تسجيل الدخول

مشاهدة النسخة كاملة : حياه العرب الاجتماعية والفكرية في خُراسان وبلاد ما وراء النهر


dmd39
2011-02-12, 23:02
تمهيد
هذا البحث مقتبس من دراسة علمية عنوانها (القبائل العربية في خُراسان وبلاد ما وراء النهر في العصر الأموي) وهي تبحث في جوانب تاريخية وحضارية مهمة ، وتسعى إلى التعرف على شتى نواحي الحياة الفكرية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية في تلك المناطق.
ولم يكن ذلك ممكناً لو اقتصرت تلك الدراسة على تواريخ المشاهير من الحكام والولاة وتدوين آثارهم، ولكنها تجاوزت ذلك إلى الغوص في أحوال الشعوب ، والالتفاف حول شؤون الحياة المعاشة وحوادثها ومؤثراتها ، فاكتسبت الدراسة تنوعاً شمولياً يتمركز حول حياه القبائل العربية باعتبارها الشعب الجديد الذي فتح خُراسان ، ونشر الإسلام فيها ، واستقر في حواضرها ، فصبغها بالصبغة العربية الإسلامية ، وجعل مواطنه هناك مراكز للتعريب انتشرت منها اللغة إلى أقاليم عدة، وقواعد صلبة انطلقت منها الجيوش الفاتحة إلى بلاد ما وراء النهر ؛ حتى نتج عن ذلك إنشاء مراكز استقرار أخرى ومواطن تعريب جديدة، وقواعد متعددة تؤمن العمليات الجهادية المنطلقة شرقاً إلى حدود الصين .
وكانت القبائل هي صاحبة الحركة الحيّة الفعّالة في التاريخ الخُراساني أبـَّان العصر الأموي ، فمنها المستوطنون الجدد، ومنها القادة والولاة والأمراء والقضاة والعلماء والشعراء ، ومنها أصحاب الثورات والفتن .
وحدث التأثير المتبادل بين القبائل العربية وسكان البلاد الأصليين لكن العرب لم يلغوا انتماءهم ، بل هو قد اتسع وتنوَّع ، فانتموا إلى الأصول العربية الكبرى حين ابتعدوا عن مواطنهم الأولى ، كما انتموا إلى الخُطط التي عرفوا بها مع انتمائهم إلى المدن والقرى التي يعيشون فيها ، في خُراسان وبلاد ما وراء النهر ، وكل ذلك في ظل الإسلام وفي دائرة فلكه، كما أنَّ سكان البلاد الأصليين لم يلغوا انتماءهم إلى أمصارهم وأقاليمهم لكنهم عرفوا مع ذلك نظام المعاهدة التي أصبحوا بموجبها منتمين إلى القبائل العربية حلفاً، بدون تمايز طبقي يفرق بين المحالف والحليف ؛ لأن الإسلام يمنع ذلك ويرفضه، بعكس نظام حلف العرب الجاهلي الذي يقر الطبقية بين المتحالفين.


وانعكست آثار الاحتكاك بين العنصرين العربي والعجمي على جوانب عديدة في حياة خُراسان وبلاد ما وراء النهر ، فتعددت المباحث اللازمة لهذه الدراسة ، واتسعت مع مراعاة الحوادث السياسية، وتتبع المطاعن الكثيرة التي وُجّهت إلى تاريخ تلك الفترة لبيان أنَّ ما قيل عن اضطهاد العرب لسكان البلاد الأصليين (الموالي) ما هو إلا مجرد وهم وافتراء جاء إمَّا نتيجة للانسياق وراء الفكر الشعوبي أو للتأثر بالدراسات الاستشراقية غير المنصفة .

فالعرب لم يحرموا الموالي من المناصب، ولا الموالي منعوا من العطاء، أما اللَّبس الحاصل بشأن الضرائب فهو نتيجة للخلط بين مفهومي الخراج والجزية ، وعدم التمييز بينهما ، أو هو مغالطة مقصودة للـتأكيد على ظلم العرب للموالي ، مع تجاهل أن العجمي ( المولى ) قد ظل مساوياً للعربي في المنزلة والعطاء والرزق، وأنَّ من يحاول أنْ يحرم الموالي من عطائهم يكون عرضة للعقوبة والجزاء، وكل ذلك قد تمت مناقشته في هذه الدراسة وبيانه ، مع إيضاح أنَّ الأرض الخراجية تظل خراجية سواءً كان صاحبها مسلماً أو كافراً عربياً أو عجمياً ، أمَّا الجزية فلم يُعرف في تاريخ خُراسان وبلاد ما وراء النهر في عصر بني أمية أنها أخذت ممن أسلم ، وحين حاول أشرس السلمي فرضها بمشورة من بعض العجم أنكرها العرب والعجم على حد سواء.
وكذلك فإنه لا يوجد سند تاريخي لما يقال عن وجود تمايز طبقي رفع العرب بموجبه أنفسهم عن الموالي ،فلم تشر المصادر التاريخية الموثوقة إلى ذلك ولا الدراسات المنصفة ألمحت إليه، وليس ما ورد في بعض الحوادث الفردية مما يصلح لأن يكون حكماً عاماً تبُنى عليه الأسس العلمية للبحوث، كما أن مصادر الأدب وأخبار الظرفاء والشعراء التي أوحت بالتمايز ،وألحت في بيان الفارق الطبقي في مسألة المعاهدة لا يركن إليها في البحوث التاريخية ، فهي إمَّا قصص تعتمد الخيال ،أو تسلية تنـزع إلى التشويق من خلال المبالغة والتهويل.
كما أنَّ أحكام بعض الباحثين قد أغفلت النفسية العربية البدوية حين مناقشة رفض العرب الأصهار إلى الموالي، ونسيت العادة التي تمليها أنفة العربي من الأصهار إلى بعض الأقوام ،حتى ولو كانوا من بني جنسه العرب، تلك الأنفة التي تتضح حينما يكون العربي قريباً من بداوته ،وتكاد تتلاشى حين يتحضر وتتشبع روحه بالإيمان، وغفلت أيضاً عن أن أنفة العرب هذه لم تمنع من وجود مصاهرات عديدة بين العرب والعجم ،كان من نتيجتها أن عدداً من مشاهير العرب في خُراسان ينتمون إلى أمهات أعجميات(1).
ومن الافتراءات المضللة ما ورد بأن الموالي في خُراسان وبلاد ما وراء النهر قد انشبوا عدداً من الثورات تمرداً على الحكم العربي الإسلامي في عهد بني أمية ، بما معناه أن الإيمان لم يدخل في قلوب أولئك القوم ، وقد بينّت الدراسة أن هذا الزعم مرفوض، واشتراك بعض الموالي في ثورة الحارث بن سريج التميمي لا يعني أنَّ هذه الثورة خاصة بهم، فصاحبها عربي صليبة ، وكما انضوى تحت لوائها أناس من الموالي فإنَّ أقواماً من العرب قد اشتركوا فيها، وكذلك الشأن فيما يعرف بثورة الموالي أثناء إمرة أشرس السلمي ، فقد كانت عربية عجمية، أما ضعف إيمان أولئك القوم فمردود بكون منطقة خُراسان وبلاد ما وراء النهر أسرع الأقاليم الإسلامية المفتوحة تعرباً ، ومن أقواها تعمقاً في الدين ؛ حتى غدا أهلها مصادر يتلقى عنهم الناس في العراق والشام ومصر العلوم الشرعية، وبرز فيهم مشاهير في القضاء والفتيا.
وبيَّنت هذه الدراسة أيضاً أن الدعوة العباسية قد نمت بين ظهراني العرب وأنَّ دعوى أنَّ الموالي ثاروا على الحكم الأموي بتبنيهم الدعوة العباسية دعوى متهافتة، وفرية رددها كثير من المؤلفين، ووردت في مصنفات عدة يباهي بعض أصحابها بأنها تعتمد على المنهجية العلمية والموضوعية في البحث ، وهي أبعد ما تكون عن ذلك، إذ كيف تكون موضوعية وهي تصطدم بالأدلة والوقائع التاريخية التي تمَّ بيانها في هذا البحث بعد استقائها من مظانها الأصلية، وبعد بيان أن الحنق والضيق اللذين قيل أنهما يحيطان بحياة الموالي ودفعاهم إلى الثورة إنما ضُخم أمرهما كتضخيم أمر العصبية القبلية ؛ نفاذاً إلى القول بأن الموالي رفضوا الظلم العربي المطبق المزعوم ، فأقاموا دولة بني العباس بمظهر فارسي على أنقاض الدولة الأموية ذات المظهر العربي ، مع تناسي وتجاهل الدور الرئيس الكبير للقبائل العربية في قيام الدولة العباسية، ذلك الدور الذي تحملته القبائل العربية بشقية الفكري والعسكري فقام بالنشاط الفكري زعيم النقباء سليمان بن كثير حتى نمت الدعوة في خُراسان وترعرعت ،يسانده في ذلك النقباء العرب(2) وقام بالنشاط العسكري قواد عرب ساروا بالجيوش لهدم الدولة الأموية وفي مقدمة هؤلاء قحطبة بن شبيب وابنه الحسن.
وهكذا فإن كثيراً من الأحكام التعميمية التي أخذت على أنها مسلمات في تاريخ العرب في خُراسان كموضوع العصبية، ودور العرب والموالي في الحوادث السياسية احتاجت إلى كثير من المناقشة المتأنية، وإعادة النظر للوصول إلى تنقية تاريخ تلك الفترة مما علق به من شوائب ،ومما ألصق به من المفتريات التي تلقفها كثير من أصحاب المصنفات العلمية على أنها وقائع ثابتة لا تقبل الجدل.
وكل هذا تمت مناقشته في هذه الدراسة ، وهي رسالتي لدرجة الدكتوراه التي نشرتُ وما زلت أنشر فصولاً مطولة منها في مجلة الدرعية ،وأخرى في هذه المجلة مع ما رأيت إضافته إليها، أمٌا الموضوع الذي أناقشه الآن فهو جزء من فصل في الدراسة يحمل اسم ( حياة القبائل العربية الاقتصادية والاجتماعية والفكرية في خُراسان وبلاد ما وراء النهر) وكان مكوناً من أربعة مباحث علمية في خطة الدراسة التي تقدمت بها للكلية وهي :
1- علاقة القبائل العربية بالأعاجم
2- موقف القبائل العربية من الحياة الجديدة وأهم الأعمال التي زاولها العرب
3- موقف القبائل العربية من الفتن المذهبية
4- شعر القبائل العربية في خُراسان وبلاد ما وراء النهر وأثر اللغة والأدب العربيين في تلك البلاد.
وعند عرض الخطة على القسم المختص في الكلية رأى أعضاؤه إضافة مبحثاً خامساً هو (جهود العلماء العرب في خُراسان وبلاد ما وراء النهر في الدراسات الشرعية)
وقد نشرتُ هذا المبحث في مجلة الفيصل , واتطلع إلى نشر المبحث الأول عن (علاقة القبائل العربية بالأعاجم) والمبحث الرابع وهو( عن شعر القبائل العربية في خرا سان وبلاد ما وراء النهر وأثر اللغة والأدب العربيين في تلك البلاد) لاحقاً في إحدى المجلات المتخصصة.
أما المبحث الثاني والثالث فهما عنوان هذا الموضوع الذي وضعت له العنوان التالي : (حياة العرب الاجتماعية والفكرية في خرا سان وبلاد ما وراء النهر في العصر الأموي) فإلى القسم الأول منه وهو:
1) موقف القبائل العربية من الحياة الجديدة ، وأهم الأعمال التي زاولها العرب في خُراسان وبلاد ما وراء النهر
دخل العرب المسلمون أرض خُراسان فأصبحت بلاداً إسلامية وجزءاً مهماً من ديار الخلافة وجناحاً شرقياً له وزنه السياسي والاقتصادي والثقافي، وانتمى الخراسانيون إلى الإسلام ثقافة وفكراً وإلى العرب ولاءً(3) فالخراساني معروف بالقبيلة التي يحالفها في ظل الإسلام وفي دائرته، ولا يعني هذا أنَ الخراساني أهمل انتماءه إلى أرضه أو بلدته ، فهو منسوب إليها موطناً كما هو منسوب إلى القبيلة العربية حلفاً فيقال: الهروي التميمي، والبَلْخي السلمي، والمروزي الشيباني وهكذا .
وفي المقابل فإن أبناء القبائل العربية قد عرفوا بخُراسان ، وشهروا في بلادهم التي أصبحوا ينسبون إليها بعد أن استوطنوها ، فيقال لهم : عرب خُراسان وجند خُراسان وبعوث خُراسان ومقاتلة خُراسان وأهل خُراسان وقبائل خُراسان وفلان الخراساني والنيسابوري والنسائي والسغدي و السمرقندي والبخاري ، ويُقال ذلك لمن سكن هذه البلاد ، ويُنسب إلى البلاد الأخرى من يسكنها من العرب الأقحاح ،
ويلاحظ أنَّ تطاول الأزمان والانصهار في بوتقة الحياة الحضرية قد جعل أهل خُراسان يغفلون الانتساب إلى القبائل ويكتفون بالانتساب إلى المدن والقرى التي يعيشون فيها ، وقد أدى ذلك إلى تقلص المظهر العربي وانكماشه.
ولم يؤد نفور العرب في بداية أمرهم من مزاولة الأعمال إلى الترفع عن الاتصال بالأعاجم والاحتكاك بهم بل ومحاكاتهم في اللبس(4) وحضور احتفالات الأعياد والمهرجانات التي يقيمونها (5) فلبس العرب سراويل الأعاجم ، وتفننوا في اختيارها ، واحتفلوا بالمهرجانات، وعيد النيروز ، وقبلوا فيها الهدايا من العجم، وكان الولاة والأهالي في ذلك على حد سواء، واشتهر من بين الولاة أسد القسري الذي كان يحضر المهرجانات الأعجمية ويسامر الدهاقين(6) .
على أنهُّ ومع ما يلاحظ من أنَّ عملية استيطان العرب في خُراسان قد بدأت منذ مطلع العصر الأموي(7) إلاَّ أنَّ مزاولة العرب للأعمال المختلفة قد بدأت ضعيفة، ولعل السبب في ذلك يكمن في أنَّ دَفْع أفواج من العرب إلى خُراسان قد قُصد به تثبيت الأمن بالدرجة الأولى ، إذ إنَّ كراهة العرب للتجمير(8) تدفع بالمدن والبلدان إلى التمرد والانتقاض على الحاميات التي يخلفها الفاتحون وراءهم، وقد لاقى المسلمون الأمرين من ذلك ؛ ولذا كان لابد من بقاء أعداد كبيرة من العرب في البلاد المفتوحة لحفظ البلاد من الفتن ومنع الثورات(9) وكان بعث العرب إلى خُراسان بعيالاتهم أسلوباً حكيماً قصد منه بث روح الطمأنينة في نفوس المقاتلين، وتفرغهم للفتوح هناك ، إذ إن انشغالهم النفسي بزوجاتهم وأبنائهم في العراق يزعزع طمأنينتهم ويشل تفكيرهم(10) .
وقد ورد في بعض وثائق الصلح أن بعض قادة الفتح طلبوا من أهل خُراسان أن يوسعوا للعرب في منازلهم(11) غير أن الملاحظ أن العرب اختاروا القرى والأماكن النائية عن المدن(12) مكاناً لسكناهم تمشياً مع أمزجتهم التي تميل إلى ذلك ، وهذا أبعدهم عن الاحتكاك المباشر بالتجار وأصحاب الصناعات والحرف اليدوية، ولعل العرب قد ألفوا تلك المقولة التي تذكر بأنه لا يصلح للعرب إلا ما يصلح للبعير والشاء، فكانوا يفضلون المفاوز القريبة من المدن ويختارونها مساكن لهم، حدث ذلك في العراق ، وحدث في خُراسان ، وكانت مفازة "أمل" بين "مرو الشاهجان" ونهر "جيحون" مركز استقرار ملائماً لطبيعة العرب فضلوه على المدن(13)، وحين عبر العرب نهر جيحون شُهرت بلدة "بيكند" بكثرة المستقرين بها من العرب وما ذاك إلا لبعدها من المياه السَّبخة الكثيرة والزراعات ، وقربها من الصحراء(14).
وقد قطع العرب النهر بالإبل(15) واشتهرت "طُخارستان" ببعض العرب أصحاب الإبل والشَاء ، ونقلوا عن موسى بن خازم عنايته بهذه الأنعام المرتبطة تاريخياً بالعرب في جزيرتهم الصحراوية(16).
ويلاحظ أيضاً أن ارتباط العرب بالجندية وتبعيتهم لسجل العطاء كانت تحول بينهم وبين الالتصاق بالحرف والصناعات، فظلوا عسكراً مجندين في الحاميات، يقومون على شئون الطرق والمسالح في خارج المدن ومتأهبين للنفير العام(17).
