mahfoud
2008-08-06, 19:39
يميز دارسو اللغات اليوم بين نوعين أساسيين من اللغات:
• اللغات الطبيعية (وهي التي يستعملها البشر بين بعضهم البعض)
• لغات البرمجة (وهي التي يستعملها البشر للتخطاب مع الآلات على مختلف أنواعها وخاصة الكمبيوتر)
أحد الفروق الأساسية بين النوعين, هو الغموض اللغوي, ففي حين تعاني اللغات الطبيعية بشتى أنواعها من أشكال مختلفة من الغموض الذي يشوش كل مستوياتها ومكوناتها تبدو لغات البرمجة خالية تماما من هذه المشكلة, فكل أمر أو كلمة أو اسم في لغة البرمجة له سلوك ومعنى محدد لا يقبل اللبس أو المشاركة مع معانٍ أخرى, بينما تحتمل الجملة في اللغة الطبيعية أكثر من تأويل وتفسير, يستخدم البشر بعض الأساليب لفك الغموض والتي تنجح أحيانا وتخفق في أحيان أخرى.
تقسم دراسة اللغة عموماً إلى عدة مستويات منها المستوى القاموسي (المفردات), النطق (خاص باللغات الطبيعية), الإعراب, معاني الجمل, الحوار والنقاش (أيضا خاص باللغات الطبيعية)....
عند حدوث غموض في مستوى لغوي معين فمن الممكن فكه عبر الانتقال إلى مستوى لغوي أعلى يعطي معلومات أكثر, ولكن هذه الطريقة ليست مضمونة النجاح
هدفنا اليوم هو التركيز على بعض أشكال الغموض في اللغات الطبيعية في المستويات الرئيسية منها وهي حسب الترتيب من الأدنى إلى الأعلى:
مستوى الألفاظ Lexical level
يتعلق بألفاظ وكلمات اللغة بشكل مفرد, ويسميه البعض المستوى القاموسي وسنشير في إلى نوعين من الغموض فيه
1. نفس الكلمة تحمل أكثر من دلالة أو معنى مثل كلمة (حماه: مدينة, والد زوجته), (خطب: طلب الزواج, تحدث أمام جمع من الناس), يزداد هذا الغموض بشدة في العربية عند عدم استخدام حركات التشكيل, وغالبا ما يمكن التخلص منه من خلال سياق النص إلا في حالات نادرة, ونذكر هنا مثالا عن تلك الحالات:
"بعد عودته من خارج البلاد, قرر محمد أن يصطحب زوجته كي يزورا حماه, وكانت مصادفة سعيدة أن التقى بعديله وصديقه القديم محسن هناك مع زوجته, فاستمر الجميع بتجاذب أطراف الحديث طويلاً ,فداهمهم الوقت وعندما قرر محمد وزوجته العودة انتبها إلى أن الوقت قد تأخر وأنه لم يعد هناك حافلات نقل عام, فأقلهما محسن بسيارته إلى بيتهما في طريق عودته وزوجته إلى منزله."
في هذا المثال حتى بعد كتابة مقطع كامل قد لا تستطيع التمييز هل أن محمد قد زار منزل حماه (والد زوجته) أم مدينة حماه.
2. كلمة مجهولة: ماذا لو قرأت الجملة التالية "التقت ريما بغريبن في السوق", المشكلة هنا في كلمة غريبن الغير معروفة فهل المقصود هو غريبٍ وما حصل هو مجرد خطأ مطبعي أم أن غريبن هو شخص أجنبي؟ يعتبر هذا النوع من أصعب الأنواع من هذا المستوى حيث لا يوجد قانون يحكم طريقة الحل ولكن غالبا ما يعتمد على النص نفسه في تخمين المقصود, وهي طريقة غير مضمونة كما أسلفنا.
هذا وقد تم تطوير بعض الخوارزميات لتصنيف الأسماء ضمن فئات معينة فمثلا يمكنك أن تخمن بسهولة أن (قورقانيا) هي اسم دولة أو مدينة ولن يخطر ببالك أن تكون اسما لشخص أو آلة مثلا وذلك بناء على المقاطع اللفظية المركبة للكلمة والتي يقوم الدماغ البشري بمقارنتها مع مقاطع يعرفها فيجد أن معظم الأسماء التي يعرفها على نفس الوزن والمنتهية ب(نيا) هي أسماء دول ومناطق وبالتالي يفترض أن الاسم اسم منطقة أو دولة.
