yacine414
2011-02-05, 13:57
إذا حاولنا إيجاد تعريف عام للمسؤولية فإننا نجد من الناحية اللغوية أنه يقصد بكلمة المسؤولية قيام شخص ما بأفعال أو تصرفات يكون مسؤولا عن نتائجها ، أما من الناحية الإصطلاحية فإن المسؤولية هي : " تلك التقنية القانونية التي تتكون أساسا من تداخل إرادي ينقل بمقتضاه عبء الضرر الذي وقع على شخص مباشر بفعل قوانين الطبيعة أو البيولوجيا أو البسيكولوجيا أو القوانين الإجتماعية إلى شخص أخر، ينظر إليه على أنه هو الشخص الذي يجب أن يتحمل هذا العبء " .
والمسؤولية عامة يختلف مفهومها بإختلاف المجال الذي تدرس فيه ، فإذا كانت المسؤولية الأدبية تنتج عن مخالفة واجب أدبي ( لاينص عليه القانون ) ، فإن المسؤولية القانونية تنتج- على عكس ذلك – عن مخالفة إلتزام قانوني ، كما نجد المادة 124 من القانون المدني الجزائري تأتي بقاعدة عامة بحيث تنص على أنـه : " كل عمل أيا كان ، يرتكبه المرء ويسبب ضررا للغير يلزم من كان سببا في حدوثه بالتعويض " .
فنجد المسؤولية المدنية في القانون المدني ، والمسؤولية الجنائية في القانون الجنائي ، والمسؤولية الدستورية في القانون الدستوري ، والمسؤولية الدولية في القانون الدولي العام ، وفي القانون الإداري نجد المسؤولية الإدارية وهي ما يهمنا في بحثنا هذا ، وهذه الأخيرة تترتب في حالة حدوث ضرر ما من جراء أعمال الإدارة العامة .
ومسؤولية الإدارة العامة ، نجدها في الوقت الراهن في معظم التشريعات ، إلا أنها حديثة النشأة ، إذ أنه لم يبدأ الأخذ بها سوى في أواخر القرن الماضي خاصة مع إتساع مجال تدخل الدولة في جميع الميادين ، فنظرا لما تتمتع به الإدارة من إمتيازات السلطة العامة ، فإن المشرع لأجل تحقيق النفع العام و الراحة العمومية والسكينة العامة والأمن العام والتي تشكل من أهم الإلتزامات التي تقع على عاتق الدولة بحيث تلتزم بتحقيقها
بهدف احترام سيادتها والحفاظ على استمرارها . ولما أن حاجات الأفراد ومتطلباتهم تزداد كلما ازداد عددهم فإن حاجات الدولة لتحقيق التزاماتها نحو الفرد تزداد أيضا ، وبذلك تحاول الدولة خلق وسائل قانونية تستطيع من خلالها التوفيق بين تحقيق مصالح الجماعة وإرضاء الفرد .
فإن المكانة التي تحتلها النشاطات العامة في مجتمعنا ، وكذا الحاجة الحالية إلى تغطية كافة الأضرار ، بالإضافة إلى تطور مفهوم دولة القانون ، تبرر ظهور وتوسع فكرة المسؤولية الإدارية . فنشاط الإدارة كأي عنشاط أخر قد يكون سببا في إحداث أضرار – قد تكون بجسامة معتبرة – بإعتبار الإدارة كسلطة تنفيذية تستعمل وسائل ضخمة وأحيانا خطرة في أداء مهمتها . فهل يحق للضحايا طلب جبر هذه الأضرار ؟ و بأية شروط ؟ .
إن المسؤولية التي تنجر في هذه الحالة هي مسؤولية مدنية وليست جزائية ، فالمسؤولية الجزائية للأشخاص المعنوية يتناولها القانون الجنائي ، بينما ينحصر موضوع بحثنا في المسؤولية الإدارية ، أي في مجال القانون الإداري . كما أنها تخرج عن مجال المسؤولية العقدية ، إذ أن مسؤولية الإدارة التي تنجر عن عدم تنفيذ التزام تعاقدي تدخل ضمن نظرية العقود الإدارية .
إن الإجتهاد القضائي في مجال القضاء الإداري عمل عبر مراحل متتالية على إيجاد حلول خاصة لهذه المسؤولية ، فوضع نظام قائما بذاته يتعلق بها . أما التشريع فلم يتدخل سوى في حالات معينة لتغطية أضرار خاصة . وسوف نرى عبر تحليلنا لهذا الموضوع مختلف الفروق بين نظام المسؤولية في القانون الإداري ، وما هو متداول عليه في القانون المدني بإعتباره القاعدة العامة .
فكيف ظهر مبدأ المسؤولية الإدارية ؟ وكيف تطور ؟ وماهي أهم خصائصه ؟ والأسس التي يقوم عليها ؟ وفي الأخير ماهي النتائج المترتبة عن تحميل الإدارة المسؤولية عن الأضرار المترتبة عن ادائها لنشاطها ؟
و لمعالجة هذه الإشكاليات ، ارتأينا اتباع الخطة المبينة أدناه :
المبحث الأول: نشأة و تطور فكرة المسؤولية الإدارية:
ظلت الدولة بصفة عامة و الإدارة بصفة خاصة و لحقبة طويلة من الزمن غير مسؤولة عن أعمالها ووظائفها المختلفة، و كذا عن أخطاء موظفيها، و يعود ذلك إلى الفكرة التي كانت سائدة آنذاك و هي أن الدولة شخص معنوي مجسدة في شخص الملك الذي لا يخطئ أبدا، و كذا إلى فكرة السيادة باعتبار أن المسؤولية التزام و هو ما يتناقض مع السيادة في شكلها التقليدي بما تنطوي عليه من سمو و إطلاق.
إلا انه في نهاية القرن 19 و بداية القرن 20 بدأ المفهوم المطلق لعدم مسؤولية الدولة يندثر خاصة مع اتساع مجال تدخل الدولة في جميع المجالات مما ينتج عنه تعدد الأضرار على الأشخاص و الأموال، وبدأت فكرة المسؤولية تشق طريقها نحو التطبيق، إذ لجأ في بعض القوانين إلى منح تعويضات عن الأضرار الناتجة عن نشاط الإدارة دون أن يعترف بمسؤولية الإدارة، و طبق القضاء هذا المبدأ بعد مدة طويلة، إذ تطورت مفاهيمه ، و لجأ إلى عدة نظريات حاول من خلالها إيجاد أساس قانوني لهذه المسؤولية و من بينها نظرية الدولة المدينة و نظرية المرفق العام.
و لم يتم خضوع الإدارة بما لها من سلطات و امتيازات للقضاء العادي أو الإداري دفعة واحدة، وإنما تم ذلك ببطئ، و عبر حقب زمنية متتالية، و قد اختلفت مواقف النظم القضائية المقارنة حول تكريس مبدأ مسؤولية الإدارة، إذ ظهرت في الدول الانجلوسكسونية و خاصة انجلترا عدة محاولات لإخضاع تصرفات الإدارة لرقابة القضاء بالرغم من وجود مبدأ عدم مسؤولية التاج.
و مع تمتع الإدارة بسلطات و امتيازات واسعة في الدول الأوربية و على رأسها فرنسا، فإنه لم يكن بإمكان القاضي العادي أن يوجه لها أمرا بالقيام بعمل أو الامتناع عنه أو إلزامها بالقيام بعمل، إلا أن قيام الثورة الفرنسية و ظهور مبدأ الفصل بين السلطات على يد الفقيه " مونتسكيو" أعطيا دفعا قويا لتكريس مبدأ مسؤولية الإدارة، و هو ما نتج عنه منح القاضي الإداري مهمة الفصل في القضايا التي تكون الإدارة طرفا فيها.
أما عن الدولة الجزائرية فقد عرفت هي الأخرى عدة تطورات بخصوص تطبيق مبدأ مسؤولية الإدارة و هو ما سنتطرق له تباعا.
المطلب الأول: عدم مسؤولية الإدارة
تملصت الإدارة و لمدة طويلة من الزمن من مسؤوليتها عن أعمالها و أخطاء موظفيها على أساس الإعتقاد الذي كان سائدا و هو أن الملك لا يخطئ "The king can do no wrong " فباعتبار أن التاج صاحب السيادة لا يخطئ فإن الدولة لا تسأل عن أعمالها و أعمال موظفيها .
و يمكن حصر الأسباب و العوامل التي أدت أو ساعدت على سمو مبدأ عدم مسؤولية الدولة فيما يلي:
1- طبيعة الدولة قديما و ظروفها الإجتماعية، السياسية و الإقتصادية، إذ كانت في معظمها دول دكتاتورية بوليسية لا تخضع لمبدأ الشرعية و لا لرقابة القضاء، و هو ما ساعد على انتشار و توسع دائرة عدم مسؤولية الإدارة عن أعمالها غير المشروعة و الضارة.
2- طبيعة العلاقة القانونية التي كانت تربط الموظف بالدولة و التي عرفت بالتعاقدية لاسيما في النظام الانجلوسكسوني، و بالتالي فإن الإدارة لا تسأل عن الأضرار التي يسببها موظفوها للغير، على أساس أن هذه الأضرار تعد خارجة عن نطاق حدود العقد المتعلق بالوظيفة و يتحملون المسؤولية المدنية أمام القاضي العادي .
و قد كرست فرنسا هذه الحماية لموظفيها بعدم إمكانية مقاضاتهم وفقا لنص المادة 75 من دستور السنة الثامنة للثورة، إلا أن هذه الحماية القانونية التي منحت للموظفين والعاملين استعملت بطريقة مبالغ فيها، مما أدى إلى إلغاء المادة 75 بموجب المرسوم الصادر في19/09/ 1970 .
3- الإهتمام بقضايا حقوق الإنسان و الدولة القانونية و العدالة الإجتماعية بصفة نظرية بغض النظر عن أساليب و فنيات تطبيقها.
4- إنعدام الأساليب القانونية و الإجرائية اللازمة لإخضاع الإدارة للرقابة القضائية.
5- عدم بروز و بلورة فكرة التفرقة بين الخطأ المرفقي و الخطأ الشخصي و نظرية المخاطر، و هو ما ساعد على عدم تحديد الخطأ الإداري
6- سمو مبدأ سيادة الدولة، إذ كان ينظر إليه على أنه يتنافى مع مبدأ المسؤولية و لا يلتقيان، فالدولة شخص معنوي تتمتع بكافة الحقوق والإمتيازات و أساليب السلطة العامة، و تتمتع بالسيادة و بالتالي فإنه لا يمكن مساءلتها عن أعمال سلطاتها بما فيها التنفيذية.
الفرع الأول: النظام الفرنسي
كغيرها من الدول القديمة خضعت فرنسا لمقولة " الملك لا يسيء صنعا " le roi ne peut mal faire و أنه امتداد لإرادة و ظل الله في أرضه، و هو ما جعله يتمتع بسلطة مطلقة في تسيير شؤون الدولة و عدم خضوعه للرقابة بما فيها الرقابة القضائية، و اعتباره مصدرا للعدالة، و التكفل شخصيا بالفصل في أي منازعة، و كذا وقف تنفيذ الأحكام أو إصدار حق العفو فيها.
و بانتقال فرنسا بعد الثورة الفرنسية سنة 1789 من النظام الملكي إلى الجمهوري، و بظهور نظرية مونتسكيو المتعلقة بالفصل بين السلطات، ظهر جدل فقهي كبير حول عدم مسؤولية الدولة عن أعمال السلطة التنفيذية، إذ أن مناقشة تصرفات الإدارة أمام القضاء، و إعلان مسؤوليتها و إلزامها بالتعويض عن الأخطاء التي يرتكبها موظفوها يؤدي إلى تدخل السلطة القضائية في أعمال السلطة التنفيذية على خلاف ما يقضي به مبدأ الفصل بين السلطات، و لم يكن الإختلاف قائما حول المبدأ و إنما حول تفسيره، إذ يأخذ البعض بالفصل المطلق بين سلطات الدولة، و هو ما كان يميل إليه رجال الثورة الفرنسية متأثرين في ذلك باعتبارات تاريخية تتمثل في تعسف محاكم النظام القديم، في حين كان الاتجاه الغالــب و الواقع العملي يرجح فكرة الفصل النسبي لما يسمح به من وجود نوع من الرقابة المتبادلة بين سلطات الدولة للحيلولة دون استبداد كل سلطة باختصاصاتها .
فجل الأفكار التي كانت سائدة آنذاك كانت مع فكرة عدم مسؤولية الإدارة عن أعمال جميع موظفيها، إذ رأت السلطة الفرنسية أن المحاكم العادية قد تعرقل الإصلاحات التي تعزم الإدارة القيام بها لذلك عملت على إبعاد منازعات الإدارة عن ولاية المحاكم العادية، و تجسيدا لهذه الأفكار صدر قانون
16-24 سنة 1790 الذي نص في المادة 13 منه " إن الوظائف القانونية تبقى دائما مستقلة عن الوظائف الإدارية و أن القضاة لا يمكنهم تعطيل أعمال الإدارة بأي طريقة كانت أو مقاضاة أعوانها من اجل أعمال تتصل بوظائفهم و أن كل خرق لهذا المنع يعتبر خرقا فادحا للقانون"
و قد اعتبر المدافعون عن قانون 1790 أن مقاضاة الإدارة أو أعوانها أمام القضاء يؤدي إلى عرقلة أعمالها التي تهدف إلى تحقيق الصالح العام، فمثلا إذا تمت مقاضاة الإدارة حول نزع الملكية من أجل المصلحة العامة فإن ذلك سيؤدي حتما إلى تعطيل المشاريع التي تم من أجلها نزع العقار من مالكه .
و على هذا الأساس صدر في السنة السادسة للثورة قانون يمنع المحاكم صراحة من التعرض لأعمال الإدارة أيا كان نوعها و أصبحت الإدارة بذلك تتولى مهمة الفصل في المنازعات التي تنشأ بينها و بين الأفراد، و تطبيقا لهذا القانون صدر قانون آخر بتاريخ 06/09/1790 يمنح الاختصاص في النظر في القضايا التي تكون الإدارة المحلية طرفا فيها لحكام الأقاليم، و منح للإدارة العامة ممثلة في رئيس الدولة والوزراء ـ كل في حدود اختصاصه ـ للنظر في المنازعات التي تكون الإدارة المركزية طرفا فيها، لتكون الإدارة بذلك الخصم و الحكم في آن واحد و سميت بالإدارة القاضية، و هو ما أعاق تحقيق و تكريس مبدأ الفصل بين السلطات، إذ أنه منع على السلطة القضائية البث في القضايا الإدارية في حين منح للسلطة الإدارية سلطة البث في القضايا الإدارية مع أنها ليست جهة قضائية.
و أمام رفض الفقهاء و القضاء لتمتع الإدارة بهذا الاختصاص الممتاز، تم فصل الإدارة العاملة عن الإدارة القاضية، و تم إنشاء جهة استشارية مختصة في الفصل في المنازعات الإدارية بموجب نص المادة 52 من دستور السنة الثامنة، و هي مجلس الدولة في العاصمة، كما تم إنشاء مجالس المحافظات في باقي الأقاليم.
إلا أن قرارات المجلس لم تكن سوى آراء و مشاريع قرارات معلقة على مصادقة رئيس الدولة، إذ أنها لم تكتسي الطابع القضائي، و لم تكن شاملة و لا نهائية، كما أنه لم يعتمد حال فصله في المنازعات على قواعد خاصة تطبق فقط على المنازعات الإدارية، و إنما طبق قواعد القانون الخاص.
كما نصت المادة 75 من دستور السنة الثامنة من الثورة الفرنسية لسنة 1800 على ضرورة استئذان مجلس الدولة قبل رفع قضايا التعويض على موظفي الحكومة بسبب أعمالهم و وظائفهم.
إلا أن المجلس لم يمنح الإذن إلا نادرا إذ أنه في الفترة الممتدة بين 1852 و 1864 قدم أمامه 264 طلبا لمنح رخصة لمقاضاة موظفين فلم يجب إلا على 34 طلبا منهم فقط و ظل هذا النص يعرقل رفع دعاوى التعويض على الموظفين إلى غاية إلغائه بموجب مرسوم 19/09/1870.
و بتاريخ 24/05/1872 صدر قانون تم الاعتراف بموجبه لمجلس الدولة بصلاحية الفصل في المنازعات الإدارية المرفوعة أمامه بصفة نهائية و دون حاجة إلى مصادقة السلطة الإدارية على قراراته و لم تعد الأحكام تصدر باسم الدولة بل باسم الشعب الفرنسي على غرار أحكام القضاء العادي، و قد نصت
المادة 9 التاسعة منه على أنه " يختص مجلس الدولة بشكل بات و سيادي في طعون مواد المنازعات الإدارية و في طلبات الإلغاء لتجاوز السلطة ".
و أصبح بذلك مجلس الدولة جهة قضائية عليا و تم الفصل بين القضاء الإداري و القضاء العادي.
الفرع الثاني : النظام الجزائري
من المسلم به تاريخيا أن مبدأ مسؤولية الدولة عن أعمالها مبدأ حديث النشأة وجد في أواخر القرن 19 و بداية القرن 20 مع ظهور الدولة القانونية، إلا أنه و بالخصوص في تاريخ الجزائر القانوني نجد أن ظهور المسؤولية الإدارية يعود إلى سنين بعيدة تصل إلى صدر الإسلام.
و قد مرت نشأة و تطور مبدأ مسؤولية الدولة عن أعمالها في النظام الجزائري بعدة مراحل قبل الإحتلال، أثناء الإحتلال و بعد الإستقلال.
و بما أننا خصصنا هذا المطلب لعدم مسؤولية الإدارة فإننا سنتطرق لمرحلة أثناء الإحتلال التي عرفت عدم تطبيق مبدأ المسؤولية الإدارية في الجزائر مع أنها كانت مكرسة في النظام الفرنسي، و نتطرق لمرحلة ما قبل الإحتلال و بعد الإستقلال في المطلب الثاني المتضمن مسؤولية الإدارة على أساس أن النظام الجزائري قد عرف المسؤولية الإدارية في هاتين الحقبتين من الزمن.
لقد امتد تطبيق النظرية الفرنسية لمبدأ مسؤولية الإدارة عن أعمالها إلى الجزائر، إذ طبقت نفس القواعد الموضوعية و الشكلية و لاسيما المتعلقة بأسس مسؤولية الإدارة العامة عن أعمال موظفيها، و مرت بنفس التطورات التي شهدها القضاء الإداري الفرنسي، كما أقيمت جهات قضائية إدارية خاصة للنظرــر و الفصل في القضايا و الدعاوى الإدارية و من بينها المنازعات الخاصة بمسؤولية الإدارة عن
أعمال موظفيها، إذ أنشأت محاكم القضاء الإداري الثلاثة و هي محكمة الجزائر، وهران، قسنطينة بموجب المرسوم المؤرخ في 30 سبتمبر 1953 و ذلك بعد إلغاء مجالس العمالات التي كانت قائمة إلى جــانب مجلس الدولة الفرنسي ، و قد أسندت لهاته المحاكم الثلاثة مهمة النظر و الفصل في المنازعات الإدارية بما فيها المنازعات المتعلقة بمسؤولية الدولة عن أعمال موظفيها، و ذلك تحت رقابة مجلس الدولة الفرنسي بباريس باعتباره جهة قضائية إدارية استثنائية و جهة نقض .
إلا أنه و رغم تقدم و تطور النظرية الفرنسية لمبدأ مسؤولية الدولة على يد القضاء الإداري، فإن تطبيقها لم يكن شاملا و لا عاما، إذ اقتصرت الإدارة على تطبيق هذا المبدأ على الفرنسيين و غيرهم من الأوربيين المستوطنين بالجزائر دون الجزائريين الذين عانوا كثيرا من بطش و تعسف الإدارة الفـــرنسية و اعتداءاتها المستمرة على حقوقهم و حرياتهم دون أن يكون لهم الحق في الاستفادة من هذا المبدأ الهام ومساءلتها أمام القضاء، لأن تطبيق مبدأ المسؤولية في الجزائر يتعارض و غرضها الاستعماري.
و لاستبعاد الجزائريين من دائرة تطبيق مبدأ مسؤولية الإدارة ، أصدرت فرنسا عدة قوانين استثنائية يقتصر تطبيقها على الجزائريين فحسب، تثبيتا لمبدأ " فرق تسد" و تطبيقا لسياسة " التمييز العنصري"
و هو ما أعدم لدى الجزائريين مجرد التفكير في اللجوء إلى الجهات القضائية الفرنسية لمطالبة الإدارة بالتعويض عن الأضرار التي أصابتهم من جراء أعمالها و أخطاء موظفيه.
المطلب الثاني: تقرير مسؤولية الإدارة
ظل مبدأ عدم مسؤولية الإدارة عن أعمالها و عدم جواز مطالبها بالتعويض عن الأضرار التي سببتها سائدا و لفترة طويلة إلى غاية أواخر القرن 19 و بداية القرن 20، أين بدأت الإدارة تعترف بمسؤوليتها مع التقدم و ارتفاع درجة الوعي، و انتقاد الرأي العام و الفقهاء لهذا المبدأ على أساس أن الأخذ به يعد مساسا بالعدالة و اهدارا للمبدأ الدستوري الذي ينص على المساواة بين المواطنين أمام الأعداء العامة و الذي لا يتحقق إلا بإلزام الدولة بدفع تعويضات عن الأضرار التي تسببها بأعمالها.
و يمكن تلخيص العوامل التي أدت إلى انهيار مبدأ عدم مسؤولية الإدارة ليقوم مقامه مبدأ مسؤوليتها، إذ أضحى هو الأصل بعد أن كان الإستثناء و لتتحقق المساواة بين الإدارة و الأفراد في:
1- الفهم الصحيح لمبدأ سيادة الدولة، إذ بعد أن كانت تفهم على أنها سلطة مطلقة لا تقيد بالقانون و بالتالي لا يمكن مقاضاتها أو إلزامها بدفع تعويض، فلم تعد حاليا تتنافي مع الخضوع للقانون و لا مطلقة، إذ تقيد بأحكام القانون الدولي العام على مستوى العلاقات الدولية، و تقيد بالقانون الداخلي على مستوى علاقاتها مع الأفراد، و بالتالي يمكن مساءلتها و تتحمل دفع تعويضات إذا ما ألحقت ضررا بأحد المواطنين.
و إن كان الفقيهان دوجي وجيز يريان أن فكرة السيادة خاطئة و تتنافي مع المنطق و المبادئ القانونية الحديثة، لأن الحكام و ممثليهم على مستوى الإدارات يتولون اختصاصاتهم في حدود القانون، و يسألون في حالة خروجهم عنهم.
2- انتشار الديمقراطية في معظم دول العالم، و هي النظام الأكثر تقبلا لفكرة المسؤولية و رقابة القضاء، و احتراما للقانون، إذ تقوم أساسا على مبدأ المشروعية و خضوع الجميع حكاما و محكومين للقانون.
3- إنتقال الدول من المذهب الفردي الحر إلى مذهب التدخل و تبلور دورها من مجرد حارسة تنحصر مهمتها في حماية الأفراد و السهر على أمنهم و سلامتهم داخليا و خارجيا إلى تدخلها في مختلف الأنشطة و اتساع دورها، و هو ما جعلها تقوم بأنشطة مشابهة لأنشطة الأفراد. مما نجم عند ازدياد الأضرار التي تسببها الأفراد كما و نوعا، و زادت معه الحاجة الملحة لمساءلتها و تعويض الأفراد.
و قد كانت مسؤولية الدولة عن أعمال السلطة التنفيذية هي الأسبق في التحرر شبه الكامل من قيود مبدأ السيادة، و قد ساعد على ذلك أن الإدارة هي أداة الدولة لتنفيذ سياستها و السهر على تطبيق قوانينها و غدارة مرافقها و للاضطلاع بهذه المهام تحتك الإدارة بالأفراد بصفة دائمة و متواصلة، الأمر الذي يعرضهم للإصابة ببعض الأضرار، و هو ما أدى إلى البحث عن وسيلة لجبر هذه الأضرار، و كان من المنطقي الإنصراف عن قاعدة عدم المسؤولية الإدارية و التخلي عنها.
و قد ظهرت المسؤولية الإدارية بصفة و بدرجات متفاوتة بين الدول و ذلك بالنظر إلى نظامها القانوني، إذ طبقت الدول الأنجلوسكسونية على الإدارة نفس نظام المسؤولية المدنية المطبق على الأشخاص العاديين باعتبارها تخضع لمبدأ وحدة النظام القانوني و القضائي، في حين خصت فرنسا المسؤولية الإدارية بنظام قانوني خاص و جهات قضائية مستقلة تختلف عن نظام المسؤولية المطبق على الأشخاص العاديين
باعتبارها تخضع لمبدأ ازدواجية النظام القانوني و القضائي، و هو ما نتج عنه ازدواجية في النظام القانوني والقضائي للمسؤولية الإدارية قضاء عادي و قضاء إداري، أما الجزائر فإنها عرفت تأرجحا بين النظامين.
و لتوضيح نشأة و تطور فكرة المسؤولية الإدارية بدقة سنتطرق لها في فروع متفرقة.
الفرع الأول: النظام الفرنسي
أمام ضغط و تأثير الأفكار الفلسفية و الديمقراطية، و التحولات الاقتصادية و انتقادات الفقه والقضاء بدأت فرنسا تتراجع تدريجيا عن تطبيق مبدأ عدم مسؤولية الدولة بصفة عامة و الإدارة بصفة خاصة، و هو ما اضطر المشرع إلى التدخل و تقرير مسؤولية الإدارة بصفة صريحة و إحلال مسؤوليتها محل الموظفين، كما أنه أباح للمواطنين مقاضاة الموظفين العموميين دون حاجة إلى استئذان الإدارة و ذلك لمنع تعسفها.
إلا أن القضاء لم ينتقل مرة واحدة من مبدأ عدم المسؤولية إلى مبدأ المسؤولية الكاملة و إنما تدرج، إذ بدأ في الحد من مبدأ عدم المسؤولية على أساس التفرقة بين نوعين من أعمال الإدارة، أعمال شبيهة بأعمال الأفراد العاديين تقوم بها بوصفها تاجر أو مسير، و بصفة مجردة من مظاهر و امتيازات السلطة العامة "Actes de gestion " ، و أعمال السلطة العامة التي تستعمل فيها مظاهر و امتيازات السلطة العامة و التي تسمي ب "Actes de puissance publique " ، و التي تعفي فيها من المسؤولية إلا إذا وجد نص مخالف، إذ أنه بإمكان المشرع أن يقررإصلاح الأضرار الناجمة عن أعمال السلطة.
و نظرا لعدم دقة معيار التفرقة بين أعمال السلطة و أعمال الإدارة من ناحية، و عدم اتفاق مبدأ عدم مسؤولية الدولة عن أعمال السلطة التنفيذية و التطورات و الأفكار المعاصرة من ناحية أخرى عدل مجلس الدولة عن هذا المعيار آخذا بمعايير أخرى .
و بذلك نقول أن قبول فكرة المسؤولية مر بمرحلتين، إذ أعرفت به أولا القوانين الخاصة التي تنص على التعويضات، ثم اعترف به القضاء بإلزام الإدارة بإصلاح الضرر الناتج عن أعمالها .
فبالنسبة للقوانين الخاصة فقد نصت المادة 17 من الإعلان عن حقوق الإنسان و المواطن لسنة 1789 على تكريس الحق في التعويض عن الإعتداء على الملكية العقارية.
كما تعرض قانون 28 بلوفيوز للسنة الثامنة في المادة 4، بصفة عارضة لمسألة التعويض في حالة الأضرار الناجمة عن الأشغال العمومية و منح الإختصاص لمجالس المحافظات للنظر في الشكاوى المقدمة ضد متعهدي الأشغال، و بالرغم من عدم إشارة النص إلى مسؤولية السلطة العامة، إلا أن القضاء الإداري توسع في تفسيره قاضيا باختصاصه بمسؤولية الإدارة عن الأضرار المترتبة عن عقود الأشغال العمومية، و التي صنفت فيما بعد ضمن المسؤولية بدون خطأ و بالتحديد على أساس المخاطر .
و لضمان تطبيق المادة 545 من القانون المدني الفرنسي المأخوذ من نص المادة 17 من الإعلان عن حقوق الإنسان سنة 1789 تمت المصادقة على قانون 8 مارس 1810 المتضمن إجراءات نزع الملكية من أجل المنفعة العمومية، كما منح للقاضي العادي صلاحية تقرير نقل الملكية و تحديد مقدار التعويض.
و بذلك أصبحت الأضرار الناتجة عن الأشغال العمومية و نزع الملكية من أجل المنفعة العامة الحالتين الوحيدتين اللتين ينص فيهما القانون على التعويض لمصلحة الأشخاص المعنيين.