ولم يكن العرب في معظمهم بحاجة إلى الكسب والارتزاق إذ إنَّ أرزاقهم تٌعَين لهم من قبل الدولة (18) ويشمل ذلك حتى أولادهم ونساءهم (19) وقد حرص الكثيرون على الالتحاق ببعوث خُراسان ، لكن هذا لم يدفع بهم في بداية الأمر إلى الانخراط في الأعمال الحياتية الخُراسانية من زراعة وصناعة وتجارة لما سلف من أنهم مسجلون بديوان الجندية، وحبهم للحياة النائية عن المدن، ولعدم اطمئنان بعضهم إلى استمرار الإقامة الدائمة هناك لكثرة الغزوات والحروب والثورات وأيضاً تغير الولاة وما يستتبع ذلك من تحول عدد من أنصارهم أو من قبائلهم إلى بلاد أخرى ومجيء وافدين جدد ومحاربين يختارهم الولاة بمعرفتهم أو يتعلقونهم رغبة في القرب منهم وطمعاً في المكاسب الدنيوية ، وهذا ينطبق على بعض الشعراء وذوي الحاجات(20).
ولعله لم يتح للعربي ذلك الاحتكاك الذي يمكنه من العمل مع أهل خُراسان في الزراعة والتجارة في بداية الأمر إذ إنَّ أهل البلاد الأصليين لم يسمحوا بمشاطرة الفاتحين لهم بمنازلهم ، كما أنَّ أراضيهم كانت عزيزة عليهم إلى أبعد الحدود ، فلم يكن من السهولة أن تؤول إلى العرب(21)، وهذا ينطبق على خُراسان بشكل أوضح ، إذ إن بلاد ما وراء النهر قد شهدت تحولاً جذرياً في عملية الاستيطان ، فنـزل العرب في وسط "بخارى" و "سمرقند"(22) ودفع قتيبة الناس بعيالاتهم إلى بلاد "الشاش" و "فرغانة" فالتصقوا بالأرض التصاقاً تاماً(23) .
وفي ضوء ما تقدم فإنَّ القرن الهجري الأول لم يشهد انخراطاً تاماً للعرب في الحياة الخُراسانية من حيث مزاولة الأعمال الصناعية والتجارية والزراعية ، وفيما عدا ما قيل من أن بعض العرب ضجوا من إرهاق العمال لهم في جباية خراج أراضيهم الزراعية في عام 77هـ(24) فإنه لا توجد إشارة إلى تغلغل العرب في العمل الزراعي، وحتى هذه الحادثة لا تدل على نشاط عربي زراعي ؛ لأن بُكير بن وشَّاح التميمي الذي تبناها استغلها استغلالاً سياسياً ضد أميَّة بن عبد الله الأموي والطعن في سياسته المالية(25) .
ويمكن القول : إنَّ العرب قد أقبلوا على المشاركة في النشاطات الخُراسانية المختلفة في القرن الثاني من الهجرة، وبالذات النشاط الزراعي ، يدل على ذلك كثرة القرى المنسوبة للعرب ؛ مما يوحي بأنها كانت لهم يحرثونها ويزرعونها ، ويجرون الماء في القنوات إليها ، فلبني خزاعة الأزديين اليمانيين قرى في أرض "مرو" ولتميم قرى في "طُخارستان" ولكندة اليمانية قرى ، ولقيس وبكر وتغلب قرى أخرى ورساتيق(26)، بل قد تُنسب القرى إلى أشخاص من العرب فيقال: قرية فلان كما يقال قرية القبيلة الفلانية وذلك كقرية "كَتجانة" المنسوبة إلى نصر بن سيَّار(27) .
وقد أصبحت عملية الاستيطان أكثر تنظيماً في مطلع القرن الثاني للهجرة ، حيث صار للعرب بيوت ومساكن في المدن تشرف الدولة على إقامتها وترتيبها، وذلك صنيع أسد القسري في منازل العرب بـ "البروقان" و "بَلْخ" عام 107 هـ(28) وهذا أدعى إلى أن ينصرف العرب إلى الحياة المعاشة، وينخرطوا في سبل معايشها الزراعية والتجارية والصناعية.
كما شهدت هذه الفترة اهتماماً بالإقطاعات والأملاك الزراعية نظير أرض "المُرغاب" التي منحها الخليفة يزيد بن عبد الملك لهلال بن أَحوز المازني التميمي(29).
وقد رأى العرب في خُراسان من الخيرات ونتاج الأراضي الزراعية ما لم يكونوا يألفوه، فأَثرَّ ذلك في أسلوب معيشتهم ، وزادتهم الأموال الكثيرة غنى ورفاهاً(30) وكانت خُراسان مغرية للعرب للذهاب إليها حتى إنَّ المهلَب آثر أنْ يختارها على "سجستان" وهو قد خبر الناحيتين معاً(31).
وكانت أموال خُراسان تكفي حاجة ساكنيها وتزيد ، يستنتج ذلك من المكاتبات الدائرة بين الخليفة عمر بن عبد العزيز وواليه على خُراسان ، حيث أمر الخليفة بصرف الأموال على أصحاب الأعطيات ، فصرفها الوالي على أصحابها ، وقسم الزائد في باقي الناس فكفاهم، وعُرف آل المهلب بتوزيع الأموال على الناس إلى حد السرف(32) وكان قتيبة لا يكاد يظفر بمال حتى يوزعه على المقاتلين معه(33)، وأثر عن أمية بن عبد الله الإسراف في الخيلاء والمباهاة حتى كان يقول : إن خُراسان لا تكفي لمطبخه(34)، وأفرط بُكير بن وشَّاح وجنده التميميون في اختيار الملابس البالغة الزينة، المتعددة الألوان(35).
وكان العرب يحصلون على ما يريدون من تجار خُراسان وبلاد ما وراء النهر مع تأجيل السداد إلى ما بعد الغزوات، فعل ذلك بُكير بن وشَّاح حينما كلفه أمية بن عبد الله بغزو بلاد ما وراء النهر ، فلما صرفه عن الغزو سدد ما للتجار عنه وعن بعض أعوانه، وسدد أمية عن الآخرين بعد مقتل بكير، وكانوا قد استدانوا بأموال كثيرة(36) وهذا يقف بنا على نوع من العلاقة بين العرب والتجار من أهل البلاد الأصليين على أن حركة التجارة كانت نشطة في أيام الغزوات، وعلى نزوع العرب إلى الإكثار من شراء عدة الحرب وما إليها من لباس وأطعمة ، ولاشك أن مغانم الحرب الكثيرة كانت مما يُشجع على ذلك ، فقد وجد العرب في "بيكند" بعد الفتح من آنية الذهب والفضة ما لم يصيبوا مثله(37) وغنموا في "البحيرة" أموالاً أعجزت المحصين لكثرتها(38) وأجاز نصر بن سيار لأحد عماله بأن يحمل معه إلى الشام هو وآل بيته ما بدا لهم ، فحمل بعضهم ألف ألف وأكثر من هذا القدر، وأعدَ ذات مرّة ضروباً من التحف النفيسة والهدايا الثمينة، كما أمر بصنع تماثيل الظباء ورؤوس السباع والآياييل(39) وكتب إليه الوليد بن يزيد كتاباً يستهديه أباريق من ذهب وفضة ، وأن يصطحب معه البزاة والبزازين الفارهة(40).
وكان من الطبيعي أن يتعلم أهل خُراسان لغة العرب الفاتحين لغة القرآن ، وأن يعلموها أولادهم ؛ لأنها لازمة في أمور الدين والدراسات الشرعية ، وقطع أهل خُراسان شوطاً كبيراً في علوم اللغة وآدابها ، حتى غدوا من أساطينها(41) واحتك العرب باللغتين الفارسية والتركية فتعلمها بعضهم وروي أن أحد بني باهلة المحاصرين لـ (كمْرجَة) كان يتكلم التركية(42) وأثر عن أحد بني تميم أنه كان يعرف الفارسية ، فكان ترجماناً بين الفرس وأحد الموالي من الأتراك الذين يتكلمون العربية(43) وكان الكرماني الأزدي يتكلم الفارسية(44) وفي هزيمة أسد القسري في أرض "بَلْخ" عام 119هـ تغنى الصبيان بشعر بالفارسية فقالوا:
أز خُتلان آمديه
بروتباه أمديه
آبار بارز آمديه
خُشنك نزار أمديه(45)
ولقَّب العرب سعيد بن عبد العزيز والي خُراسان بـ "خُذينه" لأن ملك "أبغز" سأل عنه فقال "خُذينيه لمتيه سكينه"(46).
وقد انصرف بعض العرب إلى اللهو واللذات في خُراسان ، واشتهر أبو الهندي الشاعر التميمي بالعكوف على الشراب(47).
وكان في "ترمذ" أيام موسى بن خازم حانات خمر يأوي إليها بعض العرب(48) وحين تورط بعض جنود قتيبة في الخمر قتل بعضهم حفاظاً على جنده(49) وكذا فعل وكيع بن حسان ابن أبي سود التميمي ، وقريباً من ذلك صنع عبد الرحمن بن مسلم أخو قتيبة(50) وأثر عن بعض العرب ولعهم بالصيد في الأراضي الخُراسانية وبرز في ذلك الشَّمردل بن شريك التميمي(51).
2) موقف القبائل العربية من الفتن المذهبية
ضمّت الأرض الخُراسانية أجناساً متعددة وقوميات متباينة ، فكان فيها العرب والفرس والأتراك ، كما كان فيها عدد من الديانات والعقائد المختلفة ، فبالإضافة إلى الإسلام كان هناك مجوسية ويهودية ونصرانية(52) ومن الطبيعي أن تكون هذه البيئة من أنسب الأماكن لظهور الفتن المذهبية ونموها ، بل وقد يأوي أصحاب المذاهب إلى خُراسان لتباين قومياتها ووجود عدد من الأديان بها ولبعدها أيضا عن دار الخلافة الإسلامية(53) ولم يكن اعتباطاً أن يختار العباسيون خُراسان موطناً لبث دعوتهم في عام 100هـ ، وذلك حين بعث محمد بن علي بن عبد الله بن عباس محمد بن خنيس وأبا عكرمة السراج وحيّان العطار ليبثوا الدعوة هناك(54) .
وقد أثمرت الدعوة لآل العباس في خُراسان حتى إن داعيتهم زياداً أبا محمد مولى همدان أقام بـ "مرو" شتوة يفد الناس فيها عليه ويدارسونه ، وذلك في عام 109 هـ ، وكان أبرز المناصرين له يحي بن عقيل الخزاعي من قبيلة الأزد الكهلانية اليمانية(55) .
وفيما بين عام 100 هـ وابتداء أمر أبي مسلم الخُراساني في عام 129 هـ ظهر نشاط للدعاة أشده في عام 107 و 109 هـ أثناء ولاية أسد بن عبد الله القسري الأولى وفي عام 118هـ أثناء ولاية أسد الثانية(56) وفي هذا العام الأخير انحرف الداعية العباسي في خُراسان عما مضى عليه أسلافه من الدعوة للرضا من آل البيت ، واسم هذا الداعية عمّار بن يزيد بعثه بكير بن ماهان والياً على شيعة بني العباس ، لكنه ما لبث أن غيرَّ اسمه وتسمى بخدّاش ، وغيرَّ ما دعا الناس إليه ، وأظهر دين "الخرَّمية" ورخص للناس في نساء بعض فيما يقال ، وبلغ من جرأته في ذلك أن أخبر الناس بأن ما يدعو إليه أنما هو بأمر محمد بن علي بن عبد الله بن عباس(57).
ولم تلق دعوة خدَّاش قبولاً من القبائل العربية في خُراسان وأوصى أسد القسري إلى يحى بن نعيم الشيباني البكري الوائلي بأن يقتله فقتله بـ "آمل" وصلبه (58).
وبعد موت خدَّاش لم تجد بدعته من يتبناها أو ينحو منحاها ، بل هي قد ماتت بموته ، كما أن الدعوة العباسية قد اتجهت من بعده إلى وجهتها الصحيحة، وقد جاءت فتنة خدَّاش أبّان حركة الحارث بن سريج التميمي الذي يقول بالأرجاء(59) لكن الأرجاء لم يعد آنذاك مذهباً مستقلاً متميزاً بآراء تحدد معالمه وتبين جوانبه، كما أن ابن سريج لا يعد من أعلام الإرجاء البارزين بالرغم من قوله بالإرجاء وإشعاله لثورة خطيرة امتدت فترة طويلة من الزمن زعزعت فيها الأمن وهددته مراراً كثيرة(60).
وكما أن مذهب الإرجاء غير متميز في ذلك الوقت فإنَّ صاحبه في خُراسان الحارث بن سريج غامض في تصرفاته ، فهو يدعو إلى تحكيم كتاب الله وسنه نبيه في الحياة وإقامة العدل ، ويستعين مع ذلك بالمشركين على قتال المسلمين(61) ومن الواضح أنَّ حركة ابن سريج قد اختلط فيها الفكر بالسياسة ، واكتنفها ما يدخل في حركات الفتن من الطموح وحب الظهور الشخصي ، والرغبة في الانتقام والمطامع ،والناظر في أمر هذه الحركة يلحظ أيضاً أنها لم تكن ثورة للموالي ضد الحكم أو التسلط العربي الذي يمثله بنو أمية وولاتهم في خُراسان(62) فصاحب هذه الحركة عربي صليبة مجاشعي حنظلي من تميم ، وثابت قطنة المشهور بالإرجاء عربي صليبة أيضاً من الأزد الكهلانيين اليمانيين ، ووهم من عده من الموالي(63).
ومن غريب ما قيل في أمر المرجئة أنها لعبت دوراً هاماً في التوفيق بين المصالح المتعارضة بين العرب وغيرهم من المسلمين حين تطور النزاع بين الأحزاب والطوائف ، وحلت مشكلة اجتماعية جديدة في الدولة الأموية ، وهي موقف العرب من المسلمين الجدد ، فقد ذهب المرجئة إلى القول بأنه لا يحل للحكومة أن تعامل هؤلاء كما لو كانوا لا يزالون على كفرهم بعد أن أصبحوا مسلمين لهم ما للمسلمين وعليهم ما عليهم ، وهذا القول ورد في بعض المباحث الحديثة(64) وهو منقول عن الدراسات الاستشراقية(65).
وقريباً مما تقدم ورد أيضاً "أن بني أمية لم يضطهدوا المرجئة كما اضطهدوا المعتزلة والخوارج والشيعة ، بل هم قد استعملوا من عرف بالإرجاء كما فعل يزيد بن المهلب بثابت قطنة حين ولاه عملاً من أعمال الثغور ، وقد وجد بنو أمية في تعاليم المرجئة ما يساعدهم على فرض سلطانهم على المسلمين ؛ لأن الحساب مرجأ إلى الآخرة ، ولا داعي إلى فتحه منذ هذا العالم ، وهذا يعني أن من الأفضل التسليم بواقع الخلافة كما فرضه الأمويون بغض النظر عن شرعيته أو عدمها على أن يترك لله أمر الثواب والعقاب"(66).
والقول بأن المرجئة انتصرت لغير العرب من سوء المعاملة التي يلقونها(67) قول ينقصه الدليل ، ويحتاج إلى ما يدعمه من الحوادث الثابتة ، وإذا كان هذا القول يرمز إلى وقفة ثابت قطنه وهو مرجئ مع من فرضت عليهم الجزية أثناء أمرة أشرس السلمي بعد أن أسلموا ، فإن ثابتاً لم يكن وحدة في هذه الوقفة ، إذ كان معه عدد من العرب والموالي ، وكما أن ما حدث من أشرس بشأن الجزية إنما كان بتدبير من أحد الموالي ، ثم أن ثابت قطنة لم يقف هذا الموقف بدافع مذهب الإرجاء بل هو وقفه من أجل أنه التزم لمن أسلم بأن يرفع عنه الخراج ، فلما لم يف أشرس بما التزم به عبَّر ثابت عن سخطه مع مجموعة من أصحابه لم يؤثر عنهم أنهم من أصحاب الإرجاء(68) وحتى ثابت نفسه لم يعرف عنه اهتمام واضح بهذا المذهب أو قول فصل ، وكل ما ورد في سيرته هو أنَّ له أبياتاً من الشعر قال فيها بالإرجاء(69) .
والإرجاء ذاته لم ينتصر لجنس من الناس ضد جنس آخر أو للموالي ضد العرب ، فهو بمعناه البسيط تأخير أصحاب الذنوب وعدم الحكم عليهم بجنة أو نار إلى يوم القيامة ، والأصل أنه نشأ أيام اختلاف المسلمين في عهد علي بن أبي طالب ، فحدث أن توقفت جماعة من المسلمين من القول بالضلال على أحد ، وتحرّجت من الحكم على الناس ، ووكلت ذلك إلى رب العالمين ، وقيل أيضاً بأن معنى الإرجاء من أرجأ بمعنى بعث الرجاء أو أعطاه أي أن المرجئة يرجون لكل مسلم مغفرة من الله(70).