بالرغم من أن خوارزميات التصنيف السابقة لا تملك القدرة على التعرف الكامل إلا أنها مفيدة في كثير من الأحيان.
مستوى الإعراب syntax level
لا يملك المستوى الإعرابي في العربية الكثير من الغموض كما هو في اللغات اللاتينية والجرمانية, وذلك لعدة أسباب منها سهولة تمييز الفعل من الاسم في العربية في الوقت الذي يمكن استخدام نفس الكلمة كفعل وكاسم في بعض اللغات (مثل كلمة run في الانكليزية), مع ذلك توجد بعض الحالات التي يصعب فيها تحديد إعراب كلمة معينة في الجملة كالمفعول به أو ما شابه وسنورد هنا مثالا بسيطا عن الصفات:
الصفة
لاحظ الجملة التالية: قالت لاعبة كرة القدم الأمريكية أن اللعبة تتطور بسرعة في البلاد
من يستطيع أن يحدد ما هي اللعبة المقصودة؟ هل هي كرة القدم العادية أم كرة القدم الأمريكية؟ علينا بداية أن نحدد الصفة (الأمريكية) عائدة إلى من أإلى اللعبة أم إلى اللاعبة.
في الحقيقة أمثلة كثيرة مرت معنا في المدرسة وكلنا يذكر عبارة يجوز الوجهان الشهيرة التي طالما سمعناها من مدرسينا في المدرسة والتي غالبا ما تجعل للجملة أكثر من معنى و لا يستطيع القارئ البت بالمعنى المطلوب والذي عادة ما يبقى في قلب الشاعر.
المستوى المعنوي semantics level
عادة ما يعتمد على هذا المستوى في تفسير الغموض الحاصل في المستويات الأدنى, فما هي الحال عندما يعتري الغموض المعنى نفسه ويصبح للجملة أكثر من تفسير؟ وبالحقيقة يوجد عدد هائل من أنواع الغموض الذي يعتري هذا المستوى حيث يصعب حصر كل هذه الأنواع ولكننا سننوه لبعضها فقط:
عودية الضمير (تحديد الاسم الذي يعود عليه الضمير في الجملة), ومثال عليه:
إن الله يهدي من يشاء ويضل من يشاء
لا توجد قاعدة إعراب في اللغة العربية يمكنها تحديد فاعل الفعل يشاء في هذه الجملة, وهو ما سبب مشاكل على مدى عقود طويلة للمسلمين حيث انقسموا بين من يؤيد أن الفاعل هو الله وبين من يعتبر الفاعل هو الشخص نفسه, وبصراحة لا يمكن إيجاد حل نهائي لغموض كهذا.
مثال آخر:
التقط قاسم الصندوق بيده بغضب وأراد أن يضرب عباس به ولكنه في اللحظة الأخيرة تذكر كم هو عزيز على قلبه فأحجم, والتفت نحو منير الجالس في زاوية الغرفة وابن أخيه في حضنه فأومئ إليه أن يخرج ويخرجه معه.
أيضا هذا الكلام سليم لغويا ولكننا لم نعد نستطيع التمييز ومعرفة ما يحصل بالضبط, فهل الغالي على قلب قاسم أهو عباس أم الصندوق ومن أو ما الذي طلب من منير أن يخرجه (قاسم أم عباس أو ابن أخ منير أم الصندوق),
غموض حروف العطف وربط الجمل:
غالبا ما تعتبر نقطة ربط جملتين منطقة مرشحة لزيادة الغموض, مثال:
يحب سامر والدته, وليلى أيضاً
نفهم هنا أن سامر يحب والدته أم القسم الثاني فهو غامض ويحتمل المعاني التالية:
سامر يحب ليلى
ليلى تحب والدة سامر
ليلى تحب والدتها
الغموض الناتج عن تكميم الفاعل والمفعول به:
أي استخدام كلمات تعبر عن الكمية مثل (كل, بعض, العديد...)
كل موظفي الشركة يأتون إلى العمل بالحافلة.
فهل المقصود أن هناك حافلة واحدة تقل كافة الموظفين إلى الشركة أم أن كلا منهم يأتي بحافلة مستقلة, حيث أن التفسير الأول يطلق عليه اصطلاحاً التفسير من وجهة نظر المفعول به (الحافلة) أما الثاني فهو من وجهة نظر الفاعل (الموظفين)
الغموض الناجم عن طريقة لفظ الجملة: قد يخرج هذا النوع من الغموض من إطار المستوى المعنوي ويتعداه إلى المستوى النطقي ولكن سنتحدث عنه هنا نظرا لأهميته.
