yacine414
2011-02-11, 20:32
مقدمة:
يتميز عصرنا الراهن بالتطور المذهل لا سيما في المجال البيولوجي و قدرته علي استحداث تقنيات في المعرفة العلمية إذ تمت في السنوات الأخيرة ثورة هائلة كان سببها التطور البيولوجي الذي ساير التطور التكنولوجي، انجرت عنها تقدمات سريعة. هذه الأخيرة فتحت مجالات واسعة لقضايا لم تشهدها البشرية من قبل و كذلك أحدثت تغيرا في ممارسة الطب كتلك المتعلقة بالإرث البيولوجي للكائنات.و كان التراث الجيني مجال جدل عالمي حول مشروعية التقنيات الوراثية.
و قد كانت القضايا المقررة عن التقنية البيولوجية ذات صلة مباشرة بحياتنا اليومية و الشخصية تجلت من خلال الإسهامات الواضحة في مجال علاج الإنسان وكذلك مبادراتها في تشخيص الأمراض الوراثية، و علاجها و الوقاية منها، إذ كان للجينات دورها العلمي و الثقافي و قد غيرت نظرتنا لهذا العالم الحي و هكذا فإن الجينية فرضت نفسها تناسقا لأنظمة الإنسان، إلا أن الأهم من ذلك هو مجموع المعلومات التي يتم جمعها من خلال تنسق الجينوم الإنساني، و جعل الكثير من الباحثين يعتقدون أن البيولوجية حربا فتاكة لكونها تمس بحرمة الإنسان وطبيعته و اعتبرت تقنية ألـ ADN فنا يتلاعب بالمادة الوراثية بإمكانه الكشف عن الأمراض التي تصيب الجنين قبل ولادته.
و لقد تطور علم البصمات تطورا مذهلا فلم تقتصر البصمة علي أصابع اليد فقط بل توصل علماء الأدلة الجنائية إلي التعرف علي الشخص من بصمات عينيه و أذنيه و أسنانه و لا يزال علم البصمات يتقدم بسرعة مذهلة من أجل الوصول إلي تحقيق المطابقة بين الحقيقة الواقعية و القانونية تحقيقا للعدالة.
حتى أن التقدم العلمي كشف خصائص أخرى قد تكون أسهل و أدق و أشد حسما من جميع البصمات السابقة. ولعل البصمة الوراثية أصبحت الآن اشهر هذه الخصائص من أجل التعرف علي هوية الشخص و من ثمة التوصل إلي معرفة مقترفي الجرائم و إلحاق نسب الأبناء بآبائهم.
و تستعمل ألـADN في حل الكثير من القضايا و ذلك لارتباطها المباشر بالإفرازات الجسمية التي تختلف من الجناة أو المجني عليهم و لذلك فقد أولى الكثير من الخبراء الجنائيين اهتمامات كبيرة لتطويراساليب فحص الآثار البيولوجية، حيث تمكن من تطبيق ألـADN و إثبات أن هناك بعض الأجزاء من هذه الأحماض النووية تكون فريدة لكل شخص و الذي لم يعد معه ربط الجاني بمسرح الجريمة حلما و إثبات البنوة أمرا مستحيلا.
و نظرا لهذا تظهر أهمية ألـ ADN في القضايا الجنائية، حيث يمكن بواسطتها التوصل إلي إثبات ذاتية الأثر بشكل قطعي في معظم الحالات و كذلك التوصل إلي درجات إثبات عالية لتحديد ذاتية الأثر.
كل ذلك كان باعثا لطرح عدة إشكالات:
- ما موقف القانون و القضاء المقارن من البصمة الوراثية في الإثبات ؟ و ما موقف القانون و القضاء الجزائري منها ؟
- ماهو الأساس التشريعي الذي يعتمد عليه القاضي لتكريس تقنية أل ADN كدليل إثبات قانوني؟
- و ما مدى حجية البصمة الوراثية في الإثبات و هل يجوز للقاضي أن يكتفي بقرينة البصمة الوراثية كدليل للإثبات دون بقية القرائن الأخرى ؟
و لعلى ما دفعنا إلي اختيار هذا البحث جملة من الدوافع منها:
1- إن ظهور ألـADN و الإعتداد به كدليل لا سيما في المجال الجنائي يعد نقلة نوعية في مجال الإثبات.
2- غياب الدراسات الفقهية و القانونية حول هذا الموضوع علي الساحة العربية و الوطنية و عدم مسايرة المشرع للتطور العلمي الحاصل في هذا المجال.
3- نتائج الأبحاث العلمية أثبتت نجاعتها علي جميع المستويات الطبية و البيئية و الاقتصادية ناهيك علي المجال القانوني.
ونظرا لما سلف ذكره ارتأينا معالجة هذا الموضوع وفق الخطة التالية:
الرموز و المصطلحات:
الخطة المقترحة
الفصل التمهيدي: الإثبات و ماهية البصمة الو راثية
أولا: الإثبات
1- الإثبات في المواد المدنية
2- الإثبات في المواد الجزائية
ثانيا: ماهية البصمة الوراثية
1- الدراسة العلمية للبصمة الوراثية
أ- مدلول البصمة الوراثية
ب- خصائص البصمة الوراثية
ج- اكتشاف البصمة الوراثية
د- الخطوات العلمية لإجراء تقنية فحص البصمة الوراثية
2- أهمية البصمة الو راثية في الإثبات
أ- اهميتها في المجال الجزائي
ب- اهميتها في المجال المدني
الفصل الأول : البصمة الوراثية و التقنينات الوضعية .
المبحث الأول : الأحكام القانونية للبصمة الوراثية
المطلب الأول : التشريعات الغربية
المطلب الثاني : التشريعات العربية
المبحث الثاني : البصمة الوراثية في الاجتهاد القضائي
المطلب الأول : في قضاء الدول الغربية
المطلب الثاني : في قضاء الدول العربية
الفصل الثاني: مجالات تطبيق البصمة الوراثية و مدى حجيتها في الإثبات
المبحث الأول : المجالات القانونية للبصمة الوراثية
المطلب الأول : الأساليب الوراثية لإثبات النسب و الجرائم الجنسية
الفرع الأول: إثبات النسب.
الفرع الثاني: إثبات الجرائم الجنسية.
المطلب الثاني : حجية البصمة الوراثية
الفرع الأول: الحجية المطلقة للبصمة الوراثية.
الفرع الثاني: الحجية النسبية للبصمة الوراثية.
أ) الإستنساخ.
ب) الخطأ البشري
المبحث الثاني : المجالات الأخرى لاستعمال تقنية البصمة الوراثية.
المطلب الأول : إثبات هوية المفقودين و البحث عن الجذور
الفرع الأول: إثبات هوية المفقودين.
الفرع الثاني: البحث عن الجذور.
المطلب الثاني : استعمال تقنية البصمة الوراثية في مجال الإقتصاد و التأمين
الفرع الأول: في مجال الإقتصاد .
الفرع الثاني: في مجال التأمين.
خــــــاتمة
لفصل التمهيدي الإثبات و ماهية البصمة الوراثية
أولا: الإثبات:
وسائل الإثبات في القضاء لها أهمية بالغة ترقى إلى أهمية مرفق القضاء بحد ذاته، ذلك أن أهمية الإثبات تكمن في كونه الوسيلة الوحيدة التي تمكننا من اعتبار فعل ما موضوع شك أو انتزاع عنوانا للحقيقة على إثر صدور حكم نهائي في الدعوى فالإثبات لا يمكن فصله عن الحكم القضائي بل هو روح هذا الحكم و جوهره و على الرغم من هذه الأهمية التي يكتسبها الإثبات، فإن الدارسين لم يكرسوا في الحقيقة مجهودات معتبرة للبحث فيه، فهناك دراسات قليلة تتعلق بالقواعد التي تنظم موضوع الإثبات في مختلف الأنظمة القانونية لا سيما المتعلقة منها بالإثبات العلمي من كون هذا الأخير في تطور مستمر ذلك أن الحقيقة العلمية تبقي دائما محل دراسة و تجديد بين الحقيقة القضائية تنتهي عند اكتشافها من طرف القضاء(1).
و هذا التطور المذهل و السريع لوسائل الإثبات العلمية دفع بنا إلي الحديث عنها في الجانبين المدني و الجزائي لاسيما الإثبات عن طريق البصمة الوراثية ( ADN).
و كتمهيد لحديثنا علي البصمة الوراثية و حجيتها في الإثبات ارتأينا أن نتحدث و لو بإيجاز عن وسائل الإثبات القانونية في المجالين المدني و الجزائي قبل الحديث عن البصمة الوراثية كوسيلة من وسائل الإثبات في القانون و القضاء الغربي و العربي.
1/ الإثبات في المواد المدنية:
الإثبات هو الدليل أمام القضاء بالطرق المحددة قانونا علي واقعة قانونية ينازع في صحتها أحد أطرف الخصومة، ومن هنا فإن الإثبات يكتسي أهمية بالغة في الحياة العملية إذ الحق بالنسبة لصاحبه لا قيمة له و لا نفعا إذا لم يقم عليه الدليل.
و لقد تناول المشرع الجزائري طرق الإثبات المدنية في القانون المدني و قانون الإجراءات المدنية و القانون التجاري، فالقانون المدني نظم 05 طرق للإثبات جاء بها في الباب السادس تحت عنوان إثبات الالتزام من المادة 323إلى المادة 350 من ق.م و هي :
1)الكتابة: تعرض لها المشرع في المواد من 323الي 332 ق.م و أحكامها الإجرائية تناولها في المواد من 76إلى80و من 155إلى166 ق.إ.م .
و الكتابة تعتبر أهم طريقة في الإثبات المدني لأنها يمكن أن تعد وقت نشوء التصرف لاتقاء حدوث نزاع و لحله في حالة حدوثه. و تكمن أهميتها في كونها صالحة لإثبات جميع الوقائع سواء أكانت واقعة مادية أو تصرف قانوني (2).
1)- (د) محمد زهدور ، الموجز في الطرق المدنية للإثبات في التشريع الجزائري / ص22
2)- محاضرات الأستاذ الدكتور ملزي في مادة الإثبات في المواد المدنية ، طلبة القضاة السنة الثانية الدفعة 13 .
وقد تشترط من قبل المشرع لقيام التصرف بحيث لا ينتج هذا التصرف آثاره القانونية إلا إذا حررت أمام موظف رسمي و بذلك فهي تعتبر ركنا شكليا في التصرف، وقد تشترط لإثبات التصرف كما إذا كانت قيمة التصرف تزيد على 1000دج وغيابها هنا لا يؤثر على صحة التصرف لأنه يثبت بالإقرار و اليمين وعليه فالكتابة هنا للإثبات لا للانعقاد.
و الكتابة تكون بمحررات إما رسمية و إما عرفية، فالمحررات الرسمية هي التي تحرر بمعرفة شخص ذو صفة رسمية أو موظف من موظفي الدولة أو شخص مكلف بخدمة عامة،أما المحررات العرفية فهي التي تنشأ بين أفراد عاديين ليست لهم تلك الصفة.
2)- البينة: ( شهادة الشهود ) تناولها المشرع في المواد من 333إلي 337 ق.م وتناول قواعدها الإجرائية في المواد من 61الي 76 من ق.إ.م .
و البينة هي ذلك التصريح الذي يدلي به الشخص أمام القضاء بوقائع صادرة عن الغير و ترتب حقا للغير و البينة تخضع لتقدير قاضي الموضوع، فله أن يأخذ بها إذا اطمئن و له تركها جانبا إذا ما راوده شكا في صحتها كما له أن يرجح شهادة البعض على البعض الأخر.
و الإثبات بشهادة الشهود يكون أصلا في المواد التجارية و الوقائع المادية و التصرفات القانونية التي لا يجاوز 1000 دج و استثناءا في حالة وجود مبدأ الثبوت بالكتابة أو وجود مانع مادي أو أدبي للحصول علي دليل كتابي أو فقدان الدائن لسنده الكتابي لسبب أجنبي خارج عن إرادته.
3)- القرائن: تناولها في المواد 337 إلى 340 ق.م و هي ما يستنبطه المشرع أو القاضي من أمر معلوم الدلالة على أمر مجهول (1) و هي على قسمين:
أ)- القرائن القضائية: وهي التي يترك استنباطها و استنتاجها لقاضي الموضوع من ظروف الدعوى ووقائعها المطروحة أمامه.
ب)- القرائن القانونية: و هي التي يستدلها المشرع عن الحالات يغلب وقوعها فينص عليها في شكل قاعدة عامة و مجردة.
4)- الإقرار: و هو اعتراف الخصم بواقعة ترتب عليها حقا يستفيد منه خصمه، يعفي هذا الأخير من عبء الإثبات. و لذا فإن الإقرار اعتبر من طرق الإثبات جوازا.
و قد وردت أحكامه الموضوعية في القانون المدني في المادتين 341و 342 و تعرض قانون الإجراءات المدنية إلى الطريقة التي يمكن أن توصل إلى الإقرار و هي استجواب الخصوم شخصيا و إحضارهم أمام القاضي، فإن حضروا و استجوبوا جاز أن ينشأ عن هذا الاستجواب إقرار بالواقعة محل النزاع و لذا نظم قانون الإجراءات المدنية هذه الأحكام في المادتين 33و 43 منه (2)
1 )- الدكتور عبد المنعم فرج الصدة، الإثبات في المواد المدنية ن مطبعة مصطفي الحلبي 1955 ص 283 .
2)- الدكتور محمد زهدور . المرجع السابق .
5)- اليمين: يعتبر اليمين طريقا غير عادي للإثبات، فلا يلتجأ إليه إلا بعد انسداد الطرق الأخرى للإثبات و بذلك يحتكم الخصم الي ذمة خصمه ووجدانه و ضميره و ينقسم اليمين إلى قضائية و غير قضائية ، فالأولى هي التي توجه من خصم لأخر و تكون حاسمة، أو توجه إلي خصم من طرف القاضي و هي اليمين المتممة و تؤدى في كلتا الحالتين أمام القضاء أما الثانية فهي اليمين غير القضائية و التي تؤدى خارج ساحة القضاء.
و قد وردت أحكام اليمين الموضوعية في القانون المدني في المواد من 343الي المادة 350 و تعرض قانون الإجراءات المدنية إلي كيفية أدائها في المادتين 433 و 434 منه.
6)- المعاينة: و هي انتقال المحكمة إلي عين المكان لمعاينة محل النزاع بنفسها و استخلاص الدليل من مشاهدته و ذلك لغموض الدليل المقدم إليها أو نقصانه.
و انتقال المحكمة للمعاينة قد يكون بناءا على طلب الخصوم أو نتيجة قرار تلقائي من المحكمة و هذا ما أشارت إليه المادة56 من ق.إ.م.
7)- الخبرة: و هي عبارة عن معاينة يقوم بها أشخاص لهم إلمام بعلم أو فن لا يعلمه القاضي كالطب و الهندسة و تحقيق الخطوط و المحاسبة وغيرها من الأمور التي تستعصي على فهم القاضي و لهذا وجب على الخبير أن يبقي في دائرة هذه الفنيات و لا يتعداها إلى شيء خارج عن وظيفته و قد نظم ق.إ.م أعمال الخبرة في المواد من 47 إلي 57 (1).
وبهذا تظهر أهمية وسائل الإثبات المدنية في القضاء إذ هي بنفس أهمية مرفق القضاء ذاته فهي إحدى مراحله و على حد تعبير ابن فرحون " مقام عالي ومنصب نبوي .به الدماء تعصم و تسفح و الأبضاع تحرم و تنكر و الأموال يثبت ملكها و يسلب و المعاملات يعلم ما يجوز منها و يحرم و يكره و يندب " (2) .
و من خلال ذلك تبرز الأهمية التي يوليها المشرع لقضية الإثبات. فهي و لا شك المجال الذي يتفاضل فيه القضاة علي قدر تفهمهم لقواعد الإثبات و إدراكهم لمواقف الخصوم و حججهم ليكون حكمهم أقرب إلي الصواب.
2/ الإثبات في المواد الجنائية:
أعطى القانون للقاضي الجنائي كامل الحرية في تقدير الأدلة المقدمة إليه في الدعوى الجنائية و وزنها و ترجيح بعضها على الأخر و ذلك تطبيقا لمبدأ حرية الإثبات المقرر في المسائل الجنائية باستثناء بعض الحالات المحددة في الإثبات حصرا، إذن لا يتقيد الإثبات الجنائي بوجه عام بأدلة معينة فللقاضي أن يكون اقتناعه من أي دليل يقدم إليه و هذا بخلاف الحال في الإثبات المدني.
1)- د. محمود زهدور – المرجع السابق ، ص 100 – 101
2)- بكوش يحي ، أدلة الإثبات في القانون المدني الجزائري و الفقه الإسلامي – الشركة الوطنية للنشر و التوزيع ، الجزائر 1981 ، ص 15
و تكمن أهمية الإثبات الجنائي في كون هذا الأخير يتعلق بالجريمة نفسها و الجريمة في حد ذاتها تنتمي إلى الماضي و ليس في وسع المحكمة أن تعاينها بنفسها ، و تتعرف علي حقيقة ما و تستند في ذلك فيما تقضي به في شأنها ، و من ثمة يتعين عليها أن تستعين بوسائل تعيد أمامها رواية و تفصيل ما حدث ، وهذه الوسائل هي أدلة الإثبات .
ما يلاحظ أن المشرع ألزم القاضي الجنائي ألا يحكم بالإدانة إلا إذا استند إلى الجزم و اليقين.
و قد أورد المشرع طرق الإثبات في المسائل الجنائية في قانون الإجراءات الجزائية الصادرة بالأمر رقم 66/155 المعدل و المتمم و المؤرخ في 08 يونيو 1966 الكتاب الثاني الباب الأول، الفصل الأول، منه تحت عنوان؛ في طرق الإثبات في المواد من 212 إلي غاية 218 و الوسائل التي يستعملها القضاء الجنائي في مواد الإثبات حتى يتوصل إلي هدفه الأساسي لإظهار الحقيقة هي:
1)- الاعتراف:
تطرق له المشرع في المادة 213 ق.إ.ج و قد قيل في الاعتراف العديد من التعريفات تناولته من مختلف زواياه ، و من التعريفات التي قيلت فيه مايلي :
- فقد عرفه جانب من الفقه بالقول " الاعتراف هو قول صادر من المتهم يقر فيه بصحة ارتكابه للوقائع المكونة للجريمة بعضها أو كلها، و هو بذلك أقوى الأدلة "
- و عرفه قضاة المحكمة العليا بأنه " إقرار من المتهم بكل أو بعض الوقائع المنسوبة إليه و هو كغيره من أدلة الإثبات موكول لتقدير قضاة الموضوع وفقا لأحكام المادة 213 من ق.إ.ج (1).
يتضح من هذين التعريفين متجمعة أن الاعتراف عمل إداري ينسب به المتهم إلى نفسه ارتكاب وقائع معينة تتكون بها الجريمة.
و للاعتراف عنصرين أساسيين :
1- إقرار المتهم على نفسه.
2- الإقرار على الوقائع المكونة للجريمة كلها أو بعضها.(2)
2)- المحاضر:
فيرد بها المحررات التي يدونها الموظفون المختصون وفقا للشروط و الأشكال التي حددها القانون لإثبات ارتكاب الجرائم و الإجراءات التي اتخذت بشأنها.
1)- قرار صادر يوم 2/12/1980 من الغرفة الجنائية 2.مجموعة القرارات (ص 26)، منشور للمؤلف جيلا لي بغدادي، الاجتهاد القضائي .ص13.
2)- د/ مروك نصر الدين، محاضرات في الإثبات الجنائي 2. أدلة الإثبات الجنائي، الكتاب 1 الاعتراف و المحررات ط 2004 .
و تكون للمحاضر أو التقارير حجيتها ما لم يدحضها دليل عكسي بالكتابة أو شهادة الشهود، في هذه الحالة فإن إنكار المتهم للوقائع المبينة في المحضر أو تقديمه أدلة و قرائن لا تكفي لدحض مضمون المحضر، فينبغي على المتهم إنشاء ذلك بإثبات العكس عن طريق دليل كتابي أو بشهادتي الشهود(1) .
و من أمثلة المحاضر التي تعتبر حجة تقيد اقتناع القاضي إلى أن يقوم الدليل علي عكس ما ورد فيها ؛ المحاضر المحررة في المواد المخالفات (2) و المشرع الجزائري نظم المحاضر كدليل من أدلة الإثبات الجنائي في المواد منها 214 – 218 من ق إ ج.
المادة 214 : تتعلق بشروط صحة المحضر المقدم كدليل للإثبات .
المادة 215 : تتعلق بالمحاضر المثبتة للجنايات و الجنح و اعتبارها مجرد استدلالات.
المادة 216 : تتعلق ببعض المحاضر التي لها الحجية إلى أن يثبت ما يخالفها بدليل عكسي سواء كان كتابة أو شهادة شهود.
المادة 217 : تتعلق بقيمة الدليل الكتابي المستنبط من الممارسات المتبادلة بين المتهم و محاميه .
المادة 218 : تتعلق ببعض المحاضر التي لها حجية إلي أن يطعن فيها بالتزوير و المحاضر التي يتعامل معها القضاء الجزائي ليست نوعا واحدا، بل هي عدة أنواع كما أن من يحررها فئات مختلفة.
1)- محاضر يحررها ضباط الشرطة القضائية بمناسبة قيامهم بأعمالهم في جمع الاستدلالات و البحث و التحري عن الجرائم.
2)- محاضر يحررها وكيل الجمهورية بمناسبة قيامه بنظر جرائم التلبس و منها محضر سماع المتهم.
3)- محاضر أخرى يحررها وكيل الجمهورية.
4)- محاضر يحررها قاضي التحقيق بمناسبة قيامه بعمله في التحقيق القضائي الابتدائي.
5)- محاضر يحررها كتاب جلسات الحكم بمناسبة حضورهم لجلسات الحكم.
6)- محاضر التشريع الضريبي و التشريع المتعلق بمراقبة الأسعار و محاربة الغش، كما توجد في بعض القوانين كقانون الغابات و مواد الصيد، التشريع الجمركي و قانون البيئة.
3)- الشهادة:
تناولها المشرع في المادة 220 و ما بعدها من قانون الاجراءات الجزائية و للإثبات بالشهادة شأنه شأن الوسائل الأخرى يخضع لحرية تقدير القاضي و هذا ما تأكده المحكمة العليا «...... إن تقدير الدليل بما فيه شهادة الشهود المناقش أمام المجلس في معرض المرافعة حضوريا يدخل في إطار الاقتناع الخاص لقضاة الموضوع......».(3)
(1)- المحكمة العليا ، غ ج : 10/06/1969 نشرة القضاة 1969 / 04، ص 86 .
(2)- أنظر المادة 400 من ق إ ج.
(3)-المحكمة العليا-غ ج : 13/05/1986 رقم 304 غير منشور
و على هذا لم يعد هناك ما يمنع القاضي الجنائي بالأخذ بتصريحات تلقاها في معرض المرافعات على سبيل الاستدلال لاستبعاد الشهادة بمعناها الضيق أو ترجيح شهادة وحيدة على عدة شهادات بل إن المحكمة العليا سمحت للقاضي الجنائي الاعتداد بتصريحات الشركاء.(1)
و يقع على الشهود واجب التعاون مع القضاء فهناك التزام عام بموجبه يلتزم كل مواطن باتخاذ المبادرة في إعلان القضاء الجنائي بما وصل إلى علمه حول ارتكاب جريمة جنائية و تعتبر مشاركة الشهود ذات أهمية بالغة في ميدان الإثبات و كثيرا ما تكون الشهادة هي الدليل الوحيد أو على الأقل أهم دليل إثبات، و لا تنحصر مهمة الشهود بل تمتد طوال مدة الدعوى الجنائية سواء تعلق الأمر بالمرحلة الابتدائية أم النهائية.
بعد ذكر هذه الطرق ظهرت وسيلة إثبات جديدة و أحدثت ثورة في مجال الإثبات و أصبحت تستعمل كوسيلة من أدق وسائل الإثبات، فإذا كانت الوسائل التقليدية التي سبق ذكرها تحتمل الخطأ فإن هذه الوسيلة الحديثة تكون نتائجها قاطعة و دقيقة، ويكون اللجوء إليها في حالة عدم وجود بينة ظنية أو قرينة من الظن (2)وهي البصمة الوراثية و تعتبر شهادة بيولوجية في مجال البينة ، قال تعالى : " فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون " (3) .
و هذا النص واضح في حالة افتقاد البينة أن يجد المرء سبيلا إليها عند أهل الذكر و هم في هذا المجال علماء البيولوجيا المختصين بتحليل البصمة الوراثية و هم معينين من الجهة القضائية كما نصت عليه المادة 144/1 من ق إ ج، إذ جاء فيها: " يختار الخبراء من الجدول الذي تعده المجالس القضائية بعد استطلاع رأي النيابة العامة ".
إذ أن إجراء تحليل البصمة الوراثية لا يتم إلا بإذن من الجهة الرسمية المختصة و هذا ما أخذ به القانونين المصري و الفرنسي اللذان يران أنه يجب فحص الدم بأمر من القاضي و خاصة إذا تعلق الأمر بالنسب و النبوة، مع العلم أن التحاليل تتم في مختبرات تابعة للدولة (4)
ثانيا : ماهية البصمة الوراثية ؟
سنتطرق في هذا الفصل للبصمة الوراثية من حيث تعريفها و خصائصها و العوامل التي ساعدت علي ظهورها بالإضافة إلى أهميتها لكونها أصبحت تؤخذ كدليل اتهام في المحاكم و البصمة الوراثية للإنسان هي أصل كل العلامات الوراثية الموجودة في الجنين منذ بداية نشأته و تكوينه.
(1)- نظام الإثبات في المواد الجنائية في القانون الوضعي الجزائري الجزء الثاني، الأستاذ محمد مروان "د م ج " 1999 .
(2)- د/ مصدق من المقاصد الشرعية و القضايا البيولوجية، جامعة الزيتونة، المعهد الأعلى للأصول الدينية، ص 138.
(3)- سورة النحل، الآية 43 .
(4)- www.islamonline.net
و هي التي تحدد نوع فصيلة دم الجنين و نوع بروتينه و أنزيماته و شكل بصمات الأصابع و لون البشرة، كما أنها تتحكم في وظائف جميع الخلايا التي لا تحصى و متى حدث أي خلل في الحامض النووي ينعكس علي الإنسان في شكل مرض أو عاهة.
يمكن إجراء تجارب المقارنات الخاصة ببصمة الحامض النووي على تلوثات الدم السائل و الجاف و الحديث و القديم الذي مضى عليه أكثر من أربع سنوات و يمكن إجراء تجارب الحامض النووي على جميع السوائل و المواد البيولوجية كالشعر و الجلد و مختلف الأنسجة(1).
1)- الدراسة العلمية للبصمة الوراثية:
لقد تطورت وسائل الإثبات عبر العصور إلى أن توصل العلم إلى الإثبات بواسطة بصمة الإصبع في أواخر القرن التاسع عشر.
و تجدر الإشارة إلي أن الأستاذ العالم" بر كنجي" أستاذ التشريح و عالم وظائف الأعضاء بجامعة " بيرسلاو " ببولندا الذي لاحظ أن جلد الأصابع يحوي بروزات ذات أشكال معينة.
و في عام 1852 أثبت السيد " ويليام هرشل " إن الشكل الذي رسمته الطبيعة على جلد باطن الإصبع يدل على صاحب هذا الإصبع و يثبت فرديته، و في عام 1877 ابتدع الدكتور "هنري فولدز" طريقة وضع البصمة علي الورقة باستخدام حبر المطابع.
و في عام 1892 أثبت السيد" فرنسيس جلطون " أن صورة البصمة لأي إصبع تعيش مع صاحبها طول حياته فلا تتغير (2).
و قد استعملت البصمة الإصبعية رسميا لأول مرة في انجلترا سنة 1884 إذ أن بشرة الأصابع لدى الناس جميعا مغطاة بخطوط على ثلاثة أنواع: أقواس أو عروات أو دوامات بمعنى دوائر متحدة المركز و كذلك يوجد نوع رابع يشمل جميع الأشكال و يسمي؛ المركبات (3).
هذه الحقيقة جاء بها القرآن الكريم قبل اثني عشرة قرنا و نصف القرن مصداقا لقوله تعالى في سورة القيامة الآية من 1 إلي 4، قال تعالى:" لا أقسم بيوم القيامة، و لا أقسم بالنفس اللوامة أيحسب الإنسان أن لن نجمع عظامه، بلى قادرين علي أن نسوي بنانه."
فالله سبحانه و تعالى يبين للذين ينكرون البعث و اليوم الأخر بأنه قادر على جمع عظام الإنسان بعد أن تبلى و تصير تراب و تتفرق، بل أكثر من ذلك فإن الله قادر على إعادة خلق أصابع الإنسان و إرجاعها إلى ما كانت عليه في الدنيا.
(1)- د/ منصور عمر معايطة – الأدلة الجنائية و التحقيق الجنائي – المركز الوطني للطب الشرعي، عمان، ط 2000، ص79.
(2)- مجلة الشرطة، عدد 65 – أفريل 2002 /من موسوعة د. أحمد زكى : بصمات الأصابع بين الشرطة و العلم – البصمات مجلة الموثق عدد 07 لعام 1999 .
(3)- مقال للسيد: بن خليف مالك: جريدة أخر الساعة العدد 1226 ليوم 28/10/2004 تحت عنوان: اختلاف بصمات الإنسان
و السؤال هنا: لماذا اختار الله سبحانه و تعالى بنان الإنسان و لم يختر عضوا أخرا من أعضاء الجسم الكثيرة و المهمة ؟
الجواب على ذلك أن أعضاء الجسم كالعين و الأنف و الأذن و غيرها تتشابه بين إنسان و آخر و لكن الأصابع لها مميزات خاصة فهي لا تتشابه و لا تتقارب.