على أن مفهوم الإرجاء قد تطور واختلط بالجبرية والقدرية(71) وإن كان هذا التطور لم يؤثر عن الحارث بن سريج التميمي في خُراسان ، بل أثر عن بعض اتباعه كالجهم بن صفوان(72) الذي خرج من الإرجاء إلى القول بالجبرية الخالصة حتى أصبح صاحب مذهب بالغ التطرف نسب إليه ، وعرف باسم مذهب "الجهمية"(73) .
وقد عُرف الحارث في بداية أمره مقاتلاً صنديداً في جيش المسلمين برز في صفوف بني تميم أيام حصار "كمرجة" في أرض "سمرقند" عام 110هـ(74) وفي عام 116هـ خلع وأقبل من "النتخذ" حتى وصل إلى "الفارياب" وقدم أمامه بشر بن جرموز الضَّبى التميمي ، فوجه عاصم الهلالي (والي خُرسان) إليه حنظليين من تميم هما هلال بن عُليم والأشهب الحنظلي ومعهما جرير بن هَميان السدوسي البكري الوائلي ومنصور بن عمر بن أبي الخرقاء وخطاب بن محرز السلميان ومقاتل بن حيان النبطي مولى بني شيبان البكريين(75)، وقد أخفق هذا الوفد في مسعاه بسبب تعنت الحارث فتناول الموفدون الحارث في "مرو" ،وذكروا سيرته وغدره ،أما هو فقد استولى على "بَلْخ" وطرد عاملها نصر بن سيار(76) وولىَّ أحد ولد عبد الله بن خازم على "بَلْخ" وفيما بين أرض "الجوزجان" و "بَلْخ" كان الحارث يدعو إلى الكتاب والسنة والبيعة للرضا ،ومعه ستون ألفاً من الفرسان فيهم حمَّاد بن عامر بن مالك الحِمَّاني السعدي التميمي ،وبشر بن أُنيف الرياحي اليربوعي الحنظلي التميمي ، ومحمد بن المثنى الحداني الأزدي اليماني ، ووابصة بن زرارة العبدي الربعي ،وقد وصف الطبري أصحاب الحارث بأنهم (فرسان الأزد وتميم)(77).
وبالمقابل كان مع عاصم الهلالي عدد من وجوه القبائل أشهرهم خالد بن هريم الثعلبي اليربوعي الحنظلي التميمي ، ويزيد بن قّران الرياحي اليربوعي الحنظلي التميمي(78) وقد اجتاح الحارث "الجوزجان" و "الفارياب" و "مرو الروذ" مما حدا بعاصم إلى التفكير في الهرب إلى نيسابور وطلب مدد من الخليفة بالشام لولا أن أصحابه التميميين ثنوه عن ذلك فمكث بـ "مرو"(79) .
وفي أرض "مرو" كانت المواجهة بين الطرفين الحارث بوجوه من عدد من العشائر العربية ودهاقين العجم، وعاصم الهلالي بأهل مرو من العرب وغيرهم وحين أوشكت الهزيمة أن تحيق بالحارث وأصحابه طلبوا المهادنة فأجيبوا إلى ذلك ، وأرسل أهل "مرو" إليهم عدداً من الفقهاء والقراء وكبار القوم منهم:
المؤمن بن خالد الحنفي البكري ،ومقاتل بن حيان النبطي ،وأرسل الحارث محمد بن مسلم العنبري التميمي لمناظرتهم ،على أن المناظرة لم تسفر عن نتيجة ،فالتحم الفريقان من جديد وانهزم الحارث وأصحابه(80).
وعاد الحارث للحرب مرة أخرى ، وأوشك عاصم أن يتفق معه فيما يشبه الإجماع على مناهضة الخليفة بعد أن أرسل الخليفة أسداً القسري والياً على خُراسان مرة ثانية(81) غير أن هذه المحاولة فشلت بتصدي يحي بن الحضين زعيم ربيعة لها ،فنزل عاصم بقرية لكندة بأعلى "مرو" ونزل الحارث بقرية لبني العنبر التميميين ، فالتقوا بالخيل والرجال حتى انهزم الحارث بعد أن أبدى شجاعة عجيبة ، وكثر القتل في التميميين من أصحابه(82) وأدعّى أسد القسري هزيمة الحارث الذي تحصن بـ "مرو الرَّوذ" حيث الغالبية التميمية ، وتتابعت المعارك في "مرو الروذ" و "آمل" حتى اضطر الحارث إلى النزوح إلى "ترمذ"(83) في وقت اضطربت فيه أمور سمرقند ،وظهر نشاط دعاة آل العباس ؛ مما دعا بأسد إلى حشد عدد من المقاتلة من أبناء القبائل ،وتعيين رؤساء جدد عليهم أمثال الحوثرة بن يزيد العنبري الذي عينه على بني تميم ،ومنصور بن سالم الذي عينه على أهل العالية(84).
وقد بعث أسد الجيوش إلى "ترمذ" و"آمل" و "سمرقند"(85) كما قبض على نقباء الدعوة العباسية بتحريض من أحد الباهليين ،فتكلم اليمانيون من النقباء ،ودافعوا عن أنفسهم متذرعين بحسد الباهليين وحقدهم عليهم لشدتهم على قتيبة ،فعفا أسد عن اليمانيين ثم الربعيين ،وعذّب المضرييِن ،وهم من تميم وكاد أن يفتك بهم(86).
وكانت الضربة الموجعة لأصحاب الحارث علي يد الكرماني اليماني عام 119هـ وذلك في "بَلْخ" وفي قلعة "التبوشكان" بـ "طُخارستان" وكان مع الكرماني رؤساء اليمانية من أمثال سالم بن منصور البجلي وصالح بن القعقاع الأزدي(87) .
غير أن أسداً القسري وقواده وغالبيتهم من أهل اليمن قد لقوا عنتاً من الحارث حيث اعتصم بـ "طُخارستان" واستعان بالثائرين من الترك ببلاد ما وراء النهر ، وكانت حرباً مميتة جمع أسد فيها القبائل على راياتها والدهاقين ومع الحارث "خاقان" و"جيغوية الطخاري" وملك السغد وقد التقوا "ببَلْخ" و"مرو الروذ" ثم ببلاد ما وراء النهر وبـ "سمرقند" بالذات(88).
...متواصل انشاء الله.....
منقول للأمــــــــــــــــــانة

سفير النوايا الحسنة
2011-02-13, 19:46
http://img208.imageshack.us/img208/2167/rdd121ul7.gif

dmd39
2011-02-13, 20:38
http://www.abuaseel.net/dam3at_7ozn/ekccwarat/as3dna.gif

dmd39
2011-02-13, 20:41
وفي عام 121هـ سار نصر بن سيّار (وهو والي خُراسان يومئذ) إلى بلاد ما وراء النهر وكان الحارث بن سريج يومئذ بأرض الترك ،فأقبل معهم وعلى الترك كورصول ،أمّا نصر فكان معه عشرون ألفاً من غير العرب وهم أهل "بخارى" و "سمرقند" و "كش" و "أشروسنة" والعرب على أخماسهم(89) وقد قتل "كورصول" وهزمت الترك(90) فكتب يوسف بن عمر والي العراق إلى نصر أن سر إلى هذا الغارز ذنبه في "الشاش" يعني الحارث بن سريج فإن أظفرك الله به وبأهل الشاش فخرب بلادهم واسب ذراريهم وإياك وورطة المسلمين فأنفذ نصر أمر يوسف وهزم الحارث ومن معه من الترك وعاد إلى سمرقند(91).
وفي عام 127هـ طمع نصر بن سيار في مناصحة الحارث بن سريج ومصالحته ،وذلك بسبب الفتنة بين نصر والكرماني ،وخشيته من قدوم الحارث عليه في أصحابه فأرسل إليه مقاتل بن حيان النبطي ،ثم أخذ له أماناً من الخليفة يزيد بن الوليد ورد عليه أمواله(92) فقدم الحارث وأقام بـ "مرو الرَّوذ" وكان الناس قد لقوه بـ"كشماهين" فلما لقيهم قال: ما قرَّت عيني منذ خرجت إلى يومي هذا ،وما قرة عيني إلا أن يطاع الله ،ولقيه نصر ،وأنزله وأجرى عليه كل يوم خمسين درهماً ،فكان يقتصر على لون واحد من الطعام ،وقد طلق أهله ،وفارق أولاده ،وعرض عليه نصر أن يوليه ويعطيه مائة ألف دينار فلم يقبل ،وأرسل إلى نصر أني لست من الدنيا واللذات في شيء ،إنما أسألك كتاب الله والعمل بالسنة ،وأن تستعمل أهل الخير ،فإن فعلت ساعدتك على عدوك(93).
وكتب الحارث أيضاً إلى الكرماني بمثل ما كتب به إلى نصر ،ودعا بني تميم إلى نفسه ،فأجابه منهم ومن غيرهم جمع كثير ،وقال لنصر: إنمَّا خرجت من هذه البلدة منذ ثلاث عشرة سنة إنكاراً للجور وأنت تريدني عليه(94).
وخرج الحارث سنة 128هـ من "مرو" وعسكر خارجها بحجة أن الخليفة الجديد مروان بن محمد لا يجيز الأمان الذي أعطاه له يزيد(95) وطلب من نصر أن يجعل الأمر شورى ،ويعزل العمال بما فيهم سَلْم بن أحوز التميمي صاحب الشرطة(96) واتفق الرأي على أن يحكم الطرفان بينهما أناساً من أهل العلم والدراية ،فاختار نصر مقاتل بن سليمان ومقاتل بن حيان ،واختار الحارث المغيرة بن شُعبة الجهضمي ومعاذ بن جَبَلة(97).
ولم يتوصل هؤلاء إلى حل يرضي الطرفين ،وأخفق كل من جهم بن صفوان ومقاتل بن حيان حينما حكَّما بعد ذلك بين نصر والحارث ،ورفض الحارث عرض نصر أن يوليه ما وراء النهر ويعطيه ثلاثمائة ألف(98). وكان الحارث يزعم أنه صاحب الرايات السود ،وقد أمر كاتبه الجهم بن صفوان أن يقرأ سيرته في الأسواق والمساجد ،فاجتمع عليه خلق كثير قاتل بهم نصراً(99) ثم انضم إلى الكرماني واليمن وربيعة ،وأخيراً فارقهم ،واعتزل حربهم مع نصر ،ولما خرج نصر من "مرو" دخل الحارث في صراع مع الكرماني وأتباعه ،وقاتل حتى قتل مع نفر من أصحابه غالبيتهم من تميم(100) وكان ذلك في عام 128هـ.
وبمقتل الحارث انتهت ثورته التي امتدت اثني والبيعة للرضا مع ثلاث عشرة عاماً ، دعا الحارث خلالها إلى تحكيم كتاب الله وسنة نبيه مناداته أحياناً بمنع الظلم والجور والتشنيع أحياناً أخرى على ولاة بني أمية ،وهذه دعوات عامة لا تحمل فكراً فلسفياً ،لكن الحارث أبى كل عروض المصالحة ،ورفض مقترحات الوسطاء والمحكمين ،كما أنه وضع يده بيد المشركين في حربه ضد الولاة. (101)
ولم يكن لآرائه – إن صح أن يقال أن له آراء – أي أثر بعد وفاته وذلك على النقيض من آراء كاتبه الجهم بن صفوان مولى بني راسب الأزديين اليمانيين الذي قُتل قبله على يد سلم بن أحوز التميمي بعد أن أشتد في معتقده حتى أنكر صفات الله تعالى ، وغالى في جبريته حتى غدا مذهبه من أخطر المذاهب وأشدها بعداً عن منهج الإسلام(102).
وقد رأينا أنه قد تبع الحارث جمع كثير من العرب والموالي ، كما أن المناهضين له كانوا من العنصرين مما لا يصلح معه أن يقال بأن ثورة الحارث ثورة للموالي ،أو هي انتصار لهم ضد العرب ،كما أن العرب الذين معه ينتمون إلى مختلف القبائل وكذلك كان العرب من أضداده.
وفيما عدا حركة الحارث وظهور دعاة آل العباس شهدت خُراسان حركتين للطالبيين الأولى ليحي بن زيد ين علي بن الحسين ،وهي امتداد لحركة أبيه الذي ثار بالكوفة وقتل بها سنة 122هـ(103) في خلافة هشام بن عبد الملك وولاية يوسف بن عمر على العراق ،وكان من أمر يحيى أن سار إلى خُراسان بعد مقتل أبيه ،ونزل "بَلْخ" إلى أن سرحه نصر بن سيار منها بعد أن أمنه ووصله وحذره الفتنة، ولما لم يكمل يحيى مسيره أرسل إليه نصر سَلْم بن أحوزْ المازني التميمي على رأس جيش فأدركه بـ "الجوزجان" وقاتله حتى قتل في عام 125هـ دون أن يكون له اتباع كثيرون من القبائل العربية في خُراسان بل لقد قيل أنه كان في سبعين رجلاً قدم أكثرهم معه من العراق(104).
أما الحركة الثانية فهي لعبد الله بن معاوية بن حبيب بن جعفر بن أبي طالب الذي خرج وكثر أتباعه في عام 129هـ ولحق بـ "هراة" بعد أن جاء بأمور مبتدعة في الدين مالأ فيها أهل الإلحاد فيما يُروى ،وقد انتهى به الأمر إلى القتل على يد مالك بن الهيثم الخزاعي والي "هراة" من قبل أبي مسلم الخُراساني(105) دون أن يحدث أثراً كبيراً بعد مجيئه إلى خُراسان ،ودون أن يكون للقبائل العربية موقف معين من حركته المذهبية(106) .
وبصفة عامة فإنه من الصعب القول بأن قبيلة ما أو مجموعة من القبائل قد اتخذت أو تبنت مذهباً فكرياً بشكل جماعي ،بل إن مجموعة من الأفراد قد ينضوون تحت فتنة مذهبية مع عدم وجود رابطة قبلية توحد بينهم مع ملاحظة أن المذاهب الفكرية لم تكن قد اتضحت صورتها في هذا الوقت وإن وجدت فهي لخدمة أغراض سياسية .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الهوامش :
1) مع ملاحظة أنَّ أمهات بعض العرب إنما هن من الجواري.
2) أكثر النقباء كانوا من العرب ومنهم موسى بن كعب ولاهز بن قريط والقاسم بن مجاشع من بني تميم، وبالغت بعض الروايات في تضخيم دور أبي مسلم الخراساني في قيام دولة بني العباس كمّا تم بيانه في مباحث أخرى من هذه الدراسة.
3) يحمل لفظ المولى عدة معان والمقصود هنا ولاء الحلف وقد اكتسب مفهوم الولاء معنى اصطلاحياً عند مؤرخي الإسلام فقصدوا به كل من أسلم من غير العرب فالموالي إمِّا أن يكونوا من أهل البلدان المفتوحة انضموا حين إسلامهم إلى العرب فصاروا موالي بالحلف والموالاة، وإمّا أنْ يكونوا في أصلهم أسرى حرب استرقوا ثم اعتقوا. انظر المصري : الموالي: 23، إحسان النص: العصبية القبلية 238 .
4) انظر الطبري : تاريخ الأمم والملوك ج5، 227.
5) وتقدم في هذه الأعياد الهدايا النفيسة للولاة على اختلاف أنواعها وأشكالها انظر الغزي: الشعر الأموي في خُراسان، 52 . ومنذ أيام عصر بني أمية الأولى عايش العرب العجم وتبادلوا معهم الصداقات واشتركوا جميعاً في الفتح وصحب العرب أناس من العجم إلى العراق والشام وتسمَّى كثير من العجم بأسماء عربية. انظر الطبري: تاريخ الأمم والملوك، جـ8،194، ابن الأثير: الكامل، جـ3، 110، والبلاذري: فتوح البلدان،400 .
6) انظر ابن الأثير : الكامل، جـ4، 195 .
7) في عامي 45 و 51هـ انظر ابن الأثير : الكامل، جـ3، 252، 273 .
8) كان العرب ينفرون من التجمير وهو البقاء في الثغور مدة طويلة وخاصة في فصل الشتاء ومما قيل في ذلك إنَّ عبدالمؤمن بن شبت بن ربعي التميمي شجع على الانضمام إلى ثورة ابن الأشعث بقوله إنَّ الحجاج يدفعكم إلى التجمير، انظر الطبري: تاريخ الأمم والملوك، جـ8، 197 .
9) انظر البلاذري : فتوح البلدان، 40 .
01) ذكر الطبري إنَّ العرب في ولاية الربيع بن زياد الحارثي نقلوا أسرهم إلى خُراسان. انظر الطبري تاريخ الأمم والملوك، جـ6، 292 .