لا يخفى على أحد أن طريقة لفظ الجملة تلعب دورا كبيرا في تحديد بعض معانيها وأهداف قائلها, وهذا ما لا يمكن استشفاؤه في النصوص المكتوبة وسأورد هنا المثال التالي مع تحديد الكلمة التي يركز القائل عليها بخط عريض:
أنا لم أقل أنه سرق محفظتي: قد يكون شخص غيري قال ذلك
أنا لم أقل أنه سرق محفظتي: المتحدث هنا ينفي وقوع الحدث بشكل قطعي
أنا لم أقل أنه سرق محفظتي: قد أكون أشرت إلى ذلك في معرض حديثي أو أن البعض فهم ذلك من كلامي ولكنني لم أذكره صراحة
أنا لم أقل أنه سرق محفظتي: لقد سُرقت محفظتي بالفعل ولكنني لا أتهمه هو
أنا لم أقل أنه سرق محفظتي: قد يكون استعارها أو أخفاها بغرض المزاح ولكنه لم يسرقها
أنا لم أقل أنه سرق محفظتي: لقد سرق مني شيئا ولكن هذا الشيء ليس المحفظة قد يكون النقود, البطاقة الشخصية ولكن ليس المحفظة
أنا لم أقل أنه سرق محفظتي: قد يكون سرق محفظة شخص آخر ولكن ليس المحفظة الخاصة بي
أذكر مثالا آخر شهير بالتاريخ وهو جواب النبي محمد لجبريل عندما طلب منه أن يقرأ فلو نظرنا إلى الجواب بالشكلين التاليين
ما أنا بقارئ.
ما أنا بقارئ؟
فسنلاحظ الفرق الشديد والاختلاف في المعنى فالأولى تعني كما يعتبر قسم كبير من المسلمين أنها إشارة لعدم قدرة محمد على القراءة والكتابة
بينما ترجح الثانية رأي جماعة أخرى تقول بأن الصيغة سؤال بمعنى ماذا تريدني أن أقرأ
كوننا لم نسمع كيف لفظ محمد جملته فلن نستطيع تحديد ما كان قصده, رغم أن سياق الحوار يرجح التفسير الثاني دعونا نلقي نظرة على شكلي الحوار المفترض
- اقرأ
- لا أعرف القراءة
- اقرأ باسم ربك الذي خلق....
الشكل الثاني:
- اقرأ
- ماذا تريدني أن أقرأ
- اقرأ باسم ربك الذي خلق....
يبدو الحوار الثاني أكثر تماسكا, ولكن الحوار الأول أيضا يملك بعض الفرص لكي يكون مقبولا.
مشاكل كثيرة وأنواع متعددة من الغموض تعتري اللغات الطبيعية, والبحث اليوم يتم لمعرفة كيف يقوم الدماغ البشري بحل تلك المشاكل (طبعا أبسط الأجوبة هي المخزون الثقافي والمعرفي في هذا الدماغ), فعندما يكون لدينا الجملتين:
(استفاد الإنسان من الطبيعة) (وصل الإنسان إلى القمر) واللتين تبدوان متطابقتان من الناحية الإعرابية (فعل ماض, الفاعل هو نفسه, جار ومجرور) فإن العقل البشري يبدو قادرا بسهولة على تحديد أن المقصود في الجملة الأولى هو كافة البشر بينما في الجملة الثانية هو فئة محدودة منهم.
ممتاز ولكن كيف فعل العقل ذلك الجواب هو المخزون المعرفي ,والذي بالمناسبة لا يكون دائما مصيبا أو منطقيا, فإذا قلنا:
يعتقد بسام أن جذر 25 هو 4
فهل هذا يعني أن بسام يعتقد أن 4=5؟
لاحظ أن تفكير بسام خاطئ وأن استنتاجنا المنطقي يجعل الكلام برمته غير منطقي.
ومع ذلك قلص البعض مشاكل معالجة اللغة إلى توفير قاعدة معرفية للآلة تستطيع من خلالها تحديد ما هو ممكن وما هو غير ممكن. وتتم حاليا دراسة عدة أساليب لتحقيق ذلك بأقل الكلف الممكنة.