أما عن التكريس القضائي للمسؤولية الإدارية فقد ارتبط بالتنازع حول الاختصاص بين المحاكم القضائية و المحاكم الإدارية، إذ أن الأولى كانت تخص بمنح التعويضات عن الأضرار الناجمة عن نشاط
الدولة و ذلك بتطبيق قواعد القانون المدني، و هو ما كرسه الحكم الصادر عن محكمة النقض بتاريخ 30/01/1843 الذي قضى بأن مبادئ المادة 1384 من القانون المدني تطبق على الإدارات العمومية بسبب الأضرار التي يسببها أعوانها و تابعيها خلال قيامهم بوظائفهم .
إلا أن مجلس الدولة اعترض على هذا الموقف و تمسك باختصاصه مؤسسا ذلك على نظرية الدولة المدينة " L’Etat débiteur " ... " كل دين على الدولة يسوى إداريا" .
و لم يتم حل هذا الإختلاف إلا بعد إنشاء محكمة التنازع و ظهور معايير جديدة، و قد كرس مجلس الدولة رفضه لتطبيق قواعد المسؤولية المعروفة في القانون المدني على المسؤولية الإدارية، في الحكم الصادر بتاريخ 06/12/1855 المتعلق بقضية " ROTCHILD " ، حيث قرر صراحة أن العلاقات بين الدولة وموظفيها والمرافق العامة من ناحية وبين الأفراد من ناحية أخرى لا تخضع لنصوص القانون المدني لوحدها، و أن مسؤولية الإدارة عن أعمال أو أخطاء موظفيها ليست عامة و لا مطلقة و تتغير تبعا لطبيعة كل مرفق عام .
ثم أيدت محكمة التنازع إتجاه مجلس الدولة الفرنسي من خلال قرار بلانكو الشهير Blanco الصادر في 08/02/1873 و الذي يعد أهم تكريس قضائي للمسؤولية الإدارية للمرفق العام، و تتمثل
وقائعه في انه تعرضت الطفلة إجينز بلانكو لحادث مرور تسببت فيه عربة مقطورة تابعة لوكالة التبغ، فرفع والدها دعوى امام القضاء العادي ضد الدولة للحصول على تعويض جبرا للضرر الذي أصاب ابنته، إلا أن وكالة التبغ دفعت بعدم إختصاص المحاكم العادية، و أن مجلس الدولة هو الجهة المختصة، وهو ما ادى إلى عرض النزاع على محكمة تنازع الاختصاص التي أصدرت قرار في الموضوع بناء على تقرير مفوض الحكومة السيد دافيد و قد تضمن عدة مبادئ هي:
1 ـ أن الدولة مسؤولة عن الأضرار التي تصيب الأفراد و التي يسببها الأشخاص الذين تستخدمهم، و أن هذه المسؤولية لا تخضع لمبادئ القانون المدني التي تحكم العلاقة بين الأفراد على أساس أن نصوصه المراد تطبيقها في مجال مسؤولية الإدارة لا ترمي إلى تنظيم مسؤولية الإدارة حيث تنص على مسؤولية الأفراد العاديين، و هو ما لا ينطبق على الدولة أو الإدارات العامة و موظفيها، كما أن هذه النصوص وضعت في وقت سيطرت فيه قاعدة عدم مسؤولية الإدارة عن أعمالها هذا من ناحية، و من ناحية أحرى فإن القواعد المدنية تقييم المسؤولية على أساس علاقة المتبوع بالتابع، في حين أن علاقة الإدارة بموظفيها هي علاقة تنظيمية و ليست تعاقدية، كما أنه لا يمكن تطبيق قواعد مسؤولية المتبوع عن التابع في
حالة عدم إسناد الفعل الضار لموظف معين و هو ما يقتضي استبعادها لأنها لم تعد تواكب نشاط الإدارة و لا تليق بطبيعة عملها و بالنتيجة وضع قواعد بديلة أكثر ملائمة لطبيعة النشاط الإداري سميت بقواعد القانون الإداري
و يكون بذلك قرار بلانكو قد استبعد صراحة تطبيق أحكام القانون المدني، و كرس الخصائص المتعلقة بالقواعد التي تطبق على المرفق العام.
2 ـ أن هذه المسؤولية ليست مطلقة و لا عامة، و لها قواعد خاصة غير مستقرة و ثابتة و إجراءات تحكمها تختلف باختلاف حاجة المرفق و ضرورة التوفيق بين حقوق الدولة و حقوق الأفراد .
3 ـ تختص المحاكم الإدارية بالنظر و الفصل في قضايا المسؤولية الإدارية و التعويض عن الأضرار الناتجة عن سير المرافق العامة .
و يكون بذلك قرار بلانكو قد استبعد بصفة صريحة و نهائية اختصاص القضاء العادي انطلاقا من نظرية الدولة المدنية " L’état débiteur " و فكرة امتيازات السلطة العامة و هي نفس الأسس التي استند عليها مفوض الحكومة دافيد في تقريره . إذ أقر بمسؤولية مصنع التبغ الذي يعتبر مرفق عام كغيره من المرافق التي تشكل النظام المالي للدولة و باعتبار أن هذه المرافق هي فروع للإدارة و الدولة تستعمل في تسيير المرافق السلطة العامة، فإن منازعاتها تخضع للقضاء الإداري.
و بالتالي أصبحت الدولة مسؤولة حتى وإن كان الموظف الذي تسبب في إحداث الأضرار ليست له صفة موظف دائم و إنما عامل مؤقت أو شخص وظف من طرفها للقيام بعمل معين و بموجب عقد محدد المدة .
و بذلك أصبح مجلس الدولة الفرنسي يقر بمسؤولية الإدارة عن الأخطاء المرتكبة من طرف موظفيها و يقضي بتعويض الأفراد المتضررين، مع أن مرتكب الحادث هو شخص عادي لا يتمتع بامتيازات السلطة العامة، بعد أن كان فيما مضى يفصل فقط في دعاوى إلغاء القرارات و الأعمال الصادرة عن السلطة العامة و التي تستعمل فيها امتيازات السلطة العامة.
و بموجب هذا القرار تغير مفهوم النشاط الإداري من كل نشاط تستعمل فيه الإدارة امتيازات السلطة العامة إلى كل عمل تقوم به الإدارة لتسير المرفق العام، و هو ما ينجر عنه مسؤوليتها عن الأضرار اللاحقة بالغير أثناء سير هذا المرفق، و بذلك و بعد قرار بلانكو أصبح ينظر إلى هدف النشاط، أي هل تهدف الإدارة من وراء النشاط الممارس إلى تسيير مرفق عام و تحقيق الصالح العام ؟
و يعد بذلك قرار بلانكو نقطة تحول كبيرة في تاريخ القضاء الفرنسي و قفزة نوعية من عدم مسؤولية الإدارة إلى المسؤولية الإدارية و نقطة تحول نحو الإستقلالية، ليس فقط بالنسبة للمسؤولية الإدارية و إنما أيضا بالنسبة للقانون الإداري ككل، إذ أنه أحدث هزة كبيرة في إثبات ذاتية القانون الإداري باعتباره أ مجموعة قواعد تحكم الإدارة و تتضمن أحكاما استثنائية خاصة لا مثيل لها في القانون الخاص.
و قد صدرت عدة قرارات أخرى بعد قرار بلانكو تؤكد مسؤولية المرافق العمومية منها قرار تيريي Terrier الصادر في 06/02/1903 المتعلق بمسؤولية المرافق العامة القومية، و قضية فيتري Feutry الصادر في 28/02/1908 الذي أقر مسؤولية المرافق العامة المحلية .
الفرع الثاني: النظام الجزائري
كما أشرنا سابقا فإن الجزائر قد عرفت و كرست مبدأ مسؤولية الإدارة في مرحلتين مرحلة ما قبل الإحتلال و التي نتطرق فيها للنظام القضائي الإسلامي و تطبيقاته، و مرحلة ما بعد الإستقلال.
I ـ مبدأ المسؤولية الإدارية قبل عهد الاستقلال:
لا يمكن دراسة التاريخ القانوني للجزائر قبل الإحتلال دون التطرق للنظام القانوني الإسلامي الذي كان مطبقا في الجزائر قبل الإحتلال الفرنسي باعتبارها دولة إسلامية تطبق مبادئ و قواعد الشريعة الإسلامية.
و يعد المذهب الإسلامي أول مذهب أقر المسؤولية بصفة عامة و الإدارية بصفة خاصة عن الأضرار الناتجة عن السلطة التنفيذية الممثلة في الخلفاء و اعوانهم أو السلطة القضائية الممثلة في القضاة و معاوينهم ، و ذلك تطبيقا لمبادئ الشريعة الإسلامية التي تحث على رفع الأضرار عن الرعية و مساءلة مسببيها مهما كانت الجهة التي صدر عنها الضرر، و من هذه المبادئ و القواعد قوله صلى الله عليه و سلم: " لا ضرر ولا ضرار في الإسلام" قوله تعالى: " يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي و جعلته بينكم محرما فلاتظالموا
و قوله: " اتقوا الظلم فإن الظلم ظلمات يوم القيامة " فقد عمل النبي عليه الصلاة و السلام على إخضاع الخلفاء و الولاة و الجنود و الموظفين للقانون و الحرص على عدم إعتدائهم على حقوق الرعية، و لقد ااحتذىالخلفاء الراشيدين من بعده بحذواه إذ عملوا على ترسيخ و توسيع مبدأ مسؤولية الدولة الإسلامية
إلا أنه و مع التطور التاريخ الذي عرفته الأمة الإسلامية و غلبة الطابع الدنيوي أصبح من الضروري إيجاد نظام قانوني و قضائي يتولى تطبيق مبدأ المسؤولية و تعويض المتضررين عن الأضرار الناجمة عن أعمال الدولة أو موظفيها، فظهر ديوان المظالم كجهة قضائية إدارية بالمفهوم الحديث تتولى مقاضاة الولاة رجال الدولة الذين لا يمكن للقضاء العادي مقاضاتهم، و قد باشر الخلفاء الراشدون النظر في المظالم بعد الرسول صلى الله عليه و سلم بأنفسهم كما فعل عثمان بن عفان وعمر بن عبد العزيز و أو بواسطة معاونيهم.
و قد كرسوا هذا المبدأ بإعمال قاعدة مسؤولية المتبوع عن أعمال تابعيه في نطاق المسؤولية المدنية و التي يتطلب قيامها ثلاثة شروط، علاقة التبعية بين التابع و المتبوع، خطأ التابع و العلاقة السببية بين خطأ المتبوع و ما إستخدم التابع من أجله.
و إذا ما أردنا الإشارة إلى بعض الأمثلة عن تطبيق مبدأ المسؤولية في الشريعة الإسلامية فإننا نجدها كثيرة نذكر منها :
1 ـ قتل خالد بن الوليد شخص في قبيلة جذيمة بعد أن أعلن أهلها الإسلام فوصل ذلك للنبي صلى الله عليه و سلم فدفع دية لهذه القبيلة و رفع وجهه إلى السماء قائلا: " اللهم أني أرا إليك مما فعل خالد ".
2 ـ روى أبو يوسف أن رجلا أتى عمر بن عبد العزيز و قال له: " يا امير المؤمنين زرعت زرعا فمر به جيش من اهل الشام فأفسده فعوض الخلفية عشرة ألاف درهم "
و إذا ما بحثنا عن تطبيق مبدأ المسؤولية في الدولة الجزائرية فإننا نجد أن حكامها الأولين قد حذو حذوحكام الدولة الإسلامية، إذ كان أمراء بنى الأغلب و الفاطمين و سلاطين الموحدين و المرابطين و بنى مرين و بنى زيان يجلسون لنظرا لمظالم و يعتبرونها من صلب وظيفة الإمارة.و قد أبقي على ولاية المظالم في عهد الأتراك مع بعض الاختلاف.
و في عهد الأمير عبد القادر طبق مبدأ مسؤولية الدولة بصفة واسعة و موضوعية، إذ حذى حذو الخلفاء الراشدين و تولى النظر بنفسه في ولاية المظالم و حرص على تطبيق أحكام الشريعة الإسلامية، إذ كان يفصل في التظلمات المرفوعة إليه ضد موظفي الدولة و يتولى معاقبتهم مهما سمت درجة وظائفهم و مراكزهم، و يصدر في ذلك أحكام نهائية غير قابلة للطعن فيها .
II ـ مبدأ المسؤولية الإدارية بعد الاستقلال:
إختارت الدولة الجزائرية بعد الإستقلال الإستمرار في تطبيق التشريع الفرنسي خوفا من الوقوع في فراغ قانوني و طبقت ذلك وفقا للقانون 62-153 المؤرخ في 31/12/62 ، الذي قضى باستمرارية تطبيق التشريع الفرنسي إلا ما يتنافى مع السيادة الوطنية كأن يتعلق الأمر بالسياسة الداخلية و الخارجية للدولة الجزائرية أو التفرقة العنصرية، و قد ورد في ديباجة هذا القانون تبرير حول إختيار المشرع لهذا التمديد بقوله: " إذا كانت الظروف لا تسمح بإعطاء البلاد تشريع يتماشى مع احتياجاتها و طموحاتها فإنه من غير المعقول تركها تسير بدون قانون، و لذلك كان من الضروري تمديد مفعول القانون القديم و إستبعاد الأحكام التي تتنافي و السيادة الوطنية إلى أن يتم التمكن من وضع تشريع جديد " .
و بموجب الأمر رقم 63-218 المؤرخ في 18/06/1963 تم إنشاء المجلس الأعلى كجهة نقض بالنسبة للقضاء العادي و الإداري.و لم تدم المرحلة الإنتقالية التي شهدها النظام القضائي طويلا، إذ صدر الأمر رقم 65-278 المؤرخ في 16/11/1965 و تضمن عدة إصلاحات و تنظيم قضائي جديد، إذ وضع حدا للإزدواجية في مجال المنازعات بإلغاء المحاكم الإدارية الثلاثة (الجزائر، وهران، قسنطينة) و نقل اختصاصاتها للغرف الإدارية بالمجالس القضائية التي أصبحت بموجب المادةالأولى منه 15 خمس عشرة مجلسا، و أسند للغرفة الإدارية بالمجلس الأعلى مهمة النظر ابتدائيا و نهائيا في الطعون بالبطلان في القرارات الإدارية و تفسيرها و فحص مدى مشروعيتها، كما تولى مجلس الثورة مهمة التشريع خلفا للمجلس الوطني، و قد جعلت هاته الإصلاحات و غيرها من النظام القضائي الجزائري نظاما متميزا عن النظام الفرنسي، و أثبتت الدولة الجزائرية من خلالها أنها حققت نجاحا على مستوى المنظمة القانونية و القضائية بالقضاء على نظام الإزدواجية باعتبار أحد مخلفات الإستعمار.
و في المقابل كان تطبيق مبدأ مسؤولية الدولة بعد الإاستقلال أمر حتمي و ضروري بعد المعاناة الطويلة التي عانى منها الجزائريين من استبداد و تعسف الإدارة الإستعمارية التي طبقت مبدأ عدم المسؤولية بكل أبعاده و آثاره رغم تقدم النظرية الفرنسية و تكريس مبدأ المسؤولية في فرنسا و حتى في الجزائر لكن بالنسبة للفرنسيين و الأجانب فقط.
و قد سار القضاء الجزائري و حتى المشرع على نفس درب التشريع و القضاء الفرنسي، إذ طبق النظرية الفرنسية المتكاملة قضائيا و تشريعا و فقهيا المتعلقة بمبدأ المسؤولية الإدارية، و كرسها في العديد من القرارات القضائية الصادرة عن المجلس الأعلى أو مجلس الدولة بعد إنشائه بموجب القانون العضوى
98-01 المؤرخ في 30/05/98 ، و كذا من خلال العديد من النصوص التشريعية و التي نذكر البعض منها فقط على سبيل المثال لأنه سيتم التطرق لها بنوع من التفصيل في الفصل الثاني من المبحث.
إذ أقر مجلس الدولة (المحكمة العليا حاليا) مسؤولية الإدارة في القرار الصادر في 17/04/82 في قضية وزير الصحة العمومية و مدير القطاع الصحي لمدينة القل ضد "ع. ط" و من معه، و قدجاء في إحدى حيثياته: " حيث أن مسؤولية الإدارة هي مسؤولية خاصة تخضع لقواعد ذاتية لها، و أن أحكام القانون المدني هي أجنبية غير مطبقة عليها، و كذا قضية حميدوش ضد الدولة إذ أقر أن الإدارة مسؤولة على أساس خطأ مرفقي و بالتالي فهي ملزمة بالتعويض، و ذلك من خلال القرار الصادر في 08/04/66 ، و أقر أيضا مسؤولية وزارة العدل في قضية بلقاسمي 17/04/1972 على أساس عدم سير مرفق القضاء .
كما صدرت عدة نصوص تشريعية هامة تم بموجبها التوسع في أسس المسؤولية القانونية من الخطأ الشخصي للموظف إلى الخطأ المرفقي ثم ظهرت نظرية المخاطر الإدارية، و من بين هذه النصوص المادة 17/2 من القانون الأساسي للوظيفة العامة.
و المادة 139-145 من قانون 90-08 المتعلق بالبلدية التي كرست مسؤولية البلدية عن الأخطاء التي يرتكبها رئيس المجلس الشعبي البلدى و المنتخبون البلديون و موظفي البلدية و كذا مسؤولية البلدية عن الخسائر و الأضرار الناجمة عن الجنايات و الجنح المرتكبة بالقوة العلنية أو بالعنف أو خلال التجمهر والتجمعات و هو ما تقره أيضا المادة 118 من قانون 90-09 المتعلق بقانون الولاية التي تكرس مسؤولية الولاية.
و تجدر الإشارة إلى انه قد تقررت أيضا مسؤولية الإدارة بموجب نص دستوري المادة 145 من دستور 1996
و بتفحصنا لقرارات الغرفة الإدارية لمجلس قضاء بجاية وجدنا أن هناك تكريس واضح و كبير لمبدأ مسؤولية الإدارة، و مثال ذلك القرار الصادر بتاريخ 17/02/98 بين ع. ل القطاع الصحي لخراطة ، و القرار الصادر بتاريخ 10/06/2003 بين ورثة (ب . ع ) و رئيس بلدية اوزلاقن ، القرار الصادر بتاريخ 24/02/2004 بين خ. س و إدارة الجمارك .
المبحث الثاني: خصائص المسؤولية الإدارية
كما بيناه في المبحث السابق فإن قرار بلانكو الصادر عن محكمة التنازع الفرنسية يعتبر نقطة التحول من مرحلة عدم مسؤولية الإدارة إلى مرحلة تقرير مسؤوليتها صراحة و قد اعتبر لمدة طويلة كقرار مبدئي و الحجر الأساس للقانون الإداري برمته كونه وضع القواعد الأساسية و بين خصائص المسؤولية الإدارية، لكن اليوم كثير من الكتاب يجدون أنه قديم و ليس بالأهمية التي أعطيت له، لهذا ارتأينا التطرق إليه بتفاصيل أكثر في المطلبين التاليين:
المطلب الأول: خصائص النظام القانوني للمسؤولية الإدارية على ضوء قرار بلانكو
لاستخراج هذه الخصائص يستوجب علينا الإشارة لمختلف المراحل التي مرت بها القضية، تتمثل وقائعها أن المدعوة " Agnès Blanco" طفلة في الخامسة من عمرها تعرضت لحادث تسببت فيه عربة مقطورة تابعة لوكالة التبغ التي كانت تنقل إنتاج هذه الأخيرة من المصنع إلى المستودع، مما سبب لها أضرارا جسيمة.
بادر والد الضحية بالإجراءات فرفع دعوى أمام القاضي العادي ضد ممثل الدولة مؤسسا دعواه على أحكام القانون المدني، لا سيما المواد 1382 و 1383 منه و ما يليها، طالبا مبلغ 40 ألف فرنك فرنسي يدفع بالتضامن بين العامل، (سائق المركبة ) و الدولة كتعويض عن الضرر الذي أصاب ابنته.
دفع مدير مقاطعة بوردو بعدم اختصاص المحاكم العادية للنظر في القضية و الفصل فيها و أكد أن وكيل الدولة هو صاحب الاختصاص، و هو ما أدى إلى عرض النزاع على محكمة التنازع الفرنسية التي أصدرت قرارها في الموضوع بترجيح صوت وزير العدل باعتباره رئيسا للمحكمة بعد انقسام أعضاءها إلى
فريقين متساويين، و قضت في 08 فيفري 1873 باختصاص القضاء الإداري بالنظر في النزاع بناء على تقرير مفوض الحكومة السيد " دافيد " حيث جاء في حيثية القرار الشهيرة: " إن مسؤولية الدولة عن الأضرار التي تلحق الأفراد بسبب تصرفات الأشخاص الذين تستخدمهم في المرفق العام لا يمكن أن تحكمها المبادئ التي يقررها القانون المدني، للعلاقات ما بين الأفراد و هذه المسؤولية ليست بالعامة و لا بالمطلقة بل لها قواعدها الخاصة التي تتغير حسب حاجات المرفق و ضرورة التوفيق بين حـقوق الـدولة و الحـقوق
الخـاصة ".
فمن خلال هذه الحيثية يمكننا استخراج خصائص المسؤولية الإدارية و المتمثلة في:
الفرع الأول: النظام القانوني للمسؤولية الإدارية نظام قضائي أصلا
و تظهر هذه الخاصية من جهتين:
أن المصدر الأصيل و الأساسي للنظام القانوني للمسؤولية الإدارية هو القضاء الإداري الفرنسي على رأسه محكمة التنازع الفرنسية و مجلس الدولة، فمثلا من خلال فكرة التفرقة بين الخطأ الشخصي والخطأ المرفقي أوجد القضاء الإداري قواعد المسؤولية الإدارية على أساس الخطأ، و كذا العلاقة بين الخطأ المرفقي و الشخصي و النتائج المترتبة عن ذلك في إطار نظرية الجمع بين الأخطاء ثم المسؤوليات، كذلك أحكام و قواعد و تقنيات العلاقة بين الخطأ التأديبي والخطأ الجنائي بالخطأ المرفقي و نتائجهما.
إضافة إلى أحكام نظرية المخاطر كأساس لقيام المسؤولية الإدارية بدون خطأ و ذلك بتبيان أحكامها، أسسها، شروطها و نطاق تطبيقها.
و يظهر كل هذا من خلال قـــرار " Anguet" ، " Lemonier" ، " Mimeur" ، " Laruelle" ، " Solze" ، " Effimief" ، " Duplany" ، " Lafleurette" ….وغيرها والتي جسدت التطور المستمر للمسؤولية الإدارية و قبل كل هذا مبدأ مرونة النظام القانوني للمسؤولية الإدارية و قابليته للتغير طبقا لدواعي المصلحة العامة و المرفق العام المجسدين من خلال قرار بلانكو.
و أكثر أهمية مما سبق فإن المصدر الأصيل لنظام المسؤولية الإدارية و المتمثل في القضاء يرجع إلى قضاء محكمة التنازع باختصاص القضاء الإداري في نظر هذا النوع من المنازعات باعتبارها الجهة الوحيدة المختصة و بالتالي هناك ارتباط بين الاختصاص و المصدر في نظام المسؤولية الإدارية.
الفرع الثاني: النظام القانوني للمسؤولية الإدارية نظام أصيل و مستقل
باعتبار أن المسؤولية الإدارية مرتبطة بالنشاط الإداري و المرافق العامة المتضمنة لمظاهر السلطة العامة، و المستهدفة لتحقيق المصلحة العامة في نطاق الوظيفة الإدارية للدولة، فإنه لا بد من استبعاد قواعد القانون المدني لاسيما المسؤولية المدنية، كونها لا تتناسب و نشاط الإدارة، و هو ما جسده قرار بلانكو بإرسائه مبدأ أن قواعد المسؤولية الإدارية ليست قواعد عامة و لا مطلقة وإانما هي قواعد خاصة تتجاوب وضرورات و دواعي المصلحة العامة ، احتياجات ، متطلبات المرافق العامة و نظامها القانوني.
بمفهوم المخالفة أن الطابع الخاص للقواعد المطبقة على المرافق العامة يحمل في طياته معنيين كونه مستقل باستبعاده القانون المدني و كونه أصيل بإيجاد نظام خاص به من حيث المنطق و النتائج المتوصل إليها، واستقلالية و أصالة هذا النظام تجد مبرراتها في حاجات المرفق العام المتغيرة بتغير النشاط الإداري.
الفرع الثالث: النظام القانوني للمسؤولية الإدارية قائم على مبدأ التوفيق بين المصلحة العامة و المصلحة الخاصة
هذا يعني أن قواعد المسؤولية الإدارية تتضمن في محتواها أحكاما من أجل إيجاد التوازن بين المصلحة العامة و مقتضيات تسيير المرافق العامة، و حتمية الحفاظ على حقوق و حريات الأفراد في مواجهة الأعمال الإدارية الضارة،و يظهر هذا المبدأ جليا من خلال كفتين :
فمقابل عدم قيام مسؤولية الإدارة تقوم مسؤولية الموظف العام الشخصية في مواجهة المتضررين من جراء أخطاءه، و يدفع التعويض من ذمته المالية في نطاق قواعد و أحكام المسؤولية المدنية و أمام جهات القضاء العادي.
و أيضا عدم قيام مسؤولية الإدارة إلا على أساس الخطأ الجسيم كحالة المسؤولية الإدارية عن مرفق الضرائب، و كذا قيام المسؤولية عن الأخطاء الطبية و القضائية، عن مرفق مستشفيات الأمراض العقلية…الخ.
تقوم مسؤولية الإدارة بدوره خطأ و على أساس نظرية المخاطر لصالح حماية حقوق و حريات الأفراد.
إضافة لهذا و في إطار الآثار المترتبة عن قاعدة الجمع بين المسؤوليات، للضحية حق الاختيار في مرافعة الإدارة أمام القضاء الإداري عن الأضرار الناتجة عن الخطأ المرفقي أو مرافعة الموظف عن الخطأ الشخصي المولد للضرر، أمام جهات القضاء العادي وفقا لما يراه أصلح و أضمن لحماية حقوقه لكنه،
بالمقابل لا يمكنه طلب التعويض من الإدارة و الموظف معا كما قال الأستاذ DELAUBADER :" يقابل مبدأ جمع المسؤوليات مبدأ عدم جمع التعويضات إلا إذا كانت هذه التعويضات مبنية على أسس مختلفة ".
و ما تجدر الإشارة إليه أن هذه الخصائص ليست مطلقة و هو ما سنتطرق إليه في المطلب الموالي من خلال التعليق على قرار بلانكو و الخصائص التي كرسها.
المطلب الثاني: حدود الخصائص التي أقرها قرار بلا نكو
بين الإجتهاد القضائي و التشريع أن الخصائص التي كرسها قرار بلا نكو ليست مطلقة و يظهر ذلك فيما يلي :
الفرع الأول: فيما يخص كون النظام القانوني للمسؤولية الإدارية قضائي، أصلا
فيما يخص الوجه الأول: باعتباره ذو مصدر قضائي يمكن القول أن هذه الخاصية نسبية إذ أن نظم المسؤولية الإدارية تنقسم إلى قضائية و تشريعية، هذه الأخيرة تجد مصدرها في التشريع أصلا، حيث يتدخل المشرع بوضع قواعد المسؤولية الإدارية في مجالات متنوعة مثل نظام مسؤولية مرفق القضاء، نظام مسؤولية المعلمين و نظام مسؤولية البلدية .
وفيما يخص الوجه الثاني: باعتبار القضاء الإداري الجهة الوحيدة المختصة في نظر المنازعات الناشئة عن المسؤولية الإدارية فإن الأستاذ " Renu Chapus " يرى أن قرار بلا نكو لم يعرف المرافق العامة كما لم تعرفها القوانين السابقة كقانون 1790، و يضيف أن صياغة القرار تصبح أكثر وضوحا بتعريف العمل الإداري باعتباره كل عمل تقوم به الإدارة و يكون هدفه تحقيق الصالح العام أو تسيير مرفق عام هذا حتى تظهر الغاية من منح القضاء الإداري الإختصاص في النظر في المسائل المتعلقة بمسؤولية الإدارة عن الأضرار المرتكبة من طرف موظفيها.
