابل للتنفيذ المؤقت بدفع نفقة فروعه وأمسك عمدا عن دفعها في الأجل المحدد. فجريمة إهمال الأسرة تقوم بمجرد الإمتناع عن أداء النفقة داخل الأجل المحدد لها وقد اشترط المشرع الجنائي استصدار حكم قضائي ولو كان مؤقتا .
كما أن جريمة إهمال الأسرة لا تسقط بمجرد الأداء بعد انصرام الأجل المحدد قانونا وهذا ما قضى به المجلس الأعلى في قراره الصادر بتاريخ 31 مارس 1977 الذي جاء فيه "حيث أن الفصل المدان به العارض وهو الفصل 480 من القانون الجنائي ينص على قيام الجريمة بمجرد الإمساك عمدا عن النفقة الواجبة بمقتضى صدور حكم نهائي أو قابل للتنفيذ في موعدها المحدد وان مجرد الأداء بعد ذلك لا يسقط ولا يجعل الجريمة منعدمة".
وختاما لابد من الإشارة إلى أن حماية الطفل من جرائم الإهمال لا تتوقف على المتابعة عن الجرائم الواردة في الفصلين 479 و480، بل إن القانون الجنائي المغربي وسع هذه الحماية لتطال المتابعة من اجل جريمة إهمال الأسرة، حتى في حالة تسبب أحد الأبوين في إلحاق ضرر بالغ بأطفاله أو بواحد أو أكثر منهم وذلك نتيجة سوء المعاملة أو إعطاء القدوة السيئة في السكر أو سوء السلوك أو عدم العناية أو التقصير في الإشراف الضروري من ناحية الصحة أو الأمن أو الأخلاق (م 482 ق.ج).
إلا أنه على الرغم من الحماية الهامة التي يقرها القانون الجنائي للطفل لحمايته من جرائم إهمال الأسرة فإن هذه المقتضيات الزجرية تبقى عاجزة في الواقع عن توفير هذه الحماية، وما يشهد على ذلك هو الأرقام المخيفة لعد قضايا إهمال الأسرة. التي ترفع سنويا أمام المحاكم المغربية، ففي سنة 2001 مثلا بلغ عدد قضايا إهمال الأسرة 1420 قضية لتكون بذلك هذه الجريمة قد حققت المرتبة الثانية، ضمن عدد قضايا جرائم العنف ضد الأطفال بنسبة مئوية قدرت ب 28,84% لذلك نؤيد رأي الأستاذ أحمد الخمليشي الذي يؤكد أن توقيع العقوبة الجنائية من النادر أن يعيد الوئام إلى العلاقة الزوجية ومن ثم استئناف الحياة الأسرية في وئام واطمئنان، لذا يجب البحث عن تدابير بديلة للعقاب والزجر بالنسبة للجرائم التي تقع داخل الفضاء الأسري.
المبحث الثاني
الحماية الجنائية لحق الطفل في سلامته البدنية والنفسية.
يتعرض الأطفال في مجتمعنا المغربي إلى أشكال مختلفة من العنف البدني والنفسي فتسبب لهم معاناة جسمية ونفسية بالغة وتبقى آثارها المؤلمة ماثلة أمام أعينهم طيلة الحياة بل إن بعض أنواع العنف التي يلاقيها الأطفال تترك بصماتها المدمرة على حياتهم، فتعصف بحاضرهم وتحطم أحلامهم وطموحاتهم، وتقضي على مستقبلهم وآمالهم، فتترك أجسادا انتزعت منها الأرواح وسلبتهم كل معنى كريم للحياة، وتفقدهم الثقة في الناس من حولهم وفي المجتمعات التي ينتمون إليها وأشد من ذلك ما يؤول إليه الحال بعد وقوع الاعتداء. فإما إنسان يائس فقد طعم الحياة ومعناها، يعيش كالشبح بين الناس، وينعزل بنفسه عن كل نواح الحياة وإما إنسان حاقد على غيره يريد لهم أن يعانوا مثل معاناته، ويألموا مثل آلامه ويعيشوا في خوف ورعب مثلما عاش أثناء طفولته .
وعلى هذا الأساس، فقد اعتبرت لجنة الأمم المتحدة لحقوق الإنسان العقوبات البدنية والنفسية في المدارس أمرا "لايتماشى مع اتفاقية حقوق الطفل، لذلك تحث الدول بانتظام على منع هذه العقوبة، ليس في المدارس وغيرها من المؤسسات فحسب وإنما أيضا في العائلة، والمجتمع ككل، ومع أن اتفاقية حقوق الطفل لا تمنع العقوبة البدنية صراحة، فإنها تحث الدول الأطراف على حماية الأطفال من جميع أشكال الإيذاء .
وإذا ثبت بأن لأفعال الاعتداء أخطارا كبرى على الأطفال، فما هي اوجه الحماية التي يقرها القانون الجنائي المغربي لضمان حق الطفل في سلامته البدنية (مطلب أول) وكذا سلامة صحته النفسية (مطلب ثاني).
المطلب الأول: حماية الطفل من الإيذاء البدني:
لقد أحاط القانون الجنائي المغربي الطفولة بسياج من القوانين الخاصة التي ترتبط أولا بطبيعة الطفل الجسدية والعقلية، فالطفل لا يستطيع الدفاع عن نفسه إذا تعرض للأذى، ولا يقدر على رد الاعتبار لذاته كما لا يستطيع أيضا تقييم خطوط المؤامرات التي تحاك ضده، وترتبط من ناحية ثانية بالصفة الخاصة لزمرة من المجرمين الذين يقدمون على استغلال الضعف الطبيعي للطفل وإلحاق الإيذاء به ولذلك نص القانون الجنائي على حماية الطفل وذلك عن طريق تجريم كل أفعال الإيذاء التي قد يتعرض لها في ذاته أو في نفسه.
ومن بين أكثر أنواع الإيذاء شيوعا ضد الأطفال، نجد الإيذاء البدني، والذي قد يرتكب لأفعال خسيسة، كالضرب والجرح المرتكب ضد الطفل بهدف تأليمه والانتقام منه وهو ما يمكن أن نصطلح عليه بالإيذاء البدني العادي (الفقرة الأولى) كما قد يرتكب أيضا لأهداف التربية والتأديب والذي يجب أن يمارس في الحدود المرسومة له شرعا وقانونا (الفقرة الثانية).
الفقرة الأولى: الإيذاء البدني العادي للطفل:
يقصد بالإيذاء البدني العادي، جرائم الضرب والجرح التي تحدث من الجاني دون قصد التأديب أو الختان، وغالبا ما يكون الجاني ممن لا يملكون سلطة على الطفل وهذا النوع من الإيذاء البدني للطفل يتماثل مع ذلك الذي يتصور أن يرتكب ضد البالغ أيضا .
وتعتبر ظاهرة الإيذاء البدني للأطفال من اخطر الظواهر التي تقف في وجه تقدم المجتمع وتهدد تماسكه، لكونها تنشئة اجتماعية خاطئة، لذلك توجهت الأنظار من أجل العمل على إيجاد نظام لحماية الأطفال خاصة وان تاريخ الطفولة يعتبر مظلما منذ قرون، حيث سادت مختلف أشكال تعذيب الأطفال خلال تلك العصور.
فكل أشكال الإيذاء البدني التي كانت تلحق الأطفال في العصور الماضية لازمت الطفولة حتى عصرنا الحاضر (وإن خفت حدتها) فإنها لازالت تلقي بجحيمها على أجساد الأطفال الفتية، وقد أوضحت مختلف الدراسات العلمية حول الظاهرة، بأن الإيذاء البدني ظاهرة تعاني منها كل المجتمعات الإنسانية، كما تعرفها مختلف الفئات الاجتماعية كيفما كان مستواها الاقتصادي أو الثقافي .
ويمكن الاستدلال على أفعال الإيذاء البدني العادي للأطفال من خلال الأعراض التالية:
- الإصابات الظاهرة في أماكن الجسم يستبعد أن تكون عرضية كالحروق في الظهر والكدمات في أماكن بعيدة عن الأطراف وعلى مؤخرة الطفل.
- إصابة الرأس والدماغ وما تظهر عنه من أعراض (كالإغماء).
- النزيف الداخلي الناجم عن الإصابة.
- الكسور المتكررة للطفل، العض، الحرق، الجلد والضرب بالآلات الحادة...
- تلعثم الطفل في الكلام والتعثر بطريقة ملفتة للنظر.
ويعتبر الإيذاء البدني Hكثر أنواع الإيذاء شيوعا، وقد يعود ذلك إلى وضوح أعراضه وقابليته للملاحظة والاكتشاف ويشكل الوالدين والقائمين على رعايته وتنشئة الأطفال المصادر الرئيسية لهذه الإيذاءات .
وتطرح هذه الاعتداءات نفسها بحدة في المستشفيات، حيث أصبح إستقبال حالات عدة بصفة يومية، يكاد يجعل الإيذاء البدني للأطفال أمرا عاديا وطبيعيا، غير أن الأطباء يصطدمون في إطار عملهم بصعوبات كبرى عند إستقبالهم لمعظم الحالات (أمهات لا يردن الإدلاء بأية بيانات، وأحيانا بمعلومات جزئية، أطفال عاجزون عن الكلام وعند حديثهم تلاحظ عليهم إضطرابات نفسية بليغة...) .
لكن السؤال الذي يطرح نفسه بحدة هنا، ما هي الأسباب التي تدفع بعض الأشخاص إلى ارتكاب أفعال الإيذاء البدني ضد الطفل؟
للإجابة عن هذا السؤال، فإن الأمر يتطلب رصد هذه المظاهر الاعتيادية وتتبعها في البيئة الفكرية والممارستية السائدة في المجتمع المغربي، والتي يمكن الزعم بأن لها روافد تغذيها وتمدها بأسباب الانتشار والبقاء، روافد يرجع بعضها إلى ظاهرة العنف والعدوان ضد الأشخاص والممتلكات، التي تسري في الجسد (المغربي) العربي، من قمة هرمه إلى أدق خلية في قاعدته وهي الأسرة، ذلك أن الحريات العامة وكرامة الأفراد وحقوقهم ينظر إليها كترف فكري أو كموضة فكرية دخيلة ومزعجة، يتعين الحد من مدها بسن مقررات تحيلها –في حالة الإقرار الرسمي بها- عبثا مجردا من كل قيمة حقيقية.
فقد تعود الأسباب المؤدية إلى إيذاء الأطفال إلى العقلية السائدة في أغلب الأسر المغربية وهي عقليات متشعبة بالكثير من أنماط التفكير والممارسات المعيبة السائدة، فشيوع مقولات: (العصا لمن عصا) و (اقتل وأنا ندفن) و (الحر بالغمزة والعبد بالدبزة)... لها دلالتها السيكولوجية والسسيولوجية السائدة في المجتمع، ولذلك قد لا نستغرب إذا وجدنا من يشير عن قناعة تامة بصلاحية العقاب البدني كحل امثل لردع الطفل/المشاغب عن كثير من الممارسات التي نعتقد أنها عبثا ومضيعة للوقت وما هي كذلك في سائر الأحوال .
ومن بين الأسباب أيضا الفقر الذي تعيشه شرائح كبيرة من المجتمع، والذي قد يدفع ضحاياه إلى إحتراف العنف والجريمة التي يقع ضحيتها الأطفال كما قد يقع ضحيتها الكبار كما يمكن أن يضاف إلى ذلك، الأمراض النفسية والاكتئاب الذين يدفعان إلى عدم إطاقة الأطفال وبالتالي التعامل معهم بنوع من العنف والعدوانية. كما تشير بعض الدراسات إلى وجود أسباب أخرى تغذي ظاهرة الإيذاء البدني للأطفال كالتفكك العائلي المبكر وغياب ثقافة حقوق الطفل وتوارث أفعال الاعتداء، حيث إن معظم المعتدين كانوا بدورهم ضحايا الاعتداءات عند صغر سنهم .
كل هذه الأسباب التي تعج بها مجتمعاتنا والتي تعكس بالملموس ارتفاع حالات الإيذاء البدني للأطفال التي تشكل نسبة عالية ضمن حالات الإساءة المعروضة على المرصد الوطني لحقوق الطفل، حيث سجل المركز 422 ملفا تمثل الاعتداءات البدنية 31% منها . كل ذلك على الرغم من الاهتمام الدولي الكبير بحقوق الإنسان عموما وحقوق الطفل خصوصا.
فقد نص الإعلان العالمي لحقوق الطفل في المادة الثالثة على أن لكل فرد الحق في الحياة والحرية وسلامة شخصه، كما نص في مادته الخامسة على أن لا يعرض أي إنسان للتعذيب ولا للعقوبات أو المعاملات القاسية أو الوحشية أو الحاطة بالكرامة ، وما قررته أيضا المادة السابعة من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية بعدم جواز إخضاع أي فرد للتعذيب أو العقوبة أو المعاملة القاسية... وأيضا ما اشتملته اتفاقية حقوق الطفل من بنود نصت على تجريم جميع أشكال القسوة ضد الأطفال، خاصة المادتين 19 و37 . وأيضا وثيقة نيويورك لسنة 2002 حيث دعـت إلى ضرورة احترام حق الأطفال في الحماية من جميع أشكال العنف (المادة 43/3).
وإذا كانت الأوقاف الدولية قد خصت الطفل بحماية خاصة من جميع أشكال الإيذاء البدني، فهل خص التشريع الجنائي المغربي أيضا الطفل بحماية جنائية مماثلة نظرا لضعفه البدني الذي من شأنه أن يعيقه الدفاع عن نفسه أو يشجع الغير على إيذائه؟
بالرجوع إلى القانون الجنائي المغربي نجده ينص في الفصل 408 على عقوبة حبسية من سنة إلى ثلاث سنوات في حق كل من جرح أو ضرب عمدا طفلا دون الخامسة عشر من عمره... أو ارتكب عمدا ضد الطفل أي نوع من أنواع الإيذاء فيما عدا الإيذاء الخفيف.
وإذا نتج عن الضرب أو العنف أو الجرح أو الإيذاء مرض أو ملازمة للفراش أو عجز عن العمل تتجاوز مدته عشرين يوما أو إذا توفر سبق الإصرار أو الترصد أو استعمال السلاح فإن العقوبة تشدد لتصبح هي السجن من سنتين إلى خمس مع إمكانية الحكم على مرتكب هذه الجرائم بالحرمان من واحد أو اكثر من الحقوق المشار إليها في الفصل 40 ق.ج . وبالمنع من الإقامة من خمس سنوات إلى عشر (ف 409 ق.ج).
أما إذا نتج عن الأفعال السابقة الذكر، فقد عضو أو بتره أو الحرمان من منفعته أو عمى أو عور أو أية عاهة دائمة أخرى، فإن العقوبة هي السجن من عشر إلى عشرين سنة، أما إذا نتج عنه الموت، فإن العقوبة هي السجن من عشر إلى ثلاثين سنة لكن شريطة انعدام قصد إحداثه، أما إذا نتج الموت بسبب أعمال معتادة فإن العقوبة هي السجن المؤبد، أمـا إذا قصد الجاني إحداث الموت فإن العقوبة هي الإعدام (الفصل 410). وتضاعف العقوبات السالفة الذكر إذا كان مرتكب الجريمة أحد أصول الطفل
المجني عليه أو شخصا له سلطة عليه أو مكلفا برعايته (ف 165 ق.ج).
من خلال هذه المقتضيات يتبين لنا بأن المشرع الجنائي المغربي، قد خص الطفل بحماية خاصة من جرائم الإيذاء البدني التي قد تطاله، إذ أن وضع نصوص خاصة تشدد العقوبات على جرائم العنف، الجرح والضرب... التي يمكن أن يتعرض لها الطفل، من شأنها أن تحقق ردعا في نفوس الجناة. إلا انه كان على المشرع المغربي أن يمدد هذه الحماية حتى بلوغ الطفل سنة 18 من عمره. لأنه ببلوغ الطفل هذا السن يكون قد أصبح نسبيا قادرا على مواجهة الإيذاءات التي قد تطاله. كما كان على المشرع أن يوضح معنى الإيذاء الخفيف غير المعاقب عليه (الفصل 408) لأنه بإمكان الجاني أن يحتج بأن ما ارتكبه اتجاه الطفل المجني عليه هو عرف عائلته أو أسرته وانه مجرد إيذاء خفيف يهدف من ورائه تهذيب وتقويم سلوكات الطفل.
الفقرة الثانية: الإيذاء البدني بقصد التأديب:
يعني الإيذاء البدني بقصد التأديب كل أشكال الضرب أو الجرح التي قد يقع الطفل ضحيتها، سواء كانت صادرة من قبل والدي الطفل أو ممن لهم سلطة عليه وذلك بهدف تأديبه أو تعليمه أو تقويمه.
فإذا كان من واجب الوالدين أو من يشرفون على الأطفال أن يحسنوا تربيتهم وأن يسهروا على تنشئتهم تنشئة سليمة، لما في ذلك من فائدة للأسرة والمجتمع والأطفال أنفسهم (أولا) فإن تجاوز حدود التأديب قد يلحق الأذى بالطفل ومن ثم فهو عمل مجرم قانونا (ثانيا).
أولا: مبررات إقرار حق الطفل في التربية والتهذيب:
شرع الإسلام للصغير حقا أصيلا في التربية مقتضاه أن يقوم الأب أو الأم أو المعلم بتربيتة بغية تأديبه وتهذيبه لحمايته من بواعث الانحراف، وإصلاح سلوكه ومنعه من الانقياد إلى نوازع الشر ومخاطره، فقد سمحت الشريعة الإسلامية للأب والأم وللوصي والمعلم ولكل من له سلطة أو إشراف على الطفل بحق تأديبه بقصد العلاج ويبدأ ذلك بالترغيب واللوم بالقول وقد يصل في الحالات القصوى إلى ضربه الضرب الخفيف .
ويجد الحق في التأديب سنده الشرعي من خلال القرآن الكريم والسنة النبوية وإجماع أئمة المسلمين، فيقول الخالق عز من قائل: "يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارا وقودها الناس والحجارة" وقال الرسول صلى الله عليه وسلم "ما نحا والد ولدا من نحل أفضل من أدب حسن" وقال كذلك عن جابر بن سمرة عن النبي صلى الله عليه وسلم "لأن يؤدب الرجل ولده، خير من أن يتصدق بصاع" وقال صلى الله عليه وسلم في حديث مشهور رواه أبو داوود في سننه "مروا الصبي بالصلاة إذا بلغ سبع سنين فإذا بلغ عشر سنين، فاضربوه عليها" وفي رواية أخرى وفرقوا بينهم في المضاجع .
ويبدو لأول وهلة أن هناك تعارضا –وما هو كذلك- بين ما جاء في الحديث الأخير من أمر صريح بالضرب وبين ما عرف عنه صلى الله عليه وسلم من رقة في الطبع، ولين في الجانب ومن قلب ينبض بالحنان ويفيض بالرحمة، التي هي قبس من رحمة الله الشاملة قال تعالى:"ورحمتي وسعت كل شيء" وبما ظهر به على كافة الناس من حب لبناته وحفدته، كان مضربا للأمثال وباعثا على الدهشة، في بيئة كانت تكره إنجاب البنات وتنفر منهن، إلى الحد الذي كان الواحد منهم يغمره الحزن وتعلو وجهه الكآبة والسواد حينما يبشر بولادة أنثى مما سجله القرآن الكريم "يتوارى من القوم من سوء ما بشر به، أيمسك على هون أم يدسه في التراب ألا ساء ما يحكمون" ليس هذا فحسب، بل وصل الأمر إلى حد وأد البنات بمجرد ولادتهن في تلك البيئة الجاهلية الجامدة القلوب المتحجرة العواطف، تفجرت ينابيع الرحمة والحنان من قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم، حيث كان صلى الله عليه وسلم يقف بين خالقه حتى تتورم قدماه في خشوع وطمأنينة، ولكنه حين يسمع بكاء طفل يسرع في صلاته حتى يطلع على أحواله، ويعرف سبب بكائه، هذه بعض أخلاق وسيرة الرسول صلى الله عليه وسلم العطرة مع بناته وحفدته. فكيف إذن يأمر الرسول صلى الله عليه وسلم بضرب طفل قاصر غير مميز، لا يفرق بين فعل قبيح ينبغي تركه، وبين فعل مطلوب على وجه الاستحباب أو الوجوب، ينبغي فعله، لذلك فالفاصل الزمني، بين الأمر بالصلاة وبين الأمر بالضرب في الحديث، فاصل زمني له دلالته التربوية والنفسية، فالنبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر بالضرب مباشرة بعد امتناع الولد عن إقامة الصلاة أو تهاونه فيها، وإنما جعل فاصلا زمنيا بين الأمر الأول والثاني يبلغ ثلاث سنوات أو أكثر .
إذ لا يمكن اللجوء إلى ضرب الطفل إلا بعد إرشاده إلى الصواب وحثه عليه وإذا ما حصل الاقتناع الكامل بعدم جدوى مثل هذه الوسائل يمكن اللجوء إذ ذاك إلى الضرب الخفيف .
والضرب الخفيف ينبغي ألا يتجاوز الثلاث، لما روي عن الرسول صلى الله عليه وسلم لمرداس المعلم "إياك أن تضرب فوق ثلاث، فإنك إن ضربت فوق الثلاث اقتص الله منك" .
وفي نظري المتواضع، فإنه ما دامت الشريعة الإسلامية أباحت الضرب الخفيف، من اجل تأديب سلوكات الطفل نظرا لفوائده فلا يسعني إلا أن أؤيد هذا الأسلوب في التربية ، إلا أنه يجب التأكيد بأنه ينبغي ألا يستعمل إلا عند الضرورة القصوى وبالشكل الذي لا يترك أثرا سيئا على جسم الطفل أو نفسيته، لأن تجاوز حدود الحق في التأديب يعتبر فعلا مجرما ومعاقبا عليه.
ثانيا: تجريم التعسف في تأديب الطفل:
يعد تجاوز الحد في تأديب الطفل صورة من صور جرائم إساءة معاملة الطفل وإيذائه، وإذا كانت جريمة الإساءة هذه الأوسع والأشمل في نتائجها وآثارها وخطورتها لأنها لا تشترط أن يرتكبها أشخاص معينون –وإن كان الأولياء هم من يرتكبون هذه الجريمة بالدرجة الأولى- ولا تتطلب دافعا معينا وراء ارتكابها ولا حدودا ولا قيودا يتم تجاوزها أو وقوع خطا من جانب الطفل يستحق العقاب عليه لكونها نتاجا لما وصل إليه الحال في معاملة الأسرة والمجتمع للطفل، فإن جريمة تجاوز الحق في تأديب الأطفال تعترف بمثل هذه الحدود والقيود عند تكييف الفعل على انه انتهاك لحق تأديب سلوك الأطفال وتقويمه من قبل الأهل أو المتولين تربيتهم ورعايتهم أو المسؤولين عنهم .
وتظهر خطورة تجاوز حدود التأديب من خلال الأضرار المادية والنفسية والجسمية التي قد تلحق الطفل، لذلك أتساءل عن حدود مسؤولية الأولياء ومن في حكمهم عن سلوكاتهم التأديبية؟ وما هو الحد الذي يمكن عنده القول بتجاوز الحق في التأديب ليدخل في دائرة التجريم القانوني؟
للإجابة عن هذه الأسئلة يلزمنا الرجوع إلى المقتضيات الزجرية في القانون المغربي فنجد هذا القانون ينص صراحة على العقاب بالحبس من سنة إلى ثلاث سنوات كل من جرح أو ضرب عمدا طفلا دون الخامسة عشر من عمره... أو ارتكب عمدا ضد هذا الطفل أي نوع آخر من أنواع العنـف أو الإيذاء فيما عدا الإيذاء الخفيـف (ف408 ق.ج). فمقتضيات هذا الفصل إذن تنص صراحة على عدم العقاب على الإيذاء الخفيف بمعنى إباحة الحق في التأديب عن طريق الإيذاء الخفيف .
ولاشك أن انتفاء المسؤولية الجنائية عن الشخص الذي يضرب الطفل ضربا خفيفا في الحدود المعقولة تأديبا له لا يرجع إلى انتفاء القصد الجنائي عند سلامة نيته وابتغائه الخير لابنه، بل يرجع إلى الإباحة المنصوص عليها قانونا .
غير أنع ما يلاحظ على المشرع في هذا الإطار هو انه لم يبين ما معنى الإيذاء الخفيف وما هي حدوده ، فما قد يعتبر إيذاء خفيفا في مجتمع أو أسرة ما قد لا يعتبر كذلك في مجتمع أو أسرة أخرى، وما قد يعتبر إيذاء خفيفا عند بعض الأشخاص قد لا يعتبر كذلك عند الأشخاص الآخرين.
