تسجيل الدخول

مشاهدة النسخة كاملة : شرح واعراب وبلاغة سورة عبس


حقو29
2011-02-20, 18:22
مكيّة وآياتها ثنتان وأربعون
[سورة عبس (80) : الآيات 1 الى 17]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
عَبَسَ وَتَوَلَّى (1) أَنْ جاءَهُ الْأَعْمى (2) وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى (3) أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرى (4)
أَمَّا مَنِ اسْتَغْنى (5) فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى (6) وَما عَلَيْكَ أَلاَّ يَزَّكَّى (7) وَأَمَّا مَنْ جاءَكَ يَسْعى (8) وَهُوَ يَخْشى (9)
فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى (10) كَلاَّ إِنَّها تَذْكِرَةٌ (11) فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ (12) فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ (13) مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ (14)
بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (15) كِرامٍ بَرَرَةٍ (16) قُتِلَ الْإِنْسانُ ما أَكْفَرَهُ (17)
اللغة :
(

تَصَدَّى) أصلها تتصدى أي تتعرض بالإقبال عليه والمصاداة المعارضة ويقال : تصدى أي تعرض وأصله تصدد من الصدد وهو ما استقبلك وصار قبالتك فأبدل أحد الأمثال حرف علّة وقيل هو من
إعراب القرآن وبيانه ، ج 10 ، ص : 375
الصدى وهو الصوت المسموع في الأماكن الخالية والأجرام الصلبة وقيل من الصدى وهو العطش والمعنى على التعرّض.
الإعراب :
(

عَبَسَ وَتَوَلَّى ، أَنْ جاءَهُ الْأَعْمى ) عبس وتولى فعلان ماضيان مبنيان على الفتح وفاعلهما مستتر تقديره هو وإنما جي ء في هذين الموضعين وفي موضع ثالث بعدهما إجلالا له عليه الصلاة والسلام ولطفا به لما في المشافهة والمجابهة بتاء الخطاب ما لا يخفى ، وأن جاءه في موضع نصب مفعول لأجله وناصبه إما عبس وإما تولى ، وجاءه فعل ماض ومفعول به والأعمى فاعل والأولى أن يقال أن وما بعدها في تأويل مصدر منصوب بنزع الخافض والجار والمجرور متعلقان بعبس لأن المجي ء ليس من أفعال القلوب فاحتل شرط من شروط نصب المفعول لأجله (وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرى ) الواو عاطفة وما اسم استفهام في محل رفع مبتدأ وجملة يدريك خبر والكاف في موضع المفعول الأول ليدري وجملة الترجّي في موضع المفعول الثاني ، ولعله لعلّ واسمها وجملة يزّكّى أي يتطهر خبر لعل وقيل مفعول يدريك الثاني محذوف مقدّر والتقدير وما يدريك أمره ومغبة حاله وجملة لعله يزكّى ابتدائية وأو حرف عطف ويذكر عطف على يزّكّى والفاء هي فاء السببية وتنفعه فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد فاء السببية والهاء مفعول به والذكرى فاعل ، وقرى ء فتنفعه بالرفع على أن الفاء عاطفة وتنفعه بالرفع عطف على أو يذكر (أَمَّا مَنِ اسْتَغْنى فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى وَما عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى) أما حرف شرط وتفصيل ومن اسم موصول مبتدأ وجملة استغنى صلة لا محل لها والفاء رابطة وأنت ضمير بارز منفصل في محل رفع مبتدأ وله متعلقان بتصدى وجملة تصدى خبر
إعراب القرآن وبيانه ، ج 10 ، ص : 376