كما يرى أن المعيار الأساسي الذي تم على أساسه منح الإختصاص للقضاء الإداري ليس المعيار المادي باعتباره المعيار الظاهر و المتمثل في نشاط المرفق العام، و إنما هو معيار السلطة العامة باعتبار أن الدولة في تسييرها للمرافق العامة تستعمل دائما امتيازات السلطة العامة و هي الفكرة الأساسية التي جاء
بها قرار بلا نكو و إن لم تكن واضحة، و يضيف أنه أخذ هذا المعيار من حيثيات تقرير مفوض الحكومة الذي استعمل كثيرا مصطلح السلطة العامة و إن كان يقول تارة الدعوى المرفوعة ضد الدولة بمناسبة نشاط مرفق عام و يقول في فكرة أخرى الدعوى التي ترفع ضد الدولة باعتبارها السلطة العامة، و في الحقيقة هما عبارتين مترا دفتين لهما نفس المعنى، و استعمالها بالتناوب كان لتفادي التكرار. كما أنه لم يركز على نشاط الدولة، و إنما على السلطة العامة التي تستعملها الدولة في تسيير المرافق العامة.
و بالنسبة للإجتهاد القضائي فإن معيار المرفق العام ليس معيارا مطلقا لتبرير اختصاص القاضي الإداري، بل يوجد معايير أخرى أهمها معيار السلطة العامة المثار من قبل مفوض الحكومة في تقريره حول قرار بلا نكو، كمعيار كاف لتقرير هذا الإختصاص في مجال المسؤولية و بالعكس من ذلك معيار المرفق العام وحده لا يكفي دائما لتقرير اختصاص القاضي الإداري، فيمكن أن يثار في منازعة دون أن تكون هذه الأخيرة من اختصاص القاضي الإداري كما في حالة تسيير خاص لمرفق عام.
و المشرع الفرنسي نفسه خرج عن قواعد الإختصاص المكرسة من قبل محكمة التنازع في قرار بلا نكو خاصة من خلال القانون المِِِِِِؤرخ في 31/12/1957 أين أصبح من اختصاص المحاكم العادية كل نزاع يتعلق بالتعويض بكل أنواعه عن الأضرار الناتجة عن السيارات مهما كانت.
و هو المنهج الذي سار عليه المشرع الجزائري من خلال المادة 07 مكرر من قانون الإجراءات المدنية بنصه:
" خلافا لأحكام المادة 07 ، تكون من اختصاص المحاكم:
المنازعات المتعلقة بكل دعوى خاصة بالمسؤولية المدنية و الرامية لطلب تعويض الأضرار الناجمة عن سيارة تابعة للدولة أو لإحدى الولايات أو البلديات أو المؤسسات العمومية ذات الصبغة الإدارية ".
الفرع الثاني: فيما يخص كون النظام القانوني للمسؤولية الإدارية أصيل و مستقل
إن استقلالية المسؤولية الإدارية و أصالتها عن القانون المدني ليست مطلقة كما أظهرها قرا ر بلا نكو:
ففي كثير من الحالات يقرر القاضي الإداري تطبيق القانون المدني أو المبادئ المقررة فيه بما يتماشى و الوقائع المطروحة عليه خاصة فيما يخص تقدير التعويض و طرقه و غيرها.
إضافة و باعتبار كل من المسؤولية الإدارية و المسؤولية المدنية من أنواع المسؤولية القانونية، فإن نظام كل منهما يشترك مع الآخر في بعض أحكام المسؤولية القانونية كالشروط و الأركان.
كما أنهما نظامان متكاملان و متصلان خاصة و أن نظام المسؤولية الإدارية حديث النشأة، مما يجعله يستمد أحكام و تقنيات تقدير كل من الضرر المادي و المعنوي و كيفية تقدير التعويض في المسؤولية الإدارية لتحقيق و تطبيق مبدأ التعويض الكامل في دعوى المسؤولية و التعويض الإداري.
و ما تجدر الإشارة إليه أن النظام القانوني للمسؤولية المدنية يطبق بصفة جزئية، و استثنائية في النظام القضائي القائم على أساس مبدأ ازداوجية القضاء عكس النظام القضائي الأنجلوسكسوني باعتباره نظاما موحدا.
و في الأخير يمكن القول أن قرار بلا نكو حتى و إن أكل عليه الدهر و شرب حسب البعض، إلا أنه يبقى الأساس الذي يعتمد عليه في كل زمان بدليل أن النتائج المترتبة عنه لا تزال مطبقة ليومنا هذا وصدق من قال أنه: " ثورة حقيقية في الاجتهاد القضائي ".
بعد تطرقنا إلى المسؤولية الإدارية كمبدأ ، من حيث نشأته و تطوره و أهم خصائصه ، فإن السؤال الذي يتبادر إلى أذهاننا هو : على أي أساس تقوم هذه المسؤولية ؟ فهل هو نفسه الذي تقوم عليه المسؤولية المدنية في القانون العام (le droit commun) ، أم أن الأسس تختلف؟
لقد رأينا عند تطرقنا إلى تطور مبدأ المسؤولية الإدارية ، أن هذه الأخيرة كانت في بداية الأمر تقوم أساسا على فكرة " الخطأ" ، باعتباره الأساس التقليدي للمسؤولية عامة . فهل يعني ذلك أن هذه الفكــرة – أي الخطأ- قد تمت استعارتها بنفس الصفة التي هي عليها في القواعد العامة؟ أم أنه أدخلت عليها بعض المميزات و الخصائص؟
كما رأينا كذلك أن الاجتهاد القضائي فيما بعد قد خطا خطوة كبيرة في هذا المجال حين وسع من نطاق المسؤولية الإدارية مؤسسا نظاما جديدا للمسؤولية " بدون خطأ" ، و سوف نتطرق إلى هاذين النظامين بالتفصيل فيما يلي:
لمبحث الأول : نظام المسؤولية الإدارية على أساس الخطأ
تقوم المسؤولية عامة على ثلاثة أركان أساسية و هي – كما هو معلوم-: الخطأ و الضرر و العلاقة السببية. و ما يهمنا في مجال القانون الإداري هو " الخطأ"، فالقانون الإداري لم يستعر هذه الفكرة بالحال الذي هو عليه في القانون المدني ، ففي مجال المسؤولية الإدارية نجد ميزة خاصة – أضفاها مجلس الدولة الفرنسي- تتمثل في التفرقة بين الخطأ الشخصي و الخطأ المرفقي.
فكيف ظهرت هذه التفرقة ؟ و ما هي أهم جوانب كلا الخطأين، و العلاقة بينهما؟
المطلب الأول : ظهور التفرقة بين الخطأ الشخصي و الخطأ المرفقي
الفـرع الأول : مرحلة عدم الاعتراف بمسؤولية الموظف العام
نصت المادة 15 من إعلان حقوق الإنسان و المواطن الصادر بتاريخ 26غشت 1789 – على إثر الثورة الفرنسية-، على انه: " يحق للمجتمع مساءلة أي موظف في إدارات الدولة " ، هذه المادة كان من شانها أن تعترف بالمسؤولية الشخصية للموظف، و لكن آنذاك أعطي لها تفسيرا ضيقا ، و تم فهمها على أنها مسؤولية سياسية للمسؤولين و أن مسؤولية الموظف هي مسؤولية تأديبية فقط .
بالإضافة إلى المنع الذي كان يصادفه القاضي العادي لمراقبة أعمال الموظفين العموميين و الذي يفرضه مبدأ الفصل بين السلطات و التفسير الضيق له الذي أتى به قانون 16-24 غشت 1790 ، في وقت لم تحدث فيه جهات قضائية إدارية ( إلى حين سنة 1872 ) .
و بالتالي فالقول بظهور فكرة المسؤولية الشخصية للموظف يتزامن مع ظهور دستور العام الثامن ، بحيث تنص المادة 75 منه – و التي جاءت في باب ضمانات الموظف – على إمكانية متابعة الموظف أمام المحاكم العادية و لكنها أوقفتها على شرط الحصول على ترخيص من مجلس الدولة .
و لكن رغم هذا، فإن مجلس الدولة – حديث النشأة آنذاك – كان يرفض تسليم هذه التراخيص خوفا من خرق مبدأ الفصل بين السلطات و هذا بتدخل القضاء في عمل الإدارة.
الفرع الثاني: مرحلة الإعتراف بمسؤولية الموظف العام
بتاريخ 19 سبتمبر 1870 صدر مرسوم تشريعي عن الحكومة المؤقتة يلغي المادة 75 من دستور العام الثامن، و على إثر صدور هذا القانون كان مجلس الدولة و محكمة النقض الفرنسية – في بادىء الأمر – يجيزان المتابعات القضائية ضد الموظفين العموميين أمام القضاء العادي و هذا بكل حرية.
و لكن بصدور قرار " Pelletier" ، و الذي يعد قرارا مبدئيا في هذا الشأن، تم وضع مفهوم جديد لمسؤولية الموظف.
فالسيد Pelletier رفع دعوة أمام محكمة Senlis ضد كل من النقيب de L’Admirault ، الذي أمر بإعلان حالة الحصار في منطقة L’ oise إضافة إلى السيد M.Chopin محافظ المنطقة و السيــد M. Leudot محافظ الشرطة قصد إلغاء الحجز الذي وقع على صحيفته و استرجاع النماذج المحجوز عليها مع الحكم على المدعى عليهم بالتعويض تضامنا بينهم عن الأضرار اللاحقة به.
بالمناسبة تطرقت محكمة التنازع إلى أثار إلغاء المادة 75 من دستور العام الثامن من قبل المرسوم الصادر بتاريخ 19 سبتمبر 1870، فعلى خلاف التفسير الذي أعطته محكمة Senlis التي اعتبرت أن هذا المرسوم قد ألغى جميع الضمانات التي كانت ممنوحة للموظف، و التي كانت تحميه من جميع الدعاوى التي قد ترفع ضده أمام المحاكم العادية ليصبح وضعه شبيها بوضع الموظف في النظام الأنجلوساكسوني، فإن محكمة التنازع قد أعطت تفسيرا مغايرا و جد ضيق، إذ أن محافظ الحكومة دافيد " David " اعتبر أن نص المرسوم يجب أن لا
يتعارض أو يتناقض مع النصوص السابقة المكرسة لمبدأ الفصل بين السلطات، لا سيما قانون 16-24 غشت 1790، المادة 13 منه من الباب الثاني و كذا مرسوم 16 فروكتدور من العام الثالث .
فالمادة 75 من الدستور السالف الذكر لم تتحدث عن منع المحاكم العادية من مراقبة عمل الإدارة و إنما خصت فقط منع هذه المحاكم من مساءلة الموظفين الإداريين أمامها بسبب وظيفتهم. فمنع المحاكم العادية من مراقبة عمل الإدارة هي قاعدة اختصاص مطلقة و هي من النظام العام ، تهدف إلى حماية الأعمال الإدارية .
أما المنع من مساءلة الموظف بدون إذن مسبق فهي تهدف إلى حماية الموظف من الدعاوى التي لا أساس لها و هي ليست قاعدة اختصاص نوعي و إنما تعتبر قيدا على رفع الدعوى التي تباشر ضد الموظف العام متى كان في ذلك علاقة بوظيفته .
فالمرسوم الصادر عن الحكومة المؤقتة و الذي يلغي هذه المادة، قصد من ورائه إلغاء القيد الذي جاءت به. بالتالي، أصبحت للمحاكم العادية الحرية في قبول الدعاوى ( و هذا في حدود اختصاصها)، و لكنه من جهة أخرى لم يتم إلغاء الأحكام الأخرى التي تمنع المحاكم العادية من مراقبة أعمال الإدارة.
و منه اعتبر أن الحجز الذي قام به النقيب العسكري يعتبر إجراءا تحفظيا منوط بالضبط الإداري السامي باعتباره ممثلا عن السلطة العامة و هذا في حدود الاختصاصات التي يمنحها له القانون، فإن المسؤولية هنا ترجع على الدولة التي منحته هذه الصلاحيات.
و عليه وصل إلى النتيجة التالية:
" مادام أن طلب المدعي ينصب أساسا حول هذا التدبير التحفظي الذي يدخل ضمن الصلاحيات العسكرية للنقيب، هذا الأخير الذي لا يحمله المدعي ارتكاب أي "خطأ شخصي " من شأنه أن تترتب عنه مسؤوليته الشخصية ، فإن الدعوى بذاتها تستهدف بذلك القرار الإداري نفسه ( قرار الحجز) و ليس الموظف
شخصيا و ما دام أنها لا تثير أي عمل شخصي من شانه أن يقضي إلى مسؤولية الموظف الشخصية ، فإنها بذلك تخرج عن اختصاص المحاكم العادية ".
و من هذا تنجر التفرقة الشهيرة بين الخطأ الشخصي و الخطأ المرفقي ، و التي تتضمن وجهتين :
وجهة فيما يخص الاختصاص ووجهة فيما يخص الموضوع.
1- فيما يخص الاختصاص :
الخطأ الشخصي هو المعيار الذي يخرجنا عن المرفق ككل ، فيصبح بإمكانية القاضي العادي تطبيق نوع من المراقبة دون أن يكون بذلك قد تدخل في صلاحيات الإدارة نفسها، بينما الخطأ المرفقي على عكس ما ذكر ، له اتصال وثيق بالمرفق بحيث لا يستطيع القاضي العادي النظر فيه دون أن يعطي تقييما لسير المرفق
و هذا لا يدخل ضمن اختصاصه.
فهذه نتيجة حتمية للتمييز بين الخطأين . و لأن الاختصاص النوعي للمحاكم هو مسألة في غاية الأهمية باعتبارها من النظام العام ، فإن هذا جعل محكمة التنازع الفرنسية تبحث عن معايير للتمييز بين الخطأ الشخصي والخطأ المرفقي وهذا لتفادي مساءلة الإدارة أمام المحاكم العادية عن عمل لا يمكن فصله عن المرفق التابع له ، مما يجعله عملا إداريا بحثا ، تكون بموجبه المحاكم العادية غير مختصة للنظر فيه سواء كانت الدعوى موجهة ضد الموظف أم ضد الإدارة ( ولو أن توجيه الدعوى ضد الموظف شخصيا يسمح باختصاص المحاكم وإن كانت سترفضها في الموضوع متى ثبت انعدام أي خطأ شخصي ) .
2- فيما يخص الموضوع :
إن التمييز بين الأخطاء خلق تقسيما في المسؤولية بين الإدارة والموظف. فإذا كان الخطــأ الشخصي
تترتب عنه المسؤولية الشخصية للموظف وبالتالي فإنه يلتزم بالتعويض من ذمته المالية الخاصة ، فإن تحميله المسؤولية نفسها في حالة الخطأ المرفقي يعد إجحافا في حقه .
- وقد عمل القضاء بعد سنة 1873 على التمييز بين مسؤولية الموظف في مواجهة الضحية ( أ ) وبين مسؤولية الموظف في مواجهة الإدارة (ب ) ، وهذا على النحو التالـــي :
أ – مسؤولية الموظف في مواجهة الضحية:
حماية للمواطن من إعسار الموظف ، ومن جهة أخرى حماية للموظف من المتابعات التعسفية للمواطنين ، عمل القضاء على التضييق من مفهوم الخطأ الشخصي وبالتالي على تضييق المسؤولية الشخصية للموظف فوضع مجموعة من المعايير -نتطرق إليها فيما بعد - لأنه أدرك وجوب عدم التشدد في مسؤولية الموظف ، فقد يقتل فيه ذلك روح المبادرة ويجعله يتهرب من واجباته ، كما أنه ليس من العدل أن يتحمل الموظف كل هذه النتائج ، فقد يكون الخطأ بسيطا ولكن نتائجه وخيمة .
• ملاحظة: إن مجلس الدولة رغم الحلول التي جاء بها الفقهاء فإنه لم يتقيد بقواعد عامة وإنما كان يتصدى لكل حالة على حدى.
ب – مسؤولية الموظف في مواجهة الإدارة :
أحيانا قد نكون أمام خطأ شخصي، ولكن على الرغم من ذلك تلتزم الإدارة بالتعويض ، فالخطأ الشخصي الذي قد تحاسب عليه الإدارة الموظف قد لا يكون بالضرورة نفسه الذي قد تنسبه الضحية إليه
لان علاقة الموظف بالضحية تختلف عن علاقته مع الإدارة.
و الاختصاص يعود في الحالة الأخيرة إلى القضاء الإداري مادام أن الأمر يتعلق بالعلاقة (إدارة – موظف) ، ونحن في هذه الحالة الأخيرة بعيدين كل البعد عن ما جاء به قرار ''pelletier'' سواء في الموضوع أو الاختصاص.
المطلب الثاني : الخطأ الشخصي
لما يتضرر المواطن من فعل الإدارة فإنه يعين مباشرة الموظف الذي تسبب في ذلك الضرر فقد يكون رئيس البلدية الذي رفض أن يسلم له رخصة البناء أو الشرطي الذي تعدى عليه بالضرب...
فإذا كان ذلك العمل الضار يدخل في إطار الوظيفة أو بمناسبتها فإن الإدارة هي التي تتكفل بتغطية تلك الأضرار و لكن الأمر يختلف بالنسبة للحالات التي يتسبب فيها الموظف بأضرار للغير و هذا في ظروف متميزة تعطي للضحية إمكانية مقاضاة الموظف شخصيا لإلزامه بدفع التعويضات المستحقة. فالموظف في نهاية المطاف كبقية المواطنين العاديين عليه بجبر الضرر الذي قد يسببه لغيره.
كما أن الدعوى التي بإمكان الضحية رفعها ضد الموظف لا تكون ممكنة إلا في حالة ثبوت الخطأ الشخصي للموظف. فلابد إذا من تحديد مفهوم الخطأ الشخصي و تمييزه عن المفاهيم المماثلة له.
الفرع الأول : مفهوم الخطأ الشخصي
كما رأينا سابقا فإن هذا المفهوم انبثق عن قرار Pelletier الشهير الذي ميز بين الخطأ المرفقي الذي يخرج عن اختصاص القاضي العادي، و الخطأ الشخصي الذي على عكس ذلك يستطيع القاضي العادي التطرق إليه و النظر فيه دون أن يكون هناك أي مساس باستقلالية السلطات، هذا كل ما جاءت به محكمة التنازع في هذا الصدد فهي لم تعرف الخطأ الشخصي كما انها لم تضع معيارا معينا لتمييزه عن الخطأ المرفقي ، إلا ان قضاءها اللاحق بالإضافة إلى قضاء كل من مجلس الدولة و محكمة النقض حاولوا وضع معايير ثابتة للتمييز بين الخطأين، كما لعب الفقه دورا كبيرا في ذلك و هذا لتوضيح العلاقة بين الإدارة و أعوانها و جعلها أكثر شفافية.
I-أهم المعايير التي تميز بين الخطأ الشخصي و الخطأ المرفقي :
حاليا يمكننا القول أن القضاء و الفقه قد توصلوا إلى وضع حلول من شأنها أن ترفع كل لبس في هذا المجال، إذ تم الإجماع على ان الخطأ الشخصي هو كل خطأ منفصل عن الوظيفة ( détachable du service)، وذلك إذا ارتكب في إطار خارج عن الوظيفة المؤداة من قبل الموظف، أو سواء كان في إطار هذه الأخيرة و لكنه ينفصل عنها لأسباب معينة.
قبل التطرق إلى هذه المعايير من الأجدر ان نحاول إيجاد تعريف للخطأ بصفة عامة و لعل التعريف الذي جاء به Planiol يؤدي الغرض المطلوب، فقد عرفه هذا الأخير على أنه كل إخلال بالتزام سابق
( Un manquement à une obligation pré-existante)، فينبغي عدم الخلط بين الخطأ و اللامشروعية ، فإذا كان كل عمل غير مشروع يعد خطأ فإن العكس غير صحيح ، باعتبار أنه ليس كل خطأ
عمل غير مشروع. فالخطأ يدخل في إطار دعاوى القضاء الكامل التي يترتب عنها التعويض، بينما مبدأ اللامشروعية فإنه يدخل ضمن قضاء الإلغاء أو تجاوز السلطة و تقدير المشروعية و ينجر عنها الإلغاء.
أ- الخطأ الخارج عن الوظيفة :
و هو الخطأ الأكثر تشخيصا، و هذا لارتباطه بالحياة الشخصية للموظف بصفة لا تدع مجالا للخطأ المرفقي ، و هذا ما جاء به الفقيهين : MM. Vedel و Delvolvé ، فلا يمكن تحميل الإدارة تصرفا لا يعنيها بشيء و هذا مهما اختلفت درجة جسامته أو النية في إحداثه ، كالعسكري الذي يتسبب في حادث في طريقه إلى العمل و هذا بواسطة سيارته الخاصة أو الجمركي الذي يغتال شخصا بواسطة سلاحه و هذا خارج وظيفته أو الحريق العمدي الذي يقبل عليه رجل المطافيء خارج إطار وظيفته ، أو إهمال من قبل رائد ميناء طلب منه بصفة شخصية حراسة باخرة .
و لكن قد يكون الخطأ المرتكب خارج عن الوظيفة و لكننا لا يمكننا القول أنه ليست له اية علاقة بها غير ان تشخيص هذا النوع من الأخطاء يكون أكثر صعوبة فهو يجمع كافة الأخطاء غير الإرادية و التي و إن حدثت خارج الوظيفة، إلا ان هذه الأخيرة قد سهلت وقوعها عن طريق :
- سوءا الوسائل الممنوحة للموظف بمناسبة هذه الوظيفة ، و لدينا في هذا الصدد قرار Sadoudi ، أين تسبب شرطي في قتل شخص بواسطة سلاحه الذي يلزمه النظام الداخلي على الاحتفاظ به خارج الخدمة - أو عن طريق الاستغلال لأغراض شخصية لمهمة ممنوحة في إطار الخدمة كرجل المطافيء الذي ينحرف عن المسار المحدد في مهمته ليحدث حريقا في مكان آخر .
ب- الخطأ المرتكب في إطار الوظيفة و المنفصل عنها:
كأصل عام الخطأ المرتكب في إطار الوظيفة سواء اثناء ها او بمناسبتها يعتبر خطأ مرفقيا، و لكن إستثناءا عن هذا المبدأ فقد يعتبر هذا الخطا منفصلا عن المرفق و بالتالي شخصيا ، و هذا في حالتين اساسيتين هما :
1- الخطأ العمدي :
هذا المعيار يدعى كذلك معيار الأهواء الشخصية ( Passions personnelles ) و هي نظرية تقليدية لا تزال عبارتها الشهيرة متداولة إلى يومنا هذا و هي ما جاء به Lafferiére في خلاصته في قضية Laumonnier- Carriol :
" إذا كان العمل الضار موضوعيا و إذا كشف موظفا وكيلا للدولة معرضا لارتكاب أخطاء و ليس إنسانا بضعفه و أهوائه و غفلته فيبقى العمل إداري و بخلاف ذلك إذا انكشفت شخصية الموظف في أخطاء عادية أو اعتداء مادي أو غفلة فينسب الخطأ للموظف و ليس للوظيفة."
« Si l’acte dommageable est impersonnel, s’il révèle un administrateur mandataire de l’état plus au moins sujet à erreur et non l’homme avec ses faiblesses, ses passions et ses imprudences, l’acte
reste administrative, si au contraire la personnalité de l’agent se révèle par des fautes de droit commun, par une voie de fait, une imprudence, la faute est imputable au fonctionnaire et non à la fonction . »
فهذا المعيار يدفع بنا إلى البحث عن النية أو الدافع الذي حفز الموظف على إتيان الفعل الضار .
فقد يدفعه على ذلك الرغبة في الإضرار و سوء النية فيستغل منصبه ووظيفته للانتقام من شخص معين، كالشرطي الذي يلجأ إلى استعمال العنف أثناء أدائه لمهمة ما ، او الذي يقتل خطأ بدافع الانتقام كقضية ( Pothier) ، او موظف البريد الذي يتعدى على أحد المتعاملين . فكل خطا يتضمن النية بالإضرار يعتبر منفصلا عن الإدارة .
أو في حالة كذلك إذا ما استغل الموظف وظيفته لتحقيق مصلحة شخصية كالإختلاسات وتحويل الأموال ، أو السرقة المنظمة .
ونجد في هذا الصدد كل من محكمة النقض الفرنسية ومجلس الدولة الفرنسي يأخذان بمعيار نية الموظف حيث إعتبرت محكمة النقض بأنه يعتبر الخطأ شخصيا لما يتصرف الموظف بسوء نية أو لأجل تحقيق مصلحة خاصة ،
كما رأى مجلس الدولة بأنه لا يعتبر خطأ شخصيا في الحالة التي لم يتصرف فيها الموظف لأهداف بعيدة عن الصالح العام ولا بدون تحيز .
الخطأ الجسيم :
هذا المعيار جاء به كل من الفقيهين : Maurice Horiou ، Gaston Jeze.
كما نجد كل من Vedel وDelvolvé، الذين اعتبرا أن الخطأ يكون بجسامة فادحة إذا تجاوز الحد المعقول للأخطاء التي يمكن توقعها .
« Il y a faute personnel, si la faute commise est d’une gravite particulière dépassant la moyenne de fautes aux quelles on peut s’attendre . »
وهناك من أتى بتعريفات أكثر حصرا كالفقيه M.Moreau الذي حصرها في الأخطاء المهنية الجد خاصة « Faute professionnelle est très caractérisées » و الفقيه M.chapus الذي تكلم عن الخطاء ذات الجسامة التي لا تفتح مجالا للنقاش .
هذا المعيار يأخذ به القضاء و لكن بحذر كبير إذ عمل على تضييق مفهومه. فقد يتمثل هذا الخطأ إما في خروج تام عن أخلاقيات المهنة، و إما أخطاءا مهنية جد فادحة ، فهذا المعيار يخص عامة الأعمال المادية و ليس التصرفات القانونية ، لأن هذه الأخيرة نبحث فيها عن نية الموظف( معيار الخطأ العمدي) و لا نأخذ بعين الاعتبار جسامة الخطأ .
- IIالتمييز بين الخطأ الشخصي و المفاهيم الأخرى:
إن التطرق إلى الخطأ الشخصي يدفعنا إلى تمييزه عن بعض الأخطاء الأخرى و هذا لتوضيح مفهومه أكثــر و تفادي اللبس، كما سنتطرق إلى أثر أوامر الرئيس على تصرفات الموظف.
أ- الخطأ الشخصي و الخطأ الجزائي :
إذا كان الاتجاه الفقهي في بادئ أمره يجعل من الخطأ الجزائي صورة مثلى للخطأ الشخصي فإن ما جاءت به محكمة التنازع في قرار Thepaz ، زعزع من حجية هذه الفكرة فقد يتطابق المفهومين و لكن ليس في جميع الحالات .
فإذا كان الموظف بارتكابه لجريمة ما سيمتثل حتما أمام القاضي الجنائي فهذا لا يعني أنه مضطرا لدفع التعويضات للطرف المدني إلا إذا ثبت خطأه الشخصي ، أي إذا كانت الجريمة التي إرتكبها تمثل خطأ شخصيا .
فبموجب هذا القرار تم الفصل نهائيا بين المفهومين فقد يتمثل دور الطرف المدني أساسا في تحريك الدعوى العمومية التي لا ينحصر تحريكها على النيابة العامة فقط ( كما هو معروف في ق ا ج) ، و لكن ذلك لا يعني ثبوت حقه في التعويض و هذا في حالة ما إذا كيف خطأ الموظف على أنه خطأ مرفقي ، لأن ثبوت الخطأ المرفقي لا يمنع أبدا المتابعات الجزائية.
فقد تشكل الجنايات في جميع الحالات خطأ شخصيا بينما الجنح فلابد من التمييز بين ما هو عمدي و الذي يكون خطا شخصيا ( معيار نية الموظف )، أما فيما يخص الجنح غير العمدية فلا مجال في الغالب للحديث عن الخطأ الشخصي و على أية حال فلا بد على القاضي الجزائي أن يرجع إلى المعايير السالفة الذكر لتحديد ما إذا كان الخطأ شخصيا أم انه كان يستهدف من ورائه تحقيق الصالح العام، و هذا حالة بحالة .
ب- الخطأ الشخصي و التعدي المادي :
التعدي المادي – كما هو معروف – هو كل عمل إداري يتسم بلا مشروعية صارخة يمس أساسا بالحريات الأساسية للأفراد أو ممتلكاتهم.
و في هذا الصدد كذلك بدأ القضاء يتراجع عن فكرة تطابق المفهومين خاصة بعد القرار الصادر عن محكمة التنازع الفرنسية بتاريخ 8 أفريل 1935 ، بحيث جاء في خلا صات محافظ الحكومة Josse التي جاء فيها
أن القاضي العادي يمنحه الاختصاص الاستثنائي في حالات التعدي للنظر في مسؤولية الإدارة في الوقت نفسه الذي ينظر فيه في مسؤولية الموظف، عليه أن يبحث فيما إذا كان هذا الأخير قد ارتكب خطأ شخصيا و هذا لتبرير مسؤوليته المالية و إلزامه بالتعويض.
ج- الخطأ الشخصي و أوامر الرئيس:
هل يمكننا القول بأن الموظف ارتكب خطأ شخصيا عندما يقتصر عمله على تنفيذ أوامر رؤسائه حسب ما يقتضيه التسلسل السلطاوي؟
إن مع تطور القضاء ، و القانون ، أنشىء التزام بعدم الطاعة للموظف فيما يخص أوامر رؤسائه و التي تبدو بوضوح بأنها غير مشروعة و انه من شأنها أن تمس أو تعرقل الصالح العام بصورة خطيرة.