كما أن النص القانوني جاء مطلقا، إذ يعفى من العقاب كل شخص أقدم على ضرب الطفل ضربا خفيفا ولو كان غريبا عنه ولا تربطه به أية صلة. لذا كان على المشرع أن ينص صراحة على انه يقصد بالإيذاء الخفيف، ذلك الذي قد يطال الطفل من أجل تأديبه وتقويم سلوكاته كما كان عليه أن يبين صفة الأشخاص الذين يمكن إعفاؤهم من العقاب، كالوالدين أو الولي، أو الوصي أو المعلم في المدرسة أو الحرفة أو كل من كلف بالإشراف على الطفل وذلك بهدف ضمان حماية الطفل من بعض الأشخاص الذين قد يؤذونه إيذاء خفيفا من أجل الانتقام منه أو تأليمه.
وإذا كان المشرع المغربي قد أقر الضرب الخفيف من أجل تأديب الطفل، فإن بعض التشريعات المقارنة، لا تجيز إستخدام العقاب البدني في تأديب الأطفال، فأي سلوك من الجاني تجاه الطفل حتى وإن كان مجرد ضرب خفيف، فإنه يثير المسؤولية الجنائية ويعد مرتكبا لجريمة ضرب الطفل.
ومن بين هذه التشريعات نجد التشريع السويدي الذي يجرم الإيذاء البدني للطفل أيا كان غرضه، وأخضعه لأحكام الضرب أو الجرح العادية التي يخضع لها المعتدي على البالغ وذلك بعد أن كان يبيح مثل تلك الاعتداءات متى كانت ضد الابن من قبل الوالدين وبقصد التأديب .
وبالإضافة إلى الحماية المقررة للأطفال بموجب القانون الجنائي، فإنه توجد بعض المذكرات الوزارية التي تحدد مسؤوليات الأطر التعليمية (المسؤولية الجنائية والمدنية والإدارية) عن العديد من تصرفاهم داخل الأقسام والمؤسسات التعليمية وخارجها، كما تحدد في نفس الآن، المتابعات التي يخضعون لها في حالة لجوئهم إلى العقوبات البدنية أو إلى أي شكل من أشكال العنف...
فقد أصدرت وزارة التربية الوطنية العديد من المذكرات بهذا الخصوص ، آخرها المذكرة 06/99 بتاريخ 23 شتنبر 1999 والتي تمنع الضرب والعنف الممارس في المؤسسات التعليمية حيث جاء فيها: "أهيب بكافة الأطر التعليمية وأطر الإدارة التربوية أن تتجنب بصفة مطلقة استعمال أي شكل من أشكال العنف الجسدي أو النفسي على التلاميذ وان تعمل على نهج أسلوب الحوار وتشجيع حرية الرأي والتعبير داخل الفصول وفي فضاءات المؤسسات التعليمية بشكل عام" .
فقد ساهمت هذه المذكرات الوزارية إلى حد ما في تخفيض معدلات إيذاء الأطفال داخل الفضاءات التربوية، خاصة بعدما أظهرت مختلف الدراسات العلمية عدم جدوى الإيذاء البدني للأطفال في تربيتهم وتعليمهم، حيث أن العملية التربوية لا يمكن أن تتم في ظل العنف أو التهديد به، فضلا عن أن المدرس الذي يلجا إلى الضرب والإيذاء لم يحصل من تلميذه إلا على كراهية التعليم والمدرسة والمدرسين، فالضرب هو في الواقع سياسة الفاشلين في البيت وفي المدرسة، ولا ينتج عنه إلا تعطيل العقل وتمزيق العاطفة والقضاء على براءة الطفولة وبث روح الكراهية والعداوة في الأجيال الناشئة .
وأخيرا أناشد كل من له سلطة على الطفل أن يحسن معاملته وان يؤدبه بطيب الكلم ألا يلجأ إلى التأديب عن طريق الضرب إلا عند الضرورة القصوى ، والضرورة تقدر بقدرها، فإن لم توجد لم يجز استخدامها، فإن وجدت ضرورة التأديب باستعمال الضرب –الخفيف- فإنه هناك قيود وحدود لا يجوز التطاول عليها، إذ يشترط في الضرب ألا يتجاوز الثلاث وألا يترك أثرا على الجسد، وان يكون باليد المجردة دون استخدام وسائل أخرى كالسوط أو غيرها وألا يقع على أجزاء حساسة من الجسم كالرأس والوجه والبطن أو الأعضاء التناسلية.
وعموما إذا كان للإيذاء البدني خطورة كبيرة على الطفل، فإن الإيذاء النفسي لا يقل خطورة ومرارة عليه خاصة مع الزمن.
المطلب الثاني: الحماية الجنائية للطفل من الإيذاء النفسي:
تعد الحماية الجنائية لنفسية الطفل من بين الأهداف الأساسية التي يتعين على المنظومة الجنائية تحقيقها، لما للحالة النفسية من تأثير كبير على سلوكيات الطفل في صغره وعلى سلوكياته أيضا في كبره.
ولإبراز مدى الحماية التي يقرها القانون الجنائي المغربي للطفل من الإيذاء النفسي سأركز على الحماية الخاصة من العنف اللفظي (الفقرة الأولى) كما سأتناول تجريم إنكار نسب الطفل أو إدعائه (الفقرة الثانية) لما لذلك من آثار مدمرة على نفسية الطفل والتي قد تلاحقه طوال حياته.
الفقرة الأولى: تجريم العنف اللفظي الموجه ضد الطفل:
لا تقتصر الحماية الجنائية للطفل على تجريم الأفعال التي من شأنها أن تشكل إعتداءات جسدية فقط، بل تشمل ردع جميع السلوكات التي من شأنها أن تسبب الإهانة والإعتداء على الشرف والسمعة... التي تحظى أيضا بكثير من الاهتمام والمكانة لدى أفراد المجتمع، حتى أصبحت من القيم الاجتماعية التي يأخذها المشرع الجنائي في الاعتبار خاصة كلما تعلق الأمر بالعنف اللفظي.
حقيقة إن الإساءة اللفظية التي تتضمن الإزدراء والسخرية والاستهزاء والسباب للأطفال لها انعكاسات خطيرة على شخصيتهم، وتؤثر على الكثير من الأطفال وتساهم في تنمية الروح العدوانية عندهم، فالتنشئة الإجتماعية المبنية على العنف اللفظي لا يمكن أن تنتج إلا شخصية غير سوية ومضطربة وتحبذ القوة والعنف من أجل رفع القهر الناتج عن هذا النوع من العنف المدمر.
فلا أحد ينكر بأن من بين أهم العوامل المدمرة لنفسية الطفل جرح كرامته والتقليل من شأنه، مما يدفعه إلى الإحساس بامتهان الذات والتقليل من قيمتها. وهنا لابد أن أضير بأن العديد من المدرسين يسيؤون إلى تلامذتهم من حيث لا يقصدون، وذلك عندما يتوجهون إليهم باللوم أو النقد أو السخرية أمام زملائهم، مما ينفر التلاميذ منهم ومن المدرسة، ويدفعهم إلى الإنطواء وعدم المشاركة في الدروس أو التمرد على السلطة المدرسية جملة وتفصيلا .
وإذا ثبتت خطورة الإساءة اللفظية إلى الطفل فهل تتضمن القانون الجنائي عقوبات لضمان حماية خاصة له من العنف اللفظي الذي كثيرا ما يقع ضحيته في الأسرة، المدرسة أو المجتمع؟
بتأمل نصوص القانون الجنائي يتبين لنل أنها لا تتضمن مقتضيات خاصة لزجر العنف اللفظي ضد الطفل، بل تضمنت مقتضيات عامة لحماية المقومات المعنوية للشخصية الإنسانية بصفة عامة بهدف حمايتها من الأقوال التي يمكن تكييفها على إعتبار أنها تشكل جرائم سب أو قذف في حق أحد أفراد المجتمع.
وكما تشكل هذه المقتضيات حماية للشخص البالغ، فإنه يستفيد منها الطفل أيضا. ومن بين جرائم الإيذاء اللفظي التي جرمها القانون الجنائي نجد القذف والسب. وقد عرف الفصل 442 القذف بأنه ادعاء واقعه أو نسبتها إلى شخص أو هيئة إذا كانت الواقعة تمس شرف أو اعتبار الشخص أو الهيئة التي نسبت إليها. أما السب فقد عرفه الفصل 443 ق.ج بأنه كل تعبير شائن أو عبارة تحقير أو قدح لا تتضمن نسبة أي واقعة معينة.
ويعاقب على القذف والسب العلني بموجب الظهير رقم 1.58.378 بمثابة قانون الصحافة الذي ينص في الفصل السابع والأربعون منه بأنه يعاقب بحبس تتراوح مدته بين شهر واحد وستة أشهر وبغرامة يتراوح قدرها بين 10.000 و50.000 درهم أو بإحدى هاتين العقوبتين فقط عن القذف الموجه للأفراد...
وهنا تجدر الإشارة إلى أن قانون العقوبات الكويتي قد سار في نفس منحى القانون الجنائي المغربي، حيث لم ينص صراحة على نصوص خاصة لحماية الطفل من العنف اللفظي، بل تضمن مقتضيات عامة، لتجريح القذف أو السب الموجه ضد أحد أفراد المجتمع وتبين ذلك من خلال المادة 210 بنصها على معاقبة كل من صدر منه في مكان عام أو على مسمع أو مرأى من شخص آخر غير المجني عليه، سب لشخص آخر على نحو يخدش شرف هذا الشخص أو اعتباره دون أن يشمل هذا السب على إسناد واقعة معينة له، يعاقب بالحبس مدة لا تتجاوز سنة واحدة وبغرامة .. كما عاقب المشرع الكويتي على كل ما من شأنه أن يحقق الجرائم المشار إليها في المادة السابقة حتى ولو صدرت بشكل غير علني.
وإذا كان المشرع الجنائي المغربي -شأنه شأن قانون العقوبات الكويتي- لم يحض الطفل بحماية خاصة من العنف اللفظي، فإن المذكرة الوزارية الموجهة إلى الأطر التربوية قد نصت صراحة على مسؤولية أطر التربية عن كل أشكال التجريح والإهانة التي قد يلحقونها بالتلاميذ حيث جاء فيها: "أهيب بكافة الأطر التعليمية وأطر الإدارة التربوية أن تتجنب بصفة مطلقة استعمال أي شكل من أشكال العنف النفسي.. على التلاميذ.. خاصة وان جل العاملين الحاليين في قطاع التعليم هم خريجي مدارس ومعاهد التكوين حيث يتعلمون أول درس في التربية وعلم النفس، حول مساوئ التجريح... ومضاره النفسية.
وعموما، يمكن القول بأن هذه المقتضيات برمتها تعد غير كافية لحماية الطفل من العنف اللفظي، وهو ما يبرر ارتفاع حالاته داخل المجتمع على الرغم من غياب إحصائيات في الموضوع باستثناء بعض الإحصائيات الجزئية الصادرة عن المرصد الوطني لحقوق الطفل والتي تشير إلى أن القسوة النفسية ضد الأطفال تشكل 16% ضمن نسبة المكالمات الهاتفية المعروضة على المرصد الوطني لحق الطفل منذ تأسيسه سنة 1995 إلى غاية أبريل 2002. وعلى الرغم من ارتفاع عدد جرائم العنف اللفظي ضد الأطفال فإن أغلب الجناة ينفلتون من العقاب.
ويعزى ذلك إلى صعوبة إثبات هذا النوع من العنف وكذا إلى صعوبة تحديد تعريف محدد لمفهوم الإيذاء النفسي، كما أن الكثير من الحالات التي تتعرض لمثل ذلك الإيذاء لا تبلغ عن الأضرار النفسية التي تلحق بها جراء ذلك. إذ بالرغم من تزايد ظاهرة إيذاء الأطفال نفسيا ومثول بعض الحالات أمام القضاء إلا انه كان من الصعب إثبات ذلك، حيث أن الآباء أو المهنيين غالبا ما يدعون أن ذلك مجرد تخيلات في ذهن الطفل، لا مكان لها من الصحة، كما أن الأطفال أنفسهم غالبا لا يخبرون عن آثارها عليهم الآخرين بالرغم من تألمهم جراء ذلك .
وفي ظل غياب دراسات ميدانية تعكس حجم الظاهرة وأبعادها، لا يمكن التعرف على حجم الظاهرة ولا على الآثار المترتبة عليها، حيث أن آثار هذه المشكلة تواجه بالتدخل في خصوصيات الأسرة حيث تعتبر أغلب الأسر العنف اللفظي جزء من التهذيب والتأديب الذي يتلقاه الطفل، وكما أنه من الناذر جدا أن يتقدم الطفل بشكاية ضد من له سلطة عليه إلى الجهات الرسمية إذا عنفه لفظيا، كما لا يستطيع في أغلب الأحيان أن يبوح بذلك العنف حتى إلى أقرب أقربائه، مما يدعم تفاقم المشكلة وانتشارها.
وختاما إذا كان العنف اللفظي يسبب أذى نفسية كبرى للطفل، فإن إنكار نسبه أو إدعاءة بسبب تدمير خطير لنفسيته.
الفقرة الثانية: إنكار نسب الطفل أو ادعائه؛ مساس خطير بنفسية الطفل:
لقد اهتم الإسلام بالنسب اهتماما كبيرا، ويتجلى ذلك في أنه يعتبره من الضروريات الخمس التي جاء للمحافظة عليها وتدور قواعده على ضبط أحكامها وذلك من أجل طهارته وتفادي اختلاطه وأيضا لضمان حق الطفل في أن يكون له نسب ينسب إليه ويتحصن به ضد معرة الإنتساب إلى الزنا.
وبسبب أهمية النسب الذي يحمله الفرد طوال حياته، لما تترتب عنه من آثار في علاقة الطفل بمن انتسب إليه: فإن ادعاءه أو إنكاره، حتما ستترتب عليه آثار نفسية خطيرة على الفرد عموما وعلى الطفل على وجه الخصوص وهو ما تظهره الحالات الواقعية التي تعكس مآس وآلام نفسية بليغة لأطفال ضحايا ادعاء أو إنكار نسبهم .
وإذا كانت الشريعة الإسلامية قد شملت النسب بحماية كبرى، فإن القانون الوضعي المغربي، متعه بحماية جنائية موازية: إذ جرم كل علاقة جنسية خارج الزواج، لذلك عاقب على الزنا باعتبارها أهم جريمة تقف ضد الأخلاق واستقرار الزواج والأنساب، ولم يسمح بالتوالد في إطار الزواج ويعاقب كل التصرفات التي تمس بالأسرة الشرعية أو بحق الطفل في النسب عن طريق ادعائه أو إنكاره دون وجه حق، فقد عاقب الفصل 408 الأب وعند عدم وجوده الطبيب أو الجراح أو ملاحظ الصحة أو الحكيمة أو المولدة أو القابلة أو أي شخص خطر الولادة أو وقعت بمحله بالحبس من شهر إلى شهرين وبغرامة من مائتي وعشرين إلى مائتي درهم، إذا لم يقم بالتصريح بالازدياد في الأجل القانوني وذلك في الحالات التي يكون فيها التصريح واجبا.
وقد تم تدعيم الفصل 408 ق.ج بالمادة 31 من قانون 37.99 المعتبر بمثابة قانون للحالة المدنية والتي تنص على انه يعاقب بغرامة مالية من 300 إلى 1200 درهم كل من وجب عليه التصريح بولادة أو وفاة طبقا لأحكام المادة 16 والمادة 24 ولم يقم بهذا الإجراء داخل الأجل القانوني .
وحسب المادة 16، فإن التصريح بالولادة لا يتم لدى ضابط الحالة المدنية لمحل وقوعها ويقوم بها أقرباء المولود حسب الترتيب التالي: الأب، الأم، وصي الأب، الأخ، ابن الأخ، ويقدم الأخ الشقيق على الأخ للأب ويقدم هذا الأخير على الأخ للأم كما يقدم الأكبر سنا على من هو أصغر منه متى كانت له القدرة الكافية على التصريح.
إن هذه المادة في حقيقة الأمر تضمن حماية موسعة لنسب الطفل إذا ما قورنت بالفصل 468 ق.ج، لأنها جعلت الأم من الأشخاص المسؤولين عن التصريح بالازدياد وتطبق عليها عقوبات مماثلة لتلك التي يمكن توقيعها على الأب وذلك عكس ما فعل الفصل 468 –السالف الذكر- وهذا مسلك إيجابي، لان إعفاء الأم من العقوبة، قد تتشجع على ترك مولودها وعدم التصريح به، خاصة إذا كان ناتجا عن علاقة غير شرعية.
وإذا كان الفصل (468 ق.ج) قد وسع من المسؤولية ليشمل كل من الطبيب والجراح وملاحظة الصحة والقابلة...، فإنه عمليا وإداريا لا يتأتى التصريح من طرف هؤلاء جميعا ما لم تكن لهم وكالة بذلك لأن التصريح بالازدياد يتطلب منهم أن يعرفوا اسم المولود العائلي والشخصي واسم والديه والجدين وتاريخ ومكان ازديادهما والإدلاء بعقد زواج أبويه .
ولتعزيز حماية حق الطفل في النسب، فقد عاقب الفصل 469 ق.ج كل من عثر على وليد ولم يخطر به ضابط الحالة المدنية ولا السلطات المحلية، بالحبس من شهر إلى شهرين وغرامة من مائة وعشرين إلى مائتي درهم أو بإحدى هاتين العقوبتين فقط.
وهذا نص يضاف للنص الخاص وهي المادة 3 من قانون الكفالة الجديد رقم 15.01 التي تقضي: "بأنه يجب على كل شخص عثر على طفل وليد مهمل أن يقدم له المساعدة والعناية التي تستلزمها حالته وان يبلغ عنه على الفور مصالح الشرطة أو الدرك" لأن من شأن التصريح بالعثور عليه إنقاذه من الهلاك أولا، تم التحري والبحث عن والديه ثانيا وبالتالي إثبات نسبه لهما إن أمكن ذلك وتسجيله بسجلات الحالة المدنية .
ولضمان حماية اكبر لحق الطفل في النسب، فإن الفصل 466 ق.ج يعاقب بالحبس من شهر إلى ستة أشهر وبغرامة من مائتين إلى خمسة آلاف درهم، من ارتكب بقصد الحصول على فائدة أحد الأفعال الآتية:
- تحريض الأبوين أو أحدهما على التخلي عن طفلهما الوليد أو الذي سيولد.
- قدم أو حاول أن يقدم وساطته للتكفل بطفل وليد أو سيولد أو لتبنيه.
كما نص أيضا الفصل 467 على عقوبة حبسية من شهر إلى ستة أشهر، وغرامة من مائتين إلى خمسة آلاف درهم:
- من حمل الوالدين أو أحدهما على التعهد في عقد بالتخلي عن طفل سيولد لهما أو حاول ذلك وكذلك من أحرز مثل هذا العقد أو استعمله أو حاول استعماله.
وفي نفس سياق هذا الفصل ينص الفصل 467-1 على عقوبة حبسية من سنتين إلى عشر سنوات وبغرامة من خمسة آلاف إلى مليوني درهم كل شخص يقوم ببيع أو شراء طفل تقل سنه عن ثمان عشرة سنة. وما تشديد المشرع العقوبة في هذا الفصل إلا بهدف حماية الطفل من هذه الجرائم الخطيرة والمحطة بالكرامة الإنسانية من جهة ولحماية نسب الطفل من الضياع من جهة ثانية.
وحماية للطفل من بعض الأفعال المنتشرة بشكل واسع داخل المجتمع المغربي والتي من شأنها أن تحول دون التعرف على هوية الطفل أو تكون سببا لتغيير هويته الحقيقية، فإن الفصل 470 ق.ج، ينص على زجر بعض الأفعال التي قد يتم من خلالها المساس بحق الطفل في الهوية حيث جاء فيه "من تعمد نقل طفل أو إخفاءه أو تغييبه أو استبداله بطفل آخر أو تقديمه ماديا على أنه ولد حيا،فإن العقوبة هي الحبس من ثلاثة أشهر إلى سنتين. مع مضاعفة العقوبات المنصوص عليها إذا كان الفاعل من أصول الطفل أو شخصا مكلفا برعايته أو له سلطة عليه.
والواقع أن الهدف من نقل الطفل أو إخفائه أو تغييبه هو حجبه عن الأنظار وبالتالي الحيلولة دون التعرف عليه، كمن قام بالتقاط الوليد ونقله من مكان إلى مكان آخر أو أخفاه في بناية بنفس الحي الذي عثر فيه عليه، أو غيبه عن الأنظار بأية وسيلة من الوسائل كتغيير مظهره الشيء الذي يؤدي به في آخر المطاف أن يصبح مجهول النسب. أما الهدف من استبدال الطفل فيتمثل في الحالة التي يتم فيها تقديم طفل إلى سيدة بدعوى أنه المولود الذي أنجبته إلا انه في الواقع ليس وليدها، لأغراض دنيئة غالبا كأن ترث نصيبا أوفر من تركة زوجها الهالك أو لتحصل على أجرة حضانة من مطلقها. وفي هذه الجريمة يوجد تدليس مزدوج مادام يقع تغيير في هوية الطفل في الحالتين معا الشيء الذي يؤدي غالبا إلى تزوير عدة وثائـق رسميـة كـرسم الـولادة، وحينما يكتشف ذلك قد يصير كلا الطفلين في وضعية مجهولي النسب ، فهذه الوضعية حتما ستجعل الطفل يعيش المآسي النفسية والاجتماعية الخطيرة والتي قد يتضرر منها المجتمع بدوره.
وتبعا لما سبق يتبين لنا، أن المشرع يهدف إلى حماية حق الطفل في النسب حيث يعاقب بشدة على الجرائم الماسة بهوية الطفل أو على الأخص ادعاء أو إنكار النسب، وذلك ليس من اجل حماية الأنساب من الاختلاط فحسب، وإنما أيضا من أجل تجنب وقوع الطفل في وضعية مجهول الأب أو الأبوين وما قد يترتب عن ذلك من أذى نفسي خطير سيلازمه حتما مدى الحياة.
وختاما إذا كانت الإعتداءات على حق الطفل في سلامته الجسدية والنفسية تشكل خطرا كبيرا عليه وتستوجب توقيع أشد العقوبات على الجاني، فإن المساس بعرض الطفل وأخلاقه لا يقل خطورة وإساءة عن ذلك فما هي إذن أوجه الحماية الجنائية المحصنة لعرض الطفل وأخلاقه؟
الفصل الثاني
الحماية الجنائية لأخلاق الطفل وصحته.
تتجسد أسمى حقوق الطفل في أن ينعم بحياة آمنة مطمئنة في بيئة خلقية صالحة وهذا طبعا لن يتأتى ما لم يقر المشرع للطفل حماية جنائية خاصة من بعض جرائم إساءة المعاملة الأكثر شيوعا وانتشارا داخل المجتمع المغربي مثل حمايته من الجرائم الجنسية التي تشكل مساسا خطيرا بشرفه وسمعته سواء عن طريق الإكراه أو التغرير أو تلك التي قد يقع الطفل ضحيتها عن طريق الرضاء الصادر منه لعدم تقديره لحقيقة الاعتداءات الجنسية التي تمارس عليه (المبحث الأول) إلا أن الحق في الحياة الآمنة المطمئنة لا يمكن أن ينعم به الطفل ما لم يحظ حقه في الصحة بحماية جنائية مماثلة لتجريم كل ما من شأنه المساس بهذا الحق، كإهمال الحق في الرعاية الصحية أو تشغيل الطفل في سن مبكرة لما قد يترتب عن ذلك من أضرار بليغة تؤذي صحته والتي قد يمتد أذاها إلى حد المساس بحقه في الحياة (المبحث الثاني).
المبحث الأول
الحماية الجنائية لعرض الطفل وأخلاقه.
يعتبر حق الطفل في صيانة عرضه وأخلاقه، من بين أسمى الحقوق التي اهتمت بها التشريعات والمواثيق الدولية بسبب الضعف الذي يتميز به الأطفال مما يجعلهم عرضة لجرائم تمس أعراضهم وأخلاقهم.
فجرائم العرض تقع عند المساس بالجسد بفعل يقع مباشرة عليه فيخل بطهارته، وتتعدد الأفعال التي تشكل انتهاكا لعرض وأخلاق الطفل إلا انه يجمع بينها صفة مشتركة وهي الصفة الجنسية للفعل، وهذه الصفة الجنسية ذات مدلول واسع تستوعب، جميع الممارسات والأفعال الجنسية الطبيعية وغير الطبيعية التي تهدف إلى تحقيق الإشباع الجنسي الكامل، كما تستوعب أيضا سائر الأفعال الممهدة للاتصال الجنسي.
ونظرا لجسامة الأخطار الجسدية والنفسية التي قد تلحق الطفل جراء المساس بعرضه وأخلاقه، فقد جرم المشرع المغربي العديد من الأفعال من أجل حمايته من بينها تجريم الاغتصاب وهتك العرض (المطلب الأول) وأيضا التحرش الجنسي وتحريض الأطفال على الفساد وتسخيرهم لأغراض ذات طبيعة جنسية (المطلب الثاني).