أنت والجملة الاسمية خبر من والواو حالية وما نافية وعليك خبر مقدم وأن وما في حيّزها مبتدأ مؤخر أي ليس عليك بأس في عدم تزكيته بالإسلام ، واختار أبو حيان أن تكون ما استفهامية للإنكار فتكون مبتدأ وعليك خبرها وألا يزكّى منصوب بنزع الخافض والجار والمجرور متعلقان بما تعلق به عليك أي الاستقرار والجملة حال من الضمير في تصدى (وَأَمَّا مَنْ جاءَكَ يَسْعى ، وَهُوَ يَخْشى فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى) الواو عاطفة وأما حرف شرط وتفصيل ومن اسم موصول في محل رفع مبتدأ وجملة جاءك لا محل لها لأنها صلة من وجملة يسعى حال من فاعل جاءك والواو حالية وهو مبتدأ وجملة يخشى خبر والجملة حال من فاعل يسعى فهي حال متداخلة والفاء رابطة لجواب أما وأنت مبتدأ وعنه متعلقان بتلهى وتلهى أي تتلهى فعل مضارع مرفوع وفاعله مستتر تقديره أنت والجملة خبر وجملة أنت عنه تلهى خبر من أي تتشاغل أي هو من لهى بكذا يلهى أي تشاغل به وليس هو من اللهو في شي ء لأنه مسند إلى ضمير النبي ولا يليق بمنصبه الكريم أن ينسب إليه الفعل من اللهو بخلاف الاشتغال فإنه يجوز أن يصدر عنه في بعض الأحيان ، وفي القاموس « لها لهوا لعب كالتهى وألهاه ذلك ولهي به كرضي أحبه ، وعنه سلا وغفل وترك ذكره ولها كدعا لهّيا ولهيانا وتلهى » (كَلَّا إِنَّها تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ) كلا حرف ردع وزجر لكل إنسان عن ارتكاب مثل المعاتب عليه ، روي أنه عليه السلام ما عبس بعد ذلك في وجه فقير قطّ ولا تصدى لغني ، وإن واسمها وتذكرة خبر إن والضمير للموعظة أو السورة والفاء اعتراضية ومن اسم شرط جازم مبتدأ وشاء فعل ماض في محل جزم فعل الشرط وفاعله هو والمفعول محذوف أي الاتعاظ وذكره فعل ماض وفاعل مستتر ومفعول به وهو في محل جزم جواب الشرط والجملة اعتراضية لا محل لها (فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ بِأَيْدِي سَفَرَةٍ

كِرامٍ بَرَرَةٍ) في صحف خبر ثان لإنها ومكرمة وما بعدها نعت
إعراب القرآن وبيانه ، ج 10 ، ص : 377
لصحف وبأيدي نعت أيضا أو خبر لمبتدأ محذوف وسفرة مضاف إليه وما بعده نعت والسفرة جمع سافر وهو الكاتب ومثله كاتب وكتبة وسفرت بين القوم أسفر سفارة أصلحت بينهم وفي المختار : « و سفر الكتاب كتبه وبابه ضرب » . (قُتِلَ الْإِنْسانُ ما أَكْفَرَهُ) الجملة دعائية لا محل لها ومعنى قتل لعن وعذب والإنسان نائب فاعل وما نكرة تامة بمعنى شي ء
في محل رفع مبتدأ وأكفر فعل ماض وفاعله مستتر وجوبا تقديره هو « هنا خاصة » والهاء مفعول به ، قالوا : قاتله اللّه ما أخبثه وأخزاه اللّه ما أظلمه والمعنى أعجبوا من كفر الإنسان بجميع ما ذكرنا بعد هذا ، وقيل ما استفهامية مبتدأ وجملة أكفره خبر أي أيّ شي ء دعاه إلى الكفر وهو استفهام توبيخ ولا داعي لهذا لأنه تعجب من إفراطه في كفره والتعجب بالنسبة إلى المخلوقين إذ هو مستحيل في حق اللّه تعالى أي هو ممن يقال فيه ما أكفره وللزمخشري عبارة مستحسنة قال « ما أكفره تعجب من إفراطه في كفران النعمة ولا ترى أسلوبا أغلظ منه ولا أخشن مسّا ولا أدلّ على سخط ولا أبعد شوطا في المذمّة مع تقارب طرفيه ولا أجمع للأئمة على قصر متنه » .
الفوائد :
روى التاريخ : أن عبد اللّه بن أم مكتوم بن شريح بن مالك بن ربيعة الفهري من بني عامر بن لؤي ، وأم مكتوم أم أبيه واسمها عاتكة بنت عامر المخزومي وهو ابن خالة خديجة بنت خويلد ، الذي في النووي على مسلم أن ابن أم مكتوم اسمه عبد اللّه بن عمرو وأم مكتوم زوجة عمرو فهي أم عبد اللّه وقيل اسمه عمرو واسم أبيه زائد ، جاءه وعنده صناديد قريش عتبة وشيبة ابنا ربيعة وأبو جهل بن هشام والعباس بن عبد المطلب وأمية بن خلف والوليد بن المغيرة يدعوهم إلى
إعراب القرآن وبيانه ، ج 10 ، ص : 378