و في حالة عدم التزام الموظف بذلك فإنه من الممكن جدا القول بارتكاب الموظف خطأ شخصيا، و هذا يخرج بنا عن المبدأ القائل بأن تنفيذ أمر صادر عن رئيس ينقل المسؤولية الشخصية إلى هذا الأخير ، فهو استثناء عن المبدأ و الذي نصت عليه المادة 129 من قانوننا المدني .
كما تكون مسؤولية المرؤوس شخصية في حالة إذا ما تجاوز حدود ما طلب منه فيكون بذلك قد إرتكب خطأ شخصيا.
الفرع الثاني : آثار الخطأ الشخصي
في حالة ارتكاب الموظف لخطأ شخصي فإنه يكون محل متابعة قضائية من قبل الضحية بقصد تعويضه عن الضرر اللاحق به ، فهذا هو المبدأ (1) ، إلا أن هناك ثمة استثناءات عن هذا الأخير (2):
1- المبدأ : الدعوى التي يرفعها الضحية ضد الموظف العام امام المحاكم العادية
هذا المبدأ تنجر عنه مجموعة من النتائج :
أ- الإختصاص : ( القاضي الناظر في النزاع)
لقد وضع أساس هذا المبدأ قرارPelletier - السالف الذكر- فلا يحق للقاضي الإداري مساءلة الموظف عن خطئه الشخصي الذي تنجر عنه مسؤوليته الشخصية، و هذا المنع جد منطقي ما دام أن النزاع ينحصر بين شخصين طبيعيين عاديين .
فالقاضي الذي ينظر إذا في النزاع هو القاضي المدني و قد يكون القاضي الجنائي متى كان الخطأ يشكل جريمة يعاقب عليها القانون.
ب- المكلف بالتعويض :
يتكلف الموظف شخصيا بالتعويض و هذا من ذمته الخاصة أي من ماله الخاص -و هذا متى طلب ذلك الضحية- ما دام أن مسؤوليته شخصية.
ج- القواعد المطبقة : ( القانون الواجب التطبيق )
إن القواعـد التي يطبقهـا القاضي في هذه الحـالة هي نفس القواعد الموجـودة في القانون العــــام ( Le droit commun) ، فعلى القاضي الرجوع إلى المبادىء العام
و من هنا نلمس أهمية التمييز بين الخطأ الشخصي و الخطأ المرفقي .
2- الإستثناءات :
نجد هذه الإستثناءات على المبدأ في مجال حلول الدولة محل الموظف فعلى الرغم من ثبوت الخطأ الشخصي في حق الموظف إلا أن الدولة تتدخل و تحل محله فيما يخص الإلتزام بالتعويض و جبر الضرر.
فنجد مثلا : - حلول الدولة محل المعلم .
- حلول الدولة محل السائق في حالة الحوادث التي تحدثها المركبات التابعة لها... .
فالاختصاص في هذه الحالات يعود إلى القاضي الإداري على الرغم من ان الخطأ شخصي ما دام ان الإدارة ستتكفل بالتعويض – ما لم ينص القانون على خلاف ذلك- .
المطلب الثالث: الخـطــأ الـمـرفـقـي
على عكس الخطأ الشخصي فإن الخطأ المرفقي حسب تعريف "Laferrière" هو الذي يكشف الرجل الإداري محلا للخطأ و ليس الرجل العادي بضعفه و عواطفه و عدم حرصه ، بمعنى آخر هو الخطأ العادي الذي نعترف بإمكانية ارتكابه من طرف أي عون في إطار المرفق دون أن يكون خطأ عمديا أو ذو جسامة غير مقبولة .
الفرع الأول : مفهوم الخطأ المرفقي و إثباته:
إن عبارة الخطأ المرفقي لها معنيان متميزان في الاجتهاد القضائي، فمن جهة الأخطاء الناجمة عن التنظيم السيئ أو التسيير السيئ كذلك للمرفق العام، و الأخطاء التي ارتكبت من طرف موظفين مجهولين هي أخطاء مرفقية بالمعنى الدقيق، و من جهة أخرى فإن الأخطاء المنسوبة لأعوان المرفق العام و المرتكبة من قبلهم في إطار تأدية مهامهم هي أخطاء شخصية و لكن بما أن المرفق لا ينفصل عنها فإنها تعتبر بالتالي أخطاء مرفقية .
و يمكن وصف الخطأ المرفقي على سبيل الاستهداء و وفقا لمعايير بعض الفقهاء بأنه " الخطأ غير المطبوع بطابع شخصي ، و الذي يسند إلى موظف يكون عرضة للخطأ او الصواب " ( معيار Laferrière) أو انــه
" الخطأ الذي لا يمكن فصله عن واجبات الوظيفة بحيث يعتبر من المخاطر التي يتعرض لها الموظفون " ( معيار Horiou )، أو : " هو الخطأ الذي يرتكبه الموظف بقصد تحقيق غرض إداري " ( معيار Duguو أمثلة الأخطاء المرفقية عديدة كعمليات مادية مختلفة ، خرق لنص قانوني، خطأ في التقدير، السحب غير المنتظم لقرار أنتج حقوق ، رفض اتخاذ إجراء ضروري ، الإهمال في ممارسة السلطة ...
إن الإلمام بمفهوم الخطأ المرفقي يتطلب التطرق إلى خصائصه و الصور التي يتخذها.
-Iالخصائص العامة للخطأ المرفقي:
للخطأ المرفقي طابعين أساسيين :
1-طابع الخطأ المجهول:
عادة ما يكون الخطأ مرتكبا ماديا من قبل أعوان عموميون معلومين ، أي أن مرتكب الخطأ يكون معلوم ، ففي هذه الصورة نتحدث عن خطا المرفق ، « Faute de service » إلا أن عبارة الخطأ المرفقي « Faute du service publique » يقصد بها حسب بعض الفقهاء أن مرتكب الخطأ مجهول ، و مهما يكن من امر هذا التمييز فإن شخص العون لا يهم كثيرا ذلك أن التزامات الإدارة هي محل مساءلة و ليس التزامات هذا العون .
و يظهر طابع الخطأ المرفقي كخطأ مجهول في صورتين:
- صورة خطأ مرفقي أرتكب من طرف شخص واحد لكنه مجهول مثل قضية Auxerre ، أين اعتبرت الإدارة مسؤولة عن حادثة أدت إلى قتل جندي إثر مناورات عسكرية كان من المفروض أن تستعمل خلالها خراطيش مزيفة ، و استحال خلالها معرفة الفاعل المسؤول عن قتل الجندي .
- صورة الخطأ المرفقي الذي ينتج عن مجموعة أخطاء ارتكبت من طرف موظفين مجهولين كما هو الحال في قضية السيدة Boigard ، حيث دخلت هذه الأخيرة إلى مستشفى عمومي في الصباح و لم يتم
فحصها إلا في آخر اليوم و مع ذلك إزداد مرضها و توفيت إثر نقلها إلى مستشفى آخر ليتبين عند إجراء التحقيق أن سبب وفاتها يعود لعدة أخطاء تتمثل في عدم المراقبة الكافية و غياب الطبيب المختص في الإنعاش و الرقابة السيئة خلال نقل الضحية . و بالتالي أعتبر مجلس الدولة ان هذه الأخطاء مرفقية تنسب للمستشفى بسبب سوء تسييره و ليس لأشخاص معينة .
فالخطأ المرفقي المرتكب من قبل أحد او عدة أعوان لا ينفصل عن ممارسة الوظائف و لا تقع المسؤولية على العون و إنما على الإدارة فتصبح بذلك المنازعات إدارية محضة.
2-الطابع المباشر :
يجب أن ينسب الخطأ المرفقي مباشرة إلبى شخص عمومي قام بتصرف خاطيء أثناء ممارسة أعماله ، و بالتالي حينما تختفي شخصية العون خلف المرفق العام الذي ينتمي إليه فإن الخطأ المرفقي يعتبر مرتكبا من قبل الإدارة ، و بمعنى آخر يعتبر القاضي أن الخطأ قد أرتكب من طرف الشخص العمومي الذي نسب إليه .
-IIصور الخطأ المرفقي :
يكون خطأ الإدارة في عدة حالات يمكن تصنيفها إلى ثلاث طوائف تمثل في ذات الوقت التطور التاريخي لقضاء مجلس الدولة الفرنسي في هذا الصدد .
1- التنظيم السيئ للمرفق العام :
إن الإدارة ملزمة بتنظيم المرفق العام و عندما لا تقوم بذلك فإنها تكون مسؤولة عن الأضرار الناتجة عن سوء التنظيم ، و تكمن أمثلة هذه الصورة عادة في : فقدان ملفات – التنفيذ المادي غير المنتظم – خرق قواعد
تنظيم القرارات الإدارية... ، وفي هذا الصدد صدر قرار عن الغرفة الإدارية للمحكمة العليا في قضية " بن مشيش " ضد " بلدية الخروب " بتاريخ 6 أبريل 1973 ، إذ تتلخص وقائعها في أنه بتاريخ 28 ماي 1969 شب حريق في مصنع للنجارة ملك للسيد بن مشيش بسبب رمي المفرقعات من طرف أطفال يحتفلون بالمولد النبوي الشريف، و قد جاء في حيثيات قرار الغرفة الإدارية للمجلس الأعلى فيما يتعلق بمرفق مكافحة الحرائق في ظل قانون البلدية السابق :
ـ حيث انه ينجم عن الملف أن الظروف التي تمت فيها مكافحة الحريق تبين نقصا في الوسائل.
ـ حيث يتبين حينئذ أنه لم يوجد أي خطأ في تنظيم و سير مرفق عام لمكافحة الحريق ..."
و بذلك اعتبر القرار أن نقص الوسائل لا يشكل خطأ في تنظيم المرفق العام و بالتالي فلا وجود لأي خطأ مرفقي .
2- التسيير السيئ للمرفق العام:
إن عدم الكفاءة أو الإهمال من طرف الأعوان العموميين يؤدي إلى التسيير السيئ للمرفق العام و كذلك التأخير المفرط في تسييره، فمتى أدى ذلك إلى ضرر ما فإنه يمكن للمضرور مطالبة الإدارة بالتعويض.
و قد أصدرت الغرفة الإدارية بالمجلس الأعلى قرارا بتاريخ 8 أفريل 1966 في هذا النطاق فيما يخص قضيـة " حميدوش " ضد الدولة و الذي تم توظيفه وفق شروط غير نظامية، و بعد 8 سنوات قامت الإدارة بتصحيح الإجراء و هذا بإلغاء قرار توظيفه ، فرفع الأمر أمام الغرفة الإدارية التي قررت بأن ذلك يشكل خطأ مصلحيا تنجر عنه مسؤولية الإدارة.
3-عدم تسيير المرفق أو الجمود الإداري :
في هذه الحالة لم يقم العون العمومي بعمله على الإطلاق ، و قد فصلت الغرفة الإدارية للمجلس الأعلى في قضية في هذا الشأن أصدرت بموجبها قرارا بتاريخ 19/04/1972 ,تتلخص وقائعها في انه تلقى أحد كتاب الضبط مبلغا من المال في شكل أوراق مصرفية لإيداعه اثر عملية حجز قامت بها الشرطة القضائية ، و بعدها تم إصدار أوراق نقدية جديدة ، فنسي هذا الكاتب إن يبدل الأوراق المحجوزة ، و بعد الحكم ببراءة صاحب المال و الإفراج عنه قام هذا الأخير برفع دعوى ضد وزارة العدل فاعترف مجلس قضاء الجزائر بمسؤولية الإدارة على أساس سوء تسيير المرفق ، وحصل المعني على حقوقه بسبب إهمال كاتب الضبط المعتبر عونا للدولة .
و قد صدر قرار مماثل عن مجلس الدولة في 31/01/2000 صرح خلاله بمسؤولية البلدية على أساس الخطأ المرفقي في قضية "بلدية الذرعان" ضد "سوايبية عبد المجيد و من معه" ، و ذالك لتأييده لقرار الغرفة الإدارية لمجلس قضاء عنابة ، إذ يتجلى من دراسة الملف أن المستأنف عليه "سوايبية" كان متابعا جزائيا أمام محكمة الدرعان بتهمة التزوير فحجزت سيارته ووضعت بالحضيرة التابعة لبلدية الذرعان , وبعد استفادته من البراءة طلب استرجاع سيارته إلا أنها ضاعت من الحضيرة فاعتبر مجلس الدولة : "أن الحضيرة تابعة للبلدية و تشرف على تسييرها و تعتبر البلدية كحارس الشيء و ملزمة برد السيارة أو تعويضها نقدا ".
ففعل البلدية هنا يدجل في إطار عدم تأدية المرفق للخدمة المتمثلة في المحا فظة على السيارة و إعادتها كما استلمتها إذ أن البلدية لم تؤد الخدمة على الإطلاق.
هذه هي الأنواع الثلاثة الأساسية التي تجسد الخطأ المرفقي, ويبقى التساؤل مطروحا حول على من يقع إثبات هذا الخطأ ؟.
-IIIإثبات الخطأ المرفقي:
حسب المبادىء العامة في الإجراءات القضائية فإنه على من يدعي الفعل الضار أن يثبته , وبناءا على ذلك فإنه على طالب التعويض الذي يدعي الخطأ المرفقي أن يثبت وجوده , إلا أن هذه القاعدة تصطدم بعدة صعوبات تواجهها الضحية ذلك لان إثبات الخطأ يوجد عادة في ملفات الإدارة , وهذا ما جعل التطورات الحديثة تتجه إلى البحث عن طرق لتسهيل إثبات الخطأ من قبل الضحية كإلزام الإدارة بتسبيب قراراتها و فرض إمكانية الإطلاع على ملفاتها , وذلك إلى جانب الدور الذي أصبح يلعبه القاضي الإداري في الإجراءات القضائية ، فعندما تمتنع الإدارة أو تعجز عن تقديم وثيقة أو ملف بناءا على طلب القاضي فان هذا الأخير يعتبر الخطأ المرفقي قائما , وكذلك الأمر في حالة ادعاء الإدارة وجود سبب لنفي مسؤوليتها فعليها إثبات ذلك .
وقد جاء الاجتهاد القضائي في بعض الميادين بما يسمى بالخطأ المفترض ومفاده نقل عبء الإثبات, إذ أن تقنية الافتراض تسمح باستنتاج حقيقة الأفعال الضارة التي يستحيل إثباتها من خلال وجود أفعال ضارة ثابتة ، وهنا نجد أن القاضي الإداري يستعمل عادة مصطلح " يكشف" (Révèle) ،خاصة في الميدان الطبي , وبالتالي إذا كان مريض متواجد بالمستشفى بسبب مرض معين ليجد نفسه مصابا بمرض أخر لا علاقة له بمرضه الأول في نفس المصلحة , فإن القاضي يعتبر الإصابة ناتجة عن خطأ ينسب إلى المستشفى , وقد
صدر :قرار عن مجلس الدولة في هذا الإطار بتاريخ : 01 مارس 1989 قرار "BALLY" ،إذ تم نقل مكروب إلى جسم مريض خلال عملية جراحية .
كما أنه يمكن للقاضي الإداري لتكوين اقتناعه حول وجود الخطأ المرفقي أن يأمر بإجراء تحقيق تكميلي كاللجوء إلى الخبرة بخلاف الانتقال إلى المعاينة الذي هو قليل الاستعمال، و مهما يكن من أمر فإن القاضي يبقى حرا في تقديره لوجود الخطأ المرفقي و نسبته إلى الإدارة، و من تم في تقديره لأدلة إثبات الأطراف.
الفرع الثاني : درجة جسامة الخطأ المرفقي :
ينقسم الخطأ المرفقي في نظام المسؤولية الإدارية إلى خطأ بسيط و خطأ جسيم، ففي الحالات العادية و استنادا إلى قواعد القانون المدني يكون الخطأ البسيط كافيا لقيام المسؤولية، غير أن القضاء الإداري اشترط وقوع خطأ جسيم في حالات معينة كما هو الحال في القرارات الإدارية ، كما اشترط هذه الدرجة من الجسامة في الخطأ المرفقي لإقامة مسؤولية بعض المرافق العامة التي يتميز نشاطها بصعوبة معينة .
- I الخطأ في حالة القرارات الإدارية:
إذا كان الضرر يرجع إلى قرار أصدرته الإدارة ، كما لو أمرت بفصل موظف أو برفض التصريح لأحد الأفراد بمزاولة عمل معين ، أو بهدم منزل أو بإغلاق محل عام أو فرضت قيودا معينة بلائحة على نشاط فردي... ففي هذه الصور و أمثالها يأخذ الخطأ صورة ملموسة هي " عدم المشروعية" ، ذلك ان عدم المشروعية بأوجهها الأربعة كما هي مصدر للإلغاء ، فإنها مصدر للمسؤولية .
أ-عيب عدم الإختصاص :
إن عدم الاختصاص من أول أسباب إلغاء القرار الإداري، و هو يتعلق بالنظام العام ، و من تم يملك القاضي الإداري إثارته من تلقاء نفسه، إلا أن الأمر يختلف في نطاق التعويض فلا يؤدي هذا العيب إلى
تعويض الضحية إذا كان سيقع في حالة صدور القرار من الجهة المختصة، فقد أتجه مجلس الدولة الفرنسي إلى إعلان عدم المسؤولية عن عيب عدم الاختصاص إذا ما كان الضرر المطالب بالتعويض عنه لاحقا بالفرد لو ان القرار ذاته صدر من الجهة المختصة.
ب- عيب الشكل:
عند إصدار قرار إداري فعلى الإدارة أن تحترم بعض الأشكال و الإجراءات،و القاضي الإداري لا يشترط احترام جميع الأشكال و ذلك حتى لا يعرقل نشاط الإدارة ، فنجده هنا يميز بين الأشكال الجوهرية
و الأشكال غير الجوهرية، ووفقا لذلك تؤدي مخالفة الشكل الجوهري وحدها إلى إلغاء القرار الإداري ومع ذلك لا يوجد تلازم بين إلغاء القرار لعيب الشكل والحصول على تعويض ، ذلك أن التعويض مقصور على الحالات التي يؤثر فيها الشكل على مضمون القرار .
ج- عيب الإنحراف استعمال السلطة:
تحدث حالة انحراف السلطة عندما تستعمل الإدارة سلطتها لغرض يختلف عن الغرض الذي منحت لها من اجله هذه السلطة ، إذ أن القاضي يعاقب دائما و بصفة مشددة هذه الصورة من عدم المشروعية ، و نجد نفس التشديد في ميدان المسؤولية بحيث أن كل ضرر ناتج عن الإنحراف بالسلطة من اللازم إصلاحه ،و من تم يمكن القول أن عيب الإنحراف بالسلطة يعد مصدرا للمسؤولية لأن هذا الخطأ يستوجب التعويض إذا ترتب عليه ضرر ثابت .
د- عيب مخالفة القانون:
عندما يبحث القاضي الإداري عن عيب مخالفة القانون، فإنه يفحص القرار المطعون فيه و يقوم بدراسة أسبابه ، فإذا كان الخطأ على مستوى الأسباب القانونية فإننا نكون بصدد قرار معيب بخطأ قانوني ، أما إذا
كان الخطأ يرجع إلى وقائع القرار فإننا نكون بصدد خطأ في الوقائع، و يبدو ان القضاء يعطي دائما الحق في التعويض في حالات الخطأ في القانون ، في حين انه يتبنى موقفا متباينا في حالة الغلط الفعلي و قد أخذت الغرفة الإدارية للمجلس الأعلى بهذا التمييز في قرار صادر عنها بتاريخ : 09/04/1971 ، في قضيــــة " دخلي" ضد " والي ولاية الجزائر" ، إذ قام هذا الأخير بغلق محل المدعي ووضعه بصفة غير مشروعة تحت حماية الدولة ليعيده إليه فيما بعد، مما جعل السيد" دخلي" يطالب بالتعويض أمام القاضي الإداري الذي منحه إياه على أساس أن اللامشروعية في حد ذاتها جسيمة .
و في الأخير يمكن القول أنه في بعض الحالات لا تشكل اللامشروعية خطأ إذا ارتكبت لفائدة الصالح العام، إذ أن مسؤولية الإدارة تقوم على أساس المساواة في تحمل اللأعباء العامة كما أن عدم قبول دعوى الإلغاء ضد قرار معين لا يعد عائقا في ممارسة دعوى التعويض المؤسسة على ضرر ناتج عن القرار اللامشروع محل دعوى الإلغاء
II- الخطأ البسيط و الخطا الجسيم:
من المفروض أن الحطأ البسيط يكفي لترتيب المسؤولية الإدارية ، إلا انه أحيانا يشترط القاضي الإداري خطأ يوصف بالخطا الجسيم و ذلك في بعض نشاطات المرافق العامة التي تجد صعوبة خاصة في تنفيذها مما يجعل الخطأ البسيط معذور ومن تم يرتب الخطأ الجسيم وحده مسؤولية هذه المرافق العامة، فعكس القانون المدني الذي يحاول في كل الحالات حماية الضحية فإننا نجد أن القاضي الإداري يلتزم بالبحث عن حل توفيقي
بين ضرورة تعويض الأشخاص و بين رغبته في إظهار بعض الامتنان اتجاه الإدارة فيما يخص بعض المرافق لأنه يعتبر أن نشاطاتها صعبة التنفيذ و تتطلب بعض التسامح و هذا كله حتى لا يعرقل نشاطاتها و من تم حتى لا يحول دون تحقيق المصلحة العامة.
و في هذا الصدد نجد ان الخطأ الجسيم يكون لازما في كل او بعض أنشطة مرافق محددة، في حين انه يكفي الخطأ البسيط لترتيب مسؤولية مرافق أخرى، و بالتالي يستند القاضي الإداري إلى طبيعة النشاطات الإدارية المتسببة في الفعل الضار في تحديده لدرجة جسامة الخطأ.
و نستهل دراستنا بأهم المرافق التي تتطلب في بعض نشاطاتها الخطأ الجسيم لترتب مسؤوليتها و الخطأ البسيط في نشاطاتها الأخرى مع المرور بمراحل التطور التي مر بها الاجتهاد القضائي في كل مرفق منها و هي
- نشاط مصالح الشرطة - نشاط مصالح السجون – نشاط الرقابة الوصائية – نشاط مصالح الضرائب – نشاط مصالح مكافحة الحريق- النشاط الطبي.
1- نشاطات مصالح الشرطة :
لم يتخلى مجلس الدولة الفرنسي عن مبدئه القديم و المتمثل في عدم مسؤولية القوة العمومية إلا في 1905 من خلال القرار " Tomaso Gréco" الصادر بتاريخ 10/02/1905 ، حيث توسعت مسؤولية الشرطة منذ هذا التاريخ فنجدها تارة بدون خطأ و تارة تقوم على أساس الخطأ البسيط ، و أحيانا أخرى تقوم على أساس الخطأ الجسيم ، فتكون المسؤولية بدون خطأ في حالة الأضرار الناجمة عن تجمهر او حالة إستعمال سلاح ناري ضد ضحية لم تكن مستهدفة خلال مباشرة مصالح الشرطة لعملية محـــددة ، و تكون المسؤولية على أساس الخطأ البسيط في حالة الأضرار الناجمة عن استعمال سلاح ناري عندما تكون الضحية مستهدفة خلال العملية ، و بصفة عامة تكون مسؤولية مصالح الشرطة في حالة الأضرار الناجمة عن التصرفات القضائية أو المادية عندما لا يشكل التدخل صعوبة خاصة .
و مع ذلك نجد أن المسؤولية على أساس الخطأ الجسيم هي التي تحتل الصدارة في إطار مسؤولية مصالح الشرطة، إذ منذ 1925 أصبح الاجتهاد القضائي يشترط الخطأ الجسيم لترتيب مسؤولية الإدارة عن نشاط الضبطية الإدارية عندما يشكل هذا الأخير صعوبة خاصة في التدخل، و ذلك إثر قرار" Clef R.DP" الصادر عن مجلس الدولة بتاريخ 13/03/1925 ، و عادة ما يرتب نشاط الضبطية الإدارية مسؤولية المرفق على أساس خطأ بسيط لأن مباشرة الأعمال القضائية لا تشكل صعوبة خاصة إلا استثناءا، إذ أن الصعوبات
التي تتلقاها مثلا شرطة الطرق في باريس خلال تنظيمها لحركة المرور لا بد أن يرقى الخطأ الناتج عنها إلى درجة الخطأ الجسيم حتى تترتب مسؤولية ولاية باريس عن تنظيم حركة المرور فيها .
2- نشاطات مصالح السجون :
يشترط مجلس الدولة الفرنسي الخطأ الجسيم لترتيب مسؤولية مصالح السجون، و ذلك منذ سنة 1958 في قضية " Rakotoarinovy" حيث صدر فيها قرار بتاريخ 03/10/1958 ،و قد كان لابد قبل هذا التاريخ أن يكون الخطأ جليا و ذو خطورة خاصة ، كما صدر قرار بتاريخ 05/01/1971 في قضـــية " Veuve Picard" اعتبر فيه مجلس الدولة أن قتل مسجون من قبل مسجون آخر لا يرتب مسؤولية المرفق كونه لم يبين وجود خطأ جسيم في المراقبة، في حين قرر في قضية أخــرى بتاريخ 16/11/1988 " Epoux Deviller" أن الإهمال الخطير من قبل الأعوان و المتمثل في عدم الإعلان الطارىء عند اكتشافهم لمسجون مغمى عليه يشكل خطأ جسيما، و بالتالي يرتب مسؤولية المرفق.
و تجدر الإشارة إلى أن الخطأ الجسيم يشترط في هذه الحالة سواء كانت الضحية مسجون أو موظف ألحق به ضرر من قبل موقوف.
3-نشاط الرقابة الوصائية :
يتعلق الأمر بالرقابة التي تمارسها الدولة على الجماعات المحلية و كذا الأشخاص المعنوية، وهنا كذلك يشترط الاجتهاد القضائي الخطأ الجسيم لترتيب مسؤولية الإدارة عن ممارسة رقابتها الوصائية بشكل عام، و قد ظهر هذا الإتجاه من خلال قرار صادر عن مجلس الدولة يتعلق بالوصاية على الجماعات المحلية في
29/03/1946 : " Caisse d’assurances sociales de Meurth – et- Moselle" و قرار "Meunier " الصادر في 20/03/1966
و ما يلاحظ حاليا أن الخطأ الجسيم لم يعد لازما لترتيب مسؤولية الإدارة إذ صدرت عدة قرارات حديثة عن مجلس الدولة قضت بمسؤولية هذه الأخيرة رغم وجود خطأ بسيط مع الأخذ بعين الاعتبار أهمية سلطة الرقابة التي تملكها هذه الإدارة من بينها قرار "Société Hilton internationale " الصادر في 22/02/1991 يخص الترخيص حول عتاد الهاتف و قرار صادر في 13/03/1998 "Améon" يخص ترتيب مسؤولية الدولة في نشاطات الرقابة التقنية التي تمارسها على السفن.
4- نشاطات مصالح الضرائب:
في السابق كان يشترط أن تشكل الأضرار الناتجة عن نشاط مصالح الضرائب خطأ ذو جسامة خاصة، ومنذ 1962 أصبح الخطأ الجسيم يكفي لتقوم مسؤولية إدارة الضرائب و ذلك من خلال القرار الصادر عن مجلس الدولة بتاريخ 21/12/1962 وهو قرار "Husson-Chiffre " ومع ذلك تعرض موقف القضاء إلى النقض لان معظم عمليات مصالح الضرائب لا تكتسي صعوبة خاصة في التدخل ، وبقي الأمر كذلك إلى غاية 1990 إذ صدر قرار عن مجلس الدولة في 27/06/1990 "Yvon Bourgeois" يخص أخطاء الحفظ و المعالجة المعلوماتية للتصريحات وتنفيذ الاقتطاعات الشهرية ،قضى فيه بمسؤولية مصالح الضرائب علي
أساس الخطأ البسيط في كل نشاطاتها وذلك في غياب صعوبات خاصة في معالجة المشاركين ، أما الخطأ الجسيم فبقى لازما فيما يخص نشاط إقرار أساس الضرائب و التحصيل عليها .
5 – نشاط مصالح مكافحة الحريق:
لا يميز القضاء الإداري بين الأخطاء المتعلقة بتنظيم أو سير مصالح مكافحة الحريق وبين الأخطاء المتعلقة بتدخلها ويشترط في كل هذه الحالات الخطأ الجسيم .