المطلب الأول: حماية الطفل ضحية الاغتصاب وهتك العرض:
تعتبر جرائم الاغتصاب وهتك العرض من أخطر الجرائم مساسا بحرمة جسد الطفل وأخلاقه، فهي غالبا ما تتم كرها عنه، فتهدر أدميته وتخدش حياءه، كما تؤدي إلى المساس بشرفه وعفته فتجعله منبوذا في المجتمع، خاصة إذا كان الطفل المجني عليه أنثى، لما قد يترتب أيضا عن ذلك من حمل فتصبح بذلك أما عازبة رغما عن أنفها ليمتد هذا الأذى إلى طفلها وأسرتها ككل.
إذا ثبت هذا، فإن المشرع المغربي وضع إطار لحصانة عرض الطفل وأخلاقه يتمثل أساسا من خلال التشدد في تجريم فعل الاغتصاب (الفقرة الأولى) ثم التشدد في تجريم هتك العرض (الفقرة الثانية).
الفقرة الأولى: تشديد عقوبة اغتصاب قاصرة:
تعد جريمة الاغتصاب من أخطر جرائم العرض التي تلحق الأنثى فتجعلها ضحية بين يدي وحش كاسر يدنسها ويخلف لها أسوأ الآثار، خاصة إذا كانت بكرا وقد تعرضها للحمل سفاحا، وتبلغ خطورة الجريمة أشدها إذا استهدفت قاصر .
وقد أضحت ظاهرة اغتصاب الأطفال بالمغرب كشكل من أشكال سوء معاملة الأطفال تتفاقم في أوساط المجتمع المغربي سنة بعد أخرى، وما يزيد من استفحالها هو كونها ظاهرة صامتة، نظرا للأعراف التي تداولتها الأسر المغربية فيما يخص تداول الجانب الجنسي، بحيث تكاد تجده من المحرمات، بل ومن نقط العار، فأغلب الضحايا وأسرهم يختارون الصمت والتستر عوض فضح هذه الجريمة خوفا من التشهير خاصة وانه يصعب إثباتها أمام القضاء.
وعلى الرغم من أن أغلب جرائم الاغتصاب تحاط بسرية تامة، فإنه توجد بعض الإحصائيات الجزئية التي تعكس إلى حد ما الانتشار المتزايد لهذه الجريمة. فحسب الإحصائيات الصادرة عن المرصد الوطني لحقوق الطفل، فقد بلغت عدد جرائم الاغتصاب 102 حالة سنة 1999 و210 حالة سنة 2001 أما سنة 2002 فقد ارتفع هذا العدد إلى 400 حالة اغتصاب. وحسب نفس المصدر، فإن حالات الاعتداءات الجنسية على الأطفال تتوزع حسب طبيعة المعتدي على الشكل التالي: 43% من المعتدين هم غرباء عن الطفل و21% جيران و9% معلمين و6% آباء و5% هم أقارب و4% مدير مسؤول و3% أطر إدارية و3% تلاميذ. وتتراوح أعمار الأطفال ضحايا جرائم الاغتصاب بين 6 و14 سنة ومن مختلف المستويات الاجتماعية ومن أوساط مختلفة .
وإذا كانت جرائم اغتصاب الأطفال، تشهد تزايدا مستفحلا، فما هي اوجه الحماية الجنائية التي يقرها لهم القانون الجنائي؟
بالرجوع إلى مقتضيات الفصل 486 ق.ج نجده يعرف الاغتصاب بأنه مواقعة رجل لامرأة بدون رضاها، والمواقعة تعني إيلاج عضو التذكير في عضو التأنيث ووفقا لهذا التعريف، فإن أي إيلاج لعضو التذكير في غير موضعه الطبيعي (قبل المرأة) لا يعد اغتصابا، كما لا يعد اغتصابا إيلاج غير عضو التذكير في عضو التأنيث .
ووفقا لهذا التعريف فإن أساس التجريم هو انعدام رضا المجني عليه، ومن ثم إذا كانت المواقعة تمت برضا الطرفين لا تشكل جريمة، ونظرا لأن الرضا لا يعتد به إلا إذا كان صادرا عن شخص بالغ، لذا فإن الاغتصاب يختلف نطاقه متى كان المجني عليه شخصا بالغا، حيث يقتصر في هذه الحالة على المواقعة دون رضاه، بينما إذا كان المجني عليه قاصرا (طفلة) فإنه يتسع ليشمل المواقعة سواء تمت برضاها أو دون رضاها، وما ذلك إلا لعدم الاعتداد برضاها في حالة توفره حكما .
ونظرا لخطورة هذه الجريمة على القاصرة لما قد يلحقها من أضرار جسدية وصدمات نفسية ، فقد عاقب عليها المشرع المغربي بالسجن من خمس إلى عشر سنوات، غير أنه إذا كانت سن المجني عليها تقل عن ثمان عشرة سنة، فإن الجاني يعاقب من عشر إلى عشرين سنة (الفصل 486 ق.ج)، وإذا كان الجاني من أصول الضحية أو ممن لهم سلطة عليها أو وصيا عليها أو خادما بالأجرة عندها أو عند أحد الأشخاص السالف ذكرهم أو كان موظفا دينيا أو رئيسا دينيا، وكذلك أي شخص استعان في اعتدائه بشخص أو عدة أشخاص، فإن العقوبة هي السجن من عشرين إلى ثلاثين سنة (الفصل 487 ق.ج).
وبمقارنة التشريع المغربي مع نظيره المصري في هذا الخصوص يتبين لنا أن المشرع المصري وعلى الرغم من عدم إقراره لحكم خاص في حالة اغتصاب طفلة إلا انه كان أكثر تشددا في العقاب على هذه الجريمة، حيث عاقبت (المادة 267 من قانون العقوبات) كل من واقع أنثى بدون رضاها بالأشغال الشاقة المؤبدة أو المؤقتة، فإذا كان الفاعل من أصول المجني عليها أو من المتولين تربيتها أو ملاحظتها أو ممن لهم سلطة عليها فإنه يعاقب بالأشغال الشاقة المؤبدة. ونفس التشديد نجده أيضا عند المشرع التونسي الذي يقرر عقوبة الإعدام في خالة استعمال العنف أو السلاح أو التهديد به لارتكاب جريمة الاغتصاب مهما كان سن المجني عليها، وتكون العقوبة الإعدام أيضا، إذا كانت المجني عليها دون العشر أعوام، وسواء كان ذلك باستعمال العنف أو السلاح أو التهديد به، أو بدونه.
ومن هنا تبرز بوضوح الحماية المتميزة التي يفرضها القانون الجنائي التونسي لصغيرات السن من هذه الجريمة . وقد يرى البعض في الإعدام عقوبة قاسية وشديدة على مرتكب هذه الجريمة، وأنها لا تتناسب مع درجة جسامة الجريمة المرتكبة، إلا أنه يمكن الرد عليهم بأن ما ذهبت إليه التشريعات التي تقرر هذه العقوبة القاسية هو عين الصواب . ذلك لان الطفولة سن طيش ورعونة حيث تكون المجني عليها سهلة الانقياد، وغير ناضجة عقليا وجسميا وعاطفيا، ولا تستطيع صد الجاني عن ارتكاب فعلته الشنيعة ضدها.
وتطبيقا لهذا الحكم المعمول به أيضا في التشريع الجنائي الأردني، فقد قضت محكمة الجنايات الكبرى الأردنية بأن "مواقعة المتهم للمجني عليها التي لم تبلغ الخامسة عشرة من عمرها، قد تم بطريق العنف والإكراه، وذلك عندما قام بشل حركتها بحيث أعاقها تماما عن أية مقاومة... فإن هذا هو الاغتصاب الجنائي في أوضح صوره وفعل المتهم ينطبق وأحكام المادة 9/2 من قانون العقوبات رقم 9 لسنة 1988 التي توجب الإعدام شنقا حتى الموت" .
أما بخصوص تعامل القضاء المغربي مع هذه الجريمة، فإنه يشوبه نوع من التردد والغموض نظرا لعدم دقة التكييف القانوني وغموض المتابعات . حيث ناذرا ما يعاقب مرتكبوا جرائم الاغتصاب على أساس تكييفها هذا. وما يؤكد هذا الطرح القرار الصادر عن غرفة الجنايات بمحكمة الاستئناف بفاس بتاريخ 29/03/2001 –غير منشور- والذي أدان المتهم بجريمة اغتصاب أخت زوجته القاصرة، البالغة من العمر 14 سنة وعاقبه بسنتين سجنا بعد تمتيعه بظروف التخفيف، في حين أن أدنى عقوبة يمكن تطبيقها على مرتكب جريمة اغتصاب قاصر هي السجن من عشر إلى عشرين سنة حسب مقتضيات الفصل 486 من القانون الجنائي.
ويعزى ذلك أن القضاء لا يعتبر الاغتصاب إلا إذا وقع على امرأة طبقا لما جاء في الفصل 486 ق.ج وهو طرح يؤكده ما جاء في حيثيات أحد القرارات الصادرة عن محكمة الاستئناف بوجدة كالتالي: "وحيث أن الاغتصاب يكون على المرأة وليس على القاصرة" ونفس التوجه سارت عليه محكمة الاستئناف بفاس، في القرار الصادر عنها بتاريخ 13 نونبر 2002 غير منشور. والذي أدان المتهم من أجل هتك عرض بنت أخيه القاصرة التي تبلغ من العمر ثلاث سنوات بسنتين حبسا وقد تسبب هذا العم بفعلته هاته، وحسب الشهادة الطبية المرفقة بالملف –أكدت الدكتورة شفيقة عزوزي- أنها وجدت على فرج الضحية احمرارا وتمزقا بسيطا في بكارتها" في حين كان على المحكمة أن تكيف الفعل جريمة اغتصاب، ما دام الاعتداء الجنسي في هذه الحالة توفرت فيه كل الشروط لتكييف الفعل كذلك. وذلك من اجل توقيع عقوبة أشد على الجاني الذي لم تمنعه رابطة الحرمة ولا حداثة سن الضحية على اقتراف هذه الجريمة النكراء.
ومن الأمثلة المسيئة أيضا لحق الطفل في الحماية من هذه الجريمة، قرار محكمة الاستئناف بفاس الصادر الصادر بتاريخ 29 مارس 2001، والذي قضى بإدانة متهم بجناية اغتصاب أخت زوجته القاصرة بسنتين حبسا بعد تمتيعه بظروف التخفيف، فأي ردع هذا لجريمة من هذا الحجم؟
وعليه فإن تصور الضحية ما هو إلا ظرف تشديد وبالتالي فلا دخل له في تغيير التكييف القانوني للفعل الجرمي، لأن العبرة بتحقيق الفعل وتوفر الأركان المادية والمعنوية حتى إذا انتفت تلك الأركان يمكن للقاضي أن يغير فصول المتابعة مع وجوب تعليل لذلك حتى لا تضيع حقوق الضحية . لأنه يوجد فرق كبير في العقاب بين بعض الجرائم التي تعتبر اعتداءات جنسية على الأطفال كما هو الشأن بالنسبة للفرق بين جريمة الاغتصاب وجريمة هتك العرض.
الفقرة الثانية: تشديد عقوبة هتك عرض قاصر:
يقصد بهتك العرض كل فعل مخل بالحياء يقع على شخص، أي كل فعل مناف للآداب يقع عمدا ومباشرة على المجني عليه، وفقا لهذا التعريف يشترط في الفعل المخل بالحياء أن يكون على درجة من الفحش والجسامة، وأن يكون هذا الإخلال عمديا، فلا يعد هتك عرض ذلك الفعل الذي يقع بصورة غير عمدية مهما كان خادشا بالحياء، ولا يشترط أن يقع المساس بعورة المجني عليه من قبل الجاني وإنما يتصور ولو كان المجني عليه هو الذي أجبر على المساس بعورة الجاني .
وعكس جريمة الاغتصاب التي لا يمكن أن تقع إلا على أنثى، فإن هتك العرض يمكن أن تقع على أنثى كما يمكن أن تقع على ذكر، بل يمكن أن تقع هذه الجريمة من أنثى على أنثى أو من أنثى على ذكر. وقد استهدف المشرع من تجريمه لأفعال هتك العرض، حماية المناعة الأدبية للأشخاص نظرا لما قد يلحقهم من أذى جراء هتك أعراضهم، خاصة إذا كان المجني عليه قاصرا، لسهولة خداع الطفل أو تهديده أو إكراهه على المساس بعرضه بسبب ضعفه البدني وأيضا لعدم نضج قدراته التي تمكنه من فهم طبيعة الفعل الذي يرتكب عليه، لذا فإنه من اليسير أن يقع ضحيته الجاني.
لهذه الأسباب عاقب القانون الجنائي، بالحبس من سنتين إلى خمس سنوات كل من هتك دون عنف أو حاول هتك عرض قاصر تقل سنه عن ثمان عشرة سنة سواء كان ذكرا أو أنثى . وتشد هذه العقوبة لتصبح هي السجن من خمس إلى عشر سنوات إذا كان الفاعل من أصول الضحية أو ممن لهم سلطة عليها أو وصيا عليها أو خادما بالأجرة عندها أو عند أحد من الأشخاص السالف ذكرهم، أو كان موظفا دينيا أو رئيسا دينيا وكذلك أي شخص استعان في اعتدائه بشخص أو عدة أشخاص أو إذا نتج عن هتك عرض الضحية افتضاضها.
وفقا لهذه المقتضيات، فإن أي هتك لعرض القاصر دون قوة يشكل جريمة معاقبا عليها، عكس الحالة التي يقع فيها هتك عرض شخص تجاوز سن 18 سنه دون عنف إذ لا عقاب في هذه الحالة، إلا إذا شكل الفعل جريمة أخرى كالإخلال العلني بالحياء وبذلك يتبين أن المشرع المغربي اعتبر سن المجني عليه الأقل من 18 عنصرا مكونا للجريمة بحيث إذا بلغ سن الضحية 18 سنة فأكثر، فإن أحد أركان الجريمة يتخلف ومن ثم لا وجود للجريمة.
وإذا كان المشرع المغربي قد نص على عقوبة موحدة لجريمة هتك عرض قاصر مهما كان سنه، فإن المشرع المصري ميز في هذا الخصوص بين القاصر الذي لم يتجاوز سنه سبع سنوات وذلك الذي تجاوز سبع سنين حيث نصت المادة 269 على انه كل من هتك عرض صبي أو صبية لم يبلغ سن كل منهما ثماني عشرة سنة كاملة، بغير قوة أو تهديد يعاقب بالحبس، وإذا كان سنه لم يبلغ سبع سنين كاملة أو كان الجاني من أصول المجني عليه أو ممن يتولون تربيته، فإن العقوبة هي الأشغال الشاقة المؤقتة .
من خلال هذا المقتضى يتبين لنا أن المشرع المغربي أقل تشددا من نظيره المصري في العقاب على جرائم هتك عرض قاصر دون قوة، بل وأقل تشددا من نظيره الفرنسي الذي يرفع الحد الأدنى للعقوبة في هذه الجريمة إلى ثلاث سنوات عكس المشرع المغربي الذي جعل الحد الأدنى لهذه الجريمة سنتين فقط.
إن المطلع على وضعية الأطفال وأساليب معاملتهم في العهود السابقة يندهش من المكانة الدنيا التي كانوا يحتلونها في المجتمع ومن المعاملة السيئة والمنحطة بل والمشمئزة التي كانوا يعاملون بها، إذ كان الأطفال يقتلون بمجرد ولادتهم كما كانوا بمثابة متاع يباع ويشترى، أما الأطفال غير الشرعيين فكانوا يقتلون كما يقتل الأطفال الذين يولدون بإعاقة معينة، وكان للأب حق التخلص من ابنه في أي وقت شاء وبأي وسيلة شاء، وكان الإناث من الأطفال أسوأ حظا وأكثر تعرضا للخطر لأنهن كن يعتبرن مجرد وسيلة للإنجاب والنسل فقط. وفي ظل وضع كهذا كانوا يتعرضون لأبشع أنواع الاستغلال كأن يقعوا ضحية الاستغلال الجنسي، ولم يكن الحس العام آنذاك يعتبر ذلك شيئا مخلا بالآداب، ولم يقف الأمر عند هذا الحد بخصوص تعذيب الأطفال وتوجيه الأذى إليهم وإنما امتد إلى جعلهم خدما في البيوت والقيام بالسخرة في محلات الدعارة واتخاذهم وسيلة لإرضاء الرغبات الجنسية للراشدين كما كان يمارس عليهم أبشع أنواع التعذيب الجسدي حيث كانت تسلخ جلودهم أو تشوه أجسامهم بعد عمليات تشوبه رهينة فيتحولون إلى كائنات تثير الضحك والاستهزاء في المحافل الرسمية، فضلا عن ذلك كان الأطفال يقتلون أو يدفنون أحيانا ليقدموا قربانا إلى الآلهة .
وأمام هذا الوضع، فقد كان لزاما انتظار قدوم الدين الإسلامي السمح الذي قضى على هذه الممارسات والإعتداءات الشنيعة في حق براءة الأطفال، فأولى لهم اهتماما كبيرا منذ كونهم أجنة في بطون أمهاتهم رعاهم مواليدا وأطفالا، فحدد حقوق الطفل على أسرته ومجتمعه حيث أكد على ضرورة إحاطته بكل ما يحتاجه من وسائل تكفل حسن نمو وسلامة دينه وجسمه ونفسيته.
ولنا في الآيات القرآنية العديدة التي دعت إلى حماية الطفولة وتكريمها خير مثال يوضح ذلك، حيث يقول عز وجل: "ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق نحن نرزقكم وإياهم، إن قتلهم كان خطئا كبيرا" . كما يقول عز وجل: "إذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسودا وهو كظيم يتوارى من القوم من سوء ما بشر به أيمسكه على هون أم يدسه في التراب ألا ساء ما يحكمون" ولنا أيضا خير مثال في السنة النبوية الطافحة بالمودة والنبل اتجاه الأطفال فعن عائشة رضي الله عنها قالت: جاء أعرابي إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فقال: إنكم تقبلون الصبيان وما نقبلهم، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: "أو أملك لك أن نزع الله الرحمة من قلبك" كما سئل النبي صلى الله عليه وسلم "أي أهل بيتك أحب إليك؟ قال صلى الله عليه وسلم: الحسن والحسين" .
وقد كان العنصر الأكثر أهمية وخصوصية في المعالجة الإسلامية لحقوق الإنسان عموما وحقوق الطفل على وجه الخصوص يتركز في القناعة بأنها مفروضة للأبد بإرادة الله وأنها لم تنتزع بنضال أو صراع قوي أو طبقات سياسية بل تقررت للإنسان بعينه في كل زمان ومكان وهي حقوق تحفظ إنسانية الفرد وتحترم ذاته وكيانه دون أن تتم التضحية بمصالح الجماعة .
وعلى هدي ما جاءت به الشريعة الإسلامية، وإيمانا من المجتمع الدولي بأهمية الطفل والطفولة كمرحلة أولى في حياة الإنسان فقد تعالت العديد من الأصوات داعية إلى الاهتمام بها، وقد تم ذلك خاصة خلال القرن العشرين الذي كان بحق قرن الطفل بكل ما في الكلمة من معنى وقد صدق تنبؤ الباحثين الذين تكهنوا بذلك في بداية القرن الماضي حيث تحقق للطفل من رعاية واهتمام ما لم ينله في العهود السابقة، فغدا الطفل حقا "مالئ الدنيا وشاغل الناس" إذ استقطب اهتمام العلوم القانونية والنفسية والتربوية والاجتماعية والطبية ...
فكان ذلك إيذانا بصدور العديد من المواثيق والعهود الدولية الداعية إلى الاهتمام بالطفل، وإذا ما أردنا أن نؤرخ لمرحلة الاهتمام بقضايا الطفولة ضمن قواعد القانون الدولي نقول بأن اهتمام المنتظم الدولي بحقوق الطفل كان قبل المناداة بإقرار حقوق الإنسان بصفة عامة.
فقد بدأ الاهتمام بالطفولة على المستوى الدولي في إطار عصبة الأمم بإصدار إعلان جنيف لحقوق الطفل سنة 1924 وإلى وقتنا الحاضر وبالضبط سنة 1989 تاريخ صدور الاتفاقية الأممية لحقوق الطفل التي تشكل حاليا منعطفا حاسما في تاريخ الاهتمام بالطفولة بحيث أصبح ينظر إلى حقوق الطفل على أساس أنها حقوق إنسانية وعالمية لا يمكن التغاضي عنها أو تأجيلها.
وقد لقيت هذه الاتفاقية ترحيبا كبيرا حيث صادقت عليها معظم بلدان العالم فكان بلدنا من البلدان السباقة للإنخراط في هذه المسيرة وهذا ما يؤكده خطاب الملك الراحل الحسن الثاني "وما تصديقه على اتفاقية الأمم المتحدة لحقوق الطفل في شهر يونيو 1993 بفيينا إلا دليلا على اهتمامنا وحرصنا على تطبيق مبادئها وتوصياتها".
ولقد بذل المغرب جهودا كبرى منذ توقيعه على الإتفاقية الأممية لحقوق الطفل من أجل النهوض بأوضاع الطفولة وتكريس حقوقها من خلال ملاءمة التشريعات الوطنية مع توصياتها وإنشاء مؤسسات خاصة بالأطفال مثل المرصد الوطني لحقوق
الطفل برلمان الطفل ، المجالس الجماعية للأطفال ...
وعلى الرغم من المجهودات الكبرى التي بذلها المغرب سواء على المستوى القانوني أو المؤسساتي من أجل حماية الطفولة فإن نسبة مهمة من الأطفال لا تزال تتعرض لكافة أشكال سوء المعاملة والممارسات المحطة بالكرامة الإنسانية من استغلال جنسي وعنف بدني ونفسي واختطاف واستغلال اقتصادي حتى في أبشع صوره... وهذا ما يؤكده خطاب الملك محمد السادس للمؤتمر الوطني لحقوق الطفل حيث قال "نؤكد أن فئات من أطفالنا ما زالت تعاني الاستغلال وسوء المعاملة والتعرض للانحراف وغياب الرعاية الأسرية".
وحقيقة إن الاعتراف الرسمي بوضعية الطفل ضحية سوء المعاملة دليل قوي على الرغبة في الإصلاح لمواجهة الظاهرة التي أصبحت تشكل وصمة العار الأكثر حساسية ومرارة في جبين المجتمع المغربي.
وتجدر الإشارة هنا إلى أن إساءة معاملة الأطفال ظاهرة لها ماض طويل ولكن تاريخ الاهتمام بها قصير جدا، حيث لم تحظ باهتمام كبير إلا في العقود الثلاثة الماضية ارتباطا بتنامي الاهتمام بحقوق الطفل باعتبار الطفولة أما المستقبل وصانعته فهي نصف الحاضر وكل المستقبل وأفضل رأسمال تراهن عليه البشرية في وقتنا الحاضر لخوض غمار التنمية الحقيقية.
ووعيا بخطورة الظاهرة وما تفرزه من انعكاسات خطيرة على الطفل الأسرة والمجتمع فقد دعت الأميرة للامريم رئيسة المرصد الوطني لحقوق الطفل خلال الدورة التاسعة للمؤتمر الوطني لحقوق الطفل كل المهتمين بقضايا الطفولة إلى الاهتمام بهذه الظاهرة حيث جاء في رسالتها "إن الدورة التاسعة للمؤتمر الوطني لحقوق الطفل التي تنعقد هذه السنة تحت شعار أمن وسلامة الأطفال والتي ستشارك فيها مختلف الأطر المعنية ستنكب بناء على نفس المنهجية التي اعتمدت في دراسة هذا الموضوع للتداول حول الأطفال ضحايا سوء المعاملة ومن بينها على الخصوص الاستغلال الجنسي الاستغلال الاقتصادي، إشكاليات ظواهر الأطفال المحتاجين إلى رعاية أسرية، الآثار السلبية للمخدرات على اليافعين أخطار هجرة الأطفال بجميع أشكالها، مخاطر داء فقدان المناعة المكتسبة على الطفولة وكذا وضعية الطفلة وحمايتها".
وإيمانا منا بالخطورة الكبيرة لسلوكيات إساءة معاملة الأطفال، فإن القول بمجرد الاكتفاء بدراسة الظاهرة لاستجلاء أسبابها وانعكاساتها على الطفل، الأسرة والمجتمع يعد أمرا غير مجد ما لم نتطرق لأوجه الحماية الجنائية التي أقرها المشرع للأطفال الضحايا.
فمن الثابت أن الاكتفاء بمجرد إقرار حقوق خاصة للطفل يعد بلا معنى ما لم تواكبها نصوص جنائية تعزز هذه الحماية وتؤكد تنفيذها، بحيث يصبح الجانب التشريعي محور المحاور جميعها وقطب الرحى بما يتضمنه من جزاءات من شأنها الردع والإيلام حال انتهاك حقوق الطفل أو تجاوزها أو المساس بها، لاسيما وأن الطفل ولأسباب بيولوجية ونفسية واجتماعية تتمثل في الضعف الجسماني وعدم النضج العقلي وقلة خبرته وإدراكه يكون أكثر احتمالية للوقوع ضحية لجرائم إساءة المعاملة .