فالبنان هو نهاية الإصبع و قد ثبت أنه لا يمكن للبصمة أن تتطابق و تتماثل في شخصين في العالم، حتى في التوائم المتماثلة التي أصلها من بويضة واحدة، ويتم تكوين البنان في الجنين في الشهر الرابع و تظل البصمة ثابتة و متميزة له طيلة حياته و يمكن أن تتقارب بصمتان في الشكل تقاربا ملحوظا، و لكنهما لا تتطابقان أبدا، و لذلك فإن البصمة تعد دليل قاطعا و مميزا لشخصية الإنسان و معمول به في كل بلاد العالم و يعتمد عليه القائمون على تحديد القضايا الجنائية لكشف المجرمين ، و قد يكون هذا هو السر الذي خصص الله تبارك و تعالى من أجله البنان ، و في ذلك يقول العلماء: " لقد ذكر الله البنان ليلفتنا إلى عظمة قدرته حين أودع سرا عجيبا في أطراف الأصابع و هو ما نسميه بالبصمة (1) .
و على الرغم من ذلك بقي هناك في أمر هذه البصمة ريب أو شك و ظلت منتشرة بين الناس و رجال القضاء أن هذا الشك الذي أصبح حقيقة شبه أكيدة مع اكتشاف الجينات و الخريطة الوراثية و التي مهدت إلى اكتشافADN فما هو يا ترى الـADN ؟
أ)- مدلول البصمة الوراثية:
المعروف علميا أن بناء جسم الإنسان يبدأ باندماج خليتين متشابهتين في الصغر " نطفتين " إحداهما مذكرة " حيوان منوي" و الأخرى مؤنثة " بويضة " و ينتج عن اندماج هاتين النطفتين نطفة مختلطة (أنظر الشكل رقم 01) (نطفة أمشاج ) وهي عبارة عن بويضة ملقحة بالحيوان المنوي و تبدأ هذه النطفة المختلطة بالإنقسام فتكرر نفسها مرات عديدة من أجل بناء جسم الإنسان بكافة خلاياه المتعددة و أنسجته المتخصصة و أعضاءه المتوافقة التي تعمل مع بعضها البعض بانتظام دقيق و أول ما ينقسم من الخلية الحية (أنظرالشكل رقم 02) نواتها التي تحتوى على عدد من جسيمات متناهية في الدقة تعرف باسم الصبغيات ( كروموزوم) و هي تتكون من تجمعات للحمض النووي ADN في شكل ADN (2).
(1)- www.khayma.com
(2)- البصمة الوراثية و تحديد الهوية مجلة حماة الوطن، عدد 265، 204 الكويت، د/ نبيل سليم.
و يمثل الحمض النووي الدليل الوراثي الذي يسمح للكائنات الحية بنقل خاصيتها إلى خلفها و طبقا لما ذكره العالم البريطاني "كريك crick –chef" العالم الأمريكي" واتسون Watson " عام 1953 بأن جزيء ألـADN يتكون من شريطين ملفوفين على بعضهما البعض حول محور واحد على هيئة سلالم حلزونية، أي في شكل لولب مزدوج و كل شريط عبارة عن خيط من وحدات كيميائية فرعية تسمى النيوكلوتيدات التي تتكون من أربعة أصناف و تسمى بالقاعدة(1) التي تشمل حمض فسفوري و سكر هذه الأصناف هي: G.C.T.A و التي تعرف بضلوع التركيب التي ترتبط اثنين فيها مع بعضها البعض(2) بدقة تكاد تكون تامة ( الأدنين بالتيامين، و الجوانين بالبسيتوزين ) و تتوزع هذه الأصناف علي طول كل سلسلة.
و تتصل كل واحدة منها بأحد السكريات الخماسية منقوصة الأكسجين و ليتصل هذا الأخير بمركب فسفوري، وتوجد روابط هيدروجينية تربط القواعد النيتروجينية ببعضها و تعتبر هذه القواعد للعمود الفقري للحمض النووي(3) كما أن موقع و عدد و ترتيب هذه القواعد هي التي تشكل الصفات الوراثية و ما يسمى بالجينات الموجودة على كل كروموزوم ويتراوح عددها بين الألف إلي مليون جين، حيث تنقل جميع الصفات الوراثية في أي إنسان، وهناك جينات خاصة بتوريث فصائل الدم و لون الشعر و لون الجلد....... الخ.(4)
ونسمي هذا " البرنامج المشفر للحياة "، لأن ألـ ADN هو العنصر المكون للخصائص الوراثية للإنسان عندما يلتقي المنى مع البويضة فإن ألـADN لكل الأب و الأم يتحدان.(5)
و توضيحا لما سبق فإن ألـ ADNتشكل من خيطين لولبيين عبارة عن لفائف مزدوجة الجانب من ذلك الحمض على هيئة رقائق دقيقة تعرف باسم رقائق الحمض النووي الحلزونية مزدوجة الجانب.
و يبلغ سمك جدار هذه اللفائف واحد" Double Helix DNA Strands « من 50 مليون من المليمتر، كما يبلغ قطر هذا الحلزون 1 من 50 مليونا من المليمتر المكعب و يبلغ طوله حوالي مترين، و يبلغ حجمه وهو مكرس الجسيم الصبغي 1 من مليون مليمترا.
1))- مجلة الشرطة عدد65-02/02/2004.البصمة الجينية و دورها في الإثبات في المادة الجزائية الأستاذ د/ نويري ع. العزيز، رئيس مجلس القضاء سكيكدة سابقا.
(2)- كشفت لأول مرة عن الصورة المفصلة للـ ADN وفقا للمخطط الذي وصفه العالم جيمس واتسون و فرنسيس كريك الحاصلان على جائزة نوبل في الطب و الفيزيولوجيا لسنة 1962 في المجلة الطبية الصادرة بتاريخ 25/04/1953.
(3) – www.Islamonline.Net.
(4)-Gérard Lambert, la légende des gènes–anatomiques d’un mythe moderne, Edition DUNOD.P297.
(5)- Joanne Maceau : substitut du procureur général au bureau des affaires criminelles du ministère de la justice du Québec .la mise en œuvre de la banque d’empreintes génétiques .P 3/ 2004.
وعلى ذلك فإنه إذا تم تحديد الأشرطة من الحمض النووي الموجود في داخل خلايا جسم فرد واحد من البشر و من ثم رصها بجوار بعضها البعض فإنها تزيد على طول المسافة بين الأرض والشمس المقدرة ب 150مليون كلم، و يوجد بكل خلية من خلايا الإنسان جسيم صبغيchromosome » « موزعة على 23 زوج منها 22 زوجا جسديا مهمتها الانقسام لإنماء خلايا الجسد، وزوج من الصبغيات غير المتماثلة، ففي الذكر احداهما" x" و الأخرى "y" و هو الأصغر حجما، أما زوج صبغيات التناسل، في الأنثى فهما متشابهان (x, x ) (أنظر الشكل رقم 03) ويعتبر عدد الصبغيات في الخلية الحية أحد العوامل الرئيسية المحددة لكل نوع من أنواع الحياة.(1)
و ينقسم كل صبغي على طول بعدد العلامات المميزةMakers إلى وحدات طويلة في كل منها عدد من المورثات Gènes يقدر بحوالي المائة هذه المورثات في الفرد الواحد من البشر فلم يتحدد بدقة بعد ولكن الدارسين يضعونه بين 28 ألف و140 ألف في الخلية الواحدة ويختارون رقما وسطيا يقدر بحوالي 60 ألف تم التعرف على حوالي خمسة ألاف منها، وتمت دراسة حوالي 15000 فقط حتى الآن (2)
ب)- خصائص البصمة الوراثية: تتميز البصمة الوراثية بالعديد من الخصائص الثابتة منها:
1)- يمكن استخلاص هذه البصمة من أي مخلقات بشرية سائلة مثل الدم، اللعاب، المنى أو أي أنسجة مثل الجلد، العضم و الشعر.(3) و يمثل الشعر بأنواعه إحدى مصادر البصمة الوراثية باعتبار أن جسم الشعرة أو بصيلتها يحتويان على خلايا بشرية، وقد يتواجد الشعر نتيجة تشابك بين الجاني و المجني عليه في جرائم القتل، و قد يتخلف شعر العانة في حالات الاغتصاب، و عندئذ يمكن إجراء التحليل على العينة المرفوعة في مسرح الجريمة.
كما يعتبر اللعاب أحد مصادر البصمة الوراثية في الجسم البشري، رغم أن الأساسي في اللعاب عدم احتوائه على خلايا، إلا أن هناك نوع من الخلايا الموجود بالجدار الخلفي للفم يعلق اللعاب و على ذلك يمكن استخلاص اللعاب من بقايا اللفافة أو من طابع بريدي تم لصقه باستخدام اللعاب مثال: أدنت المحكمة البريطانية يوم 07/04/2000 سارق سطا على أحد المنازل بعدما توصلت إلى الكشف عن هويته عن طريق فحص بقايا لعابه التي تركها حية على حبة الطماطم.(4)
1)- P.C Winter, G.T Hickey et H.L Feltcher : (l’essentiel en génétique) .Edition : Berti, P08 (2000).
2)- مجلة حماة الوطن – المرجع السابق.www. Homat – El Watan. ORG
3)- د/ منصور عمر ، المرجع السابق ، ص 08.
4)- نويري عبد العزيز، المرجع السابق، مجلة الشرطة. ص 43.
2)- الحامض النووي يقاوم عوامل التحليل و التعفن لفترات طويلة، تصل إلى عدة أشهر(1) أي إن الأثر الأولي المتروك و الذي عن طريقه سيتم عمل البصمة الوراثية التي تحتفظ ببعض خصائصها لفترة من الزمن، حيث تقاوم عوامل الحرارة و الرطوبة، و المثال علي ذلك يمكن العلماء من استخلاص ألـ ADN من عينات قديمة تصل أعمارها إلى أكثر من ثلاثين سنة. كقضية الدكتور" سام شيرذ " حيث ارتكبت جريمة عام 1955 و لم تؤخذ عينة من ألـADN هذا الدكتور إلا سنة 1998 بعد وفاته بعدة أعوام، كما استطاع العلماء استخلاصها من المومياء الفرعونية.
3)-و كذلك يمكن استخلاصها من بقع دموية جافة أو تلوثات منوية أو الافرازات المهبلية و يمكن عزل ألـADN الناتج عن الذكر من الإفرازات المهبلية، مثل حالات أخذ عيينات بعد عملية اغتصاب (2).
4)- أصبح الآن معترفا بالبصمة الوراثية و أصبحت دليل نفي و إثبات و تم اعتمادها في مجمل مخابر الشرطة العلمية وفقا مناهج تحليل دقيقة.(3)
5)- يمكن استخلاص البصمة الوراثية من الحامض النووي من أي خلية في جسم الإنسان ماعدا خلايا الدم الحمراء التي لا يوجد بها حامض نووي.
6)- تظهر البصمة الوراثية على هيئة خطوط عريضة تسهل قراءتها و حفظها في الكمبيوتر لجني الحاجة إليها للمقارنة كما هو الحال في بصمات الأصابع(4). فإنه بالإمكان مقارنة فصائل ألـADN للعيينات المرفوعة من الحوادث بمجموعة كبيرة من المشتبه فيهم خلال دقائق، بل و يمكن مقارنة كل عينة بقاعدة بيانات المختبرات في دول أخرى مرتبطة معها بنظام الكمبيوتر و من خلال هذا يمكن مقارنة بصمات الأصابع مع نظام البصمات الوراثية و يمكن استخلاص النقاط التالية:
• بصمات الأصابع يمكن استخدامها في معظم أنواع الحوادث، إن البصمة الوراثية فهي مقتصرة على أنواع معينة من القضايا مثل القتل، السرقة و الاغتصاب.
نظام بصمات الأصابع تعتمد بدرجة أولي على مقارنات لأشكال فيزيائية، أما البصمات الوراثية فإنها تعتمد على حسابات إحصائية.
1)- د/ منصور عمر المعايطة، المرجع السابق، ص 80.
2)- D.J Werrett .l’identification par l’empreinte génétique R.I.P.C .sept. , oct. 1987 N° : 408, p : 21.
3)- Le professeur Ingar Kapp. Directeur du laboratoire national de police scientifique (SKL) (suède).
4)- د/ منصور عمر معايطة. المرجع السابق. ص 81 .
• المعلومات التي يمكن الاستفادة منها في فحوصات بصمات الأصابع تكون مقتصرة لإثبات وجود الجاني في مسرح الجريمة، أما نتائج تحليل ألـADN فيمكن الاستفادة منها بالإضافة إلي إثبات وجود الجاني في مسرح الجريمة معرفة الأمراض و الصفات العرقية و نسب المتهم.
ج-اكتشاف البصمة الوراثية:
خلال العشرين عاما الماضية، سبب التقدم العلمي الرائع في التكنولوجيا و معه التيارات العلمية الجديدة في ثورة مدهشة في البيولوجيا(1)، وهي ثورة اكتشاف المادة الوراثية ألـADN و ثورة اكتشاف أنزيمات التحديد التي تقوم بقص ألـADN في مواقع محددة و بدأت الثورة الأولى عندما اكتشف العلماء أن الحمض النووي ألـ ADN هو المادة الوراثية.
و أهم الاكتشافات العلمية التي كان لها الفضل في ظهور البصمة الوراثية سنة 1866 بدأ علم الوراثة من خلال التجربة التي أجراها الراهب النمساوي " جريجور يوهان مندل " Grégor Youhan Mendelعلى نبات البازلاء من خلال عملية التهجين، وتوصل إلى مجموعة من القوانين لتفسير وراثة الخصائص البيولوجية في الكائنات الحية، ولكن نتائج تجاربه لم تنشر.
1900 أعاد كل من " دي فريز و وليام وتسون " اكتشاف قوانين مندل ثم بينوا و بسرعة أن العوامل الوراثية سائدة و متنحية أي تحكم الوراثة في الكثير من الكائنات الأخرى، بالإضافة إلى اكتشاف فوارق الصفات في نبات واحد ( البازلاء )، ومن هذا ما توصل إليه مندل و تم نشرها في دورية تصدرها جمعية محلية في النمسا، و قد كانت جهود هؤلاء العلماء الخطوة الأولى التي بدأها علماء بيولوجيا في التطور المعاصر في علم الوراثة و التي حولت هذا العلم إلى علم تجريبي دقيق.
1903 افترض "سكون " أن الجينات تقع على الكرموزومات (2).
1910 أثبتت تجارب « توماس هنت مورغان " أن الجينات تقع على الكرموزومات و قد ترتبط مع بعضها في الانتقال الوراثي أو تنتسب إلى بعضها في التعبير الكيميائي، و كان "مورغان Morgan" هو الذي اعد أول خريطة للجينات موجودة علي كرموزومات حشرة فاكهة الدروسوفيلا، ومن خلال هذه الخريطة عرف أن عدد من الصفات المرتبطة بالجنس في حشرة الفاكهة، و أجرى التزاوجات لمعرفة ما إذا كانت هذه الصفات تورث في مجاميع.
و كانت النتيجة أن هذه الجينات تنتقل بالفعل معا – إنما ليس دائما – و تفسير هذه النتيجة هو أن تبادل المادة الوراثية لا بد أن يحدث بين فردي و زوج كر وموزومات.
1)- دنييل كيقلس و لوروي هود الشفرة الوراثية للإنسان – ترجمة د. أحمد مستجير.
2)- المجلس الوطني للثقافة و الفنون و الآداب- التكوين 1997.
1933 تم التوصل إلي أن الكروموزومات مقسمة في شكل سلسلة من الحلقات، ووجد أن هذه الحلقات تمنح لكل زوج من الكروموزومات نموذجا مميزا، وهذا النموذج لا يختلف من حشرة إلي أخرى.
1938 ظهور المصطلح العلمي " بيولوجيا الجزيئية (Molecular Biology) و هذه الجزيئات تتكون من أربعة أصناف هي: الدهون، جزيئات السكر، البروتينات، الأحماض
النووية( ADN , ARN ).
و من خلال هذه الخريطة أدرك علماء الوراثة و بسرعة أن حدوث الطفرة في أي حين يكون نادرا و عشوائيا، و الطفرة هي تغيير في المادة الوراثية، وتم التوصل إلى أسباب حدوثها في عام 1927م من طرف "موللر Moller" و هو تلميذ "مورغان Morgan" إن الأشعة السينية هي التي تسبب الطفرة في حشرة الفاكهة، و كذلك الأشعة فوق البنفسجية بالإضافة الى المواد الكيماوية المشكلة.
و كان العالم "ماكس Max" أحد مؤسسي علم البيولوجيا الجزيئية يعتبر الأحماض النووية جزيئات غبية بمعنى مواد ليس لها وظيفة مثيرة، جزيئات لا يمكن أن تصنع شيئا. (1)
1943 ظهور نظرية " جين لكل أنزيم " التي ربطت الكيمياء الحيوية و علم الوراثة وهي تعرف باسم نظرية "فعل الجين". وكان البيولوجيون يسلمون بأن الجينات لابد أن تكون مصنوعة من البروتينات.
1944 حدث تحول جذري في فهم طبيعة الجينات (2) حيث أثبتوا أن الجينات تتركب من الحمض الريبوزي ADN، ولكن في هذه الفترة لا تعرف نسبة ADN و هذا لا يعني أن العلماء توقفوا عند هذه النقطة بل عمل " سانجر " بجامعة كامبريدج على ما يقرب من عقد و قام باستخدام التقنيات الحديثة لسلسة الأحماض الأمينية لجزيء الأنسولين، و توصل إلى أن الجزيء مكون من سلسلتين ترتبطان بروابط متعارضة في مواقع معينة، و أن جزيئات الأنسولين متشابهة، كما تمكن من كسر هذه الجزيئات إلى شظايا و في الأخير قام بربط الشظايا معا عن طريق تراكباتها ليتوصل إلي تتابع السلسلتين و الجزيء بأكمله و في تلك السنة أكد كل من "هيرشي " و " كاسي" دور ألـ ADN كأساس المادة الوراثية.
1953 توصل كل من " واطسون " و " كريك " إلي التركيب الجزيئي الثلاثي الأبعاد للـ ADN لولب مزدوج – و كما تم التعرف علي بنية ألـ ADN التي سبق ذكرها .
1)- دانييل كيقلس وليروي هود: المرجع السابق، ص 65.
2)- نفس المرجع: ص 68.
1970 تمكن " وارنز أربير " و " دانيال ناثانس" و "هاملتون سميث" من اكتشاف أول إنزيم محدد (قص خاص) و كما يسمي بالقص الجيني أو الألة الجينية.
1971 تمكن " كوهين " بوير" من وضع أساليب أولية لإعادة إتحاد المادة الوراثية Recombinant ADN.
1985 تم اكتشاف البصمة الوراثية من طرف " أليك جيفيريس " الذي أوضح في بحثه أن المادة الوراثية قد تتكرر عدة مرات و تعيد نفسها في تتابعات عشوائية غير مفهومة. و توصل بعد عام إلى أن هذه التتابعات مميزة لكل فرد و لا يمكن أن تتشابه بين اثنين إلا في حالة التوائم المتماثلة فقط مما يجعل التشابه مستحيلا، و أطلق على التشابهات اسم " البصمة الوراثية للإنسان"، وعرفت على أنها وسيلة من وسائل التعرف على الشخص عن طريق مقارنة مقاطع ألـ ADN، وتسمى في بعض الأحيان الطبعة الوراثية.
و كان لهذا الاكتشاف أهمية قصوى في حل الكثير من المشاكل المتعلقة بالتعريف الجنائي و الأمراض الوراثية و علاجاتها.و أدرك علماء الطب الشرعي بسرعة أن ألـ ADN هو محقق الهوية الأخير فيه كل الخصائص الأساسية المطلوبة ، و الـADN موجود بكل خلايا الجسم فيما عدا كريات الدم الحمراء(1) .
كما أنه لا يتغير أثناء الحياة أي أنه ثابت لحد بعيد و الأرجح أن يحفظ في اللطخ الجافة و المنهج الأساسي المتبع لتحديد البصمة الوراثية بسيط للغاية و ثمة طرق تحليلية للبصمة الوراثية أشهرها التفاعلات المضاعفة بواسطة إيزيمات البوليميراز ، و اهتم بها الخبراء الجنائيون و اعتبروها الطريقة المثالية للعينات الجنائية، وذلك راجع إلى أنه يمكن بواسطتها تحليل كمية ضئيلة جدا من العينات تصل الي خلية واحدة و كذلك يمكن في بعض الأحيان تحليل العينات التالفة و استخراج ألـ ADN منها و هي طريقة لاستنساخ عدد كبير من نفس سلاسل ألـADN و هذه الطريقة تحدد الاختلافات التي يمكن تمييزها بين الأشخاص الناتجة عن اختلاف في ترتيب القواعد النيتروجينية و ليس الاختلاف في الأطوال و توزيع القاعدة الأساسية لحمض ألـADN و أخيرا طريقة تحديد نظام الحمض النووي من الصبغيات.(2)
و أهم الخطوات العلمية لإجراء تقنية البصمة الوراثية:
- يستخلص الـADN أولا من إحدى عينات الدليل قد يكون نسيج الجسم أو سوائله من دم المتهم.
1)- نفس المرجع السابق. ص 212.
2)- د. مصدق حسين . المرجع السابق . ص 124
- يقطع الـADN في كل من العينتين الى ملايين الشظايا باستخدام إنزيم معين يمكنه قطع شريطي ألـ ADN طوليا، فيفصل قواعد الأدنين و الجوانين في ناحية، و التيامين و السيتوزين في ناحية أخرى. (أنظر الشكل رقم 04)
و يسمى هذا الأنزيم بالآلة الجينية أو المقص الجيني.
- تترتب هذه الشظايا بعد ذلك عن طريق التفريغ الكهربائي بالجال gel إذ تحمل كل عينة علي رأس حارة خاصة بالجال، و يعرض المجال الكهربائي على طول هذا الجيل، فتتحرك شظايا الـADN بسرعة تختلف حسب حجمها، فالأصغر تتحرك بشكل أسرع من الشظايا الأكبر.
- تفصل الشظايا في كل حارة حسب الحجم ثم تنقل فوق قطعة من الورق الخاص تسمى الغشاء و تصبح بعد ذلك جاهزة للتحليل.
- يغمر الغشاء بمسبر مشع، ثم يعرض الغشاء لفيلم الأشعة السينية طوال الليل فتظهر البصمة الخاصة بالشخص على شكل خطوط عريضة داكنة اللون و متوازية و تقارن هذه الصورة بنظيرتها التي تم تجهيزها لكريات الدم البيضاء المأخوذة من دم المتهم. فإذا توافقت الصورة كان المصدر واحدا، و إذا لم تتوافق النماذج عند كل موقع فإنها تكون مأخوذة من مصادر مختلفة.(1)
الآن أصبح بين أيدينا نظام فعال لتحديد بصمات الـADN، و يرى علماء الطب الشرعي أن البصمة الوراثية كافية لتوفير قدر كبير من المعلومات عن الهوية إن هذه العملية الموجزة لتقنية البصمة الوراثية التي تشهد على تكنولوجيا جديدة في طرق القضاء و نظم الإثبات و تحليل متطور للإرث البيولوجي للأشخاص و من هنا تبرز أهمية البصمة الوراثية (2) كعلم في دهاليز المحاكم حيث كان استخدام اختبار البصمة الوراثية في مجال الطب و فصل في دراسة الأمراض الجينية أي علاج الأمراض الوراثية بالجينيات و كذلك زرع الأنسجة و غيرها.
و إثر دراسة الخصائص الجينية للأشخاص و إجراء التحاليل للبصمة الوراثية تمكن الطب الشرعي من التعرف على الجثث المشوهة و تتبع الأطفال المفقودين. و لذا سارعت أغلب المحاكم الأمريكية و الأوروبية عام 1985 الى قبول هذه التقنية الجديدة التي تعنى بالمعايير الصارمة للإثبات في القضايا الجنائية.و في عام 1988 أدخلت بصمة الـADN لأول مرة في المحاكم الأمريكية لتستخدم كدليل في قضية فلوريدا ضد تومي لي أندروز و في يناير 1989 بدأت وكالة الاستخبارات الأمريكية CIA.
www.Islam online.net (1)-
(2)- دانييل كيقلس و ليروي هود: المرجع السابق، ص125.
بعد دراسة متأنية للتنكولوجيا، في معالمها الخاصة في دراسة تقصي السيرة في مؤسسات الطب الشرعي للولايات المتحدة و منذ ذلك التاريخ استخدمت بصمة الـADN في أكثر من مئة قضية في الولايات المتحدة و كذلك أدخلت هذه التقنية في محاكم بريطانية التي أخرجت ملفات الجرائم التي قيدت ضد مجهول فتحت التحقيقات من جديد وبرأت البصمة الوراثية مئات الأشخاص من جرائم القتل و الاغتصاب و أدانت آخرين و كانت لها الكلمة الفاصلة في قضايا الأنساب و استعملت كذلك في إثبات هوية الفرد في إنجلترا (1)، و لهذا أسست بعض الشركات الخاصة بعمليات تحديد بصمة DNA لتعيين هوية المتهمين، لعل أهمها " شركة سيلمارك دياجنوستيكس " في ماريلاند، و "لا يفكودز كوربوريشن " في نيويورك، و إثر ذلك تم إنشاء بنوك خاصة يجمع معلومات عن البصمة الوراثية مثل بنك المعلومات الذي أسس بإنجلترا حيث جمعت فيه البصمة الوراثية في جميع الجرائم ووصل عددها إلى 2 مليون.(2)
و تعتبر البصمة الوراثية تقنية هائلة قدمتها البيولوجيا الجزيئية إلى نظام القضاء الجنائي و يمكن القول إنه أعظم إنجاز في القرن العشرين بعد مرور 50 عاما على اكتشافه، و لهذا لا يجوز أن نتوقف عن استخدام البصمة الوراثية الآن فقد يؤدي الانتظار إلى إدانة بعض الأبرياء و تبرئة بعض المذنبين،
إذ أن البصمة الوراثية هي الخدمة التي ستسهل عملية تعقب المجرمين كما ستساهم أيضا في حماية الأبرياء(3).و هذا ما جعل البصمة الوراثية قاعدة معترفا بها في غالبية محاكم العلم مثل:أوروبا، أمريكا ، أستراليا .و هذا راجع لأهميتها في الإثبات .
د/ الخطوات العلمية لإجراء تقنية البصمة الوراثية :
اكتشف العلماء طريقة اقتصادية جد دقيقة و سريعة تعتمد على طريقة « l’amplification exponentielle. » تسمى " (RPC) Polymérisation en chaîne " " التفاعل البنائي المتسلسل" هذه الطريقة تم اكتشافها و استعمالها في مخابر الطب الشرعي و استمر الباحثون في البحث عن طرق جديد ة و لا شك أن هذا المجال سوف يتطور(4) .
و بالفعل تمكن الدكتور " أليك جيفريز Alec Jeffreys" من وضع تقنية جديدة للحصول على البصمة الوراثية و التي تتلخص في عدة نقاط هي :
1)- Empreinte génétique « Encyclopédie Encarta 99.
2)- Raphaël Coquoz : la génétique au service de la justice. Collection Scientifique forensiques .2003.
3)- www.Islamonline.net
4)- Joanne Marceau. O .p.cit, P 04
1/ تستخرج عينة ألـ ADN من نسيج الجسم أو سوائله مثل : الدم أو الشعر أو الريق(1) (أنظر الشكل رقم 08).
2/ تقطع العينة بواسطة أنزيم معين يمكنه قطع شريطي الـ ADN طوليا فتصل قواعد الأدنين (A) والجوانين (G) في ناحية والتيامين (T) و السيتوزين (C) في ناحية أخرى و يسمى هذا الأنزيم بالآلة الجينية أو القص الجيني (أنظر الشكل رقم 07)
3/ ترتب هذه المقاطع باستخدام طريقة تسمى: التفريغ الكهربائي و تتكون بذلك حارات طولية من الجزء المنفصل عن الشريط، يتوقف طولها على عدة ميكروات.
4/ تعرض المقاطع إلى فيلم الأشعة السينية X أي فيلم وتطبع عليه فتظهر على شكل خطوط داكنة اللون و متوازية، ورغم أ ن جزيء ألـADN صغير إلى درجة فائقة حتى أنه لو جمع كل ADNالتي تحتوي عليها أجساد سكان الأرض لما زاد وزنه عن 36 ملغ فإن البصمة الوراثية تعتبر كبيرة نسبيا وواضحة (أنظر الشكل رقم 05).
ولم تتوقف أبحاث د. "أليك" على هذه التقنية، بل قام بدراسة على إحدى العائلات اختبر فيها توريث هذه البصمة و تبين له أن الأبناء يحملون خطوطا يجيء نصف من الأم و النصف الآخر من الأب، وهي مع بساطتها تختلف من شخص لآخر(2).
* كل ما هو مطلوب لتعيين بصمة الجينات هو عينة صغيرة من الأنسجة التي يمكن استخلاص الحمض النووي الريبوزي المختزل ADN منها فعلى سبيل المثال:
* عينة من الدم في حالة إثبات بنوة (3).
* عينة من الحيوان المنوي في حالة اغتصاب.
* قطعة جلد من تحت الأظافر أو شعيرات من الجسم بجذورها في حالة وفاة بعد مقاومة المعتدي.
* دم أو سائل منوي مجمد أو جاف موجود على مسرح الجريمة.
* عينة من اللعاب.
ولو كانت العينة أصغر من المطلوب فإنها تدخل إختبار آخر وهو تفاعل أنزيم البوليميرPCR والذي نستطيع من خلال تطبيقه مضاعفة كمية الـ ADN في أي عينة، (أنظر الشكل رقم 06) ومما وصلت إليه هذه الأبحاث المتميزة أن البصمة الوراثية لا تغير من مكان إلى آخر في جسم الإنسان فهي ثابتة بغض النظر عن نوع النسيج ، فالبصمة الوراثية التي في العين نجد مثيلاتها في الكبد و القلب و الشعر، و من ثمة يمكن تحديد هوية الشخص بواسطة الـ ADN فمثلا في القضايا الجنائية تؤخذ عينة من مسرح الجريمة و تقارن بعينة من المشتبه فيه للتأكد من التطابق أو عدم ذلك.
1)- ماعدا في الكريات الحمراء.