إلا أنه منذ 1998 أصبحت نشاطات مكافحة الحريق و الإنقاذ في البحر ترتب مسؤولية الإدارة على أساس الخطأ البسيط رغم الصعوبة الخاصة التي تمتاز بها هذه النشاطات و ذلك من خلال قرار "Améon" الصادر عن مجلس الدولة في 13/03/1998 بالنسبة للاتقاد في البحر،وقرار " Commune de Hannapes " الصادر في 29/04/1998 بالنسبة لمكافحة الحرائق .
6- الـنـشـاط الــطــبـي :
كان القضاء الإداري يميز ضمن نشاطات المستشفى بين النشاط الإداري لهذا المرفق وبين النشاط الطبي . وذلك إلى غاية 1992 ، فبالنسبة للأضرار الناجمة عن ظروف تنظيم أو تسيير مرفق المستشفى فإن الخطأ البسيط يكفي لترتيب مسؤولية هذا الأخير كأن لا يتضمن طاقمه أي طبيب مختص في التخدير ، أو الحراسة غير الكافية في مصلحة الأمراض العقلية . أو استعمال أدوات غير صالحة أو الإهمال مثل معالجة ضحية حادث مرور في قاعة مخصصة لمصابين بأوبئة معدية .أما بالنسبة للأضرار الناجمة عن الخطأ الطبي فإن
الاجتهاد القضائي قبل 1992 يختلف عنه بعد 1992 ، فقبل هذا التاريخ كان الخطأ الجسيم وحده يرتب مسؤولية المستشفى بسبب الخطأ الطبي ، وهذه الصرامة كانت منتقدة من قبل الفقه الفرنسي طالما أن
الجهات القضائية كانت تكتفي بالخطأ البسيـط لتحميل العـيادات الخاصة مسؤولية الأضرار الناجمة عن أخطائها الطبية .
أما بعد 1992 أصبح مجلس الدولة يرتب مسؤولية المستشفى على أساس الخطأ البسيط رغم أن العمليات تتطلب صعوبة خاصة ، ومهما كانت طبيعة هذا الخطأ وذلك من خلال قرار " Epoux .V " الصادر عنه في 10/04 1992 وقد ذهب مجلس الدولة الفرنسي أحيانا إلى أبعد من ذلك إذ قضى بمسؤولية المستشفى بدون خطأ عندما يكون الضرر ذو خطورة خاصة ناتجة عن نشاط طبي يشكل خطرا معترف به والذي يكون تحقيقه استثنائيا وذلك في قرار " Bianchi " الصادر عنه في 09/04/1993 .
وقد صدر قرار عن مجلس الدولة في الجزائر بتاريخ 19/04/1999 يتعلق بمسؤولية المستشفى عن الخطأ الطبي ، وتتلخص وقائع القضية في أن السيدة "رقية " انتقلت إلى مستشفى أدرار لوضع حملها فأجريت لها عمليتان جراحيتان أثناء الولادة ، فتوفيت المولودة مباشرة وأصيبت السيدة بعاهة مستديمة تتمثل في العقم ، فرفعت هذه الأخيرة دعوى أمام الغرفة الإدارية لمجلس أدرار للمطالبة بالتعويض و التي عينت خبير مختص توصل إلى أن الخطأ الطبي هو الذي أدى إلى عقم السيدة ووفاة ابنتها ، فقضت لها الغرفة الإدارية بتعويض عن الضرر المادي والمعنوي مما جعل القطاع الصحي لأدرار يستأنف القرار ، وهنا قضى مجلس الدولة بالتأييد على أساس عدة أخطاء طبية مؤكدة أثناء عملية بسيطة ، وما نلاحظه في القرار الصادر عنه أن مجلس الدولة لم
يتكلم في حيثياته عن وجوب اشتراط الخطأ الجسيم في الخطأ الطبي ، كما أنه لم يعط أي وصف لهذا الخطأ الطبي ، وبالتالي نستشف من خلال ذلك أن مسؤولية المستشفى قائمة بغض النظر عن نوعية الخطأ المرتكب .
وقد اتخذ مجلس الدولة نفس الموقف في قرار آخر صادر عنه بتاريخ 17/01/2000 في قضية المستشفى الجامعي (ض) ، ضد (س . م) ، حيث لم يقم بتكييف الخطأ المتمثل في عدم اتخاذ الإجراءات الطبية اللازمة وعدم ربط الهالكة طبقا للتعليمات الطبية مما أدى إلى رمي نفسها من نافذة الطابق الأول والتي كانت مصابة بالكوليرا التي ترفع لها درجة الحمى وبالتالي تأثر على حالتها النفسية ، ونجد هنا أن مجلس الدولة قد اعتبر عدم ربط المريضة على سريرها بناءا على تعليمات الطبيب خطأ مرفقيا وليس خطأ شخصيا ذلك لأن عملية ربط المريضة هي إجراء وقائي لتفادي الحاقها الضرر بنفسها مما يشكل اهمال صادر عن موظفي المستشفى الذي يعد في هذه القضية مرفقا متوقفا عن سيره أي أننا أمام صورة عدم تسيير مرفق عام السابق ذكرها .
كما صدرت عدة قرارات عن مجلس قضاء بجاية في هذا الشأن ، نذكر منها قرار صادر عن الغرفة الإدارية به بتاريخ 28/05/2002 تحت رقم فهرسه 436 /2002 إذ قضت فيه بمسؤولية القطاع الصحي وعيادة الولادة على أساس الخطأ الطبي المرتكب أثناء عملية توليد المدعية ، ونلاحظ هنا أيضا عدم استعمال قضاة الغرفة لعبارة خطأ جسيم أو خطأ بسيط أي أنهم اكتفوا بتأسيس قرارهم على الخطـأ الطبي دون تحديد وصف لهم وهذا يعني عدم اشتراط الخطأ الجسيم لترتيب مسؤولية مرفق المستشفى ، كما صدر قرار آخر عن نفس الغرفة بتاريخ 13/07/2004 تحت رقم فهرسه443/04 في إحدى حيثياته : " إن
الوفاة لم تكن ناتجة عن خطأ علاجي إلا أن مسؤولية المستشفى قائمة باعتبار أن اهمال الممرضين دورهم في مراقبة مساعدة المريضة لقضاء حاجتها ساهم في تدهور حالتها الصحية نظرا لما بذلته من جهد يفوق طاقتها وهي تتوجه بمفردها إلى دورة المياه". فالغرفة الإدارية أسست مسؤولية المستشفى على أساس الخطأ المرتكب من طرف ممرضي المصلحة الذين يقع عليهم واجب حراسة ومساعدة المرضى .
وفي الأخير يمكن القول أنه في مختلف النشاطات والمرافق التي تطرقنا إليها فإن معيار الصعوبة " Critère de la difficulté " الذي أصبح مستعملا في النشاط المعني وذلك حالة بحالة وليس مرفق بمرفق كما كان الحال سابقا ، والذي بات يعد حاليا الأداة الحاسمة لتحديد مجال تطبيق نظام المسؤولية الإدارية على أساس الخطأ الجسيم .
المطلب الرابع: قــاعــدة الجــمـع
تظهر أهمية تحديد طبيعة الخطأ في توزيع المسؤوليات وبالتالي في توزيع الاختصاص بين الجهات القضائية ، فإذا كان الخطأ المرتكب خطأ شخصيا فإن الجهة القضائية العادية هي التي تنظر في الدعـوى و تحمل الموظف عبء تعويض الضحية من ماله الخاص ، أما إذا كان الخطأ المرتكب خطأ مرفقيا فـإن الإدارة تكون مسؤولة عن تعويض الضرر الذي لحق الضحية أمام جهة القضاء الإداري ، و في حـالة وجود لبس وغموض حول طبيعة الخطأ المرتكب فإن الإدارة كانت ترفع النزاع أمام محكمة التنازع بفرنسا .
ومن تمﱠ فإن فكرة الجمع بين المسؤوليات كانت مستبعدة تماما باتفاق الفقه والقضاء على عدم الجمع بين مسؤولية الإدارة ومسؤولية الموظـف على أساس الـفصل التـام بين الخطأين، وعـدم إمكان تصور اشتراك الخطأين في إحداث الضرر للضحية .
وقد أدى هذا الاتجاه إلى وضع مضر بالضحية خاصة في حالة كان الموظف مرتكب الخطأ مفلـسا وهي الحالة الغالبة ، وهذا ما جعل القضاء الإداري يتساءل عما إذا كان الخطأ الشخصي يلزم الإدارة اتجاه الضحية عوض الموظف وذلك في إطار تحسين مصير الضحية ، بتمكينها من مطالبة اّلإدارة بتعويض الضرر باعتبار هذه الأخيرة عامرة الذمة دائما ومن تم يكون حصول الضحية على التعويض أكيــدا .
وقد مرت نظرية الجمع بمرحلتين، أولـها جمع الأخطاء وثانيها جمع المسـؤوليات، كما أنه تترتب عن هذه القاعدة عدة نتائج تتعلق من جهة بحقوق الضحية ومن جهة أخـرى بدعاوى الرجوع، و سنتطرق إلى كل ذلك فيما يلـــي :
الفرع الأول : جـمــــع الأخـطــــاء:
بعد صدور قرار "Pelletier" في 1873 استبعدت كل إمكانية للجمع بين الخطأ الشخصي والخطأ المرفقي ، و جسد ت فكرة قيام إما مسؤولية الإدارة أو مسؤولية الموظف حسب طبيعة الخطأ وأمــام الجـهـة القــــضائية المختصة ، وفي 1911 منح قرار " Anguet" للضحية إمكانية الاختيار بين متابعة الموظف المتسبب في الضرر أو متابعة الإدارة للحصول على تعويض، و هنا نكون امام خطأ شخصي و خطأ مرفقي في آن واحد .
أس وتتلخص وقائع قضيةAnguet 1 في أن هذا الأخير دخل مكتب البريد قبل غلقه لقبض حوالة ، ولما همﱠ بالخروج وجد أبوابه مغلقة ، فقصد الباب الخلفي المخصص لخروج العمال ، وفي طريقه إليه مرﱠ بقاعة الطرود فظنه بعض الموظفين لصا وهجموا عليه بالضرب ودفعوه مما أدى إلى سقوطه وكسر ساقه ، وقد ثبت أن ساعة المكتب لم تكن مضبوطة مما جعل الموظفين يغلقونه قبل الموعد الرسمي بدقائق ، فالخطأ المرفقي يتمثل في سوء تسيير مصلحة البريد بغلق أبواب المكتب قبل الموعد الرسمي ، أما الخطأ الشخصي فيتمثل في المعاملة غير العادية التي تلقاها السيد Anguet من قبل الموظفين مما أدى إلى كسر رجله.
في هذه الحالة كان يمكن للضحية الخيار بين المسؤوليتين ، فبإمكانها المطالبة بكامل التعويض عن الضرر من الموظف أمام القضاء العادي على أساس الخطأ الشخصي ، أو مطالبة الإدارة أمام القاضي الإداري بالتعويض الكامل على أساس الخطأ المرفقي .
ونلاحظ هنا أن جمع الأخطاء يطرح بصفة منطقية ، إذ أن هذه الصورة من الجمع قبلت في وقت مبكر وهي محل إجتهادات قضائية مستمرة .
الفرع الثانــي : جــمــع ا لـمـسـؤولـيـات
نكون أمام حالة جمع المسؤوليات عند حدوث ضرر ناتج عن خطأ شخصي مرتكب من قبل الموظف ويقرر القاضي الإداري مسؤولية الإدارة ، وقد ظهرت هذه الصورة من الجمع بعد فكرة جمع الأخطاء بسنوات مما أدى إلى توسيع مجال المسؤولية الإدارية ، فبعد أن كانت تقوم على أساس الخطأ المرفقي وحده ثم على اس الخطأ المرفقي والخطأ الشخصي معا ، أصبحت تقوم رغم وجود خطأ شخصي فقط.
وفي هذا الإطار وقع تطور هام ، إذ بعد اعتراف القضاء الإداري بمسؤولية الإدارة على أساس الخطأ الشخصي المرتكب داخل المرفق أصبح يعترف بمسؤولية هذه الأخيرة رغم أن الخطأ الشخصي ارتكب خارج المرفق.
1 - مسؤولية الإدارة على أساس الخطأ الشخصي المرتكب من طرف العون العمومي أثناء القيام بتسيير المرفق :
قد يرتكب العون العمومي خطأ أثناء تأديته لعمله دون أن يكون لهذا الخطأ علاقة بتسيير المرفق العام فيكون بذلك هذا الخطأ شخصيا، ورغم هذا فإن القضاء الفرنسي قرر لأول مرة في قراره المبدئي "Arrêt Lemonnier " أن الإدارة مسؤولة عن الخطأ الشخصي ، وتتلخص وقائع هذه القضية في أنه عند التحضير لحفلة محلية نظمت ألعاب نارية أو ألعاب بالسلاح على أهداف عائمة في نهر صغير ، فأعلم رئيس البلدية بخطورة هذه الألعاب لعدم توفير الشروط الأمنية اللازمة إضافة إلى هذا عدم براعة المشاركين ، ولكن هذا الأخير لم يأخذ هذا الرأي بعين الاعتبار فلم يتخذ أي إجراء لمنع المارة من السير والمرور في الضفة الأخرى للنهر ، واكتفى بنصح اللاعبين بمزيد من المهارة في التصويب ، فحدث أن أصابت رصاصة طائشة السيدة Lemonnier التي كانت تسير مع زوجها وذلك في خذها الأيمن لتستقر بين عمودها الفقري وحنجرتها
، فقام الزوجان برفع دعوى أمام القاضي العادي ضد رئيس البلدية ، ودعوى أخرى ضد البلدية أمام مجلس الدولة ، وهنا حكم لهما هذا الأخير بالتعويض ، معلنا أن تقرير المسؤولية الشخصية للموظف لا تحول دون قيام مسؤولية الإدارة ، وإن كان هذا الجمع بين المسؤوليتين لا يعطي للمضرور الحق في التعويض مرتين تطــبـيـقا لـمـبـادئ الـعـدالـــة .
وقد سلم مجلس الدولة الفرنسي بقاعدة الجمع بين مسؤولية الإدارة و مسؤولية الموظف عند ارتكاب هذا الاخير خطأ شخصيا داخل المرفق و ذلك بناء على رأي مفوض الدولة " Léon Blum" في هذه القضية الذي جاء فيه : " إذا كان الخطأ قد ارتكب داخل المرفق أو بمناسبة مباشرة العمل به ، وإذا كانت وسائل وأدوات الخطأ قد وضعت تحت تصرف الجاني بواسطة المرفق ، وباختصار إذا كان المرفق قد مهد لارتكاب الخطأ فالقاضي الإداري يمكنه بل يجب عليه القول : أن الخطأ قد يكون شخصيا وينفصل عن المرفق وهذا أمر متروك تقديره للمحاكم العادية ، ولكن المرفق لا يمكن أن ينفصل عن الخطأ " فمجلس الدولة إذن اعتمد جمع المسؤوليتين رغم أن الخطأ شخصي على أساس التسيير السيئ للمرفق .
وهناك حالات مشابهة طرحت أمام المجلس الأعلى الذي فصل في الاتجاه ذاته ، إذ ذهب أحد الجنود المناوبين في الثكنة إلى حفل أقيم في جوار الثكنة ، مصطحبا معه سلاحه ودون ترخيص فوقع حادث مميت أدى إلى صدور حكم جنائي من طرف مجلس قضاء الجزائر ضد الجندي وحكم نقدي ضد الدولة باعتبارها المسؤولة مدنيا ، وقد تعرض هذا الحكم للنقض من طرف المجلس الأعلى (04 جويلية 1966 ) لأنه من جهة الجرم الجنائي المرتكب من طرف الجندي يخضع لاختصاص المحاكم العسكرية الدائمة وليس للقاضي الجنائي العادي ، ومن جهة أخرى التعويض المدني الذي يقع على الإدارة بسبب الخطأ الشخصي للجندي يدخل في ا
ختصاص المحاكم المختصة بالنظر في المواد الإدارية ، وبالتالي نجد أن قرار المجلس الأعلى قد اعتمد ولو ضمنيا موقف القضاء الإداري الفرنسي في القضية المذكورة كونه نقض القرار الصادر عن مجلس قضاء الجزائر لمسائل إجرائية وليس موضوعية ، وهذا ما تبينه من خلال الحيثية الثانية المتعلقة بالتعويض المدني .
وتقوم مسؤولية الإدارة على أساس الخطأ الشخصي المرتكب من طرف العون العمومي أثناء تسيير مرفق عام في حالات أخرى وبمقتضى نصوص تشريعية فنجد مثلا أن مسؤولية الدولة تحل محل مسؤولية المعلمين والمربين عن أخطائهم الشخصية فيما يخص الأضرار اللاحقة بالتلاميذ أو الناتجة عن أفعالهم ، وهذا الحلول لا يمس إلا أعضاء أسرة التعليم العمومي على المستوى الابتدائي و الثانوي ويتمثل الخطأ الشخصي للمعلم هنا في إخلاله بالتزام المراقبة الذي يقع عليه اتجاه تلامذته وقد ورد النص على أن مسؤولية المعلمين والمربين في المادة 135/1 ق. المدني وذلك عن الأضرار التي يسببها تلامذتهم في الوقت الذي يكونون تحت رقابتهم ، والمثير للاهتمام أن المادة اقتصرت على الأضرار تسبب فيها التلاميذ دون الأضرار التي تلحق بهم عكس ما هو وارد في القضاء الإداري الفرنسي الذي يأخذ كذلك بدعوى الرجوع التي تمارسها الدولة ضد المعلم الذي يرتكب الخطأ الشخصي في حين لا وجود لحكم مماثل في المادة المذكورة .
كما أن هناك حالة أخرى تكون فيها البلدية أو الولاية مسؤولة عن الأضرار التي يتسبب فيها منتخبوها المحليين في غياب أي خطأ مرفقي ، إذ نصت المادة 145 من القانون رقم 90-08 المؤرخ في 07 أفريل 1990 والمتعلق بالبلدية على أن البلدية تكون مسؤولة عن الأخطاء التي يرتكبها رئيس المجلس الشعبي البلدي والمنتخبون البلديون وهم أعضاء المجلس وموظفو البلدية وهذا أثناء قيامهم بوظائفهم أو بمناسبتها شريطة أن يكونوا موكلين من طرفها للعمل باسمها بصفة خاصة ، على أنه يمكن للبلدية مباشرة دعوى ضد هؤلاء في
حالة كان الخطأ المرتكب شخصيا ويبقى إذن حق البلدية في ممارسة دعوى الرجوع ضد هم منوطا بها، وقد نصت المادة 118 من قانون الولاية الصادر07أفريل 1990 تحت رقم 90-09 على مسؤولية الولاية مدنيا
عن الأخطاء التي يرتكبها أعضاء المجلس الشعبي الولائي بما فيهم رئيسه ، على أنه يمكن للولاية الطعن لدى القضاء الإداري ضد مرتكب هذه الأخطاء وذلك في شكل دعوى الرجوع .
2 – مسؤولية الإدارة على أساس الخطأ الشخصي المرتكب من طرف العون العمومي خارج تسيير المرفق العام :
من المنطقي أن يسند الخطأ المرتكب من طرف الموظف خارج تسيير المرفق العام له شخصيا ويؤدي إلى مسؤوليته الشخصية ، ولكن رغم ذلك ولمساعدة الضحية جاء مجلس الدولة الفرنسي بحل يختلف عن هذه القاعدة المنطقية ، وكان ذلك في عدة قضايا تتعلق كلها بحوادث المرور التي تسبب فيها سيارات الإدارة والمستعملة من طرف أعوانها العموميين خارج تخصيصها الطبيعي أولها قضية الآنسة Mimeur . وتتلخص وقائع الآنسة ميمور أن سائق شاحنة عسكرية لم يتحكم في سياقتها فاصطدم بسكن الآنسة ميمور التي رفعت دعوى ضد وزارة الدفاع تطلب فيها تعويضها عن الأضرار التي لحقت بسكنها، إلا أن دعواها رفضت على أساس أن الجندي وقت الحادث لم يكن في مهمة خاصة بالمرفق العام، إذ أتضح عند التحقيق أن العسكري بعدما أنهى مهمته كان راجعا لمقر عمله وأثناء ذلك مرﱠعلى طريق غير مباشر لزيارة عائلته، فاعتبر مجلس الدولة أنه رغم وجود خطأ شخصي قام به الجندي في سياقة شاحنة ملك للإدارة إلا أن هذا الخطأ له علاقة ولو غير مباشر مع المرفق العام مما جعل جزء من التعويض يقع على عاتق الإدارة .
ورغم أن تعويض الأضرار التي تسببت فيها سيارة الإدارة أصبح من اختصاص القاضي العادي إلا أن مسؤولية الإدارة على أساس الخطأ الشخصي للعون العمومي خارج تسيير المرفق العام مازالت تطرح بغض النظــر عن حــوادث المرور ، إذ صــدر قرار عن مجلس الدولة في 28 أكتوبر 1953
" Dame Banquet " يخص قيام أعوان مكلفين بالتفتيش بسرقة أموال منقولة كما صدر قرار آخر عنه رتب مسؤولية الإدارة رغم وقوع الخطأ الشخصي خارج أوقات العمل في 26 أكتوبر 1973 "Sadoudi " وتتلخص وقائعه في أن شرطيا كان بغرفته بصحبة المدعو "Sadoudi " وعند تنظيف مسدسه انطلقت طلقة نارية أدت إلى وفاة هذا الأخير، واعتبر مجلس الدولة أن الإدارة مسؤولة مع العون العمومي رغم أن العون لم يكن يقوم بتنفيذ مرفق عام أثناء الحادث ، وذلك لأن قواعد تنظيم المهنة كانت تلزم الأعوان بإبقاء المسدس في منازلهم ونظرا للخطورة التي يشكلها التزام حفظ السلاح في منازل الأعوان على الغير فإنه لا يمكن القول بعدم وجود علاقة بين الحادث والمرفق .
وفي هذا المجال يحاول القضاء الوصول إلى علاقة بين خطأ العون العمومي والمرفق العام، وذلك حتى عندما تكون الأشياء المستعملة لارتكاب الخطأ لم تكن تلك المستعملة لتسيير المرفق العام .
حـيـث صــدر عـن مـجـلـس الـدولـة فـــي 18 نـوفـمـبـر 1988 فـي قـضـية الـزوجـيـن "RASZEWSKI" ، في هذه القضية كان دركي يقوم بسرقة السيارات ويتعدى على الأشخاص بسلاحه وذلك عن طريق إطلاق النار عليهم ، فقام بقتل شخص بمسدسه الشخصي وبينما يظهر أنه لا توجد أية علاقة بين الأخطاء الشخصية التي كان يقوم بها ذلك الدر كي والمرفق العام ، اعتبر مجلس الدولة أن الاقتتال له ارتباط مع المرفق العام بحيث أن العون العمومي كان در كيا يشرف على
التحقيق حول كل الأخطار التي كان يقوم بها شخصيا الشيء الذي جعله يستمر خلال مدة طويلة في القيام بعدة جنايات ، فمشاركته في التحقيقات حول كل الأفعال الإجرامية التي كان يقوم بها بالدائرة التي يمارس فيها مهامه ساعدته في الهروب من إلقاء القبض عليه وكشف أمره وبالتالي في القيام بفعل القتل .
وبالتالي يمكن القول أن طبيعة العلاقة بين الخطأ الشخصي والمرفق العام إما أن تكون مكانية أي أن الخطأ يرتكب بالمكان الذي يمارس فيه العون العمومي مهامه ، وإما أن تكون زمنية أي أن الخطأ يرتكب في الوقت الذي كان على العون العمومي أن يمارس خلاله مهامه .
الفرع الثالث : نتائج الجمع
إن النتائج التي ترتبها قاعدة الجمع تتعلق من جهة بحقوق الضحية المجسدة في الدعوى التي يمكنها رفعها ، وبالعلاقة الموجودة بين الإدارة والموظف مرتكب الخطأ من جهة أخرى.
1- دعوى المضرور ( حقوق الضحية ) :
إن الاعتراف بجمع المسؤوليات فيما يخص حقوق الضحية يخضع للقواعد التالية :
1 - يكون للضحية حق الاختيار بكل حرية بين رفع دعوى ضد الإدارة أمام القاضي الإداري للمطالبة بالتعويض الكامل وبين رفع دعوى ضد الموظف أمام القاضي العادي للمطالبة بكامل التعويض أيضا ، وفي الواقع نجد أن الضحية تفضل عادة متابعة الإدارة لتضمن دفع مبلغ التعويض ودون تماطل .
2 - إذا كان مبدأ جمع المسؤوليات يهدف إلى تمكين الضحية من الاختيار بين متابعة الإدارة أو متابعة الموظف ، فإنه لا يمكنه أن يسمح بتعويض الضحية مرتين نتيجة الدعويين المرفوعتين ، وبالتالي يقابل مبدأ جمع المسؤوليات مبدأ عدم الجمع بين تعويضين .
ومن أجل ضمان إمكانية تعويض واحد فإن الاجتهاد القضائي كان يعتمد مبدأ الضمان ، وتبعا لذلك يكون على القاضي الإداري أن يأخذ بعين الاعتبار ما حكم به القاضي العادي ، فإما أن يحمل الإدارة بكامل التعويض أو يحملها بجزء منه ، ونظرا للنتائج المعقدة التي تتطلبها طريقة الضمان لطول الإجراءات وتعقيدها لتجد في الأخير موظف معسر في معظم الأحوال ، هجر القضاء الإداري هذه الطريقة وأصبح يطبق مبدأ الحلول وذلك منذ قرار"THévenet" في 23 جوان 1916 ، وبالتالي أصبح القاضي الإداري يحكم على الإدارة بكامل التعويض .
2 - دعاوى الرجوع :
إذا كانت نتائج جمع المسؤوليات بسيطة فيما يخص علاقة الضحية بالإدارة والموظف فإنها أكثر تعقيدا فيما يخص عبء التعويض الذي يقع عادة على الإدارة ، إذ تكون تصفية التعويض عن طريق دعوى الرجوع التي تمارسها الإدارة ضد الموظف في حالة قيامها بدفع المبلغ كاملا للضحية أو يمارسها الموظف ضد الإدارة في الحالة العكسية .
2- 1- دعوى الرجوع المرفوعة من الإدارة على الموظف :
نظرا لكون الضحية تفضل غالبا رفع دعوى التعويض ضد الإدارة ، فإننا نجد أن دعوى الرجوع المرفوعة من الإدارة على الموظف هي الأكثر استعمالا ، وهذا يثير مسؤولية الموظف اتجاه الإدارة فيما يخص متابعتها أمام القاضي الإداري بسبب الخطأ الشخصي لهذا الموظف .
• في النظام القديم :
لم يكن مسموح للإدارة المحكوم عليها بدفع كامل التعويض - دون أن يكون هناك خطأ مرفقي- إما على أساس جمع الأخطاء أو جمع المسؤوليات الرجوع على الموظف مرتكب الخطأ محل التعويض ، والذي
كانت مسؤولياته تفلت من كل عقاب ، ففكرة الجمع كانت تؤدي إلى الحصانة الكاملة للموظف من الأخطاء الشخصية ليس فيما يخص المجال المالي فقط ، وإنما حتى فيما يخص حسن سير الإدارة ، إذ أن الاجتهاد القضائي كان يعترف فقط بمبدأ الحلول منذ 1916، من خلال قرار "Thévenet" ، وقد صدر قرار عن مجلس الدولة في هذا الشأن بتاريخ 28 مارس 1924 "Poursines " ، في هذه القضية السيد "Boxtel " تم قتله بناءا على أمر الضابط " Poursines" باعتباره مشبوه فيه قامت الدولة بتعويض ورثة "Boxtel " بمبلغ أربعون ألف فرنك فرنسي ، وبعدها قام وزير الحرب آنذاك بإعذار الضابط المسؤول بدفع مبلغ التعويض للدولة ، في 02 جويلية أصدر أمر يلزمه برد المبلغ ، فطلب الضابط إلغاء هذا التصرف من مجلس الدولة الذي رأى أنه طبقا لقانون 24 ماي 1872 فإن مسؤولية الموظف غير المحاسب العمومي لا تقوم اتجاه الدولة بسبب الأخطاء التي ارتكبها عند مباشرة مهامه إلا إذا صدرت نصوص تشريعية خاصة تسمح للوزير بالتصريح بمديونية الموظف اتجاه الدولة ، وفي غياب مثل هذه النصوص تكون إدارة الحرب قد أخطأت حينما حملت الضابط عن طريق قرار بإلزامه بأن يرد لها مبلغ أربعون ألف فرنك نتيجة التعويض الذي دفعته لورثة الضحية ، وقرر مجلس الدولة في الأخير إلغاء قرار وزير الحرب .