المراجع
مجموعة محاضرات في منطق الحوار والنقاش (discourse and dialogue) باتريك بلاكبيرن
مجموعة محاضرات في المعاني الحسابية (computational semantics) فيليب دي غروت
مجموعة محاضرات في أساليب المعالجة الآلية للغات الطبيعية كلير غاردان
ويكيبيديا الموسوعة الحرة
• اللغات الطبيعية (وهي التي يستعملها البشر بين بعضهم البعض)
• لغات البرمجة (وهي التي يستعملها البشر للتخطاب مع الآلات على مختلف أنواعها وخاصة الكمبيوتر)
أحد الفروق الأساسية بين النوعين, هو الغموض اللغوي, ففي حين تعاني اللغات الطبيعية بشتى أنواعها من أشكال مختلفة من الغموض الذي يشوش كل مستوياتها ومكوناتها تبدو لغات البرمجة خالية تماما من هذه المشكلة, فكل أمر أو كلمة أو اسم في لغة البرمجة له سلوك ومعنى محدد لا يقبل اللبس أو المشاركة مع معانٍ أخرى, بينما تحتمل الجملة في اللغة الطبيعية أكثر من تأويل وتفسير, يستخدم البشر بعض الأساليب لفك الغموض والتي تنجح أحيانا وتخفق في أحيان أخرى.
تقسم دراسة اللغة عموماً إلى عدة مستويات منها المستوى القاموسي (المفردات), النطق (خاص باللغات الطبيعية), الإعراب, معاني الجمل, الحوار والنقاش (أيضا خاص باللغات الطبيعية)....
عند حدوث غموض في مستوى لغوي معين فمن الممكن فكه عبر الانتقال إلى مستوى لغوي أعلى يعطي معلومات أكثر, ولكن هذه الطريقة ليست مضمونة النجاح
هدفنا اليوم هو التركيز على بعض أشكال الغموض في اللغات الطبيعية في المستويات الرئيسية منها وهي حسب الترتيب من الأدنى إلى الأعلى:
مستوى الألفاظ Lexical level
يتعلق بألفاظ وكلمات اللغة بشكل مفرد, ويسميه البعض المستوى القاموسي وسنشير في إلى نوعين من الغموض فيه
1. نفس الكلمة تحمل أكثر من دلالة أو معنى مثل كلمة (حماه: مدينة, والد زوجته), (خطب: طلب الزواج, تحدث أمام جمع من الناس), يزداد هذا الغموض بشدة في العربية عند عدم استخدام حركات التشكيل, وغالبا ما يمكن التخلص منه من خلال سياق النص إلا في حالات نادرة, ونذكر هنا مثالا عن تلك الحالات:
"بعد عودته من خارج البلاد, قرر محمد أن يصطحب زوجته كي يزورا حماه, وكانت مصادفة سعيدة أن التقى بعديله وصديقه القديم محسن هناك مع زوجته, فاستمر الجميع بتجاذب أطراف الحديث طويلاً ,فداهمهم الوقت وعندما قرر محمد وزوجته العودة انتبها إلى أن الوقت قد تأخر وأنه لم يعد هناك حافلات نقل عام, فأقلهما محسن بسيارته إلى بيتهما في طريق عودته وزوجته إلى منزله."
في هذا المثال حتى بعد كتابة مقطع كامل قد لا تستطيع التمييز هل أن محمد قد زار منزل حماه (والد زوجته) أم مدينة حماه.
2. كلمة مجهولة: ماذا لو قرأت الجملة التالية "التقت ريما بغريبن في السوق", المشكلة هنا في كلمة غريبن الغير معروفة فهل المقصود هو غريبٍ وما حصل هو مجرد خطأ مطبعي أم أن غريبن هو شخص أجنبي؟ يعتبر هذا النوع من أصعب الأنواع من هذا المستوى حيث لا يوجد قانون يحكم طريقة الحل ولكن غالبا ما يعتمد على النص نفسه في تخمين المقصود, وهي طريقة غير مضمونة كما أسلفنا.
هذا وقد تم تطوير بعض الخوارزميات لتصنيف الأسماء ضمن فئات معينة فمثلا يمكنك أن تخمن بسهولة أن (قورقانيا) هي اسم دولة أو مدينة ولن يخطر ببالك أن تكون اسما لشخص أو آلة مثلا وذلك بناء على المقاطع اللفظية المركبة للكلمة والتي يقوم الدماغ البشري بمقارنتها مع مقاطع يعرفها فيجد أن معظم الأسماء التي يعرفها على نفس الوزن والمنتهية ب(نيا) هي أسماء دول ومناطق وبالتالي يفترض أن الاسم اسم منطقة أو دولة.
بالرغم من أن خوارزميات التصنيف السابقة لا تملك القدرة على التعرف الكامل إلا أنها مفيدة في كثير من الأحيان.