ومن هنا تظهر أهمية دراسة موضوع الحماية الجنائية للطفل ضحية سوء المعاملة لكن قبل الحديث عن أهمية دراسة هذا الموضوع يجب أن نوضح مصطلحات الموضوع.
أولا: تعريف مصطلحات الموضوع:
إن تحديد نطاق البحث يتطلب تحديد المقصود بالكلمات التي يتكون منها عنوان البحث: الحماية الجنائية –الطفل- ضحية سوء المعاملة.
1- الحماية الجنائية:
حفلت الندوات والمؤتمرات وكذا وسائل الإعلام خلال العقود الأخيرة بالحديث عن حقوق الطفل وما يجب أن يتمتع به من عناية وحماية خاصة، وبما أن حقوق الطفل لا يكون لها أدنى أثر ما لم تحظ بحماية جنائية متميزة، فإنه من اللازم توضيح المقصود بالحماية الجنائية ويمكن القول في هذا الخصوص بأن الحماية الجنائية المقصودة في هذا البحث تنقسم إلى نوعين حماية موضوعية والثانية إجرائية.
فالحماية الموضوعية تستهدف تتبع الأنشطة ذات العلاقة بالمصلحة المراد حمايتها وذلك بجعل صفة الطفولة عنصرا تكوينيا في التجريم أو بجعلها ظرفا مشددا للعقاب .
فيما الحماية المسطرية أو الإجرائية تعني الضمانات الحمائية التي أقرها المشرع في قانون المسطرة الجنائية لإقرار حماية خاصة للطفل الضحية عند لجوئه إلى المؤسسة القضائية للدفاع عن حقوقه.
والحماية الجنائية (الموضوعية أو الإجرائية) قد تكون عامة يستفيد منها الشخص الراشد كما يستفيد منها الطفل، كما قد تكون خاصة وهذا هو المهم بالنسبة إلينا لإبراز مدى تمتع الطفل بحماية خاصة تميزه كطفل، حماية تمليها ظروفه الخاصة والمتمثلة في ضعف مداركه وعجزه عن الدفاع عن نفسه أو عرضه أو مواجهة أساليب الإغراء أو الإفساد التي يتعرض لها.
2- الطفـل:
إن تحديد المقصود بمصطلح "الطفل" وتحديد المرحلة الزمنية في عمر الكائن البشري المسماة بالطفولة يكتسي أهمية كبيرة تتجاوز مجرد المدلولات اللفظية أو المناقشات الفقهية، فالحقيقة إن تحديد المقصود بالطفل يرتبط بمجموعة متنوعة من الحقوق التي يتمتع بها من يصدق عليه هذا الوصف، وبمجموعة متنوعة من الالتزامات يتحملها والدي الطفل ومن يقوم على رعايته كذا سلطات الدولة المعنية .
وعليه، فالطفل لغة يعني الناعم الرخص من كل شيء ومن ثم فإن الطفل في الإنسان هو الصغير الذي لم يشتد عوده بعد، والطفولة هي مرحلة من عمر الإنسان ما بين ولادته إلى أن يصير بالغا متكاملا.
أما اصطلاحا، فالطفل ودون الخوض في تعداد التعاريف التي تختلف باختلاف الثقافات يمكن تعريفه من الوجهة الإسلامية بأنه إنسان لم يصل سن البلوغ، باعتبار أن هذا العنصر هو مناط التكليف في الشريعة الإسلامية إلى جانب العقل .
أما تعريف الطفل في الاتفاقيات الدولية، فإنه على الرغم من ورود مصطلح "الطفل" و"الطفولة" في العديد من الوثائق الدولية، واتفاقيات وإعلانات حقوق الإنسان، إلا أن معظم هذه الوثائق لم تحدد أو لم تحدد على وجه الدقة المقصود بهذين التعبيرين ولم تضع حدا أقصى لسن الطفل وتعد اتفاقية حقوق الطفل الوثيقة الدولية الأولى التي تعرف بشكل واضح وصريح المقصود بالطفل، فطبقا لنص المادة الأولى من الاتفاقية يقصد بمصطلح الطفل كل إنسان لم يتجاوز الثامنة عشرة، ما لم يبلغ سن الرشد قبل ذلك بموجب القانون المنطبق عليه" .
وارتباطا بموضوعنا فالقانون الجنائي يعرف التذبذب وعدم الانسجام بين نصوصه بخصوص تحديد السن (الطفولة) التي يقف عندها حد التمتع ببعض المقتضيات الخاصة بالطفولة، فتارة يحدد الحد الأقصى للطفولة عند بلوغ الشخص 16 سنة ، وتارة يرفع هذا الحد إلى حدود بلوغ سن 18 سنة كاملة . لهذا فإنه من الضروري الدعوة إلى توحيد سن الطفولة سواء داخل القانون الجنائي أو داخل المنظومة القانونية المغربية التي تعرف تباينا بهذا الخصوص، وذلك لتحقيق الإنسجام فيما بينها، ولتكون ملائمة لما جاءت به اتفاقية حقوق الطفل وهنا أقترح أن يتم الاتفاق على تمديد سن الطفولة في كل النصوص القانونية إلى حين بلوغ 18 سنة كاملة.
2-إساءة معاملة:
يعتبر مفهوم الإساءة للطفل من المفاهيم الحديثة نسبيا في الثقافة الغربية، فقد ولد هذا المفهوم في مطلع الستينات من القرن الماضي كنتيجة لأعمال طبيب العظام الأنجليزي "Kempe" وعلى الرغم من انتقال المفهوم إلى الثقافات الإنسانية عامة، وتطورت آليات جديدة لتعريف المفهوم والظواهر التي يعبر عنها وتطوير أدوات جديدة لقياس حجم وأشكال الإساءة للطفل في العديد من الثقافات الإنسانية عامة والثقافات الغربية خاصة، إلا أن الثقافة العربية لا تزال تقف على أعتاب هذا المفهوم تارة، وتتحفظ عليه تارة، وترفضه جملة وتفصيلا تارة أخرى .
ومن بين المفاهيم الكلاسيكية التي طرحت عن هذه الظاهرة ما قدمه كامب وآخرون سنة 1962 "من متلازمة الطفل المنسحق" وتصف هذه المتلازمة سوء معاملة الطفل على أنها إيقاع الأذى الخطير أو إصابات خطرة بالأطفال الصغار بواسطة الوالدين أو مقدمي الرعاية وغالبا ما ينتج عن الإصابات التي تشمل كسورا وتجمعات دموية بالدماغ وإصابات متعددة في الأنسجة الرخوة، عجز مستديم وحدوث وفاة".
ويطرح "فونتانا 1964 Fontana مفهوم سوء المعاملة في إطار متلازمة "إساءة المعاملة" ويرى بأن سوء معاملة الأطفال هي إحدى النهايات الطرفية لطائفة من إساءة المعاملة التي تتضمن أيضا الحرمان الانفعالي والإهمال وسوء التغذية ويوسع جيل (GIL 1974) مفهوم سوء معاملة الطفل ليشمل أي فعل يحرم الطفل من أن يحقق إمكاناته الجسمية والنفسية .
وبعد ذلك توالت مجموعة من التعاريف المختلفة باختلاف الجهة الصادرة عنها فقد اعتبر مجلس أوربا لعام 1978 سوء المعاملة تعبر عن الأفعال والانتهاكات التي تمس الطفل بشكل خطير وتضر بوحدته الجسمانية وتطوره الجسدي والعاطفي والفكري والمعنوي وتتمظهر في الجروح الجسدية والنفسية.
أما الجمعية الفرنسية للإعلام والبحث حول الطفل ضحية سوء المعاملة فقد عرفت سوء المعاملة بأنها استعمال للقوة البدنية أو امتناع عن إسعاف يمارس على الطفل من قبل والديه أو راشدين مكلفين به بقصد إلحاق الضرر به أو جرحه أو قتله .
والحقيقة، أن وضع تعريف شامل وموحد لظاهرة سوء معاملة الأطفال أمر في غاية الصعوبة لسببن على الأقل:
السبب الأول: يتمثل في تعدد أشكال الاعتداءات التي يمكن إدراجها ضمن الظاهرة وهي إما مادية أو معنوية:
- الاعتداءات المادية: الضرب، الجرح، التعريض للخطر، الاغتصاب، هتك العرض، الانتهاك الجنسي، استغلال القوة البدنية والعقلية...
- الاعتداءات المعنوية والنفسية: الإهمال، المقاطعة، التجاهل، الشتم التجريح...
السبب الثاني: يتمثل في كون "سوء" و"إساءة معاملة الأطفال" من المفاهيم غير المحددة نظريا وإجرائيا وترجع صعوبة تحديدها لإرتباطها بالسياق الاجتماعي والثقافي والزماني الخاص بسلوك التعدي، حيث إن سلوكيات سوء المعاملة مرتبطة بالعرف والقبول الاجتماعي وحدود مكانية وزمانية محددة وبالتالين فإن الإطار المرجعي للحكم على هذه السلوكيات متغير ومحكوم ثقافيا مما يجعله متباين اجتماعيا.
كما أن المفهوم ذاته يتضمن معان متعددة ومحكومة بإدراك الملاحظ وبنيّة الفاعل، وبالإطار المرجعي للفاعل والملاحظ، فما يرتكب من الأهل بقصد التربية يختلف عما يرتكب من الأهل لغايات مرضية أو إشباع حاجات جنسية منحرفة، وما يرتكب في ثقافة ما ويعد إساءة معاملة ليس بالضرورة أن يكون كذلك في ثقافة أخرى أو حتى داخل المجتمع الواحد .
والحقيقة أن تعدد مفاهيم إساءة معاملة الأطفال قد يخلق موقفا عمليا وعلميا قد لا يتضح معه نطاق الظاهرة وحدودها والمتغيرات العامة فيها، الأمر الذي قد يخلق بدوره صورة غامضة أو غير محددة المعالم لا تخضع لشروط التحكم في الظاهرة وقابليتها للمطاوعة والمعالجة، فوضوح المفهوم وتحديد المصطلح مسألة مهمة وملحة، لأنها تنطوي على تنظيمات عديدة في النواحي التشخيصية لتلك الحالات، واستراتيجيات وآلات التدخل الإرشادي والنفسي والعلاجي والغطاء التشريعي والقانوني لهذه الظاهرة .
وعلى الرغم من الصعوبات التي تثار بخصوص تعريف هذه الظاهرة، فإنني أتفق مع التعريف الذي خلص إليه المرصد الوطني لحقوق الطفل لتعني بذلك إساءة معاملة الأطفال: "التصرفات الإرادية أو غير الإرادية الصادرة عن أي شخص كيفما كانت صفته والتي تلحق بأية وسيلة كانت السلامة الجسمانية والعقلية والمعنوية للطفل وتحدث لديه ضررا ماديا أو معنويا أو نفسيا أحس به الطفل الضحية أو لم يحس به، وأيا كان المجال الذي يوجد فيه".
ثانيا: أهمية دراسة الموضوع ودواعي اختياره:
إزاء ما تقدم، وإزاء الرغبة في حماية الطفل ضحية إساءة المعاملة، كان لابد من البحث عن مدى إقرار المنظومة القانونية المغربية لحماية زجرية خاصة للطفل من شأنها أن تقوي مركزه داخل المجتمع لكونه ضعيف جسديا ولم يكتمل بعد نضجه العقلي ومن ثم يسهل على من يريد إساءة معاملته أن يرتكب جرائمه ضد الطفل دون أن يخشى فشله في ذلك، خاصة وأن أغلب حالات إساءة معاملة الأطفال تبقى في عداد "الرقم الأسود" بسبب طابعي السرية والكتمان الذين غالبا ما يكتنفانها باعتبارها من الطوبوهات الاجتماعية.
وتزداد الأهمية درجة في كون بحث هذا الموضوع سيمكن من التعريف بالظاهرة وتسليط الأضواء عليها للفت انتباه المسؤولين إلى خطورتـها ودرجة انتشارها، لبحث السبل اللازمة لضمان حماية جنائية من شأنها أن توفر للأطفال حياة آمنة ينعمون فيها برعاية صحية ونفسية واجتماعية، وأن تكفل لهم الأمن على حياتهم وسلامتهم البدنية، وتصون لهم أعراضهم وأخلاقهم.
وتبقى أكبر أهمية يكتسيها بحث هذا الموضع تتمثل في جمع مختلف النصوص القانونية الزجرية والعقابية التي تم إقرارها حماية للطفل من الاعتداءات والانتهاكات التي قد تطال حقوقه وكذا معرفة الأسس التي استند إليها المشرع المغربي لتقرير حماية جنائية خاصة بالطفل الضحية والعمل على تقييمها، إذ أن هذه الحماية تبقى في جانب كبير منها قابلة للجدل والنقاش، بالإضافة إلى محاولة تلمس إلى أي حد استطاع المشرع المغربي من خلال هذه المقتضيات تحقيق الحماية التي كان يتوخاها للطفل.
كما أن هذا البحث يمكن أن يكون مرجعية تسهل البحث لكل شخص يهتم بحق الطفل في الحماية بالإضافة إلى ذلك، فإنه سيساهم في ملئ الفراغ الحاصل في الخزانة القانونية المغربية بخصوص كتابات حول حماية الأطفال من ظاهرة إساءة المعاملة خاصة وأن الموضوع يتسم بالجدة ولم تتم إثارته في المغرب إلا في بضع سنوات خلت.
ثالثا: إشكالية الموضوع والخطة المتبعة لدراسته:
نظرا لأهمية الموضع وتشعب أفكاره وارتباط بعضها ببعض، فإن محاولة دراسته تطرح إشكالية رئيسية يمكن بلورتها على الشكل الآتي:
ما هي أوجه الحماية الزجرية التي تقرها المنظومة القانونية للأطفال ضحايا سوء المعاملة؟
وللإجابة عن إشكالية من هذا الحجم يستلزم طرح بعض التساؤلات الفرعية أذكرها كما يلي:
- ما هي أشكال إساءة معاملة الأطفال؟
- وما هي أسباب الظاهرة؟
- وإلى حد استطاعت النصوص القانونية أن تضمن حماية فعلية للأطفال من هذه الظاهرة؟
- وما هي التدابير المقررة لحماية الطفل الضحية؟
- وما هي الجهود المبذولة لمحاربة الظاهرة والحلول القمينة التي يمكن اقتراحها لمواجهتها.
إن هذه التساؤلات الفرعية تفضي بنا إلى استجلاء المحاور الأساسية للموضوع والتي سنتوسع من خلالها في بسط الموضوع وتعميق التحليل والنقاش:
القسم الأول: مظاهر الحماية الجنائية للطفل ضحية سوء المعاملة.
القسم الثاني: حماية جنائية ناقصة ودور القضاء في تجاوزها.
القسم الأول
مظاهر الحماية الجنائية للطفل
ضحية سوء المعاملة.
يعد الطفل برعم الحياة وغدا حقه في هذه الحياة حقا أساسيا تتفرع منه عدة حقوق تحميه وتحيطه بالأمان حتى يبلغ السن التي تجعله مؤهلا جسديا وعقليا ونفسيا لتولي أموره والتعرف على واجباته اتجاه مجتمعه واتجاه الآخرين.
ولم تكن حقوق الطفل في الحماية شيئا يذكر أو يشكل أهمية منذ نشأة الإنسان الأولى، إلا أن الحاجة إلى التطور وحماية الجنس البشري التي استشعرها الإنسان بدأت تنشئ حقوقا متفاوتة للطفل لا تشكل في حد ذاتها حماية حقيقية له واستمرت هذه الحقوق بالتطور والتنامي كلما تقدمت الحضارة وتقدم الفكر الإنساني، حتى بلغ ذروته في عصر النور الإسلامي الذي جسد أسمى صور الحماية لهذه الفئة الضعيفة الحساسة في المجتمع.
فتصاعدت الأصوات من مختلف أنحاء العالم تدعوا الدول إلى التدخل بشكل فاعل من خلال النصوص الجنائية لكفالة حق الطفل في الحماية من سوء المعاملة خاصة بعد إصدار المنتظم الدولي للعديد من المواثيق والإعلانات الدولية التي تعنى بحقوق الطفل ومن أهمها اتفاقية حقوق الطفل لسنة 1989 التي دعت الدول إلى الحفاظ على حياة الطفل ونموه وكذا الحفاظ على هويته وحقه في التربية والتعليم والصحة والراحة وأن يحظى بمستوى معيشي ملائم لنموه وكذا حمايته من أي استغلال ومن جميع أنواع العنف .
وباعتبار إساءة معاملة الطفل هي كل فعل أو امتناع عن فعل يعرض سلامة وصحة الطفل البدنية والعقلية والنفسية والإجتماعية للخطر، فإنها تنطوي على مساس خطير بالحقوق السالفة الذكر خاصة وأن الطفل يتميز بضعف قوته البدنية وضعف مقدوراته الذهنية، لذلك فقد كان لزاما أن يدعو المنتظم الدولي الدول المصادقة على الاتفاقية إلى تحصين الحقوق التي تم إقرارها لصالح الطفل بنصوص جنائية خاصة لحمايته من جرائم إساءة المعاملة.
ولما كان القانون الجنائي من الأدوات الأكثر توظيفا من طرف الدولة وذلك لحماية المراكز القانونية للأشخاص وحماية حقوق الإنسان من الاعتداءات المحتملة وإيمانا من المشرع المغربي بأهمية الزجر والعقاب في حماية الأطراف الضعيفة داخل المجتمع كالطفل مثلا، فقد تضمنت الترسانة القانونية المغربية مقتضيات زجرية هامة تجرم كل فعل أو امتناع قد يترتب عنه شكل من أشكال الإيذاء للطفل.
وتجدر الإشارة إلى أن المشرع المغربي قد خص الطفل بحماية متميزة في بعض التشريعات الأخرى كما هو حاصل في مدونة الشغل التي ذهبت إلى حد إقرار عقوبات حبسية حماية للطفل من الاستغلال الاقتصادي باعتباره أخطر أشكال سوء المعاملة وأكثرها شيوعا داخل المجتمع المغربي.
ومن هذا المنطلق إذن ومن خلال استقراء نصوص القانون الجنائي المغربي وكذا بعض النصوص الزجرية الواردة في إطار مدونات قانونية أخرى أو بصفة مستقلة تركز اهتمامنا في هذا القسم لإبراز مظاهر الحماية الجنائية للطفل ضحية سوء المعاملة وذلك من خلال التقسيم التالي:
الفصل الأول: الحماية الجنائية لحق الطفل في الحياة وسلامته البدنية والنفسية.
الفصل الثاني: الحماية الجنائية لأخلاق الطفل وصحته.
الفصل الأول
الحماية الجنائية لحق الطفل في الحياة
وسلامته البدنية والنفسية.
من المعلوم أن الطفل يتميز بضعف قدراته الجسمية والعقلية التي تجعله فريسة سهلة لمن يرغب في إساءة معاملته، على عكس الشخص البالغ الذي كثيرا ما تمكنه قدراته الجسمية من مقاومة الاعتداء وربما قد تمكنه قدراته العقلية من تفادي الوقوع فريسة للتغرير به من قبل الجاني، الأمر الذي يستوجب وجود رادع أكثر للجاني يجعله يتردد قبل إقدامه على جريمته ضد الطفل.
ومن هذا المنطلق ووعيا من المشرع المغربي بوضعية الطفل هذه، فقد أقر نصوصا زجرية لحماية حقه في الحياة والنماء منذ مراحل حياته الأولى إلى حين اكتمال نضجه البدني والعقلي وذلك ببلوغه سن 18 سنة (المبحث الأول) كما أقر نصوصا أخرى تهدف صيانة بدنه ونفسيته من أي اعتداء (المبحث الثاني).
المبحث الأول
الحماية الجنائية لحق الطفل في الحياة والنماء.
يعتبر الحق في الحياة ن بين الحقوق المقدسة والأصلية، فقد أقرته كل الشرائح السماوية باعتباره أساس وجود الإنسان، لذلك جرمت الشريعة الإسلامية أي اعتداء على حياة الإنسان مصداقا لقوله عز من قائل: "من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا" كما أكدت كل الأوفاق الدولية على هذا الحق، من خلال دعوة الدول إلى ضمان هذا الحق وتحصينه عن طريق تفعيل مقتضيات الترسانة القانونية الداخلية (المطلب الأول) وهو حق تتفرع عند كل الحقوق الأخرى من أجل ضمان نماء الطفل وحمايته من كل أشكال التعريض للخطر (المطلب الثاني).
المطلب الأول: حماية الطفل من القتل:
تنص المادة السادسة من اتفاقية حقوق الطفل على أن تقر جميع الدول الأطراف في الاتفاقية بأن لكل طفل حقا أصيلا ألا وهو حقه في الحياة، وينبغي على كل دولة اتخاذ كل ما في وسعها لحماية حياة الطفل.
وحق الطفل في الحياة لا يثبت له بمجرد ولادته حيا من بطن أمه فحسب (الفقرة الثانية) وإنما يثبت له منذ بداية الحمل (الفقرة الأولى).
الفقرة الأولى: الحماية الجنائية لحق الطفل في الحياة جنينا ووليدا:
تبدأ الحماية الجنائية لحق الطفل في الحياة قبل ولادته، أي منذ وجوده جنينا في بطن أمه (أولا) وتمتد هذه الحماية لتشمل باقي حياته وذلك ابتداء من المرحلة التي يعتبر فيها الطفل وليدا (ثانيا).
أولا: تجريم الإجهاض:
يمكن تعريف الإجهاض بأنه إسقاط الجنين قبل أوانه الطبيعي، أي إنهاء حياة إنسان ما زال لم تكتمل بعد خلقته بسبب وجوده في بطن أمه . وهو بذلك يعتبر اعتداء خطيرا على حياة إنسان لازال في طور التخلق، ونظرا لما لهذه الجريمة من خطورة –لمساسها بالحق في الحياة- فقد أجمعت كل الشرائع السماوية والقوانين الوضعية على تجريمها.
ولذلك عاقب الفصل (445 ق.ج) بشدة مقترف هذه الجريمة أكان ذلك برضى المرأة أو بدونه، ولا تهم الوسيلة المستعملة في ذلك، كالعنف، أو أي شكل من أشكال التحايل أو مواد طبية، أو أية وسيلة أخرى يعتقد الفاعل أنها ستحقق النتيجة، كل ما يهم هو اتجاه إرادة الجاني إلى تحقيق النية الإجرامية ، سواء حصلت النتيجة الإجرامية وهي الإجهاض الفعلي أو لم تحصل لأن العقاب سيطال الجاني سواء تم إسقاط الجنين أو وقف عند حد الجريمة الموقوفة، الخائبة أو المستحيلة، سواء كانت الاستحالة بالنسبة لمحل الجريمة، وذلك عند انعدام وجود حمل مثلا، أو بالنسبة للمواد والأدوات المستخدمة لارتكاب هذه الجريمة حيث عاقب الفصل (455 ق.ج) على هذه الجريمة حتى ولو كانت الأدوية أو المواد أو الأجهزة أو الأشياء المقترحة كوسائل فعالة للإجهاض غير قادرة عمليا على تحقيقه.
ولتعزيز حماية حق الجنين في الحياة، فقد عاقب المشرع الجنائي المغربي التحريض على الإجهاض بأية وسيلة من الوسائل المشار إليها في الفصل (455 ق.ج).
ولدعم هذه الحماية، فقد نصت المادتان (456 و457 ق.ج) على تطبيق الحرمان بقوة القانون من أية وظيفة في مصحة أو مؤسسة تستقبل الحوامل على كل من صدر عليه الحكم بالإدانة بإحدى جرائم الإجهاض، سواء صدر الحكم داخل المغرب أو خارجه وتعاقب المادة 458 المخالف للمنع المفروض بالفصلين (456 و457 ق.ج) .
وتجدر الإشارة بخصوص جريمة الإجهاض، إلى أن المشرع قد خرج على القواعد العامة فيما يتعلق بقواعد الاشتراك المنصوص عليها في الفصل 129، حيث عاقب المشارك حتى ولم تتم جريمة الفاعل الأصلي.
لكن بالرجوع إلى الفصل (454 ق.ج) نجده ينص على تمتيع الأم التي أجهضت نفسها عمدا أو حاولت ذلك أو قبلت أن يجهضها غيرها أو رضيت باستعمال ما رشدت إليه، أو ما أعطي لها لهذا الغرض بعذر مخفف للعقوبة.
وما تمتيع المشرع المغربي المرأة بهذا العذر المخفف للعقوبة، إلا دليلا على مراعاة الأسباب والضغوطات النفسية التي قد تعتري المرأة وتدفعها إلى اقتراف هذه الجريمة ضد جنينها وضد نفسها، كدفع العار عنها إذا كان الحمل من سفاح، أو بدافع الشفقة إذا كان الجنين مشوه الخلقة...
إلا أنه في نظري يجب إلغاء هذا العذر المخفف للعقوبة، لأنه مهما كان المبرر الذي دفع المرأة لارتكاب الإجهاض، فإنه لن يصل إلى جسامة وخطورة الجرم المرتكب في حق الحياة البشرية، لأن مجرد وجـود الجنين في بطـن أمه يكون قد نال حرمة يعتبر قتله، قتلا للنفس البشرية ويدخل في حكم الآية الكريمة "من قتل نفسا بغير حق أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا" .