الإسلام رجاء أن يسلم أولئك الأشراف الذين كان يخاطبهم فيتأيّد بهم الإسلام ويسلم بإسلامهم أتباعهم فتعلو كلمة اللّه تعالى فقال : يا رسول اللّه أقرئني وعلّمني مما علّمك اللّه تعالى وكرر ذلك وهو لا يعلم تشاغله بالقوم فكره رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم قطعه لكلامه وعبس وأعرض عنه فنزلت فكان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم يكرمه ويقول إذا رآه : مرحبا بمن عاتبني فيه ربي ويقول له : هل لك من حاجة واستخلفه على المدينة مرتين. قال القرطبي : « و هذا كله غلط من المفسرين لأن أمية والوليد كانا بمكة وابن أم مكتوم كان بالمدينة ما حضر معهما وماتا كافرين أحدهما قبل الهجرة والآخر في بدر ولم يقصد قطّ أمية المدينة ولا حضر معه مفردا ولا مع أحد » . وقال أبو حيان :
« و الغلط من القرطبي كيف ينفي حضور ابن أم مكتوم معهما وهو وهم منه وكلهم من قريش وكان ابن أم مكتوم بها والسورة مكية كلها بالإجماع وكيف يقول : وابن أم مكتوم بالمدينة كان أولا بمكة ثم هاجر إلى المدينة وكانوا جميعا بمكة حين نزول هذه الآية » . وهناك رواية أخرى ذهب إليها بعضهم وهي أن المحدّث عنه بالعبوس ليس النبي صلّى اللّه عليه وسلم بل هو رجل من بني أمية وهو الذي عبس لما أتى ابن أم مكتوم لأن العبوس كما يقول الشريف المرتضى ليس من صفاته صلّى اللّه عليه وسلم مع الأعداء المباينين فضلا عن المؤمنين المسترشدين. وهذا كله يراه القارئ في المطولات فليرجع إليها إن شاء.
[سورة عبس (80) : الآيات 18 الى 42]
مِنْ أَيِّ شَيْ ءٍ خَلَقَهُ (18) مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ (19) ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ (20) ثُمَّ أَماتَهُ فَأَقْبَرَهُ (21) ثُمَّ إِذا شاءَ أَنْشَرَهُ (22)

كَلاَّ لَمَّا يَقْضِ ما أَمَرَهُ (23) فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ إِلى طَعامِهِ (24) أَنَّا صَبَبْنَا الْماءَ صَبًّا (25) ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا (26) فَأَنْبَتْنا فِيها حَبًّا (27)
وَ عِنَباً وَقَضْباً (28) وَزَيْتُوناً وَنَخْلاً (29) وَحَدائِقَ غُلْباً (30) وَفاكِهَةً وَأَبًّا (31) مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ (32)
فَإِذا جاءَتِ الصَّاخَّةُ (33) يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (35) وَصاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (36) لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ (37)
وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ (38) ضاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ (39) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ (40) تَرْهَقُها قَتَرَةٌ (41) أُولئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ (42)
إعراب القرآن وبيانه ، ج 10 ، ص : 379
اللغة :
(غُلْباً) جمع أغلب كحمر في أحمر وحمراء يقال : حديقة غلباء أي غليظة الشجر ملتفة الحدائق فالحدائق ذات أشجار غلاظ فهو مجاز مرسل كالمرسن بمعنى الغليظ مطلقا وفيه تجوّز في الإسناد أيضا لأن الحدائق نفسها ليست غليظة بل الغليظ أشجارها ، وعبارة الزمخشري :
« و يحتمل أن يجعل كل حديقة غلباء فيريد تكاتفها وكثرة أشجارها وعظمها كما تقول : حديقة ضخمة وأن يجعل شجرها غلبا أي عظاما غلاظا والأصل في الوصف بالغلب الرقاب فاستعير : قال عمرو بن معد يكرب :
إعراب القرآن وبيانه ، ج 10 ، ص : 380
يمشي بها غلب الرقاب كأنهم بزل كسّين من الكحيل جلالا »