2)- المنتديات الطبية و الاجتماعية" تعرف على بصمتك" www.shamela.net
3)-مجالات الهندسة الوراثية www.islamonline.net
أما في حالة التأكد من وجود صلة بين الأب و إبنه (النسب) تؤخذ العينات من الأب المفترض و الطفل و يمكن أن تؤخذ عينة من الأم و في حالة وفاة الأب يمكن أخذ عينات من قريب للأب للتأكد من ذلك.
كم تستغرق عملية الفحص؟
يمكن إجراء هذه العملية في ظرف أسبوعين إذا كانت العينات موجودة.
وعملية الفحص و إجراءات التحاليل، تكون على عاتق المعنيين بالبحث، وقد يتحصل المعنيين على المساعدة القضائية.
2/ أهمية البصمة الوراثية:
تساهم البيولوجيا المعاصرة من خلال ألـ:ADNفي موضوع الإثبات في الدعاوى المدنية ووقائع القضاء الجنائي حيث تقدم مبادرة راسخة في الكشف عن الجناة و المجرمين و تحديد الجين الحقيقي في قضايا الاغتصاب و السرقة و المنازعات المتعلقة بدعاوى النسب وهي تقنية ذات قوة تدليلية في إثبات النسب(1).
و نظرا للنجاح الذي وصلته البصمة الوراثية الذي يقدر بـ:100% شجعت الدول المتقدمة على استخدامها كدليل جنائي و حفظت هذه البصمة مع بصمة الإصبع لدى الهيئات القانونية و قد تم الحسم في الكثير من القضايا بناء على استخدام البصمة الوراثية كدليل جنائي و مدني.
أ/ أهميتها في المادة الجنائية :
لقد ساهمت البصمة الوراثية في تنوير العدالة بكثير من الحقائق كما كان لها الفضل في التعرف على المجرمين و يتضح ذلك فيما يلي :
- معرفة هوية الجاني : يتم عن طريق تحديد البصمة الوراثية للبقع الدموية الموجودة في مسرح الجريمة أو الموجودة على لباس المتهم أو المجني عليه و بعد ذلك يتم مقارنة الفصائل الدموية ، للبصمة الوراثية لهذه البقع مع فصائل دم متشابهة بهم و البصمة الوراثية لهم (2) .
- التعرف على هوية المجرمين في الجرائم الجنسية:و يتم ذلك بواسطة البصمة الوراثية للسائل المنوي الذي يرفع عن ملابس المجني عليه أو الأماكن الحساسة للمجني عليها أو المجني عليه و مقارنتها بالبصمة الوراثية للمتهم.و كذلك في قضايا الزنا يمكن إثبات زنا الزوجة بالتأكد أن العينة المأخوذة منها للفاعل تخالف عينة الزوج.
و على سبيل المثال: في أمريكا عام 1988 تم الحكم على « RANDEL GONEZ » بعقوبة الموت لاتهامه باغتصاب وقتل امرأة من ولاية. Florida
(1)- د. منصور عمر المعايطة، مرجع سابق، ص47.
(2)- د. رمسيس يهنام: البوليس العلمي، أو فن التحقيق، طبعة 1996، ص151.
و يمكن أن يؤدي استخدام البصمة الوراثية إلى البراءة. ففي إحدى قضايا الإغتصاب تعرفت المجنى عليها على المتهم من وسط طابور العرض وتصادف أن اتفقت فصيلة دم هذا المتهم مع فصيلة دم الجاني التي حددتها العينة المأخوذة من المجني عليها، إلا أن تحليل البصمة الوراثية لتلك العينة نفى أن يكون المشتبه فيه مرتكب الجريمة(1).
وهذه الأمثلة تؤكد أن في قضايا الاغتصاب أو هتك العرض يمكن بفحص البصمة الوراثية المستمدة من مني المتهم العالق بالمجني عليه، و البصمة الخاصة للمشتبه فيه، إثبات أنهما لشخص واحد هو الذي ارتكب الجريمة.
- التعرف على المجرمين في كثير من الجرائم:
وذلك عن طريق الربط بين المتهم و آثار البقع و التلوثات اللعابية الموجودة في مسرح الحادث، يتم الربط إما عن طريق تحديد فصيلة الدم من خلال اللعاب إذا كان من الأشخاص المفرزين أو عن طريق تحديد الحامض النووي.
و مثال ذلك:
أمكن إثبات الجريمة على شخص من " برمنجهام " حاول أن يحصل على نقود بوسائل التهديد و ذلك بالحصول على عينات من اللعاب في أجزاء الأغلفة التي أرسلت خطابات التهديد فيها وتبين للكيميائي الشرعي أن لعاب المشتبه في أمره و دمه ينتميان إلى اللعاب الذي وجد على الاغلفة فقدم هذا الأخير إلى محكمة جنايات " برمنجهام ".
فاللعاب يترك آثاره في أعقاب لفائف التبغ و الأكواب و أدوات تنظيف الأسنان و يمكن منه تحديد نوع الدم و نسبة الكحول و قد يوجد في مسرح الجريمة على صورة بصاق.
وكما يمكن استخدام بصمات فتحات مسام العرق وسيلة استدلال باعتبارها من الدلائل(1) و العرق يختلف من شخص لآخر من درجة الحساسية للمضادات الحيوية وكذلك سلوكها المنفرد تجاه التحاليل الكيميائية، وقد أثبت الفحص لآثار العرق علاقة بين المتهم و آثار العرق الموجود على بعض المضبوطات في مسرح الجريمة مثل: أغطية الرأس و الملابس الداخلية وقد يوجد العرق في ما ترك الجاني من منديل يد أو رباط و عن طريقه يمكن تعقب صاحبه(2).
1)- د/ عبد الفتاح مراد : التحقيق الجنائي الفني و البحث الجنائي ، ط الثانية ، ص207
2)- د. رمسيس بينهام: المرجع السابق، ص146.
4- إثبات درجة القرابة في الأسرة:
تستعمل البصمة الوراثية للإثبات و النفي في حالات ادعاء القرابة بغرض الإرث بعد وفاة شخص معين*، وكذلك تطبق هذه البصمة الوراثية في معرفة درجة القرابة بين المهاجرين حيث يدعي بعض الأشخاص ممن يحملون جنسيات أوربية أو أمريكية**، عند دخول تلك البلاد أو الحصول على إقامة قانونية لذلك فقد لجأت السلطات في تلك البلاد إلى إجراء فحص البصمة الوراثية على هؤلاء الأشخاص لمعرفة الحقيقة، حيث أن هذا البحث يسفر عن بيان صفات وراثية مشتركة بين الأقارب(1).
قد يوجد البصاق في ملابس المجني عليه، و بتحليله قد يوجد به أجسام غريبة تكشف عن حرفة الجاني كآثار الفحم و الدخان و الجير و الخشب و غير ذلك من مواد تطلق غبار عند العمل فيها.
إن طريقة فحص البصمة الوراثية المطبقة بكيفية تقنية دقيقة تقدم فوائد أحسن للقضاء الجنائي بالمقارنة مع طرق التحقق التقليدية الخاصة بالطب الشرعي مثل طريق الفحص الدموي للبحث عن الزمرة الدموية .
ب-أهميتها في المادة المدنية :
الإثبات له أهمية بالغة في المجال المدني و خصوصا في إثبات البنوة، و نركز اهتمامنا على هذا الأخير لأنه حق الطفل في النسب بأن يكون له أب و أم معروفان و من أهم حقوقه في الشريعة الإسلامية التي يثبت فيها نسب الطفل بثلاث طرق ؛ الفراش، الإقرار و البينة وهي في مجموعها تظهر حرص الشريعة الإسلامية على أن يثبت نسب الطفل بأسهل الطرق،والطريق المألوف لثبوت النسب هو الفراش لقول رسول الله صلى الله عليه و سلم: (الولد للفراش و للعاهر الحجر) فالولد يصير ابنا للرجل و المرأة إن ولد على فراشهما مع أنه من حق الرجل نفي نسب الطفل المولود على فراشه مع العلم أن هناك ثلاثة أنواع للفراش المثبت للنسب هي:
(1)- نويري عبد العزيز: المرجع السابق، ص44.
* * برز دور الجينيات من خلال إثبات ادعاء طفل من غينيا أنه بريطاني الجنسية و هو يمكن القول أن جينات تلعب دورا هاما في حل مشاكل الهجرة.
* حدث في فرنسا سنة1999 بالنسبة للفتاة التي زعمت أنها إبنة الممثل الراحل « Mohtand yves » ولقد أعطى مجلس الدولة الفرنسي بصفته اعلى هيئة قضائية إدارية هناك موافقته يوم 14 مارس 2000 على مرسوم يخول لكل من وزارتي العدل و الداخلية إحداث بطاقة وطنية للبصمات الجينية الخاصة بالأشخاص المدانين في جرائم أخلاقية.
- فراش بعقد صحيح: هذا النوع يثبت بمجرد وجود عقد نكاح استوفى كل أركانه وشروط انعقاده الشرعية، لكن مع توفر شرط إمكان الدخول بالزوجة. كما هو معروف عند جمهور الفقهاء (المالكية، الشافعية، الحنابلة).
- فراش بعقد فاسد: إن عقد الزواج إذا فقد شرطا من شروط الصحة يكون فاسدا وأنه لا يترتب عليه أثر من آثار الزواج إلا بالدخول الحقيقي.
- الفراش بشبهة*: وهي كل ما لم يتيقن من كونه حراما أو حلالا، وقد تكون نتيجة في الفعل أو عدم المعرفة كحديث عهد بالإسلام، وأيضا تتوفر تلك الشبهة في كل نكاح اختلف في صحته ووقع الدخول فيه لوجود دليل معارض للتحريم الذي وإن كان ضعيفا ولم يوجب إلا أنه وجد شبهة في الدخول، وهذه هي الطريقة الأولى لإثبات النسب و هي الفراش، وهذه الأخيرة تترتب عليها آثار شرعية تستوجب الحديث عن الحمل و الولادة كانت خلاف بين الفقهاء، فهناك من حدد مدة الحمل بأربع سنين أو خمس سنين، وعند الحنفية تكون مدة الحمل بسنتين.
و من الناحية العلمية تكون مدة الحمل تسعة أشهر، ومن الممكن أن تقل عن ذلك إلى حدود الستة أشهر.
و بالإضافة إلى طريقة الفراش هناك طريقة أخرى هي الإقرار أو الاعتراف ونعني به الاعتراف بشيء وتثبيته والأصل في الإقرار لحقوق العباد و الوجوب من ذلك الإقرار بالنسب الثابت لكي لا تضيع الأنساب(1)، لقول الرسول عليه الصلاة والسلام: (أيما رجل جحد ولده وهو ينظر إليه احتجب الله عنه وفضحه على رؤوس الأولين و الآخرين) و الاعتراف تثبيت مشروعيته بالكتاب و السنة و الإجماع وكذلك أثبتت مشروعيته في القانون.
كما اشترط الفقهاء لحجية الإقرار بالنسب ضمانا لصدقه أن يكون الإقرار لذات المقر(2) واشترطوا أيضا أن يكون المقربه مجهول النسب وأن لا ينازعه فيه منازع كما أن الاعتراف قد يكون من المرأة ولقبول اعتراف المرأة بالبنوة لابد أن تكون لديها بينة على قولها، لأنها تلد و يمكنها الاشهاد على الولادة بخلاف الرجل الذي يعجز عن إثبات الوطء فيقبل ادعاؤه بالبنوة بدون شهادة فإن هذا القول فيه تضييق على المرأة وتضييق لحق الصغير.
من خلال هذا يتضح أنه توجد طريقة لإثبات البنوة و هي البينة التي يقيمها المدعي على دعواه وهذه البينة هي شهادة رجلين وامرأتين مع العلم أن البينة تكمل الاعتراف وهذا ما اشترطه أهل العلم لصحة الاعتراف بالبنوة ونجد بعض الفقهاء يرون أن البينة كافية لإثبات البنوة دون الحاجة إلى الاعتراف.
* الفراش بشبهة؛ أي حمل الزوجة بوطء الشبهة.
(1)-د. مصدق محسن: المرجع السابق ، ص130.
(2)- مدى حجية استخدام البصمة الوراثية.www.islam online.net
وتوجد طريقة أخرى لإثبات البنوة ولعبت دورا هاما في عصرها، إذا اعتبرت كوسيلة في إثبات البنوة وهي القيافة وكانت مبعث الرسول عليه الصلاة والسلام ومصدر بهجته، والقيافة هي تتبع الأثر كما أنها حجة مبينة على قول رجل خبير وفطن وذكي وأفضل ما يقال فيها أنها ظنية أو قريبة من الظن.
وهذه هي الطرق المعروفة لدى الفقهاء و التي استعملت لإثبات البنوة، والتساؤل المطروح: هل تنحصر طرق إثبات البنوة في ما سبق ذكره و لا توجد طريقة أخرى؟
لقد من الله سبحانه وتعالى على البشرية بنور العلم وتعرفوا على البصمة الوراثية فلا يصح اعتماد أي دليل أو مرجح يقوم على الظن مع وجود ما هو أرجح منه و الذي أثبته علم الوراثة: أو على الأقل الظن الأقوى والأرجح، ودليل البصمة الوراثية دليل مادي يعتمد العلم والحس، ويقوم على التسجيل الذي لا يقبل العودة والإنكار بخلاف غيرها الذي يقبل العود والإنكار و بالرجوع إلى قول ابن القيم عن حكم العمل بالقرائن القوية في الحدود في كتابه ( الطرق الحكمية) " لم يزل الأئمة والخلفاء يحكمون بالقطع إذا وجد المال المسروق مع المتهم وهذه القرينة أقوى من البينة والإقرار لأنهما خبران يتطرق إليهما الصدق والكذب ووجود المال معه نص صريح لا يتطرق إليه شبهة". المتأمل في ذلك يلحظ مدى حاجة الناس في زمن ابن القيم لأدلة مادية تعتمد الحس، وكما أن البصمة الوراثية ثابتة يمكن بها التعرف على الأشخاص مثل بصمات الأصابع.
وهذا يبين دورها في الإثبات المدني بالخصوص في إثبات البنوة لأن الشخص يستمد تركيبه الوراثي من أبويه مناصفة بينهما كما أن أبويه مصدر وراثي لأخوته، ويمكن باستخلاص البصمة الوراثية في إثبات نسب الطفل إلى كلا أبويه أو أحدهما وبالتالي يتوقف على ذلك قبول أو رفض دعاوىالبنوة (1)
البصمة الوراثية بعكس فصائل الدم و الطرق الأخرى التي تعتبر وسيلة نفي علاقة البنوة بين الأب و الإبن، فالبصمة الوراثية تستعمل كقرينة نفي وإثبات لتلك العلاقة بمعدل 100% وقد قبلت بذلك المحاكم في أوربا و الولايات المتحدة الأمريكة.
كما أبدى الفقهاء المعاصرين رغبتهم في الاعتماد على البصمة الوراثية في الإثبات أكثر من اعتمادهم على شهادة الشهود باعتبار أقوالهم أخبار ظن تحتمل الكذب، أما قرينة البصمة الوراثية قرينة يقينية وقطعية، وهذه الأخيرة اعتبرها القانون أولى القرائن العلمية المستحدثة ولها قيمة برهانية في الإثبات.
والذي نخلص إليه: أن اعتبار البصمة الوراثية تندرج في البينة الشرعية وهي الأجدر في منازعات النسب لقطيعتها وقوتها الثبوتية. إلا أن اعتبار بصمة الـADN قدم صدق في اثبات دعاوى النسب قد يبدو في بعض الأحيان مناقضا لأحكام الشرعية كقضايا اللعان(2).
(1)- د. رمسيس بيهنام، المرجع السابق، ص 152.
(2)- د. مصدق حسن: المرجع السابق، ص138.
العمل بالبصمة الوراثية لا يلغى اللعان مطلقا في حال الاتهام بالزنا أما اللعان من أجل نفي الولد فهو ممنوع شرعا إلا إذا وجد دليل، أي زنا الزوج لا يتوجه إلى اللعان في حال وجود دليل. ثم لماذا التساهل في إقامة اللعان مع أن أيمان مغلضة خوفا من تنفيذ حد القذف على الزوج في حال ثبوت كذبه بالبصمة لأن هذه الأخيرة من الناحية العلمية لا تكاد تخطئ في التحقق من علاقة البنوة(1).
ويمكن القول إن ظهور البصمة الوراثية كآية من آيات الله عز وجل في الإنسان التي تحقق إنقاذ المتشردين من أطفال مسلمين وتقليل ظاهرة إلقاء المولودين على أعتاب المساجد أو بجوار صناديق القمامة.
- تحميل المتسبب مسؤولية التربية والانفاق إعمالا للقاعدة * الغرم بالغنم *.
- تقليل من ظاهرة تزوير الأنساب عندما تستغل المرأة غفلة زوجها فتلحق به من ليس منه.
- حتى تكون نتائج البصمة الوراثية دقيقة وخصوصا في إثبات البنوة يجب إتباع إجراءات التحليل التالية:
- أن لا يتم إجراء التحليل إلا بإذن الجهة الرسمية كما نص القانون الفرنسي .
- أن يجري التحليل في مختبرين على الأقل ، كما هو في الشهادة المبنية في الشريعة الإسلامية ومعترف بهما على أن تأخذ الإحتياطات اللازمة لضمان عدم معرفة آخر المختبرات التي تقوم بإجراء الإختبار بنتيجة المختبر الآخر.
- يشترط أن يكون القائمون على العمل في المختبرات المنوطة باجراء تحاليل البصمة الوراثية ممن يوثق بهم علما وخلقا وأن لا يكون أي منهم ذا صلة قرابة أو صداقة أو عداوة أو منفعة بأحد المتداعين أو حكم عليه حكم مخل بالشرف أو الأمانة وهذا الشرط نجده في الخبير وقد نصت عليه المادة 143-156 من قانون الإجراءات الجزائية الجزائري.
- ونظرا للدور الذي تلعبه البصمة الوراثية في إثبات البنوة، فهناك صعوبات تواجهها و تعرقلها عن العمل بالبصمة الوراثية، وهذه العقبات يحتج بها الخصم ويحاول الافلات بها من الخضوع لفحص الدم(تحليل البصمة الوراثية)، فقد يتمسك الخصم بأن الأخذ بفحص الدم كدليل في إثبات البنوة أمر يتعارض مع اللعان أو يزعم أن يتنافى مع الشريعة الإسلامية، وكذلك قد يتمسك الخصم بأن الخضوع لهذا الاختبار يتعارض مع قاعدة عدم جواز إجباره على تقديم دليل ضد نفسه، بل قد يحتمي بمبدأ معصومية الجسد تهربا من الكشف عن الحقيقة. الواقع أنه بقدر إمكانية التغلب على هذه الصعوبات بقدر ما يمهد الطريق أمام القضاء لأنه يحقق للإسلام تشوقه في حفظ الأنساب.
(1)- www.Islam online.net
فلا يختلط ولا يضيع الولد و الشرف كما يجنب ساحة القضاء منازعات الابتزاز والتشهير الدنيئة (1) ونحاول أن نتناول هذه الصعوبات كما يلي:
أ- مدى اتفاق الاعتداد بفحص الدم مع التمسك باللعان:
أمام الفحص الحديث للدم (البصمة الوراثية) الذي يقدم لنا دليلا على التحقق من ثبوت النسب قد يلجأ الزوج الذي يريد التهرب من ثبوت نسب الطفل منه إلى طلب إجراء اللعان وبإجرائه ينتفي النسب عنه ويلحق الطفل بالأم ويكون هذا كأثر مترتب عن اللعان أمر يقوم على الظن والتخمين لا على اليقين وهذا ما يجعل للبصمة الوراثية دورا في تدعيم وتقوية قاعدة الولد للفراش.
وهذا ما ننشغل به في فكرتين:
- انتفاء النسب ليس من لزوم اللعان.
- انتفاء النسب بطريق اللعان يقوم على الشك لا على اليقين.
- ونقصد بالأولى أنه قد يثبت نسب الولد ويبقى إجراء اللعان قائما كسبب موجب للفرقة بين الزوجين، فقطع النسب ليس من ضرورة اللعان، وتتضح صحته من خلال قاعدتين:
القاعدة الأولى : لا يصح نفي النسب بالملاعنة بعد الإقرار به
يتفق الفقهاء على أن للزوج الحق في طلب إجراء اللعان لنفي النسب الذي وضعته زوجته بشرط أن لا يكون الزوج قد سبق وأن أقر بالنسب كأن يقوم بتبليغ الجهات المختصة بواقعة مولده ذاكرا أنه والده...الخ.
ولقد قضت محكمة النقض المصرية أنه متى أقر الزوج بالنسب فإنه لا يملك نفيه بعد ذلك لأنه عندما أقر به فقد ثبت وهذا ما نصت عليه المادة 176 من قانون الأحوال الشخصية الكويتي في حكمها الذي يقضي بعدم جواز إجراء اللعان لنفي الولد إذا اعترف الزوج بنسب الولد صراحة أو ضمنا، وهذا ما نصت عليه المادة 337 من الأحكام الشرعية في الأحوال الشخصية لدولة الإمارات العربية على أنه إذا أقر الزوج بنسب الولد صراحة أو دلالة فإن نسبه لا ينتفي وإن تلاعن الزوجان وفرق القاضي بينهما وعلى ما سبق يتضح لنا أمر ينبغي التنبه له جيدا وهو أن القاضي يمكن أن يجيب الزوجة لطلبها إجراء اللعان، ولكن يعطل أثره في نفي النسب، بمعنى آخر يمكن للقاضي أن يجري الملاعنة ويتم التفريق بين الزوجين وإجراء فحص البصمة الوراثية يتم لمعرفة ما إذا كان الزوج الملاعن هو الأب الحقيقي أم لا وإذا جاءت نتيجة البصمة الوراثية تؤكد ثبوت النسب من الزوج الملاعن حكم القاضي بلزومه النسب دون أن يتعارض هذا مع بقاء اللعان قائما كسبب للتفرقة بين الزوجين.
(1)- د. محمد أبو زيد: دور التقدم البيولوجي في إثبات النسب. مجلة الحقوق، العدد الثاني، صادرة من مجلس النشر العلمي، جامعة الكويت، ط1996، ص287.
القاعدة الثانية: تكذيب الزوج لنفسه بعد إجراء اللعان يزيل نفي النسب كأثر للملاعنة (1):
اتفق الفقهاء على أنه إذا كذب الزوج نفسه بعد الملاعنة، فإنه يترتب عن هذا التكذيب ثبوت النسب منه وهذا يعني أن تكذيب الزوج لنفسه يؤدي إلى زوال أثر اللعان في قطع النسب ويعود للولد نسبه من الملاعن وأخذ بذلك قانون الأحوال الشخصية الكويتي حيث نصت المادة: 179 على " أنه إذا اعترف الرجل بما يفيد كذبه في الاتهام ونفي النسب لزمه نسب الولد ولو بعد الحكم بنفيه".
يذهب الجمهور: إلى القول أن اللعان يرتب الفرقة المؤبدة فإذا حدث أن كذب الزوج نفسه فلا يمكن للمتلاعنين أن يجتمعا بعد ذلك ( حرمة مؤبدة).
هكذا يتضح تماما أن ثبوت النسب من الزوج في حالة تكذيبه لنفسه بعد الملاعنة لا يتعارض مع استمرار اللعان سببا للفرقة بين الزوجين(2).
وهذا يعني أن إجراء اللعان يبقى قائما ولكن أثره في نفي النسب يعطل، وهذا يقودنا إلى القول بأن القاضي يمكنه أن يجري الملاعنة بين الزوجين ولكن يعطل أثر اللعان في نفي النسب، ويأمر بخضوع الأطراف لإجراء تحليل البصمة الوراثية، فإن دلت على أن الأب الحقيقي هو الأب البيولوجي فهذا يعد تكذيبا للزوج.
وهكذا يرفع التعارض بين استخدام فحص الدم في حالة الدلالة على ثبوت النسب وبين إجراء اللعان وأثره النافي للنسب.
انتفاء النسب بطريق اللعان يقوم على الشك لا على اليقين :
من أهم الآثار التي يرتبها اللعان بنفي الولد هو قطع نسب الولد عن الزوج وإلحاقه بأمه وهو أثر أجمع عليه فقهاء المسلمين، ولقد نصت المادة178 من قانون الأحوال الشخصية الكويتي بقولها: (إذا جرى اللعان بين الرجل و المرأة، نفى القاضي نسب الولد عن الرجل، ولا يجب نفقته عليه، ولا يرث أحدهما الآخر وألحق الولد بأمه)(3)
وقد تنبه فقهاء المسلمين بخطورة الأمر فحددوا مركز الولد في مواجهة الزوج الملاعن بطريقة تلائم احتمال كذب هذا الأخير، أو خطئه وتسرعه في ادعاءاته فذهبوا إلى اعتبار ولد الملاعنة أجنبيا عن الزوج بالنسبة لأحكام الميراث والنفقة وعلة ذلك هو أن هذه الأحكام لا تثبت إلا بسبب يقيني.
وأما بالنسبة لسائر الأحكام الأخرى فقد اعتبر الفقهاء ولد الملاعنة في علاقته بالملاعن كالإبن مثلا بخصوص الشهادة، لا تقبل شهادة الملاعن وأصوله لمن نفي نسبه باللعان، وبالنسبة للقصاص قتل الملاعن الولد الذي نفاه باللعان فلا يقبل فيه، كما لو قتل الوالد ولده.
(1)- محمد أبو زيد: المرجع السابق، ص231
(2)- محمد أبو زيد: المرجع السابق، ص232
(3)- محمد أبو زيد: المرجع السابق، ص293
والواقع أن علة اعتبار الولد المنفي نسبه بطريق اللعان كابن بالنسبة للزوج الملاعن في خصوص أثر الأحكام الشرعية عدا النفقة والميراث، هو أن هذا الولد قد وضعته أمه وهي مقترنة بالزوج بمقتضى عقد زواج صحيح(1)، ومن ثم فإن الحكم بنفي النسب باللعان لا يدل بصفة يقينية على أن الولد ليس إبنا للزوج.
و يتضح لنا أن نفي النسب كأثر للعان يقوم على الظن لا على اليقين فإنه يكون من العدل أن يعطى للزوجة الحق في طلب إجراء تحليل البصمة الوراثية إلى ما يفيد في كشف حقيقة النسب بطريقة لا تقبل الشك.
و إن لم يكن استجابة لطلب الزوجة في الماضي أمرا مقبولا حيث لم تكن المعطيات العلمية تسمح إلا بتقديم الدليل المؤكد على انتفاء النسب، فإنه يصبح أمرا ملحا في ظل المعطيات الحديثة التي تسمح بتقديم الدليل المؤكد على ثبوت النسب. وهو إذ يصبح أمرا ملحا حيث يكشف الحقيقة، فإنه يعد أيضا أمرا مرغوبا فيه شرعا وقانونا.
فإنه من الواضح أن استخدام البصمة الوراثية سيمنع من اختلاط الأنساب، وضياع الأولاد وصون الأعراض، حيث لا توجد وسيلة أخرى ترد اتهام الزوج لزوجته، والفضل للعلوم الحديثة التي تقدم لنا دليلا مؤكدا، يرد هذا الاتهام، ولا سيما أنه دليل لا يتعارض مع إجراء اللعان للتفريق بين الزوجين، كما لا يتعارض مع مبادئ الشريعة الإسلامية.
مدى اتفاق الأخذ بتحليل الدم مع الشريعة الإسلامية :
دراسة مدى تماشي فكرة الأخذ بتحليل الدم كدليل في مجال النسب مع مبادئ الشريعة الإسلامية، وكان معروفا في الفقه الإسلامي أسلوب القيافة التي سبق تعريفها وكذا النظر بفراسته بوجوه الشبه بين شخصين لمعرفة أبينهما نسبة في البنوة أم لا(2)
وقد وجد في الفقه الإسلامي إتجاهان بشأن الأخذ بها في مجال النسب، فيتشدد القائلون بالأخذ بها وهم الجمهور* ويؤكدون أن القيافة علم صحيح يجب القضاء به في الأنساب، لأنها لو كانت باطلة لما أقرها الرسول عليه الصلاة والسلام ولم يرض بها.
أما الحنفية فيعارضون الأخذ بأقوال القائف في مجال النسب واستدلوا قولهم هذا بأن علم القيافة يقوم على مجرد الشبه المبني على الظن و التخمين، والشبه قد يقع بين الأجانب وينتفي عن الأقارب، فيقولون إنه لا يدل على ثبوت النسب بالاعتماد على قول القائف. والواقع أنه بفحص موقف فقهاء الحنفية، فإننا نلاحظ الاعتبار الذي دفعهم لرفض الأخذ بالقيافة في مجال النسب هو أنها تقوم على شيء من الحدس و التخمين لا بالاستدلال و اليقين(3).
(1)- د. محمد أبو زيد: المرجع السابق، ص296.
(2)- د. محمد أبو زيد: المرجع السابق، ص294.
(3)- د. محمد أبو زيد، المرجع السابق، ص297.
* الجمهور: المالكية والشافعية يبررن العمل بالقيافة في ثبوت النسب.
غير أن هذا الاعتبار قد فقد الدافع إليه في أيامنا الحالية، فأسلوب القيافة قد تطور وأصبح موضوعا لدراسات دقيقة، واسعة النطاق.
وها نحن قد رأينا ما أفادت به العلوم الطبية في مجال تحليل الدم لأنه دليل نفي أو إثبات النسب.