وما دام الجنين مرتبطا بأمه، فإنه قد تترتب عن إجهاضه آثار وانعكاسات خطيرة على صحة الأم والتي قد تؤدي إلى وفاتها، لذلك نجد الفصل (449 ق.ج) يشدد العقوبة في حالة الوفاة من عشر سنوات إلى عشرين سنة.
غير أنه إذا كان المبدأ هو العقاب على الإجهاض أو حتى مجرد التحريض عليه، فإن المشرع أباحه استثناء إذا استوجبته ضرورة المحافظة على صحة الأم، متى قام به علانية طبيب أو جراح بإذن من الزوج، ولا يطالب بهذا الإذن إذا ارتأى الطبيب أن حياة الأم في خطر، لكن بعد إشعار الطبيب الرئيسي للعمالة أو الإقليم الفصـل (453 ق.ج).
وعموما بعد قراءة مختلف النصوص المجرمة للإجهاض، فإننا نجدها متعددة وتشدد في العقاب، إلا أن السؤال الذي يمكن طرحه هنا هو هل يمكن لهذه المقتضيات الزجرية أن تضمن حماية واقعية وحقيقية لحق الجنين في الحياة؟
الجواب هو النفي طبعا، ما دامت جرائم الإجهاض تمارس في المغرب بشكل مخيف للغاية والأغلب الأعم منها يبقى في عداد الرقم الأسود ، خاصة وأن جرائم الإجهاض تمارس أحيانا بمباركة من ألفاظ النص القانوني المرنة (الفصل 453)، حيث غالبا ما يبرر الطبيب طلب الحصول على رخصة إجراء عمليات الإجهاض (بضرورة المحافظة على صحة الأم) وهل يتأكد الطبيب الرئيسي للعمالة أو الإقليم من التبريرات التي عللت بها طلبات الإجهاض وذلك عن طريق إجراء فحوصات مضادة؟ كما أن إعمال العبارة المرنة الموجودة في النص تسهل على الأقل إفلات الجاني من العقاب.
وما يشجع الأطباء وغيرهم على ارتكاب جرائم الإجهاض هو الأرباح الطائلة التي تجنى من وراء هذه العمليات، خاصة في حالة الحمل من سفاح، حيث تكون الرغبة جامعة للتخلص منه، مهما كانت التكلفة وذلك اتقاء للعار والفضيحة.
لذلك يتعين على السلطات العمومية أن تفرض رقابة شديدة على المصحات والأماكن التي يفترض أن يجرى فيها الإجهاض، وأيضا تتبع حالات النساء الحوامل خاصة عند اقتراب موعد الولادة لحماية الطفل الوليد من القتل خاصة حالة الحمل من زنا.
ثانيا: جريمة قتل الأم لوليدها:
لقد كفل المشرع الجنائي المغربي حق الإنسان في الحياة، حيث عاقب بشدة على جريمة القتل العمد في صورتها البسيطة بالسجن المؤبد أو بالإعدام في حالة اقترانها بظرف من ظروف التشديد.
إلا أن المشرع أخذ بعين الاعتبار بعض الظروف التي قد تدفع الشخص لارتكاب جريمة القتل وذلك تحت تأثير قوى معينة مما يستدعي النظر إلى مسؤوليته بعين التخفيف في العقاب.
وأمام الاختلاف البين في حالات جرائم القتل، لم يجد المشرع الجنائي المغربي بدا من تنويع الجزاءات المستحقة وفق ما يقتضيه مبدأ تفريد العقاب . كما هو الشأن في حالة قتل الأم لطفلها الوليد التي تعتبر من الحوادث الناذرة، ذلك أن عاطفة الأمومة تطغى على النساء بصفة عامة فمن الناذر أن تتجرأ أم على قتل وليدها، إلا إذا قام لديها سبب أدى بها إلى الإقدام على قتل وليدها .
ومن بين الأسباب التي قد تدفع المرأة إلى قتل وليدها، الضغوط النفسية والاجتماعية والنظرة السيئة للمرأة التي تحمل سفاحا، وما يلحق بها من عار بعد اتضاح ثمرة سفاحها أو بدافع الشفقة والرحمة إذا كان الوليد مشوه الخلقة أو لرغبة الأم في قطع علاقتها نهائيا بزوجها الذي طلقها مثلا .
وعلى كل حال، فقد ارتأى المشرع الجنائي المغربي تخفيف عقوبة الأم التي تقتل وليدها سواء كانت فاعلة أصلية أو مشاركة إذ تعاقب بالسجن من خمس إلى عشر سنوات (الفصل 397 ق.ج).
كما ذهبت بعض التشريعات المقارنة إلى الأخذ بهذا العذر فخففت عقوبة الأم التي تقتل وليدها، كما هو الشأن بالنسبة للفصل 551 من قانون العقوبات اللبناني وقانون الجزاء الكويتي (م159) وقانون العقوبات العراقي (م407) وجانب من الدول الغربية كقانون العقوبات الإيطالي.
غير أن السؤال المطروح في هذا الإطار هو هل تستفيد الأم التي تقتل وليدها لوحدها من هذا العذر؟ وهل تستفيد منه في حالة قتل الوليد غير الشرعي أم حتى في حالة قتل الوليد الشرعي؟
بالنسبة للإجابة عن السؤال الأول، فإن المشرع الجنائي المغربي نص صراحة من خلال (الفصل 397 ق.ج) على استفادة الأم القاتلة لوحدها من هذا العذر المخفف للعقوبة دون استفادة مشاركيها أو المساهمين معها في القتل، وذلك خلافا لقانون العقوبات الإيطالي الذي لم يشترط استفادة الأم لوحدها من هذا العذر، بل أي شخص يريد من ارتكابه لهذه الجريمة إنقاذ شرفه أو شرف شخص آخر تربطه به صلة مباشرة، كالزوج والأب والأم والأخ والعم والخال أو العمة أو الخالة أو أي شخص آخر تربطه بالأسرة قرابة مباشرة .
وعلى خلاف معظم التشريعات، فإن قانون العقوبات المصري لم ينص على حكم خاص لقتل الطفل حديث الولادة، سواء كان من الأم أيا كان غرضها من القتل أو سواء كان من الأب أو ذوي الأم ولو كان اتقاء للعار .
أما بالنسبة للسؤال الثاني، فإنه وإن كان من غير المألوف أن تقدم الأم على قتل وليدها الشرعي، فإن هذا لا يعني انعدام إمكانية افتراق هذه الجريمة كما هو حال الأم التي تقتل وليدها المشوه الخلقة، غير أن المشرع الجنائي المغربي لم يميز بين الوليد الشرعي وغير الشرعي، فقد جاء النص عاما ومن ثم فالأم تستفيد من عذر التخفيف سواء كان الوليد شرعيا أو غير شرعي.
وبذلك يكون المشرع الجنائي المغربي قد ساير التشريع الجنائي الفرنسي الذي يقرر هذا العذر سواء كان قتل الأم لوليدها اتقاء للعار أو غيره ومهما كانت البواعث دنيئة ، على خلاف بعض التشريعات العربية التي تمتع الأم بهذا العذر متى كان القتل اتقاء للعار فقط كما هو الشأن بالنسبة لقانون العقوبات السوري الكويتي واللبناني.
وأخيرا نخلص إلى أن حماية الوليد من القتل في القانون الجنائي المغربي تبقى قاصرة لكون المشرع أخذ بالباعث كعذر قانوني مهما كانت نية المجرم دنيئة، كما أنه لم يحدد، ما هو الوليد، أي مرحلة ابتداء الوليد ومرحلة انتهائه. وإذا ثبت هذا أتساءل عن حق الطفل في الحماية من جرائم القتل في باقي مراحل حياته؟
الفقرة الثانية: قتل الطفل خلال باقي مراحل حياته:
أقصد بالقتل العادي للطفل كل أشكال القتل التي قد يتعرض لها الطفل باستثناء حالة قتل الأم لوليدها . وتناول هذه الأشكال من القتل العمد للأطفال يقتضي التعرف على موقف المشرع الجنائي المغربي من مرتكب هذه الجريمة بيان ما إذا كانت الحماية الجنائية الموضوعية التي يقرها تجعل من صفة الطفل ظرفا مشددا للعقاب؟ أم عنصرا تكوينيا للتجريم؟ وذلك من أجل ضمان حماية خاصة للطفل من الوقوع فريسة سهلة لهذه الجرائم نظرا لضعف قدرته الجسمية وعدم نضجه العقلي.
بالرجوع إلى القانون الجنائي المغربي، نجده لم يعرف القتل، بل اكتفى فقط بالإشارة إليه من خلال (الفصل 392 ق.ج) قائلا كل من تسبب عمدا في قتل غير يعد قاتلا "لذلك تدخل فقهاء القانون الجنائي من اجل وضع تعريف له، إذ عرفه البعض بأنه إزهاق روح إنسان بدون وجه حق ظلما وعدوانا أو أنه كل فعل أو امتناع مجرم صادر عن إنسان لإزالة حياة إنسان آخر خلافا للقانون .
ولا جدال في خطورة جريمة القتل وتهديدها للكيان الفردي والاجتماعي معا ولذلك كانت عقوبتها صارمة على مر العصور في الشرائع السماوية والوضعية على السواء . وقد نظر لها المشرع الجنائي المغربي، بدوره نظرة، خطورة على استقرار الفرد وأمنه فعاقب عليها بعقوبة السجن المؤبد أو بالإعدام في حالة اقترانها بظرف من ظروف التشديد (ف 392 ق ج).
وبذلك يكون الفصل (ف 392 ق.ج) لم يُميز بين ما إذا كان القتل واقعا على طفل أو على شخص راشد. لكن الوقوف على مقتضيات هذا الفصل لوحده يعد غير كاف من اجل التعرف على موقف المشرع الجنائي المغربي من الأخذ بصفة الطفل كظرف مشدد للعقاب أو عنصر تكويني في جريمة القتل، لذلك يلزم طرق أبواب باقي فصول القانون الجنائي لمعرفة ذلك.
وعليه بالإستناد إلى الفصل 410 نجده يقرر أشد العقوبات (الإعدام) في حالة موت الطفل الناتج عن ارتكاب العنف ضده أو إيذائه أو حرمانه من التغذية أو العناية هذا الحكم كما يسري على أصول الطفل أو من له سلطة عليه أو المكلف برعايته،
فإنه يسري أيضا على باقي الأشخاص .
من خلال مقتضيات هذا الفصل إذن، يتبين لنا أن المشرع الجنائي المغربي اعتبر صفة الطفل المجني عليه كظرف مشدد للعقوبة، وهذا ما تعززه أيضا مقتضيات (الفصل 463 ق.ج) التي تنص على انه إذا نتج عن التعريض للخطر أو الترك موت الطفل وكانت لدى الجاني نية إحداثه فإنه يعاقب بالعقوبات المقررة في الفصول 392 إلى 397 ق.ج .
ولاشك أن وضع المشرع الجنائي المغربي للفصلين 410 و463 لم يكن من أجل مجاراة التشريع والاجتهاد المقارنين كما يقول البعض ، وإنما بهدف إقرار حماية خاصة للطفل نظرا لضعف قدراته الجسمية والعقلية، لأنه قد يقع فريسة سهلة لمن يرغب قي قتله عكس الشخص البالغ الذي قد تمكنه قدراته الجسمانية من مقاومة الاعتداء وربما قد تمكنه قدراته العقلية من عدم الوقوع فريسة التغريد به من قبل الجاني، الأمر الذي يستوجب وجود رادع أكثر للجاني يجعله يتردد قبل إقدامه على جريمته ضد الطفل، فإذا كانت القدرات الجسمانية والعقلية للراشد تحول كثيرا دون الإقدام على ارتكاب جريمة القتل ضده، فإن تشديد العقاب على قتل الصغير من شأنه أن يحقق نفس الردع.
وهذا ما أخذت به بعض التشريعات المقارنة –بل ذهبت أبعد من ذلك- كالتشريع الإيطالي الذي جعل من قتل الطفل عمدا ظرفا مشددا للعقاب، إذ عاقب على جريمة القتل العادي بالأشغال الشاقة المؤقتة، بينما عاقب على جريمة قتل الطفل عمدا بالأشغال الشاقة المؤبدة وأيضا التشريع السوري الذي جعل بدوره من صفة الطفل ظرفا مشددا للعقاب، إذ عاقب القاتل بالأشغال الشاقة المؤقتة لكن إذا كان الضحية طفلا لم يبلغ سن 15 وقت وقوع الاعتداء عليه، فإن الجاني يعاقب بالأشغال الشاقة المؤبدة وتشدد العقوبة إذا كان القاتل أبا أو جدا للطفل الضحية، إذ يعاقب في هذه الحالة بالإعدام.
وختاما، على الرغم من كون المشرع الجنائي المغربي أولى عناية خاصة لحق الطفل في الحياة، باعتباره حقا أصيلا ومقدسا ليس للطفل فحسب، وإنما للإنسان عموما، فإنه لم يأخذ بعين الاعتبار بعض خصوصيات الطفل التي كان ينبغي أن تأخذ في الحسبان، كما هو الشأن بالنسبة لتمديد حق الطفل في الحماية الخاصة من الجرائم المنصوص عليها في المواد السالفة الذكر حتى سن الثامنة عشر بدل تحديده في 15 سنة (ف 408) التي يحيل عليها الفصل (411 ق.ج) وذلك بهدف تمديد مجال حمايته. لأنه على الرغم من بلوغ الطفل 15 سنة فما فوق، فإنه لا يقدر الدفاع عن نفسه لأن عوده لم يشتد بعد، كما أن تصرفاته في هذه المرحلة العمرية (المراهقة) تطغى عليها الرعونة وعدم الإتزان مما قد يجعل منه ضحية سهلة المنال لمن يرغب في قتله.
وما مطالبتنا برفع سن الطفل الضحية في هذه الجرائم إلى سن الثامنة عشرة ليس من أجل مجاراة الاتفاقيات الدولية التي صادق عليها المغرب (خاصة اتفاقية حقوق الطفل لسنة 1989) فحسب، وإنما أيضا من اجل تحقيق الانسجام بين مواد القانون الجنائي خاصة وأن هذا التمييز في تحديد السن ليس له أي مبرر إذا أخذنا بعين الاعتبار خطورة الجرائم المنصوص عليها في (الفصول 411 و463 ق.ج) والتي قد تعصف بحق الطفل في الحياة.
المطلب الثاني: الحماية الجنائية للطفل المعرض للخطر:
يعيش الطفل عالة على غيره، وحملا على حاضنه ويرجع ذلك إلى ضعفه وعدم قدرته على التعبير عما قد يؤذيه أو يقلق راحته، فكان لزاما على المشرع أن يتدخل ليوفر الحماية القانونية الواجبة للطفل الذي يكون في أمس الحاجة إلى بيئة ملائمة تساعده على النمو السليم.
وبما أن الطفل في غاية من الضعف، خاصة خلال مراحل حياته الأولى، فإن أبسط الاعتداءات أو المخاطر من شأنها أن تؤدي إلى تعريض حياته للخطر، لذلك تدخل المشرع الجنائي المغربي فجرم العديد من الأفعال كاختطاف الأطفال (الفقرة الأولى) أو جرائم إهمال الأسرة (الفقرة الثانية) لما قد يترتب عنها من تعريض لحياة الطفل للخطر، ولما تنطوي عليه من إساءة معاملة خطرة للطفل.
الفقرة الأولى: حماية الطفل من الاختطاف:
الاختطاف هو الاستيلاء على الشخص دون رضاه، وهو بذلك يعتبر بين أخطر أشكال الاعتداءات التي يمكن أن يتعرض لها الإنسان، لمساسه بالحرية الشخصية، مع ما قد يترتب عن ذلك من أخطار قد تصل إلى حد قتل المخطوف، خاصة كلما كان المخطوف قاصرا وذلك بسبب ضعف قدرته الجسمية والعقلية حيث يمكن أن يقع بسهولة ضحية الاختطاف.
ونظرا لخطورة جرائم الاختطاف على القاصرين، فقد تعامل معها المشرع الجنائي المغربي بنوع من التشدد في التجريم والعقاب، حيث ينص (الفصل 471) على معاقبة الخاطف بالسجن من خمس إلى عشر سنوات، إذا استعمل العنف أو التهديد أو التدليس لاختطاف قاصر دون الثامنة عشر عاما أو لاستدراجه أو إغرائه أو نقله من الأماكن التي وضعه فيها من له سلطة أو إشراف عليه، سواء فعل ذلك بنفسه أو بواسطة غيره.
وما يلاحظ بهذا الخصوص أن المشرع المغربي لم يميز بين اختطاف الطفل حديث الولادة والطفل غير حديث الولادة كما فعلت بعض التشريعات المقارنة كالمشرع الكويتي الذي قسم خطف الأطفال إلى نوعين متغايرين ، فجعل نصا قانونيا يحكم واقعه خطف الأطفال حديثي العهد بالوردة كما أقر نصوصا أخرى تحكم خطف الأطفال القصر وأيضا المشرع المصري الذي نهج بدوره نفس التفرقة.
ولتجاوز هذا الأمر عمل المشرع الجنائي المغربي على التنصيص في الفصل 472 على رفع عقوبة جريمة اختطاف القاصر الذي لا تتجاوز سنة اثني عشر عاما، من عشر إلى عشرين سنة سجنا. إلا أنه خفض هذه العقوبة فجعلها متراوحة بين خمس إلى عشر سنوات، إذا ما عثر على القاصر حيا قبل صدور الحكم بمؤاخذة الجاني.
وما أخذ المشرع الجنائي المغربي بهذا التخفيف في العقوبة إلا مراعاة منه لمصلحة الطفل، وذلك من أجل تشجيع الجاني على العدول عن فكرة القتل إذا كان قد اختطفه لهذا الغرض.
ولسد الباب أما بعض الجناة الذين قد تدفعهم حاجتهم المادية إلى خطف أطفال قاصرين من أجل مطالبة آبائهم أوكل من له سلطة أو إشراف عليهم بفدية مالية مقابل إطلاق سراحهم، فقد عمل المشرع الجنائي المغربي على رفع العقوبة في مثل هذه الحالات إلى السجن المؤبد أو الإعدام في حالة ما إذا تبع الاختطاف مـوت القاصـر (ف 474 ق.ج).
غير أن عقوبة الجاني تخفف إذا اختطف أو غرر بقاصر تقل سنه عن ثمان عشرة سنة بدون استعمال عنف أو تهديد أو تدليس، إذ يعاقب في هذه الحالة بالحبس من سنة إلى خمس سنوات، وغرامة من مائتين إلى خمسمائة درهم.
أما إذا تزوج الجاني القاصرة البالغة التي اختطفها أو غرر بها، فإن النيابة العامة لا يمكنها أن تحرك المتابعة في هذه الحالة إلا بناء على شكوى من الشخص الذي له الحق قانونا في إبطال الزواج ولا يجوز الحكم بمؤاخذته إلا بعد صدور الحكم بهذا البطلان فعلا.
وبإعمال هذا الفصل يكون المشرع الجنائي المغربي قد انتزع ما وفره من ضمانات لحماية القاصر من الاختطاف، لان الأخذ بمثل هذا الحكم سيفتح أمام الجاني بابا واسعا للتهرب من العقاب خاصة إذا علمنا أن أغلب الأطفال ضحايا الاختطاف هم إناث.
إذ يمكن للجاني أن يتزوج المختطفة ومن ثم سيضع وليها أو من له سلطة عليها أمام أمر الواقع، ولا يمكنه في مثل هذه الحالة إلا أن يبارك هذا الزواج، خاصة إذا كان الجاني قد افتض المختطفة، نظرا لما تمثله العذرية من أهمية بالنسبة للفتاة والأسرة معا في المجتمع.
وحتى على فرض تفضيل مصلحة القاصرة المختطفة في مثل هذه الحالة بإعطاء وليها أو من له سلطة عليها بإمكانية إقرار زواجها من الخاطف، فليس كل قاصرة (بالغة) قادرة على الزواج لأن الفتاة قد تبلغ بمجرد بلوغها الثانية عشر من عمرها.
وحتى على فرض أنها بالغة وأن سنها يفوق 16 سنة، فمن سيسمح لها بالزواج في مثل هذه الحالة ونحن نعلم أن المادة 20 من مدونة الأسرة لا تسمح بزواج القاصر إلا بعد الحصول على إذن قضائي من القاضي المكلف بالأسرة، أم أن المشرع قصد بهذا الزواج ذلك الذي يتم في الواقع، أي دون توثيق؟
لهذه الأسباب أقترح إلغاء هذه الفقرة (الفقرة الثانية من الفصل 475 ق.ج) لأنها تضعف حق القاصرة في الحماية من جرائم الاختطاف، لكونها تشكل ثغرة كبيرة قد يستغلها ذووا النفوس الخسيسة للتهرب من العقاب، لأنه حتى ولو كان هذا الزواج سيساهم في تخفيف جزء غير يسير من الأضرار النفسية والمعنوية التي قد تصيب المختطفة، إلا أن هذا الزواج في الأغلب الأعم سيكون مصيره الفشل لأن الخاطف لم يتزوج المخطوفة عن قناعة وإنما لينجو بجلدته من العقاب، ثم بعد ذلك سيبادر إلى تطليقها لتجد الفتاة نفسها تعيش ويلات جريمة إختطافها من جديد.
وهنا لابد أن أضيف بأنه كان على المشرع المغربي أن يحدو حدو بعض التشريعات المقارنة التي تقيم تمييزا في العقاب بين الحالة التي يقع فيها الاختطاف على أنثى وتلك التي يكون ضحيتها ذكرا . كما هو الشأن بالنسبة لقانون العقوبات المصري الذي ينص في مادته 289 على أن "كل من خطف من غير تحايل ولا إكراه طفلا لم يبلغ سنه ست عشرة سنة كاملة بنفسه أو بواسطة غيره، يعاقب بالسجن من ثلاث سنين إلى سبعة، أما إذا كان المخطوف أنثى، فتكون العقوبة الأشغال الشاقة المؤقتة أو السجن من ثلاث إلى عشر سنوات".
ومن بين المآخذ على المشرع المغربي في هذا الإطار، هي أنه لم يتطرق إلى بعض الآثار التي قد تترتب عن الاختطاف، كالاغتصاب أو هتك العرض أو تسخير المخطوف للأعمال الإباحية أو الاتجار فيه...
وبناء على ذلك فإنه لابد من الإشادة بموقف المشرع المصري الذي نص صراحة على تشديد عقوبة الخاطف إذا اغتصب المخطوفة لتصل إلى حد الإعدام وهي عقوبة من شأنها أن تحقق ردعا وعبرة في نفوس الجناة (المادة 290 ق.ع) الذين سولت لهم أنفسهم ارتكاب هاتين الجريمتين الجسيمتين معا.
وإذا كانت جريمة الاختطاف، أو التغرير بالطفل عادة ترتكب من قبل الغرباء عن الطفل فإنها أحيانا قد ترتكب من قبل والديه أنفسهم . ولأجل ضمان حماية الطفل في مثل هذه الحالة فقد نص الفصل 477 ق.ج على أنه "إذا صدر حكم قضائي بالحضانة وكان نهائيا أو نافذا بصفة مؤقتة، فإن الأب أو الأم أو أي شخص يمتنع عن تقديم القاصر إلى من له الحق في المطالبة به وكذلك إذا اختطفه أو غرر به، ولو دون تدليس أو عنف أو حمل غيره على التغرير به أو اختطافه ممن عهد إليه بحضانته أو من المكان الذي وضعه فيه، فإنه يعاقب بالحبس من شهر إلى سنة وغرامة من مائتين إلى ألف درهم".
غير أن هذه العقوبة يمكن أن ترفع إلى ثلاث سنوات إذا كان مرتكب هذه الجريمة قد حرم من الولاية الأبوية على القاصـر، ولتعـزيز هذه الحماية، فإن المادة (478 ق.ج) تعاقب كل من تعمد إخفاء قاصر مخطوف أو مهرب أو مغرر به أو هارب من سلطة من لهم الولاية القانونية عليه، وكذلك من تعمد تهريبه من البحث عنه بالحبس من سنة إلى خمس سنوات وغرامة من مائتين إلى خمسمائة درهم أو بإحدى هاتين العقوبتين فقط.
الفقرة الثانية: الحماية الجنائية للطفل المتخلى عنه والطفل المهمل:
يعتبر الطفل في أمس الحاجة إلى الحماية من بعض الجرائم الخطيرة التي عادة ما يرتكبها أهله أو من عهد إليهم بحمايته، من قبيل جرائم الترك والتخلي (الفقرة الأولى) وأيضا جرائم إهمال الأسرة (الفقرة الثانية) لما يؤديان إليه من تعريض لحياة الطفل للخطر.