و يقال أسد أغلب أي غليظ العنق والقلب جمعه ثم استعير لكل غليظ ، والبزل جمع بازل للمذكر والمؤنث من الإبل إذا انفطر نابه وذلك في السنة التاسعة ، والكحيل القطران ، والجلال جمع جلّ ، يصف مفازة تمشي فيها أسود غلاظ الأعناق كأنها فتيات من الإبل دهنت بالقطران حتى صار عليها كالجلال ، فكسين استعارة مصرّحة والجلال ترشيح ويروى كأنهم باستعارة ضمير العقلاء لغيرهم.
و في الأساس واللسان ما خلاصته : « بينهما غلاب أي مغالبة وتغالبوا على البلد وغلبته على الشي ء : أخذته منه وهو مغلوب عليه وأ يغلب أحدكم أن يصاحب الناس معروفا بمعنى أيعجز وهو رجل حر وقد أبى أفنغلبه على نفسه : أفنكرهه ، وشاعر مغلّب : غلب كثيرا أو غلّب فهو ذم ومدح ، قال امرؤ القيس :
فإنك لم يفخر عليك كعاجز ضعيف ولم يغلبك مغلّب
و من المجاز : هضبة غلباء وعزة غلباء واغلولب العشب وحدائق غلبا » .
(أَبًّا) في المصباح : « الأبّ : المرعى الذي لم يزرعه الناس مما تأكله الدواب والأنعام » ويبدو أنه مأخوذ من أبه إذا قصده لأنه يؤم وينتجع له أو من أب لكذا إذا تهيأ له لأنه متهيى ء للرعي وعبارة الزمخشري : « و الأب المرعى لأنه يؤب أي يؤم وينتجع والأب والأم أخوان ، قال :
جذمنا قيس ونجد دارنا ولنا الأبّ به والمكرع »
و الجذم بالكسر وقد يفتح الأصل الذي يقتطع منه غيره والأب
إعراب القرآن وبيانه ، ج 10 ، ص : 381
و الأم بالفتح والتشديد بمعنى المرعى لأنه يؤبّ ويؤمّ أي يقصد والمكرع : المنهل. يقول : نحن من قبيلة قيس ونجد هي دارنا ولنا به أي في نجد المرعى والمروي وفيه تمدح بالشرف والشجاعة.

و قيل إن الصحابة وهم أهل الحجاز وأصحاب اللغة التي نزل بها القرآن لم يفهموا بعض الغريب في آيات الكتاب ، من ذلك ما أخرجه أبو عبيد في الفضائل عن إبراهيم التيمي أن أبا بكر الصديق سئل عن قوله تعالى : « و فاكهة وأبا » فقال : أي سماء تظلّني وأي أرض تقلّني إن أنا قلت في كتاب اللّه ما لا أعلم. ونقل عن أنس أن عمر بن الخطاب قرأ على المنبر « و فاكهة وأبا » فقال : هذه الفاكهة قد عرفناها فما الأب؟
ثم رجع إلى نفسه فقال : إن هذا لهو الكلف يا عمر ، وفي رواية ثم رفض عصا كانت بيده وقال : هذا لعمر اللّه التكلف وما عليك يا ابن أم عمر أن لا تدري ما الأبّ ثم قال : اتبعوا ما تبين لكم من هذا الكتاب وما لا فدعوه. وقد علّق الزمخشري على كلمة عمر تعليقا بديعا نورده فيما يلي :
« فإن قلت فهذا يشبه النهي عن تتبع معاني القرآن والبحث عن مشكلاته قلت : لم يذهب إلى ذلك ولكن القوم كانت أكبر همتهم عاكفة على العمل وكان التشاغل بشي ء من العلم لا يعمل به تكلفا عندهم فأراد أن الآية مسوقة في الامتنان على الإنسان بمطعمه واستدعاء شكره وقد علم من فحوى الآية أن الأب بعض ما أنبته اللّه للإنسان متاعا له ولأنعامه فعليك بما هو أهم من النهوض بالشكر للّه على ما تبين لك ولم يشكل مما عدّد من نعمه ، ولا تتشاغل عنه بطلب معنى الأبّ ومعرفة البنات الخاص الذي هو اسم له واكتف بالمعرفة الجملية إلى أن يتبين لك في غير هذا الوقت ، ثم وصّى الناس بأن يجروا على هذا السنن فيما أشبه ذلك من مشكلات القرآن » .
إعراب القرآن وبيانه ، ج 10 ، ص : 382
كيف بدأ تفسير القرآن؟