وعلى ذلك فإنه يكون واضحا أن فقهاء الحنفية لم يروا الاعتماد على القيافة في إثبات النسب متأثرين بدرجة التقدم العلمي في زمانهم، حيث لم تكن العلوم وصلت بعد إلى أن لكل شخص مميزات وراثية لا يشترك فيها مع غيره، فإن هذا الأسلوب العلمي على ضوء هذا التطور يعتبر وسيلة إثبات يصح الاعتماد عليها. وما كان ليرفضها فقهاء الحنفية لو كانت تحت أيديهم الحقائق العلمية التي في زماننا. فهي الأوثق في عصرنا للتعرف على حقيقة النسب نفيا أو إثباتا، من أسلوب القيافة، ومجمل القول أن الأخذ بالبصمة الوراثية لا يعد خروجا على الشريعة الإسلامية(1)
فحص الدم ومدى جواز إجبار الخصم على تقديم دليل ضد نفسه:
تقوم قاعدة عدم جواز إجبار الخصم على تقديم دليل تحت يده يستفيد منه خصمه على أساس تصوير معين للخصوم، و هو أنها معركة يدافع فيها كل خصم عن مصالحه دون أن ينتظر أحدهما معاونة الآخر بتقديم ما يكون تحت يده من أدلة تفيده في ادعاءاته، فالطرف الواقع عليه عبء الإثبات يخسر الدعوى إذا ما عجز عن تقديم الدليل الذي يؤيد ادعائه مع العلم أن القاضي غير ملزم بتكليف الخصوم على تقديم الدليل على دفاعهم أو لفت نظرهم إلى مقتضيات هذا الدفاع، فهو يتلقى أدلة الإثبات والنفي كما يقدمها أصحاب الخصومة وفقا للإجراءات التي يعينها القانون دون تدخل من جانبه، وإذ يحكم بناءا عليها فإنه يلتزم بقوة كل دليل كما حددها القانون.
وهكذا ينتهي الأمر إلى تحميل أحد الخصوم عبء إثبات تقديم الدليل على ما يدعيه دون أن يطمع في معاونة القاضي له في البحث عن دليل يؤيده، ولا يأمل في جبر خصمه ومع ذلك نجد المادة 25 من قانون الإثبات المصري وما يقابلها المادة 22 من قانون الإثبات الكويتي تجيز لأحد طرفي الخصومة أن يطلب من المحكمة إلزام الخصم الآخر بتقديم أية أوراق منتجة في الدعوى تكون تحت يده، ولذا فإن الفقه يرى أن الأصل في القانون المصري هو عدم جواز إجبار الخصم على تقديم ما تحت يده من أدلة.
و بالرجوع إلى النصوص المنظمة لاستجواب الخصوم يتضح أن للقاضي طلب حضور الخصم باستجوابه سواء من تلقاء نفسه أو بناء على طلب خصمه.
و الإستجواب قد يهدف إلى الحصول على ايضاحات متعلقة بالواقعة محل النزاع يستفيد منها الخصم في الوصول إلى الحقيقة في شأن وقائع الدعوى المعروضة عليه وهكذا
(1)- د. محمد أبو زيد، المرجع السابق، ص297.
يتضح أن و فيها يحتكم الخصم الذي لا دليل له على صحة ما يدعيه إلى ضمير خصمه فهنا يلجأ الخصم الذي يعوزه الدليل إلى طلب توجيه اليمين إلى خصمه يلزمه فيه بأن يقول الحقيقة، صحيح من المتصور أن يحلف من وجهت إليه اليمين كذبا ولا يقول الحقيقة ولكن يبقى في الحلف كذبا معصية دينية، وكذلك يعد جريمة يعاقب عليها القانون. إنها مظهر آخر من مظاهر واجب تعاون الخصوم في الكشف عن الحقيقة.
وجدير بالذكر أن المشرع الفرنسي قد اتخذ موقفا أكثر صراحة و جرأة من غيره من القوانين فقد نصت المادة 10 من قانون المدني المعدلة بقانون 5 يوليو 1972 على التزام كل فرد بأن يقدم مساعدته إلى العدالة بهدف إظهار الحقيقة ويجوز إجباره على التنفيذ عن طريق فرض غرامة تهديدية أو غرامة مدنية، ويتضح من هذا أن المشرع يعطي للخصم الحق في أن يجبر خصمه بتقديم ما تحت يده من أدلة تساعد على إظهار الحقيقة فهذا يعني أن نطاق الأدلة التي يجوز للخصم إجبار خصمه على تقديمها يمتد ليشمل المساس بجسم الإنسان كما هو الشأن في الحصول على عينة من الدم لفحصها، هذا الذي أدى إلى دراسة صعوبة أخيرة في مبدأ معصومية الجسد.
فحص الدم و مدى جواز المساس بمبدأ معصومية الجسد:
لا يشك أحد أن الإجبار على الخضوع لفحص الدم يمثل نوعا من الاعتداء، على مبدأ حرمة الجسد. و لكن ألا يتضمن رفض الخضوع لهذا الفحص باسم مبدأ حرمة الجسد تعديا شديدا على حقوق تتصل بقيم على مستوى عال من الأهمية لا تقل عن مبدأ حرمة الجسد الواقع(1) أن ثبوت النسب تتعلق به حقوق مشتركة بين الله تعالى و بين الأم و الأب و الابن و وجه كون ثبوت النسب حقا لله تعالى فلأنه يتصل بحرمات أوجب الله تعالى رعايتها، و هذه الرعاية لن تتأتي إلا بالمحافظة على الأنساب، و ما يشهد على كونه حقا من حقوق الله تعالى.
كونه حقا للأم فلأن في إثبات نسب الولد من أبيه ما يدفع عنها تهمة الزنا و دفع العار عنها و عن أسرتها و لئلا تعتبر بولد ليس له أي معروف و لأجل هذا فإنه يصح أن تكون الأم خصما في دعوى النسب باعتبارها صاحبة مصلحة حقيقية في دعوى نسب الولد لأبيه، إذ يوجد ارتباط بين دعوى النسب و أمومتها.
كونه حقا للأب فلأنه يترتب على ثبوت نسب الولد منه ثبوت ولايته عليه مادام صغيرا و حق ضمه إليه عند انتهاء حضانة الأم له، و حق إرثه إن مات الولد قبله، و حقه في إنفاق الولد عليه مادام الأب محتاجا و الابن قادرا.
1)- د/ محمد أبو زيد : المرجع السابق ، ص 302 .
أما وجه كونه حقا للولد فلأنه محتاج إليه دفعا للعار عن نفسه بكونه ابن زنا و هذه الحقوق يبينها المشرع و كذلك بينتها القوانين الوضعية.
و في هذا الإطار لا يجوز للأم و الزوج الاتفاق على إسقاط حق الولد في النسب و تأسيسا على ما تقدم يتضح الوضع الحقيقي لمشكلة الامتناع عن الخضوع لفحص الدم بما يتضمنه من عرقلة إقامة الدليل المؤكد على إثبات البنوة يمثل بالفعل اعتداءا على قيم تتصل بالكيان المعنوي للإنسان أي أن هذا يؤدي إلى المساس به ، خاصة أن الفحص الحديث للدم يقدم الدليل على نفي النسب أو إثباته بطريقة لا تقبل الشك.
و هكذا يقف مبدأ معصومية الجسد ليستبعد فكرة إجبار الشخص على الخضوع للمساس بجسده و مثلها الإجبار على الخضوع لفحص الدم و هذا ما جاء في المادة 10 من القانون المدني الفرنسي وكذلك المادة 11 من قانون الخبرة الكويتي بأنه: (إذا تخلف الخصم على تنفيذ قرارات الخبير لغير عذر لجأ الخبير إلى المحكمة لتحكم عليه بغرامة لا تقل عن " خمسة دنانير و لا تزيد عن عشرين دينارا." و ذلك بقرار يثبت في محضر الجلسة له ما للأحكام من قوة تنفيذية و لا يقبل الطعن بأي طريقة و لكن للمحكمة أن تعفي المحكوم عليه من الغرامة أو بعضها إذا أبدى عذرا مقبولا )(1).
غير أن هذين النصين لا يتعلقان إلا بالحالات التي يكون فيها الحكم بالغرامة جائزا فلا يمتد إلى الحالات التي يؤدي فيها الضغط و الإجبار إلى مخالفة و خرق المبادئ الأساسية كمبدأ حرية الجسد.
و لكن يبقي أن المادة 11 من قانون الإجراءات المدنية الفرنسي تجيز للمحكمة، في حالة رفض المدعي عليه الامتثال لأوامرها تمسكا بمبدأ حرية الجسد، فإنه يمكن للمحكمة أن تستخلص من موقف الأب المدعي عليه برفض الخضوع لتحليل دمه دليلا على أنه الأب الحقيقي.
فحتى في الوقت القريب لم يكن فحص الدم يقدم سوى دليل مؤكد على البنوة، أما الآن فبفضل التقدم التكنولوجي فإن تحليل البصمة الوراثية أصبحت كقرينة نفي و إثبات بنسبة 100% (2).
كما يفسر امتناع الأب المدعي عليه عن الخضوع لهذا التحليل سوى الخوف، كما تقول محكمة استئناف " نيم " ، ومن أن يرى هذا الإجراء و قد أزال اختلاط الأنساب .
و لقد رأينا الصعوبات التي تواجه البصمة الوراثية أثناء العمل بها و مع ذلك تم تجاوزها.
1)- د/ محمد أبو زيد: المرجع السابق، ص 302.
(2)-د/ منصور عمر المعايطة ص: المرجع السابق، ص 81.
بالنسبة للقانون الجزائري:
هناك مسائل قانونية تعترض هذه الطريقة (طريقة فحص البصمات الجينية) و نذكر منها: السلامة الجسدية و معلوم أن فحص البصمات الجينية يجرى على العتاد المأخوذ من جسم الإنسان غير أن الوضعية الحالية للعلوم لا تسمح في الوقت الحاضر سوى بإجراء الفحص على الدم و السائل المنوي و الشعر....إلخ.
و في الحالات التي لا يمكن الحصول فيها على العتاد الجسدي المرغوب بغرض إجراء فحص الحمض النووي، ينبغي اللجوء إلى المساس بالسلامة الجسدية للفرد المشبوه أو المتهم، وهي سلامة مضمونة دستوريا حيث نصت المادة 35 من دستور 1996 على أنه:(يعاقب القانون على المخالفات المرتكبة ضد الحقوق و الحريات و على كل ما يمس سلامة الإنسان).
فيبقي الحق في السلامة الجسدية حقا مطلقا يحميه قانون الإجراءات الجزائية و كذا قانون العقوبات عن طريق القضاء الجزائي و هو وحده الذي يقرر ما إذا كان ينبغي إكراه الشخص على أخذ عتاد من جسمه، وهو الذي يذكر الحدود و المواضيع الحميمة التي لا يجوز المساس بها و هي حدود السلامة الجسمية و حرمة الحياة الخاصة.
حرمة الحياة الخاصة:
تعد حرمة الحياة الخاصة ثاني حق يمكن أن يتأثر بفحص الحمض النووي للـ ADN لأن التساؤل المطروح يكمن في القول إلى أي مستوى يمكن للفحص أن يشكل تدخلا في الحياة الخاصة للفرد التي يحميها الدستور حيث نصت المادة 34 منه ( تضمن الدولة عدم انتهاك حرمة الإنسان، يحضر أي عنف بدني أو معنوي أو أي مساس بالكرامة ).
و تظهر إحدى الاعتراضات الأساسية على المساس بحرمة الحياة الخاصة في كون فحص البصمة الجينية يفتح المجال للبحث عن الخصائص الوراثية و هذا الاعتراض مستمد من فكرة مفادها أن معرفة تكوين خصائص الحمض النووي للفرد يكشف الاستعداد الوراثي له و بالتالي يكشف عن الاستعداد الإجرامي للمتهم فالاعتراض الأساسي إذن يتجلى في أن فحص الحمض النووي ADN يمكن أن يمد الغير بمعلومات من المتهم أكثر من المعلومات التي يحتاجها للتحقق من العينات المفحوصة للمقارنة.
و لا شك أن هذه المعلومات المتعلقة بالفرد تعد ذات طابع شخصي خاص جدا لأنها تتعلق بمعلومات شخصية ، رغم أن طريقة الطبيب (Jeffreys ) المتبعة في الوقت الحاضر تطمئننا بأن العمود ( Le code - barre) لا يكشف بأي حال من الأحوال عن الشخص الذي قدم منه العتاد الخلوي.
و أن البصمة الجينية المتحصل عليها من خلال هذه الطريقة لا تعطي أي معلومة عن شخصية المتهم أو طبعه أو استعداداته الإجرامية أو الوراثية كما أن هذه الطريقة لا تعطي أي وصف لشخص (طول، قصر، رجل، امرأة ). و لهذا يجب على المشرع أن يضع ضمانات صارمة حول بقية توسع فحص الأعمدة المشفرة في الإجراءات الجزائية و هو ما أخذ به قانون الإجراءات التكميلي الألماني المادة81 . كما أن هناك اعتراض آخر مضمونه أن لا يجبر الشخص على تقديم دليل ضد نفسه.
عدم إجبار الشخص على تقديم دليل ضد نفسه:
تتضمن أغلب القوانين الإجرائية المعاصرة أحكاما تحتوي على ضمانات مفادها التصريحات التي يدلي بها المتهم، و تعد كأنها تمت بحرية منه دون إكراه واقع عليه، تماشيا مع المادة 04 الفقرة 03 و 04 من الاتفاقية العالمية لحقوق الإنسان لسنة 1948، فما مدى انطباق هذه المقتضيات على فحص البصمات الجينية انطلاقا من العتاد المأخوذ من المتهم ؟ إن أخذ العتاد الخلوي من أجل فحص الحمض النووي يتم فيه إجبار الشخص المعني على أن يشهد ضد نفسه أو إكراهه على الاعتراف بخطئه، فليس المتهم هو الذي يتكلم هنا و إنما الوقائع المادية هي التي تعوض التصريحات(1) و في هذا الصدد نصت التوصية الخامسة من الدستور الأمريكي على عدم إكراه الشخص* في أي حالة جرمية تقديم اعترافات ضد نفسه حيث قالت:
Criminal any in compelled be shall not himself against witness a be to case (2) فمبدأ عدم إجبار الشخص على تقديم دليل ضد نفسه لا ينطبق سوى على التصريحات الشفوية** و في الجزائر نصت المادة 213 من قانون الإجراءات الجزائية على أن الاعتراف شأنه شأن جميع عناصر الإثبات تخضع لحرية تقدير القاضي، و بالتالي يبقى الشخص بريئا إلى أن تثبت إدانته نهائيا من طرف القضاء الجزائي و لو حامت شكوك حوله و لو اشتبهت في شأنه الشرطة القضائية و حتى لو تابعته النيابة العامة و أودعه قاضي التحقيق الحبس المؤقت.
احترام مبدأ قرينة البراءة:
نص عليها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان و الذي مفاده أن كل شخص تابعته النيابة العامة يظل بريئا إلى غاية إدانته نهائيا و هو ما نصت عليه المادة 45 من الدستور الجزائري: " كل شخص متهم يعتبر بريئا حتى تثبت جهة قضائية نظامية إدانته...." .
و هذا المبدأ لا يتعارض مع تطبيق الوسائل الزجرية في الإجراءات الجزئية مثل التوقيف للنظر و الحبس المؤقت رغم أن تطبيق هذه التدابير يمكن أن يكون مطلقا لتأسيس أية إدانة محتملة و لذلك كفل المشرع تلك التدابير الردعية بضمانات عديدة من حيث الأشخاص الذين يقومون بها " ضباط الشرطة القضائية و القضاة " أو من حيث الزمان " تحديد مدة التوقيف للنظر و الحبس المؤقت " أو من حيث المكان (مقرات الحجز و أماكن الحبس ) أو من حيث
(1)- نويري عبد العزيز: المرجع السابق، ص 45.
* دون إرغامه على تقديم دليل ضد نفسه لأن ذلك يعد خرقا لمبادئ الإثبات.
(2)- نفس المرجع، ص 45.
** كاستعمال آلات تحليل الأصوات (analyses macro) وآلة الكشف عن الكذب(détecteur des mensonges) بعد الاستعمال غير القانوني.
المعاملة ( احترام الكرامة البشرية و الاتصال بالأقارب و الفحص الطبي ).(1)
و غيرها من الضمانات * التي أوردها المشرع في تعديله الأخير الواقع سنة 2001 على قانون الإجراءات الجزئية.
إذا كان ذلك هو دور البصمة الوراثية كوسيلة إثبات من الناحية النظرية فما هو حالها على أرض الواقع ومن الناحية العملية بالنسبة للدول التي تأخذ بهذا الأسلوب المعاصر؟ وهو ما سنراه في الفصل الموالي.
(1)- نويري عبد العزيز: المرجع السابق، ص47.
* حيث أن المشرع الجزائري في تعديله الأخير أضاف ضمانات أخرى للمتهم منها الاتصال بالأقارب...الخ، وهذا
إقتداء بالمشرع الفرنسي.
لا يمكن الإنكار أن الهندسة الوراثية لها مزايا هائلة فقد أدرك العالم الغربي خطورة الأمر-فهم يشاهدون نتائج تطبيقات الهندسة الوراثية بشكل يومي- فسنت أكثر من 25 دولة أوروبية قوانين صارمة للسيطرة على كل كبيرة وصغيرة في مجال الهندسة الوراثية أسوة بما هو متبع حيال تجارب الإنشطار النووي وتصنيع القنابل النووية وامتلاكها، وأدى استعمال تقنية الحمض النووي المنقوص الأوكسجين في كشف غموض و ملابسات العديد من القضايا الشائكة وساعد ذلك على إيجاد ترسانة من الإجتهادات القضائية، لاسيما في الدول الغربية.
أما العالم العربي ورغم أن أول آية نزلت على الرسول-صلى الله عليه وسلم-تدعو إلى القراءة التي هي المفتاح الأساسي لطلب العلم، حيث أخذ المسلمون الأوائل بهذا النهج و أبحروا في العلوم و الترجمة عن الدول التي سبقتهم في ميادين العلوم حتى استطاعوا أن يصنعوا حضارة مادية مرتبطة برباط شرعي، فلم يفعل شيئا جديا وبقي مترددا في الأخذ بهذه التقنية كوسيلة من وسائل الإثبات في المسائل المدنية و على الخصوص في المسائل الجزائية، مما جعل القضاء العربي يراوح مكانه إذ يكاد الاجتهاد القضائي في هذا الشأن أن يكون منعدما، وبسبب ذلك خلو التشريعات العربية من نصوص قانونية تدرج البصمة الوراثية ضمن وسائل الإثبات.
ومن المبادئ المعترف بها دوليا في المواثيق الدولية ومعظم دساتير الدول حماية الإنسان، ولاشك أن كل شخص مادام مالكا لجسده فإن احترام الإنسان يستتبع بالضرورة احترام الجسد والنتيجة حماية تراثه الجيني.
ولذلك سنتعرض إلى بعض التشريعات الغربية التي أخذت بالبصمة الوراثية كوسيلة للإثبات، كما سنعرض بعض القضايا التي عرضت على القضاء وفصل فيها بالاعتماد على ADN لاسيما في الدول الغربية وكذا في الدول العربية على قلتها و من خلال ذلك سنفصل في مسألة دستورية المساس بجسم الإنسان من خلال أخذ عينات منه لإجراء فحوصات لـADN
1) المبحث الأول. الأحكام القانونية للبصمة الوراثية:
إن البصمة الوراثية لم تكن خيالا فقد ترجمت إلى واقع علمي، وقامت شركات كبيرة في أوروبا وأمريكا بتطويرها منذ سنة 1987، وأثبتت نجاحها حتى غزت ساحات المحاكم واستقر العمل بها في أوربا، وبدأت بعض الدول العربية والإسلامية في التمهيد للعمل بها، ونلقي هنا نظرة سريعة على تنظيم البصمات الوراثية في أبرز الدول التي أعطت هذا الميدان عناية قانونية وأهمها دول أوربا الغربية مثل: فرنسا، بريطانيا الدانمارك، ألمانيا، النرويج، ايرلندا، هولندا و السويد وبعض الدول العربية و من بينها الجزائر.
المطلب الأول: التشريعات الغربية
1- التشريع الفرنسي: - يمنع القانون في فرنسا إجراء فحص الـ ADN على أي شخص دون أمر قضائي، ويجري في مخابر مختصة، حيث يتم استدعاء الشخص لحضور عملية الفحص مرتين متتاليتين ثم يحرر محضر بذلك، وتعد فرنسا أول الدول التي شرعت في البحث عن الأسباب عن طريق فحص الـADN .
و بصدور قانون 29/07/1994 المتعلق باحترام الجسم الإنساني، والذي أقر تأطير عملية التعرف على الشخص بفضل البصمات الجينية مع التأكد من ان هذا الشخص لا يكون جاريا عنه البحث إلا في إطار اجراءات بحث أو تحقيق شرع فيه أثناء إجراء قضائي أو لغايات طبية أو بحث علمي(مادة جديدة 11-16). ق فرنسي.
- قانون 17جوان 1998، المادة 26 المتعلق بالوقاية ومكافحة المخالفات الجنسية، وكذا من أجل حماية القصر، وهذا القانون وضع حجر الأساس لحفظ البصمات الوراثية في الكمبيوتر، وفي هذه الفترة كانت البصمة الوراثية محصورة على الجرائم الجنسية (1)
و في ديسمبر 1999 قدم ألان مارسو Alain Marsaud ملف موضوع اقتراح قانون متعلق بإنشاء بطاقية للآثار الجينية للأشخاص المحكوم عليهم و المتهمين في جرائم جنسية مرتكبة على قصر تقل أعمارهم عن 15 سنة، ولم يسجل هذا الاقتراح في جدول أعمال المجلس الوطني.
- قانون 17جوان 1998 قد طرح المبادئ التي تسير هذا الملف (البطاقية).
* أهـدافـه:
-تسهيل عملية التعرف على الأشخاص.
- البحث على مرتكبي الجرائم الجنسية.
(1)- د.نوري عبد العزيز، المرجع السابق.ص 45.
* محتـواه :
- يحتوي على الآثار الجينية وكذا البصمات الجينية للأشخاص المحكوم عليهم بإحدى المخالفات المبينة في المواد 22-222-إلى 23-223 (الاغتصاب و الاعتداءات الجنسية، وكذا المشاهد الجنسية).
و في قانون 15/11/2001 المتعلق بالأمن القومي وخاصة إيداع مشروع قانون للأمن الداخلي، وهذا الأخير نشأ عن قانون 1994 المتعلق باحترام الجسم الإنساني وهي وجوب قبول المعني على اخذ عينات من أجل التحليل الجيني.
- إن المادة 56 من قانون 15/11/2001 المتعلق بالأمن القومي هي التي سمحت باتساع أولي لمجال تطبيق الملف، وهناك ثلاثة أنواع من المخالفات جاءت لتضاف إلى المخالفات ذات الطابع الجنسي المذكورة آنفا.
1/ جرائم المساس الطوعي(إرادي) لحياة الشخص، التعذيب وأفعال وحشية واستعمال العنف الإرادي و المحددة في المواد 1-221 إلى 5-221( جريمة القتل، القتل العمدي والتسميم).
2/ جرائم السرقة، السرقة مع التهديد أو بوسائل أخرى والتدمير، التكسير و الإتلافات الخطيرة على الأشخاص المحددة في المواد :7 -311 إلى 12-311 ( السرقة باستعمال العنف المؤدي إلى ضرر جسدي أو إلى عجز دائم، السرقة باستعمال السلاح ).
3/ الجرائم التي تشكل أعمالا إرهابية المحددة بالمواد 1-421إلى 4-421 من قانون العقوبات الفرنسي .
- إن الاتساع الأول لملف البصمة الوراثية جاء حقا في وقته، لكن المشروع بقي في منتصف الطريق مكتفيا بالنسبة لفئات المخالفات التي أضيفت على التأهيلات الإجرامية و حدها، تاركا دائما خارج المجال فئات أخرى، للمخالفات بحيث أن ضمها للملف جد هام.
- و من ناحية أخرى فإن مشروع القانون يوسع من أهداف تحليل البصمة الوراثية حيث أنه يتوقع أيضا أن يحتوى على الآثار الجينية التي وجدت بمناسبة إجراءات البحث:
- البحث عن أسباب الموت
- البحث عن أسباب الإختفاء.
- و كذا البصمات الجينية المطابقة أو التي تتطابق مع الأشخاص الذين توفوا أو الجاري عنهم البحث.
- تسهيل حل ملفات بقيت لحد الآن بدون حل.
و أثناء مناقشة القانون المتعلق بالأمن القومي، فإن مجلس الشيوخ قد صادق على تعديل يسمح بضم الأشخاص المتهمين. أما لجنة القوانين للمجلس الوطني فقد أبدت معارضة لهذه المبادرة باسم حق البراءة.
إن نشأة ( FNAEG ) و المراحل العديدة التي كان يجب اجتيازها لوضع هذه الوسيلة الناجحة في خدمة التحقيقات القضائية قد تثير تعجبنا ففي تقريره لسنة 1999 فإن اللجنة الوطنية للإعلام الآلي و الحريات (CNIL) صنفت ملفات البصمة الجينية ضمن ملف بسيط لإثبات الهوية و ليس ملف للسوابق العدلية، وهو يستعمل من طرف الدرك، وفي هذا الشأن ذكر M. Olivier Pascal في مقال حر :
" إن ملف البصمة الجينية لا تختلف عن بصمة الإصبع و الذي لا يثير مثل هذه الجدالات."
وفي هذا الصدد نلقي نظرة سريعة على تاريخ البصمة الجينية في ظل القانون الفرنسي ففي ديسمبر 1989 اقترحت اللجنة الاستشارية الوطنية لأخلاقيات المهنة عددا معينا من التوصيات تتلخص فيما يلي:
*اعتماد خاص للمخابر.
* لزوم حكم من القضاء .
*تعيين المخابر المعتمدة لا غير، كخبراء الجهات القضائية .
إن الهدف من هذه المبادرات هو اللجوء لتقنية التحاليل الجينية، وذلك بدعم الشرطة التقنية و العلمية أو تكوين البطاقات الأولى لدى المخابر.
في سنة 1997 استلهم قضاة التحقيق من النموذج الانجلوسكسوني فبدأوا بإعطاء توكيل و ترخيص لبعض المخابر الأجنبية ثم الفرنسية لإجراء التحاليل الجينية الأولى،و هذا في الميدان الجنائي ، و بسبب غياب النصوص المخصصة فإن القضاة كانوا يبنون أحكامهم على القواعد العامة الواردة في قانون الإجراءات الجزائية المنظمة و لإجراءات الخبرة .
و هكذا فإن ألـ ( FNAEG)* بإمكانه احتواء البصمات الجينية للأشخاص الذين يوجد ضدهم سبب أو عدة أسباب من شأنها تقوية الاتهام على أنهم ارتكبوا واحدة من الجرائم التي تدخل في مجال تطبيقها. إن هذا التسجيل مدعم بضمانات من طبيعتها إزالة كل التحفظات و المخاوف في هذا الموضوع من جهة، فإن هذا التسجيل مدعم لا يمكن الأمر به إلا من قبل ضابط الشرطة القضائية القائم بصفة مباشرة أو بطلب من القاضي، ومن جهة أخرى فإن التسجيل يؤشر في الملف و من هنا يكون الشخص المعني على علم به. أخيرا فإن إجراء المحو أو الشطب يكون بأمر من طرف السيد وكيل الجمهورية القائم المباشر أو بطلب من المعني، الذي له حق الطعن لدى القاضي ثم لدى رئيس غرفة التحقيق هذا من ناحية.
و من ناحية أخرى و بمبادرة من لجنة القوانين التابعة لمجلس الشيوخ فإن هذا الأخير قد صادق على ترتيب من شأنه أن يدعم ملف إجراء تحليل البصمة الوراثية خلال التحقيقات.
Le Fnaeg* هي عبارة عن نتائج في شكل أرقام لدراسة عمليات التعرف على أصحاب البصمة الجينية.
- تجريم رفض السماح بأخذ عينات:
إن حالة التعرف على هوية شخص ما عن طريق بصماته الجينية في إطار إجراء جنائي لا يستلزم بالضرورة موافقته، فإن هذا الأمر غير ممكن عندما يتعلق بأخذ عينات من المادة البيولوجية نفسها . و إن كان قانون 1994 المتعلق باحترام الجسم البشري لا يلزم صراحة هذه الموافقة من المعني بالأمر، و يري البعض سكوت القانون يعني أنه ليس بالضرورة موافقة المعني و هكذا لم يطبق القانون من قبل وزارة العدل.
إن منشور 10 أفريل 2000 يوضح المبادئ العامة للقانون الذي يضمن قداسة الجسم البشري لا يسمح بأخذ عينات بالقوة أو الإكراه من الشخص مثل أخذ عينات من الدم – وعينات من الشعر. و إنها ترى نفس الشيء عندما يتعلق بأخذ عينات من شخص محكوم عليه و في حالة رفض أخذ العينات فإن المنشور السالف الذكر يقدم بعض الوسائل مثل إجراء تحليل ابتداء من عينة من أداة بيولوجية التي تكون قد انفصلت عن الجسم البشري مثل الشعر الموجود في المشط أو أثر لعاب وجد على كوب.
مثال: تم تنفيذ هذه الطريقة على ساكن من "plein fougère " و الذي رفض أخذ عينات مطلوبة من قاضي التحقيق، فقد برأته العدالة رغم رفضه المطلق، و هذا بفضل العينات المأخوذة من فرشاة أسنانه، مشطه أو آلة الحلاقة الكهربائية.
- إن القانون المتعلق بالأمن القومي حاول أن يجد حلا ولو جزئيا لهذه الصعوبة ليس فقط بالنص على عدم ضرورة موافقة المعني، ولكن بتجريم الرفض المقابل من قبل المحكوم عليه، بالعقوبة المسلطة وهي: ستة أشهر (06) حبسا وغرامة بـ7500 أورو، قد تصل إلى عامين حبسا(02) وغرامة بـ30.000 أورو في حالة الحكم بالجرم وهو ما نصت عليه المادة 706-55 من قانون الإجراءات الجزائية الفرنسي.
- وهذا ما تم مع مشروع القانون الحالي للأمن الداخلي الذي يسلط على هذا الشخص العقوبات التي تسلط حاليا على المحكوم عليه بسبب جنحة في مجال FNAEG.
وفي هذا الصدد، فإن أخذ العينات البيولوجية لا تضيف أي شيء جديد من الناحية القضائية، ومنذ عدة سنوات فإن قانون المرور يسمح بمراقبة نسبة تواجد الكحول في الدم بالنسبة للسائقين، وفي هذه الحالة، لابد من أخذ عينة من دم السائق و بالتالي فإن رفض إجراء هذه العملية معاقب عليها قانونا بسنتين حبسا (02) وغرامة مالية قدرها 4500 أورو عملا بأحكام المواد من 8-234 إلى 10-234 من ق ع فرنسي.