• في النظام الحالي :
لقد جاء قرار "Laruelle " الصادر عن مجلس الدولة في 28 /07/1951 بقواعد جديدة تقضي بمسؤولية الموظف مرتكب الخطأ الشخصي اتجاه الإدارة على أساس قيام هذه الأخيرة بتعويض الضحية عن الضرر الذي لحقها من جراء هذا الخطأ ، وتتلخص وقائع القضية في أن : "Laruelle " ، ضابط صف قام بتاريخ15 جوان 1945 بصدم الضحية السيدة "Marchand " بواسطة سيارة عسكرية كان يستعملها لأغراض شخصية لا علاقة لها بعمله ، فصدر قرار من مجلس الدولة بتاريخ 12 مارس 1948 يلزم الإدارة ب
تعويض الضحية وذلك على أساس أن السلطة العسكرية لم تتخذ الإجراءات اللازمة لمراقبة خروج سياراتها من المرآب ، وبناءا على هذا القرار صدر قرار "Laruelle " مفاده ترتيب مسؤولية هذا الأخير اتجاه الإدارة وبالتالي تحميله بمبلغ التعويض الذي دفعته للضحية .
وقد صدرت عدة قرارات عن مجلس الدولة في هذا الشأن أهمها قـرار "Delville " وقرار "Moritz" نتجت عنها عدة قواعد أهمها :
1- يمكن للإدارة بعدما تقوم بتعويض الضحية التي رافعتها أمام القاضي الإداري أن ترفع دعوى رجوع أمام نفس الجهة حتى في غياب أي دعوى ضد الموظف ترفعها الضحية (Laruelle) وكذلك حتى ولو قامت بدفع التعويض تطوعا (Moritz ).
وبالتالي يمكن للإدارة حتى تضمن رد مبلغ التعويض من قبل عونها أن تلجأ إلى إجراءات تنفيذية.
2- يكون للقاضي الإداري النظر في توزيع المسؤولية بين الإدارة والموظف وبالتالي في توزيع عبء التعويض بينهما ، وفي حالة تعدد الموظفين المتسببين في الضرر اللاحق للضحية فإن فكرة الضمان مستبعدة ويكون بذلك كل واحد منهم مسؤول اتجاه الإدارة بقدر حصته في التعويض لقاء حصته في المســـــؤولية " Jeannier " .
3 - وعلى القاضي الإداري أن يأخذ بعين الإعتبار وجود الأخطاء المرتكبة من طرف الإدارة والموظف ومدى خطورتها فيكون للإدارة في حالة نتج جمع المسؤوليات عن خطأ شخصي أن تعود على الموظف بكامل التعويض الذي دفعته للضحية أو بتحميله بجزء منه كما حدث في قرار " Jeannier " الصادر عن مجلس الدولة في 22 مارس 1957 أين حاولت الإدارة تحميل الجنود الستة الذين كانوا في الشاحنة
العسكرية المتسببة في الحادث بكامل التعويض ، وقد قرر مجلس الدولة عندما رفعت الدعوى أمامه تحميلهم بربع قيمة التعويض المحكوم به على الإدارة .
4- إن القرار القضائي الذي ألزمت بموجبه الإدارة بتعويض الضحية لا يحوز قوة الشيء المقضي فيه في مواجهة الموظف أي انه لا يمكن له أن يحتج به كدفع في دعوى الرجوع المقامة ضده من قبل الإدارة ، فيكون له أن يطلب مراجعة قيمة مبلغ التعويض أو مبدأ مسؤوليته في حد ذاته "Laruelle " .
والمسؤولية عامة يختلف مفهومها بإختلاف المجال الذي تدرس فيه ، فإذا كانت المسؤولية الأدبية تنتج عن مخالفة واجب أدبي ( لاينص عليه القانون ) ، فإن المسؤولية القانونية تنتج- على عكس ذلك – عن مخالفة إلتزام قانوني ، كما نجد المادة 124 من القانون المدني الجزائري تأتي بقاعدة عامة بحيث تنص على أنـه : " كل عمل أيا كان ، يرتكبه المرء ويسبب ضررا للغير يلزم من كان سببا في حدوثه بالتعويض " .
فنجد المسؤولية المدنية في القانون المدني ، والمسؤولية الجنائية في القانون الجنائي ، والمسؤولية الدستورية في القانون الدستوري ، والمسؤولية الدولية في القانون الدولي العام ، وفي القانون الإداري نجد المسؤولية الإدارية وهي ما يهمنا في بحثنا هذا ، وهذه الأخيرة تترتب في حالة حدوث ضرر ما من جراء أعمال الإدارة العامة .
ومسؤولية الإدارة العامة ، نجدها في الوقت الراهن في معظم التشريعات ، إلا أنها حديثة النشأة ، إذ أنه لم يبدأ الأخذ بها سوى في أواخر القرن الماضي خاصة مع إتساع مجال تدخل الدولة في جميع الميادين ، فنظرا لما تتمتع به الإدارة من إمتيازات السلطة العامة ، فإن المشرع لأجل تحقيق النفع العام و الراحة العمومية والسكينة العامة والأمن العام والتي تشكل من أهم الإلتزامات التي تقع على عاتق الدولة بحيث تلتزم بتحقيقها
بهدف احترام سيادتها والحفاظ على استمرارها . ولما أن حاجات الأفراد ومتطلباتهم تزداد كلما ازداد عددهم فإن حاجات الدولة لتحقيق التزاماتها نحو الفرد تزداد أيضا ، وبذلك تحاول الدولة خلق وسائل قانونية تستطيع من خلالها التوفيق بين تحقيق مصالح الجماعة وإرضاء الفرد .
فإن المكانة التي تحتلها النشاطات العامة في مجتمعنا ، وكذا الحاجة الحالية إلى تغطية كافة الأضرار ، بالإضافة إلى تطور مفهوم دولة القانون ، تبرر ظهور وتوسع فكرة المسؤولية الإدارية . فنشاط الإدارة كأي عنشاط أخر قد يكون سببا في إحداث أضرار – قد تكون بجسامة معتبرة – بإعتبار الإدارة كسلطة تنفيذية تستعمل وسائل ضخمة وأحيانا خطرة في أداء مهمتها . فهل يحق للضحايا طلب جبر هذه الأضرار ؟ و بأية شروط ؟ .
إن المسؤولية التي تنجر في هذه الحالة هي مسؤولية مدنية وليست جزائية ، فالمسؤولية الجزائية للأشخاص المعنوية يتناولها القانون الجنائي ، بينما ينحصر موضوع بحثنا في المسؤولية الإدارية ، أي في مجال القانون الإداري . كما أنها تخرج عن مجال المسؤولية العقدية ، إذ أن مسؤولية الإدارة التي تنجر عن عدم تنفيذ التزام تعاقدي تدخل ضمن نظرية العقود الإدارية .
إن الإجتهاد القضائي في مجال القضاء الإداري عمل عبر مراحل متتالية على إيجاد حلول خاصة لهذه المسؤولية ، فوضع نظام قائما بذاته يتعلق بها . أما التشريع فلم يتدخل سوى في حالات معينة لتغطية أضرار خاصة . وسوف نرى عبر تحليلنا لهذا الموضوع مختلف الفروق بين نظام المسؤولية في القانون الإداري ، وما هو متداول عليه في القانون المدني بإعتباره القاعدة العامة .
فكيف ظهر مبدأ المسؤولية الإدارية ؟ وكيف تطور ؟ وماهي أهم خصائصه ؟ والأسس التي يقوم عليها ؟ وفي الأخير ماهي النتائج المترتبة عن تحميل الإدارة المسؤولية عن الأضرار المترتبة عن ادائها لنشاطها ؟
و لمعالجة هذه الإشكاليات ، ارتأينا اتباع الخطة المبينة أدناه :
المبحث الأول: نشأة و تطور فكرة المسؤولية الإدارية:
ظلت الدولة بصفة عامة و الإدارة بصفة خاصة و لحقبة طويلة من الزمن غير مسؤولة عن أعمالها ووظائفها المختلفة، و كذا عن أخطاء موظفيها، و يعود ذلك إلى الفكرة التي كانت سائدة آنذاك و هي أن الدولة شخص معنوي مجسدة في شخص الملك الذي لا يخطئ أبدا، و كذا إلى فكرة السيادة باعتبار أن المسؤولية التزام و هو ما يتناقض مع السيادة في شكلها التقليدي بما تنطوي عليه من سمو و إطلاق.
إلا انه في نهاية القرن 19 و بداية القرن 20 بدأ المفهوم المطلق لعدم مسؤولية الدولة يندثر خاصة مع اتساع مجال تدخل الدولة في جميع المجالات مما ينتج عنه تعدد الأضرار على الأشخاص و الأموال، وبدأت فكرة المسؤولية تشق طريقها نحو التطبيق، إذ لجأ في بعض القوانين إلى منح تعويضات عن الأضرار الناتجة عن نشاط الإدارة دون أن يعترف بمسؤولية الإدارة، و طبق القضاء هذا المبدأ بعد مدة طويلة، إذ تطورت مفاهيمه ، و لجأ إلى عدة نظريات حاول من خلالها إيجاد أساس قانوني لهذه المسؤولية و من بينها نظرية الدولة المدينة و نظرية المرفق العام.
و لم يتم خضوع الإدارة بما لها من سلطات و امتيازات للقضاء العادي أو الإداري دفعة واحدة، وإنما تم ذلك ببطئ، و عبر حقب زمنية متتالية، و قد اختلفت مواقف النظم القضائية المقارنة حول تكريس مبدأ مسؤولية الإدارة، إذ ظهرت في الدول الانجلوسكسونية و خاصة انجلترا عدة محاولات لإخضاع تصرفات الإدارة لرقابة القضاء بالرغم من وجود مبدأ عدم مسؤولية التاج.
و مع تمتع الإدارة بسلطات و امتيازات واسعة في الدول الأوربية و على رأسها فرنسا، فإنه لم يكن بإمكان القاضي العادي أن يوجه لها أمرا بالقيام بعمل أو الامتناع عنه أو إلزامها بالقيام بعمل، إلا أن قيام الثورة الفرنسية و ظهور مبدأ الفصل بين السلطات على يد الفقيه " مونتسكيو" أعطيا دفعا قويا لتكريس مبدأ مسؤولية الإدارة، و هو ما نتج عنه منح القاضي الإداري مهمة الفصل في القضايا التي تكون الإدارة طرفا فيها.
أما عن الدولة الجزائرية فقد عرفت هي الأخرى عدة تطورات بخصوص تطبيق مبدأ مسؤولية الإدارة و هو ما سنتطرق له تباعا.
المطلب الأول: عدم مسؤولية الإدارة
تملصت الإدارة و لمدة طويلة من الزمن من مسؤوليتها عن أعمالها و أخطاء موظفيها على أساس الإعتقاد الذي كان سائدا و هو أن الملك لا يخطئ "The king can do no wrong " فباعتبار أن التاج صاحب السيادة لا يخطئ فإن الدولة لا تسأل عن أعمالها و أعمال موظفيها .
و يمكن حصر الأسباب و العوامل التي أدت أو ساعدت على سمو مبدأ عدم مسؤولية الدولة فيما يلي:
1- طبيعة الدولة قديما و ظروفها الإجتماعية، السياسية و الإقتصادية، إذ كانت في معظمها دول دكتاتورية بوليسية لا تخضع لمبدأ الشرعية و لا لرقابة القضاء، و هو ما ساعد على انتشار و توسع دائرة عدم مسؤولية الإدارة عن أعمالها غير المشروعة و الضارة.
2- طبيعة العلاقة القانونية التي كانت تربط الموظف بالدولة و التي عرفت بالتعاقدية لاسيما في النظام الانجلوسكسوني، و بالتالي فإن الإدارة لا تسأل عن الأضرار التي يسببها موظفوها للغير، على أساس أن هذه الأضرار تعد خارجة عن نطاق حدود العقد المتعلق بالوظيفة و يتحملون المسؤولية المدنية أمام القاضي العادي .
و قد كرست فرنسا هذه الحماية لموظفيها بعدم إمكانية مقاضاتهم وفقا لنص المادة 75 من دستور السنة الثامنة للثورة، إلا أن هذه الحماية القانونية التي منحت للموظفين والعاملين استعملت بطريقة مبالغ فيها، مما أدى إلى إلغاء المادة 75 بموجب المرسوم الصادر في19/09/ 1970 .
3- الإهتمام بقضايا حقوق الإنسان و الدولة القانونية و العدالة الإجتماعية بصفة نظرية بغض النظر عن أساليب و فنيات تطبيقها.
4- إنعدام الأساليب القانونية و الإجرائية اللازمة لإخضاع الإدارة للرقابة القضائية.
5- عدم بروز و بلورة فكرة التفرقة بين الخطأ المرفقي و الخطأ الشخصي و نظرية المخاطر، و هو ما ساعد على عدم تحديد الخطأ الإداري
6- سمو مبدأ سيادة الدولة، إذ كان ينظر إليه على أنه يتنافى مع مبدأ المسؤولية و لا يلتقيان، فالدولة شخص معنوي تتمتع بكافة الحقوق والإمتيازات و أساليب السلطة العامة، و تتمتع بالسيادة و بالتالي فإنه لا يمكن مساءلتها عن أعمال سلطاتها بما فيها التنفيذية.
الفرع الأول: النظام الفرنسي
كغيرها من الدول القديمة خضعت فرنسا لمقولة " الملك لا يسيء صنعا " le roi ne peut mal faire و أنه امتداد لإرادة و ظل الله في أرضه، و هو ما جعله يتمتع بسلطة مطلقة في تسيير شؤون الدولة و عدم خضوعه للرقابة بما فيها الرقابة القضائية، و اعتباره مصدرا للعدالة، و التكفل شخصيا بالفصل في أي منازعة، و كذا وقف تنفيذ الأحكام أو إصدار حق العفو فيها.
و بانتقال فرنسا بعد الثورة الفرنسية سنة 1789 من النظام الملكي إلى الجمهوري، و بظهور نظرية مونتسكيو المتعلقة بالفصل بين السلطات، ظهر جدل فقهي كبير حول عدم مسؤولية الدولة عن أعمال السلطة التنفيذية، إذ أن مناقشة تصرفات الإدارة أمام القضاء، و إعلان مسؤوليتها و إلزامها بالتعويض عن الأخطاء التي يرتكبها موظفوها يؤدي إلى تدخل السلطة القضائية في أعمال السلطة التنفيذية على خلاف ما يقضي به مبدأ الفصل بين السلطات، و لم يكن الإختلاف قائما حول المبدأ و إنما حول تفسيره، إذ يأخذ البعض بالفصل المطلق بين سلطات الدولة، و هو ما كان يميل إليه رجال الثورة الفرنسية متأثرين في ذلك باعتبارات تاريخية تتمثل في تعسف محاكم النظام القديم، في حين كان الاتجاه الغالــب و الواقع العملي يرجح فكرة الفصل النسبي لما يسمح به من وجود نوع من الرقابة المتبادلة بين سلطات الدولة للحيلولة دون استبداد كل سلطة باختصاصاتها .
فجل الأفكار التي كانت سائدة آنذاك كانت مع فكرة عدم مسؤولية الإدارة عن أعمال جميع موظفيها، إذ رأت السلطة الفرنسية أن المحاكم العادية قد تعرقل الإصلاحات التي تعزم الإدارة القيام بها لذلك عملت على إبعاد منازعات الإدارة عن ولاية المحاكم العادية، و تجسيدا لهذه الأفكار صدر قانون
16-24 سنة 1790 الذي نص في المادة 13 منه " إن الوظائف القانونية تبقى دائما مستقلة عن الوظائف الإدارية و أن القضاة لا يمكنهم تعطيل أعمال الإدارة بأي طريقة كانت أو مقاضاة أعوانها من اجل أعمال تتصل بوظائفهم و أن كل خرق لهذا المنع يعتبر خرقا فادحا للقانون"
و قد اعتبر المدافعون عن قانون 1790 أن مقاضاة الإدارة أو أعوانها أمام القضاء يؤدي إلى عرقلة أعمالها التي تهدف إلى تحقيق الصالح العام، فمثلا إذا تمت مقاضاة الإدارة حول نزع الملكية من أجل المصلحة العامة فإن ذلك سيؤدي حتما إلى تعطيل المشاريع التي تم من أجلها نزع العقار من مالكه .
و على هذا الأساس صدر في السنة السادسة للثورة قانون يمنع المحاكم صراحة من التعرض لأعمال الإدارة أيا كان نوعها و أصبحت الإدارة بذلك تتولى مهمة الفصل في المنازعات التي تنشأ بينها و بين الأفراد، و تطبيقا لهذا القانون صدر قانون آخر بتاريخ 06/09/1790 يمنح الاختصاص في النظر في القضايا التي تكون الإدارة المحلية طرفا فيها لحكام الأقاليم، و منح للإدارة العامة ممثلة في رئيس الدولة والوزراء ـ كل في حدود اختصاصه ـ للنظر في المنازعات التي تكون الإدارة المركزية طرفا فيها، لتكون الإدارة بذلك الخصم و الحكم في آن واحد و سميت بالإدارة القاضية، و هو ما أعاق تحقيق و تكريس مبدأ الفصل بين السلطات، إذ أنه منع على السلطة القضائية البث في القضايا الإدارية في حين منح للسلطة الإدارية سلطة البث في القضايا الإدارية مع أنها ليست جهة قضائية.
و أمام رفض الفقهاء و القضاء لتمتع الإدارة بهذا الاختصاص الممتاز، تم فصل الإدارة العاملة عن الإدارة القاضية، و تم إنشاء جهة استشارية مختصة في الفصل في المنازعات الإدارية بموجب نص المادة 52 من دستور السنة الثامنة، و هي مجلس الدولة في العاصمة، كما تم إنشاء مجالس المحافظات في باقي الأقاليم.
إلا أن قرارات المجلس لم تكن سوى آراء و مشاريع قرارات معلقة على مصادقة رئيس الدولة، إذ أنها لم تكتسي الطابع القضائي، و لم تكن شاملة و لا نهائية، كما أنه لم يعتمد حال فصله في المنازعات على قواعد خاصة تطبق فقط على المنازعات الإدارية، و إنما طبق قواعد القانون الخاص.
كما نصت المادة 75 من دستور السنة الثامنة من الثورة الفرنسية لسنة 1800 على ضرورة استئذان مجلس الدولة قبل رفع قضايا التعويض على موظفي الحكومة بسبب أعمالهم و وظائفهم.
إلا أن المجلس لم يمنح الإذن إلا نادرا إذ أنه في الفترة الممتدة بين 1852 و 1864 قدم أمامه 264 طلبا لمنح رخصة لمقاضاة موظفين فلم يجب إلا على 34 طلبا منهم فقط و ظل هذا النص يعرقل رفع دعاوى التعويض على الموظفين إلى غاية إلغائه بموجب مرسوم 19/09/1870.
و بتاريخ 24/05/1872 صدر قانون تم الاعتراف بموجبه لمجلس الدولة بصلاحية الفصل في المنازعات الإدارية المرفوعة أمامه بصفة نهائية و دون حاجة إلى مصادقة السلطة الإدارية على قراراته و لم تعد الأحكام تصدر باسم الدولة بل باسم الشعب الفرنسي على غرار أحكام القضاء العادي، و قد نصت
المادة 9 التاسعة منه على أنه " يختص مجلس الدولة بشكل بات و سيادي في طعون مواد المنازعات الإدارية و في طلبات الإلغاء لتجاوز السلطة ".
و أصبح بذلك مجلس الدولة جهة قضائية عليا و تم الفصل بين القضاء الإداري و القضاء العادي.
الفرع الثاني : النظام الجزائري
من المسلم به تاريخيا أن مبدأ مسؤولية الدولة عن أعمالها مبدأ حديث النشأة وجد في أواخر القرن 19 و بداية القرن 20 مع ظهور الدولة القانونية، إلا أنه و بالخصوص في تاريخ الجزائر القانوني نجد أن ظهور المسؤولية الإدارية يعود إلى سنين بعيدة تصل إلى صدر الإسلام.
و قد مرت نشأة و تطور مبدأ مسؤولية الدولة عن أعمالها في النظام الجزائري بعدة مراحل قبل الإحتلال، أثناء الإحتلال و بعد الإستقلال.
و بما أننا خصصنا هذا المطلب لعدم مسؤولية الإدارة فإننا سنتطرق لمرحلة أثناء الإحتلال التي عرفت عدم تطبيق مبدأ المسؤولية الإدارية في الجزائر مع أنها كانت مكرسة في النظام الفرنسي، و نتطرق لمرحلة ما قبل الإحتلال و بعد الإستقلال في المطلب الثاني المتضمن مسؤولية الإدارة على أساس أن النظام الجزائري قد عرف المسؤولية الإدارية في هاتين الحقبتين من الزمن.
لقد امتد تطبيق النظرية الفرنسية لمبدأ مسؤولية الإدارة عن أعمالها إلى الجزائر، إذ طبقت نفس القواعد الموضوعية و الشكلية و لاسيما المتعلقة بأسس مسؤولية الإدارة العامة عن أعمال موظفيها، و مرت بنفس التطورات التي شهدها القضاء الإداري الفرنسي، كما أقيمت جهات قضائية إدارية خاصة للنظرــر و الفصل في القضايا و الدعاوى الإدارية و من بينها المنازعات الخاصة بمسؤولية الإدارة عن
أعمال موظفيها، إذ أنشأت محاكم القضاء الإداري الثلاثة و هي محكمة الجزائر، وهران، قسنطينة بموجب المرسوم المؤرخ في 30 سبتمبر 1953 و ذلك بعد إلغاء مجالس العمالات التي كانت قائمة إلى جــانب مجلس الدولة الفرنسي ، و قد أسندت لهاته المحاكم الثلاثة مهمة النظر و الفصل في المنازعات الإدارية بما فيها المنازعات المتعلقة بمسؤولية الدولة عن أعمال موظفيها، و ذلك تحت رقابة مجلس الدولة الفرنسي بباريس باعتباره جهة قضائية إدارية استثنائية و جهة نقض .
إلا أنه و رغم تقدم و تطور النظرية الفرنسية لمبدأ مسؤولية الدولة على يد القضاء الإداري، فإن تطبيقها لم يكن شاملا و لا عاما، إذ اقتصرت الإدارة على تطبيق هذا المبدأ على الفرنسيين و غيرهم من الأوربيين المستوطنين بالجزائر دون الجزائريين الذين عانوا كثيرا من بطش و تعسف الإدارة الفـــرنسية و اعتداءاتها المستمرة على حقوقهم و حرياتهم دون أن يكون لهم الحق في الاستفادة من هذا المبدأ الهام ومساءلتها أمام القضاء، لأن تطبيق مبدأ المسؤولية في الجزائر يتعارض و غرضها الاستعماري.
و لاستبعاد الجزائريين من دائرة تطبيق مبدأ مسؤولية الإدارة ، أصدرت فرنسا عدة قوانين استثنائية يقتصر تطبيقها على الجزائريين فحسب، تثبيتا لمبدأ " فرق تسد" و تطبيقا لسياسة " التمييز العنصري"
و هو ما أعدم لدى الجزائريين مجرد التفكير في اللجوء إلى الجهات القضائية الفرنسية لمطالبة الإدارة بالتعويض عن الأضرار التي أصابتهم من جراء أعمالها و أخطاء موظفيه.
المطلب الثاني: تقرير مسؤولية الإدارة
ظل مبدأ عدم مسؤولية الإدارة عن أعمالها و عدم جواز مطالبها بالتعويض عن الأضرار التي سببتها سائدا و لفترة طويلة إلى غاية أواخر القرن 19 و بداية القرن 20، أين بدأت الإدارة تعترف بمسؤوليتها مع التقدم و ارتفاع درجة الوعي، و انتقاد الرأي العام و الفقهاء لهذا المبدأ على أساس أن الأخذ به يعد مساسا بالعدالة و اهدارا للمبدأ الدستوري الذي ينص على المساواة بين المواطنين أمام الأعداء العامة و الذي لا يتحقق إلا بإلزام الدولة بدفع تعويضات عن الأضرار التي تسببها بأعمالها.
و يمكن تلخيص العوامل التي أدت إلى انهيار مبدأ عدم مسؤولية الإدارة ليقوم مقامه مبدأ مسؤوليتها، إذ أضحى هو الأصل بعد أن كان الإستثناء و لتتحقق المساواة بين الإدارة و الأفراد في:
1- الفهم الصحيح لمبدأ سيادة الدولة، إذ بعد أن كانت تفهم على أنها سلطة مطلقة لا تقيد بالقانون و بالتالي لا يمكن مقاضاتها أو إلزامها بدفع تعويض، فلم تعد حاليا تتنافي مع الخضوع للقانون و لا مطلقة، إذ تقيد بأحكام القانون الدولي العام على مستوى العلاقات الدولية، و تقيد بالقانون الداخلي على مستوى علاقاتها مع الأفراد، و بالتالي يمكن مساءلتها و تتحمل دفع تعويضات إذا ما ألحقت ضررا بأحد المواطنين.
و إن كان الفقيهان دوجي وجيز يريان أن فكرة السيادة خاطئة و تتنافي مع المنطق و المبادئ القانونية الحديثة، لأن الحكام و ممثليهم على مستوى الإدارات يتولون اختصاصاتهم في حدود القانون، و يسألون في حالة خروجهم عنهم.
2- انتشار الديمقراطية في معظم دول العالم، و هي النظام الأكثر تقبلا لفكرة المسؤولية و رقابة القضاء، و احتراما للقانون، إذ تقوم أساسا على مبدأ المشروعية و خضوع الجميع حكاما و محكومين للقانون.
3- إنتقال الدول من المذهب الفردي الحر إلى مذهب التدخل و تبلور دورها من مجرد حارسة تنحصر مهمتها في حماية الأفراد و السهر على أمنهم و سلامتهم داخليا و خارجيا إلى تدخلها في مختلف الأنشطة و اتساع دورها، و هو ما جعلها تقوم بأنشطة مشابهة لأنشطة الأفراد. مما نجم عند ازدياد الأضرار التي تسببها الأفراد كما و نوعا، و زادت معه الحاجة الملحة لمساءلتها و تعويض الأفراد.
و قد كانت مسؤولية الدولة عن أعمال السلطة التنفيذية هي الأسبق في التحرر شبه الكامل من قيود مبدأ السيادة، و قد ساعد على ذلك أن الإدارة هي أداة الدولة لتنفيذ سياستها و السهر على تطبيق قوانينها و غدارة مرافقها و للاضطلاع بهذه المهام تحتك الإدارة بالأفراد بصفة دائمة و متواصلة، الأمر الذي يعرضهم للإصابة ببعض الأضرار، و هو ما أدى إلى البحث عن وسيلة لجبر هذه الأضرار، و كان من المنطقي الإنصراف عن قاعدة عدم المسؤولية الإدارية و التخلي عنها.
و قد ظهرت المسؤولية الإدارية بصفة و بدرجات متفاوتة بين الدول و ذلك بالنظر إلى نظامها القانوني، إذ طبقت الدول الأنجلوسكسونية على الإدارة نفس نظام المسؤولية المدنية المطبق على الأشخاص العاديين باعتبارها تخضع لمبدأ وحدة النظام القانوني و القضائي، في حين خصت فرنسا المسؤولية الإدارية بنظام قانوني خاص و جهات قضائية مستقلة تختلف عن نظام المسؤولية المطبق على الأشخاص العاديين
باعتبارها تخضع لمبدأ ازدواجية النظام القانوني و القضائي، و هو ما نتج عنه ازدواجية في النظام القانوني والقضائي للمسؤولية الإدارية قضاء عادي و قضاء إداري، أما الجزائر فإنها عرفت تأرجحا بين النظامين.
و لتوضيح نشأة و تطور فكرة المسؤولية الإدارية بدقة سنتطرق لها في فروع متفرقة.
الفرع الأول: النظام الفرنسي
أمام ضغط و تأثير الأفكار الفلسفية و الديمقراطية، و التحولات الاقتصادية و انتقادات الفقه والقضاء بدأت فرنسا تتراجع تدريجيا عن تطبيق مبدأ عدم مسؤولية الدولة بصفة عامة و الإدارة بصفة خاصة، و هو ما اضطر المشرع إلى التدخل و تقرير مسؤولية الإدارة بصفة صريحة و إحلال مسؤوليتها محل الموظفين، كما أنه أباح للمواطنين مقاضاة الموظفين العموميين دون حاجة إلى استئذان الإدارة و ذلك لمنع تعسفها.
إلا أن القضاء لم ينتقل مرة واحدة من مبدأ عدم المسؤولية إلى مبدأ المسؤولية الكاملة و إنما تدرج، إذ بدأ في الحد من مبدأ عدم المسؤولية على أساس التفرقة بين نوعين من أعمال الإدارة، أعمال شبيهة بأعمال الأفراد العاديين تقوم بها بوصفها تاجر أو مسير، و بصفة مجردة من مظاهر و امتيازات السلطة العامة "Actes de gestion " ، و أعمال السلطة العامة التي تستعمل فيها مظاهر و امتيازات السلطة العامة و التي تسمي ب "Actes de puissance publique " ، و التي تعفي فيها من المسؤولية إلا إذا وجد نص مخالف، إذ أنه بإمكان المشرع أن يقررإصلاح الأضرار الناجمة عن أعمال السلطة.