و نرى استيفاء لهذا البحث الهام أن نعرض لهذا الموضوع بشي ء من التفصيل لعلاقته التامة بالمنهج الذي جرينا عليه في هذا الكتاب فالواقع أن القرآن شغل طوائف كثيرة من الناس فترة من الزمن ، شغل به أهل الإيمان ، وتتبعه أهل الكفر كلّ من ناحية اهتمامه ، وأول ما بدأت دراسات القرآن وتفسيره زمن الرسول صلّى اللّه عليه وسلم ففي عهده نرى أعرابيا يسأله في معنى بعض ألفاظ القرآن في مثل قوله تعالى « و لم يلبسوا إيمانهم بظلم » قائلا : وأيّنا لم يظلم نفسه؟ وفسّره النبي صلّى اللّه عليه وسلم بالشرك واستشهد عليه بقوله تعالى : « إن الشرك لظلم عظيم » وروي عن النبي صلّى اللّه عليه وسلم في كتب الحديث كالبخاري ومسلم وغيرها كثير من الأحاديث التي تتعلق بتفسير القرآن وبعضها ينحصر في ذكر فضائله وتفسير بعض آياته تفسيرا مختصرا يبيّن وجه التشريع أو الموعظة في الآية وروي عن أبي هريرة أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم قال : « إنه ليأتي الرجل العظيم السمين يوم القيامة فلا يزن عند اللّه جناح بعوضة اقرءوا إن شئتم : فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا » على أنه قد لا يوضع موضع الاعتبار كل ما جاء من الحديث في التفسير ، فأحمد بن حنبل- في القرن الثالث الهجري- يقول : ثلاثة أشياء لا أصل لها : التفسير والملاحم والمغازي ، ولعلّه يقصد بالتفسير الذي خلط فيه الناس بين الصحيح وغير الصحيح من الحديث مما كان مدار أخذ وردّ وقول كثيرين في عصره.
على أن الصحابة وقفوا في صدر الإسلام موقفين : متحرّج من القول في القرآن ومن هؤلاء أبو بكر وعمر وعبد اللّه بن عمر وغيرهم وكان عبد اللّه يأخذ على ابن عباس تفسيره القرآن بالشعر والقسم الثاني الذين لم يتحرّجوا وفسّروا القرآن حسب ما فهموا من الرسول أو حسب
إعراب القرآن وبيانه ، ج 10 ، ص : 383

فهمهم الخاص بالمقارنة إلى الشعر العربي وكلام العرب ومن هؤلاء علي بن أبي طالب وعبد اللّه بن عباس ومن أخذ عنهما وقد وقف ابن عباس على رأس المفسرين بالرأي المتخذين شعر العرب وسيلة إلى كشف معاني القرآن وكان علي بن أبي طالب يثني على ابن عباس ويقول : كأنما ينظر إلى الغيب من ستر رقيق.
و في كامل المبرد وأغاني أبي الفرج الأصبهاني أنه دخل عمر بن أبي ربيعة وهو غلام على ابن عباس وعنده نافع بن الأرزق فقال له ابن عباس : ألا تنشدنا شيئا من شعرك يا ابن أخي؟ فأنشده :
أمن آل نعم أنت غاد فمبكر غداة غد أوم رائح فمهجر
حتى أتمّها وهي ثمانون بيتا فقال له الأزرق : للّه أنت يا ابن عباس أنضرب إليك أكباد الإبل نسألك عن الدين ويأتيك غلام من قريش ينشدك سفها فتسمعه فقال : تاللّه ما سمعت سفها فقال : أما أنشدك؟
رأت رجلا أما إذا الشمس عارضت فيخزى وأما بالعشي فيخسر
فقال : ما هكذا قال إنما قال : فيضحى وأما بالعشي فيخصر ، قال : أو تحفظ الذي قال؟ فقال واللّه ما سمعتها إلا ساعتي هذه ثم أنشدها من أولها إلى آخرها فقيل له : ما رأينا أروى منك فقال : ما سمعت شيئا قطّ فنسيته وإني لأسمع صوت النائحة فأسدّ أذني كراهة أن أحفظ ما تقول ، ثم إن نافعا اتفق له أنه سأل ابن عباس عن قوله تعالى « لا تظمأ فيها ولا تضحى » قال : لا تعرق فيها من شدة حرّ الشمس قال :
و هل تعرف العرب ذلك؟ قال : نعم أما سمعت قول الشاعر « فيضحى » ومن هؤلاء الصحابة الذين يذهبون هذا المذهب ابن مسعود وأبيّ بن كعب وغيرهما وتبعهم الحسن البصري وسعيد بن جبير ومجاهد وعكرمة وقتادة والسدي وغيرهم.
إعراب القرآن وبيانه ، ج 10 ، ص : 384
(