يتميز عصرنا الراهن بالتطور المذهل لا سيما في المجال البيولوجي و قدرته علي استحداث تقنيات في المعرفة العلمية إذ تمت في السنوات الأخيرة ثورة هائلة كان سببها التطور البيولوجي الذي ساير التطور التكنولوجي، انجرت عنها تقدمات سريعة. هذه الأخيرة فتحت مجالات واسعة لقضايا لم تشهدها البشرية من قبل و كذلك أحدثت تغيرا في ممارسة الطب كتلك المتعلقة بالإرث البيولوجي للكائنات.و كان التراث الجيني مجال جدل عالمي حول مشروعية التقنيات الوراثية.
و قد كانت القضايا المقررة عن التقنية البيولوجية ذات صلة مباشرة بحياتنا اليومية و الشخصية تجلت من خلال الإسهامات الواضحة في مجال علاج الإنسان وكذلك مبادراتها في تشخيص الأمراض الوراثية، و علاجها و الوقاية منها، إذ كان للجينات دورها العلمي و الثقافي و قد غيرت نظرتنا لهذا العالم الحي و هكذا فإن الجينية فرضت نفسها تناسقا لأنظمة الإنسان، إلا أن الأهم من ذلك هو مجموع المعلومات التي يتم جمعها من خلال تنسق الجينوم الإنساني، و جعل الكثير من الباحثين يعتقدون أن البيولوجية حربا فتاكة لكونها تمس بحرمة الإنسان وطبيعته و اعتبرت تقنية ألـ ADN فنا يتلاعب بالمادة الوراثية بإمكانه الكشف عن الأمراض التي تصيب الجنين قبل ولادته.
و لقد تطور علم البصمات تطورا مذهلا فلم تقتصر البصمة علي أصابع اليد فقط بل توصل علماء الأدلة الجنائية إلي التعرف علي الشخص من بصمات عينيه و أذنيه و أسنانه و لا يزال علم البصمات يتقدم بسرعة مذهلة من أجل الوصول إلي تحقيق المطابقة بين الحقيقة الواقعية و القانونية تحقيقا للعدالة.
حتى أن التقدم العلمي كشف خصائص أخرى قد تكون أسهل و أدق و أشد حسما من جميع البصمات السابقة. ولعل البصمة الوراثية أصبحت الآن اشهر هذه الخصائص من أجل التعرف علي هوية الشخص و من ثمة التوصل إلي معرفة مقترفي الجرائم و إلحاق نسب الأبناء بآبائهم.
و تستعمل ألـADN في حل الكثير من القضايا و ذلك لارتباطها المباشر بالإفرازات الجسمية التي تختلف من الجناة أو المجني عليهم و لذلك فقد أولى الكثير من الخبراء الجنائيين اهتمامات كبيرة لتطويراساليب فحص الآثار البيولوجية، حيث تمكن من تطبيق ألـADN و إثبات أن هناك بعض الأجزاء من هذه الأحماض النووية تكون فريدة لكل شخص و الذي لم يعد معه ربط الجاني بمسرح الجريمة حلما و إثبات البنوة أمرا مستحيلا.
و نظرا لهذا تظهر أهمية ألـ ADN في القضايا الجنائية، حيث يمكن بواسطتها التوصل إلي إثبات ذاتية الأثر بشكل قطعي في معظم الحالات و كذلك التوصل إلي درجات إثبات عالية لتحديد ذاتية الأثر.
كل ذلك كان باعثا لطرح عدة إشكالات:
- ما موقف القانون و القضاء المقارن من البصمة الوراثية في الإثبات ؟ و ما موقف القانون و القضاء الجزائري منها ؟
- ماهو الأساس التشريعي الذي يعتمد عليه القاضي لتكريس تقنية أل ADN كدليل إثبات قانوني؟
- و ما مدى حجية البصمة الوراثية في الإثبات و هل يجوز للقاضي أن يكتفي بقرينة البصمة الوراثية كدليل للإثبات دون بقية القرائن الأخرى ؟
و لعلى ما دفعنا إلي اختيار هذا البحث جملة من الدوافع منها:
1- إن ظهور ألـADN و الإعتداد به كدليل لا سيما في المجال الجنائي يعد نقلة نوعية في مجال الإثبات.
2- غياب الدراسات الفقهية و القانونية حول هذا الموضوع علي الساحة العربية و الوطنية و عدم مسايرة المشرع للتطور العلمي الحاصل في هذا المجال.
3- نتائج الأبحاث العلمية أثبتت نجاعتها علي جميع المستويات الطبية و البيئية و الاقتصادية ناهيك علي المجال القانوني.
ونظرا لما سلف ذكره ارتأينا معالجة هذا الموضوع وفق الخطة التالية:
الرموز و المصطلحات:
الخطة المقترحة
الفصل التمهيدي: الإثبات و ماهية البصمة الو راثية
أولا: الإثبات
1- الإثبات في المواد المدنية
2- الإثبات في المواد الجزائية
ثانيا: ماهية البصمة الوراثية
1- الدراسة العلمية للبصمة الوراثية
أ- مدلول البصمة الوراثية
ب- خصائص البصمة الوراثية
ج- اكتشاف البصمة الوراثية
د- الخطوات العلمية لإجراء تقنية فحص البصمة الوراثية
2- أهمية البصمة الو راثية في الإثبات
أ- اهميتها في المجال الجزائي
ب- اهميتها في المجال المدني
الفصل الأول : البصمة الوراثية و التقنينات الوضعية .
المبحث الأول : الأحكام القانونية للبصمة الوراثية
المطلب الأول : التشريعات الغربية
المطلب الثاني : التشريعات العربية
المبحث الثاني : البصمة الوراثية في الاجتهاد القضائي
المطلب الأول : في قضاء الدول الغربية
المطلب الثاني : في قضاء الدول العربية
الفصل الثاني: مجالات تطبيق البصمة الوراثية و مدى حجيتها في الإثبات
المبحث الأول : المجالات القانونية للبصمة الوراثية
المطلب الأول : الأساليب الوراثية لإثبات النسب و الجرائم الجنسية
الفرع الأول: إثبات النسب.
الفرع الثاني: إثبات الجرائم الجنسية.
المطلب الثاني : حجية البصمة الوراثية
الفرع الأول: الحجية المطلقة للبصمة الوراثية.
الفرع الثاني: الحجية النسبية للبصمة الوراثية.
أ) الإستنساخ.
ب) الخطأ البشري
المبحث الثاني : المجالات الأخرى لاستعمال تقنية البصمة الوراثية.
المطلب الأول : إثبات هوية المفقودين و البحث عن الجذور
الفرع الأول: إثبات هوية المفقودين.
الفرع الثاني: البحث عن الجذور.
المطلب الثاني : استعمال تقنية البصمة الوراثية في مجال الإقتصاد و التأمين
الفرع الأول: في مجال الإقتصاد .
الفرع الثاني: في مجال التأمين.
خــــــاتمة
لفصل التمهيدي الإثبات و ماهية البصمة الوراثية
أولا: الإثبات:
وسائل الإثبات في القضاء لها أهمية بالغة ترقى إلى أهمية مرفق القضاء بحد ذاته، ذلك أن أهمية الإثبات تكمن في كونه الوسيلة الوحيدة التي تمكننا من اعتبار فعل ما موضوع شك أو انتزاع عنوانا للحقيقة على إثر صدور حكم نهائي في الدعوى فالإثبات لا يمكن فصله عن الحكم القضائي بل هو روح هذا الحكم و جوهره و على الرغم من هذه الأهمية التي يكتسبها الإثبات، فإن الدارسين لم يكرسوا في الحقيقة مجهودات معتبرة للبحث فيه، فهناك دراسات قليلة تتعلق بالقواعد التي تنظم موضوع الإثبات في مختلف الأنظمة القانونية لا سيما المتعلقة منها بالإثبات العلمي من كون هذا الأخير في تطور مستمر ذلك أن الحقيقة العلمية تبقي دائما محل دراسة و تجديد بين الحقيقة القضائية تنتهي عند اكتشافها من طرف القضاء(1).
و هذا التطور المذهل و السريع لوسائل الإثبات العلمية دفع بنا إلي الحديث عنها في الجانبين المدني و الجزائي لاسيما الإثبات عن طريق البصمة الوراثية ( ADN).
و كتمهيد لحديثنا علي البصمة الوراثية و حجيتها في الإثبات ارتأينا أن نتحدث و لو بإيجاز عن وسائل الإثبات القانونية في المجالين المدني و الجزائي قبل الحديث عن البصمة الوراثية كوسيلة من وسائل الإثبات في القانون و القضاء الغربي و العربي.
1/ الإثبات في المواد المدنية:
الإثبات هو الدليل أمام القضاء بالطرق المحددة قانونا علي واقعة قانونية ينازع في صحتها أحد أطرف الخصومة، ومن هنا فإن الإثبات يكتسي أهمية بالغة في الحياة العملية إذ الحق بالنسبة لصاحبه لا قيمة له و لا نفعا إذا لم يقم عليه الدليل.
و لقد تناول المشرع الجزائري طرق الإثبات المدنية في القانون المدني و قانون الإجراءات المدنية و القانون التجاري، فالقانون المدني نظم 05 طرق للإثبات جاء بها في الباب السادس تحت عنوان إثبات الالتزام من المادة 323إلى المادة 350 من ق.م و هي :
1)الكتابة: تعرض لها المشرع في المواد من 323الي 332 ق.م و أحكامها الإجرائية تناولها في المواد من 76إلى80و من 155إلى166 ق.إ.م .
و الكتابة تعتبر أهم طريقة في الإثبات المدني لأنها يمكن أن تعد وقت نشوء التصرف لاتقاء حدوث نزاع و لحله في حالة حدوثه. و تكمن أهميتها في كونها صالحة لإثبات جميع الوقائع سواء أكانت واقعة مادية أو تصرف قانوني (2).
1)- (د) محمد زهدور ، الموجز في الطرق المدنية للإثبات في التشريع الجزائري / ص22
2)- محاضرات الأستاذ الدكتور ملزي في مادة الإثبات في المواد المدنية ، طلبة القضاة السنة الثانية الدفعة 13 .
وقد تشترط من قبل المشرع لقيام التصرف بحيث لا ينتج هذا التصرف آثاره القانونية إلا إذا حررت أمام موظف رسمي و بذلك فهي تعتبر ركنا شكليا في التصرف، وقد تشترط لإثبات التصرف كما إذا كانت قيمة التصرف تزيد على 1000دج وغيابها هنا لا يؤثر على صحة التصرف لأنه يثبت بالإقرار و اليمين وعليه فالكتابة هنا للإثبات لا للانعقاد.
و الكتابة تكون بمحررات إما رسمية و إما عرفية، فالمحررات الرسمية هي التي تحرر بمعرفة شخص ذو صفة رسمية أو موظف من موظفي الدولة أو شخص مكلف بخدمة عامة،أما المحررات العرفية فهي التي تنشأ بين أفراد عاديين ليست لهم تلك الصفة.
2)- البينة: ( شهادة الشهود ) تناولها المشرع في المواد من 333إلي 337 ق.م وتناول قواعدها الإجرائية في المواد من 61الي 76 من ق.إ.م .
و البينة هي ذلك التصريح الذي يدلي به الشخص أمام القضاء بوقائع صادرة عن الغير و ترتب حقا للغير و البينة تخضع لتقدير قاضي الموضوع، فله أن يأخذ بها إذا اطمئن و له تركها جانبا إذا ما راوده شكا في صحتها كما له أن يرجح شهادة البعض على البعض الأخر.
و الإثبات بشهادة الشهود يكون أصلا في المواد التجارية و الوقائع المادية و التصرفات القانونية التي لا يجاوز 1000 دج و استثناءا في حالة وجود مبدأ الثبوت بالكتابة أو وجود مانع مادي أو أدبي للحصول علي دليل كتابي أو فقدان الدائن لسنده الكتابي لسبب أجنبي خارج عن إرادته.
3)- القرائن: تناولها في المواد 337 إلى 340 ق.م و هي ما يستنبطه المشرع أو القاضي من أمر معلوم الدلالة على أمر مجهول (1) و هي على قسمين:
أ)- القرائن القضائية: وهي التي يترك استنباطها و استنتاجها لقاضي الموضوع من ظروف الدعوى ووقائعها المطروحة أمامه.
ب)- القرائن القانونية: و هي التي يستدلها المشرع عن الحالات يغلب وقوعها فينص عليها في شكل قاعدة عامة و مجردة.
4)- الإقرار: و هو اعتراف الخصم بواقعة ترتب عليها حقا يستفيد منه خصمه، يعفي هذا الأخير من عبء الإثبات. و لذا فإن الإقرار اعتبر من طرق الإثبات جوازا.
و قد وردت أحكامه الموضوعية في القانون المدني في المادتين 341و 342 و تعرض قانون الإجراءات المدنية إلى الطريقة التي يمكن أن توصل إلى الإقرار و هي استجواب الخصوم شخصيا و إحضارهم أمام القاضي، فإن حضروا و استجوبوا جاز أن ينشأ عن هذا الاستجواب إقرار بالواقعة محل النزاع و لذا نظم قانون الإجراءات المدنية هذه الأحكام في المادتين 33و 43 منه (2)
1 )- الدكتور عبد المنعم فرج الصدة، الإثبات في المواد المدنية ن مطبعة مصطفي الحلبي 1955 ص 283 .
2)- الدكتور محمد زهدور . المرجع السابق .
5)- اليمين: يعتبر اليمين طريقا غير عادي للإثبات، فلا يلتجأ إليه إلا بعد انسداد الطرق الأخرى للإثبات و بذلك يحتكم الخصم الي ذمة خصمه ووجدانه و ضميره و ينقسم اليمين إلى قضائية و غير قضائية ، فالأولى هي التي توجه من خصم لأخر و تكون حاسمة، أو توجه إلي خصم من طرف القاضي و هي اليمين المتممة و تؤدى في كلتا الحالتين أمام القضاء أما الثانية فهي اليمين غير القضائية و التي تؤدى خارج ساحة القضاء.
و قد وردت أحكام اليمين الموضوعية في القانون المدني في المواد من 343الي المادة 350 و تعرض قانون الإجراءات المدنية إلي كيفية أدائها في المادتين 433 و 434 منه.
6)- المعاينة: و هي انتقال المحكمة إلي عين المكان لمعاينة محل النزاع بنفسها و استخلاص الدليل من مشاهدته و ذلك لغموض الدليل المقدم إليها أو نقصانه.
و انتقال المحكمة للمعاينة قد يكون بناءا على طلب الخصوم أو نتيجة قرار تلقائي من المحكمة و هذا ما أشارت إليه المادة56 من ق.إ.م.
7)- الخبرة: و هي عبارة عن معاينة يقوم بها أشخاص لهم إلمام بعلم أو فن لا يعلمه القاضي كالطب و الهندسة و تحقيق الخطوط و المحاسبة وغيرها من الأمور التي تستعصي على فهم القاضي و لهذا وجب على الخبير أن يبقي في دائرة هذه الفنيات و لا يتعداها إلى شيء خارج عن وظيفته و قد نظم ق.إ.م أعمال الخبرة في المواد من 47 إلي 57 (1).
وبهذا تظهر أهمية وسائل الإثبات المدنية في القضاء إذ هي بنفس أهمية مرفق القضاء ذاته فهي إحدى مراحله و على حد تعبير ابن فرحون " مقام عالي ومنصب نبوي .به الدماء تعصم و تسفح و الأبضاع تحرم و تنكر و الأموال يثبت ملكها و يسلب و المعاملات يعلم ما يجوز منها و يحرم و يكره و يندب " (2) .
و من خلال ذلك تبرز الأهمية التي يوليها المشرع لقضية الإثبات. فهي و لا شك المجال الذي يتفاضل فيه القضاة علي قدر تفهمهم لقواعد الإثبات و إدراكهم لمواقف الخصوم و حججهم ليكون حكمهم أقرب إلي الصواب.
2/ الإثبات في المواد الجنائية:
أعطى القانون للقاضي الجنائي كامل الحرية في تقدير الأدلة المقدمة إليه في الدعوى الجنائية و وزنها و ترجيح بعضها على الأخر و ذلك تطبيقا لمبدأ حرية الإثبات المقرر في المسائل الجنائية باستثناء بعض الحالات المحددة في الإثبات حصرا، إذن لا يتقيد الإثبات الجنائي بوجه عام بأدلة معينة فللقاضي أن يكون اقتناعه من أي دليل يقدم إليه و هذا بخلاف الحال في الإثبات المدني.
1)- د. محمود زهدور – المرجع السابق ، ص 100 – 101
2)- بكوش يحي ، أدلة الإثبات في القانون المدني الجزائري و الفقه الإسلامي – الشركة الوطنية للنشر و التوزيع ، الجزائر 1981 ، ص 15
و تكمن أهمية الإثبات الجنائي في كون هذا الأخير يتعلق بالجريمة نفسها و الجريمة في حد ذاتها تنتمي إلى الماضي و ليس في وسع المحكمة أن تعاينها بنفسها ، و تتعرف علي حقيقة ما و تستند في ذلك فيما تقضي به في شأنها ، و من ثمة يتعين عليها أن تستعين بوسائل تعيد أمامها رواية و تفصيل ما حدث ، وهذه الوسائل هي أدلة الإثبات .
ما يلاحظ أن المشرع ألزم القاضي الجنائي ألا يحكم بالإدانة إلا إذا استند إلى الجزم و اليقين.
و قد أورد المشرع طرق الإثبات في المسائل الجنائية في قانون الإجراءات الجزائية الصادرة بالأمر رقم 66/155 المعدل و المتمم و المؤرخ في 08 يونيو 1966 الكتاب الثاني الباب الأول، الفصل الأول، منه تحت عنوان؛ في طرق الإثبات في المواد من 212 إلي غاية 218 و الوسائل التي يستعملها القضاء الجنائي في مواد الإثبات حتى يتوصل إلي هدفه الأساسي لإظهار الحقيقة هي:
1)- الاعتراف:
تطرق له المشرع في المادة 213 ق.إ.ج و قد قيل في الاعتراف العديد من التعريفات تناولته من مختلف زواياه ، و من التعريفات التي قيلت فيه مايلي :
- فقد عرفه جانب من الفقه بالقول " الاعتراف هو قول صادر من المتهم يقر فيه بصحة ارتكابه للوقائع المكونة للجريمة بعضها أو كلها، و هو بذلك أقوى الأدلة "
- و عرفه قضاة المحكمة العليا بأنه " إقرار من المتهم بكل أو بعض الوقائع المنسوبة إليه و هو كغيره من أدلة الإثبات موكول لتقدير قضاة الموضوع وفقا لأحكام المادة 213 من ق.إ.ج (1).
يتضح من هذين التعريفين متجمعة أن الاعتراف عمل إداري ينسب به المتهم إلى نفسه ارتكاب وقائع معينة تتكون بها الجريمة.
و للاعتراف عنصرين أساسيين :
1- إقرار المتهم على نفسه.
2- الإقرار على الوقائع المكونة للجريمة كلها أو بعضها.(2)
2)- المحاضر:
فيرد بها المحررات التي يدونها الموظفون المختصون وفقا للشروط و الأشكال التي حددها القانون لإثبات ارتكاب الجرائم و الإجراءات التي اتخذت بشأنها.
1)- قرار صادر يوم 2/12/1980 من الغرفة الجنائية 2.مجموعة القرارات (ص 26)، منشور للمؤلف جيلا لي بغدادي، الاجتهاد القضائي .ص13.
2)- د/ مروك نصر الدين، محاضرات في الإثبات الجنائي 2. أدلة الإثبات الجنائي، الكتاب 1 الاعتراف و المحررات ط 2004 .
و تكون للمحاضر أو التقارير حجيتها ما لم يدحضها دليل عكسي بالكتابة أو شهادة الشهود، في هذه الحالة فإن إنكار المتهم للوقائع المبينة في المحضر أو تقديمه أدلة و قرائن لا تكفي لدحض مضمون المحضر، فينبغي على المتهم إنشاء ذلك بإثبات العكس عن طريق دليل كتابي أو بشهادتي الشهود(1) .
و من أمثلة المحاضر التي تعتبر حجة تقيد اقتناع القاضي إلى أن يقوم الدليل علي عكس ما ورد فيها ؛ المحاضر المحررة في المواد المخالفات (2) و المشرع الجزائري نظم المحاضر كدليل من أدلة الإثبات الجنائي في المواد منها 214 – 218 من ق إ ج.
المادة 214 : تتعلق بشروط صحة المحضر المقدم كدليل للإثبات .
المادة 215 : تتعلق بالمحاضر المثبتة للجنايات و الجنح و اعتبارها مجرد استدلالات.
المادة 216 : تتعلق ببعض المحاضر التي لها الحجية إلى أن يثبت ما يخالفها بدليل عكسي سواء كان كتابة أو شهادة شهود.
المادة 217 : تتعلق بقيمة الدليل الكتابي المستنبط من الممارسات المتبادلة بين المتهم و محاميه .
المادة 218 : تتعلق ببعض المحاضر التي لها حجية إلي أن يطعن فيها بالتزوير و المحاضر التي يتعامل معها القضاء الجزائي ليست نوعا واحدا، بل هي عدة أنواع كما أن من يحررها فئات مختلفة.
1)- محاضر يحررها ضباط الشرطة القضائية بمناسبة قيامهم بأعمالهم في جمع الاستدلالات و البحث و التحري عن الجرائم.
2)- محاضر يحررها وكيل الجمهورية بمناسبة قيامه بنظر جرائم التلبس و منها محضر سماع المتهم.
3)- محاضر أخرى يحررها وكيل الجمهورية.
4)- محاضر يحررها قاضي التحقيق بمناسبة قيامه بعمله في التحقيق القضائي الابتدائي.
5)- محاضر يحررها كتاب جلسات الحكم بمناسبة حضورهم لجلسات الحكم.
6)- محاضر التشريع الضريبي و التشريع المتعلق بمراقبة الأسعار و محاربة الغش، كما توجد في بعض القوانين كقانون الغابات و مواد الصيد، التشريع الجمركي و قانون البيئة.
3)- الشهادة:
تناولها المشرع في المادة 220 و ما بعدها من قانون الاجراءات الجزائية و للإثبات بالشهادة شأنه شأن الوسائل الأخرى يخضع لحرية تقدير القاضي و هذا ما تأكده المحكمة العليا «...... إن تقدير الدليل بما فيه شهادة الشهود المناقش أمام المجلس في معرض المرافعة حضوريا يدخل في إطار الاقتناع الخاص لقضاة الموضوع......».(3)
(1)- المحكمة العليا ، غ ج : 10/06/1969 نشرة القضاة 1969 / 04، ص 86 .
(2)- أنظر المادة 400 من ق إ ج.
(3)-المحكمة العليا-غ ج : 13/05/1986 رقم 304 غير منشور
و على هذا لم يعد هناك ما يمنع القاضي الجنائي بالأخذ بتصريحات تلقاها في معرض المرافعات على سبيل الاستدلال لاستبعاد الشهادة بمعناها الضيق أو ترجيح شهادة وحيدة على عدة شهادات بل إن المحكمة العليا سمحت للقاضي الجنائي الاعتداد بتصريحات الشركاء.(1)
و يقع على الشهود واجب التعاون مع القضاء فهناك التزام عام بموجبه يلتزم كل مواطن باتخاذ المبادرة في إعلان القضاء الجنائي بما وصل إلى علمه حول ارتكاب جريمة جنائية و تعتبر مشاركة الشهود ذات أهمية بالغة في ميدان الإثبات و كثيرا ما تكون الشهادة هي الدليل الوحيد أو على الأقل أهم دليل إثبات، و لا تنحصر مهمة الشهود بل تمتد طوال مدة الدعوى الجنائية سواء تعلق الأمر بالمرحلة الابتدائية أم النهائية.
بعد ذكر هذه الطرق ظهرت وسيلة إثبات جديدة و أحدثت ثورة في مجال الإثبات و أصبحت تستعمل كوسيلة من أدق وسائل الإثبات، فإذا كانت الوسائل التقليدية التي سبق ذكرها تحتمل الخطأ فإن هذه الوسيلة الحديثة تكون نتائجها قاطعة و دقيقة، ويكون اللجوء إليها في حالة عدم وجود بينة ظنية أو قرينة من الظن (2)وهي البصمة الوراثية و تعتبر شهادة بيولوجية في مجال البينة ، قال تعالى : " فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون " (3) .
و هذا النص واضح في حالة افتقاد البينة أن يجد المرء سبيلا إليها عند أهل الذكر و هم في هذا المجال علماء البيولوجيا المختصين بتحليل البصمة الوراثية و هم معينين من الجهة القضائية كما نصت عليه المادة 144/1 من ق إ ج، إذ جاء فيها: " يختار الخبراء من الجدول الذي تعده المجالس القضائية بعد استطلاع رأي النيابة العامة ".
إذ أن إجراء تحليل البصمة الوراثية لا يتم إلا بإذن من الجهة الرسمية المختصة و هذا ما أخذ به القانونين المصري و الفرنسي اللذان يران أنه يجب فحص الدم بأمر من القاضي و خاصة إذا تعلق الأمر بالنسب و النبوة، مع العلم أن التحاليل تتم في مختبرات تابعة للدولة (4)
ثانيا : ماهية البصمة الوراثية ؟
سنتطرق في هذا الفصل للبصمة الوراثية من حيث تعريفها و خصائصها و العوامل التي ساعدت علي ظهورها بالإضافة إلى أهميتها لكونها أصبحت تؤخذ كدليل اتهام في المحاكم و البصمة الوراثية للإنسان هي أصل كل العلامات الوراثية الموجودة في الجنين منذ بداية نشأته و تكوينه.
(1)- نظام الإثبات في المواد الجنائية في القانون الوضعي الجزائري الجزء الثاني، الأستاذ محمد مروان "د م ج " 1999 .
(2)- د/ مصدق من المقاصد الشرعية و القضايا البيولوجية، جامعة الزيتونة، المعهد الأعلى للأصول الدينية، ص 138.
(3)- سورة النحل، الآية 43 .
(4)- www.islamonline.net
و هي التي تحدد نوع فصيلة دم الجنين و نوع بروتينه و أنزيماته و شكل بصمات الأصابع و لون البشرة، كما أنها تتحكم في وظائف جميع الخلايا التي لا تحصى و متى حدث أي خلل في الحامض النووي ينعكس علي الإنسان في شكل مرض أو عاهة.
يمكن إجراء تجارب المقارنات الخاصة ببصمة الحامض النووي على تلوثات الدم السائل و الجاف و الحديث و القديم الذي مضى عليه أكثر من أربع سنوات و يمكن إجراء تجارب الحامض النووي على جميع السوائل و المواد البيولوجية كالشعر و الجلد و مختلف الأنسجة(1).
1)- الدراسة العلمية للبصمة الوراثية:
لقد تطورت وسائل الإثبات عبر العصور إلى أن توصل العلم إلى الإثبات بواسطة بصمة الإصبع في أواخر القرن التاسع عشر.
و تجدر الإشارة إلي أن الأستاذ العالم" بر كنجي" أستاذ التشريح و عالم وظائف الأعضاء بجامعة " بيرسلاو " ببولندا الذي لاحظ أن جلد الأصابع يحوي بروزات ذات أشكال معينة.
و في عام 1852 أثبت السيد " ويليام هرشل " إن الشكل الذي رسمته الطبيعة على جلد باطن الإصبع يدل على صاحب هذا الإصبع و يثبت فرديته، و في عام 1877 ابتدع الدكتور "هنري فولدز" طريقة وضع البصمة علي الورقة باستخدام حبر المطابع.
و في عام 1892 أثبت السيد" فرنسيس جلطون " أن صورة البصمة لأي إصبع تعيش مع صاحبها طول حياته فلا تتغير (2).
و قد استعملت البصمة الإصبعية رسميا لأول مرة في انجلترا سنة 1884 إذ أن بشرة الأصابع لدى الناس جميعا مغطاة بخطوط على ثلاثة أنواع: أقواس أو عروات أو دوامات بمعنى دوائر متحدة المركز و كذلك يوجد نوع رابع يشمل جميع الأشكال و يسمي؛ المركبات (3).
هذه الحقيقة جاء بها القرآن الكريم قبل اثني عشرة قرنا و نصف القرن مصداقا لقوله تعالى في سورة القيامة الآية من 1 إلي 4، قال تعالى:" لا أقسم بيوم القيامة، و لا أقسم بالنفس اللوامة أيحسب الإنسان أن لن نجمع عظامه، بلى قادرين علي أن نسوي بنانه."
فالله سبحانه و تعالى يبين للذين ينكرون البعث و اليوم الأخر بأنه قادر على جمع عظام الإنسان بعد أن تبلى و تصير تراب و تتفرق، بل أكثر من ذلك فإن الله قادر على إعادة خلق أصابع الإنسان و إرجاعها إلى ما كانت عليه في الدنيا.
(1)- د/ منصور عمر معايطة – الأدلة الجنائية و التحقيق الجنائي – المركز الوطني للطب الشرعي، عمان، ط 2000، ص79.
(2)- مجلة الشرطة، عدد 65 – أفريل 2002 /من موسوعة د. أحمد زكى : بصمات الأصابع بين الشرطة و العلم – البصمات مجلة الموثق عدد 07 لعام 1999 .
(3)- مقال للسيد: بن خليف مالك: جريدة أخر الساعة العدد 1226 ليوم 28/10/2004 تحت عنوان: اختلاف بصمات الإنسان
و السؤال هنا: لماذا اختار الله سبحانه و تعالى بنان الإنسان و لم يختر عضوا أخرا من أعضاء الجسم الكثيرة و المهمة ؟
الجواب على ذلك أن أعضاء الجسم كالعين و الأنف و الأذن و غيرها تتشابه بين إنسان و آخر و لكن الأصابع لها مميزات خاصة فهي لا تتشابه و لا تتقارب.