11) مثال ذلك الصلح الذي تم بين ابن عامر ومرزبان "مرو الشاهجان" انظر البلاذري: فتوح البلدان، 395 .
12) يلاحظ ذلك في تمركزهم في القرى المحيطة بـ (مرو) وهي قرى تميم وخزاعة .
13) انظر ياقوت : معجم البلدان، جـ1،87 .
14) انظر الطبري: تاريخ الأمم والملوك، جـ7، 57، ياقوت: معجم البلدان، جـ1، 227 .
15) انظر الطبري : تاريخ الأمم والملوك، جـ 6، 227 .
16) انظر صالح العلي : امتداد العرب، 45 .
17) انظر الطبري : تاريخ الأمم والملوك جـ8، 102 .
18) انظر الطبري : تاريخ الأمم والملوك، جـ8، 54
19) وكان ديوان العطاء يزيد في بعض الأحيان عن حاجة الناس، حدث ذلك في خُراسان في زمن عمر بن عبد العزيز مع قلة الغزوات في عهده . انظر ضياء الدين الريّس : الخراج، 232 .
20) انظر الطبري : تاريخ الأمم والملوك، جـ8، 116 .
21) انظر حسين علوان : الشعر العربي بخُراسان، 55 . وقد نعتت الدولة الأموية بالمظهر العربي وهذا ينطبق على خُراسان وقد أدى تمسك الفاتحون بعربيتهم في خُراسان إلى الحيلولة بينهم وبين مزاولة المهن الصناعية التي كان العربي يأنف منها، ووصف دولة بني أمية بأنها عربية المظهر كان من مآخذ الناقمين عليها من الشعوبية.
22) انظر البلاذري : فتوح البلدان، 397 .
23) وكان ذلك من ضمن شروط الصلح الذي تمَّ بين قتيبة وأهل هاتين المدينتين انظر ابن الأثير : الكامل، جـ4، 121 .
24) انظر الطبري : تاريخ الأمم والملوك جـ8، 89 .
25) تبنّى هذه الضجة بُكير بن وشَّاح التميمي لهدف سياسي وأشار بعض الباحثين إلى اشتغال العرب بالزراعة اعتماداً عليها . انظر الريس : الخراج 134، حسين علوان : الشعر العربي بخُراسان، 64 .
26) انظر الطبري : تاريخ الأمم والملوك، جـ 8، 58 وقال الأستاذ حسين علوان : إنَّ زعماء بني تميم وعلى رأسهم بُكير وبحُير بن ورقاء أرادا أن يستبدا بحكم خُراسان وهذا هو القصد من هذه الصيحة المدوَّية وما يلاحظ على ما ذكره علوان هو أن بُكيراً وبُحيراً التميميين لم يكونا في صف واحد فبكير ثائر على أميّة بن عبدالله وبحير معه. انظر حسين علوان: الشعر العربي بخُراسان، 69.
27) انظر أهم مواطن استقرار العرب في خُراسان في العدد السابع من هذه المجلة .
28) انظر الطبري : تاريخ الأمم والملوك، جـ8، 97 .
29) انظر ياقوت : معجم البلدان، جـ5، 107 .
30) انظر ياقوت : معجم البلدان، جـ 5، 107 .
31) انظر الطبري : تاريخ الأمم والملوك، جـ8، 95 .
32) انظر ابن الأثير : الكامل، جـ3، 35 .
33) انظر المبرد : الكامل جـ2، 260
34) انظر الطبري : تاريخ الأمم والملوك، جـ8، 89 .
35) وكان هذا مما أخذه قتيبة على أميَّة حين تحدث عن حسن سيرته هو في القبائل التي ثارت عليه. انظر الطبري: تاريخ الأمم والملوك، جـ7، 197، جـ8،94. وروي أن والي "هراة " ودهقانها قدما لأسد القسري في أحد الأعياد هدية تقدر بألف ألف، قطران من الذهب والفضة ومثلهما صحاف وأباريق والديباج الهروي المروزي والديباج القوهي وكرة من ذهب. انظر ابن الأثير: الكامل جـ4، 178.
36) انظر الطبري : تاريخ الأمم والملوك، جـ7، 199 .
37) انظر الطبري : تاريخ الأمم والملوك جـ7، 209 .
38) انظر ابن الأثير : الكامل، جـ4، 207 .
39) انظر الغزي : الشعر الأموي في خُراسان، ص40 .
40) انظر الطبري : تاريخ الأمم والملوك، جـ8، 212 وذكر الدكتور الغزي أنه يستفاد مما أورده الطبري أن نصراً أعد ضروباً أخرى من التحف النفيسة والهدايا الثمينة فاشترى المماليك ولم يدع بخُراسان جارية ولا عبداً ولا برذوناً فارهاً إلا اشتراه،كما أمر بصنع تماثيل الظباء ورؤوس السباع والاياييل يستفاد من ذلك أن صناعة التماثيل الحيوانية شائعة وأن أهل الفقه لم ينكروا ذلك .انظر الغزي: الشعر الأموي في خُراسان.
41) انظر الطبري : تاريخ الأمم والملوك، جـ8،212 .
42) برز عدد من الموالي في القضاء والفتيا فكان لزاماً أن يكونوا مبرزين في اللغة العربية وقد بينت في مباحث أخرى من بحث القبائل العربية في خُراسان وبلاد ما وراء النهر أسماء عدد من مشاهير الموالي الذين أجادوا العربية ونبغوا فيها .
43) كان حصار "كمرجة" في عام 110هـ وهي في بلاد ما وراء النهر . انظر ابن الأثير : الكامل جـ4، 203 .
44) هو الربيع بن عمران التميمي وكان المولى الذي معه هو أبو الصيداء صالح بن طريف مولى بني ضبّة من تميم . انظر الطبري: تاريخ الأمم والملوك، جـ8، 196 .
45) انظر الغزي : الشعر الأموي في خُراسان، 45 .
46) انظر الطبري : تاريخ الأمم والملوك، جـ 8، 234 .
47) انظر الطبري : تاريخ الأمم والملوك، جـ8، 161 .
48) قيل اسمه غالب أو عبد الملك أو عبد المؤمن بن عبد القدوس بن شبت بن ربعي الرياحي اليربوعي التميمي، من شعراء خُراسان المعدودين أيام نصر بن سيار وكان سريع البديهة حاضر الجواب مفرطاً في العكوف على الشراب، انظر المبرد : الكامل، جـ 2، 754، الأصبهاني : الأغاني : جـ21، 217 . وقد ترجم له الدكتور الغزي في شعراء خُراسان . انظر الغزي : الشعر الأموي في خُراسان، 182، وشبث بن ربعي من سادة العرب وهو شيخ مضر في الكوفة وهو معدل عن المحدثين وقد كثر التشنيع عليه قديماً في بعض المصنفات وكتب عنه بعض المتأخرين سيراً على من شنعوا عليه قديماً أمَّا أسباب ذلك فهو موقفه من ثورة المختار الثقفي التي يغلو البعض في تمجيدها، وأول المشنعين على شبث هو ابن الكلبي.
49) انظر الطبري : تاريخ الأمم والملوك، جـ7، 86 .
50) انظر الطبري : تاريخ الأمم والملوك، جـ8،88 .
51) انظر الطبري : تاريخ الأمم والملوك، جـ 8، 88، 95 .
52) هو الشّمردل بن شريك بن عبد الله، يربوعي، من شعراء تميم المعدودين أكثر شعره في الرثاء والصيد، قُتل أخوته في حروب خُراسان فأكثر من رثائهم . انظر الأصبهاني : الأغاني، جـ13، 356 .
53) أشار إلى ذلك نصر بن سيّار في أحدى خطبه انظر الطبري : تاريخ الأمم والملوك، جـ8، 231، الذهبي : تاريخ الإسلام، جـ5، 56 .
54) انظر الغزي : الشعر الأموي في خُراسان، 41 .
55) انظر ابن كثير : البداية والنهاية، جـ9، 101 .
56) انظر الطبري : تاريخ الأمم والملوك جـ8، 106 .
57) انظر ابن الأثير : الكامل، جـ4، 177، 199 .
58) انظر الطبري : تاريخ الأمم والملوك، جـ8 147، والخرَّمية أصحاب بابك الخرمّي الذي يقول بالتناسخ والحلول والإباحة، انظر ابن الأثير: الكامل، جـ4، 225، السمعاني: الأنساب، ج2، 353.
59) انظر الطبري : تاريخ الأمم والملوك، جـ8، 147 .
60) الإرجاء على معنيين أحدهما: بمعنى التأخير كم في قوله تعالى: (قالوا أرجه وأخاه) أي أمهله وأخره، والثاني اعطاء الرجاء: قال الشهرستاني أمَّا إطلاق اسم المرجئة على الجماعة بالمعنى الأول فصحيح، لأنهم كانوا يؤخرون العمل عن النية والعقد، وأما بالمعنى الثاني فظاهر، فإنهم كانوا يقولون: لا تضر مع الإيمان معصية كما لا تنفع مع الكفر طاعة، وقيل الإرجاء تأخير حكم صاحب الكبيرة إلى يوم القيامة فلا يقضي عليه بحكم ما في الدنيا من كونه من أهل الجنة، أو من أهل النار، انظر الشهرستاني: الملل والنحل، 138 .
61) انظر ابن كثير: البداية والنهاية، جـ10، 26. ومع شهرة الحارث بن سريج التميمي فإنَّ صاحب أعلام تميم لم يترجم له.
62) انظر ابن الأثير: الكامل، جـ4، 203، 221، 294، 302 .
63) أشارت زاهية قدوّرة إلى أن ثورة ابن سريج ثمثل غضب الموالي على الحكم الأموي. انظر زاهية قدورة: الشعوبية، ص60 .
64) عدته زاهية قدورة من الموالي وهذا خطأ ولعلها خلطت بينة وبين ثابت بن قطبة الذي هو من الموالي حقيقة، وعلى كلٍ فقد اطنبت الباحثة في قضية الموالي ورغبتهم في الإنتقام لأنفسهم من خلال ثورة ابن سريج مع ما في استنتاجها من بعد عن الأدلة الصحيحة. انظر زاهية قدورة : الشعوبية، 67 .
65) انظر فاطمة جمعة: الاتجاهات الحزبية في الإسلام، 166، 167، وفان فلوتن: السيادة العربية والشيعة والإسرائيليات، 75.
66) قالت قدورة : إن الحارث بن سريج كان يرى رأي المرجئة وهي تقر المساواة بين المسلمين وتكفر أية حكومة تمُيز بين المسلم العربي وغير العربي وتدعو إلى محاربتها، انظر زاهية قدّورة : الشعوبية، 67.
67) انظر الطبري: تاريخ الأمم والملوك، جـ8، 142 .
68) وأشهرها قوله:
نرجى الأمور إذا كانت مشبهة **ونصدق القول فيمن جار أو عندا
انظر الأصبهاني: الأغاني، 14، 250، وأشار الدكتور الغزي إلى أن ثابت قطنة مال إلى هذا المذهب وخالف فيه نصر بن سيار. انظر الغزي: الشعر الأموي في خُراسان، 42 .
69) انظر المصري: أثر أهل الكتاب في الفتن، 533 .
70) الجبر هو نفي الفعل حقيقة عن العبد وإضافته إلى الرب تعالى، والقدرية قدرة العبد على اكتساب أعماله.
انظر الشهرستاني: الملل والنحل، 85 .
71) الجهم بن صفوان مولى بني راسب من الأزد اليمانية أصله من بَلْخ ويعرف بالسمرقندي لأنه عاش فترة من الزمن بـ "سمرقند" وظهرت بدعته بـ "ترمذ" وهو تلميذ الجعد بن درهم مولى بني همدان اليمانية أول من ابتدع القول بخلق القرآن وتعطيل الله عنه صفاته. انظر الشهرستاني: الملل والنحل، 86، قتله أبو حرب سلم بن أحوز المازني التميمي، ومع نسبته إلى بني راسب ولاءً فإن صاحب أعلام تميم ترجم له بما يوحي أنه عربي صليبة فقال: هو مجاشعي حنظلي من تميم، وعدَّ حسين حسن وهو باحث عراقي في موسوعة أعلام تميم قتل الجهم من الأعمال المؤسفة التي قام بها سَلم بن أحوز التميمي وكذا قتله ليحيى بن زيد ومدرك بن المهلب دون النظر في أنَّ ابن أحوز كان صاحب شرطة الدولة بخراسان المسؤول عن أمنها وسلامتها من الفتن ودون النظر في دوافع ثورات هؤلاء سياسياً وفكرياً. انظر حسين حسن: أعلام تميم، 177، 297 .
72) توافق الجهمية المعتزلة بنفي الصفات الأزلية وتزيد بأنه لا يجوز أن يوصف الله تعالى بصفة يوصف بها خلقه، لأن ذلك يقضي تشبيها، وكان جهم يخرج بأصحابه فيقفهم على المجذومين ويقول انظروا أرحم الراحمين يفعل مثل هذا ؟ انكاراً لرحمته كما أنكر حكمته ويقال إنَّ جماعة من الدهريين جادلوا جهماً فظل أربعين يوماً بدون صلاة . وجهم على طرفي نقيض مع مقاتل ابن سليمان فجَهم يبالغ في النفي والتعطيل ومقاتل يسرف في الإثبات والتجسيم، انظر الشهرستاني : الملل والنحل، 86، الذهبي : تاريخ الإسلام، 199 .
73) انظر الطبري: تاريخ الأمم والملوك، جـ8، 226 .
74) انظر ابن الأثير: الكامل، جـ4، 159 ..
75) انظر الطبري: تاريخ الأمم والملوك، جـ 8، 127 .
76) انظر الطبري: تاريخ الأمم والملوك، جـ4، 227 .
77) انظر الطبري: تاريخ الأمم والملوك، جـ 8، 228 .
78) انظر الطبري: تاريخ الأمم والملوك، جـ8، 228 .
79) انظر الطبري: تاريخ الأمم والملوك، جـ8، 228 .
80) علم عاصم بمقدم أسد حين نزل "الدانّقان" وسيّر على مقدمته محمد بن مالك الهمداني اليماني، انظر الطبري: تاريخ الأمم والملوك، جـ 8، 224 .
81) انظر ابن كثير: البداية والنهاية، جـ10،26 .
82) انظر ابن الأثير: الكامل جـ 4، 228 .
83) انظر الطبري : تاريخ الأمم والملوك جـ8، 226 .
84) انظر ابن الأثير : الكامل جـ 4، 228 .
85) أمر أسد بكعب بن موسى التميمي أحد النقباء فألجم بلجام حمار وأمر باللجام أن يجذب فجذب حتى تحطمت أسنانه، فقال لاهز بن قريط التميمي وهو من النقباء ما هذا حق تترك اليمانين والربعيين وتعذبنا فكاد أسد أن يفتك به. انظر الطبري : تاريخ الأمم والملوك، جـ 8، 228 .
86) انظر الطبري : تاريخ الأمم والملوك جـ8، 231 .
87) انظر ابن الأثير : الكامل جـ4، 227 .
88) انظر الطبري : تاريخ الامم والملوك جـ8، 269 .
89) سأل "كورصول" عن آسره فقيل عاصم بن عمير السعدي التميمي قال: لست أجد ألم القتل إذا كان من أسرني فارس من فرسان العرب. انظر ابن الأثير: الكامل جـ4، 224 .
90) انظر الطبري : تاريخ الأمم والملوك جـ 8، 287 .
91) انظر ابن كثير : البداية والنهاية جـ10، 26 .
92) انظر ابن الأثير : الكامل جـ4، 276 .
93) وكانت امرأة نصر المرزبانة بنت قديد بن منيع المنقري التميمي أحد سادة مضر بخُراسان تلاطف الحارث وتهدي إليه فيقسم هديتها بين أصحابه بالسوّية. انظر الطبري: تاريخ الأمم والملوك جـ9، 53 .
94) لما صارت الخلافة إلى مروان بن محمد استوحش الحارث من ذلك وامتنع عن البيعة وتكلم في مروان، انظر ابن كثير : البداية والنهاية جـ10، 26 .
95) انظر الطبري : تاريخ الأمم والملوك جـ9،66 .
96) انظر ابن الأثير : الكامل جـ، 292 .
97) كما أن زعماء تميم كلَّموا الحارث وقالوا : ألم يصير نصر سلطانه وولايته في أيدي قومك ألم يخرجك من أرض الترك ومن حكم خاقان غير أن الحارث لم يسمع كلامهم. انظر الطبري: تاريخ الأمم والملوك، جـ 9، 66.
98) انظر ابن كثير: البداية والنهاية، جـ10، 66 .
99) انظر ابن خياط، 383 .