أولا: حماية الطفل المتخلى عنه:
لعل من بين مظاهر الاختلالات المجتمعية الأكثر حساسية ومرارة "ظاهرة الأطفال المتخلى عنهم"، ظاهرة تكاد تلازم كل مجتمع وتختلف دائرة حجمها باختلاف صرامة الجهاز القيمي داخل كل مجتمع... وكذا باختلاف الظروف الاقتصادية والاجتماعية وخصوصا منها الطابع السوسيوثقافي والقانوني .
وهي ظاهرة تشكل خطرا بليغا على الطفل بحكم تكوينه العضوي والذهني، لأنه لا يملك في السنوات الأولى من عمره القدرة على حماية نفسه من الخطر، كما لا يملك القدرة على إدراك ما يحيق به من المخاطر التي قد يتعرض لها.
وبما أن الطفل غير قادر على العيش لوحده، وإنما يعيش عالة على غيره وفي كنفه حتى ولو كان له مال يتعيش منه، فهو دائما في حاجة إلى من يوليه الرعاية التي تتطلب من الولي أو ممن كلف برعايته لهذه الاعتبارات أحاط المشرع الجنائي المغربي الطفل بحماية خاصة من جرائم ترك الأطفال أو تعريضهم للخطر .
وعلى هذا الأساس ينص الفصل (459 ق.ج) على أن "كل من عرض أو ترك طفلا دون سن الخامسة عشرة أو عاجزا لا يستطيع أن يحمي نفسه بنفسه بسبب حالته الجسمية أو العقلية في مكان خال من الناس أو حمل غيره على ذلك يعاقب لمجرد هذا الفعل بالحبس من سنة إلى ثلاث سنوات"، وترفع هذه العقوبة من سنتين إلى خمس إذا نشأ عن التعريض للخطر أو عن الترك مرض أو عجز لمدة تزيد عن عشرين يوما، كما تشدد العقوبة في حال تعرض الطفل لعاهة مستديمة لتصبح هي السجن من خمس إلى عشر سنوات. ولتوسيع جانب الحماية فإنه يمكن أن يعاقب المجرم في الحالة التي تطبق فيها عليه عقوبة جنحية فقط بالحرمان من واحد أو أكثر من الحقوق المنصوص عليها في الفصل (40 ق.ج) وبالمنع من الإقامة من خمس إلى عشر سنوات (الفصل 467-1).
ولمزيد من الضمانات الحمائية جعل (الفصل 462 ق.ج) من صفة الجاني ظرفا مشددا للعقوبة، وذلك لما تنطوي عليه صفة أصول الطفل أو من هم مكلفون بحفظه ورعايته قانونا أو اتفاقا أو عرفا من خطورة على الطفل المجني عليه بدلا من كونها محلا لثقة الطفل واطمئنانه.
وقد أقام المشرع الجنائي المغربي تمييزا في العقوبة، بين جريمة التخلي التي ترتكب في مكان غير خال من الناس وتلك التي ترتكب في مكان خال من الناس، باعتبار أن هذا الأخير يشكل خطرا كبيرا على الطفل.
وتجدر الإشارة هنا إلى أنه ليس المقصود من توظيف المشرع لعبارة مكان خال من الناس أن يكون المحل خاليا من الناس في جميع الأوقات كمنطقة نائية مهجورة مثلا، إنما المراد أن يكون المحل المذكور خاليا من الناس وقت التخلي عن الطفل . لكن هل يمكن اعتبار ترك الأم لطفلها وحيدا في منزلها مكانا خاليا من الناس؟ لقد أجاب المجلس الأعلى على هذا السؤال في القرار الصادر في 16 من شتنبر 1999 حيث جاء في حيثياته بأن "إهمال الأم لرضيعها وتركه وحيدا في منزلها دون تعهد بالتغذية والرعاية في الأوقات المناسبة مما نتج عنه هزاله ووفاته لا ينطبق عليه الوصف القانوني الوارد في الفصلين 461 و462 من القانون الجنائي والذي يتضمن تعريض الطفل العاجز للخطر وتركه في مكان خال من الناس دون نية الرجوع إليه أو بقائه تحت عهده أو مسؤولية مرتكب الفعل" .
كما أود أن أشير إلى أن جريمة تعريض الطفل للخطر من الجرائم الإيجابية التي تتحقق بعمل إيجابي ويتضح ذلك من خلال الفصل 461 ق.ج بقوله "من عرض أو ترك طفلا" لكن تفسير هذا الفصل لا يمنع من تصور وقوع الجريمة بدون عمل إيجابي، أي بالترك أو الامتناع، فإذا وجد شخص طفلا في مكان خال من الناس وتركه مع علمه بما يتعرض له من خطر وهو في هذه الحالة ولم يتخذ أي إجراء لإنقاذه، أو التبليغ عنه، وتوافر لديه القصد الجنائي، يعتبر مرتكبا لجريمة تعريض الطفل للخطر بطريق الترك أو بالامتناع .
ولتعزيز حماية الطفل من جرائم التخلي فقد أفرد القانون الجنائي عقوبات رادعة في حق كل من حرض الأبوين أو أحدهما للتخلي عن طفلهما الوليد أو الذي سيولد أو قدم أو حاول أن يقدم وساطة للتكفل بطفل وليد أو سيولد أو لتبنيه (الفصل 466 ق.ج) كما عاقب بالحبس من شهر إلى ستة أشهر وغرامة من مائتين إلى خمسة آلاف درهم كل من حمل الوالدين أو أحدهما على التعهد في عقد بالتخلي عن طفل سيولد لهما أو حاول ذلك (ف 467 ق.ج).
وأخيرا يمكن القول بأنه على الرغم من تشدد المشرع الجنائي المغربي في العقاب عن جرائم التخلي عن الأطفال –خاصة الأطفال حديثي العهد- وتعريضهم للخطر، فإن الظاهرة تعرف تزايدا قل نظيره خاصة خلال العقود الأخيرة، وما يشهد على ذلك هو الاكتظاظ الذي تشهده المؤسسات الخيرية التي تعنى بالأطفال المتخلى عنهم، ويبقى السبب المباشر لانتشار هذه الظاهرة هو ارتفاع حالات الاغتصاب وتفشي العلاقات الجنسية غير المشروعة، فإذا ما ترتب عنها حمل، فإنه يثير سخط المجتمع السبب الذي يؤثر على الأم فيجعلها تتخلص من مولودها بتركه أو التخلي عنه.
ثانيا: حماية الطفل من جرائم إهمال الأسرة:
تعتبر الأسرة لبنة أولى في صرح المجتمع الإنساني، وكلما كانت الأسرة متماسكة مترابطة تجمعها أواصر المحبة والتضامن في السراء والضراء، وكلما تعاونت في أداء وظيفتها الإنسانية كان المجتمع، مجتمعا صالحا وأفرز شعبا طيب الأعراق .
ولتحقيق هذا المسعى، فقد جرم القانون الجنائي المغربي العديد من الجرائم التي من شأنها أن تقوض أمن الأسرة واستقرارها، ومن بين هذه الجرائم نجد جريمة إهمال الأسرة لما تترتب عنها من نتائج مضرة بالأطفال وبما أقره الشرع من الزواج من تساكن ومودة ورحمة.
وفي هذا الخصوص ينص الفصل (479 ق.ج) على أنه:
يعاقب بالحبس من شهر إلى سنة وبالغرامة من 200 إلى 2000 درهم أو بإحدى هاتين العقوبتين فقط.
1- الأب أو الأم، إذا ما ترك أحدهما بيت الأسرة دون موجب قاهر لمدة تزيد عن شهرين وتملص من كل أو بعض واجباته المعنوية والمادية الناشئة عن الولاية أو الوصاية أو الحضانة.
ولا تنقطع أجل الشهرين إلا بالرجوع إلى بيت الأسرة رجوعا ينم عن استئناف الحياة العائلية بصورة نهائية.
2- الزوج الذي يترك عمدا لأكثر من شهرين ودون موجب قاهر زوجته وهو يعلم أنها حامل.
لقد استهدف المشرع من إيراده لهذا الفصل، ضمان استقرار المحيط الأسري من اجل تحقيق جو عائلي مناسب لحياة الطفل عن طريق زجر الهجر المقصود لبيت الأسرة الذي قد يقدم عليه أحد الأبوين لما يترتب عليه من حرمان للطفل من حقوقه المادية والمعنوية الناشئة عن الولاية الأبوية أو تلك الناشئة عن الحضانة أو الوصاية كما حددتها مدونة الأسرة.
كما يظهر هذا الفصل أن الطفل هو محل الحماية بامتياز حتى ولو كان جنينا في بطن أمه ، أما في حالة انعدام وجود أطفال أو حمل، فإنه لا يمكن متابعة أحد الزوجين من أجل هذه الجريمة –إهمال الأسرة- وهذا مسلك منتقد، لأن الحق في الأسرة لا يثبت للطفل بمجرد ولادته أو منذ وجوده جنينا في بطن أمه وإنما هو سابق لوجوده الفعلي .
إلا أن السؤال الذي يطرح نفسه بإلحاح في هذا الإطار، ماذا يقصد المشرع 'بالأم والأب" أو بصيغة أخرى، هل يمكن متابعة الأب الطبيعي أو بالتبني من أجل جنحة إهمال الأسرة؟
للجواب على هذا السؤال لابد من الرجوع إلى مدونة الأسرة التي تنظم الواجبات المادية والمعنوية من طرف الأب والأم اتجاه أبنائهما.
بالرجوع إلى مدونة الأسرة نجدها لا تعترف بالأسرة الطبيعية أو المتبنية طبقا للمادتين (148 و149م.أ) لكونهما تخالفان النظام العام المغربي ومن ثم فالأسرة التي تؤخذ بعين الاعتبار وتستفيد من الحماية هي الأسرة الشرعية. وبناء على ذلك فلا يمكن للإبن الطبيعي أو المتبنى الاستفادة من الحماية الجنائية التي يضمنها الفصل 479 ق.ج. باستثناء حالة واحدة تنص عليها مدونة الأسرة في المادة 146 التي تقرر من خلالها شرعية العلاقة التي تربط بين الابن غير الشرعي وأمه، فهذا النص يزيل كل شك فيما يخص حماية الولد الطبيعي عند تملص الأم من واجباتها اتجاهه .
ولمزيد من الضمانات لحماية الطفل من جرائم إهمال الأسرة نقد نص الفصل 480 ق.ج على عقوبات مماثلة لتلك المنصوص عليها في الفصل السابق ضد الشخص الذي صدر عليه حكم نهائي أو قابل للتنفيذ المؤقت بدفع نفقة فروعه وأمسك عمدا عن دفعها في الأجل المحدد. فجريمة إهمال الأسرة تقوم بمجرد الإمتناع عن أداء النفقة داخل الأجل المحدد لها وقد اشترط المشرع الجنائي استصدار حكم قضائي ولو كان مؤقتا .
كما أن جريمة إهمال الأسرة لا تسقط بمجرد الأداء بعد انصرام الأجل المحدد قانونا وهذا ما قضى به المجلس الأعلى في قراره الصادر بتاريخ 31 مارس 1977 الذي جاء فيه "حيث أن الفصل المدان به العارض وهو الفصل 480 من القانون الجنائي ينص على قيام الجريمة بمجرد الإمساك عمدا عن النفقة الواجبة بمقتضى صدور حكم نهائي أو قابل للتنفيذ في موعدها المحدد وان مجرد الأداء بعد ذلك لا يسقط ولا يجعل الجريمة منعدمة".
وختاما لابد من الإشارة إلى أن حماية الطفل من جرائم الإهمال لا تتوقف على المتابعة عن الجرائم الواردة في الفصلين 479 و480، بل إن القانون الجنائي المغربي وسع هذه الحماية لتطال المتابعة من اجل جريمة إهمال الأسرة، حتى في حالة تسبب أحد الأبوين في إلحاق ضرر بالغ بأطفاله أو بواحد أو أكثر منهم وذلك نتيجة سوء المعاملة أو إعطاء القدوة السيئة في السكر أو سوء السلوك أو عدم العناية أو التقصير في الإشراف الضروري من ناحية الصحة أو الأمن أو الأخلاق (م 482 ق.ج).
إلا أنه على الرغم من الحماية الهامة التي يقرها القانون الجنائي للطفل لحمايته من جرائم إهمال الأسرة فإن هذه المقتضيات الزجرية تبقى عاجزة في الواقع عن توفير هذه الحماية، وما يشهد على ذلك هو الأرقام المخيفة لعد قضايا إهمال الأسرة. التي ترفع سنويا أمام المحاكم المغربية، ففي سنة 2001 مثلا بلغ عدد قضايا إهمال الأسرة 1420 قضية لتكون بذلك هذه الجريمة قد حققت المرتبة الثانية، ضمن عدد قضايا جرائم العنف ضد الأطفال بنسبة مئوية قدرت ب 28,84% لذلك نؤيد رأي الأستاذ أحمد الخمليشي الذي يؤكد أن توقيع العقوبة الجنائية من النادر أن يعيد الوئام إلى العلاقة الزوجية ومن ثم استئناف الحياة الأسرية في وئام واطمئنان، لذا يجب البحث عن تدابير بديلة للعقاب والزجر بالنسبة للجرائم التي تقع داخل الفضاء الأسري.
المبحث الثاني
الحماية الجنائية لحق الطفل في سلامته البدنية والنفسية.
يتعرض الأطفال في مجتمعنا المغربي إلى أشكال مختلفة من العنف البدني والنفسي فتسبب لهم معاناة جسمية ونفسية بالغة وتبقى آثارها المؤلمة ماثلة أمام أعينهم طيلة الحياة بل إن بعض أنواع العنف التي يلاقيها الأطفال تترك بصماتها المدمرة على حياتهم، فتعصف بحاضرهم وتحطم أحلامهم وطموحاتهم، وتقضي على مستقبلهم وآمالهم، فتترك أجسادا انتزعت منها الأرواح وسلبتهم كل معنى كريم للحياة، وتفقدهم الثقة في الناس من حولهم وفي المجتمعات التي ينتمون إليها وأشد من ذلك ما يؤول إليه الحال بعد وقوع الاعتداء. فإما إنسان يائس فقد طعم الحياة ومعناها، يعيش كالشبح بين الناس، وينعزل بنفسه عن كل نواح الحياة وإما إنسان حاقد على غيره يريد لهم أن يعانوا مثل معاناته، ويألموا مثل آلامه ويعيشوا في خوف ورعب مثلما عاش أثناء طفولته .
وعلى هذا الأساس، فقد اعتبرت لجنة الأمم المتحدة لحقوق الإنسان العقوبات البدنية والنفسية في المدارس أمرا "لايتماشى مع اتفاقية حقوق الطفل، لذلك تحث الدول بانتظام على منع هذه العقوبة، ليس في المدارس وغيرها من المؤسسات فحسب وإنما أيضا في العائلة، والمجتمع ككل، ومع أن اتفاقية حقوق الطفل لا تمنع العقوبة البدنية صراحة، فإنها تحث الدول الأطراف على حماية الأطفال من جميع أشكال الإيذاء .
وإذا ثبت بأن لأفعال الاعتداء أخطارا كبرى على الأطفال، فما هي اوجه الحماية التي يقرها القانون الجنائي المغربي لضمان حق الطفل في سلامته البدنية (مطلب أول) وكذا سلامة صحته النفسية (مطلب ثاني).
المطلب الأول: حماية الطفل من الإيذاء البدني:
لقد أحاط القانون الجنائي المغربي الطفولة بسياج من القوانين الخاصة التي ترتبط أولا بطبيعة الطفل الجسدية والعقلية، فالطفل لا يستطيع الدفاع عن نفسه إذا تعرض للأذى، ولا يقدر على رد الاعتبار لذاته كما لا يستطيع أيضا تقييم خطوط المؤامرات التي تحاك ضده، وترتبط من ناحية ثانية بالصفة الخاصة لزمرة من المجرمين الذين يقدمون على استغلال الضعف الطبيعي للطفل وإلحاق الإيذاء به ولذلك نص القانون الجنائي على حماية الطفل وذلك عن طريق تجريم كل أفعال الإيذاء التي قد يتعرض لها في ذاته أو في نفسه.
ومن بين أكثر أنواع الإيذاء شيوعا ضد الأطفال، نجد الإيذاء البدني، والذي قد يرتكب لأفعال خسيسة، كالضرب والجرح المرتكب ضد الطفل بهدف تأليمه والانتقام منه وهو ما يمكن أن نصطلح عليه بالإيذاء البدني العادي (الفقرة الأولى) كما قد يرتكب أيضا لأهداف التربية والتأديب والذي يجب أن يمارس في الحدود المرسومة له شرعا وقانونا (الفقرة الثانية).
الفقرة الأولى: الإيذاء البدني العادي للطفل:
يقصد بالإيذاء البدني العادي، جرائم الضرب والجرح التي تحدث من الجاني دون قصد التأديب أو الختان، وغالبا ما يكون الجاني ممن لا يملكون سلطة على الطفل وهذا النوع من الإيذاء البدني للطفل يتماثل مع ذلك الذي يتصور أن يرتكب ضد البالغ أيضا .
وتعتبر ظاهرة الإيذاء البدني للأطفال من اخطر الظواهر التي تقف في وجه تقدم المجتمع وتهدد تماسكه، لكونها تنشئة اجتماعية خاطئة، لذلك توجهت الأنظار من أجل العمل على إيجاد نظام لحماية الأطفال خاصة وان تاريخ الطفولة يعتبر مظلما منذ قرون، حيث سادت مختلف أشكال تعذيب الأطفال خلال تلك العصور.
فكل أشكال الإيذاء البدني التي كانت تلحق الأطفال في العصور الماضية لازمت الطفولة حتى عصرنا الحاضر (وإن خفت حدتها) فإنها لازالت تلقي بجحيمها على أجساد الأطفال الفتية، وقد أوضحت مختلف الدراسات العلمية حول الظاهرة، بأن الإيذاء البدني ظاهرة تعاني منها كل المجتمعات الإنسانية، كما تعرفها مختلف الفئات الاجتماعية كيفما كان مستواها الاقتصادي أو الثقافي .
ويمكن الاستدلال على أفعال الإيذاء البدني العادي للأطفال من خلال الأعراض التالية:
- الإصابات الظاهرة في أماكن الجسم يستبعد أن تكون عرضية كالحروق في الظهر والكدمات في أماكن بعيدة عن الأطراف وعلى مؤخرة الطفل.
- إصابة الرأس والدماغ وما تظهر عنه من أعراض (كالإغماء).
- النزيف الداخلي الناجم عن الإصابة.
- الكسور المتكررة للطفل، العض، الحرق، الجلد والضرب بالآلات الحادة...
- تلعثم الطفل في الكلام والتعثر بطريقة ملفتة للنظر.
ويعتبر الإيذاء البدني Hكثر أنواع الإيذاء شيوعا، وقد يعود ذلك إلى وضوح أعراضه وقابليته للملاحظة والاكتشاف ويشكل الوالدين والقائمين على رعايته وتنشئة الأطفال المصادر الرئيسية لهذه الإيذاءات .
وتطرح هذه الاعتداءات نفسها بحدة في المستشفيات، حيث أصبح إستقبال حالات عدة بصفة يومية، يكاد يجعل الإيذاء البدني للأطفال أمرا عاديا وطبيعيا، غير أن الأطباء يصطدمون في إطار عملهم بصعوبات كبرى عند إستقبالهم لمعظم الحالات (أمهات لا يردن الإدلاء بأية بيانات، وأحيانا بمعلومات جزئية، أطفال عاجزون عن الكلام وعند حديثهم تلاحظ عليهم إضطرابات نفسية بليغة...) .
لكن السؤال الذي يطرح نفسه بحدة هنا، ما هي الأسباب التي تدفع بعض الأشخاص إلى ارتكاب أفعال الإيذاء البدني ضد الطفل؟
للإجابة عن هذا السؤال، فإن الأمر يتطلب رصد هذه المظاهر الاعتيادية وتتبعها في البيئة الفكرية والممارستية السائدة في المجتمع المغربي، والتي يمكن الزعم بأن لها روافد تغذيها وتمدها بأسباب الانتشار والبقاء، روافد يرجع بعضها إلى ظاهرة العنف والعدوان ضد الأشخاص والممتلكات، التي تسري في الجسد (المغربي) العربي، من قمة هرمه إلى أدق خلية في قاعدته وهي الأسرة، ذلك أن الحريات العامة وكرامة الأفراد وحقوقهم ينظر إليها كترف فكري أو كموضة فكرية دخيلة ومزعجة، يتعين الحد من مدها بسن مقررات تحيلها –في حالة الإقرار الرسمي بها- عبثا مجردا من كل قيمة حقيقية.
فقد تعود الأسباب المؤدية إلى إيذاء الأطفال إلى العقلية السائدة في أغلب الأسر المغربية وهي عقليات متشعبة بالكثير من أنماط التفكير والممارسات المعيبة السائدة، فشيوع مقولات: (العصا لمن عصا) و (اقتل وأنا ندفن) و (الحر بالغمزة والعبد بالدبزة)... لها دلالتها السيكولوجية والسسيولوجية السائدة في المجتمع، ولذلك قد لا نستغرب إذا وجدنا من يشير عن قناعة تامة بصلاحية العقاب البدني كحل امثل لردع الطفل/المشاغب عن كثير من الممارسات التي نعتقد أنها عبثا ومضيعة للوقت وما هي كذلك في سائر الأحوال .
ومن بين الأسباب أيضا الفقر الذي تعيشه شرائح كبيرة من المجتمع، والذي قد يدفع ضحاياه إلى إحتراف العنف والجريمة التي يقع ضحيتها الأطفال كما قد يقع ضحيتها الكبار كما يمكن أن يضاف إلى ذلك، الأمراض النفسية والاكتئاب الذين يدفعان إلى عدم إطاقة الأطفال وبالتالي التعامل معهم بنوع من العنف والعدوانية. كما تشير بعض الدراسات إلى وجود أسباب أخرى تغذي ظاهرة الإيذاء البدني للأطفال كالتفكك العائلي المبكر وغياب ثقافة حقوق الطفل وتوارث أفعال الاعتداء، حيث إن معظم المعتدين كانوا بدورهم ضحايا الاعتداءات عند صغر سنهم .
كل هذه الأسباب التي تعج بها مجتمعاتنا والتي تعكس بالملموس ارتفاع حالات الإيذاء البدني للأطفال التي تشكل نسبة عالية ضمن حالات الإساءة المعروضة على المرصد الوطني لحقوق الطفل، حيث سجل المركز 422 ملفا تمثل الاعتداءات البدنية 31% منها . كل ذلك على الرغم من الاهتمام الدولي الكبير بحقوق الإنسان عموما وحقوق الطفل خصوصا.
فقد نص الإعلان العالمي لحقوق الطفل في المادة الثالثة على أن لكل فرد الحق في الحياة والحرية وسلامة شخصه، كما نص في مادته الخامسة على أن لا يعرض أي إنسان للتعذيب ولا للعقوبات أو المعاملات القاسية أو الوحشية أو الحاطة بالكرامة ، وما قررته أيضا المادة السابعة من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية بعدم جواز إخضاع أي فرد للتعذيب أو العقوبة أو المعاملة القاسية... وأيضا ما اشتملته اتفاقية حقوق الطفل من بنود نصت على تجريم جميع أشكال القسوة ضد الأطفال، خاصة المادتين 19 و37 . وأيضا وثيقة نيويورك لسنة 2002 حيث دعـت إلى ضرورة احترام حق الأطفال في الحماية من جميع أشكال العنف (المادة 43/3).
وإذا كانت الأوقاف الدولية قد خصت الطفل بحماية خاصة من جميع أشكال الإيذاء البدني، فهل خص التشريع الجنائي المغربي أيضا الطفل بحماية جنائية مماثلة نظرا لضعفه البدني الذي من شأنه أن يعيقه الدفاع عن نفسه أو يشجع الغير على إيذائه؟
بالرجوع إلى القانون الجنائي المغربي نجده ينص في الفصل 408 على عقوبة حبسية من سنة إلى ثلاث سنوات في حق كل من جرح أو ضرب عمدا طفلا دون الخامسة عشر من عمره... أو ارتكب عمدا ضد الطفل أي نوع من أنواع الإيذاء فيما عدا الإيذاء الخفيف.
وإذا نتج عن الضرب أو العنف أو الجرح أو الإيذاء مرض أو ملازمة للفراش أو عجز عن العمل تتجاوز مدته عشرين يوما أو إذا توفر سبق الإصرار أو الترصد أو استعمال السلاح فإن العقوبة تشدد لتصبح هي السجن من سنتين إلى خمس مع إمكانية الحكم على مرتكب هذه الجرائم بالحرمان من واحد أو اكثر من الحقوق المشار إليها في الفصل 40 ق.ج . وبالمنع من الإقامة من خمس سنوات إلى عشر (ف 409 ق.ج).