مستوى الإعراب syntax level
لا يملك المستوى الإعرابي في العربية الكثير من الغموض كما هو في اللغات اللاتينية والجرمانية, وذلك لعدة أسباب منها سهولة تمييز الفعل من الاسم في العربية في الوقت الذي يمكن استخدام نفس الكلمة كفعل وكاسم في بعض اللغات (مثل كلمة run في الانكليزية), مع ذلك توجد بعض الحالات التي يصعب فيها تحديد إعراب كلمة معينة في الجملة كالمفعول به أو ما شابه وسنورد هنا مثالا بسيطا عن الصفات:
الصفة
لاحظ الجملة التالية: قالت لاعبة كرة القدم الأمريكية أن اللعبة تتطور بسرعة في البلاد
من يستطيع أن يحدد ما هي اللعبة المقصودة؟ هل هي كرة القدم العادية أم كرة القدم الأمريكية؟ علينا بداية أن نحدد الصفة (الأمريكية) عائدة إلى من أإلى اللعبة أم إلى اللاعبة.
في الحقيقة أمثلة كثيرة مرت معنا في المدرسة وكلنا يذكر عبارة يجوز الوجهان الشهيرة التي طالما سمعناها من مدرسينا في المدرسة والتي غالبا ما تجعل للجملة أكثر من معنى و لا يستطيع القارئ البت بالمعنى المطلوب والذي عادة ما يبقى في قلب الشاعر.
المستوى المعنوي semantics level
عادة ما يعتمد على هذا المستوى في تفسير الغموض الحاصل في المستويات الأدنى, فما هي الحال عندما يعتري الغموض المعنى نفسه ويصبح للجملة أكثر من تفسير؟ وبالحقيقة يوجد عدد هائل من أنواع الغموض الذي يعتري هذا المستوى حيث يصعب حصر كل هذه الأنواع ولكننا سننوه لبعضها فقط:
عودية الضمير (تحديد الاسم الذي يعود عليه الضمير في الجملة), ومثال عليه:
إن الله يهدي من يشاء ويضل من يشاء
لا توجد قاعدة إعراب في اللغة العربية يمكنها تحديد فاعل الفعل يشاء في هذه الجملة, وهو ما سبب مشاكل على مدى عقود طويلة للمسلمين حيث انقسموا بين من يؤيد أن الفاعل هو الله وبين من يعتبر الفاعل هو الشخص نفسه, وبصراحة لا يمكن إيجاد حل نهائي لغموض كهذا.
مثال آخر:
التقط قاسم الصندوق بيده بغضب وأراد أن يضرب عباس به ولكنه في اللحظة الأخيرة تذكر كم هو عزيز على قلبه فأحجم, والتفت نحو منير الجالس في زاوية الغرفة وابن أخيه في حضنه فأومئ إليه أن يخرج ويخرجه معه.
أيضا هذا الكلام سليم لغويا ولكننا لم نعد نستطيع التمييز ومعرفة ما يحصل بالضبط, فهل الغالي على قلب قاسم أهو عباس أم الصندوق ومن أو ما الذي طلب من منير أن يخرجه (قاسم أم عباس أو ابن أخ منير أم الصندوق),
غموض حروف العطف وربط الجمل:
غالبا ما تعتبر نقطة ربط جملتين منطقة مرشحة لزيادة الغموض, مثال:
يحب سامر والدته, وليلى أيضاً
نفهم هنا أن سامر يحب والدته أم القسم الثاني فهو غامض ويحتمل المعاني التالية:
سامر يحب ليلى
ليلى تحب والدة سامر
ليلى تحب والدتها
الغموض الناتج عن تكميم الفاعل والمفعول به:
أي استخدام كلمات تعبر عن الكمية مثل (كل, بعض, العديد...)
كل موظفي الشركة يأتون إلى العمل بالحافلة.
فهل المقصود أن هناك حافلة واحدة تقل كافة الموظفين إلى الشركة أم أن كلا منهم يأتي بحافلة مستقلة, حيث أن التفسير الأول يطلق عليه اصطلاحاً التفسير من وجهة نظر المفعول به (الحافلة) أما الثاني فهو من وجهة نظر الفاعل (الموظفين)
الغموض الناجم عن طريقة لفظ الجملة: قد يخرج هذا النوع من الغموض من إطار المستوى المعنوي ويتعداه إلى المستوى النطقي ولكن سنتحدث عنه هنا نظرا لأهميته.