100) قال نصر للحارث بن سريج : إن كنت تزعم أنكم تهدمون سور دمشق وتزيلون ملك بني أمية فخذ مني خمسمائة رأساً ومائتي بعيراً واحمل من الأموال ما شئت وآله الحرب وسر فلعمري لئن كنت صاحب ما ذكرت إني لفي يدك وإن كنت لست ذلك فقد أهلكت عشيرتك، فقال الحارث قد علمت أن هذا حق ولكن لا يبايعني عليه من صحبني فقال نصر فقد ظهر أنهم ليسوا على رأيك فأذكر الله في عشرين ألفاً من ربيعة واليمن يهلكون فيما بينكم. انظر ابن الأثير: الكامل، جـ4، 219 .
101) قالت زاهية قدورة أن حركة أبي مسلم الخُراساني امتداد لحركة الحارث بن سريج والحق أن حركة أبي مسلم ثمرة للدعوة العباسية التي ظهرت عام 100 هـ والتي أفادت من الثورات والاضطرابات أمثال حركة ابن سريج. انظر زاهية قدورة : الشعوبية، 67.
102) انظر ابن الأثير: الكامل، جـ4، 240.
103) انظر الطبري: تاريخ الأمم والملوك، جـ8، 300.
104) انظر الطبري: تاريخ الأمم والملوك، جـ8، 300.
105) انظر ابن الأثير : الكامل جـ4، 306 .
106) وفي أواخر أيام بني أمية بخُراسان اجتمع عدد من القبائل غالبيتهم من ربيعة واليمن على شيبان ابن سلَمّة السدوسي البكري الوائلي الربعي وهو خارجي حروري يقال أنه أول من أظهر تشبية الله بخلقة تعالى الله عن ذلك. وقد عظم شأنه بـ "مرو" ورفض دعوة أبي مسلم له للبيعة غير أنه اضطر إلى الخروج إلى "سرخس" مع نفر من بني بكر بن وائل فادركه جيش لأبي مسلم فحاربه حتى قتل في عام 130 هـ. انظر ابن خياط : تاريخ ابن خياط 390 . ابن كثير : الكامل، جـ4، 311، الشهرستاني: الملل والنحل، 245.

dmd39
2011-02-15, 22:15
إن العصر الأموي يطلق على الفترة التي حكم فيها بنو أمية العالم الإسلامي ، والتي بدأت بتنازل الحسن لمعاوية ـ رضي الله عنهما ـ عن الخلافة ، وانتهت بمقتل مروان بن محمد أمام جند العباسيين بمصر (بالقرب من كنيسة بقرية بوصير 13 من ذي الحجة 132هـ = 23 من يوليو 750م .
وكانت حدود الدولة الإسلامية حين بدأت تلك الدولة تمتد شرقا إلى مرو ، وشمالا إلى الثغور السورية، ومصر وتونس في الغرب، ثم اتسعت إلىجورجيا من ناحية الشمال ، ومن الشرق حتى الأراضي الصينية ، وجنوباً غطت شبه الجزيرة العربية ، وتوسعتغرباً حتى أسبانيا والبرتغال .
وقدر الجغرافيون مساحتها بـ7460000سبعة ملايين وأربع مائة وستين ألف ميل مربع ، وهي أكبر دولة إسلامية عرفهاالتاريخ على الإطلاق..
وبداية نقول : إن المنافقين المعروفين بالسبئية دبروا للقضاء على الخلافة الإسلامية الراشدة بمقتل عثمان ـ رضي الله عنه ـ وأن مقتله قد أدى إلى حدوث فتنة بين المسلمين انتهت بموقعة الجمل ثم صفين ، وأن الصحابة تداركوا أنفسهم يوم صفين بعد أن راح عشرات آلاف من الأرواح الطاهرة منهم ، وأوكل علي ومعاوية ـ رضي الله عنهما ـ إلى فريق التحكيم مهمة التباحث في الخروج من تلك الأزمة ، ولكن الأشقياء الذين سموا فيما بعد باسم الخوارج لم يرق لهم أن يحل الصفاء على المسلمين ، فخرجوا على عليّ ـ رضي الله عنه ـ وخاض معهم معارك طاحنة انتهت بإضعاف قوته ، وانتهى صراعه معهم بمقتله على أيدي ابن ملجم الخبيث ـ لعنه الله ـ ..
فاجتمع أهل العراق بعد استشهاده على ابنه الحسن ـ رضي الله عنهما ـ لكنهم سرعان ما تآمروا عليه كما تآمروا على أبيه من قبل ، فاضطر إلى أن يراسل معاوية ، ويعرض عليه أن يتنازل له عن الخلافة ؛ حتى يجتمع شمل المسلمين ، وتحقن دماء جنودهم ..
وبذلك التنازل عادت وحدة المسلمين التي كان يحرص المنافقون على القضاء عليها ، وتم ذلك في ربيع الأول سنة 41 هـ ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد تنبأ بذلك فقال عن الحسن رضي الله عنه : " أيها الناس إن ابني هذا سيد، وسيصلح الله به بين فئتين عظيمتين من المسلمين " رواه البخاري.
وتفاؤلا بهذا الفعل الحميد سمي العام (41 هـ ) بعام الجماعة ، وبدأ بذلك العصر الأموي الذي نحن بصدد الحديث عنه ..
هذا العصر الذي كان لا يختلف كثيرا عن العصر السابق ( الراشدي ) رغم أن الحكم الإسلامي قد تحول فيه من حكم قائم على الانتخاب والشورى إلى حكم قائم على النظام الوراثي ؛ لأن الخلفاء الأمويين التزموا فيه بواجبهم تجاه الإسلام والمسلمين وسائر شعوبهم ، وظلت حركة التوسع الإسلامي قائمة ، وتصدوا بكل حزم لكل من يسعى لنشر المعتقدات الضالة بين المسلمين .
فكان معاوية ـ رضي الله عنه ـ يحرص قدر إمكانه على السير على نهج الخلفاء السابقين ، وقد دخل عليه يوما أبو مريم الأزدي فقال له : حديث سمعته أخبرك به، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " من ولاه الله شيئا من أمر المسلمين فاحتجب دون حاجتهم وخلتهم وفقرهم، احتجب الله دون حاجته وخلته وفقره " فلما سمعه منه جعل رجلا على حوائج الناس .(1).
وكان يأبى أن يظهر بين الناس بأنه مميز عنهم ، فقد خرج عليهم ذات يوم فقاموا تعظيما له ، فقال لهم : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " من أحب أن يتمثل له الرجال قياما فليتبوأ مقعده من النار " (2).
وكان المسلمون معه في راحة وعدل، وصفح وعفو كما قال ابن كثير (3) وكان يقول : يا بني أمية فارقوا قريشا بالحلم، فوالله لقد كنت ألقى الرجل في الجاهلية فيوسعني شتما وأوسعه حلما، فأرجع وهو لي صديق، إن استنجدته أنجدني، وأثور به فيثور معي، وما وضع الحلم عن شريف شرفه، ولا زاده إلا كرما وقال: آفة الحلم الذل ، وقال: لا يبلغ الرجل مبلغ الرأي حتى يغلب حلمه جهله، وصبره شهوته، ولا يبلغ الرجل ذلك إلا بقوة الحلم(4).
وكان ينهى أمراءه عن تتبع الناس والتصنت عليهم وأخذهم بالشبهات ويذكرهم بقول النبي صلى الله عليه وسلم: " إنك إن تتبعت عورات الناس أفسدتهم أو كدت أن تفسدهم ". (5). واستعمل زياداً على البصرة وخراسان وسجستان، ثم جمع له الهند والبحرين وعمان، وأوصاه أن يشتد على العصاة ، فقدم البصرة في آخر شهر ربيع الآخر - أو غرة جمادى الأولى - سنة خمس، والفسق بالبصرة ظاهر فاشٍ، فخطب فيهم فقال: الحمد لله على إفضاله وإحسانه، ونسأله المزيد من نعمه، اللهم كما رزقتنا نعماً، فألهمنا شكراً على نعمتك علينا.
أما بعد، فإن الجهالة الجهلاء، والضلالة العمياء، والفجر الموقد لأهله النار، الباقي عليهم سعيرها، ما يأتي سفهاؤكم، ويشتمل عليه حلماؤكم، من الأمور العظام، ينبت فيها الصغير، ولا يتحاشى منها الكبير، كأن لم تسمعوا بآي الله، ولم تقرءوا كتاب الله، ولم تسمعوا ما أعد الله من الثواب الكريم لأهل طاعته، والعذاب الأليم لأهل معصيته، في الزمن السرمد الذي لا يزول.
أتكونون كمن طرفت عينه الدنيا، وسدت مسامعه الشهوات، واختار الفانية على الباقية، ولا تذكرون أنكم أحدثتم في الإسلام الحدث الذي لم تسبقوا به؛ من ترككم هذه المواخير المنصوبة، والضعيفة المسلوبة، في النهر المبصر، والعدد غير قليل! ألم تكن منكم نهاةٌ تمنع الغواة عن دلج الليل وغارة النهار! قربتم القرابة، وباعدتم الدين، تعتذرون بغير العذر، وتغطون على المختلس، كل امرئ منكم يذب عن سفيهه، صنيع من لا يخاف عقاباً، ولا يرجو معاداً.
ما أنتم بالحلماء، ولقد اتبعتم السفهاء، ولم يزل بهم ما ترون من قيامكم دونهم، حتى انتهكوا حرم الإسلام، ثم أطرقوا وراءكم كنوساً في مكانس الريب ، حرام عليّ الطعام والشراب حتى أسويها بالأرض هدماً وإحراقاً.
إني رأيت آخر هذا الأمر لا يصلح إلا بما صلح به أوله، لينٌ في غير ضعف، وشدة في غير جبرية وعنف، وإني أقسم بالله لآخذن الولي بالولي، والمقيم بالظاعن، والمقبل بالمدبر، والصحيح منكم بالسقيم، حتى يلقى الرجل منكم أخاه فيقول: انج سعد فقد هلك سعيد، أو تستقيم لي قناتكم.
إن كذبة المنبر تبقى مشهورة، فإذا تعلقتم عليّ بكذبة فقد حلت لكم معصيتي، وإذا سمعتموها مني فاغتمزوها في ، واعلموا أن عندي أمثالها من بيت منكم ، فأنا ضامنٌ لما ذهب له، إياي ودلج الليل، فإني لا أوتى بمدلج إلا سفكت دمه، وقد أجلتكم في ذلك بقدر ما يأتي الخبر الكوفة ويرجع إلي ، وإياي ودعوى الجاهلية، فإني لا أجد أحداً ادعى بها إلا قطعت لسانه، وقد أحدثتم أحداثاً لم تكن، وقد أحدثنا لكل ذنب عقوبة، فمن غرق قوماً غرقته، ومن حرق على قوم حرقناه، ومن نقب بيتاً نقبت عن قلبه، ومن نبش قبراً دفنته فيه حياً؛ فكفوا عني أيديكم وألسنتكم أكفف يدي وأذاي، لا يظهر من أحد منكم خلاف ما عليه عامتكم إلا ضربت عنقه.
وقد كانت بيني وبين أقوام إحن، فجعلت ذلك دبر أذني وتحت قدمي، فمن كان منكم محسناً فليزدد إحساناً، ومن كان مسيئاً فلينزع عن إساءته، إني لو علمت أن أحدكم قد قتله السل من بغضي لم أكشف له قناعاً، ولم أهتك له ستراً، حتى يبدي لي صفحته، فإذا فعل لم أناظره؛ فاستأنفوا أموركم، وأعينوا على أنفسكم، فرب مبتئسٍ بقدومنا سيسر، ومسرورٍ بقدومنا سيبتئس.
أيها الناس، إنا أصبحنا لكم ساسةً، وعنكم ذادة، نسوسكم بسلطان الله الذي أعطانا، ونذود عنكم بفيء الله الذي خولنا، فلنا عليكم السمع والطاعة فيما أحببنا، ولكم علينا العدل فيما ولينا، فاستوجبوا عدلنا وفيئنا بمناصحتكم ، واعلموا أني مهما قصرت عنه فإني لا أقصر عن ثلاث: لست محتجباً عن طالب حاجة منكم ولو أتاني طارقاً بليل؛ ولا حابساً رزقاً ولا عطاءً عن صاحبه ، ولا مجمراً لكم بعثاً.
فادعوا الله بالصلاح لأئمتكم، فإنهم ساستكم المؤدبون لكم، وكهفكم الذي إليه تأوون، ومتى تصلحوا يصلحوا ، ولا تشربوا قلوبكم بغضهم، فيشتد لذلك غيظكم، ويطول له حزنكم، ولا تدركوا حاجتكم، مع إنه لو استجيب لكم كان شراً لكم. (6).
فخافه الناس في سلطانه خوفاً شديداً، وأمن بعضهم بعضاً، حتى كان الشيء يسقط من الرجل أو المرأة فلا يعرض له أحد حتى يأتيه صاحبه فيأخذه، وتبيت المرأة فلا تغلق عليها بابها، وساس الناس سياسةً لم ير مثلها، وهابه الناس هيبةً لم يهابوها أحداً قبله، وأدر العطاء، وبنى مدينة الرزق. (7).
واستعمل معاوية أيضا عبيد الله بن زياد على خراسان وقال له: إني قد عهدت إليك مثل عهدي إلى عمالي، ثم أوصيك وصية القرابة لخاصتك عندي، لا تبيعن كثيراً بقليل، وخذ لنفسك من نفسك، واكتف فيما بينك وبين عدوك بالوفاء تخف عليك المئونة وعلينا منك، وافتح بابك للناس تكن في العلم منهم أنت وهم سواء، وإذا عزمت على أمر فأخرجه إلى الناس، ولا يكن لأحد فيه مطمع، ولا يرجعن عليك وأنت تستطيع، وإذا لقيت عدوك فغلبوك على ظهر الأرض فلا يغلبوك على بطنها، وإن احتاج أصحابك إلى أن تؤاسيهم بنفسك فآسهم.
اتق الله ولا تؤثرن على تقوى الله شيئاً، فإن في تقواه عوضاً، وق عرضك من أن تدنسه، وإذا أعطيت عهداً فف به، ولا تبيعن كثيراً بقليل، ولا تخرجن منك أمراً حتى تبرمه، فإذا خرج فلا يردن عليك، وإذا لقيت عدوك فكن أكثر من معك، وقاسمهم على كتاب الله، ولا تطمعن أحداً في غير حقه، ولا تؤسن أحداً من حق له، ثم ودعه (8) .
وولى على الحجاز سعيد بن العاص فأحسن فيهم السيرة ، وكان بهم كريما ؛ حتى روي أنه استسقى يوما في بعض طرق المدينة، فأخرج له رجل من دار ماء فشرب، ثم بعد حين رأى ذلك يعرض داره للبيع فسأل عنه لم يبيع داره ؟ فقالوا: عليه دين أربعة آلاف دينار، فبعث إلى غريمه فقال: هي لك علي، وأرسل إلى صاحب الدار فقال: استمتع بدارك (9) .
وكان رجل من القراء الذين يجالسونه قد افتقر وأصابته فاقة شديدة، فقالت له امرأته: إن أميرنا هذا يوصف بكرم، فلو ذكرت له حالك فلعله يسمح لك بشيء ؟ فقال: ويحك ! لا تحلقي وجهي، فألحت عليه في ذلك، فجاء فجلس إليه، فلما انصرف الناس عنه مكث الرجل جالسا في مكانه، فقال له سعيد: أظن جلوسك لحاجة ؟ فسكت الرجل، فقال سعيد لغلمانه: انصرفوا، ثم قال له سعيد: لم يبق غيرك وغيرك، فسكت، فأطفأ المصباح ثم قال له: رحمك الله لست ترى وجهي فاذكر حاجتك، فقال: أصلح الله الأمير أصابتنا فاقة وحاجة فأحببت ذكرها لك فاستحييت، فقال له: إذا أصبحت فالق وكيلي فلانا، فلما أصبح الرجل لقي الوكيل فقال له الوكيل: إن الأمير قد أمر لك بشيء فأت بمن يحمله معك، فقال: ما عندي من يحمله، ثم انصرف الرجل إلى امرأته فلامها وقال: حملتيني على بذل وجهي للأمير، فقد أمر لي بشيء يحتاج إلى من يحمله، وما أراه أمر لي إلا بدقيق أو طعام، ولو كان مالا لما احتاج إلى من يحمله، ولأعطانيه ،فقالت المرأة: فمهما أعطاك فإنه يقوتنا فخذه، فرجع الرجل إلى الوكيل فقال له الوكيل: إني أخبرت الأمير أنه ليس لك أحد يحمله، وقد أرسل بهؤلاء الثلاثة السودان يحملونه معك، فذهب الرجل، فلما وصل إلى منزله إذا على رأس كل واحد منهم عشرة آلاف دراهم ، فقال للغلمان: ضعوا ما معكم وانصرفوا، فقالوا: إن الأمير قد أطلقنا لك، فإنه ما بعث مع خادم هدية إلى أحد إلا كان الخادم الذي يحملها من جملتها. (10) .