أما إذا نتج عن الأفعال السابقة الذكر، فقد عضو أو بتره أو الحرمان من منفعته أو عمى أو عور أو أية عاهة دائمة أخرى، فإن العقوبة هي السجن من عشر إلى عشرين سنة، أما إذا نتج عنه الموت، فإن العقوبة هي السجن من عشر إلى ثلاثين سنة لكن شريطة انعدام قصد إحداثه، أما إذا نتج الموت بسبب أعمال معتادة فإن العقوبة هي السجن المؤبد، أمـا إذا قصد الجاني إحداث الموت فإن العقوبة هي الإعدام (الفصل 410). وتضاعف العقوبات السالفة الذكر إذا كان مرتكب الجريمة أحد أصول الطفل
المجني عليه أو شخصا له سلطة عليه أو مكلفا برعايته (ف 165 ق.ج).
من خلال هذه المقتضيات يتبين لنا بأن المشرع الجنائي المغربي، قد خص الطفل بحماية خاصة من جرائم الإيذاء البدني التي قد تطاله، إذ أن وضع نصوص خاصة تشدد العقوبات على جرائم العنف، الجرح والضرب... التي يمكن أن يتعرض لها الطفل، من شأنها أن تحقق ردعا في نفوس الجناة. إلا انه كان على المشرع المغربي أن يمدد هذه الحماية حتى بلوغ الطفل سنة 18 من عمره. لأنه ببلوغ الطفل هذا السن يكون قد أصبح نسبيا قادرا على مواجهة الإيذاءات التي قد تطاله. كما كان على المشرع أن يوضح معنى الإيذاء الخفيف غير المعاقب عليه (الفصل 408) لأنه بإمكان الجاني أن يحتج بأن ما ارتكبه اتجاه الطفل المجني عليه هو عرف عائلته أو أسرته وانه مجرد إيذاء خفيف يهدف من ورائه تهذيب وتقويم سلوكات الطفل.
الفقرة الثانية: الإيذاء البدني بقصد التأديب:
يعني الإيذاء البدني بقصد التأديب كل أشكال الضرب أو الجرح التي قد يقع الطفل ضحيتها، سواء كانت صادرة من قبل والدي الطفل أو ممن لهم سلطة عليه وذلك بهدف تأديبه أو تعليمه أو تقويمه.
فإذا كان من واجب الوالدين أو من يشرفون على الأطفال أن يحسنوا تربيتهم وأن يسهروا على تنشئتهم تنشئة سليمة، لما في ذلك من فائدة للأسرة والمجتمع والأطفال أنفسهم (أولا) فإن تجاوز حدود التأديب قد يلحق الأذى بالطفل ومن ثم فهو عمل مجرم قانونا (ثانيا).
أولا: مبررات إقرار حق الطفل في التربية والتهذيب:
شرع الإسلام للصغير حقا أصيلا في التربية مقتضاه أن يقوم الأب أو الأم أو المعلم بتربيتة بغية تأديبه وتهذيبه لحمايته من بواعث الانحراف، وإصلاح سلوكه ومنعه من الانقياد إلى نوازع الشر ومخاطره، فقد سمحت الشريعة الإسلامية للأب والأم وللوصي والمعلم ولكل من له سلطة أو إشراف على الطفل بحق تأديبه بقصد العلاج ويبدأ ذلك بالترغيب واللوم بالقول وقد يصل في الحالات القصوى إلى ضربه الضرب الخفيف .
ويجد الحق في التأديب سنده الشرعي من خلال القرآن الكريم والسنة النبوية وإجماع أئمة المسلمين، فيقول الخالق عز من قائل: "يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارا وقودها الناس والحجارة" وقال الرسول صلى الله عليه وسلم "ما نحا والد ولدا من نحل أفضل من أدب حسن" وقال كذلك عن جابر بن سمرة عن النبي صلى الله عليه وسلم "لأن يؤدب الرجل ولده، خير من أن يتصدق بصاع" وقال صلى الله عليه وسلم في حديث مشهور رواه أبو داوود في سننه "مروا الصبي بالصلاة إذا بلغ سبع سنين فإذا بلغ عشر سنين، فاضربوه عليها" وفي رواية أخرى وفرقوا بينهم في المضاجع .
ويبدو لأول وهلة أن هناك تعارضا –وما هو كذلك- بين ما جاء في الحديث الأخير من أمر صريح بالضرب وبين ما عرف عنه صلى الله عليه وسلم من رقة في الطبع، ولين في الجانب ومن قلب ينبض بالحنان ويفيض بالرحمة، التي هي قبس من رحمة الله الشاملة قال تعالى:"ورحمتي وسعت كل شيء" وبما ظهر به على كافة الناس من حب لبناته وحفدته، كان مضربا للأمثال وباعثا على الدهشة، في بيئة كانت تكره إنجاب البنات وتنفر منهن، إلى الحد الذي كان الواحد منهم يغمره الحزن وتعلو وجهه الكآبة والسواد حينما يبشر بولادة أنثى مما سجله القرآن الكريم "يتوارى من القوم من سوء ما بشر به، أيمسك على هون أم يدسه في التراب ألا ساء ما يحكمون" ليس هذا فحسب، بل وصل الأمر إلى حد وأد البنات بمجرد ولادتهن في تلك البيئة الجاهلية الجامدة القلوب المتحجرة العواطف، تفجرت ينابيع الرحمة والحنان من قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم، حيث كان صلى الله عليه وسلم يقف بين خالقه حتى تتورم قدماه في خشوع وطمأنينة، ولكنه حين يسمع بكاء طفل يسرع في صلاته حتى يطلع على أحواله، ويعرف سبب بكائه، هذه بعض أخلاق وسيرة الرسول صلى الله عليه وسلم العطرة مع بناته وحفدته. فكيف إذن يأمر الرسول صلى الله عليه وسلم بضرب طفل قاصر غير مميز، لا يفرق بين فعل قبيح ينبغي تركه، وبين فعل مطلوب على وجه الاستحباب أو الوجوب، ينبغي فعله، لذلك فالفاصل الزمني، بين الأمر بالصلاة وبين الأمر بالضرب في الحديث، فاصل زمني له دلالته التربوية والنفسية، فالنبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر بالضرب مباشرة بعد امتناع الولد عن إقامة الصلاة أو تهاونه فيها، وإنما جعل فاصلا زمنيا بين الأمر الأول والثاني يبلغ ثلاث سنوات أو أكثر .
إذ لا يمكن اللجوء إلى ضرب الطفل إلا بعد إرشاده إلى الصواب وحثه عليه وإذا ما حصل الاقتناع الكامل بعدم جدوى مثل هذه الوسائل يمكن اللجوء إذ ذاك إلى الضرب الخفيف .
والضرب الخفيف ينبغي ألا يتجاوز الثلاث، لما روي عن الرسول صلى الله عليه وسلم لمرداس المعلم "إياك أن تضرب فوق ثلاث، فإنك إن ضربت فوق الثلاث اقتص الله منك" .
وفي نظري المتواضع، فإنه ما دامت الشريعة الإسلامية أباحت الضرب الخفيف، من اجل تأديب سلوكات الطفل نظرا لفوائده فلا يسعني إلا أن أؤيد هذا الأسلوب في التربية ، إلا أنه يجب التأكيد بأنه ينبغي ألا يستعمل إلا عند الضرورة القصوى وبالشكل الذي لا يترك أثرا سيئا على جسم الطفل أو نفسيته، لأن تجاوز حدود الحق في التأديب يعتبر فعلا مجرما ومعاقبا عليه.
ثانيا: تجريم التعسف في تأديب الطفل:
يعد تجاوز الحد في تأديب الطفل صورة من صور جرائم إساءة معاملة الطفل وإيذائه، وإذا كانت جريمة الإساءة هذه الأوسع والأشمل في نتائجها وآثارها وخطورتها لأنها لا تشترط أن يرتكبها أشخاص معينون –وإن كان الأولياء هم من يرتكبون هذه الجريمة بالدرجة الأولى- ولا تتطلب دافعا معينا وراء ارتكابها ولا حدودا ولا قيودا يتم تجاوزها أو وقوع خطا من جانب الطفل يستحق العقاب عليه لكونها نتاجا لما وصل إليه الحال في معاملة الأسرة والمجتمع للطفل، فإن جريمة تجاوز الحق في تأديب الأطفال تعترف بمثل هذه الحدود والقيود عند تكييف الفعل على انه انتهاك لحق تأديب سلوك الأطفال وتقويمه من قبل الأهل أو المتولين تربيتهم ورعايتهم أو المسؤولين عنهم .
وتظهر خطورة تجاوز حدود التأديب من خلال الأضرار المادية والنفسية والجسمية التي قد تلحق الطفل، لذلك أتساءل عن حدود مسؤولية الأولياء ومن في حكمهم عن سلوكاتهم التأديبية؟ وما هو الحد الذي يمكن عنده القول بتجاوز الحق في التأديب ليدخل في دائرة التجريم القانوني؟
للإجابة عن هذه الأسئلة يلزمنا الرجوع إلى المقتضيات الزجرية في القانون المغربي فنجد هذا القانون ينص صراحة على العقاب بالحبس من سنة إلى ثلاث سنوات كل من جرح أو ضرب عمدا طفلا دون الخامسة عشر من عمره... أو ارتكب عمدا ضد هذا الطفل أي نوع آخر من أنواع العنـف أو الإيذاء فيما عدا الإيذاء الخفيـف (ف408 ق.ج). فمقتضيات هذا الفصل إذن تنص صراحة على عدم العقاب على الإيذاء الخفيف بمعنى إباحة الحق في التأديب عن طريق الإيذاء الخفيف .
ولاشك أن انتفاء المسؤولية الجنائية عن الشخص الذي يضرب الطفل ضربا خفيفا في الحدود المعقولة تأديبا له لا يرجع إلى انتفاء القصد الجنائي عند سلامة نيته وابتغائه الخير لابنه، بل يرجع إلى الإباحة المنصوص عليها قانونا .
غير أنع ما يلاحظ على المشرع في هذا الإطار هو انه لم يبين ما معنى الإيذاء الخفيف وما هي حدوده ، فما قد يعتبر إيذاء خفيفا في مجتمع أو أسرة ما قد لا يعتبر كذلك في مجتمع أو أسرة أخرى، وما قد يعتبر إيذاء خفيفا عند بعض الأشخاص قد لا يعتبر كذلك عند الأشخاص الآخرين.
كما أن النص القانوني جاء مطلقا، إذ يعفى من العقاب كل شخص أقدم على ضرب الطفل ضربا خفيفا ولو كان غريبا عنه ولا تربطه به أية صلة. لذا كان على المشرع أن ينص صراحة على انه يقصد بالإيذاء الخفيف، ذلك الذي قد يطال الطفل من أجل تأديبه وتقويم سلوكاته كما كان عليه أن يبين صفة الأشخاص الذين يمكن إعفاؤهم من العقاب، كالوالدين أو الولي، أو الوصي أو المعلم في المدرسة أو الحرفة أو كل من كلف بالإشراف على الطفل وذلك بهدف ضمان حماية الطفل من بعض الأشخاص الذين قد يؤذونه إيذاء خفيفا من أجل الانتقام منه أو تأليمه.
وإذا كان المشرع المغربي قد أقر الضرب الخفيف من أجل تأديب الطفل، فإن بعض التشريعات المقارنة، لا تجيز إستخدام العقاب البدني في تأديب الأطفال، فأي سلوك من الجاني تجاه الطفل حتى وإن كان مجرد ضرب خفيف، فإنه يثير المسؤولية الجنائية ويعد مرتكبا لجريمة ضرب الطفل.
ومن بين هذه التشريعات نجد التشريع السويدي الذي يجرم الإيذاء البدني للطفل أيا كان غرضه، وأخضعه لأحكام الضرب أو الجرح العادية التي يخضع لها المعتدي على البالغ وذلك بعد أن كان يبيح مثل تلك الاعتداءات متى كانت ضد الابن من قبل الوالدين وبقصد التأديب .
وبالإضافة إلى الحماية المقررة للأطفال بموجب القانون الجنائي، فإنه توجد بعض المذكرات الوزارية التي تحدد مسؤوليات الأطر التعليمية (المسؤولية الجنائية والمدنية والإدارية) عن العديد من تصرفاهم داخل الأقسام والمؤسسات التعليمية وخارجها، كما تحدد في نفس الآن، المتابعات التي يخضعون لها في حالة لجوئهم إلى العقوبات البدنية أو إلى أي شكل من أشكال العنف...
فقد أصدرت وزارة التربية الوطنية العديد من المذكرات بهذا الخصوص ، آخرها المذكرة 06/99 بتاريخ 23 شتنبر 1999 والتي تمنع الضرب والعنف الممارس في المؤسسات التعليمية حيث جاء فيها: "أهيب بكافة الأطر التعليمية وأطر الإدارة التربوية أن تتجنب بصفة مطلقة استعمال أي شكل من أشكال العنف الجسدي أو النفسي على التلاميذ وان تعمل على نهج أسلوب الحوار وتشجيع حرية الرأي والتعبير داخل الفصول وفي فضاءات المؤسسات التعليمية بشكل عام" .
فقد ساهمت هذه المذكرات الوزارية إلى حد ما في تخفيض معدلات إيذاء الأطفال داخل الفضاءات التربوية، خاصة بعدما أظهرت مختلف الدراسات العلمية عدم جدوى الإيذاء البدني للأطفال في تربيتهم وتعليمهم، حيث أن العملية التربوية لا يمكن أن تتم في ظل العنف أو التهديد به، فضلا عن أن المدرس الذي يلجا إلى الضرب والإيذاء لم يحصل من تلميذه إلا على كراهية التعليم والمدرسة والمدرسين، فالضرب هو في الواقع سياسة الفاشلين في البيت وفي المدرسة، ولا ينتج عنه إلا تعطيل العقل وتمزيق العاطفة والقضاء على براءة الطفولة وبث روح الكراهية والعداوة في الأجيال الناشئة .
وأخيرا أناشد كل من له سلطة على الطفل أن يحسن معاملته وان يؤدبه بطيب الكلم ألا يلجأ إلى التأديب عن طريق الضرب إلا عند الضرورة القصوى ، والضرورة تقدر بقدرها، فإن لم توجد لم يجز استخدامها، فإن وجدت ضرورة التأديب باستعمال الضرب –الخفيف- فإنه هناك قيود وحدود لا يجوز التطاول عليها، إذ يشترط في الضرب ألا يتجاوز الثلاث وألا يترك أثرا على الجسد، وان يكون باليد المجردة دون استخدام وسائل أخرى كالسوط أو غيرها وألا يقع على أجزاء حساسة من الجسم كالرأس والوجه والبطن أو الأعضاء التناسلية.
وعموما إذا كان للإيذاء البدني خطورة كبيرة على الطفل، فإن الإيذاء النفسي لا يقل خطورة ومرارة عليه خاصة مع الزمن.
المطلب الثاني: الحماية الجنائية للطفل من الإيذاء النفسي:
تعد الحماية الجنائية لنفسية الطفل من بين الأهداف الأساسية التي يتعين على المنظومة الجنائية تحقيقها، لما للحالة النفسية من تأثير كبير على سلوكيات الطفل في صغره وعلى سلوكياته أيضا في كبره.
ولإبراز مدى الحماية التي يقرها القانون الجنائي المغربي للطفل من الإيذاء النفسي سأركز على الحماية الخاصة من العنف اللفظي (الفقرة الأولى) كما سأتناول تجريم إنكار نسب الطفل أو إدعائه (الفقرة الثانية) لما لذلك من آثار مدمرة على نفسية الطفل والتي قد تلاحقه طوال حياته.
الفقرة الأولى: تجريم العنف اللفظي الموجه ضد الطفل:
لا تقتصر الحماية الجنائية للطفل على تجريم الأفعال التي من شأنها أن تشكل إعتداءات جسدية فقط، بل تشمل ردع جميع السلوكات التي من شأنها أن تسبب الإهانة والإعتداء على الشرف والسمعة... التي تحظى أيضا بكثير من الاهتمام والمكانة لدى أفراد المجتمع، حتى أصبحت من القيم الاجتماعية التي يأخذها المشرع الجنائي في الاعتبار خاصة كلما تعلق الأمر بالعنف اللفظي.
حقيقة إن الإساءة اللفظية التي تتضمن الإزدراء والسخرية والاستهزاء والسباب للأطفال لها انعكاسات خطيرة على شخصيتهم، وتؤثر على الكثير من الأطفال وتساهم في تنمية الروح العدوانية عندهم، فالتنشئة الإجتماعية المبنية على العنف اللفظي لا يمكن أن تنتج إلا شخصية غير سوية ومضطربة وتحبذ القوة والعنف من أجل رفع القهر الناتج عن هذا النوع من العنف المدمر.
فلا أحد ينكر بأن من بين أهم العوامل المدمرة لنفسية الطفل جرح كرامته والتقليل من شأنه، مما يدفعه إلى الإحساس بامتهان الذات والتقليل من قيمتها. وهنا لابد أن أضير بأن العديد من المدرسين يسيؤون إلى تلامذتهم من حيث لا يقصدون، وذلك عندما يتوجهون إليهم باللوم أو النقد أو السخرية أمام زملائهم، مما ينفر التلاميذ منهم ومن المدرسة، ويدفعهم إلى الإنطواء وعدم المشاركة في الدروس أو التمرد على السلطة المدرسية جملة وتفصيلا .
وإذا ثبتت خطورة الإساءة اللفظية إلى الطفل فهل تتضمن القانون الجنائي عقوبات لضمان حماية خاصة له من العنف اللفظي الذي كثيرا ما يقع ضحيته في الأسرة، المدرسة أو المجتمع؟
بتأمل نصوص القانون الجنائي يتبين لنل أنها لا تتضمن مقتضيات خاصة لزجر العنف اللفظي ضد الطفل، بل تضمنت مقتضيات عامة لحماية المقومات المعنوية للشخصية الإنسانية بصفة عامة بهدف حمايتها من الأقوال التي يمكن تكييفها على إعتبار أنها تشكل جرائم سب أو قذف في حق أحد أفراد المجتمع.
وكما تشكل هذه المقتضيات حماية للشخص البالغ، فإنه يستفيد منها الطفل أيضا. ومن بين جرائم الإيذاء اللفظي التي جرمها القانون الجنائي نجد القذف والسب. وقد عرف الفصل 442 القذف بأنه ادعاء واقعه أو نسبتها إلى شخص أو هيئة إذا كانت الواقعة تمس شرف أو اعتبار الشخص أو الهيئة التي نسبت إليها. أما السب فقد عرفه الفصل 443 ق.ج بأنه كل تعبير شائن أو عبارة تحقير أو قدح لا تتضمن نسبة أي واقعة معينة.
ويعاقب على القذف والسب العلني بموجب الظهير رقم 1.58.378 بمثابة قانون الصحافة الذي ينص في الفصل السابع والأربعون منه بأنه يعاقب بحبس تتراوح مدته بين شهر واحد وستة أشهر وبغرامة يتراوح قدرها بين 10.000 و50.000 درهم أو بإحدى هاتين العقوبتين فقط عن القذف الموجه للأفراد...
وهنا تجدر الإشارة إلى أن قانون العقوبات الكويتي قد سار في نفس منحى القانون الجنائي المغربي، حيث لم ينص صراحة على نصوص خاصة لحماية الطفل من العنف اللفظي، بل تضمن مقتضيات عامة، لتجريح القذف أو السب الموجه ضد أحد أفراد المجتمع وتبين ذلك من خلال المادة 210 بنصها على معاقبة كل من صدر منه في مكان عام أو على مسمع أو مرأى من شخص آخر غير المجني عليه، سب لشخص آخر على نحو يخدش شرف هذا الشخص أو اعتباره دون أن يشمل هذا السب على إسناد واقعة معينة له، يعاقب بالحبس مدة لا تتجاوز سنة واحدة وبغرامة .. كما عاقب المشرع الكويتي على كل ما من شأنه أن يحقق الجرائم المشار إليها في المادة السابقة حتى ولو صدرت بشكل غير علني.
وإذا كان المشرع الجنائي المغربي -شأنه شأن قانون العقوبات الكويتي- لم يحض الطفل بحماية خاصة من العنف اللفظي، فإن المذكرة الوزارية الموجهة إلى الأطر التربوية قد نصت صراحة على مسؤولية أطر التربية عن كل أشكال التجريح والإهانة التي قد يلحقونها بالتلاميذ حيث جاء فيها: "أهيب بكافة الأطر التعليمية وأطر الإدارة التربوية أن تتجنب بصفة مطلقة استعمال أي شكل من أشكال العنف النفسي.. على التلاميذ.. خاصة وان جل العاملين الحاليين في قطاع التعليم هم خريجي مدارس ومعاهد التكوين حيث يتعلمون أول درس في التربية وعلم النفس، حول مساوئ التجريح... ومضاره النفسية.
وعموما، يمكن القول بأن هذه المقتضيات برمتها تعد غير كافية لحماية الطفل من العنف اللفظي، وهو ما يبرر ارتفاع حالاته داخل المجتمع على الرغم من غياب إحصائيات في الموضوع باستثناء بعض الإحصائيات الجزئية الصادرة عن المرصد الوطني لحقوق الطفل والتي تشير إلى أن القسوة النفسية ضد الأطفال تشكل 16% ضمن نسبة المكالمات الهاتفية المعروضة على المرصد الوطني لحق الطفل منذ تأسيسه سنة 1995 إلى غاية أبريل 2002. وعلى الرغم من ارتفاع عدد جرائم العنف اللفظي ضد الأطفال فإن أغلب الجناة ينفلتون من العقاب.
ويعزى ذلك إلى صعوبة إثبات هذا النوع من العنف وكذا إلى صعوبة تحديد تعريف محدد لمفهوم الإيذاء النفسي، كما أن الكثير من الحالات التي تتعرض لمثل ذلك الإيذاء لا تبلغ عن الأضرار النفسية التي تلحق بها جراء ذلك. إذ بالرغم من تزايد ظاهرة إيذاء الأطفال نفسيا ومثول بعض الحالات أمام القضاء إلا انه كان من الصعب إثبات ذلك، حيث أن الآباء أو المهنيين غالبا ما يدعون أن ذلك مجرد تخيلات في ذهن الطفل، لا مكان لها من الصحة، كما أن الأطفال أنفسهم غالبا لا يخبرون عن آثارها عليهم الآخرين بالرغم من تألمهم جراء ذلك .
وفي ظل غياب دراسات ميدانية تعكس حجم الظاهرة وأبعادها، لا يمكن التعرف على حجم الظاهرة ولا على الآثار المترتبة عليها، حيث أن آثار هذه المشكلة تواجه بالتدخل في خصوصيات الأسرة حيث تعتبر أغلب الأسر العنف اللفظي جزء من التهذيب والتأديب الذي يتلقاه الطفل، وكما أنه من الناذر جدا أن يتقدم الطفل بشكاية ضد من له سلطة عليه إلى الجهات الرسمية إذا عنفه لفظيا، كما لا يستطيع في أغلب الأحيان أن يبوح بذلك العنف حتى إلى أقرب أقربائه، مما يدعم تفاقم المشكلة وانتشارها.
وختاما إذا كان العنف اللفظي يسبب أذى نفسية كبرى للطفل، فإن إنكار نسبه أو إدعاءة بسبب تدمير خطير لنفسيته.
الفقرة الثانية: إنكار نسب الطفل أو ادعائه؛ مساس خطير بنفسية الطفل:
لقد اهتم الإسلام بالنسب اهتماما كبيرا، ويتجلى ذلك في أنه يعتبره من الضروريات الخمس التي جاء للمحافظة عليها وتدور قواعده على ضبط أحكامها وذلك من أجل طهارته وتفادي اختلاطه وأيضا لضمان حق الطفل في أن يكون له نسب ينسب إليه ويتحصن به ضد معرة الإنتساب إلى الزنا.
وبسبب أهمية النسب الذي يحمله الفرد طوال حياته، لما تترتب عنه من آثار في علاقة الطفل بمن انتسب إليه: فإن ادعاءه أو إنكاره، حتما ستترتب عليه آثار نفسية خطيرة على الفرد عموما وعلى الطفل على وجه الخصوص وهو ما تظهره الحالات الواقعية التي تعكس مآس وآلام نفسية بليغة لأطفال ضحايا ادعاء أو إنكار نسبهم .
وإذا كانت الشريعة الإسلامية قد شملت النسب بحماية كبرى، فإن القانون الوضعي المغربي، متعه بحماية جنائية موازية: إذ جرم كل علاقة جنسية خارج الزواج، لذلك عاقب على الزنا باعتبارها أهم جريمة تقف ضد الأخلاق واستقرار الزواج والأنساب، ولم يسمح بالتوالد في إطار الزواج ويعاقب كل التصرفات التي تمس بالأسرة الشرعية أو بحق الطفل في النسب عن طريق ادعائه أو إنكاره دون وجه حق، فقد عاقب الفصل 408 الأب وعند عدم وجوده الطبيب أو الجراح أو ملاحظ الصحة أو الحكيمة أو المولدة أو القابلة أو أي شخص خطر الولادة أو وقعت بمحله بالحبس من شهر إلى شهرين وبغرامة من مائتي وعشرين إلى مائتي درهم، إذا لم يقم بالتصريح بالازدياد في الأجل القانوني وذلك في الحالات التي يكون فيها التصريح واجبا.