فالبنان هو نهاية الإصبع و قد ثبت أنه لا يمكن للبصمة أن تتطابق و تتماثل في شخصين في العالم، حتى في التوائم المتماثلة التي أصلها من بويضة واحدة، ويتم تكوين البنان في الجنين في الشهر الرابع و تظل البصمة ثابتة و متميزة له طيلة حياته و يمكن أن تتقارب بصمتان في الشكل تقاربا ملحوظا، و لكنهما لا تتطابقان أبدا، و لذلك فإن البصمة تعد دليل قاطعا و مميزا لشخصية الإنسان و معمول به في كل بلاد العالم و يعتمد عليه القائمون على تحديد القضايا الجنائية لكشف المجرمين ، و قد يكون هذا هو السر الذي خصص الله تبارك و تعالى من أجله البنان ، و في ذلك يقول العلماء: " لقد ذكر الله البنان ليلفتنا إلى عظمة قدرته حين أودع سرا عجيبا في أطراف الأصابع و هو ما نسميه بالبصمة (1) .
و على الرغم من ذلك بقي هناك في أمر هذه البصمة ريب أو شك و ظلت منتشرة بين الناس و رجال القضاء أن هذا الشك الذي أصبح حقيقة شبه أكيدة مع اكتشاف الجينات و الخريطة الوراثية و التي مهدت إلى اكتشافADN فما هو يا ترى الـADN ؟
أ)- مدلول البصمة الوراثية:
المعروف علميا أن بناء جسم الإنسان يبدأ باندماج خليتين متشابهتين في الصغر " نطفتين " إحداهما مذكرة " حيوان منوي" و الأخرى مؤنثة " بويضة " و ينتج عن اندماج هاتين النطفتين نطفة مختلطة (أنظر الشكل رقم 01) (نطفة أمشاج ) وهي عبارة عن بويضة ملقحة بالحيوان المنوي و تبدأ هذه النطفة المختلطة بالإنقسام فتكرر نفسها مرات عديدة من أجل بناء جسم الإنسان بكافة خلاياه المتعددة و أنسجته المتخصصة و أعضاءه المتوافقة التي تعمل مع بعضها البعض بانتظام دقيق و أول ما ينقسم من الخلية الحية (أنظرالشكل رقم 02) نواتها التي تحتوى على عدد من جسيمات متناهية في الدقة تعرف باسم الصبغيات ( كروموزوم) و هي تتكون من تجمعات للحمض النووي ADN في شكل ADN (2).
(1)- www.khayma.com
(2)- البصمة الوراثية و تحديد الهوية مجلة حماة الوطن، عدد 265، 204 الكويت، د/ نبيل سليم.
و يمثل الحمض النووي الدليل الوراثي الذي يسمح للكائنات الحية بنقل خاصيتها إلى خلفها و طبقا لما ذكره العالم البريطاني "كريك crick –chef" العالم الأمريكي" واتسون Watson " عام 1953 بأن جزيء ألـADN يتكون من شريطين ملفوفين على بعضهما البعض حول محور واحد على هيئة سلالم حلزونية، أي في شكل لولب مزدوج و كل شريط عبارة عن خيط من وحدات كيميائية فرعية تسمى النيوكلوتيدات التي تتكون من أربعة أصناف و تسمى بالقاعدة(1) التي تشمل حمض فسفوري و سكر هذه الأصناف هي: G.C.T.A و التي تعرف بضلوع التركيب التي ترتبط اثنين فيها مع بعضها البعض(2) بدقة تكاد تكون تامة ( الأدنين بالتيامين، و الجوانين بالبسيتوزين ) و تتوزع هذه الأصناف علي طول كل سلسلة.
و تتصل كل واحدة منها بأحد السكريات الخماسية منقوصة الأكسجين و ليتصل هذا الأخير بمركب فسفوري، وتوجد روابط هيدروجينية تربط القواعد النيتروجينية ببعضها و تعتبر هذه القواعد للعمود الفقري للحمض النووي(3) كما أن موقع و عدد و ترتيب هذه القواعد هي التي تشكل الصفات الوراثية و ما يسمى بالجينات الموجودة على كل كروموزوم ويتراوح عددها بين الألف إلي مليون جين، حيث تنقل جميع الصفات الوراثية في أي إنسان، وهناك جينات خاصة بتوريث فصائل الدم و لون الشعر و لون الجلد....... الخ.(4)
ونسمي هذا " البرنامج المشفر للحياة "، لأن ألـ ADN هو العنصر المكون للخصائص الوراثية للإنسان عندما يلتقي المنى مع البويضة فإن ألـADN لكل الأب و الأم يتحدان.(5)
و توضيحا لما سبق فإن ألـ ADNتشكل من خيطين لولبيين عبارة عن لفائف مزدوجة الجانب من ذلك الحمض على هيئة رقائق دقيقة تعرف باسم رقائق الحمض النووي الحلزونية مزدوجة الجانب.
و يبلغ سمك جدار هذه اللفائف واحد" Double Helix DNA Strands « من 50 مليون من المليمتر، كما يبلغ قطر هذا الحلزون 1 من 50 مليونا من المليمتر المكعب و يبلغ طوله حوالي مترين، و يبلغ حجمه وهو مكرس الجسيم الصبغي 1 من مليون مليمترا.
1))- مجلة الشرطة عدد65-02/02/2004.البصمة الجينية و دورها في الإثبات في المادة الجزائية الأستاذ د/ نويري ع. العزيز، رئيس مجلس القضاء سكيكدة سابقا.
(2)- كشفت لأول مرة عن الصورة المفصلة للـ ADN وفقا للمخطط الذي وصفه العالم جيمس واتسون و فرنسيس كريك الحاصلان على جائزة نوبل في الطب و الفيزيولوجيا لسنة 1962 في المجلة الطبية الصادرة بتاريخ 25/04/1953.
(3) – www.Islamonline.Net.
(4)-Gérard Lambert, la légende des gènes–anatomiques d’un mythe moderne, Edition DUNOD.P297.
(5)- Joanne Maceau : substitut du procureur général au bureau des affaires criminelles du ministère de la justice du Québec .la mise en œuvre de la banque d’empreintes génétiques .P 3/ 2004.
وعلى ذلك فإنه إذا تم تحديد الأشرطة من الحمض النووي الموجود في داخل خلايا جسم فرد واحد من البشر و من ثم رصها بجوار بعضها البعض فإنها تزيد على طول المسافة بين الأرض والشمس المقدرة ب 150مليون كلم، و يوجد بكل خلية من خلايا الإنسان جسيم صبغيchromosome » « موزعة على 23 زوج منها 22 زوجا جسديا مهمتها الانقسام لإنماء خلايا الجسد، وزوج من الصبغيات غير المتماثلة، ففي الذكر احداهما" x" و الأخرى "y" و هو الأصغر حجما، أما زوج صبغيات التناسل، في الأنثى فهما متشابهان (x, x ) (أنظر الشكل رقم 03) ويعتبر عدد الصبغيات في الخلية الحية أحد العوامل الرئيسية المحددة لكل نوع من أنواع الحياة.(1)
و ينقسم كل صبغي على طول بعدد العلامات المميزةMakers إلى وحدات طويلة في كل منها عدد من المورثات Gènes يقدر بحوالي المائة هذه المورثات في الفرد الواحد من البشر فلم يتحدد بدقة بعد ولكن الدارسين يضعونه بين 28 ألف و140 ألف في الخلية الواحدة ويختارون رقما وسطيا يقدر بحوالي 60 ألف تم التعرف على حوالي خمسة ألاف منها، وتمت دراسة حوالي 15000 فقط حتى الآن (2)
ب)- خصائص البصمة الوراثية: تتميز البصمة الوراثية بالعديد من الخصائص الثابتة منها:
1)- يمكن استخلاص هذه البصمة من أي مخلقات بشرية سائلة مثل الدم، اللعاب، المنى أو أي أنسجة مثل الجلد، العضم و الشعر.(3) و يمثل الشعر بأنواعه إحدى مصادر البصمة الوراثية باعتبار أن جسم الشعرة أو بصيلتها يحتويان على خلايا بشرية، وقد يتواجد الشعر نتيجة تشابك بين الجاني و المجني عليه في جرائم القتل، و قد يتخلف شعر العانة في حالات الاغتصاب، و عندئذ يمكن إجراء التحليل على العينة المرفوعة في مسرح الجريمة.
كما يعتبر اللعاب أحد مصادر البصمة الوراثية في الجسم البشري، رغم أن الأساسي في اللعاب عدم احتوائه على خلايا، إلا أن هناك نوع من الخلايا الموجود بالجدار الخلفي للفم يعلق اللعاب و على ذلك يمكن استخلاص اللعاب من بقايا اللفافة أو من طابع بريدي تم لصقه باستخدام اللعاب مثال: أدنت المحكمة البريطانية يوم 07/04/2000 سارق سطا على أحد المنازل بعدما توصلت إلى الكشف عن هويته عن طريق فحص بقايا لعابه التي تركها حية على حبة الطماطم.(4)
1)- P.C Winter, G.T Hickey et H.L Feltcher : (l’essentiel en génétique) .Edition : Berti, P08 (2000).
2)- مجلة حماة الوطن – المرجع السابق.www. Homat – El Watan. ORG
3)- د/ منصور عمر ، المرجع السابق ، ص 08.
4)- نويري عبد العزيز، المرجع السابق، مجلة الشرطة. ص 43.
2)- الحامض النووي يقاوم عوامل التحليل و التعفن لفترات طويلة، تصل إلى عدة أشهر(1) أي إن الأثر الأولي المتروك و الذي عن طريقه سيتم عمل البصمة الوراثية التي تحتفظ ببعض خصائصها لفترة من الزمن، حيث تقاوم عوامل الحرارة و الرطوبة، و المثال علي ذلك يمكن العلماء من استخلاص ألـ ADN من عينات قديمة تصل أعمارها إلى أكثر من ثلاثين سنة. كقضية الدكتور" سام شيرذ " حيث ارتكبت جريمة عام 1955 و لم تؤخذ عينة من ألـADN هذا الدكتور إلا سنة 1998 بعد وفاته بعدة أعوام، كما استطاع العلماء استخلاصها من المومياء الفرعونية.
3)-و كذلك يمكن استخلاصها من بقع دموية جافة أو تلوثات منوية أو الافرازات المهبلية و يمكن عزل ألـADN الناتج عن الذكر من الإفرازات المهبلية، مثل حالات أخذ عيينات بعد عملية اغتصاب (2).
4)- أصبح الآن معترفا بالبصمة الوراثية و أصبحت دليل نفي و إثبات و تم اعتمادها في مجمل مخابر الشرطة العلمية وفقا مناهج تحليل دقيقة.(3)
5)- يمكن استخلاص البصمة الوراثية من الحامض النووي من أي خلية في جسم الإنسان ماعدا خلايا الدم الحمراء التي لا يوجد بها حامض نووي.
6)- تظهر البصمة الوراثية على هيئة خطوط عريضة تسهل قراءتها و حفظها في الكمبيوتر لجني الحاجة إليها للمقارنة كما هو الحال في بصمات الأصابع(4). فإنه بالإمكان مقارنة فصائل ألـADN للعيينات المرفوعة من الحوادث بمجموعة كبيرة من المشتبه فيهم خلال دقائق، بل و يمكن مقارنة كل عينة بقاعدة بيانات المختبرات في دول أخرى مرتبطة معها بنظام الكمبيوتر و من خلال هذا يمكن مقارنة بصمات الأصابع مع نظام البصمات الوراثية و يمكن استخلاص النقاط التالية:
• بصمات الأصابع يمكن استخدامها في معظم أنواع الحوادث، إن البصمة الوراثية فهي مقتصرة على أنواع معينة من القضايا مثل القتل، السرقة و الاغتصاب.
نظام بصمات الأصابع تعتمد بدرجة أولي على مقارنات لأشكال فيزيائية، أما البصمات الوراثية فإنها تعتمد على حسابات إحصائية.
1)- د/ منصور عمر المعايطة، المرجع السابق، ص 80.
2)- D.J Werrett .l’identification par l’empreinte génétique R.I.P.C .sept. , oct. 1987 N° : 408, p : 21.
3)- Le professeur Ingar Kapp. Directeur du laboratoire national de police scientifique (SKL) (suède).
4)- د/ منصور عمر معايطة. المرجع السابق. ص 81 .
• المعلومات التي يمكن الاستفادة منها في فحوصات بصمات الأصابع تكون مقتصرة لإثبات وجود الجاني في مسرح الجريمة، أما نتائج تحليل ألـADN فيمكن الاستفادة منها بالإضافة إلي إثبات وجود الجاني في مسرح الجريمة معرفة الأمراض و الصفات العرقية و نسب المتهم.
ج-اكتشاف البصمة الوراثية:
خلال العشرين عاما الماضية، سبب التقدم العلمي الرائع في التكنولوجيا و معه التيارات العلمية الجديدة في ثورة مدهشة في البيولوجيا(1)، وهي ثورة اكتشاف المادة الوراثية ألـADN و ثورة اكتشاف أنزيمات التحديد التي تقوم بقص ألـADN في مواقع محددة و بدأت الثورة الأولى عندما اكتشف العلماء أن الحمض النووي ألـ ADN هو المادة الوراثية.
و أهم الاكتشافات العلمية التي كان لها الفضل في ظهور البصمة الوراثية سنة 1866 بدأ علم الوراثة من خلال التجربة التي أجراها الراهب النمساوي " جريجور يوهان مندل " Grégor Youhan Mendelعلى نبات البازلاء من خلال عملية التهجين، وتوصل إلى مجموعة من القوانين لتفسير وراثة الخصائص البيولوجية في الكائنات الحية، ولكن نتائج تجاربه لم تنشر.
1900 أعاد كل من " دي فريز و وليام وتسون " اكتشاف قوانين مندل ثم بينوا و بسرعة أن العوامل الوراثية سائدة و متنحية أي تحكم الوراثة في الكثير من الكائنات الأخرى، بالإضافة إلى اكتشاف فوارق الصفات في نبات واحد ( البازلاء )، ومن هذا ما توصل إليه مندل و تم نشرها في دورية تصدرها جمعية محلية في النمسا، و قد كانت جهود هؤلاء العلماء الخطوة الأولى التي بدأها علماء بيولوجيا في التطور المعاصر في علم الوراثة و التي حولت هذا العلم إلى علم تجريبي دقيق.
1903 افترض "سكون " أن الجينات تقع على الكرموزومات (2).
1910 أثبتت تجارب « توماس هنت مورغان " أن الجينات تقع على الكرموزومات و قد ترتبط مع بعضها في الانتقال الوراثي أو تنتسب إلى بعضها في التعبير الكيميائي، و كان "مورغان Morgan" هو الذي اعد أول خريطة للجينات موجودة علي كرموزومات حشرة فاكهة الدروسوفيلا، ومن خلال هذه الخريطة عرف أن عدد من الصفات المرتبطة بالجنس في حشرة الفاكهة، و أجرى التزاوجات لمعرفة ما إذا كانت هذه الصفات تورث في مجاميع.
و كانت النتيجة أن هذه الجينات تنتقل بالفعل معا – إنما ليس دائما – و تفسير هذه النتيجة هو أن تبادل المادة الوراثية لا بد أن يحدث بين فردي و زوج كر وموزومات.
1)- دنييل كيقلس و لوروي هود الشفرة الوراثية للإنسان – ترجمة د. أحمد مستجير.
2)- المجلس الوطني للثقافة و الفنون و الآداب- التكوين 1997.
1933 تم التوصل إلي أن الكروموزومات مقسمة في شكل سلسلة من الحلقات، ووجد أن هذه الحلقات تمنح لكل زوج من الكروموزومات نموذجا مميزا، وهذا النموذج لا يختلف من حشرة إلي أخرى.
1938 ظهور المصطلح العلمي " بيولوجيا الجزيئية (Molecular Biology) و هذه الجزيئات تتكون من أربعة أصناف هي: الدهون، جزيئات السكر، البروتينات، الأحماض
النووية( ADN , ARN ).
و من خلال هذه الخريطة أدرك علماء الوراثة و بسرعة أن حدوث الطفرة في أي حين يكون نادرا و عشوائيا، و الطفرة هي تغيير في المادة الوراثية، وتم التوصل إلى أسباب حدوثها في عام 1927م من طرف "موللر Moller" و هو تلميذ "مورغان Morgan" إن الأشعة السينية هي التي تسبب الطفرة في حشرة الفاكهة، و كذلك الأشعة فوق البنفسجية بالإضافة الى المواد الكيماوية المشكلة.
و كان العالم "ماكس Max" أحد مؤسسي علم البيولوجيا الجزيئية يعتبر الأحماض النووية جزيئات غبية بمعنى مواد ليس لها وظيفة مثيرة، جزيئات لا يمكن أن تصنع شيئا. (1)
1943 ظهور نظرية " جين لكل أنزيم " التي ربطت الكيمياء الحيوية و علم الوراثة وهي تعرف باسم نظرية "فعل الجين". وكان البيولوجيون يسلمون بأن الجينات لابد أن تكون مصنوعة من البروتينات.
1944 حدث تحول جذري في فهم طبيعة الجينات (2) حيث أثبتوا أن الجينات تتركب من الحمض الريبوزي ADN، ولكن في هذه الفترة لا تعرف نسبة ADN و هذا لا يعني أن العلماء توقفوا عند هذه النقطة بل عمل " سانجر " بجامعة كامبريدج على ما يقرب من عقد و قام باستخدام التقنيات الحديثة لسلسة الأحماض الأمينية لجزيء الأنسولين، و توصل إلى أن الجزيء مكون من سلسلتين ترتبطان بروابط متعارضة في مواقع معينة، و أن جزيئات الأنسولين متشابهة، كما تمكن من كسر هذه الجزيئات إلى شظايا و في الأخير قام بربط الشظايا معا عن طريق تراكباتها ليتوصل إلي تتابع السلسلتين و الجزيء بأكمله و في تلك السنة أكد كل من "هيرشي " و " كاسي" دور ألـ ADN كأساس المادة الوراثية.
1953 توصل كل من " واطسون " و " كريك " إلي التركيب الجزيئي الثلاثي الأبعاد للـ ADN لولب مزدوج – و كما تم التعرف علي بنية ألـ ADN التي سبق ذكرها .
1)- دانييل كيقلس وليروي هود: المرجع السابق، ص 65.
2)- نفس المرجع: ص 68.
1970 تمكن " وارنز أربير " و " دانيال ناثانس" و "هاملتون سميث" من اكتشاف أول إنزيم محدد (قص خاص) و كما يسمي بالقص الجيني أو الألة الجينية.
1971 تمكن " كوهين " بوير" من وضع أساليب أولية لإعادة إتحاد المادة الوراثية Recombinant ADN.
1985 تم اكتشاف البصمة الوراثية من طرف " أليك جيفيريس " الذي أوضح في بحثه أن المادة الوراثية قد تتكرر عدة مرات و تعيد نفسها في تتابعات عشوائية غير مفهومة. و توصل بعد عام إلى أن هذه التتابعات مميزة لكل فرد و لا يمكن أن تتشابه بين اثنين إلا في حالة التوائم المتماثلة فقط مما يجعل التشابه مستحيلا، و أطلق على التشابهات اسم " البصمة الوراثية للإنسان"، وعرفت على أنها وسيلة من وسائل التعرف على الشخص عن طريق مقارنة مقاطع ألـ ADN، وتسمى في بعض الأحيان الطبعة الوراثية.
و كان لهذا الاكتشاف أهمية قصوى في حل الكثير من المشاكل المتعلقة بالتعريف الجنائي و الأمراض الوراثية و علاجاتها.و أدرك علماء الطب الشرعي بسرعة أن ألـ ADN هو محقق الهوية الأخير فيه كل الخصائص الأساسية المطلوبة ، و الـADN موجود بكل خلايا الجسم فيما عدا كريات الدم الحمراء(1) .
كما أنه لا يتغير أثناء الحياة أي أنه ثابت لحد بعيد و الأرجح أن يحفظ في اللطخ الجافة و المنهج الأساسي المتبع لتحديد البصمة الوراثية بسيط للغاية و ثمة طرق تحليلية للبصمة الوراثية أشهرها التفاعلات المضاعفة بواسطة إيزيمات البوليميراز ، و اهتم بها الخبراء الجنائيون و اعتبروها الطريقة المثالية للعينات الجنائية، وذلك راجع إلى أنه يمكن بواسطتها تحليل كمية ضئيلة جدا من العينات تصل الي خلية واحدة و كذلك يمكن في بعض الأحيان تحليل العينات التالفة و استخراج ألـ ADN منها و هي طريقة لاستنساخ عدد كبير من نفس سلاسل ألـADN و هذه الطريقة تحدد الاختلافات التي يمكن تمييزها بين الأشخاص الناتجة عن اختلاف في ترتيب القواعد النيتروجينية و ليس الاختلاف في الأطوال و توزيع القاعدة الأساسية لحمض ألـADN و أخيرا طريقة تحديد نظام الحمض النووي من الصبغيات.(2)
و أهم الخطوات العلمية لإجراء تقنية البصمة الوراثية:
- يستخلص الـADN أولا من إحدى عينات الدليل قد يكون نسيج الجسم أو سوائله من دم المتهم.
1)- نفس المرجع السابق. ص 212.
2)- د. مصدق حسين . المرجع السابق . ص 124
- يقطع الـADN في كل من العينتين الى ملايين الشظايا باستخدام إنزيم معين يمكنه قطع شريطي ألـ ADN طوليا، فيفصل قواعد الأدنين و الجوانين في ناحية، و التيامين و السيتوزين في ناحية أخرى. (أنظر الشكل رقم 04)
و يسمى هذا الأنزيم بالآلة الجينية أو المقص الجيني.
- تترتب هذه الشظايا بعد ذلك عن طريق التفريغ الكهربائي بالجال gel إذ تحمل كل عينة علي رأس حارة خاصة بالجال، و يعرض المجال الكهربائي على طول هذا الجيل، فتتحرك شظايا الـADN بسرعة تختلف حسب حجمها، فالأصغر تتحرك بشكل أسرع من الشظايا الأكبر.
- تفصل الشظايا في كل حارة حسب الحجم ثم تنقل فوق قطعة من الورق الخاص تسمى الغشاء و تصبح بعد ذلك جاهزة للتحليل.
- يغمر الغشاء بمسبر مشع، ثم يعرض الغشاء لفيلم الأشعة السينية طوال الليل فتظهر البصمة الخاصة بالشخص على شكل خطوط عريضة داكنة اللون و متوازية و تقارن هذه الصورة بنظيرتها التي تم تجهيزها لكريات الدم البيضاء المأخوذة من دم المتهم. فإذا توافقت الصورة كان المصدر واحدا، و إذا لم تتوافق النماذج عند كل موقع فإنها تكون مأخوذة من مصادر مختلفة.(1)
الآن أصبح بين أيدينا نظام فعال لتحديد بصمات الـADN، و يرى علماء الطب الشرعي أن البصمة الوراثية كافية لتوفير قدر كبير من المعلومات عن الهوية إن هذه العملية الموجزة لتقنية البصمة الوراثية التي تشهد على تكنولوجيا جديدة في طرق القضاء و نظم الإثبات و تحليل متطور للإرث البيولوجي للأشخاص و من هنا تبرز أهمية البصمة الوراثية (2) كعلم في دهاليز المحاكم حيث كان استخدام اختبار البصمة الوراثية في مجال الطب و فصل في دراسة الأمراض الجينية أي علاج الأمراض الوراثية بالجينيات و كذلك زرع الأنسجة و غيرها.
و إثر دراسة الخصائص الجينية للأشخاص و إجراء التحاليل للبصمة الوراثية تمكن الطب الشرعي من التعرف على الجثث المشوهة و تتبع الأطفال المفقودين. و لذا سارعت أغلب المحاكم الأمريكية و الأوروبية عام 1985 الى قبول هذه التقنية الجديدة التي تعنى بالمعايير الصارمة للإثبات في القضايا الجنائية.و في عام 1988 أدخلت بصمة الـADN لأول مرة في المحاكم الأمريكية لتستخدم كدليل في قضية فلوريدا ضد تومي لي أندروز و في يناير 1989 بدأت وكالة الاستخبارات الأمريكية CIA.
www.Islam online.net (1)-
(2)- دانييل كيقلس و ليروي هود: المرجع السابق، ص125.
بعد دراسة متأنية للتنكولوجيا، في معالمها الخاصة في دراسة تقصي السيرة في مؤسسات الطب الشرعي للولايات المتحدة و منذ ذلك التاريخ استخدمت بصمة الـADN في أكثر من مئة قضية في الولايات المتحدة و كذلك أدخلت هذه التقنية في محاكم بريطانية التي أخرجت ملفات الجرائم التي قيدت ضد مجهول فتحت التحقيقات من جديد وبرأت البصمة الوراثية مئات الأشخاص من جرائم القتل و الاغتصاب و أدانت آخرين و كانت لها الكلمة الفاصلة في قضايا الأنساب و استعملت كذلك في إثبات هوية الفرد في إنجلترا (1)، و لهذا أسست بعض الشركات الخاصة بعمليات تحديد بصمة DNA لتعيين هوية المتهمين، لعل أهمها " شركة سيلمارك دياجنوستيكس " في ماريلاند، و "لا يفكودز كوربوريشن " في نيويورك، و إثر ذلك تم إنشاء بنوك خاصة يجمع معلومات عن البصمة الوراثية مثل بنك المعلومات الذي أسس بإنجلترا حيث جمعت فيه البصمة الوراثية في جميع الجرائم ووصل عددها إلى 2 مليون.(2)
و تعتبر البصمة الوراثية تقنية هائلة قدمتها البيولوجيا الجزيئية إلى نظام القضاء الجنائي و يمكن القول إنه أعظم إنجاز في القرن العشرين بعد مرور 50 عاما على اكتشافه، و لهذا لا يجوز أن نتوقف عن استخدام البصمة الوراثية الآن فقد يؤدي الانتظار إلى إدانة بعض الأبرياء و تبرئة بعض المذنبين،
إذ أن البصمة الوراثية هي الخدمة التي ستسهل عملية تعقب المجرمين كما ستساهم أيضا في حماية الأبرياء(3).و هذا ما جعل البصمة الوراثية قاعدة معترفا بها في غالبية محاكم العلم مثل:أوروبا، أمريكا ، أستراليا .و هذا راجع لأهميتها في الإثبات .
د/ الخطوات العلمية لإجراء تقنية البصمة الوراثية :
اكتشف العلماء طريقة اقتصادية جد دقيقة و سريعة تعتمد على طريقة « l’amplification exponentielle. » تسمى " (RPC) Polymérisation en chaîne " " التفاعل البنائي المتسلسل" هذه الطريقة تم اكتشافها و استعمالها في مخابر الطب الشرعي و استمر الباحثون في البحث عن طرق جديد ة و لا شك أن هذا المجال سوف يتطور(4) .
و بالفعل تمكن الدكتور " أليك جيفريز Alec Jeffreys" من وضع تقنية جديدة للحصول على البصمة الوراثية و التي تتلخص في عدة نقاط هي :
1)- Empreinte génétique « Encyclopédie Encarta 99.
2)- Raphaël Coquoz : la génétique au service de la justice. Collection Scientifique forensiques .2003.
3)- www.Islamonline.net
4)- Joanne Marceau. O .p.cit, P 04
1/ تستخرج عينة ألـ ADN من نسيج الجسم أو سوائله مثل : الدم أو الشعر أو الريق(1) (أنظر الشكل رقم 08).
2/ تقطع العينة بواسطة أنزيم معين يمكنه قطع شريطي الـ ADN طوليا فتصل قواعد الأدنين (A) والجوانين (G) في ناحية والتيامين (T) و السيتوزين (C) في ناحية أخرى و يسمى هذا الأنزيم بالآلة الجينية أو القص الجيني (أنظر الشكل رقم 07)
3/ ترتب هذه المقاطع باستخدام طريقة تسمى: التفريغ الكهربائي و تتكون بذلك حارات طولية من الجزء المنفصل عن الشريط، يتوقف طولها على عدة ميكروات.
4/ تعرض المقاطع إلى فيلم الأشعة السينية X أي فيلم وتطبع عليه فتظهر على شكل خطوط داكنة اللون و متوازية، ورغم أ ن جزيء ألـADN صغير إلى درجة فائقة حتى أنه لو جمع كل ADNالتي تحتوي عليها أجساد سكان الأرض لما زاد وزنه عن 36 ملغ فإن البصمة الوراثية تعتبر كبيرة نسبيا وواضحة (أنظر الشكل رقم 05).
ولم تتوقف أبحاث د. "أليك" على هذه التقنية، بل قام بدراسة على إحدى العائلات اختبر فيها توريث هذه البصمة و تبين له أن الأبناء يحملون خطوطا يجيء نصف من الأم و النصف الآخر من الأب، وهي مع بساطتها تختلف من شخص لآخر(2).
* كل ما هو مطلوب لتعيين بصمة الجينات هو عينة صغيرة من الأنسجة التي يمكن استخلاص الحمض النووي الريبوزي المختزل ADN منها فعلى سبيل المثال:
* عينة من الدم في حالة إثبات بنوة (3).
* عينة من الحيوان المنوي في حالة اغتصاب.
* قطعة جلد من تحت الأظافر أو شعيرات من الجسم بجذورها في حالة وفاة بعد مقاومة المعتدي.
* دم أو سائل منوي مجمد أو جاف موجود على مسرح الجريمة.
* عينة من اللعاب.
ولو كانت العينة أصغر من المطلوب فإنها تدخل إختبار آخر وهو تفاعل أنزيم البوليميرPCR والذي نستطيع من خلال تطبيقه مضاعفة كمية الـ ADN في أي عينة، (أنظر الشكل رقم 06) ومما وصلت إليه هذه الأبحاث المتميزة أن البصمة الوراثية لا تغير من مكان إلى آخر في جسم الإنسان فهي ثابتة بغض النظر عن نوع النسيج ، فالبصمة الوراثية التي في العين نجد مثيلاتها في الكبد و القلب و الشعر، و من ثمة يمكن تحديد هوية الشخص بواسطة الـ ADN فمثلا في القضايا الجنائية تؤخذ عينة من مسرح الجريمة و تقارن بعينة من المشتبه فيه للتأكد من التطابق أو عدم ذلك.
1)- ماعدا في الكريات الحمراء.