وكان سعيد هذا يقول لابنه : يا بني! أخزى الله المعروف إذا لم يكن ابتداءً عن غير مسألة، فأما إذا أتاك تكاد ترى دمه في وجهه، ومخاطراً لا يدري أتعطيه أم تمنعه، فوالله لو خرجت له من جميع مالك ما كافأته. (11) .
وخطب يوما فقال: من رزقه الله رزقا حسنا فليكن أسعد الناس به، إنما يتركه لأحد رجلين، إما مصلح فيسعد بما جمعت له وتخيب أنت .. (12)
وكان أمراء معاوية حريصون على أن يستمعوا لنصح الصالحين ، قال الحسن البصري: دخل عبيد الله بن زياد على معقل بن يسار يعوده في مرضه الذي مات فيه، فقال له معقل: إني محدثك حديثا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، لو لم أكن على حالتي هذه لم أحدثك به، سمعته يقول: " من استرعاه الله رعية فلم يحطها بنصيحة لم يجد رائحة الجنة، وإن ريحها ليوجد من مسيرة مائة عام "(13) .
وكانت الفتوح الإسلامية في عهده قائمة، وكان يغزو الروم في كل سنة مرتين، مرة في الصيف ومرة في الشتاء ، وقد اعتاد غزوهم منذ أن كان أميرا في خلافة عمر رضي الله عنه ، ولم تتوقف إلا في أوقات الخلاف بينه وبين علي ـ رضي الله عنهما ـ أي قبل أن يلي الخلافة ، وفي هذه الفترة حاول ملك الروم أن يستغل هذا الصراع وجهز جيوشه لغزو الشام ، فكتب معاوية إليه: والله لئن لم تنته وترجع إلى بلادك يا لعين لأصطلحن أنا وابن عمي عليك ولأخرجنك من جميع بلادك، ولأضيقن عليك الأرض بما رحبت ، فعند ذلك خاف ملك الروم وانكف، وبعث يطلب الهدنة (14) .
وقد بعث سنة تسع وأربعين يزيد ابنه غازيا فزحف حتى بلغ القسطنطينية ، ومعه جماعات من سادات الصحابة ، منهم ابن عمر وابن عباس وابن الزبير وأبو أيوب الأنصاري ـ رضي الله عنهم ـ خرج كل هؤلاء طمعا في الظفر بالفضل الذي أشار إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله : " أول جيش يغزون مدينة قيصر مغفور لهم " صحيح البخاري . (15).
وأرسل في سنة 50 عقبة بن نافع الفهري ففتح بلاد إفريقية، واختط القيروان - وكانت غيضة تأوي إليها السباع والوحوش والحيات العظام، فدعا الله تعالى فلم يبق فيها شيء من ذلك ، حتى إن السباع صارت تخرج منها تحمل أولادها، والحيات يخرجن من أجحارهن هوارب ، فأسلم خلق كثير من البربر لما رءوا ذلك (16) .
وأرسل سنة ثلاث وخمسين جنادة بن أبي أمية الأزدي ففتح جزيرة ردوس في البحر المتوسط ، فنزلها المسلمون وزرعوا أرضها ، واتخذوا بها أموالاً ومواشي يرعونها حولها، واتخذوا لهم ناطورٌ يحذرهم ما في البحر ممن يريدهم بكيد، وكان معاوية يدر لهم الأرزاق والعطاء ، وصار هؤلاء فيما بعد من أشد الناس على الروم، وكان يعترضونهم في البحر فيقطعون الطريق على سفنهم(17).
وأمر عبيد الله بن زياد بعد أن ولاه خراسان بغزو الترك ، فكان هو أول من قطع إليهم جبال بخارى ، ففتح كثيرا بلاد سمرقند وبخارى .
وهكذا مضى أيام خلافته بين العدل بين الرعية وبين الجهاد والغزو في سبيل الله ، وقد سئل في أول خلافته عمن يستحق منصب الخلافة بعده فقال : يكون بين جماعة، إما كريم قريش سعيد بن العاص، وإما فتى قريش حياء ودهاء وسخاء عبد الله بن عامر، وإما الحسن بن علي رجل سيد كريم، وإما القارئ لكتاب الله الفقيه في دين الله الشديد في حدود الله مروان بن الحكم، وإما الرجل الفقيه عبد الله بن عمر، وإما عبد الله بن الزبير.
لكنه على ما يبدو ـ وبعد وفاة الحسن ـ رأى أن الظروف غير مهيأة لأن يختار المسلمون بأنفسهم رجلا مناسبا بعد تغلغل الفكري الشيعي والخوارجي في قلوب كثير من الناس ، وبعد أن غلبت العصبية ، فاجتهد في أن يوصي ليزيد ابنه من بعده ، ويؤيد ذلك أنه قال لعبد الله بن عمر: إني خفت أن أذر الرعية من بعدي كالغنم المطيرة ليس لها راع (18) .. فقال له عبد الله : إذا بايعه الناس كلهم بايعته ، ولو كان عبدا مجدع الأطراف...
ووافق أكثر الصحابة وأبناؤهم معاوية على رأيه وبايعوا له على إمرة يزيد بعده ، فقال له معاوية : ماذا أنت فاعل إن وليت ؟ قال: كنت والله عاملا فيهم عمل عمر بن الخطاب ، فقال معاوية: سبحان الله يا بني والله لقد جهدت على سيرة عثمان بن عفان فما أطقتها ، فكيف بك وسيرة عمر ؟.
فلما حضره الموت - وذلك في سنة ستين - وكان يزيد غائباً، دعا بالضحاك بن قيس الفهري - وكان صاحب شرطته - ومسلم بن عقبة المري، فأوصى إليهما فقال: بلغا يزيد وصيتي، انظر أهل الحجاز فإنهم أصلك، فأكرم من قدم عليك منهم، وتعاهد من غاب، وانظر أهل العراق، فإن سألوك أن تعزل عنهم كل يوم عاملاً فافعل، فإن عزل عامل أحب إلي من أن تشهر عليك مائة ألف سيف، وانظر أهل الشام فليكونوا بطانتك وعيبتك، فإن نابك شيء من عدوك فانتصر بهم، فإذا أصبتهم فاردد أهل الشام إلى بلادهم، فإنهم إن أقاموا بغير بلادهم أخذوا بغير أخلاقهم، ... ثم أغمي عليه، ثم أفاق، فقال: لمن حضره من أهله: اتقوا الله عز وجل، فإن الله سبحانه يقي من اتقاه، ولا واقي لمن لا يتقي الله؛ ثم قضى(19).
وإلى لقاء مع الحلقة القادة إن شاء الله إن كان في العمر بقية
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الهوامش :
*مدير موقع التاريخ الالكتروني
1 ـ البداية والنهاية - (ج 8 / ص 134) والحديث رواه أبو داود في سننه .
2 ـ البداية والنهاية - (ج 8 / ص 135) والحديث رواه الطبراني في المعجم الكبير .
3 ـ انظر : البداية والنهاية - (ج 8 / ص 145)..
4 ـ البداية والنهاية - (ج 8 / ص 134)..
5 ـ صحيح ابن حبان - (24 / 49)
6 ـ تاريخ الرسل والملوك - (ج 3 / ص 181)..
7 ـ تاريخ الرسل والملوك - (ج 3 / ص 182)..
8 ـ تاريخ الرسل والملوك - (ج 3 / ص 208)..
9ـ البداية والنهاية - (ج 8 / ص 92).
10 ـ البداية والنهاية - (ج 8 / ص 92وما بعدها )..
11 ـ مختصر تاريخ دمشق - (ج 3 / ص 306).
12 ـ البداية والنهاية - (ج 8 / ص 94)..
13 ـ البداية والنهاية - (ج 8 / ص 111) والحديث في مسند عبد الله بن المبارك .
14 ـ البداية والنهاية - (ج 8 / ص 127)..
15 ـالبداية والنهاية - (ج 8 / ص 36) وما بعدها ..
16 تاريخ الرسل والملوك - (ج 3 / ص 180)..
17 تاريخ الرسل والملوك - (ج 3 / ص 187)..
18البداية والنهاية - (ج 8 / ص 87)
19 تاريخ الرسل والملوك - (ج 3 / ص 223).
متواصــــــــــــــــــــــــــــــــــــل

dmd39
2011-02-17, 15:52
رأينا كيف استطاع معاوية ـ رضي الله عنه ـ أن يحافظ على وحدة المسلمين ، وأنه بذل ما في وسعه ليبقي للدولة الإسلامية كيانها ، وأنه اضطر تحت ضغط المتغيرات التي أصابت العالم الإسلامي وغلبة العصبية إلى أن يعهد لابنه يزيد بالخلافة من بعده ، وأنه أوصاه قبيل موته قائلا : انظر أهل الحجاز فإنهم أصلك، فأكرم من قدم عليك منهم، وتعاهد من غاب، وانظر أهل العراق، فإن سألوك أن تعزل عنهم كل يوم عاملاً فافعل، فإن عزل عامل أحب إلي من أن تشهر عليك مائة ألف سيف، وانظر أهل الشام فليكونوا بطانتك وعيبتك، فإن نابك شيء من عدوك فانتصر بهم، فإذا أصبتهم فاردد أهل الشام إلى بلادهم، فإنهم إن أقاموا بغير بلادهم أخذوا بغير أخلاقهم، ... ثم أغمي عليه ثم أفاق، فقال: لمن حضره من أهله: اتقوا الله عز وجل، فإن الله سبحانه يقي من اتقاه، ولا واقي لمن لا يتقي الله؛ (1) ..
وصعدت روحه إلى السماء بعد أن ترك ليزيد تركة ما أثقلها ، إذ ما إن ولي الخلافة حتى ظهرت بوادر الاعتراض على إماراته ، فقد أرسل إلى المدينة ليأخذ البيعة من أهلها ، فبايعه أهلها إلا عبد الله بن الزبير والحسين ، حيث أبيا وخرجا من ليلتهما إلى مكة، وفي الطريق لقيهما ابن عباس وابن عمر ـ رضي الله عنهم جميعا ـ فسألاهما، ما وراءكما؟ قالا: موت معاوية والبيعة ليزيد (2)؛ وأحس ابن عمر أنهما خرجا من المدينة فرارا من مبايعته فقال لهما : اتقيا الله ولا تفرقا جماعة المسلمين (3) . لكنهما لم يستمعا لنصحه ، وذهبا إلى مكة ليحتميا بالحرم من الطلب.
وفي مكة أعلن الحسين وعبد الله بن الزبير امتناعهما عن البيعة فترفق بهما والي مكة عمرو بن سعيد ، ولان في معاملتهما ، ولم يشتد عليهما في طلب البيعة ، ومكثا فترة على تلك الحالة حتى كتب أهل الكوفة إلى الحسين ، يصفون الأمراء بغير ما فيهم ، ويدعون الحسين للخروج إليهم لتغيير هذا المنكر ، وجاء في أحد كتبهم : بسم الله الرحمن الرحيم. لحسين بن علي من سليمان بن صرد والمسيب بن نجبة ورفاعة بن شداد وحبيب بن مظاهر وشيعته من المؤمنين والمسلمين من أهل الكوفة. سلامٌ عليك، فإنا نحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، أما بعد، فالحمد لله الذي قصم عدوك الجبار العنيد الذي انتزى على هذه الأمة ( يقصدون معاوية رضي الله عنه ) فابتزها أمرها، وغصبها فيئها، وتأمر عليها بغير رضاً منها، ثم قتل خيارها، واستبقى شرارها، وجعل مال الله دولةً بين جبابرتها وأغنيائها، فبعداً له كما بعدت ثمود! إنه ليس علينا إمام، فأقبل لعل الله أن يجمعنا بك على الحق ، والنعمان بن بشير في قصر الإمارة لسنا نجتمع معه في جمعة، ولا نخرج معه إلى عيد، ولو قد بلغنا أنك قد أقبلت إلينا أخرجناه حتى نلحقه بالشام إن شاء الله؛ والسلام ورحمة الله عليك (4) .
وكانت تلك الرسالة بمثابة الشرارة التي أشعلت النار في جسد الأمة الإسلامية ، ولا أكون مبالغا إذ قلت : إن أثر نيرانها ما زال مشتعلا في فتنة السنة والشيعة كلما خبا وجد من ينفخ فيه ليزداد اشتعالا ..
وحركت تلك الرسالة ثائرة الحسين رضي الله عنه ؛ إذ كيف يرى ظلما كالذي وصف في تلك الرسالة ولا يهب لتغييره ، ولم يعطه شيعة العراق فرصة لتبين الأمر ، وإنما انهالت عليه رسائلهم ، رسالة تلو رسالة ، حتى كتبوا إليه مغرين أو قل : مغررين : أما بعد فقد اخضرت الجنان ، وأينعت الثمار ، ولطمت الجمام ، فإذا شئت فأقدم على جند لك مجندة ، والسلام عليك (5) .
وأؤكد هنا أن الحسين لم يثر طمعا في الخلافة ، ولا إيمانا منه بأنها حكرا على آل البيت كما يردد جهلة المتشيعة ، وإنما الرجل رحمه الله ورضي عنه كان شديد الغيرة لدين الله عز وجل ، فلم يصبر على ما سمع من أخبار تذكر أن حرمات الدين تنتهك ، وفي نفس الوقت لم يتريث حتى يتأكد من مصدر تلك الكتب التي كانت تأتي إليه بذلك ، بل لم يعط لنفسه الفرصة أو قل : لم يعطوه الفرصة ليستمع لنصح من نصحه حتى من أقرب المقربين له ..
وعزم بالفعل على المطالبة لنفسه بالخلافة فبعث ابن عمه مسلم بن عقيل بن أبي طالب إلى الكوفة ؛ ليكشف له حقيقة هذا الأمر والاتفاق، فتسامع أهل الكوفة بقدومه ( مسلم بن عقيل ) فجاءوا إليه فبايعوه على إمرة الحسين، وحلفوا له لينصرنه بأنفسهم وأموالهم، فاجتمع على بيعته من أهلها اثنا عشر ألفا، ثم تكاثروا حتى بلغوا ثمانية عشر ألفا، وعندها كتب مسلم إلى الحسين ليقدم عليها ، وأخبره بأنه قد مهد له البيعة والأمور.
وكان أميرا على الكوفة وقتها النعمان بن بشير الصحابي الجليل ، وهو رجل معروف بالتقوى والورع ، ولذلك لم يتعرض لأحد ممن اجتمع على مسلم بسوء ، ولكنه لما علم أنهم يريدون نقض البيعة ليزيد خطب فيهم ونهاهم عن الاختلاف والفتنة، وأمرهم بالائتلاف والسنة، وقال: إني لا أقاتل من لا يقاتلني، ولا أثب على من لا يثب علي، ولا آخذكم بالظنة، ولكن والله الذي لا إله إلا هو لئن فارقتم إمامكم ونكثتم بيعته لأقاتلنكم ما دام في يدي من سيفي قائمته (6).
والنعمان ما قال هذا الكلام إلا لعلمه أنه لا يجوز الخروج على الحاكم ما دام لا يبدر منه ما يخالف شرع الله ، وهو واحد من الأمراء شاهد على عدل يزيد ومن قبله معاوية ..
وحاول واحد من جلسائه وهو (عبد الله بن مسلم بن شعبة الحضرمي ) أن ينصحه بالشدة مع من ينوون الفتنة ، وقال له : إن هذا الأمر لا يصلح إلا بالغشمة (الشدة ) وإن الذي سلكته أيها الأمير مسلك المستضعفين ، فقال له النعمان: لأن أكون من المستضعفين في طاعة الله أحب إلي من أن أكون من الأقوياء الأعزين في معصية الله (7).
ووصل خبر مسلم بن عقيل إلى يزيد فاضطر إلى أن يعزل النعمان بن بشير عن الكوفة ويعين عليهم رجلا أشد قسوة ، وكان هذا أول شؤم حل عليهم نتيجة خلعهم لطاعة أميرهم ، وحرمت الكوفة إلى الأبد من أمير في ورع وتقوى النعمان رضي الله عنه.
ودخل عبيد الله بن زياد إلى الكوفة وهي في ظروف غير طبيعية ، ولذلك كان لابد أن تكون ولايته متأثرة بتلك الظروف ، وكان عليه أن ينحي اللين الذي كان سببا في عزل النعمان جانبا ، ويأخذ أهلها بالشدة لتستقر له الأمور ، فصعد إلى قصر الإمارة وأمر مناديا فنادى: الصلاة جامعة، فلما اجتمع الناس خرج إليهم فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أما بعد فإن أمير المؤمنين قد ولاني أمركم وثغركم وفيأكم، وأمرني بأنصاف مظلومكم وإعطاء محرومكم، والإحسان إلى سامعكم ومطيعكم، والشدة على مريبكم وعاصيكم، وإنما أنا ممتثل فيكم أمره ومنفذ عهده.(8) .