و نظرا لعدم دقة معيار التفرقة بين أعمال السلطة و أعمال الإدارة من ناحية، و عدم اتفاق مبدأ عدم مسؤولية الدولة عن أعمال السلطة التنفيذية و التطورات و الأفكار المعاصرة من ناحية أخرى عدل مجلس الدولة عن هذا المعيار آخذا بمعايير أخرى .
و بذلك نقول أن قبول فكرة المسؤولية مر بمرحلتين، إذ أعرفت به أولا القوانين الخاصة التي تنص على التعويضات، ثم اعترف به القضاء بإلزام الإدارة بإصلاح الضرر الناتج عن أعمالها .
فبالنسبة للقوانين الخاصة فقد نصت المادة 17 من الإعلان عن حقوق الإنسان و المواطن لسنة 1789 على تكريس الحق في التعويض عن الإعتداء على الملكية العقارية.
كما تعرض قانون 28 بلوفيوز للسنة الثامنة في المادة 4، بصفة عارضة لمسألة التعويض في حالة الأضرار الناجمة عن الأشغال العمومية و منح الإختصاص لمجالس المحافظات للنظر في الشكاوى المقدمة ضد متعهدي الأشغال، و بالرغم من عدم إشارة النص إلى مسؤولية السلطة العامة، إلا أن القضاء الإداري توسع في تفسيره قاضيا باختصاصه بمسؤولية الإدارة عن الأضرار المترتبة عن عقود الأشغال العمومية، و التي صنفت فيما بعد ضمن المسؤولية بدون خطأ و بالتحديد على أساس المخاطر .
و لضمان تطبيق المادة 545 من القانون المدني الفرنسي المأخوذ من نص المادة 17 من الإعلان عن حقوق الإنسان سنة 1789 تمت المصادقة على قانون 8 مارس 1810 المتضمن إجراءات نزع الملكية من أجل المنفعة العمومية، كما منح للقاضي العادي صلاحية تقرير نقل الملكية و تحديد مقدار التعويض.
و بذلك أصبحت الأضرار الناتجة عن الأشغال العمومية و نزع الملكية من أجل المنفعة العامة الحالتين الوحيدتين اللتين ينص فيهما القانون على التعويض لمصلحة الأشخاص المعنيين.
أما عن التكريس القضائي للمسؤولية الإدارية فقد ارتبط بالتنازع حول الاختصاص بين المحاكم القضائية و المحاكم الإدارية، إذ أن الأولى كانت تخص بمنح التعويضات عن الأضرار الناجمة عن نشاط
الدولة و ذلك بتطبيق قواعد القانون المدني، و هو ما كرسه الحكم الصادر عن محكمة النقض بتاريخ 30/01/1843 الذي قضى بأن مبادئ المادة 1384 من القانون المدني تطبق على الإدارات العمومية بسبب الأضرار التي يسببها أعوانها و تابعيها خلال قيامهم بوظائفهم .
إلا أن مجلس الدولة اعترض على هذا الموقف و تمسك باختصاصه مؤسسا ذلك على نظرية الدولة المدينة " L’Etat débiteur " ... " كل دين على الدولة يسوى إداريا" .
و لم يتم حل هذا الإختلاف إلا بعد إنشاء محكمة التنازع و ظهور معايير جديدة، و قد كرس مجلس الدولة رفضه لتطبيق قواعد المسؤولية المعروفة في القانون المدني على المسؤولية الإدارية، في الحكم الصادر بتاريخ 06/12/1855 المتعلق بقضية " ROTCHILD " ، حيث قرر صراحة أن العلاقات بين الدولة وموظفيها والمرافق العامة من ناحية وبين الأفراد من ناحية أخرى لا تخضع لنصوص القانون المدني لوحدها، و أن مسؤولية الإدارة عن أعمال أو أخطاء موظفيها ليست عامة و لا مطلقة و تتغير تبعا لطبيعة كل مرفق عام .
ثم أيدت محكمة التنازع إتجاه مجلس الدولة الفرنسي من خلال قرار بلانكو الشهير Blanco الصادر في 08/02/1873 و الذي يعد أهم تكريس قضائي للمسؤولية الإدارية للمرفق العام، و تتمثل
وقائعه في انه تعرضت الطفلة إجينز بلانكو لحادث مرور تسببت فيه عربة مقطورة تابعة لوكالة التبغ، فرفع والدها دعوى امام القضاء العادي ضد الدولة للحصول على تعويض جبرا للضرر الذي أصاب ابنته، إلا أن وكالة التبغ دفعت بعدم إختصاص المحاكم العادية، و أن مجلس الدولة هو الجهة المختصة، وهو ما ادى إلى عرض النزاع على محكمة تنازع الاختصاص التي أصدرت قرار في الموضوع بناء على تقرير مفوض الحكومة السيد دافيد و قد تضمن عدة مبادئ هي:
1 ـ أن الدولة مسؤولة عن الأضرار التي تصيب الأفراد و التي يسببها الأشخاص الذين تستخدمهم، و أن هذه المسؤولية لا تخضع لمبادئ القانون المدني التي تحكم العلاقة بين الأفراد على أساس أن نصوصه المراد تطبيقها في مجال مسؤولية الإدارة لا ترمي إلى تنظيم مسؤولية الإدارة حيث تنص على مسؤولية الأفراد العاديين، و هو ما لا ينطبق على الدولة أو الإدارات العامة و موظفيها، كما أن هذه النصوص وضعت في وقت سيطرت فيه قاعدة عدم مسؤولية الإدارة عن أعمالها هذا من ناحية، و من ناحية أحرى فإن القواعد المدنية تقييم المسؤولية على أساس علاقة المتبوع بالتابع، في حين أن علاقة الإدارة بموظفيها هي علاقة تنظيمية و ليست تعاقدية، كما أنه لا يمكن تطبيق قواعد مسؤولية المتبوع عن التابع في
حالة عدم إسناد الفعل الضار لموظف معين و هو ما يقتضي استبعادها لأنها لم تعد تواكب نشاط الإدارة و لا تليق بطبيعة عملها و بالنتيجة وضع قواعد بديلة أكثر ملائمة لطبيعة النشاط الإداري سميت بقواعد القانون الإداري
و يكون بذلك قرار بلانكو قد استبعد صراحة تطبيق أحكام القانون المدني، و كرس الخصائص المتعلقة بالقواعد التي تطبق على المرفق العام.
2 ـ أن هذه المسؤولية ليست مطلقة و لا عامة، و لها قواعد خاصة غير مستقرة و ثابتة و إجراءات تحكمها تختلف باختلاف حاجة المرفق و ضرورة التوفيق بين حقوق الدولة و حقوق الأفراد .
3 ـ تختص المحاكم الإدارية بالنظر و الفصل في قضايا المسؤولية الإدارية و التعويض عن الأضرار الناتجة عن سير المرافق العامة .
و يكون بذلك قرار بلانكو قد استبعد بصفة صريحة و نهائية اختصاص القضاء العادي انطلاقا من نظرية الدولة المدنية " L’état débiteur " و فكرة امتيازات السلطة العامة و هي نفس الأسس التي استند عليها مفوض الحكومة دافيد في تقريره . إذ أقر بمسؤولية مصنع التبغ الذي يعتبر مرفق عام كغيره من المرافق التي تشكل النظام المالي للدولة و باعتبار أن هذه المرافق هي فروع للإدارة و الدولة تستعمل في تسيير المرافق السلطة العامة، فإن منازعاتها تخضع للقضاء الإداري.
و بالتالي أصبحت الدولة مسؤولة حتى وإن كان الموظف الذي تسبب في إحداث الأضرار ليست له صفة موظف دائم و إنما عامل مؤقت أو شخص وظف من طرفها للقيام بعمل معين و بموجب عقد محدد المدة .
و بذلك أصبح مجلس الدولة الفرنسي يقر بمسؤولية الإدارة عن الأخطاء المرتكبة من طرف موظفيها و يقضي بتعويض الأفراد المتضررين، مع أن مرتكب الحادث هو شخص عادي لا يتمتع بامتيازات السلطة العامة، بعد أن كان فيما مضى يفصل فقط في دعاوى إلغاء القرارات و الأعمال الصادرة عن السلطة العامة و التي تستعمل فيها امتيازات السلطة العامة.
و بموجب هذا القرار تغير مفهوم النشاط الإداري من كل نشاط تستعمل فيه الإدارة امتيازات السلطة العامة إلى كل عمل تقوم به الإدارة لتسير المرفق العام، و هو ما ينجر عنه مسؤوليتها عن الأضرار اللاحقة بالغير أثناء سير هذا المرفق، و بذلك و بعد قرار بلانكو أصبح ينظر إلى هدف النشاط، أي هل تهدف الإدارة من وراء النشاط الممارس إلى تسيير مرفق عام و تحقيق الصالح العام ؟
و يعد بذلك قرار بلانكو نقطة تحول كبيرة في تاريخ القضاء الفرنسي و قفزة نوعية من عدم مسؤولية الإدارة إلى المسؤولية الإدارية و نقطة تحول نحو الإستقلالية، ليس فقط بالنسبة للمسؤولية الإدارية و إنما أيضا بالنسبة للقانون الإداري ككل، إذ أنه أحدث هزة كبيرة في إثبات ذاتية القانون الإداري باعتباره أ مجموعة قواعد تحكم الإدارة و تتضمن أحكاما استثنائية خاصة لا مثيل لها في القانون الخاص.
و قد صدرت عدة قرارات أخرى بعد قرار بلانكو تؤكد مسؤولية المرافق العمومية منها قرار تيريي Terrier الصادر في 06/02/1903 المتعلق بمسؤولية المرافق العامة القومية، و قضية فيتري Feutry الصادر في 28/02/1908 الذي أقر مسؤولية المرافق العامة المحلية .
الفرع الثاني: النظام الجزائري
كما أشرنا سابقا فإن الجزائر قد عرفت و كرست مبدأ مسؤولية الإدارة في مرحلتين مرحلة ما قبل الإحتلال و التي نتطرق فيها للنظام القضائي الإسلامي و تطبيقاته، و مرحلة ما بعد الإستقلال.
I ـ مبدأ المسؤولية الإدارية قبل عهد الاستقلال:
لا يمكن دراسة التاريخ القانوني للجزائر قبل الإحتلال دون التطرق للنظام القانوني الإسلامي الذي كان مطبقا في الجزائر قبل الإحتلال الفرنسي باعتبارها دولة إسلامية تطبق مبادئ و قواعد الشريعة الإسلامية.
و يعد المذهب الإسلامي أول مذهب أقر المسؤولية بصفة عامة و الإدارية بصفة خاصة عن الأضرار الناتجة عن السلطة التنفيذية الممثلة في الخلفاء و اعوانهم أو السلطة القضائية الممثلة في القضاة و معاوينهم ، و ذلك تطبيقا لمبادئ الشريعة الإسلامية التي تحث على رفع الأضرار عن الرعية و مساءلة مسببيها مهما كانت الجهة التي صدر عنها الضرر، و من هذه المبادئ و القواعد قوله صلى الله عليه و سلم: " لا ضرر ولا ضرار في الإسلام" قوله تعالى: " يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي و جعلته بينكم محرما فلاتظالموا
و قوله: " اتقوا الظلم فإن الظلم ظلمات يوم القيامة " فقد عمل النبي عليه الصلاة و السلام على إخضاع الخلفاء و الولاة و الجنود و الموظفين للقانون و الحرص على عدم إعتدائهم على حقوق الرعية، و لقد ااحتذىالخلفاء الراشيدين من بعده بحذواه إذ عملوا على ترسيخ و توسيع مبدأ مسؤولية الدولة الإسلامية
إلا أنه و مع التطور التاريخ الذي عرفته الأمة الإسلامية و غلبة الطابع الدنيوي أصبح من الضروري إيجاد نظام قانوني و قضائي يتولى تطبيق مبدأ المسؤولية و تعويض المتضررين عن الأضرار الناجمة عن أعمال الدولة أو موظفيها، فظهر ديوان المظالم كجهة قضائية إدارية بالمفهوم الحديث تتولى مقاضاة الولاة رجال الدولة الذين لا يمكن للقضاء العادي مقاضاتهم، و قد باشر الخلفاء الراشدون النظر في المظالم بعد الرسول صلى الله عليه و سلم بأنفسهم كما فعل عثمان بن عفان وعمر بن عبد العزيز و أو بواسطة معاونيهم.
و قد كرسوا هذا المبدأ بإعمال قاعدة مسؤولية المتبوع عن أعمال تابعيه في نطاق المسؤولية المدنية و التي يتطلب قيامها ثلاثة شروط، علاقة التبعية بين التابع و المتبوع، خطأ التابع و العلاقة السببية بين خطأ المتبوع و ما إستخدم التابع من أجله.
و إذا ما أردنا الإشارة إلى بعض الأمثلة عن تطبيق مبدأ المسؤولية في الشريعة الإسلامية فإننا نجدها كثيرة نذكر منها :
1 ـ قتل خالد بن الوليد شخص في قبيلة جذيمة بعد أن أعلن أهلها الإسلام فوصل ذلك للنبي صلى الله عليه و سلم فدفع دية لهذه القبيلة و رفع وجهه إلى السماء قائلا: " اللهم أني أرا إليك مما فعل خالد ".
2 ـ روى أبو يوسف أن رجلا أتى عمر بن عبد العزيز و قال له: " يا امير المؤمنين زرعت زرعا فمر به جيش من اهل الشام فأفسده فعوض الخلفية عشرة ألاف درهم "
و إذا ما بحثنا عن تطبيق مبدأ المسؤولية في الدولة الجزائرية فإننا نجد أن حكامها الأولين قد حذو حذوحكام الدولة الإسلامية، إذ كان أمراء بنى الأغلب و الفاطمين و سلاطين الموحدين و المرابطين و بنى مرين و بنى زيان يجلسون لنظرا لمظالم و يعتبرونها من صلب وظيفة الإمارة.و قد أبقي على ولاية المظالم في عهد الأتراك مع بعض الاختلاف.
و في عهد الأمير عبد القادر طبق مبدأ مسؤولية الدولة بصفة واسعة و موضوعية، إذ حذى حذو الخلفاء الراشدين و تولى النظر بنفسه في ولاية المظالم و حرص على تطبيق أحكام الشريعة الإسلامية، إذ كان يفصل في التظلمات المرفوعة إليه ضد موظفي الدولة و يتولى معاقبتهم مهما سمت درجة وظائفهم و مراكزهم، و يصدر في ذلك أحكام نهائية غير قابلة للطعن فيها .
II ـ مبدأ المسؤولية الإدارية بعد الاستقلال:
إختارت الدولة الجزائرية بعد الإستقلال الإستمرار في تطبيق التشريع الفرنسي خوفا من الوقوع في فراغ قانوني و طبقت ذلك وفقا للقانون 62-153 المؤرخ في 31/12/62 ، الذي قضى باستمرارية تطبيق التشريع الفرنسي إلا ما يتنافى مع السيادة الوطنية كأن يتعلق الأمر بالسياسة الداخلية و الخارجية للدولة الجزائرية أو التفرقة العنصرية، و قد ورد في ديباجة هذا القانون تبرير حول إختيار المشرع لهذا التمديد بقوله: " إذا كانت الظروف لا تسمح بإعطاء البلاد تشريع يتماشى مع احتياجاتها و طموحاتها فإنه من غير المعقول تركها تسير بدون قانون، و لذلك كان من الضروري تمديد مفعول القانون القديم و إستبعاد الأحكام التي تتنافي و السيادة الوطنية إلى أن يتم التمكن من وضع تشريع جديد " .
و بموجب الأمر رقم 63-218 المؤرخ في 18/06/1963 تم إنشاء المجلس الأعلى كجهة نقض بالنسبة للقضاء العادي و الإداري.و لم تدم المرحلة الإنتقالية التي شهدها النظام القضائي طويلا، إذ صدر الأمر رقم 65-278 المؤرخ في 16/11/1965 و تضمن عدة إصلاحات و تنظيم قضائي جديد، إذ وضع حدا للإزدواجية في مجال المنازعات بإلغاء المحاكم الإدارية الثلاثة (الجزائر، وهران، قسنطينة) و نقل اختصاصاتها للغرف الإدارية بالمجالس القضائية التي أصبحت بموجب المادةالأولى منه 15 خمس عشرة مجلسا، و أسند للغرفة الإدارية بالمجلس الأعلى مهمة النظر ابتدائيا و نهائيا في الطعون بالبطلان في القرارات الإدارية و تفسيرها و فحص مدى مشروعيتها، كما تولى مجلس الثورة مهمة التشريع خلفا للمجلس الوطني، و قد جعلت هاته الإصلاحات و غيرها من النظام القضائي الجزائري نظاما متميزا عن النظام الفرنسي، و أثبتت الدولة الجزائرية من خلالها أنها حققت نجاحا على مستوى المنظمة القانونية و القضائية بالقضاء على نظام الإزدواجية باعتبار أحد مخلفات الإستعمار.
و في المقابل كان تطبيق مبدأ مسؤولية الدولة بعد الإاستقلال أمر حتمي و ضروري بعد المعاناة الطويلة التي عانى منها الجزائريين من استبداد و تعسف الإدارة الإستعمارية التي طبقت مبدأ عدم المسؤولية بكل أبعاده و آثاره رغم تقدم النظرية الفرنسية و تكريس مبدأ المسؤولية في فرنسا و حتى في الجزائر لكن بالنسبة للفرنسيين و الأجانب فقط.
و قد سار القضاء الجزائري و حتى المشرع على نفس درب التشريع و القضاء الفرنسي، إذ طبق النظرية الفرنسية المتكاملة قضائيا و تشريعا و فقهيا المتعلقة بمبدأ المسؤولية الإدارية، و كرسها في العديد من القرارات القضائية الصادرة عن المجلس الأعلى أو مجلس الدولة بعد إنشائه بموجب القانون العضوى
98-01 المؤرخ في 30/05/98 ، و كذا من خلال العديد من النصوص التشريعية و التي نذكر البعض منها فقط على سبيل المثال لأنه سيتم التطرق لها بنوع من التفصيل في الفصل الثاني من المبحث.
إذ أقر مجلس الدولة (المحكمة العليا حاليا) مسؤولية الإدارة في القرار الصادر في 17/04/82 في قضية وزير الصحة العمومية و مدير القطاع الصحي لمدينة القل ضد "ع. ط" و من معه، و قدجاء في إحدى حيثياته: " حيث أن مسؤولية الإدارة هي مسؤولية خاصة تخضع لقواعد ذاتية لها، و أن أحكام القانون المدني هي أجنبية غير مطبقة عليها، و كذا قضية حميدوش ضد الدولة إذ أقر أن الإدارة مسؤولة على أساس خطأ مرفقي و بالتالي فهي ملزمة بالتعويض، و ذلك من خلال القرار الصادر في 08/04/66 ، و أقر أيضا مسؤولية وزارة العدل في قضية بلقاسمي 17/04/1972 على أساس عدم سير مرفق القضاء .
كما صدرت عدة نصوص تشريعية هامة تم بموجبها التوسع في أسس المسؤولية القانونية من الخطأ الشخصي للموظف إلى الخطأ المرفقي ثم ظهرت نظرية المخاطر الإدارية، و من بين هذه النصوص المادة 17/2 من القانون الأساسي للوظيفة العامة.
و المادة 139-145 من قانون 90-08 المتعلق بالبلدية التي كرست مسؤولية البلدية عن الأخطاء التي يرتكبها رئيس المجلس الشعبي البلدى و المنتخبون البلديون و موظفي البلدية و كذا مسؤولية البلدية عن الخسائر و الأضرار الناجمة عن الجنايات و الجنح المرتكبة بالقوة العلنية أو بالعنف أو خلال التجمهر والتجمعات و هو ما تقره أيضا المادة 118 من قانون 90-09 المتعلق بقانون الولاية التي تكرس مسؤولية الولاية.
و تجدر الإشارة إلى انه قد تقررت أيضا مسؤولية الإدارة بموجب نص دستوري المادة 145 من دستور 1996
و بتفحصنا لقرارات الغرفة الإدارية لمجلس قضاء بجاية وجدنا أن هناك تكريس واضح و كبير لمبدأ مسؤولية الإدارة، و مثال ذلك القرار الصادر بتاريخ 17/02/98 بين ع. ل القطاع الصحي لخراطة ، و القرار الصادر بتاريخ 10/06/2003 بين ورثة (ب . ع ) و رئيس بلدية اوزلاقن ، القرار الصادر بتاريخ 24/02/2004 بين خ. س و إدارة الجمارك .
المبحث الثاني: خصائص المسؤولية الإدارية
كما بيناه في المبحث السابق فإن قرار بلانكو الصادر عن محكمة التنازع الفرنسية يعتبر نقطة التحول من مرحلة عدم مسؤولية الإدارة إلى مرحلة تقرير مسؤوليتها صراحة و قد اعتبر لمدة طويلة كقرار مبدئي و الحجر الأساس للقانون الإداري برمته كونه وضع القواعد الأساسية و بين خصائص المسؤولية الإدارية، لكن اليوم كثير من الكتاب يجدون أنه قديم و ليس بالأهمية التي أعطيت له، لهذا ارتأينا التطرق إليه بتفاصيل أكثر في المطلبين التاليين:
المطلب الأول: خصائص النظام القانوني للمسؤولية الإدارية على ضوء قرار بلانكو
لاستخراج هذه الخصائص يستوجب علينا الإشارة لمختلف المراحل التي مرت بها القضية، تتمثل وقائعها أن المدعوة " Agnès Blanco" طفلة في الخامسة من عمرها تعرضت لحادث تسببت فيه عربة مقطورة تابعة لوكالة التبغ التي كانت تنقل إنتاج هذه الأخيرة من المصنع إلى المستودع، مما سبب لها أضرارا جسيمة.
بادر والد الضحية بالإجراءات فرفع دعوى أمام القاضي العادي ضد ممثل الدولة مؤسسا دعواه على أحكام القانون المدني، لا سيما المواد 1382 و 1383 منه و ما يليها، طالبا مبلغ 40 ألف فرنك فرنسي يدفع بالتضامن بين العامل، (سائق المركبة ) و الدولة كتعويض عن الضرر الذي أصاب ابنته.
دفع مدير مقاطعة بوردو بعدم اختصاص المحاكم العادية للنظر في القضية و الفصل فيها و أكد أن وكيل الدولة هو صاحب الاختصاص، و هو ما أدى إلى عرض النزاع على محكمة التنازع الفرنسية التي أصدرت قرارها في الموضوع بترجيح صوت وزير العدل باعتباره رئيسا للمحكمة بعد انقسام أعضاءها إلى
فريقين متساويين، و قضت في 08 فيفري 1873 باختصاص القضاء الإداري بالنظر في النزاع بناء على تقرير مفوض الحكومة السيد " دافيد " حيث جاء في حيثية القرار الشهيرة: " إن مسؤولية الدولة عن الأضرار التي تلحق الأفراد بسبب تصرفات الأشخاص الذين تستخدمهم في المرفق العام لا يمكن أن تحكمها المبادئ التي يقررها القانون المدني، للعلاقات ما بين الأفراد و هذه المسؤولية ليست بالعامة و لا بالمطلقة بل لها قواعدها الخاصة التي تتغير حسب حاجات المرفق و ضرورة التوفيق بين حـقوق الـدولة و الحـقوق
الخـاصة ".
فمن خلال هذه الحيثية يمكننا استخراج خصائص المسؤولية الإدارية و المتمثلة في:
الفرع الأول: النظام القانوني للمسؤولية الإدارية نظام قضائي أصلا
و تظهر هذه الخاصية من جهتين:
أن المصدر الأصيل و الأساسي للنظام القانوني للمسؤولية الإدارية هو القضاء الإداري الفرنسي على رأسه محكمة التنازع الفرنسية و مجلس الدولة، فمثلا من خلال فكرة التفرقة بين الخطأ الشخصي والخطأ المرفقي أوجد القضاء الإداري قواعد المسؤولية الإدارية على أساس الخطأ، و كذا العلاقة بين الخطأ المرفقي و الشخصي و النتائج المترتبة عن ذلك في إطار نظرية الجمع بين الأخطاء ثم المسؤوليات، كذلك أحكام و قواعد و تقنيات العلاقة بين الخطأ التأديبي والخطأ الجنائي بالخطأ المرفقي و نتائجهما.
إضافة إلى أحكام نظرية المخاطر كأساس لقيام المسؤولية الإدارية بدون خطأ و ذلك بتبيان أحكامها، أسسها، شروطها و نطاق تطبيقها.
و يظهر كل هذا من خلال قـــرار " Anguet" ، " Lemonier" ، " Mimeur" ، " Laruelle" ، " Solze" ، " Effimief" ، " Duplany" ، " Lafleurette" ….وغيرها والتي جسدت التطور المستمر للمسؤولية الإدارية و قبل كل هذا مبدأ مرونة النظام القانوني للمسؤولية الإدارية و قابليته للتغير طبقا لدواعي المصلحة العامة و المرفق العام المجسدين من خلال قرار بلانكو.
و أكثر أهمية مما سبق فإن المصدر الأصيل لنظام المسؤولية الإدارية و المتمثل في القضاء يرجع إلى قضاء محكمة التنازع باختصاص القضاء الإداري في نظر هذا النوع من المنازعات باعتبارها الجهة الوحيدة المختصة و بالتالي هناك ارتباط بين الاختصاص و المصدر في نظام المسؤولية الإدارية.
الفرع الثاني: النظام القانوني للمسؤولية الإدارية نظام أصيل و مستقل
باعتبار أن المسؤولية الإدارية مرتبطة بالنشاط الإداري و المرافق العامة المتضمنة لمظاهر السلطة العامة، و المستهدفة لتحقيق المصلحة العامة في نطاق الوظيفة الإدارية للدولة، فإنه لا بد من استبعاد قواعد القانون المدني لاسيما المسؤولية المدنية، كونها لا تتناسب و نشاط الإدارة، و هو ما جسده قرار بلانكو بإرسائه مبدأ أن قواعد المسؤولية الإدارية ليست قواعد عامة و لا مطلقة وإانما هي قواعد خاصة تتجاوب وضرورات و دواعي المصلحة العامة ، احتياجات ، متطلبات المرافق العامة و نظامها القانوني.
بمفهوم المخالفة أن الطابع الخاص للقواعد المطبقة على المرافق العامة يحمل في طياته معنيين كونه مستقل باستبعاده القانون المدني و كونه أصيل بإيجاد نظام خاص به من حيث المنطق و النتائج المتوصل إليها، واستقلالية و أصالة هذا النظام تجد مبرراتها في حاجات المرفق العام المتغيرة بتغير النشاط الإداري.
الفرع الثالث: النظام القانوني للمسؤولية الإدارية قائم على مبدأ التوفيق بين المصلحة العامة و المصلحة الخاصة
هذا يعني أن قواعد المسؤولية الإدارية تتضمن في محتواها أحكاما من أجل إيجاد التوازن بين المصلحة العامة و مقتضيات تسيير المرافق العامة، و حتمية الحفاظ على حقوق و حريات الأفراد في مواجهة الأعمال الإدارية الضارة،و يظهر هذا المبدأ جليا من خلال كفتين :
فمقابل عدم قيام مسؤولية الإدارة تقوم مسؤولية الموظف العام الشخصية في مواجهة المتضررين من جراء أخطاءه، و يدفع التعويض من ذمته المالية في نطاق قواعد و أحكام المسؤولية المدنية و أمام جهات القضاء العادي.
و أيضا عدم قيام مسؤولية الإدارة إلا على أساس الخطأ الجسيم كحالة المسؤولية الإدارية عن مرفق الضرائب، و كذا قيام المسؤولية عن الأخطاء الطبية و القضائية، عن مرفق مستشفيات الأمراض العقلية…الخ.
تقوم مسؤولية الإدارة بدوره خطأ و على أساس نظرية المخاطر لصالح حماية حقوق و حريات الأفراد.
إضافة لهذا و في إطار الآثار المترتبة عن قاعدة الجمع بين المسؤوليات، للضحية حق الاختيار في مرافعة الإدارة أمام القضاء الإداري عن الأضرار الناتجة عن الخطأ المرفقي أو مرافعة الموظف عن الخطأ الشخصي المولد للضرر، أمام جهات القضاء العادي وفقا لما يراه أصلح و أضمن لحماية حقوقه لكنه،
بالمقابل لا يمكنه طلب التعويض من الإدارة و الموظف معا كما قال الأستاذ DELAUBADER :" يقابل مبدأ جمع المسؤوليات مبدأ عدم جمع التعويضات إلا إذا كانت هذه التعويضات مبنية على أسس مختلفة ".