وقد تم تدعيم الفصل 408 ق.ج بالمادة 31 من قانون 37.99 المعتبر بمثابة قانون للحالة المدنية والتي تنص على انه يعاقب بغرامة مالية من 300 إلى 1200 درهم كل من وجب عليه التصريح بولادة أو وفاة طبقا لأحكام المادة 16 والمادة 24 ولم يقم بهذا الإجراء داخل الأجل القانوني .
وحسب المادة 16، فإن التصريح بالولادة لا يتم لدى ضابط الحالة المدنية لمحل وقوعها ويقوم بها أقرباء المولود حسب الترتيب التالي: الأب، الأم، وصي الأب، الأخ، ابن الأخ، ويقدم الأخ الشقيق على الأخ للأب ويقدم هذا الأخير على الأخ للأم كما يقدم الأكبر سنا على من هو أصغر منه متى كانت له القدرة الكافية على التصريح.
إن هذه المادة في حقيقة الأمر تضمن حماية موسعة لنسب الطفل إذا ما قورنت بالفصل 468 ق.ج، لأنها جعلت الأم من الأشخاص المسؤولين عن التصريح بالازدياد وتطبق عليها عقوبات مماثلة لتلك التي يمكن توقيعها على الأب وذلك عكس ما فعل الفصل 468 –السالف الذكر- وهذا مسلك إيجابي، لان إعفاء الأم من العقوبة، قد تتشجع على ترك مولودها وعدم التصريح به، خاصة إذا كان ناتجا عن علاقة غير شرعية.
وإذا كان الفصل (468 ق.ج) قد وسع من المسؤولية ليشمل كل من الطبيب والجراح وملاحظة الصحة والقابلة...، فإنه عمليا وإداريا لا يتأتى التصريح من طرف هؤلاء جميعا ما لم تكن لهم وكالة بذلك لأن التصريح بالازدياد يتطلب منهم أن يعرفوا اسم المولود العائلي والشخصي واسم والديه والجدين وتاريخ ومكان ازديادهما والإدلاء بعقد زواج أبويه .
ولتعزيز حماية حق الطفل في النسب، فقد عاقب الفصل 469 ق.ج كل من عثر على وليد ولم يخطر به ضابط الحالة المدنية ولا السلطات المحلية، بالحبس من شهر إلى شهرين وغرامة من مائة وعشرين إلى مائتي درهم أو بإحدى هاتين العقوبتين فقط.
وهذا نص يضاف للنص الخاص وهي المادة 3 من قانون الكفالة الجديد رقم 15.01 التي تقضي: "بأنه يجب على كل شخص عثر على طفل وليد مهمل أن يقدم له المساعدة والعناية التي تستلزمها حالته وان يبلغ عنه على الفور مصالح الشرطة أو الدرك" لأن من شأن التصريح بالعثور عليه إنقاذه من الهلاك أولا، تم التحري والبحث عن والديه ثانيا وبالتالي إثبات نسبه لهما إن أمكن ذلك وتسجيله بسجلات الحالة المدنية .
ولضمان حماية اكبر لحق الطفل في النسب، فإن الفصل 466 ق.ج يعاقب بالحبس من شهر إلى ستة أشهر وبغرامة من مائتين إلى خمسة آلاف درهم، من ارتكب بقصد الحصول على فائدة أحد الأفعال الآتية:
- تحريض الأبوين أو أحدهما على التخلي عن طفلهما الوليد أو الذي سيولد.
- قدم أو حاول أن يقدم وساطته للتكفل بطفل وليد أو سيولد أو لتبنيه.
كما نص أيضا الفصل 467 على عقوبة حبسية من شهر إلى ستة أشهر، وغرامة من مائتين إلى خمسة آلاف درهم:
- من حمل الوالدين أو أحدهما على التعهد في عقد بالتخلي عن طفل سيولد لهما أو حاول ذلك وكذلك من أحرز مثل هذا العقد أو استعمله أو حاول استعماله.
وفي نفس سياق هذا الفصل ينص الفصل 467-1 على عقوبة حبسية من سنتين إلى عشر سنوات وبغرامة من خمسة آلاف إلى مليوني درهم كل شخص يقوم ببيع أو شراء طفل تقل سنه عن ثمان عشرة سنة. وما تشديد المشرع العقوبة في هذا الفصل إلا بهدف حماية الطفل من هذه الجرائم الخطيرة والمحطة بالكرامة الإنسانية من جهة ولحماية نسب الطفل من الضياع من جهة ثانية.
وحماية للطفل من بعض الأفعال المنتشرة بشكل واسع داخل المجتمع المغربي والتي من شأنها أن تحول دون التعرف على هوية الطفل أو تكون سببا لتغيير هويته الحقيقية، فإن الفصل 470 ق.ج، ينص على زجر بعض الأفعال التي قد يتم من خلالها المساس بحق الطفل في الهوية حيث جاء فيه "من تعمد نقل طفل أو إخفاءه أو تغييبه أو استبداله بطفل آخر أو تقديمه ماديا على أنه ولد حيا،فإن العقوبة هي الحبس من ثلاثة أشهر إلى سنتين. مع مضاعفة العقوبات المنصوص عليها إذا كان الفاعل من أصول الطفل أو شخصا مكلفا برعايته أو له سلطة عليه.
والواقع أن الهدف من نقل الطفل أو إخفائه أو تغييبه هو حجبه عن الأنظار وبالتالي الحيلولة دون التعرف عليه، كمن قام بالتقاط الوليد ونقله من مكان إلى مكان آخر أو أخفاه في بناية بنفس الحي الذي عثر فيه عليه، أو غيبه عن الأنظار بأية وسيلة من الوسائل كتغيير مظهره الشيء الذي يؤدي به في آخر المطاف أن يصبح مجهول النسب. أما الهدف من استبدال الطفل فيتمثل في الحالة التي يتم فيها تقديم طفل إلى سيدة بدعوى أنه المولود الذي أنجبته إلا انه في الواقع ليس وليدها، لأغراض دنيئة غالبا كأن ترث نصيبا أوفر من تركة زوجها الهالك أو لتحصل على أجرة حضانة من مطلقها. وفي هذه الجريمة يوجد تدليس مزدوج مادام يقع تغيير في هوية الطفل في الحالتين معا الشيء الذي يؤدي غالبا إلى تزوير عدة وثائـق رسميـة كـرسم الـولادة، وحينما يكتشف ذلك قد يصير كلا الطفلين في وضعية مجهولي النسب ، فهذه الوضعية حتما ستجعل الطفل يعيش المآسي النفسية والاجتماعية الخطيرة والتي قد يتضرر منها المجتمع بدوره.
وتبعا لما سبق يتبين لنا، أن المشرع يهدف إلى حماية حق الطفل في النسب حيث يعاقب بشدة على الجرائم الماسة بهوية الطفل أو على الأخص ادعاء أو إنكار النسب، وذلك ليس من اجل حماية الأنساب من الاختلاط فحسب، وإنما أيضا من أجل تجنب وقوع الطفل في وضعية مجهول الأب أو الأبوين وما قد يترتب عن ذلك من أذى نفسي خطير سيلازمه حتما مدى الحياة.
وختاما إذا كانت الإعتداءات على حق الطفل في سلامته الجسدية والنفسية تشكل خطرا كبيرا عليه وتستوجب توقيع أشد العقوبات على الجاني، فإن المساس بعرض الطفل وأخلاقه لا يقل خطورة وإساءة عن ذلك فما هي إذن أوجه الحماية الجنائية المحصنة لعرض الطفل وأخلاقه؟
الفصل الثاني
الحماية الجنائية لأخلاق الطفل وصحته.
تتجسد أسمى حقوق الطفل في أن ينعم بحياة آمنة مطمئنة في بيئة خلقية صالحة وهذا طبعا لن يتأتى ما لم يقر المشرع للطفل حماية جنائية خاصة من بعض جرائم إساءة المعاملة الأكثر شيوعا وانتشارا داخل المجتمع المغربي مثل حمايته من الجرائم الجنسية التي تشكل مساسا خطيرا بشرفه وسمعته سواء عن طريق الإكراه أو التغرير أو تلك التي قد يقع الطفل ضحيتها عن طريق الرضاء الصادر منه لعدم تقديره لحقيقة الاعتداءات الجنسية التي تمارس عليه (المبحث الأول) إلا أن الحق في الحياة الآمنة المطمئنة لا يمكن أن ينعم به الطفل ما لم يحظ حقه في الصحة بحماية جنائية مماثلة لتجريم كل ما من شأنه المساس بهذا الحق، كإهمال الحق في الرعاية الصحية أو تشغيل الطفل في سن مبكرة لما قد يترتب عن ذلك من أضرار بليغة تؤذي صحته والتي قد يمتد أذاها إلى حد المساس بحقه في الحياة (المبحث الثاني).
المبحث الأول
الحماية الجنائية لعرض الطفل وأخلاقه.
يعتبر حق الطفل في صيانة عرضه وأخلاقه، من بين أسمى الحقوق التي اهتمت بها التشريعات والمواثيق الدولية بسبب الضعف الذي يتميز به الأطفال مما يجعلهم عرضة لجرائم تمس أعراضهم وأخلاقهم.
فجرائم العرض تقع عند المساس بالجسد بفعل يقع مباشرة عليه فيخل بطهارته، وتتعدد الأفعال التي تشكل انتهاكا لعرض وأخلاق الطفل إلا انه يجمع بينها صفة مشتركة وهي الصفة الجنسية للفعل، وهذه الصفة الجنسية ذات مدلول واسع تستوعب، جميع الممارسات والأفعال الجنسية الطبيعية وغير الطبيعية التي تهدف إلى تحقيق الإشباع الجنسي الكامل، كما تستوعب أيضا سائر الأفعال الممهدة للاتصال الجنسي.
ونظرا لجسامة الأخطار الجسدية والنفسية التي قد تلحق الطفل جراء المساس بعرضه وأخلاقه، فقد جرم المشرع المغربي العديد من الأفعال من أجل حمايته من بينها تجريم الاغتصاب وهتك العرض (المطلب الأول) وأيضا التحرش الجنسي وتحريض الأطفال على الفساد وتسخيرهم لأغراض ذات طبيعة جنسية (المطلب الثاني).
المطلب الأول: حماية الطفل ضحية الاغتصاب وهتك العرض:
تعتبر جرائم الاغتصاب وهتك العرض من أخطر الجرائم مساسا بحرمة جسد الطفل وأخلاقه، فهي غالبا ما تتم كرها عنه، فتهدر أدميته وتخدش حياءه، كما تؤدي إلى المساس بشرفه وعفته فتجعله منبوذا في المجتمع، خاصة إذا كان الطفل المجني عليه أنثى، لما قد يترتب أيضا عن ذلك من حمل فتصبح بذلك أما عازبة رغما عن أنفها ليمتد هذا الأذى إلى طفلها وأسرتها ككل.
إذا ثبت هذا، فإن المشرع المغربي وضع إطار لحصانة عرض الطفل وأخلاقه يتمثل أساسا من خلال التشدد في تجريم فعل الاغتصاب (الفقرة الأولى) ثم التشدد في تجريم هتك العرض (الفقرة الثانية).
الفقرة الأولى: تشديد عقوبة اغتصاب قاصرة:
تعد جريمة الاغتصاب من أخطر جرائم العرض التي تلحق الأنثى فتجعلها ضحية بين يدي وحش كاسر يدنسها ويخلف لها أسوأ الآثار، خاصة إذا كانت بكرا وقد تعرضها للحمل سفاحا، وتبلغ خطورة الجريمة أشدها إذا استهدفت قاصر .
وقد أضحت ظاهرة اغتصاب الأطفال بالمغرب كشكل من أشكال سوء معاملة الأطفال تتفاقم في أوساط المجتمع المغربي سنة بعد أخرى، وما يزيد من استفحالها هو كونها ظاهرة صامتة، نظرا للأعراف التي تداولتها الأسر المغربية فيما يخص تداول الجانب الجنسي، بحيث تكاد تجده من المحرمات، بل ومن نقط العار، فأغلب الضحايا وأسرهم يختارون الصمت والتستر عوض فضح هذه الجريمة خوفا من التشهير خاصة وانه يصعب إثباتها أمام القضاء.
وعلى الرغم من أن أغلب جرائم الاغتصاب تحاط بسرية تامة، فإنه توجد بعض الإحصائيات الجزئية التي تعكس إلى حد ما الانتشار المتزايد لهذه الجريمة. فحسب الإحصائيات الصادرة عن المرصد الوطني لحقوق الطفل، فقد بلغت عدد جرائم الاغتصاب 102 حالة سنة 1999 و210 حالة سنة 2001 أما سنة 2002 فقد ارتفع هذا العدد إلى 400 حالة اغتصاب. وحسب نفس المصدر، فإن حالات الاعتداءات الجنسية على الأطفال تتوزع حسب طبيعة المعتدي على الشكل التالي: 43% من المعتدين هم غرباء عن الطفل و21% جيران و9% معلمين و6% آباء و5% هم أقارب و4% مدير مسؤول و3% أطر إدارية و3% تلاميذ. وتتراوح أعمار الأطفال ضحايا جرائم الاغتصاب بين 6 و14 سنة ومن مختلف المستويات الاجتماعية ومن أوساط مختلفة .
وإذا كانت جرائم اغتصاب الأطفال، تشهد تزايدا مستفحلا، فما هي اوجه الحماية الجنائية التي يقرها لهم القانون الجنائي؟
بالرجوع إلى مقتضيات الفصل 486 ق.ج نجده يعرف الاغتصاب بأنه مواقعة رجل لامرأة بدون رضاها، والمواقعة تعني إيلاج عضو التذكير في عضو التأنيث ووفقا لهذا التعريف، فإن أي إيلاج لعضو التذكير في غير موضعه الطبيعي (قبل المرأة) لا يعد اغتصابا، كما لا يعد اغتصابا إيلاج غير عضو التذكير في عضو التأنيث .
ووفقا لهذا التعريف فإن أساس التجريم هو انعدام رضا المجني عليه، ومن ثم إذا كانت المواقعة تمت برضا الطرفين لا تشكل جريمة، ونظرا لأن الرضا لا يعتد به إلا إذا كان صادرا عن شخص بالغ، لذا فإن الاغتصاب يختلف نطاقه متى كان المجني عليه شخصا بالغا، حيث يقتصر في هذه الحالة على المواقعة دون رضاه، بينما إذا كان المجني عليه قاصرا (طفلة) فإنه يتسع ليشمل المواقعة سواء تمت برضاها أو دون رضاها، وما ذلك إلا لعدم الاعتداد برضاها في حالة توفره حكما .
ونظرا لخطورة هذه الجريمة على القاصرة لما قد يلحقها من أضرار جسدية وصدمات نفسية ، فقد عاقب عليها المشرع المغربي بالسجن من خمس إلى عشر سنوات، غير أنه إذا كانت سن المجني عليها تقل عن ثمان عشرة سنة، فإن الجاني يعاقب من عشر إلى عشرين سنة (الفصل 486 ق.ج)، وإذا كان الجاني من أصول الضحية أو ممن لهم سلطة عليها أو وصيا عليها أو خادما بالأجرة عندها أو عند أحد الأشخاص السالف ذكرهم أو كان موظفا دينيا أو رئيسا دينيا، وكذلك أي شخص استعان في اعتدائه بشخص أو عدة أشخاص، فإن العقوبة هي السجن من عشرين إلى ثلاثين سنة (الفصل 487 ق.ج).
وبمقارنة التشريع المغربي مع نظيره المصري في هذا الخصوص يتبين لنا أن المشرع المصري وعلى الرغم من عدم إقراره لحكم خاص في حالة اغتصاب طفلة إلا انه كان أكثر تشددا في العقاب على هذه الجريمة، حيث عاقبت (المادة 267 من قانون العقوبات) كل من واقع أنثى بدون رضاها بالأشغال الشاقة المؤبدة أو المؤقتة، فإذا كان الفاعل من أصول المجني عليها أو من المتولين تربيتها أو ملاحظتها أو ممن لهم سلطة عليها فإنه يعاقب بالأشغال الشاقة المؤبدة. ونفس التشديد نجده أيضا عند المشرع التونسي الذي يقرر عقوبة الإعدام في خالة استعمال العنف أو السلاح أو التهديد به لارتكاب جريمة الاغتصاب مهما كان سن المجني عليها، وتكون العقوبة الإعدام أيضا، إذا كانت المجني عليها دون العشر أعوام، وسواء كان ذلك باستعمال العنف أو السلاح أو التهديد به، أو بدونه.
ومن هنا تبرز بوضوح الحماية المتميزة التي يفرضها القانون الجنائي التونسي لصغيرات السن من هذه الجريمة . وقد يرى البعض في الإعدام عقوبة قاسية وشديدة على مرتكب هذه الجريمة، وأنها لا تتناسب مع درجة جسامة الجريمة المرتكبة، إلا أنه يمكن الرد عليهم بأن ما ذهبت إليه التشريعات التي تقرر هذه العقوبة القاسية هو عين الصواب . ذلك لان الطفولة سن طيش ورعونة حيث تكون المجني عليها سهلة الانقياد، وغير ناضجة عقليا وجسميا وعاطفيا، ولا تستطيع صد الجاني عن ارتكاب فعلته الشنيعة ضدها.
وتطبيقا لهذا الحكم المعمول به أيضا في التشريع الجنائي الأردني، فقد قضت محكمة الجنايات الكبرى الأردنية بأن "مواقعة المتهم للمجني عليها التي لم تبلغ الخامسة عشرة من عمرها، قد تم بطريق العنف والإكراه، وذلك عندما قام بشل حركتها بحيث أعاقها تماما عن أية مقاومة... فإن هذا هو الاغتصاب الجنائي في أوضح صوره وفعل المتهم ينطبق وأحكام المادة 9/2 من قانون العقوبات رقم 9 لسنة 1988 التي توجب الإعدام شنقا حتى الموت" .
أما بخصوص تعامل القضاء المغربي مع هذه الجريمة، فإنه يشوبه نوع من التردد والغموض نظرا لعدم دقة التكييف القانوني وغموض المتابعات . حيث ناذرا ما يعاقب مرتكبوا جرائم الاغتصاب على أساس تكييفها هذا. وما يؤكد هذا الطرح القرار الصادر عن غرفة الجنايات بمحكمة الاستئناف بفاس بتاريخ 29/03/2001 –غير منشور- والذي أدان المتهم بجريمة اغتصاب أخت زوجته القاصرة، البالغة من العمر 14 سنة وعاقبه بسنتين سجنا بعد تمتيعه بظروف التخفيف، في حين أن أدنى عقوبة يمكن تطبيقها على مرتكب جريمة اغتصاب قاصر هي السجن من عشر إلى عشرين سنة حسب مقتضيات الفصل 486 من القانون الجنائي.
ويعزى ذلك أن القضاء لا يعتبر الاغتصاب إلا إذا وقع على امرأة طبقا لما جاء في الفصل 486 ق.ج وهو طرح يؤكده ما جاء في حيثيات أحد القرارات الصادرة عن محكمة الاستئناف بوجدة كالتالي: "وحيث أن الاغتصاب يكون على المرأة وليس على القاصرة" ونفس التوجه سارت عليه محكمة الاستئناف بفاس، في القرار الصادر عنها بتاريخ 13 نونبر 2002 غير منشور. والذي أدان المتهم من أجل هتك عرض بنت أخيه القاصرة التي تبلغ من العمر ثلاث سنوات بسنتين حبسا وقد تسبب هذا العم بفعلته هاته، وحسب الشهادة الطبية المرفقة بالملف –أكدت الدكتورة شفيقة عزوزي- أنها وجدت على فرج الضحية احمرارا وتمزقا بسيطا في بكارتها" في حين كان على المحكمة أن تكيف الفعل جريمة اغتصاب، ما دام الاعتداء الجنسي في هذه الحالة توفرت فيه كل الشروط لتكييف الفعل كذلك. وذلك من اجل توقيع عقوبة أشد على الجاني الذي لم تمنعه رابطة الحرمة ولا حداثة سن الضحية على اقتراف هذه الجريمة النكراء.
ومن الأمثلة المسيئة أيضا لحق الطفل في الحماية من هذه الجريمة، قرار محكمة الاستئناف بفاس الصادر الصادر بتاريخ 29 مارس 2001، والذي قضى بإدانة متهم بجناية اغتصاب أخت زوجته القاصرة بسنتين حبسا بعد تمتيعه بظروف التخفيف، فأي ردع هذا لجريمة من هذا الحجم؟
وعليه فإن تصور الضحية ما هو إلا ظرف تشديد وبالتالي فلا دخل له في تغيير التكييف القانوني للفعل الجرمي، لأن العبرة بتحقيق الفعل وتوفر الأركان المادية والمعنوية حتى إذا انتفت تلك الأركان يمكن للقاضي أن يغير فصول المتابعة مع وجوب تعليل لذلك حتى لا تضيع حقوق الضحية . لأنه يوجد فرق كبير في العقاب بين بعض الجرائم التي تعتبر اعتداءات جنسية على الأطفال كما هو الشأن بالنسبة للفرق بين جريمة الاغتصاب وجريمة هتك العرض.
الفقرة الثانية: تشديد عقوبة هتك عرض قاصر:
يقصد بهتك العرض كل فعل مخل بالحياء يقع على شخص، أي كل فعل مناف للآداب يقع عمدا ومباشرة على المجني عليه، وفقا لهذا التعريف يشترط في الفعل المخل بالحياء أن يكون على درجة من الفحش والجسامة، وأن يكون هذا الإخلال عمديا، فلا يعد هتك عرض ذلك الفعل الذي يقع بصورة غير عمدية مهما كان خادشا بالحياء، ولا يشترط أن يقع المساس بعورة المجني عليه من قبل الجاني وإنما يتصور ولو كان المجني عليه هو الذي أجبر على المساس بعورة الجاني .
وعكس جريمة الاغتصاب التي لا يمكن أن تقع إلا على أنثى، فإن هتك العرض يمكن أن تقع على أنثى كما يمكن أن تقع على ذكر، بل يمكن أن تقع هذه الجريمة من أنثى على أنثى أو من أنثى على ذكر. وقد استهدف المشرع من تجريمه لأفعال هتك العرض، حماية المناعة الأدبية للأشخاص نظرا لما قد يلحقهم من أذى جراء هتك أعراضهم، خاصة إذا كان المجني عليه قاصرا، لسهولة خداع الطفل أو تهديده أو إكراهه على المساس بعرضه بسبب ضعفه البدني وأيضا لعدم نضج قدراته التي تمكنه من فهم طبيعة الفعل الذي يرتكب عليه، لذا فإنه من اليسير أن يقع ضحيته الجاني.
لهذه الأسباب عاقب القانون الجنائي، بالحبس من سنتين إلى خمس سنوات كل من هتك دون عنف أو حاول هتك عرض قاصر تقل سنه عن ثمان عشرة سنة سواء كان ذكرا أو أنثى . وتشد هذه العقوبة لتصبح هي السجن من خمس إلى عشر سنوات إذا كان الفاعل من أصول الضحية أو ممن لهم سلطة عليها أو وصيا عليها أو خادما بالأجرة عندها أو عند أحد من الأشخاص السالف ذكرهم، أو كان موظفا دينيا أو رئيسا دينيا وكذلك أي شخص استعان في اعتدائه بشخص أو عدة أشخاص أو إذا نتج عن هتك عرض الضحية افتضاضها.
وفقا لهذه المقتضيات، فإن أي هتك لعرض القاصر دون قوة يشكل جريمة معاقبا عليها، عكس الحالة التي يقع فيها هتك عرض شخص تجاوز سن 18 سنه دون عنف إذ لا عقاب في هذه الحالة، إلا إذا شكل الفعل جريمة أخرى كالإخلال العلني بالحياء وبذلك يتبين أن المشرع المغربي اعتبر سن المجني عليه الأقل من 18 عنصرا مكونا للجريمة بحيث إذا بلغ سن الضحية 18 سنة فأكثر، فإن أحد أركان الجريمة يتخلف ومن ثم لا وجود للجريمة.
وإذا كان المشرع المغربي قد نص على عقوبة موحدة لجريمة هتك عرض قاصر مهما كان سنه، فإن المشرع المصري ميز في هذا الخصوص بين القاصر الذي لم يتجاوز سنه سبع سنوات وذلك الذي تجاوز سبع سنين حيث نصت المادة 269 على انه كل من هتك عرض صبي أو صبية لم يبلغ سن كل منهما ثماني عشرة سنة كاملة، بغير قوة أو تهديد يعاقب بالحبس، وإذا كان سنه لم يبلغ سبع سنين كاملة أو كان الجاني من أصول المجني عليه أو ممن يتولون تربيته، فإن العقوبة هي الأشغال الشاقة المؤقتة .
من خلال هذا المقتضى يتبين لنا أن المشرع المغربي أقل تشددا من نظيره المصري في العقاب على جرائم هتك عرض قاصر دون قوة، بل وأقل تشددا من نظيره الفرنسي الذي يرفع الحد الأدنى للعقوبة في هذه الجريمة إلى ثلاث سنوات عكس المشرع المغربي الذي جعل الحد الأدنى لهذه الجريمة سنتين فقط.