الصَّاخَّةُ) في المختار : « الصاخة : الصيحة تصمّ بشدتها تقول صخ الصوت من باب ردّ ومنه سمّيت القيامة الصاخة » وقال الزمخشري : « صخ لحديثه مثل أصاخ له فوصفت النفخة بالصاخة مجازا لأن الناس يصخون لها » وقال أبو بكر بن العربي : « الصاخة هي التي تورث الصمم وإنها لمسمعة وهذا من بديع الفصاحة كقوله :
أصمّهم سرّهم أيام فرقتهم فهل سمعتم بسر يورث الصمما
و قول أبي تمام :
أصم بك الناعي وإن كان اسمعا وأصبح مغنى الجود بعدك بلقعا
و لعمر اللّه أن صيحة القيامة مسمعة تصمّ عن الدنيا وتسمع أمور الآخرة.
(تَرْهَقُها) في المختار : « رهقه غشيه باب طرب ومنه قوله تعالى :
و لا يرهق وجوههم قتر ولا ذلّة ، وفي الحديث : إذا صلّى أحدكم على الشي ء فليرهقه أي فليغشه ولا يبعد عنه » .
(قَتَرَةٌ) سواد كالدخان ولا ترى أوحش من اجتماع الغبرة والسواد في الوجه.
الإعراب :
(مِنْ أَيِّ شَيْ ءٍ خَلَقَهُ مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ) جملة مستأنفة مسوقة للشروع في بيان ما أنعم عليه بعد المبالغة في وصفه بكفران نعم خالقه ، ومن أيّ شي ء متعلقان بخلقه والاستفهام للتقرير مع التحقير جمع بينهما بعض المفسرين فقال : « هنا الاستفهام لتقرير التحقير ، ومن
إعراب القرآن وبيانه ، ج 10 ، ص : 385

نطفة بدل بإعادة الجار من قوله من أي شي ء خلقه والفاء للترتيب في الذكر وقدّره فعل ماض وفاعل مستتر جوازا تقديره هو ومفعول به (ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ ثُمَّ أَماتَهُ فَأَقْبَرَهُ ثُمَّ إِذا شاءَ أَنْشَرَهُ) ثم حرف عطف للترتيب مع التراخي والسبيل منصوب على الاشتغال بفعل مقدّر تقديره ثم يسّر السبيل يسّره والتعريف لإفادة العموم ، وجملة يسّره مفسّرة ، وعبارة السمين : قوله ثم السبيل يسّره يجوز أن يكون الضمير للإنسان والسبيل ظرف أي يسّر للإنسان الطريق أي طريق الخير أو الشر كقوله وهديناه النجدين ، وقال أبو البقاء : ويجوز أن ينتصب بأنه مفعول ثان ليسّره والهاء للإنسان أي يسّره للسبيل أي هداه له قلت فلا بدّ من تضمينه معنى أعطى حتى ينصب اثنين أو يحذف حرف الجر أي يسّره للسبيل أي هداه له. وما بعده عطف عليه ، وقال فأقبره ولم يقل فقبره لأن القابر هو الدافن بيده والمقبر هو اللّه تعالى يقال :

قبر الميت إذا دفنه بيده وأقبره إذا أمر غيره أن يجعله في قبر ، ومفعول المشيئة محذوف والتقدير إذا شاء إنشاره (كَلَّا لَمَّا يَقْضِ ما أَمَرَهُ) ردع وزجر للإنسان المسترسل في عمايته المغترّ باغتراره المتطاول تيها بعجبه ولما حرف نفي جازم ويقض فعل مضارع مجزوم بلما وعلامة جزمه حذف حرف العلة وجزم بلما للدلالة على أن العجب والكبر ما زالا يلازمان الإنسان حتى الساعة التي هو فيها وما مفعول به وجملة أمره صلة والعائد محذوف أي به (فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ إِلى طَعامِهِ) كلام مستأنف مسوق للشروع في تعداد النعم المترادفة على الإنسان واللام لام الأمر وينظر فعل مضارع مجزوم بلام الأمر والإنسان فاعل وإلى طعامه متعلقان بينظر (أَنَّا صَبَبْنَا الْماءَ صَبًّا) أنّا بفتح الهمزة وهي وما بعدها في تأويل مصدر في محل جر بدل اشتمال من طعامه والمعنى أن صبّ الماء سبب في إخراج الطعام فهو مشتمل عليه وقرى ء بكسر الهمزة على الاستئناف المبين لكيفية إحداث الطعام وأن واسمها وجملة
إعراب القرآن وبيانه ، ج 10 ، ص : 386