2)- المنتديات الطبية و الاجتماعية" تعرف على بصمتك" www.shamela.net
3)-مجالات الهندسة الوراثية www.islamonline.net
أما في حالة التأكد من وجود صلة بين الأب و إبنه (النسب) تؤخذ العينات من الأب المفترض و الطفل و يمكن أن تؤخذ عينة من الأم و في حالة وفاة الأب يمكن أخذ عينات من قريب للأب للتأكد من ذلك.
كم تستغرق عملية الفحص؟
يمكن إجراء هذه العملية في ظرف أسبوعين إذا كانت العينات موجودة.
وعملية الفحص و إجراءات التحاليل، تكون على عاتق المعنيين بالبحث، وقد يتحصل المعنيين على المساعدة القضائية.
2/ أهمية البصمة الوراثية:
تساهم البيولوجيا المعاصرة من خلال ألـ:ADNفي موضوع الإثبات في الدعاوى المدنية ووقائع القضاء الجنائي حيث تقدم مبادرة راسخة في الكشف عن الجناة و المجرمين و تحديد الجين الحقيقي في قضايا الاغتصاب و السرقة و المنازعات المتعلقة بدعاوى النسب وهي تقنية ذات قوة تدليلية في إثبات النسب(1).
و نظرا للنجاح الذي وصلته البصمة الوراثية الذي يقدر بـ:100% شجعت الدول المتقدمة على استخدامها كدليل جنائي و حفظت هذه البصمة مع بصمة الإصبع لدى الهيئات القانونية و قد تم الحسم في الكثير من القضايا بناء على استخدام البصمة الوراثية كدليل جنائي و مدني.
أ/ أهميتها في المادة الجنائية :
لقد ساهمت البصمة الوراثية في تنوير العدالة بكثير من الحقائق كما كان لها الفضل في التعرف على المجرمين و يتضح ذلك فيما يلي :
- معرفة هوية الجاني : يتم عن طريق تحديد البصمة الوراثية للبقع الدموية الموجودة في مسرح الجريمة أو الموجودة على لباس المتهم أو المجني عليه و بعد ذلك يتم مقارنة الفصائل الدموية ، للبصمة الوراثية لهذه البقع مع فصائل دم متشابهة بهم و البصمة الوراثية لهم (2) .
- التعرف على هوية المجرمين في الجرائم الجنسية:و يتم ذلك بواسطة البصمة الوراثية للسائل المنوي الذي يرفع عن ملابس المجني عليه أو الأماكن الحساسة للمجني عليها أو المجني عليه و مقارنتها بالبصمة الوراثية للمتهم.و كذلك في قضايا الزنا يمكن إثبات زنا الزوجة بالتأكد أن العينة المأخوذة منها للفاعل تخالف عينة الزوج.
و على سبيل المثال: في أمريكا عام 1988 تم الحكم على « RANDEL GONEZ » بعقوبة الموت لاتهامه باغتصاب وقتل امرأة من ولاية. Florida
(1)- د. منصور عمر المعايطة، مرجع سابق، ص47.
(2)- د. رمسيس يهنام: البوليس العلمي، أو فن التحقيق، طبعة 1996، ص151.
و يمكن أن يؤدي استخدام البصمة الوراثية إلى البراءة. ففي إحدى قضايا الإغتصاب تعرفت المجنى عليها على المتهم من وسط طابور العرض وتصادف أن اتفقت فصيلة دم هذا المتهم مع فصيلة دم الجاني التي حددتها العينة المأخوذة من المجني عليها، إلا أن تحليل البصمة الوراثية لتلك العينة نفى أن يكون المشتبه فيه مرتكب الجريمة(1).
وهذه الأمثلة تؤكد أن في قضايا الاغتصاب أو هتك العرض يمكن بفحص البصمة الوراثية المستمدة من مني المتهم العالق بالمجني عليه، و البصمة الخاصة للمشتبه فيه، إثبات أنهما لشخص واحد هو الذي ارتكب الجريمة.
- التعرف على المجرمين في كثير من الجرائم:
وذلك عن طريق الربط بين المتهم و آثار البقع و التلوثات اللعابية الموجودة في مسرح الحادث، يتم الربط إما عن طريق تحديد فصيلة الدم من خلال اللعاب إذا كان من الأشخاص المفرزين أو عن طريق تحديد الحامض النووي.
و مثال ذلك:
أمكن إثبات الجريمة على شخص من " برمنجهام " حاول أن يحصل على نقود بوسائل التهديد و ذلك بالحصول على عينات من اللعاب في أجزاء الأغلفة التي أرسلت خطابات التهديد فيها وتبين للكيميائي الشرعي أن لعاب المشتبه في أمره و دمه ينتميان إلى اللعاب الذي وجد على الاغلفة فقدم هذا الأخير إلى محكمة جنايات " برمنجهام ".
فاللعاب يترك آثاره في أعقاب لفائف التبغ و الأكواب و أدوات تنظيف الأسنان و يمكن منه تحديد نوع الدم و نسبة الكحول و قد يوجد في مسرح الجريمة على صورة بصاق.
وكما يمكن استخدام بصمات فتحات مسام العرق وسيلة استدلال باعتبارها من الدلائل(1) و العرق يختلف من شخص لآخر من درجة الحساسية للمضادات الحيوية وكذلك سلوكها المنفرد تجاه التحاليل الكيميائية، وقد أثبت الفحص لآثار العرق علاقة بين المتهم و آثار العرق الموجود على بعض المضبوطات في مسرح الجريمة مثل: أغطية الرأس و الملابس الداخلية وقد يوجد العرق في ما ترك الجاني من منديل يد أو رباط و عن طريقه يمكن تعقب صاحبه(2).
1)- د/ عبد الفتاح مراد : التحقيق الجنائي الفني و البحث الجنائي ، ط الثانية ، ص207
2)- د. رمسيس بينهام: المرجع السابق، ص146.
4- إثبات درجة القرابة في الأسرة:
تستعمل البصمة الوراثية للإثبات و النفي في حالات ادعاء القرابة بغرض الإرث بعد وفاة شخص معين*، وكذلك تطبق هذه البصمة الوراثية في معرفة درجة القرابة بين المهاجرين حيث يدعي بعض الأشخاص ممن يحملون جنسيات أوربية أو أمريكية**، عند دخول تلك البلاد أو الحصول على إقامة قانونية لذلك فقد لجأت السلطات في تلك البلاد إلى إجراء فحص البصمة الوراثية على هؤلاء الأشخاص لمعرفة الحقيقة، حيث أن هذا البحث يسفر عن بيان صفات وراثية مشتركة بين الأقارب(1).
قد يوجد البصاق في ملابس المجني عليه، و بتحليله قد يوجد به أجسام غريبة تكشف عن حرفة الجاني كآثار الفحم و الدخان و الجير و الخشب و غير ذلك من مواد تطلق غبار عند العمل فيها.
إن طريقة فحص البصمة الوراثية المطبقة بكيفية تقنية دقيقة تقدم فوائد أحسن للقضاء الجنائي بالمقارنة مع طرق التحقق التقليدية الخاصة بالطب الشرعي مثل طريق الفحص الدموي للبحث عن الزمرة الدموية .
ب-أهميتها في المادة المدنية :
الإثبات له أهمية بالغة في المجال المدني و خصوصا في إثبات البنوة، و نركز اهتمامنا على هذا الأخير لأنه حق الطفل في النسب بأن يكون له أب و أم معروفان و من أهم حقوقه في الشريعة الإسلامية التي يثبت فيها نسب الطفل بثلاث طرق ؛ الفراش، الإقرار و البينة وهي في مجموعها تظهر حرص الشريعة الإسلامية على أن يثبت نسب الطفل بأسهل الطرق،والطريق المألوف لثبوت النسب هو الفراش لقول رسول الله صلى الله عليه و سلم: (الولد للفراش و للعاهر الحجر) فالولد يصير ابنا للرجل و المرأة إن ولد على فراشهما مع أنه من حق الرجل نفي نسب الطفل المولود على فراشه مع العلم أن هناك ثلاثة أنواع للفراش المثبت للنسب هي:
(1)- نويري عبد العزيز: المرجع السابق، ص44.
* * برز دور الجينيات من خلال إثبات ادعاء طفل من غينيا أنه بريطاني الجنسية و هو يمكن القول أن جينات تلعب دورا هاما في حل مشاكل الهجرة.
* حدث في فرنسا سنة1999 بالنسبة للفتاة التي زعمت أنها إبنة الممثل الراحل « Mohtand yves » ولقد أعطى مجلس الدولة الفرنسي بصفته اعلى هيئة قضائية إدارية هناك موافقته يوم 14 مارس 2000 على مرسوم يخول لكل من وزارتي العدل و الداخلية إحداث بطاقة وطنية للبصمات الجينية الخاصة بالأشخاص المدانين في جرائم أخلاقية.
- فراش بعقد صحيح: هذا النوع يثبت بمجرد وجود عقد نكاح استوفى كل أركانه وشروط انعقاده الشرعية، لكن مع توفر شرط إمكان الدخول بالزوجة. كما هو معروف عند جمهور الفقهاء (المالكية، الشافعية، الحنابلة).
- فراش بعقد فاسد: إن عقد الزواج إذا فقد شرطا من شروط الصحة يكون فاسدا وأنه لا يترتب عليه أثر من آثار الزواج إلا بالدخول الحقيقي.
- الفراش بشبهة*: وهي كل ما لم يتيقن من كونه حراما أو حلالا، وقد تكون نتيجة في الفعل أو عدم المعرفة كحديث عهد بالإسلام، وأيضا تتوفر تلك الشبهة في كل نكاح اختلف في صحته ووقع الدخول فيه لوجود دليل معارض للتحريم الذي وإن كان ضعيفا ولم يوجب إلا أنه وجد شبهة في الدخول، وهذه هي الطريقة الأولى لإثبات النسب و هي الفراش، وهذه الأخيرة تترتب عليها آثار شرعية تستوجب الحديث عن الحمل و الولادة كانت خلاف بين الفقهاء، فهناك من حدد مدة الحمل بأربع سنين أو خمس سنين، وعند الحنفية تكون مدة الحمل بسنتين.
و من الناحية العلمية تكون مدة الحمل تسعة أشهر، ومن الممكن أن تقل عن ذلك إلى حدود الستة أشهر.
و بالإضافة إلى طريقة الفراش هناك طريقة أخرى هي الإقرار أو الاعتراف ونعني به الاعتراف بشيء وتثبيته والأصل في الإقرار لحقوق العباد و الوجوب من ذلك الإقرار بالنسب الثابت لكي لا تضيع الأنساب(1)، لقول الرسول عليه الصلاة والسلام: (أيما رجل جحد ولده وهو ينظر إليه احتجب الله عنه وفضحه على رؤوس الأولين و الآخرين) و الاعتراف تثبيت مشروعيته بالكتاب و السنة و الإجماع وكذلك أثبتت مشروعيته في القانون.
كما اشترط الفقهاء لحجية الإقرار بالنسب ضمانا لصدقه أن يكون الإقرار لذات المقر(2) واشترطوا أيضا أن يكون المقربه مجهول النسب وأن لا ينازعه فيه منازع كما أن الاعتراف قد يكون من المرأة ولقبول اعتراف المرأة بالبنوة لابد أن تكون لديها بينة على قولها، لأنها تلد و يمكنها الاشهاد على الولادة بخلاف الرجل الذي يعجز عن إثبات الوطء فيقبل ادعاؤه بالبنوة بدون شهادة فإن هذا القول فيه تضييق على المرأة وتضييق لحق الصغير.
من خلال هذا يتضح أنه توجد طريقة لإثبات البنوة و هي البينة التي يقيمها المدعي على دعواه وهذه البينة هي شهادة رجلين وامرأتين مع العلم أن البينة تكمل الاعتراف وهذا ما اشترطه أهل العلم لصحة الاعتراف بالبنوة ونجد بعض الفقهاء يرون أن البينة كافية لإثبات البنوة دون الحاجة إلى الاعتراف.
* الفراش بشبهة؛ أي حمل الزوجة بوطء الشبهة.
(1)-د. مصدق محسن: المرجع السابق ، ص130.
(2)- مدى حجية استخدام البصمة الوراثية.www.islam online.net
وتوجد طريقة أخرى لإثبات البنوة ولعبت دورا هاما في عصرها، إذا اعتبرت كوسيلة في إثبات البنوة وهي القيافة وكانت مبعث الرسول عليه الصلاة والسلام ومصدر بهجته، والقيافة هي تتبع الأثر كما أنها حجة مبينة على قول رجل خبير وفطن وذكي وأفضل ما يقال فيها أنها ظنية أو قريبة من الظن.
وهذه هي الطرق المعروفة لدى الفقهاء و التي استعملت لإثبات البنوة، والتساؤل المطروح: هل تنحصر طرق إثبات البنوة في ما سبق ذكره و لا توجد طريقة أخرى؟
لقد من الله سبحانه وتعالى على البشرية بنور العلم وتعرفوا على البصمة الوراثية فلا يصح اعتماد أي دليل أو مرجح يقوم على الظن مع وجود ما هو أرجح منه و الذي أثبته علم الوراثة: أو على الأقل الظن الأقوى والأرجح، ودليل البصمة الوراثية دليل مادي يعتمد العلم والحس، ويقوم على التسجيل الذي لا يقبل العودة والإنكار بخلاف غيرها الذي يقبل العود والإنكار و بالرجوع إلى قول ابن القيم عن حكم العمل بالقرائن القوية في الحدود في كتابه ( الطرق الحكمية) " لم يزل الأئمة والخلفاء يحكمون بالقطع إذا وجد المال المسروق مع المتهم وهذه القرينة أقوى من البينة والإقرار لأنهما خبران يتطرق إليهما الصدق والكذب ووجود المال معه نص صريح لا يتطرق إليه شبهة". المتأمل في ذلك يلحظ مدى حاجة الناس في زمن ابن القيم لأدلة مادية تعتمد الحس، وكما أن البصمة الوراثية ثابتة يمكن بها التعرف على الأشخاص مثل بصمات الأصابع.
وهذا يبين دورها في الإثبات المدني بالخصوص في إثبات البنوة لأن الشخص يستمد تركيبه الوراثي من أبويه مناصفة بينهما كما أن أبويه مصدر وراثي لأخوته، ويمكن باستخلاص البصمة الوراثية في إثبات نسب الطفل إلى كلا أبويه أو أحدهما وبالتالي يتوقف على ذلك قبول أو رفض دعاوىالبنوة (1)
البصمة الوراثية بعكس فصائل الدم و الطرق الأخرى التي تعتبر وسيلة نفي علاقة البنوة بين الأب و الإبن، فالبصمة الوراثية تستعمل كقرينة نفي وإثبات لتلك العلاقة بمعدل 100% وقد قبلت بذلك المحاكم في أوربا و الولايات المتحدة الأمريكة.
كما أبدى الفقهاء المعاصرين رغبتهم في الاعتماد على البصمة الوراثية في الإثبات أكثر من اعتمادهم على شهادة الشهود باعتبار أقوالهم أخبار ظن تحتمل الكذب، أما قرينة البصمة الوراثية قرينة يقينية وقطعية، وهذه الأخيرة اعتبرها القانون أولى القرائن العلمية المستحدثة ولها قيمة برهانية في الإثبات.
والذي نخلص إليه: أن اعتبار البصمة الوراثية تندرج في البينة الشرعية وهي الأجدر في منازعات النسب لقطيعتها وقوتها الثبوتية. إلا أن اعتبار بصمة الـADN قدم صدق في اثبات دعاوى النسب قد يبدو في بعض الأحيان مناقضا لأحكام الشرعية كقضايا اللعان(2).
(1)- د. رمسيس بيهنام، المرجع السابق، ص 152.
(2)- د. مصدق حسن: المرجع السابق، ص138.
العمل بالبصمة الوراثية لا يلغى اللعان مطلقا في حال الاتهام بالزنا أما اللعان من أجل نفي الولد فهو ممنوع شرعا إلا إذا وجد دليل، أي زنا الزوج لا يتوجه إلى اللعان في حال وجود دليل. ثم لماذا التساهل في إقامة اللعان مع أن أيمان مغلضة خوفا من تنفيذ حد القذف على الزوج في حال ثبوت كذبه بالبصمة لأن هذه الأخيرة من الناحية العلمية لا تكاد تخطئ في التحقق من علاقة البنوة(1).
ويمكن القول إن ظهور البصمة الوراثية كآية من آيات الله عز وجل في الإنسان التي تحقق إنقاذ المتشردين من أطفال مسلمين وتقليل ظاهرة إلقاء المولودين على أعتاب المساجد أو بجوار صناديق القمامة.
- تحميل المتسبب مسؤولية التربية والانفاق إعمالا للقاعدة * الغرم بالغنم *.
- تقليل من ظاهرة تزوير الأنساب عندما تستغل المرأة غفلة زوجها فتلحق به من ليس منه.
- حتى تكون نتائج البصمة الوراثية دقيقة وخصوصا في إثبات البنوة يجب إتباع إجراءات التحليل التالية:
- أن لا يتم إجراء التحليل إلا بإذن الجهة الرسمية كما نص القانون الفرنسي .
- أن يجري التحليل في مختبرين على الأقل ، كما هو في الشهادة المبنية في الشريعة الإسلامية ومعترف بهما على أن تأخذ الإحتياطات اللازمة لضمان عدم معرفة آخر المختبرات التي تقوم بإجراء الإختبار بنتيجة المختبر الآخر.
- يشترط أن يكون القائمون على العمل في المختبرات المنوطة باجراء تحاليل البصمة الوراثية ممن يوثق بهم علما وخلقا وأن لا يكون أي منهم ذا صلة قرابة أو صداقة أو عداوة أو منفعة بأحد المتداعين أو حكم عليه حكم مخل بالشرف أو الأمانة وهذا الشرط نجده في الخبير وقد نصت عليه المادة 143-156 من قانون الإجراءات الجزائية الجزائري.
- ونظرا للدور الذي تلعبه البصمة الوراثية في إثبات البنوة، فهناك صعوبات تواجهها و تعرقلها عن العمل بالبصمة الوراثية، وهذه العقبات يحتج بها الخصم ويحاول الافلات بها من الخضوع لفحص الدم(تحليل البصمة الوراثية)، فقد يتمسك الخصم بأن الأخذ بفحص الدم كدليل في إثبات البنوة أمر يتعارض مع اللعان أو يزعم أن يتنافى مع الشريعة الإسلامية، وكذلك قد يتمسك الخصم بأن الخضوع لهذا الاختبار يتعارض مع قاعدة عدم جواز إجباره على تقديم دليل ضد نفسه، بل قد يحتمي بمبدأ معصومية الجسد تهربا من الكشف عن الحقيقة. الواقع أنه بقدر إمكانية التغلب على هذه الصعوبات بقدر ما يمهد الطريق أمام القضاء لأنه يحقق للإسلام تشوقه في حفظ الأنساب.
(1)- www.Islam online.net
فلا يختلط ولا يضيع الولد و الشرف كما يجنب ساحة القضاء منازعات الابتزاز والتشهير الدنيئة (1) ونحاول أن نتناول هذه الصعوبات كما يلي:
أ- مدى اتفاق الاعتداد بفحص الدم مع التمسك باللعان:
أمام الفحص الحديث للدم (البصمة الوراثية) الذي يقدم لنا دليلا على التحقق من ثبوت النسب قد يلجأ الزوج الذي يريد التهرب من ثبوت نسب الطفل منه إلى طلب إجراء اللعان وبإجرائه ينتفي النسب عنه ويلحق الطفل بالأم ويكون هذا كأثر مترتب عن اللعان أمر يقوم على الظن والتخمين لا على اليقين وهذا ما يجعل للبصمة الوراثية دورا في تدعيم وتقوية قاعدة الولد للفراش.
وهذا ما ننشغل به في فكرتين:
- انتفاء النسب ليس من لزوم اللعان.
- انتفاء النسب بطريق اللعان يقوم على الشك لا على اليقين.
- ونقصد بالأولى أنه قد يثبت نسب الولد ويبقى إجراء اللعان قائما كسبب موجب للفرقة بين الزوجين، فقطع النسب ليس من ضرورة اللعان، وتتضح صحته من خلال قاعدتين:
القاعدة الأولى : لا يصح نفي النسب بالملاعنة بعد الإقرار به
يتفق الفقهاء على أن للزوج الحق في طلب إجراء اللعان لنفي النسب الذي وضعته زوجته بشرط أن لا يكون الزوج قد سبق وأن أقر بالنسب كأن يقوم بتبليغ الجهات المختصة بواقعة مولده ذاكرا أنه والده...الخ.
ولقد قضت محكمة النقض المصرية أنه متى أقر الزوج بالنسب فإنه لا يملك نفيه بعد ذلك لأنه عندما أقر به فقد ثبت وهذا ما نصت عليه المادة 176 من قانون الأحوال الشخصية الكويتي في حكمها الذي يقضي بعدم جواز إجراء اللعان لنفي الولد إذا اعترف الزوج بنسب الولد صراحة أو ضمنا، وهذا ما نصت عليه المادة 337 من الأحكام الشرعية في الأحوال الشخصية لدولة الإمارات العربية على أنه إذا أقر الزوج بنسب الولد صراحة أو دلالة فإن نسبه لا ينتفي وإن تلاعن الزوجان وفرق القاضي بينهما وعلى ما سبق يتضح لنا أمر ينبغي التنبه له جيدا وهو أن القاضي يمكن أن يجيب الزوجة لطلبها إجراء اللعان، ولكن يعطل أثره في نفي النسب، بمعنى آخر يمكن للقاضي أن يجري الملاعنة ويتم التفريق بين الزوجين وإجراء فحص البصمة الوراثية يتم لمعرفة ما إذا كان الزوج الملاعن هو الأب الحقيقي أم لا وإذا جاءت نتيجة البصمة الوراثية تؤكد ثبوت النسب من الزوج الملاعن حكم القاضي بلزومه النسب دون أن يتعارض هذا مع بقاء اللعان قائما كسبب للتفرقة بين الزوجين.
(1)- د. محمد أبو زيد: دور التقدم البيولوجي في إثبات النسب. مجلة الحقوق، العدد الثاني، صادرة من مجلس النشر العلمي، جامعة الكويت، ط1996، ص287.
القاعدة الثانية: تكذيب الزوج لنفسه بعد إجراء اللعان يزيل نفي النسب كأثر للملاعنة (1):
اتفق الفقهاء على أنه إذا كذب الزوج نفسه بعد الملاعنة، فإنه يترتب عن هذا التكذيب ثبوت النسب منه وهذا يعني أن تكذيب الزوج لنفسه يؤدي إلى زوال أثر اللعان في قطع النسب ويعود للولد نسبه من الملاعن وأخذ بذلك قانون الأحوال الشخصية الكويتي حيث نصت المادة: 179 على " أنه إذا اعترف الرجل بما يفيد كذبه في الاتهام ونفي النسب لزمه نسب الولد ولو بعد الحكم بنفيه".
يذهب الجمهور: إلى القول أن اللعان يرتب الفرقة المؤبدة فإذا حدث أن كذب الزوج نفسه فلا يمكن للمتلاعنين أن يجتمعا بعد ذلك ( حرمة مؤبدة).
هكذا يتضح تماما أن ثبوت النسب من الزوج في حالة تكذيبه لنفسه بعد الملاعنة لا يتعارض مع استمرار اللعان سببا للفرقة بين الزوجين(2).
وهذا يعني أن إجراء اللعان يبقى قائما ولكن أثره في نفي النسب يعطل، وهذا يقودنا إلى القول بأن القاضي يمكنه أن يجري الملاعنة بين الزوجين ولكن يعطل أثر اللعان في نفي النسب، ويأمر بخضوع الأطراف لإجراء تحليل البصمة الوراثية، فإن دلت على أن الأب الحقيقي هو الأب البيولوجي فهذا يعد تكذيبا للزوج.
وهكذا يرفع التعارض بين استخدام فحص الدم في حالة الدلالة على ثبوت النسب وبين إجراء اللعان وأثره النافي للنسب.
انتفاء النسب بطريق اللعان يقوم على الشك لا على اليقين :
من أهم الآثار التي يرتبها اللعان بنفي الولد هو قطع نسب الولد عن الزوج وإلحاقه بأمه وهو أثر أجمع عليه فقهاء المسلمين، ولقد نصت المادة178 من قانون الأحوال الشخصية الكويتي بقولها: (إذا جرى اللعان بين الرجل و المرأة، نفى القاضي نسب الولد عن الرجل، ولا يجب نفقته عليه، ولا يرث أحدهما الآخر وألحق الولد بأمه)(3)
وقد تنبه فقهاء المسلمين بخطورة الأمر فحددوا مركز الولد في مواجهة الزوج الملاعن بطريقة تلائم احتمال كذب هذا الأخير، أو خطئه وتسرعه في ادعاءاته فذهبوا إلى اعتبار ولد الملاعنة أجنبيا عن الزوج بالنسبة لأحكام الميراث والنفقة وعلة ذلك هو أن هذه الأحكام لا تثبت إلا بسبب يقيني.
وأما بالنسبة لسائر الأحكام الأخرى فقد اعتبر الفقهاء ولد الملاعنة في علاقته بالملاعن كالإبن مثلا بخصوص الشهادة، لا تقبل شهادة الملاعن وأصوله لمن نفي نسبه باللعان، وبالنسبة للقصاص قتل الملاعن الولد الذي نفاه باللعان فلا يقبل فيه، كما لو قتل الوالد ولده.
(1)- محمد أبو زيد: المرجع السابق، ص231
(2)- محمد أبو زيد: المرجع السابق، ص232
(3)- محمد أبو زيد: المرجع السابق، ص293
والواقع أن علة اعتبار الولد المنفي نسبه بطريق اللعان كابن بالنسبة للزوج الملاعن في خصوص أثر الأحكام الشرعية عدا النفقة والميراث، هو أن هذا الولد قد وضعته أمه وهي مقترنة بالزوج بمقتضى عقد زواج صحيح(1)، ومن ثم فإن الحكم بنفي النسب باللعان لا يدل بصفة يقينية على أن الولد ليس إبنا للزوج.
و يتضح لنا أن نفي النسب كأثر للعان يقوم على الظن لا على اليقين فإنه يكون من العدل أن يعطى للزوجة الحق في طلب إجراء تحليل البصمة الوراثية إلى ما يفيد في كشف حقيقة النسب بطريقة لا تقبل الشك.
و إن لم يكن استجابة لطلب الزوجة في الماضي أمرا مقبولا حيث لم تكن المعطيات العلمية تسمح إلا بتقديم الدليل المؤكد على انتفاء النسب، فإنه يصبح أمرا ملحا في ظل المعطيات الحديثة التي تسمح بتقديم الدليل المؤكد على ثبوت النسب. وهو إذ يصبح أمرا ملحا حيث يكشف الحقيقة، فإنه يعد أيضا أمرا مرغوبا فيه شرعا وقانونا.
فإنه من الواضح أن استخدام البصمة الوراثية سيمنع من اختلاط الأنساب، وضياع الأولاد وصون الأعراض، حيث لا توجد وسيلة أخرى ترد اتهام الزوج لزوجته، والفضل للعلوم الحديثة التي تقدم لنا دليلا مؤكدا، يرد هذا الاتهام، ولا سيما أنه دليل لا يتعارض مع إجراء اللعان للتفريق بين الزوجين، كما لا يتعارض مع مبادئ الشريعة الإسلامية.
مدى اتفاق الأخذ بتحليل الدم مع الشريعة الإسلامية :
دراسة مدى تماشي فكرة الأخذ بتحليل الدم كدليل في مجال النسب مع مبادئ الشريعة الإسلامية، وكان معروفا في الفقه الإسلامي أسلوب القيافة التي سبق تعريفها وكذا النظر بفراسته بوجوه الشبه بين شخصين لمعرفة أبينهما نسبة في البنوة أم لا(2)
وقد وجد في الفقه الإسلامي إتجاهان بشأن الأخذ بها في مجال النسب، فيتشدد القائلون بالأخذ بها وهم الجمهور* ويؤكدون أن القيافة علم صحيح يجب القضاء به في الأنساب، لأنها لو كانت باطلة لما أقرها الرسول عليه الصلاة والسلام ولم يرض بها.
أما الحنفية فيعارضون الأخذ بأقوال القائف في مجال النسب واستدلوا قولهم هذا بأن علم القيافة يقوم على مجرد الشبه المبني على الظن و التخمين، والشبه قد يقع بين الأجانب وينتفي عن الأقارب، فيقولون إنه لا يدل على ثبوت النسب بالاعتماد على قول القائف. والواقع أنه بفحص موقف فقهاء الحنفية، فإننا نلاحظ الاعتبار الذي دفعهم لرفض الأخذ بالقيافة في مجال النسب هو أنها تقوم على شيء من الحدس و التخمين لا بالاستدلال و اليقين(3).
(1)- د. محمد أبو زيد: المرجع السابق، ص296.
(2)- د. محمد أبو زيد: المرجع السابق، ص294.
(3)- د. محمد أبو زيد، المرجع السابق، ص297.
* الجمهور: المالكية والشافعية يبررن العمل بالقيافة في ثبوت النسب.
غير أن هذا الاعتبار قد فقد الدافع إليه في أيامنا الحالية، فأسلوب القيافة قد تطور وأصبح موضوعا لدراسات دقيقة، واسعة النطاق.
وها نحن قد رأينا ما أفادت به العلوم الطبية في مجال تحليل الدم لأنه دليل نفي أو إثبات النسب.