وكانت المفاجأة أن من التفوا حول مسلم بن عقيل بمجرد أن رءوا الجد من عبيد الله بن زياد تسللوا عنه حتى بقي وحيدا ، بل أرشدوا إلى البيت الذي اختبأ فيه ليلقى حتفه ..
وكان الخطأ الذي وقع فيه مسلم أنه لم يتأن قليلا حتى يعايش هؤلاء ويعرف مدى صلابتهم واستعدادهم للثبات معه وقت الشدة ، وإنما أسرع بالكتابة إلى الحسين تحت ضغط من زعماء المتشيعة ليدعوه للمجيء إلى الكوفة ، وعجل الحسين هو الآخر المسير بمجرد أن جاءته رسالة مسلم التي تصف اجتماعهم عليه ، ولو تمهل مسلم قليلا حتى جاء عبيد الله بن زياد إلى الكوفة ورأى انصراف الناس عنه ما خرج الحسين من مكة ولا حدث شيء من مأساة مقتله ، ولكن كان أمر الله قدرا مقدورا ..
وقد حاول بعض أقارب الحسين إثنائه عن الرحيل إلى الكوفة ، وحذروه من إغواء شيعة الكوفة ، وذكروه بما فعلوه بأبيه ثم أخيه الحسن من قبل ، ومن هؤلاء عبد الله بن جعفر بن أبي طالب الذي كتب إليه يقول: أما بعد، فإني أسألك بالله لما انصرفت حين تنظر في كتابي، فإني مشفقٌ عليك من الوجه الذي توجه له أن يكون فيه هلاكك واستئصال أهل بيتك، إن هلكت اليوم طفئ نور الأرض، فإنك علم المهتدين؛ ورجاء المؤمنين؛ فلا تعجل بالسير فإني في أثر الكتاب؛ والسلام.
ثم ذهب عبد الله من فوره إلى عمرو بن سعيد بن العاص والي الحجاز فكلمه، وقال: اكتب إلى الحسين كتاباً تجعل له فيه الأمان، وتمنيه فيه البر والصلة، وتوثق له في كتابك، وتسأله الرجوع لعله يطمئن إلى ذلك فيرجع؛ فقال عمرو ابن سعيد: اكتب ما شئت وأتني به حتى أختمه، فكتب عبد الله بن جعفر الكتاب، بسم الله الرحمن الرحيم، من عمرو بن سعيد إلى الحسين بن علي، أما بعد، فإني أسأل الله أن يصرفك عما يوبقك، وأن يهديك لما يرشدك؛ بلغني أنك قد توجهت إلى العراق، وإني أعيذك بالله من الشقاق، فإني أخاف عليك فيه الهلاك، وقد بعثت إليك عبد الله بن جعفر ويحيى بن سعيد، فأقبل إلي معهما، فإن لك عندي الأمان والصلة والبر وحسن الجوار لك، الله علي بذلك شهيدٌ وكفيلٌ، ومراعٍ ووكيلٌ؛ والسلام عليك (9).
ثم أتى به عمرو بن سعيد فقال له: اختمه، وابعث به مع أخيك يحيى بن سعيد، فإنه أحرى أن تطمئن نفسه إليه، ويعلم أنه الجد منك، ففعل؛ فلحقه يحيى وعبد الله بن جعفر، ثم انصرفا بعد أن أقرأه يحيى الكتاب، فقالا: اقرأناه الكتاب، وجهدناه، وكان مما اعتذر به إلينا أن قال: إني رأيت رؤيا فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمرت فيها بأمر أنا ماضٍ له، علي كان أو لي؛ فقالا له: فما تلك الرؤيا؟ قال: ما حدثت أحداً بها، وما أنا محدث بها حتى ألقى ربي.
ووصل على مقربة من الكوفة في "كربلاء " وهناك انفض عنه عامة من خرج معه إلا بقية من أهل بيته ، ويبدو أن هذا الفعل جعله يعزم على الانصراف راجعا ، وخاصة بعد أن ترجاه كثير من الناصحين ومن قادة الجيش الذي بعثه إليه ابن زياد ، وكان كل واحد منهم يتمنى ألا يبتلى بدمه ، لكن آل عقيل بن أبي طالب لما علموا بمقتل مسلم أصروا على الثأر لمقتل مسلم ، فدخل في مواجهة غير متكافئة انتهت بمقتله وكثير من آل بيته..
ومثل مقتله فاجعة كبيرة للمسلمين بقي أثرها إلى الآن ، وأكبر من تلك الفاجعة أن مقتله كسر حاجز الهيبة الذي كان لدى المسلمين من مس آل بيت رسول الله بسوء ، وصارت دماؤهم الزكية مستباحة فيما بعد لا يحس الناس بحرمتها .
ولم يقتصر الأمر عند هذا الحد ، وإنما أدى مقتله إلى وقوع الشحناء بين الأسرة الأموية الحاكمة وبين عامة الشعب ، إذ لم يغفروا لها ولوغها في دم ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وحملوها وحدها وزر مقتله .
فانتفضت المدينة غضبا للمأساة التي حلت به ، وثار عبد الله بن الزبير بمكة ، وحلت النكبات على يزيد بالشام ، فبعث إلى أهل المدينة النعمان بن بشير ينهاهم عما صنعوا ، ويحذرهم غب ذلك ، ويأمرهم بالرجوع إلى السمع والطاعة ولزوم الجماعة، فسار إليهم وفعل ما أمره يزيد ، وخوفهم الفتنة وقال لهم: إن الفتنة وخيمة، وقال: لا طاقة لكم بأهل الشام، فقال له عبد الله بن مطيع: ما يحملك يا نعمان على تفريق جماعتنا وفساد ما أصلح الله من أمرنا ؟ (10)
وأغضبت مقولة عبد الله بن مطيع النعمان ، فهو لم يبغ إلا وحدة جماعتهم وإصلاح أمرهم ، ورد على عبد الله معاتبا بقوله : أما والله لكأني وقد تركت تلك الأمور التي تدعو إليها، وقامت الرجال على الركب التي تضرب مفارق القوم وجباههم بالسيوف، ودارت رحا الموت بين الفريقين، وكأني بك قد ضربت جنب بغلتك إلي وخلفت هؤلاء المساكين - يعني الأنصار - يقتلون في سككهم ومساجدهم، وعلى أبواب دورهم .(11). فلم يأبه بكلامه وعصاه باقي الناس فلم يسمعوا منه فانصرف عنهم ، يقول الراوي لتلك الواقعة : وكان الأمر والله كما قال سواء (12 ) .
كما نصحهم عبد الله بن عمر بمثل ما نصحهم به النعمان ، إذ دخل على عبد الله بن مطيع فقال : إنما جئتك لأحدثك حديثا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول فيه : " من نزع يدا من طاعة فإنه يأتي يوم القيامة لا حجة له، ومن مات مفارق الجماعة فإنه يموت موتة جاهلية "(13 ).
فلما رآهم مصرين على خلع طاعة يزيد جمع بنيه وأهله ثم تشهد وقال: أما بعد فإنا بايعنا هذا الرجل ( أي يزيد ) على بيع الله ورسوله، وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " إن الغادر ينصب له لواء يوم القيامة ، يقال هذه غدرة فلان، وإن من أعظم الغدر إلا أن يكون الإشراك بالله أن يبايع رجل رجلا على بيع الله ورسوله ثم ينكث بيعته " (14) .
وكذلك محمد بن الحنفية الذي قال لهم : ما رأيت منه ما تذكرون ( مما عابوه على يزيد ) ، وقد حضرته وأقمت عنده فرأيته مواظبا على الصلاة ، متحريا للخير ، يسأل عن الفقه ملازما للسنة، قالوا: فإن ذلك كان منه تصنعا لك ، فقال : وما الذي خاف مني أو رجا حتى يظهر إلي الخشوع ؟ أفأطلعكم على ما تذكرون من شرب الخمر ؟ فلئن كان أطلعكم على ذلك إنكم لشركاؤه، وإن لم يكن أطلعكم فما يحل لكم أن تشهدوا بما لم تعلموا ، فقالوا: إنه عندنا لحق وإن لم يكن رأيناه.
فقال لهم : أبى الله ذلك على أهل الشهادة، فقال: "إلا من شهد بالحق وهم يعلمون" [ الزخرف: 86 ] ولست من أمركم في شيء ، فقالوا: فلعلك تكره أن يتولى الأمر غيرك فنحن نوليك أمرنا ، فقال: ما أستحل القتال على ما تريدونني عليه تابعا ولا متبوعا.
ولما لم تجد تلك النصائح معهم شيئا ، وأصروا على خلع طاعة يزيد ، اضطر إلى أن يفعل بهم كما فعل بأهل الكوفة فأرسل إليهم رجلا يسمى مسلم بن عقبة المزني ، وقال له : ادع القوم ثلاثا فإن رجعوا إلى الطاعة فاقبل منهم ، وكف عنهم ، وإلا فاستعن بالله وقاتلهم ، وانتهى الأمر بوقعة الحرة التي سالت فيها الدماء الزكية دون مراعاة لجوار رسول الله ، وكانت فاجعتها لا تقل عن مأساة مقتل الحسين رضي الله عنه .
وهكذا قُدر ليزيد أن تشهد فترة خلافته فاجعتين من أشد فواجع التاريخ ، مقتل الحسين رضي الله ، واستباحة المدينة ، ولم يعمر بعدها كثيرا فلحق بربه ، وقد حُمّل أمام المسلمين مسئولية الأمرين معا ..
واستخلف ابنه معاوية الثاني قبيل موته ، وكان في العشرين من عمره ، ولكن معاوية الثاني الذي عايش الأحداث السابقة ، ورأى أن أباه تحمل تبعاتها على غير رضا منه آثر أن يخلع نفسه ، ويلقي عن كاهله عبء التركة فنادى في الناس بعد أيام من وفاة أبيه قائلا : " الصلاة جامعة " ، فلما اجتمع الناس إليه قال : يا أيها الناس ! إني قد وليت أمركم وأنا ضعيف عنه، فإن أحببتم تركتها لرجل قوي كما تركها الصديق لعمر، وإن شئتم تركتها شورى في ستة منكم كما تركها عمر بن الخطاب، وليس فيكم من هو صالح لذلك، وقد تركت لكم أمركم فولوا عليكم من يصلح لكم (15).
وحدث بسبب تنازله عن الخلافة دون عهد لأحد ما كان يتخوف منه جده معاوية ـ رضي الله عنه ـ إذ نادى عبد الله بن الزبير لنفسه أميرا على الحجاز ، وبويع مروان بن الحكم أميرا على الشام ، وتنازع العراق عدة أمراء ، وظلوا على تلكم الحالة حتى اجتمع أهل الحجاز واليمن والعراق وخراسان على عبد الله بن الزبير ، وبقيت الشام ومصر في يد مروان بن الحكم ، فعين ابنه عبد العزيز على مصر وأوصاه بأكابرها خيرا ، وبقي هو بالشام ..
وكان مروان ـ رغم ما أشيع عنه ـ معروفا بالصلاح والفقه ، فقد جاء عن سالم أبي النضر أنه قال: شهد مروان جنازة فلما صلى عليها انصرف، فقال أبو هريرة: أصاب قيراطا وحرم قيراطا، فأخبر بذلك مروان فأقبل يجري حتى بدت ركبتاه، فقعد حتى أذن له (16).
وقال عنه معاوية : القارئ لكتاب الله، الفقيه في دين الله، الشديد في حدود الله، مروان بن الحكم . (17). وقال عنه أحمد بن حنبل : يقال كان عند مروان قضاء، وكان يتتبع قضايا عمر بن الخطاب ، وقال ابن وهب: سمعت مالكا يقول وذكر مروان يوما فقال : قال مروان: قرأت كتاب الله منذ أربعين سنة ،ثم أصبحت فيما أنا فيه، من إهراق الدماء وهذا الشأن (18).
ونعود لحديثنا فأقول : إن الأمر انتهى باجتماع المسلمين على عبد الملك بن مروان بعد مقتل عبد الله بن الزبير ، وكان عبد الله قد ظل يُنادى بأمير المؤمنين تسع سنوات تقريبا ، وقد قام خلالها بتجديد بينان الكعبة ؛ لأنها قد أصابها شرر فاحترقت كسوتها وتصدع بعض جوانبها ..وكان قد بلغه أن رسول الله قال : « يا عائشة ، لولا أن قومك حديث عهد بجاهلية لهدمت البيت حتى أدخل فيه ما أخرجوا منه في الحجر ، فإنهم عجزوا عن نفقته ، وجعلت لها بابين ، بابا شرقيا ، وبابا غربيا ، وألصقته بالأرض ، ولوضعته على أساس إبراهيم »(19) فوسعها وأدخل فيها الحجر ...
وقد امتد بأمه أسماء بنت الصديق العمر حتى شهدت وفاته فجاء إليها الحجاج معزيا وقال : يا أسماء إنني وعبد الله تسابقنا إلى تلك الخشبة ( التي صلب عليها ) فسبقني إليها ، ورحل بعدها أخوه عروة بن الزبير إلى دمشق فدخل على عبد الملك قبل أن يعلم بنبأ مقتل عبد الله فرحب به ، وأثناء الحديث قال له عبد الملك : كيف حال أبي بكر ( أي عبد الله ) فقال له عروة : إن أبا بكر قد بان ، فقال له : وما فعل ؟ قال : قتل يرحمه الله ! فخر عبد الملك ساجدا ، ثم قال له عروة : فهب جثته لأمه ، قال : أفعل ، وكتب إلى الحجاج يأمره بأن ينزله من على خشبته ويدفعه إلى أمه لدفنه .
ولما تمت البيعة لعبد الملك بالخلافة كتب إليه عبد الله بن عمر بن الخطاب يقول : بسم الله الرحمن الرحيم، من عبد الله بن عمر إلى عبد الملك أمير المؤمنين ! سلام عليك فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، أما بعد فإنك راع وكل راع مسئول عن رعيته " الله لا إله إلا هو ليجمعنكم إلى يوم القيامة لا ريب فيه ومن أصدق من الله حديثا" [ النساء: 86 ] لا أحد والسلام .(20).
وأختم بتلك الرسالة حلقة اليوم على أمل أن ألتقي بكم إن كان في العمر بقية .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الهوامش :
*مدير موقع التاريخ الالكتروني
1ـ تاريخ الرسل والملوك - (ج 3 / ص 223).
2 ـ تاريخ الرسل والملوك - (ج 3 / ص 230).
3 ـ تاريخ الرسل والملوك - (ج 3 / ص 230).
4 ـ البداية والنهاية - (ج 8 / ص 163).
5 ـ البداية والنهاية - (ج 8 / ص 163)
6 ـ البداية والنهاية - (ج 8 / ص 165)..
7 ـ البداية والنهاية - (8 / 163)
8 ـ تاريخ الرسل والملوك - (ج 3 / ص 252)..
9 ـ تاريخ الرسل والملوك - (ج 3 / ص 253)
10 ـ البداية والنهاية - (ج 8 / ص 261)..
11 ـ البداية والنهاية - (ج 8 / ص 261)..
12 ـ البداية والنهاية - (ج 8 / ص 261)..
13 ـ البداية والنهاية - (ج 8 / ص 261)..
14 ـ البداية والنهاية - (ج 8 / ص 255)
15 ـ البداية والنهاية - (ج 8 / ص 261)..
16 البداية والنهاية - (ج 8 / ص 283).
17 ـ البداية والنهاية - (ج 8 / ص 283). .
18 ـ البداية والنهاية - (ج 8 / ص 283)..
19 ـ المستدرك على الصحيحين للحاكم - (ج 4 / ص 311).
20 ـ . البداية والنهاية - (ج 9 / ص 77)..

dmd39
2011-02-20, 17:57
من المعلوم أن حركة الفتوح الإسلامية قد تعطلت خلال فترة الصراع بين أمراء المسلمين عقب وفاة يزيد بن معاوية ، فلما آلت الخلافة لعبد الملك وهدأت ثائرة الفتنة أمر الحجاج ( وكان أميرا على العراق ) أن يولي المهلب بن أبي صفرة على خراسان وعبيد الله بن أبي بكرة على سجستان ،وأن يكلفهما باستئناف الفتوحات الإسلامية في بلاد ما وراء النهر ، وذلك في سنة ثمان وسبعين ، فخرج عبيد الله بن أبي بكرة بجيشه حتى غزا رتبيل حاكم بلاد الترك ،وقد كان مصالحا للمسلمين من قبل ، لكنه امتنع عن دفع ما عليه من خراج .. فقال له الحجاج : ناجزه بمن معك من المسلمين فلا ترجع حتى تستبيح أرضه ، وتهدم قلاعه ، وتقتل مقاتلته ، وتسبي ذريته ، فخرج بمن معه من المسلمين من أهل الكوفة وأهل البصرة حتى توغل في بلاد رتبيل ، وهدم قلاعه وحصونه ، وغلب على كثير من أرضه ..