صببنا فعل وفاعل والماء مفعول به وصبا مفعول مطلق (ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا) عطف على الجملة السابقة مماثلة لها في إعرابها ، وسيأتي سرّ إسناد الشقّ له تعالى في باب البلاغة (فَأَنْبَتْنا فِيها حَبًّا وَعِنَباً وَقَضْباً وَزَيْتُوناً وَنَخْلًا وَحَدائِقَ غُلْباً وَفاكِهَةً وَأَبًّا) الفاء عاطفة وأنبتنا فعل وفاعل وفيها متعلقان بأنبتنا وحبا مفعول به وما بعده عطف عليه.

و القضب والقضبة : الرطبة (مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ) متاعا مصدر مؤكد لأنبتنا لأن إنباته الأشياء إمتاع لجميع الكائنات الحيّة أو مفعول لأجله والعامل فيه محذوف تقديره فعل ذلك متاعا لكم ، ولكم متعلقان بمتاعا ولأنعامكم عطف على لكم (فَإِذا جاءَتِ الصَّاخَّةُ يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ وَصاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ) الفاء استئنافية والكلام مستأنف مسوق للشروع في بيان أحوالهم يوم المعاد ولك أن تجعل الفاء عاطفة والكلام معطوف لترتيب ما بعدها على ما قبلها من النعم السوابغ والآلاء المترادفة ، وإذا ظرف مستقبل متضمن معنى الشرط متعلق بالجواب المحذوف المفهوم من قوله لكل امرئ والتقدير اشتغل كل واحد بنفسه ، وجملة جاءت في محل جر بإضافة الظرف إليها والصاخة فاعل ويوم بدل من إذا أي يفرّ فيه وجملة يفرّ في محل جر بإضافة الظرف إليها والمرء فاعل ومن أخيه متعلقان بيفر وما بعده عطف على أخيه ولكل امرئ خبر مقدّم ومنهم نعت لامرى ء ويومئذ ظرف أضيف إلى مثله وهو متعلق بيفنيه والتنوين عوض عن أي يوم إذ حصلت هذه الأمور المتعددة وشأن مبتدأ مؤخر وجملة يغنيه نعت لشأن (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ ضاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ) وجوه مبتدأ سوّغ الابتداء به مع أنه نكرة التنويع ويومئذ ظرف أضيف لمثله متعلق بمسفرة والتنوين عوض عن جملة ومسفرة خبر وجوه وضاحكة ومستبشرة خبران آخران لوجوه (وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ تَرْهَقُها قَتَرَةٌ) الواو عاطفة ووجوه مبتدأ ويومئذ ظرف أضيف لمثله متعلق بترهقها وعليها خبر مقدم وغبرة مبتدأ
إعراب القرآن وبيانه ، ج 10 ، ص : 387

مؤخر والجملة خبر وجوه وجملة ترهقها قترة خبر ثان لوجوه وترهقها فعل مضارع ومفعول به مقدم وقترة مبتدأ مؤخر (أُولئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ) أولئك مبتدأ وهم ضمير فصل أو مبتدأ ثان والكفرة الفجرة خبران لأولئك أو لهم والجملة خبر أولئك.
البلاغة :
الإسناد المجازي في قوله : (ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا) إسناد مجازي ، فقد أسند تعالى الشق إلى نفسه من باب إسناد الفعل إلى السبب وقيل الإسناد حقيقي وإن القول بمجازيته هو من أقوال المعتزلة ، ولكن البيضاوي نفسه يتبع الزمخشري في مجازية الإسناد فيقول : أسند الشق إلى نفسه تعالى إسناد الفعل إلى السبب ، والحق مع الزمخشري في هذا فإن مجازيته لا تعني أن أفعال العباد مخلوقة لهم لأن الفعل إنما يسند حقيقة لمن قام به لا لمن أوجده فالاعتراض عليه تعسّف.
إعراب القرآن وبيانه ، ج 10 ، ص : 388

اميره 2008
2011-02-21, 16:09
بارك الله فيكككك