لا يخفى على أحد أن طريقة لفظ الجملة تلعب دورا كبيرا في تحديد بعض معانيها وأهداف قائلها, وهذا ما لا يمكن استشفاؤه في النصوص المكتوبة وسأورد هنا المثال التالي مع تحديد الكلمة التي يركز القائل عليها بخط عريض:
أنا لم أقل أنه سرق محفظتي: قد يكون شخص غيري قال ذلك
أنا لم أقل أنه سرق محفظتي: المتحدث هنا ينفي وقوع الحدث بشكل قطعي
أنا لم أقل أنه سرق محفظتي: قد أكون أشرت إلى ذلك في معرض حديثي أو أن البعض فهم ذلك من كلامي ولكنني لم أذكره صراحة
أنا لم أقل أنه سرق محفظتي: لقد سُرقت محفظتي بالفعل ولكنني لا أتهمه هو
أنا لم أقل أنه سرق محفظتي: قد يكون استعارها أو أخفاها بغرض المزاح ولكنه لم يسرقها
أنا لم أقل أنه سرق محفظتي: لقد سرق مني شيئا ولكن هذا الشيء ليس المحفظة قد يكون النقود, البطاقة الشخصية ولكن ليس المحفظة
أنا لم أقل أنه سرق محفظتي: قد يكون سرق محفظة شخص آخر ولكن ليس المحفظة الخاصة بي
أذكر مثالا آخر شهير بالتاريخ وهو جواب النبي محمد لجبريل عندما طلب منه أن يقرأ فلو نظرنا إلى الجواب بالشكلين التاليين
ما أنا بقارئ.
ما أنا بقارئ؟
فسنلاحظ الفرق الشديد والاختلاف في المعنى فالأولى تعني كما يعتبر قسم كبير من المسلمين أنها إشارة لعدم قدرة محمد على القراءة والكتابة
بينما ترجح الثانية رأي جماعة أخرى تقول بأن الصيغة سؤال بمعنى ماذا تريدني أن أقرأ
كوننا لم نسمع كيف لفظ محمد جملته فلن نستطيع تحديد ما كان قصده, رغم أن سياق الحوار يرجح التفسير الثاني دعونا نلقي نظرة على شكلي الحوار المفترض
- اقرأ
- لا أعرف القراءة
- اقرأ باسم ربك الذي خلق....
الشكل الثاني:
- اقرأ
- ماذا تريدني أن أقرأ
- اقرأ باسم ربك الذي خلق....
يبدو الحوار الثاني أكثر تماسكا, ولكن الحوار الأول أيضا يملك بعض الفرص لكي يكون مقبولا.
مشاكل كثيرة وأنواع متعددة من الغموض تعتري اللغات الطبيعية, والبحث اليوم يتم لمعرفة كيف يقوم الدماغ البشري بحل تلك المشاكل (طبعا أبسط الأجوبة هي المخزون الثقافي والمعرفي في هذا الدماغ), فعندما يكون لدينا الجملتين:
(استفاد الإنسان من الطبيعة) (وصل الإنسان إلى القمر) واللتين تبدوان متطابقتان من الناحية الإعرابية (فعل ماض, الفاعل هو نفسه, جار ومجرور) فإن العقل البشري يبدو قادرا بسهولة على تحديد أن المقصود في الجملة الأولى هو كافة البشر بينما في الجملة الثانية هو فئة محدودة منهم.
ممتاز ولكن كيف فعل العقل ذلك الجواب هو المخزون المعرفي ,والذي بالمناسبة لا يكون دائما مصيبا أو منطقيا, فإذا قلنا:
يعتقد بسام أن جذر 25 هو 4
فهل هذا يعني أن بسام يعتقد أن 4=5؟
لاحظ أن تفكير بسام خاطئ وأن استنتاجنا المنطقي يجعل الكلام برمته غير منطقي.
ومع ذلك قلص البعض مشاكل معالجة اللغة إلى توفير قاعدة معرفية للآلة تستطيع من خلالها تحديد ما هو ممكن وما هو غير ممكن. وتتم حاليا دراسة عدة أساليب لتحقيق ذلك بأقل الكلف الممكنة.
المراجع
مجموعة محاضرات في منطق الحوار والنقاش (discourse and dialogue) باتريك بلاكبيرن
مجموعة محاضرات في المعاني الحسابية (computational semantics) فيليب دي غروت
مجموعة محاضرات في أساليب المعالجة الآلية للغات الطبيعية كلير غاردان
ويكيبيديا الموسوعة الحرة