وأثناء رجوعه بجيشه كمن لهم الترك فقطعوا عليهم الطريق بعد أن جمعوا لهم الجموع الغفيرة ، فبعث ابن أبي بكرة إلى شريح بن هانئ ـ وكان معه نائبا على جيش الكوفة ـ إني مصالح القوم على أن أعطيهم مالا ويخلوا بيني وبين الخروج ، وقبل أن يأتيه رد شرحبيل أرسل إليهم فصالحهم على سبعمائة ألف درهم ، فلقيه شريح فقال : إنك لا تصالح على شيء إلا حسبه السلطان عليكم في أعطياتكم ( وقال له ذلك ليحثه على مواصلة القتال بدلا من مصالحتهم ) فقال له : لو مُنعنا العطاء ما حيينا كان أهون علينا من هلاكنا ، فقال شريح : والله لقد بلغت سنا ، وقد هلكت لداتي ، ما تأتي إلي ساعة من ليل أو نهار فأظنها تمضي حتى أموت ، ولقد كنت أطلب الشهادة منذ زمان ، ولئن فاتتني اليوم ما إخالني مدركها حتى أموت ..
وقال : يا أهل الإسلام تعاونوا على عدوكم ، فقال له ابن أبي بكرة : إنك شيخ قد خرفت ( وذلك لما رأى من إقدامه في مثل هذا الموقف الخطير ) فلم يبال شرحبيل بمقولته ، ونادى : يا أهل الإسلام من أراد منكم الشهادة فإلي ، فاتبعه ناس من المتطوعة غير كثير ، وفرسان الناس وأهل الحفاظ "(1)..
فقاتلوا العدو قتالا شديدا حتى استشهدوا إلا قليلا .. وقاتل شريح حتى قُتل في ناس من أصحابه ، ونال الشهادة التي أمّلها ، وخرج العدد القليل الذي نجا من بلاد رتبيل ، فاستقبلهم من خرجوا إليهم من المسلمين بالأطعمة فصار إذا أكل أحدهم وشبع مات من شدة ما كان فيه من إجهاد، فلما رأى ذلك الناس أخذوا يطعمونهم السمن قليلا قليلا حتى استمرؤوا وتعافوا ..
وبلغ ذلك الحجاج فحزن على مصابهم حزنا شديدا ، وأخذه ـ كما يقول الراوي ـ ما تقدم وما تأخر ، وبلغ ذلك منه كل مبلغ .. وكتب إلى عبد الملك يقول : أما بعد فإن جند أمير المؤمنين الذين بسجستان أصيبوا فلم ينج منهم إلا القليل ، وقد اجترأ العدو بالذي أصابه على أهل الإسلام فدخلوا بلادهم ، وغلبوا على حصونهم وقصورهم ، وقد أردت أن أوجه إليهم جندا كثيفا من أهل المصرين ( البصرة والكوفة ) فأحببت أن أستطلع رأي أمير المؤمنين في ذلك ، فإن رأى لي بعثة ذلك الجند أمضيته ، وإن لم ير ذلك فإن أمير المؤمنين أولى بجنده ، مع إني أتخوف إن لم يأت رتبيل ومن معه من المشركين جند كثيف عاجلا أن يستولوا على ذلك الفرج ( الجهة أو الثغر ) كله.(2) .
فكتب إليه عبد الملك يقول : أما بعد : فقد أتاني كتابك تذكر فيه مصاب المسلمين بسجستان، وأولئك قوم كتب الله عليهم القتل فبرزوا إلى مضاجعهم، وعلى الله ثوابهم ، وأما ما أردت أن يأتيك فيه من توجيه الجنود وإمضائها إلى ذلك الفرج الذي أصيب فيه المسلمون أو كفها، فإن رأيي في ذلك أن تمضي رأيك راشداً موفقاً .(3).
فجهز الحجاج جيشا كثيفا وأرسله مددا لابن أبي بكرة بقيادة عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث ، لكن عبد الله بن أبي بكرة مات قبل أن يصل إليه ذلك المدد ، وكان ذلك سنة 79 هـ ، فعز على المسلمين مصابه لأنه ـ رحمه الله ـ فضلا عن جهاده كان رجلا كريما كثير النفقة في وجوه الخير، حتى إنه دخل على الحجاج مرة وفي يده خاتم فقال له الحجاج : وكم ختمت بخاتمك هذا ؟ قال : على أربعين ألف ألف دينار، قال : ففيم أنفقتها ؟ قال: في اصطناع المعروف، ورد الملهوف والمكافأة بالصناع وتزويج العقائل (4).
وأناب الحجاج عبد الرحمن على سائر الجند خلفا له ، فلما وصل سجستان صعد منبرها فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أيها الناس، إن الأمير الحجاج ولاني ثغركم، وأمرني بجهاد عدوكم الذي استباح بلادكم وأباد خياركم، فإياكم أن يتخلف منكم رجل فيحل بنفسه العقوبة، اخرجوا إلى معسكركم فعسكروا به مع الناس ، فعسكر الناس كلهم في معسكرهم ، وأقيمت الأسواق ليشتري الجند حاجتهم قبل الزحف ..
فبلغ رتبيل خبر استعدادهم له فكتب إلى عبد الرحمن بن محمد يعتذر إليه من مصاب المسلمين ، ويخبره أنه كان لذلك كارهاً، وأنهم ألجئوه إلى قتالهم، ويسأله الصلح ، ويعرض عليه أن يقبل منه الخراج، فلم يجبه، ولم يقبل منه ؛ خشية أن يكون ذلك مكر منه ، وسار في جنده حتى دخل أول بلاده، فأخذ رتبيل يضم إليه جنده، وينسحب أمامه ويدع له الأرض رستاقاً رستاقاً، وحصناً حصناً، وطفق ابن الأشعث كلما ملك بلداً بعث إليه عاملا، وبعث معه أعواناً، ووضع البُرُد فيما بين كل بلد وبلد، وجعل الأرصاد على العقاب والشعاب، ووضع المسالح بكل مكان مخوف، حتى إذا جاز من أرضه أرضاً عظيمة، حبس الناس عن التوغل في أرض رتبيل .(5).
ولكن للأسف بعد هذا النصر الذي أحرزه عبد الرحمن على الترك خلع طاعة الخليفة ، وأراد الاستقلال بالعراق ، وكان عمه إسماعيل بن الأشعث قد قال للحجاج من قبل : إني أخاف أن تؤمره فلا ترى لك طاعة إذا جاوز جسر الصراه ، فقال الحجاج : ليس هو هنالك هو لي حبيب (6) .
وبلغ المهلب بن أبي صفرة شقاقه ، فكتب إليه: أما بعد، فإنك وضعت رجلك يا بن محمد في غرز طويل الغي على أمة محمد صلى الله عليه وسلم ، الله الله فانظر لنفسك لا تهلكها؛ ودماء المسلمين فلا تسفكها، والجماعة فلا تفرقها، والبيعة فلا تنكثها، فإن قلت: أخاف الناس على نفسي فالله أحق أن تخافه عليها من الناس، فلا تعرضها لله في سفك دم، ولا استحلال محرم ، والسلام عليك (7).
فأبى الاستماع لنصحه وسار حتى نزل العراق فاجتمع عليه أكثر أهل العراق ، وخاصة الذين كانوا يخفون التشيع ويتربصون ببني أمية فخلعوا طاعة عبد الملك ، وبلغ الحجاج أمره فأسرع بإرسال رسوله إلى عبد الملك يعلمه بما وصل إليه حاله فارتاع لذلك ، وجمع رءوس قريش وأهل الشام الذين كانوا أهل مشورته ، وأعلمهم بالأمر فقالوا: إن كان إنما يرضي أهل العراق أن يُنزع عنهم الحجاج فانزعه، فإن نزع الحجاج أيسر من حرب أهل العراق، فانزعه عنهم تخلص لك طاعتهم، وتحقن به دماءنا ودماهم.
فبعث عبد الملك ابنه عبد الله بن عبد الملك، وبعث إلى أخيه محمد بن مروان بأرض الموصل يأمره بالقدوم عليه، فاجتمعا جميعاً عنده؛ كلاهما في جند بهما، فأمرهما أن يعرضا على أهل العراق نزع الحجاج عنهم، وأن يجري عليهم أعطياتهم كما تجرى على أهل الشام، وأن ينزل ابن الأشعث أي بلد من عراق شاء، يكون عليه والياً ما دام حياً، وكان عبد الملك والياً؛ فإن هم قبلوا ذلك عُزل عنهم الحجاج، وكان محمد بن مروان أمير العراق، وإن أبوا أن يقبلوا فالحجاج أمير جماعة أهل الشام ، ويولى القتال، ويكون محمد بن مروان وعبد الله بن عبد الملك في طاعته (8).
فلما اجتمع محمد بن مروان وعبد الله بن عبد الملك مع الحجاج خرج عبد الله بن عبد الملك فقال: يا أهل العراق، أنا عبد الله بن أمير المؤمنين، وهو يعطيكم كذا وكذا، وقال محمد بن مروان : أنا رسول أمير المؤمنين إليكم، وهو يعرض عليكم كذا وكذا، فذكر العطايا التي اقترحها مجلس الشورى على عبد الملك ، فقالوا: نرجع العشية ..
وكان ابن الأشعث قد بدأ يفيء إلى الطاعة ويجنح إليه، فجمع أتباعه فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أما بعد، فقد أعطيتم أمراً انتهازكم اليوم إياه فرصة، ولا آمن أن يكون على ذي الرأي غداً حسرة، وإنكم اليوم على النصف ، وإن كانوا اعتدوا بالزاوية فأنتم تعتدون عليهم بيوم تستر، فاقبلوا ما عرضوا عليكم وأنتم أعزاء أقوياء، والقوم لكم هائبون وأنتم لهم منتقصون فلا والله لا زلتم عليهم جراء، ولا زلتم عندهم أعزاء، إن أنتم قبلتم أبداً ما بقيتم(9) .
فوثب جماعة من مثيري الفتن العراقيين فقالوا: إن الله قد أهلكهم، فأصبحوا في الأزل والضنك والمجاعة والقلة والذلة، ونحن ذوو العدد الكثير، والسعر الرفيع والمادة القريبة، لا والله لا نقبل (10) فأعادوا خلع عبد الملك ثانية ، ولم يؤخذوا العبرة من النكبات التي حلت بهم وبالمسلمين جراء ثوراتهم من قبل .
وعندها رجع محمد بن مروان وعبد الله بن عبد الملك إلى الحجاج فقالا: شأنك بعسكرك وجندك فاعمل برأيك، فإنا قد أمرنا أن نسمع لك ونطيع ..
والتقى جيش ابن الأشعث بالحجاج عند دير يسمى دير الجماجم ليسفر اللقاء عن هزيمة ساحقة بأهل العراق تبعها عدة وقائع وفر على إثرها عبد الرحمن إلى بلاد المشرق ..
وأصاب الناس من جراء ذلك بلاء كبير ، وقتل كثير من العلماء والأعيان الذين سولت لهم أنفسهم الخروج مع ابن الأشعث أو أجبروا على الخروج معه، وقد ألقى ابن كثير باللوم على هؤلاء فقال : والعجب كل العجب من هؤلاء الذين بايعوه بالإمارة وليس من قريش، وإنما هو كندي من اليمن، وقد اجتمع الصحابة يوم السقيفة على أن الإمارة لا تكون إلا في قريش، واحتج عليهم الصديق بالحديث في ذلك، حتى إن الأنصار سألوا أن يكون منهم أمير مع أمير المهاجرين فأبى الصديق عليهم ذلك ، فكيف يعمدون إلى خليفة قد بويع له بالإمارة على المسلمين من سنين فيعزلونه وهو من صلبية قريش ، ويبايعون لرجل كندي بيعة لم يتفق عليها أهل الحل والعقد ؟ ولهذا لما كانت هذه زلة وفلتة نشأ بسببها شر كبير ، هلك فيه خلق كثير ، فإنا لله وإنا إليه راجعون (11).
وقد اعتذر من نجا منهم عما صدر منه ، ومن هؤلاء الشعبي الذي قال : كنت لابن أبي مسلم صديقاً، فلما قدم بي على الحجاج لقيت ابن أبي مسلم فقلت: أشر علي؛ قال: ما أدري ما أشير به عليك غير أن اعتذر ما استطعت من عذر! وأشار بمثل ذلك نصحائي وإخواني، فلما دخلت عليه رأيت والله غير ما رأوا لي، فسلمت عليه بالإمرة ثم قلت: أيها الأمير، إن الناس قد أمروني أن أعتذر إليك بغير ما يعلم الله أنه الحق، وايم الله لا أقول في هذا المقام إلا حقاً، قد والله سودناه عليك، وحرضنا وجهدنا عليك كل الجهد، فما آلونا، فما كنا بالأقوياء الفجرة، ولا الأتقياء البررة، ولقد نصرك الله علينا، وأظفرك بنا، فإن سطوت فبذنوبنا وما جرت إليه أيدينا، وإن عفوت عنا فبحلمك، وبعد الحجة لك علينا، فقال له الحجاج: أنت والله أحب إلي قولا ممن يدخل علينا يقطر سيفه من دمائنا ثم يقول: ما فعلت ولا شهدت؛ قد أمنت عندنا يا شعبي.(12).
وعندما هم بالانصراف قال : كيف وجدت الناس يا شعبي بعدنا ( وكان الحجاج يكرمه من قبل )؟ فقال : أصلح الله الأمير! اكتحلت والله بعدك السهر، واستوعرت الجناب ( أي وجدته وعرا صعبا ) واستحلست الخوف ( أي صرت له ملازما ) وفقدت صالح الإخوان، ولم أجد من الأمير خلفاً.
وبعد ذلك تتبع الحجاج أخبار ابن الأشعث فعلم أنه قد فر إلى رتبيل ملك الترك فبعث إليه يقول : والله الذي لا إله إلا هو لئن لم تبعث إلي بابن الأشعث لأبعثن إلى بلادك ألف ألف مقاتل، ولأخربنها ، فلما تحقق الوعيد من الحجاج استشار رتبيل في ذلك بعض الأمراء فأشار عليه بتسليم ابن الاشعث إليه قبل أن يخرب الحجاج دياره ، ويأخذ عامة أمصاره، فأرسل إلى الحجاج يشترط عليه أن لا يقاتل عشر سنين، وأن لا يؤدي في كل سنة منها إلا مائة ألف من الخراج، فأجابه الحجاج إلى ذلك ..
وكان المسلمون أولى بتلك الأموال التي اقتطعها رتبيل ، وكانوا أولى بادخار الأنفس التي أزهقت والدماء التي سيلت والأموال التي أنفقت أثناء القضاء على حركة التمرد بالعراق لو أن قادتنا تعودوا أن ينتصروا على أنفسهم ، ويجنبوها الزلات ..
وكان المسلمون أولى بأن تظل رابطتهم بأمرائهم الذين حموا بيضة الإسلام في الداخل ورفعوا راية الجهاد في الخارج قائمة ، ولا يرى نشؤنا أنه كان ثمة شقاق بعيد بين الأمراء وبين العلماء ممثلا في قصة الحجاج سعيد بن جبير التي صارت تروى على لسان الصغير والكبير واتخذ بعض الكتاب مادتها للمسرحيات ...
وإلى لقاء في حلقة قادمة إن كان في العمر بقية ..
ـــــــــــــــــــــــــــــــــ
الهوامش :
*مدير موقع التاريخ الالكتروني
1 ـ تاريخ الطبري - (ج 3 / ص 615)...
2 ـ تاريخ الطبري - (ج 3 / ص 479)..
3 ـ تاريخ الطبري - (ج 3 / ص 480) .
4 ـ البداية والنهاية - (9 / 39)..
5 ـ المنتظم - (2 / 282) .
6 ـ البداية والنهاية - (9 / 40) .
7 ـ تاريخ الرسل والملوك - (ج 3 / ص 485) .
8 ـ تاريخ الرسل والملوك - (ج 3 / ص 490) .
9 ـ البداية والنهاية - (ج 9 / ص 51) .
10 ـ تاريخ الطبري - (3 / 631).
11 ـ البداية والنهاية - (ج 9 / ص 66)..
12 ـ تاريخ الرسل والملوك - (ج 4 / ص 2)..

سفير النوايا الحسنة
2011-02-21, 03:11
http://img341.imageshack.us/img341/9767/rdd96es3.gif

لقاء الجنة
2011-03-21, 13:39
http://m002.maktoob.com/alfrasha/ups/u/31060/36004/450582.jpg

لقاء الجنة
2011-03-21, 13:48
http://m002.maktoob.com/alfrasha/ups/u/31060/36004/450582.jpg