وعلى ذلك فإنه يكون واضحا أن فقهاء الحنفية لم يروا الاعتماد على القيافة في إثبات النسب متأثرين بدرجة التقدم العلمي في زمانهم، حيث لم تكن العلوم وصلت بعد إلى أن لكل شخص مميزات وراثية لا يشترك فيها مع غيره، فإن هذا الأسلوب العلمي على ضوء هذا التطور يعتبر وسيلة إثبات يصح الاعتماد عليها. وما كان ليرفضها فقهاء الحنفية لو كانت تحت أيديهم الحقائق العلمية التي في زماننا. فهي الأوثق في عصرنا للتعرف على حقيقة النسب نفيا أو إثباتا، من أسلوب القيافة، ومجمل القول أن الأخذ بالبصمة الوراثية لا يعد خروجا على الشريعة الإسلامية(1)
فحص الدم ومدى جواز إجبار الخصم على تقديم دليل ضد نفسه:
تقوم قاعدة عدم جواز إجبار الخصم على تقديم دليل تحت يده يستفيد منه خصمه على أساس تصوير معين للخصوم، و هو أنها معركة يدافع فيها كل خصم عن مصالحه دون أن ينتظر أحدهما معاونة الآخر بتقديم ما يكون تحت يده من أدلة تفيده في ادعاءاته، فالطرف الواقع عليه عبء الإثبات يخسر الدعوى إذا ما عجز عن تقديم الدليل الذي يؤيد ادعائه مع العلم أن القاضي غير ملزم بتكليف الخصوم على تقديم الدليل على دفاعهم أو لفت نظرهم إلى مقتضيات هذا الدفاع، فهو يتلقى أدلة الإثبات والنفي كما يقدمها أصحاب الخصومة وفقا للإجراءات التي يعينها القانون دون تدخل من جانبه، وإذ يحكم بناءا عليها فإنه يلتزم بقوة كل دليل كما حددها القانون.
وهكذا ينتهي الأمر إلى تحميل أحد الخصوم عبء إثبات تقديم الدليل على ما يدعيه دون أن يطمع في معاونة القاضي له في البحث عن دليل يؤيده، ولا يأمل في جبر خصمه ومع ذلك نجد المادة 25 من قانون الإثبات المصري وما يقابلها المادة 22 من قانون الإثبات الكويتي تجيز لأحد طرفي الخصومة أن يطلب من المحكمة إلزام الخصم الآخر بتقديم أية أوراق منتجة في الدعوى تكون تحت يده، ولذا فإن الفقه يرى أن الأصل في القانون المصري هو عدم جواز إجبار الخصم على تقديم ما تحت يده من أدلة.
و بالرجوع إلى النصوص المنظمة لاستجواب الخصوم يتضح أن للقاضي طلب حضور الخصم باستجوابه سواء من تلقاء نفسه أو بناء على طلب خصمه.
و الإستجواب قد يهدف إلى الحصول على ايضاحات متعلقة بالواقعة محل النزاع يستفيد منها الخصم في الوصول إلى الحقيقة في شأن وقائع الدعوى المعروضة عليه وهكذا
(1)- د. محمد أبو زيد، المرجع السابق، ص297.
يتضح أن و فيها يحتكم الخصم الذي لا دليل له على صحة ما يدعيه إلى ضمير خصمه فهنا يلجأ الخصم الذي يعوزه الدليل إلى طلب توجيه اليمين إلى خصمه يلزمه فيه بأن يقول الحقيقة، صحيح من المتصور أن يحلف من وجهت إليه اليمين كذبا ولا يقول الحقيقة ولكن يبقى في الحلف كذبا معصية دينية، وكذلك يعد جريمة يعاقب عليها القانون. إنها مظهر آخر من مظاهر واجب تعاون الخصوم في الكشف عن الحقيقة.
وجدير بالذكر أن المشرع الفرنسي قد اتخذ موقفا أكثر صراحة و جرأة من غيره من القوانين فقد نصت المادة 10 من قانون المدني المعدلة بقانون 5 يوليو 1972 على التزام كل فرد بأن يقدم مساعدته إلى العدالة بهدف إظهار الحقيقة ويجوز إجباره على التنفيذ عن طريق فرض غرامة تهديدية أو غرامة مدنية، ويتضح من هذا أن المشرع يعطي للخصم الحق في أن يجبر خصمه بتقديم ما تحت يده من أدلة تساعد على إظهار الحقيقة فهذا يعني أن نطاق الأدلة التي يجوز للخصم إجبار خصمه على تقديمها يمتد ليشمل المساس بجسم الإنسان كما هو الشأن في الحصول على عينة من الدم لفحصها، هذا الذي أدى إلى دراسة صعوبة أخيرة في مبدأ معصومية الجسد.
فحص الدم و مدى جواز المساس بمبدأ معصومية الجسد:
لا يشك أحد أن الإجبار على الخضوع لفحص الدم يمثل نوعا من الاعتداء، على مبدأ حرمة الجسد. و لكن ألا يتضمن رفض الخضوع لهذا الفحص باسم مبدأ حرمة الجسد تعديا شديدا على حقوق تتصل بقيم على مستوى عال من الأهمية لا تقل عن مبدأ حرمة الجسد الواقع(1) أن ثبوت النسب تتعلق به حقوق مشتركة بين الله تعالى و بين الأم و الأب و الابن و وجه كون ثبوت النسب حقا لله تعالى فلأنه يتصل بحرمات أوجب الله تعالى رعايتها، و هذه الرعاية لن تتأتي إلا بالمحافظة على الأنساب، و ما يشهد على كونه حقا من حقوق الله تعالى.
كونه حقا للأم فلأن في إثبات نسب الولد من أبيه ما يدفع عنها تهمة الزنا و دفع العار عنها و عن أسرتها و لئلا تعتبر بولد ليس له أي معروف و لأجل هذا فإنه يصح أن تكون الأم خصما في دعوى النسب باعتبارها صاحبة مصلحة حقيقية في دعوى نسب الولد لأبيه، إذ يوجد ارتباط بين دعوى النسب و أمومتها.
كونه حقا للأب فلأنه يترتب على ثبوت نسب الولد منه ثبوت ولايته عليه مادام صغيرا و حق ضمه إليه عند انتهاء حضانة الأم له، و حق إرثه إن مات الولد قبله، و حقه في إنفاق الولد عليه مادام الأب محتاجا و الابن قادرا.
1)- د/ محمد أبو زيد : المرجع السابق ، ص 302 .
أما وجه كونه حقا للولد فلأنه محتاج إليه دفعا للعار عن نفسه بكونه ابن زنا و هذه الحقوق يبينها المشرع و كذلك بينتها القوانين الوضعية.
و في هذا الإطار لا يجوز للأم و الزوج الاتفاق على إسقاط حق الولد في النسب و تأسيسا على ما تقدم يتضح الوضع الحقيقي لمشكلة الامتناع عن الخضوع لفحص الدم بما يتضمنه من عرقلة إقامة الدليل المؤكد على إثبات البنوة يمثل بالفعل اعتداءا على قيم تتصل بالكيان المعنوي للإنسان أي أن هذا يؤدي إلى المساس به ، خاصة أن الفحص الحديث للدم يقدم الدليل على نفي النسب أو إثباته بطريقة لا تقبل الشك.
و هكذا يقف مبدأ معصومية الجسد ليستبعد فكرة إجبار الشخص على الخضوع للمساس بجسده و مثلها الإجبار على الخضوع لفحص الدم و هذا ما جاء في المادة 10 من القانون المدني الفرنسي وكذلك المادة 11 من قانون الخبرة الكويتي بأنه: (إذا تخلف الخصم على تنفيذ قرارات الخبير لغير عذر لجأ الخبير إلى المحكمة لتحكم عليه بغرامة لا تقل عن " خمسة دنانير و لا تزيد عن عشرين دينارا." و ذلك بقرار يثبت في محضر الجلسة له ما للأحكام من قوة تنفيذية و لا يقبل الطعن بأي طريقة و لكن للمحكمة أن تعفي المحكوم عليه من الغرامة أو بعضها إذا أبدى عذرا مقبولا )(1).
غير أن هذين النصين لا يتعلقان إلا بالحالات التي يكون فيها الحكم بالغرامة جائزا فلا يمتد إلى الحالات التي يؤدي فيها الضغط و الإجبار إلى مخالفة و خرق المبادئ الأساسية كمبدأ حرية الجسد.
و لكن يبقي أن المادة 11 من قانون الإجراءات المدنية الفرنسي تجيز للمحكمة، في حالة رفض المدعي عليه الامتثال لأوامرها تمسكا بمبدأ حرية الجسد، فإنه يمكن للمحكمة أن تستخلص من موقف الأب المدعي عليه برفض الخضوع لتحليل دمه دليلا على أنه الأب الحقيقي.
فحتى في الوقت القريب لم يكن فحص الدم يقدم سوى دليل مؤكد على البنوة، أما الآن فبفضل التقدم التكنولوجي فإن تحليل البصمة الوراثية أصبحت كقرينة نفي و إثبات بنسبة 100% (2).
كما يفسر امتناع الأب المدعي عليه عن الخضوع لهذا التحليل سوى الخوف، كما تقول محكمة استئناف " نيم " ، ومن أن يرى هذا الإجراء و قد أزال اختلاط الأنساب .
و لقد رأينا الصعوبات التي تواجه البصمة الوراثية أثناء العمل بها و مع ذلك تم تجاوزها.
1)- د/ محمد أبو زيد: المرجع السابق، ص 302.
(2)-د/ منصور عمر المعايطة ص: المرجع السابق، ص 81.
بالنسبة للقانون الجزائري:
هناك مسائل قانونية تعترض هذه الطريقة (طريقة فحص البصمات الجينية) و نذكر منها: السلامة الجسدية و معلوم أن فحص البصمات الجينية يجرى على العتاد المأخوذ من جسم الإنسان غير أن الوضعية الحالية للعلوم لا تسمح في الوقت الحاضر سوى بإجراء الفحص على الدم و السائل المنوي و الشعر....إلخ.
و في الحالات التي لا يمكن الحصول فيها على العتاد الجسدي المرغوب بغرض إجراء فحص الحمض النووي، ينبغي اللجوء إلى المساس بالسلامة الجسدية للفرد المشبوه أو المتهم، وهي سلامة مضمونة دستوريا حيث نصت المادة 35 من دستور 1996 على أنه:(يعاقب القانون على المخالفات المرتكبة ضد الحقوق و الحريات و على كل ما يمس سلامة الإنسان).
فيبقي الحق في السلامة الجسدية حقا مطلقا يحميه قانون الإجراءات الجزائية و كذا قانون العقوبات عن طريق القضاء الجزائي و هو وحده الذي يقرر ما إذا كان ينبغي إكراه الشخص على أخذ عتاد من جسمه، وهو الذي يذكر الحدود و المواضيع الحميمة التي لا يجوز المساس بها و هي حدود السلامة الجسمية و حرمة الحياة الخاصة.
حرمة الحياة الخاصة:
تعد حرمة الحياة الخاصة ثاني حق يمكن أن يتأثر بفحص الحمض النووي للـ ADN لأن التساؤل المطروح يكمن في القول إلى أي مستوى يمكن للفحص أن يشكل تدخلا في الحياة الخاصة للفرد التي يحميها الدستور حيث نصت المادة 34 منه ( تضمن الدولة عدم انتهاك حرمة الإنسان، يحضر أي عنف بدني أو معنوي أو أي مساس بالكرامة ).
و تظهر إحدى الاعتراضات الأساسية على المساس بحرمة الحياة الخاصة في كون فحص البصمة الجينية يفتح المجال للبحث عن الخصائص الوراثية و هذا الاعتراض مستمد من فكرة مفادها أن معرفة تكوين خصائص الحمض النووي للفرد يكشف الاستعداد الوراثي له و بالتالي يكشف عن الاستعداد الإجرامي للمتهم فالاعتراض الأساسي إذن يتجلى في أن فحص الحمض النووي ADN يمكن أن يمد الغير بمعلومات من المتهم أكثر من المعلومات التي يحتاجها للتحقق من العينات المفحوصة للمقارنة.
و لا شك أن هذه المعلومات المتعلقة بالفرد تعد ذات طابع شخصي خاص جدا لأنها تتعلق بمعلومات شخصية ، رغم أن طريقة الطبيب (Jeffreys ) المتبعة في الوقت الحاضر تطمئننا بأن العمود ( Le code - barre) لا يكشف بأي حال من الأحوال عن الشخص الذي قدم منه العتاد الخلوي.
و أن البصمة الجينية المتحصل عليها من خلال هذه الطريقة لا تعطي أي معلومة عن شخصية المتهم أو طبعه أو استعداداته الإجرامية أو الوراثية كما أن هذه الطريقة لا تعطي أي وصف لشخص (طول، قصر، رجل، امرأة ). و لهذا يجب على المشرع أن يضع ضمانات صارمة حول بقية توسع فحص الأعمدة المشفرة في الإجراءات الجزائية و هو ما أخذ به قانون الإجراءات التكميلي الألماني المادة81 . كما أن هناك اعتراض آخر مضمونه أن لا يجبر الشخص على تقديم دليل ضد نفسه.
عدم إجبار الشخص على تقديم دليل ضد نفسه:
تتضمن أغلب القوانين الإجرائية المعاصرة أحكاما تحتوي على ضمانات مفادها التصريحات التي يدلي بها المتهم، و تعد كأنها تمت بحرية منه دون إكراه واقع عليه، تماشيا مع المادة 04 الفقرة 03 و 04 من الاتفاقية العالمية لحقوق الإنسان لسنة 1948، فما مدى انطباق هذه المقتضيات على فحص البصمات الجينية انطلاقا من العتاد المأخوذ من المتهم ؟ إن أخذ العتاد الخلوي من أجل فحص الحمض النووي يتم فيه إجبار الشخص المعني على أن يشهد ضد نفسه أو إكراهه على الاعتراف بخطئه، فليس المتهم هو الذي يتكلم هنا و إنما الوقائع المادية هي التي تعوض التصريحات(1) و في هذا الصدد نصت التوصية الخامسة من الدستور الأمريكي على عدم إكراه الشخص* في أي حالة جرمية تقديم اعترافات ضد نفسه حيث قالت:
Criminal any in compelled be shall not himself against witness a be to case (2) فمبدأ عدم إجبار الشخص على تقديم دليل ضد نفسه لا ينطبق سوى على التصريحات الشفوية** و في الجزائر نصت المادة 213 من قانون الإجراءات الجزائية على أن الاعتراف شأنه شأن جميع عناصر الإثبات تخضع لحرية تقدير القاضي، و بالتالي يبقى الشخص بريئا إلى أن تثبت إدانته نهائيا من طرف القضاء الجزائي و لو حامت شكوك حوله و لو اشتبهت في شأنه الشرطة القضائية و حتى لو تابعته النيابة العامة و أودعه قاضي التحقيق الحبس المؤقت.
احترام مبدأ قرينة البراءة:
نص عليها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان و الذي مفاده أن كل شخص تابعته النيابة العامة يظل بريئا إلى غاية إدانته نهائيا و هو ما نصت عليه المادة 45 من الدستور الجزائري: " كل شخص متهم يعتبر بريئا حتى تثبت جهة قضائية نظامية إدانته...." .
و هذا المبدأ لا يتعارض مع تطبيق الوسائل الزجرية في الإجراءات الجزئية مثل التوقيف للنظر و الحبس المؤقت رغم أن تطبيق هذه التدابير يمكن أن يكون مطلقا لتأسيس أية إدانة محتملة و لذلك كفل المشرع تلك التدابير الردعية بضمانات عديدة من حيث الأشخاص الذين يقومون بها " ضباط الشرطة القضائية و القضاة " أو من حيث الزمان " تحديد مدة التوقيف للنظر و الحبس المؤقت " أو من حيث المكان (مقرات الحجز و أماكن الحبس ) أو من حيث
(1)- نويري عبد العزيز: المرجع السابق، ص 45.
* دون إرغامه على تقديم دليل ضد نفسه لأن ذلك يعد خرقا لمبادئ الإثبات.
(2)- نفس المرجع، ص 45.
** كاستعمال آلات تحليل الأصوات (analyses macro) وآلة الكشف عن الكذب(détecteur des mensonges) بعد الاستعمال غير القانوني.
المعاملة ( احترام الكرامة البشرية و الاتصال بالأقارب و الفحص الطبي ).(1)
و غيرها من الضمانات * التي أوردها المشرع في تعديله الأخير الواقع سنة 2001 على قانون الإجراءات الجزئية.
إذا كان ذلك هو دور البصمة الوراثية كوسيلة إثبات من الناحية النظرية فما هو حالها على أرض الواقع ومن الناحية العملية بالنسبة للدول التي تأخذ بهذا الأسلوب المعاصر؟ وهو ما سنراه في الفصل الموالي.
(1)- نويري عبد العزيز: المرجع السابق، ص47.
* حيث أن المشرع الجزائري في تعديله الأخير أضاف ضمانات أخرى للمتهم منها الاتصال بالأقارب...الخ، وهذا
إقتداء بالمشرع الفرنسي.
لا يمكن الإنكار أن الهندسة الوراثية لها مزايا هائلة فقد أدرك العالم الغربي خطورة الأمر-فهم يشاهدون نتائج تطبيقات الهندسة الوراثية بشكل يومي- فسنت أكثر من 25 دولة أوروبية قوانين صارمة للسيطرة على كل كبيرة وصغيرة في مجال الهندسة الوراثية أسوة بما هو متبع حيال تجارب الإنشطار النووي وتصنيع القنابل النووية وامتلاكها، وأدى استعمال تقنية الحمض النووي المنقوص الأوكسجين في كشف غموض و ملابسات العديد من القضايا الشائكة وساعد ذلك على إيجاد ترسانة من الإجتهادات القضائية، لاسيما في الدول الغربية.
أما العالم العربي ورغم أن أول آية نزلت على الرسول-صلى الله عليه وسلم-تدعو إلى القراءة التي هي المفتاح الأساسي لطلب العلم، حيث أخذ المسلمون الأوائل بهذا النهج و أبحروا في العلوم و الترجمة عن الدول التي سبقتهم في ميادين العلوم حتى استطاعوا أن يصنعوا حضارة مادية مرتبطة برباط شرعي، فلم يفعل شيئا جديا وبقي مترددا في الأخذ بهذه التقنية كوسيلة من وسائل الإثبات في المسائل المدنية و على الخصوص في المسائل الجزائية، مما جعل القضاء العربي يراوح مكانه إذ يكاد الاجتهاد القضائي في هذا الشأن أن يكون منعدما، وبسبب ذلك خلو التشريعات العربية من نصوص قانونية تدرج البصمة الوراثية ضمن وسائل الإثبات.
ومن المبادئ المعترف بها دوليا في المواثيق الدولية ومعظم دساتير الدول حماية الإنسان، ولاشك أن كل شخص مادام مالكا لجسده فإن احترام الإنسان يستتبع بالضرورة احترام الجسد والنتيجة حماية تراثه الجيني.
ولذلك سنتعرض إلى بعض التشريعات الغربية التي أخذت بالبصمة الوراثية كوسيلة للإثبات، كما سنعرض بعض القضايا التي عرضت على القضاء وفصل فيها بالاعتماد على ADN لاسيما في الدول الغربية وكذا في الدول العربية على قلتها و من خلال ذلك سنفصل في مسألة دستورية المساس بجسم الإنسان من خلال أخذ عينات منه لإجراء فحوصات لـADN
1) المبحث الأول. الأحكام القانونية للبصمة الوراثية:
إن البصمة الوراثية لم تكن خيالا فقد ترجمت إلى واقع علمي، وقامت شركات كبيرة في أوروبا وأمريكا بتطويرها منذ سنة 1987، وأثبتت نجاحها حتى غزت ساحات المحاكم واستقر العمل بها في أوربا، وبدأت بعض الدول العربية والإسلامية في التمهيد للعمل بها، ونلقي هنا نظرة سريعة على تنظيم البصمات الوراثية في أبرز الدول التي أعطت هذا الميدان عناية قانونية وأهمها دول أوربا الغربية مثل: فرنسا، بريطانيا الدانمارك، ألمانيا، النرويج، ايرلندا، هولندا و السويد وبعض الدول العربية و من بينها الجزائر.
المطلب الأول: التشريعات الغربية
1- التشريع الفرنسي: - يمنع القانون في فرنسا إجراء فحص الـ ADN على أي شخص دون أمر قضائي، ويجري في مخابر مختصة، حيث يتم استدعاء الشخص لحضور عملية الفحص مرتين متتاليتين ثم يحرر محضر بذلك، وتعد فرنسا أول الدول التي شرعت في البحث عن الأسباب عن طريق فحص الـADN .
و بصدور قانون 29/07/1994 المتعلق باحترام الجسم الإنساني، والذي أقر تأطير عملية التعرف على الشخص بفضل البصمات الجينية مع التأكد من ان هذا الشخص لا يكون جاريا عنه البحث إلا في إطار اجراءات بحث أو تحقيق شرع فيه أثناء إجراء قضائي أو لغايات طبية أو بحث علمي(مادة جديدة 11-16). ق فرنسي.
- قانون 17جوان 1998، المادة 26 المتعلق بالوقاية ومكافحة المخالفات الجنسية، وكذا من أجل حماية القصر، وهذا القانون وضع حجر الأساس لحفظ البصمات الوراثية في الكمبيوتر، وفي هذه الفترة كانت البصمة الوراثية محصورة على الجرائم الجنسية (1)
و في ديسمبر 1999 قدم ألان مارسو Alain Marsaud ملف موضوع اقتراح قانون متعلق بإنشاء بطاقية للآثار الجينية للأشخاص المحكوم عليهم و المتهمين في جرائم جنسية مرتكبة على قصر تقل أعمارهم عن 15 سنة، ولم يسجل هذا الاقتراح في جدول أعمال المجلس الوطني.
- قانون 17جوان 1998 قد طرح المبادئ التي تسير هذا الملف (البطاقية).
* أهـدافـه:
-تسهيل عملية التعرف على الأشخاص.
- البحث على مرتكبي الجرائم الجنسية.
(1)- د.نوري عبد العزيز، المرجع السابق.ص 45.
* محتـواه :
- يحتوي على الآثار الجينية وكذا البصمات الجينية للأشخاص المحكوم عليهم بإحدى المخالفات المبينة في المواد 22-222-إلى 23-223 (الاغتصاب و الاعتداءات الجنسية، وكذا المشاهد الجنسية).
و في قانون 15/11/2001 المتعلق بالأمن القومي وخاصة إيداع مشروع قانون للأمن الداخلي، وهذا الأخير نشأ عن قانون 1994 المتعلق باحترام الجسم الإنساني وهي وجوب قبول المعني على اخذ عينات من أجل التحليل الجيني.
- إن المادة 56 من قانون 15/11/2001 المتعلق بالأمن القومي هي التي سمحت باتساع أولي لمجال تطبيق الملف، وهناك ثلاثة أنواع من المخالفات جاءت لتضاف إلى المخالفات ذات الطابع الجنسي المذكورة آنفا.
1/ جرائم المساس الطوعي(إرادي) لحياة الشخص، التعذيب وأفعال وحشية واستعمال العنف الإرادي و المحددة في المواد 1-221 إلى 5-221( جريمة القتل، القتل العمدي والتسميم).
2/ جرائم السرقة، السرقة مع التهديد أو بوسائل أخرى والتدمير، التكسير و الإتلافات الخطيرة على الأشخاص المحددة في المواد :7 -311 إلى 12-311 ( السرقة باستعمال العنف المؤدي إلى ضرر جسدي أو إلى عجز دائم، السرقة باستعمال السلاح ).
3/ الجرائم التي تشكل أعمالا إرهابية المحددة بالمواد 1-421إلى 4-421 من قانون العقوبات الفرنسي .
- إن الاتساع الأول لملف البصمة الوراثية جاء حقا في وقته، لكن المشروع بقي في منتصف الطريق مكتفيا بالنسبة لفئات المخالفات التي أضيفت على التأهيلات الإجرامية و حدها، تاركا دائما خارج المجال فئات أخرى، للمخالفات بحيث أن ضمها للملف جد هام.
- و من ناحية أخرى فإن مشروع القانون يوسع من أهداف تحليل البصمة الوراثية حيث أنه يتوقع أيضا أن يحتوى على الآثار الجينية التي وجدت بمناسبة إجراءات البحث:
- البحث عن أسباب الموت
- البحث عن أسباب الإختفاء.
- و كذا البصمات الجينية المطابقة أو التي تتطابق مع الأشخاص الذين توفوا أو الجاري عنهم البحث.
- تسهيل حل ملفات بقيت لحد الآن بدون حل.
و أثناء مناقشة القانون المتعلق بالأمن القومي، فإن مجلس الشيوخ قد صادق على تعديل يسمح بضم الأشخاص المتهمين. أما لجنة القوانين للمجلس الوطني فقد أبدت معارضة لهذه المبادرة باسم حق البراءة.
إن نشأة ( FNAEG ) و المراحل العديدة التي كان يجب اجتيازها لوضع هذه الوسيلة الناجحة في خدمة التحقيقات القضائية قد تثير تعجبنا ففي تقريره لسنة 1999 فإن اللجنة الوطنية للإعلام الآلي و الحريات (CNIL) صنفت ملفات البصمة الجينية ضمن ملف بسيط لإثبات الهوية و ليس ملف للسوابق العدلية، وهو يستعمل من طرف الدرك، وفي هذا الشأن ذكر M. Olivier Pascal في مقال حر :
" إن ملف البصمة الجينية لا تختلف عن بصمة الإصبع و الذي لا يثير مثل هذه الجدالات."
وفي هذا الصدد نلقي نظرة سريعة على تاريخ البصمة الجينية في ظل القانون الفرنسي ففي ديسمبر 1989 اقترحت اللجنة الاستشارية الوطنية لأخلاقيات المهنة عددا معينا من التوصيات تتلخص فيما يلي:
*اعتماد خاص للمخابر.
* لزوم حكم من القضاء .
*تعيين المخابر المعتمدة لا غير، كخبراء الجهات القضائية .
إن الهدف من هذه المبادرات هو اللجوء لتقنية التحاليل الجينية، وذلك بدعم الشرطة التقنية و العلمية أو تكوين البطاقات الأولى لدى المخابر.
في سنة 1997 استلهم قضاة التحقيق من النموذج الانجلوسكسوني فبدأوا بإعطاء توكيل و ترخيص لبعض المخابر الأجنبية ثم الفرنسية لإجراء التحاليل الجينية الأولى،و هذا في الميدان الجنائي ، و بسبب غياب النصوص المخصصة فإن القضاة كانوا يبنون أحكامهم على القواعد العامة الواردة في قانون الإجراءات الجزائية المنظمة و لإجراءات الخبرة .
و هكذا فإن ألـ ( FNAEG)* بإمكانه احتواء البصمات الجينية للأشخاص الذين يوجد ضدهم سبب أو عدة أسباب من شأنها تقوية الاتهام على أنهم ارتكبوا واحدة من الجرائم التي تدخل في مجال تطبيقها. إن هذا التسجيل مدعم بضمانات من طبيعتها إزالة كل التحفظات و المخاوف في هذا الموضوع من جهة، فإن هذا التسجيل مدعم لا يمكن الأمر به إلا من قبل ضابط الشرطة القضائية القائم بصفة مباشرة أو بطلب من القاضي، ومن جهة أخرى فإن التسجيل يؤشر في الملف و من هنا يكون الشخص المعني على علم به. أخيرا فإن إجراء المحو أو الشطب يكون بأمر من طرف السيد وكيل الجمهورية القائم المباشر أو بطلب من المعني، الذي له حق الطعن لدى القاضي ثم لدى رئيس غرفة التحقيق هذا من ناحية.
و من ناحية أخرى و بمبادرة من لجنة القوانين التابعة لمجلس الشيوخ فإن هذا الأخير قد صادق على ترتيب من شأنه أن يدعم ملف إجراء تحليل البصمة الوراثية خلال التحقيقات.
Le Fnaeg* هي عبارة عن نتائج في شكل أرقام لدراسة عمليات التعرف على أصحاب البصمة الجينية.
- تجريم رفض السماح بأخذ عينات:
إن حالة التعرف على هوية شخص ما عن طريق بصماته الجينية في إطار إجراء جنائي لا يستلزم بالضرورة موافقته، فإن هذا الأمر غير ممكن عندما يتعلق بأخذ عينات من المادة البيولوجية نفسها . و إن كان قانون 1994 المتعلق باحترام الجسم البشري لا يلزم صراحة هذه الموافقة من المعني بالأمر، و يري البعض سكوت القانون يعني أنه ليس بالضرورة موافقة المعني و هكذا لم يطبق القانون من قبل وزارة العدل.
إن منشور 10 أفريل 2000 يوضح المبادئ العامة للقانون الذي يضمن قداسة الجسم البشري لا يسمح بأخذ عينات بالقوة أو الإكراه من الشخص مثل أخذ عينات من الدم – وعينات من الشعر. و إنها ترى نفس الشيء عندما يتعلق بأخذ عينات من شخص محكوم عليه و في حالة رفض أخذ العينات فإن المنشور السالف الذكر يقدم بعض الوسائل مثل إجراء تحليل ابتداء من عينة من أداة بيولوجية التي تكون قد انفصلت عن الجسم البشري مثل الشعر الموجود في المشط أو أثر لعاب وجد على كوب.
مثال: تم تنفيذ هذه الطريقة على ساكن من "plein fougère " و الذي رفض أخذ عينات مطلوبة من قاضي التحقيق، فقد برأته العدالة رغم رفضه المطلق، و هذا بفضل العينات المأخوذة من فرشاة أسنانه، مشطه أو آلة الحلاقة الكهربائية.
- إن القانون المتعلق بالأمن القومي حاول أن يجد حلا ولو جزئيا لهذه الصعوبة ليس فقط بالنص على عدم ضرورة موافقة المعني، ولكن بتجريم الرفض المقابل من قبل المحكوم عليه، بالعقوبة المسلطة وهي: ستة أشهر (06) حبسا وغرامة بـ7500 أورو، قد تصل إلى عامين حبسا(02) وغرامة بـ30.000 أورو في حالة الحكم بالجرم وهو ما نصت عليه المادة 706-55 من قانون الإجراءات الجزائية الفرنسي.
- وهذا ما تم مع مشروع القانون الحالي للأمن الداخلي الذي يسلط على هذا الشخص العقوبات التي تسلط حاليا على المحكوم عليه بسبب جنحة في مجال FNAEG.
وفي هذا الصدد، فإن أخذ العينات البيولوجية لا تضيف أي شيء جديد من الناحية القضائية، ومنذ عدة سنوات فإن قانون المرور يسمح بمراقبة نسبة تواجد الكحول في الدم بالنسبة للسائقين، وفي هذه الحالة، لابد من أخذ عينة من دم السائق و بالتالي فإن رفض إجراء هذه العملية معاقب عليها قانونا بسنتين حبسا (02) وغرامة مالية قدرها 4500 أورو عملا بأحكام المواد من 8-234 إلى 10-234 من ق ع فرنسي.