و ما تجدر الإشارة إليه أن هذه الخصائص ليست مطلقة و هو ما سنتطرق إليه في المطلب الموالي من خلال التعليق على قرار بلانكو و الخصائص التي كرسها.
المطلب الثاني: حدود الخصائص التي أقرها قرار بلا نكو
بين الإجتهاد القضائي و التشريع أن الخصائص التي كرسها قرار بلا نكو ليست مطلقة و يظهر ذلك فيما يلي :
الفرع الأول: فيما يخص كون النظام القانوني للمسؤولية الإدارية قضائي، أصلا
فيما يخص الوجه الأول: باعتباره ذو مصدر قضائي يمكن القول أن هذه الخاصية نسبية إذ أن نظم المسؤولية الإدارية تنقسم إلى قضائية و تشريعية، هذه الأخيرة تجد مصدرها في التشريع أصلا، حيث يتدخل المشرع بوضع قواعد المسؤولية الإدارية في مجالات متنوعة مثل نظام مسؤولية مرفق القضاء، نظام مسؤولية المعلمين و نظام مسؤولية البلدية .
وفيما يخص الوجه الثاني: باعتبار القضاء الإداري الجهة الوحيدة المختصة في نظر المنازعات الناشئة عن المسؤولية الإدارية فإن الأستاذ " Renu Chapus " يرى أن قرار بلا نكو لم يعرف المرافق العامة كما لم تعرفها القوانين السابقة كقانون 1790، و يضيف أن صياغة القرار تصبح أكثر وضوحا بتعريف العمل الإداري باعتباره كل عمل تقوم به الإدارة و يكون هدفه تحقيق الصالح العام أو تسيير مرفق عام هذا حتى تظهر الغاية من منح القضاء الإداري الإختصاص في النظر في المسائل المتعلقة بمسؤولية الإدارة عن الأضرار المرتكبة من طرف موظفيها.
كما يرى أن المعيار الأساسي الذي تم على أساسه منح الإختصاص للقضاء الإداري ليس المعيار المادي باعتباره المعيار الظاهر و المتمثل في نشاط المرفق العام، و إنما هو معيار السلطة العامة باعتبار أن الدولة في تسييرها للمرافق العامة تستعمل دائما امتيازات السلطة العامة و هي الفكرة الأساسية التي جاء
بها قرار بلا نكو و إن لم تكن واضحة، و يضيف أنه أخذ هذا المعيار من حيثيات تقرير مفوض الحكومة الذي استعمل كثيرا مصطلح السلطة العامة و إن كان يقول تارة الدعوى المرفوعة ضد الدولة بمناسبة نشاط مرفق عام و يقول في فكرة أخرى الدعوى التي ترفع ضد الدولة باعتبارها السلطة العامة، و في الحقيقة هما عبارتين مترا دفتين لهما نفس المعنى، و استعمالها بالتناوب كان لتفادي التكرار. كما أنه لم يركز على نشاط الدولة، و إنما على السلطة العامة التي تستعملها الدولة في تسيير المرافق العامة.
و بالنسبة للإجتهاد القضائي فإن معيار المرفق العام ليس معيارا مطلقا لتبرير اختصاص القاضي الإداري، بل يوجد معايير أخرى أهمها معيار السلطة العامة المثار من قبل مفوض الحكومة في تقريره حول قرار بلا نكو، كمعيار كاف لتقرير هذا الإختصاص في مجال المسؤولية و بالعكس من ذلك معيار المرفق العام وحده لا يكفي دائما لتقرير اختصاص القاضي الإداري، فيمكن أن يثار في منازعة دون أن تكون هذه الأخيرة من اختصاص القاضي الإداري كما في حالة تسيير خاص لمرفق عام.
و المشرع الفرنسي نفسه خرج عن قواعد الإختصاص المكرسة من قبل محكمة التنازع في قرار بلا نكو خاصة من خلال القانون المِِِِِِؤرخ في 31/12/1957 أين أصبح من اختصاص المحاكم العادية كل نزاع يتعلق بالتعويض بكل أنواعه عن الأضرار الناتجة عن السيارات مهما كانت.
و هو المنهج الذي سار عليه المشرع الجزائري من خلال المادة 07 مكرر من قانون الإجراءات المدنية بنصه:
" خلافا لأحكام المادة 07 ، تكون من اختصاص المحاكم:
المنازعات المتعلقة بكل دعوى خاصة بالمسؤولية المدنية و الرامية لطلب تعويض الأضرار الناجمة عن سيارة تابعة للدولة أو لإحدى الولايات أو البلديات أو المؤسسات العمومية ذات الصبغة الإدارية ".
الفرع الثاني: فيما يخص كون النظام القانوني للمسؤولية الإدارية أصيل و مستقل
إن استقلالية المسؤولية الإدارية و أصالتها عن القانون المدني ليست مطلقة كما أظهرها قرا ر بلا نكو:
ففي كثير من الحالات يقرر القاضي الإداري تطبيق القانون المدني أو المبادئ المقررة فيه بما يتماشى و الوقائع المطروحة عليه خاصة فيما يخص تقدير التعويض و طرقه و غيرها.
إضافة و باعتبار كل من المسؤولية الإدارية و المسؤولية المدنية من أنواع المسؤولية القانونية، فإن نظام كل منهما يشترك مع الآخر في بعض أحكام المسؤولية القانونية كالشروط و الأركان.
كما أنهما نظامان متكاملان و متصلان خاصة و أن نظام المسؤولية الإدارية حديث النشأة، مما يجعله يستمد أحكام و تقنيات تقدير كل من الضرر المادي و المعنوي و كيفية تقدير التعويض في المسؤولية الإدارية لتحقيق و تطبيق مبدأ التعويض الكامل في دعوى المسؤولية و التعويض الإداري.
و ما تجدر الإشارة إليه أن النظام القانوني للمسؤولية المدنية يطبق بصفة جزئية، و استثنائية في النظام القضائي القائم على أساس مبدأ ازداوجية القضاء عكس النظام القضائي الأنجلوسكسوني باعتباره نظاما موحدا.
و في الأخير يمكن القول أن قرار بلا نكو حتى و إن أكل عليه الدهر و شرب حسب البعض، إلا أنه يبقى الأساس الذي يعتمد عليه في كل زمان بدليل أن النتائج المترتبة عنه لا تزال مطبقة ليومنا هذا وصدق من قال أنه: " ثورة حقيقية في الاجتهاد القضائي ".
بعد تطرقنا إلى المسؤولية الإدارية كمبدأ ، من حيث نشأته و تطوره و أهم خصائصه ، فإن السؤال الذي يتبادر إلى أذهاننا هو : على أي أساس تقوم هذه المسؤولية ؟ فهل هو نفسه الذي تقوم عليه المسؤولية المدنية في القانون العام (le droit commun) ، أم أن الأسس تختلف؟
لقد رأينا عند تطرقنا إلى تطور مبدأ المسؤولية الإدارية ، أن هذه الأخيرة كانت في بداية الأمر تقوم أساسا على فكرة " الخطأ" ، باعتباره الأساس التقليدي للمسؤولية عامة . فهل يعني ذلك أن هذه الفكــرة – أي الخطأ- قد تمت استعارتها بنفس الصفة التي هي عليها في القواعد العامة؟ أم أنه أدخلت عليها بعض المميزات و الخصائص؟
كما رأينا كذلك أن الاجتهاد القضائي فيما بعد قد خطا خطوة كبيرة في هذا المجال حين وسع من نطاق المسؤولية الإدارية مؤسسا نظاما جديدا للمسؤولية " بدون خطأ" ، و سوف نتطرق إلى هاذين النظامين بالتفصيل فيما يلي:
لمبحث الأول : نظام المسؤولية الإدارية على أساس الخطأ
تقوم المسؤولية عامة على ثلاثة أركان أساسية و هي – كما هو معلوم-: الخطأ و الضرر و العلاقة السببية. و ما يهمنا في مجال القانون الإداري هو " الخطأ"، فالقانون الإداري لم يستعر هذه الفكرة بالحال الذي هو عليه في القانون المدني ، ففي مجال المسؤولية الإدارية نجد ميزة خاصة – أضفاها مجلس الدولة الفرنسي- تتمثل في التفرقة بين الخطأ الشخصي و الخطأ المرفقي.
فكيف ظهرت هذه التفرقة ؟ و ما هي أهم جوانب كلا الخطأين، و العلاقة بينهما؟
المطلب الأول : ظهور التفرقة بين الخطأ الشخصي و الخطأ المرفقي
الفـرع الأول : مرحلة عدم الاعتراف بمسؤولية الموظف العام
نصت المادة 15 من إعلان حقوق الإنسان و المواطن الصادر بتاريخ 26غشت 1789 – على إثر الثورة الفرنسية-، على انه: " يحق للمجتمع مساءلة أي موظف في إدارات الدولة " ، هذه المادة كان من شانها أن تعترف بالمسؤولية الشخصية للموظف، و لكن آنذاك أعطي لها تفسيرا ضيقا ، و تم فهمها على أنها مسؤولية سياسية للمسؤولين و أن مسؤولية الموظف هي مسؤولية تأديبية فقط .
بالإضافة إلى المنع الذي كان يصادفه القاضي العادي لمراقبة أعمال الموظفين العموميين و الذي يفرضه مبدأ الفصل بين السلطات و التفسير الضيق له الذي أتى به قانون 16-24 غشت 1790 ، في وقت لم تحدث فيه جهات قضائية إدارية ( إلى حين سنة 1872 ) .
و بالتالي فالقول بظهور فكرة المسؤولية الشخصية للموظف يتزامن مع ظهور دستور العام الثامن ، بحيث تنص المادة 75 منه – و التي جاءت في باب ضمانات الموظف – على إمكانية متابعة الموظف أمام المحاكم العادية و لكنها أوقفتها على شرط الحصول على ترخيص من مجلس الدولة .
و لكن رغم هذا، فإن مجلس الدولة – حديث النشأة آنذاك – كان يرفض تسليم هذه التراخيص خوفا من خرق مبدأ الفصل بين السلطات و هذا بتدخل القضاء في عمل الإدارة.
الفرع الثاني: مرحلة الإعتراف بمسؤولية الموظف العام
بتاريخ 19 سبتمبر 1870 صدر مرسوم تشريعي عن الحكومة المؤقتة يلغي المادة 75 من دستور العام الثامن، و على إثر صدور هذا القانون كان مجلس الدولة و محكمة النقض الفرنسية – في بادىء الأمر – يجيزان المتابعات القضائية ضد الموظفين العموميين أمام القضاء العادي و هذا بكل حرية.
و لكن بصدور قرار " Pelletier" ، و الذي يعد قرارا مبدئيا في هذا الشأن، تم وضع مفهوم جديد لمسؤولية الموظف.
فالسيد Pelletier رفع دعوة أمام محكمة Senlis ضد كل من النقيب de L’Admirault ، الذي أمر بإعلان حالة الحصار في منطقة L’ oise إضافة إلى السيد M.Chopin محافظ المنطقة و السيــد M. Leudot محافظ الشرطة قصد إلغاء الحجز الذي وقع على صحيفته و استرجاع النماذج المحجوز عليها مع الحكم على المدعى عليهم بالتعويض تضامنا بينهم عن الأضرار اللاحقة به.
بالمناسبة تطرقت محكمة التنازع إلى أثار إلغاء المادة 75 من دستور العام الثامن من قبل المرسوم الصادر بتاريخ 19 سبتمبر 1870، فعلى خلاف التفسير الذي أعطته محكمة Senlis التي اعتبرت أن هذا المرسوم قد ألغى جميع الضمانات التي كانت ممنوحة للموظف، و التي كانت تحميه من جميع الدعاوى التي قد ترفع ضده أمام المحاكم العادية ليصبح وضعه شبيها بوضع الموظف في النظام الأنجلوساكسوني، فإن محكمة التنازع قد أعطت تفسيرا مغايرا و جد ضيق، إذ أن محافظ الحكومة دافيد " David " اعتبر أن نص المرسوم يجب أن لا
يتعارض أو يتناقض مع النصوص السابقة المكرسة لمبدأ الفصل بين السلطات، لا سيما قانون 16-24 غشت 1790، المادة 13 منه من الباب الثاني و كذا مرسوم 16 فروكتدور من العام الثالث .
فالمادة 75 من الدستور السالف الذكر لم تتحدث عن منع المحاكم العادية من مراقبة عمل الإدارة و إنما خصت فقط منع هذه المحاكم من مساءلة الموظفين الإداريين أمامها بسبب وظيفتهم. فمنع المحاكم العادية من مراقبة عمل الإدارة هي قاعدة اختصاص مطلقة و هي من النظام العام ، تهدف إلى حماية الأعمال الإدارية .
أما المنع من مساءلة الموظف بدون إذن مسبق فهي تهدف إلى حماية الموظف من الدعاوى التي لا أساس لها و هي ليست قاعدة اختصاص نوعي و إنما تعتبر قيدا على رفع الدعوى التي تباشر ضد الموظف العام متى كان في ذلك علاقة بوظيفته .
فالمرسوم الصادر عن الحكومة المؤقتة و الذي يلغي هذه المادة، قصد من ورائه إلغاء القيد الذي جاءت به. بالتالي، أصبحت للمحاكم العادية الحرية في قبول الدعاوى ( و هذا في حدود اختصاصها)، و لكنه من جهة أخرى لم يتم إلغاء الأحكام الأخرى التي تمنع المحاكم العادية من مراقبة أعمال الإدارة.
و منه اعتبر أن الحجز الذي قام به النقيب العسكري يعتبر إجراءا تحفظيا منوط بالضبط الإداري السامي باعتباره ممثلا عن السلطة العامة و هذا في حدود الاختصاصات التي يمنحها له القانون، فإن المسؤولية هنا ترجع على الدولة التي منحته هذه الصلاحيات.
و عليه وصل إلى النتيجة التالية:
" مادام أن طلب المدعي ينصب أساسا حول هذا التدبير التحفظي الذي يدخل ضمن الصلاحيات العسكرية للنقيب، هذا الأخير الذي لا يحمله المدعي ارتكاب أي "خطأ شخصي " من شأنه أن تترتب عنه مسؤوليته الشخصية ، فإن الدعوى بذاتها تستهدف بذلك القرار الإداري نفسه ( قرار الحجز) و ليس الموظف
شخصيا و ما دام أنها لا تثير أي عمل شخصي من شانه أن يقضي إلى مسؤولية الموظف الشخصية ، فإنها بذلك تخرج عن اختصاص المحاكم العادية ".
و من هذا تنجر التفرقة الشهيرة بين الخطأ الشخصي و الخطأ المرفقي ، و التي تتضمن وجهتين :
وجهة فيما يخص الاختصاص ووجهة فيما يخص الموضوع.
1- فيما يخص الاختصاص :
الخطأ الشخصي هو المعيار الذي يخرجنا عن المرفق ككل ، فيصبح بإمكانية القاضي العادي تطبيق نوع من المراقبة دون أن يكون بذلك قد تدخل في صلاحيات الإدارة نفسها، بينما الخطأ المرفقي على عكس ما ذكر ، له اتصال وثيق بالمرفق بحيث لا يستطيع القاضي العادي النظر فيه دون أن يعطي تقييما لسير المرفق
و هذا لا يدخل ضمن اختصاصه.
فهذه نتيجة حتمية للتمييز بين الخطأين . و لأن الاختصاص النوعي للمحاكم هو مسألة في غاية الأهمية باعتبارها من النظام العام ، فإن هذا جعل محكمة التنازع الفرنسية تبحث عن معايير للتمييز بين الخطأ الشخصي والخطأ المرفقي وهذا لتفادي مساءلة الإدارة أمام المحاكم العادية عن عمل لا يمكن فصله عن المرفق التابع له ، مما يجعله عملا إداريا بحثا ، تكون بموجبه المحاكم العادية غير مختصة للنظر فيه سواء كانت الدعوى موجهة ضد الموظف أم ضد الإدارة ( ولو أن توجيه الدعوى ضد الموظف شخصيا يسمح باختصاص المحاكم وإن كانت سترفضها في الموضوع متى ثبت انعدام أي خطأ شخصي ) .
2- فيما يخص الموضوع :
إن التمييز بين الأخطاء خلق تقسيما في المسؤولية بين الإدارة والموظف. فإذا كان الخطــأ الشخصي
تترتب عنه المسؤولية الشخصية للموظف وبالتالي فإنه يلتزم بالتعويض من ذمته المالية الخاصة ، فإن تحميله المسؤولية نفسها في حالة الخطأ المرفقي يعد إجحافا في حقه .
- وقد عمل القضاء بعد سنة 1873 على التمييز بين مسؤولية الموظف في مواجهة الضحية ( أ ) وبين مسؤولية الموظف في مواجهة الإدارة (ب ) ، وهذا على النحو التالـــي :
أ – مسؤولية الموظف في مواجهة الضحية:
حماية للمواطن من إعسار الموظف ، ومن جهة أخرى حماية للموظف من المتابعات التعسفية للمواطنين ، عمل القضاء على التضييق من مفهوم الخطأ الشخصي وبالتالي على تضييق المسؤولية الشخصية للموظف فوضع مجموعة من المعايير -نتطرق إليها فيما بعد - لأنه أدرك وجوب عدم التشدد في مسؤولية الموظف ، فقد يقتل فيه ذلك روح المبادرة ويجعله يتهرب من واجباته ، كما أنه ليس من العدل أن يتحمل الموظف كل هذه النتائج ، فقد يكون الخطأ بسيطا ولكن نتائجه وخيمة .
• ملاحظة: إن مجلس الدولة رغم الحلول التي جاء بها الفقهاء فإنه لم يتقيد بقواعد عامة وإنما كان يتصدى لكل حالة على حدى.
ب – مسؤولية الموظف في مواجهة الإدارة :
أحيانا قد نكون أمام خطأ شخصي، ولكن على الرغم من ذلك تلتزم الإدارة بالتعويض ، فالخطأ الشخصي الذي قد تحاسب عليه الإدارة الموظف قد لا يكون بالضرورة نفسه الذي قد تنسبه الضحية إليه
لان علاقة الموظف بالضحية تختلف عن علاقته مع الإدارة.
و الاختصاص يعود في الحالة الأخيرة إلى القضاء الإداري مادام أن الأمر يتعلق بالعلاقة (إدارة – موظف) ، ونحن في هذه الحالة الأخيرة بعيدين كل البعد عن ما جاء به قرار ''pelletier'' سواء في الموضوع أو الاختصاص.
المطلب الثاني : الخطأ الشخصي
لما يتضرر المواطن من فعل الإدارة فإنه يعين مباشرة الموظف الذي تسبب في ذلك الضرر فقد يكون رئيس البلدية الذي رفض أن يسلم له رخصة البناء أو الشرطي الذي تعدى عليه بالضرب...
فإذا كان ذلك العمل الضار يدخل في إطار الوظيفة أو بمناسبتها فإن الإدارة هي التي تتكفل بتغطية تلك الأضرار و لكن الأمر يختلف بالنسبة للحالات التي يتسبب فيها الموظف بأضرار للغير و هذا في ظروف متميزة تعطي للضحية إمكانية مقاضاة الموظف شخصيا لإلزامه بدفع التعويضات المستحقة. فالموظف في نهاية المطاف كبقية المواطنين العاديين عليه بجبر الضرر الذي قد يسببه لغيره.
كما أن الدعوى التي بإمكان الضحية رفعها ضد الموظف لا تكون ممكنة إلا في حالة ثبوت الخطأ الشخصي للموظف. فلابد إذا من تحديد مفهوم الخطأ الشخصي و تمييزه عن المفاهيم المماثلة له.
الفرع الأول : مفهوم الخطأ الشخصي
كما رأينا سابقا فإن هذا المفهوم انبثق عن قرار Pelletier الشهير الذي ميز بين الخطأ المرفقي الذي يخرج عن اختصاص القاضي العادي، و الخطأ الشخصي الذي على عكس ذلك يستطيع القاضي العادي التطرق إليه و النظر فيه دون أن يكون هناك أي مساس باستقلالية السلطات، هذا كل ما جاءت به محكمة التنازع في هذا الصدد فهي لم تعرف الخطأ الشخصي كما انها لم تضع معيارا معينا لتمييزه عن الخطأ المرفقي ، إلا ان قضاءها اللاحق بالإضافة إلى قضاء كل من مجلس الدولة و محكمة النقض حاولوا وضع معايير ثابتة للتمييز بين الخطأين، كما لعب الفقه دورا كبيرا في ذلك و هذا لتوضيح العلاقة بين الإدارة و أعوانها و جعلها أكثر شفافية.
I-أهم المعايير التي تميز بين الخطأ الشخصي و الخطأ المرفقي :
حاليا يمكننا القول أن القضاء و الفقه قد توصلوا إلى وضع حلول من شأنها أن ترفع كل لبس في هذا المجال، إذ تم الإجماع على ان الخطأ الشخصي هو كل خطأ منفصل عن الوظيفة ( détachable du service)، وذلك إذا ارتكب في إطار خارج عن الوظيفة المؤداة من قبل الموظف، أو سواء كان في إطار هذه الأخيرة و لكنه ينفصل عنها لأسباب معينة.
قبل التطرق إلى هذه المعايير من الأجدر ان نحاول إيجاد تعريف للخطأ بصفة عامة و لعل التعريف الذي جاء به Planiol يؤدي الغرض المطلوب، فقد عرفه هذا الأخير على أنه كل إخلال بالتزام سابق
( Un manquement à une obligation pré-existante)، فينبغي عدم الخلط بين الخطأ و اللامشروعية ، فإذا كان كل عمل غير مشروع يعد خطأ فإن العكس غير صحيح ، باعتبار أنه ليس كل خطأ
عمل غير مشروع. فالخطأ يدخل في إطار دعاوى القضاء الكامل التي يترتب عنها التعويض، بينما مبدأ اللامشروعية فإنه يدخل ضمن قضاء الإلغاء أو تجاوز السلطة و تقدير المشروعية و ينجر عنها الإلغاء.
أ- الخطأ الخارج عن الوظيفة :
و هو الخطأ الأكثر تشخيصا، و هذا لارتباطه بالحياة الشخصية للموظف بصفة لا تدع مجالا للخطأ المرفقي ، و هذا ما جاء به الفقيهين : MM. Vedel و Delvolvé ، فلا يمكن تحميل الإدارة تصرفا لا يعنيها بشيء و هذا مهما اختلفت درجة جسامته أو النية في إحداثه ، كالعسكري الذي يتسبب في حادث في طريقه إلى العمل و هذا بواسطة سيارته الخاصة أو الجمركي الذي يغتال شخصا بواسطة سلاحه و هذا خارج وظيفته أو الحريق العمدي الذي يقبل عليه رجل المطافيء خارج إطار وظيفته ، أو إهمال من قبل رائد ميناء طلب منه بصفة شخصية حراسة باخرة .
و لكن قد يكون الخطأ المرتكب خارج عن الوظيفة و لكننا لا يمكننا القول أنه ليست له اية علاقة بها غير ان تشخيص هذا النوع من الأخطاء يكون أكثر صعوبة فهو يجمع كافة الأخطاء غير الإرادية و التي و إن حدثت خارج الوظيفة، إلا ان هذه الأخيرة قد سهلت وقوعها عن طريق :
- سوءا الوسائل الممنوحة للموظف بمناسبة هذه الوظيفة ، و لدينا في هذا الصدد قرار Sadoudi ، أين تسبب شرطي في قتل شخص بواسطة سلاحه الذي يلزمه النظام الداخلي على الاحتفاظ به خارج الخدمة - أو عن طريق الاستغلال لأغراض شخصية لمهمة ممنوحة في إطار الخدمة كرجل المطافيء الذي ينحرف عن المسار المحدد في مهمته ليحدث حريقا في مكان آخر .
ب- الخطأ المرتكب في إطار الوظيفة و المنفصل عنها:
كأصل عام الخطأ المرتكب في إطار الوظيفة سواء اثناء ها او بمناسبتها يعتبر خطأ مرفقيا، و لكن إستثناءا عن هذا المبدأ فقد يعتبر هذا الخطا منفصلا عن المرفق و بالتالي شخصيا ، و هذا في حالتين اساسيتين هما :
1- الخطأ العمدي :
هذا المعيار يدعى كذلك معيار الأهواء الشخصية ( Passions personnelles ) و هي نظرية تقليدية لا تزال عبارتها الشهيرة متداولة إلى يومنا هذا و هي ما جاء به Lafferiére في خلاصته في قضية Laumonnier- Carriol :
" إذا كان العمل الضار موضوعيا و إذا كشف موظفا وكيلا للدولة معرضا لارتكاب أخطاء و ليس إنسانا بضعفه و أهوائه و غفلته فيبقى العمل إداري و بخلاف ذلك إذا انكشفت شخصية الموظف في أخطاء عادية أو اعتداء مادي أو غفلة فينسب الخطأ للموظف و ليس للوظيفة."
« Si l’acte dommageable est impersonnel, s’il révèle un administrateur mandataire de l’état plus au moins sujet à erreur et non l’homme avec ses faiblesses, ses passions et ses imprudences, l’acte
reste administrative, si au contraire la personnalité de l’agent se révèle par des fautes de droit commun, par une voie de fait, une imprudence, la faute est imputable au fonctionnaire et non à la fonction . »
فهذا المعيار يدفع بنا إلى البحث عن النية أو الدافع الذي حفز الموظف على إتيان الفعل الضار .
فقد يدفعه على ذلك الرغبة في الإضرار و سوء النية فيستغل منصبه ووظيفته للانتقام من شخص معين، كالشرطي الذي يلجأ إلى استعمال العنف أثناء أدائه لمهمة ما ، او الذي يقتل خطأ بدافع الانتقام كقضية ( Pothier) ، او موظف البريد الذي يتعدى على أحد المتعاملين . فكل خطا يتضمن النية بالإضرار يعتبر منفصلا عن الإدارة .
أو في حالة كذلك إذا ما استغل الموظف وظيفته لتحقيق مصلحة شخصية كالإختلاسات وتحويل الأموال ، أو السرقة المنظمة .
ونجد في هذا الصدد كل من محكمة النقض الفرنسية ومجلس الدولة الفرنسي يأخذان بمعيار نية الموظف حيث إعتبرت محكمة النقض بأنه يعتبر الخطأ شخصيا لما يتصرف الموظف بسوء نية أو لأجل تحقيق مصلحة خاصة ،
كما رأى مجلس الدولة بأنه لا يعتبر خطأ شخصيا في الحالة التي لم يتصرف فيها الموظف لأهداف بعيدة عن الصالح العام ولا بدون تحيز .
الخطأ الجسيم :
هذا المعيار جاء به كل من الفقيهين : Maurice Horiou ، Gaston Jeze.
كما نجد كل من Vedel وDelvolvé، الذين اعتبرا أن الخطأ يكون بجسامة فادحة إذا تجاوز الحد المعقول للأخطاء التي يمكن توقعها .
« Il y a faute personnel, si la faute commise est d’une gravite particulière dépassant la moyenne de fautes aux quelles on peut s’attendre . »
وهناك من أتى بتعريفات أكثر حصرا كالفقيه M.Moreau الذي حصرها في الأخطاء المهنية الجد خاصة « Faute professionnelle est très caractérisées » و الفقيه M.chapus الذي تكلم عن الخطاء ذات الجسامة التي لا تفتح مجالا للنقاش .
هذا المعيار يأخذ به القضاء و لكن بحذر كبير إذ عمل على تضييق مفهومه. فقد يتمثل هذا الخطأ إما في خروج تام عن أخلاقيات المهنة، و إما أخطاءا مهنية جد فادحة ، فهذا المعيار يخص عامة الأعمال المادية و ليس التصرفات القانونية ، لأن هذه الأخيرة نبحث فيها عن نية الموظف( معيار الخطأ العمدي) و لا نأخذ بعين الاعتبار جسامة الخطأ .
- IIالتمييز بين الخطأ الشخصي و المفاهيم الأخرى:
إن التطرق إلى الخطأ الشخصي يدفعنا إلى تمييزه عن بعض الأخطاء الأخرى و هذا لتوضيح مفهومه أكثــر و تفادي اللبس، كما سنتطرق إلى أثر أوامر الرئيس على تصرفات الموظف.
أ- الخطأ الشخصي و الخطأ الجزائي :
إذا كان الاتجاه الفقهي في بادئ أمره يجعل من الخطأ الجزائي صورة مثلى للخطأ الشخصي فإن ما جاءت به محكمة التنازع في قرار Thepaz ، زعزع من حجية هذه الفكرة فقد يتطابق المفهومين و لكن ليس في جميع الحالات .
فإذا كان الموظف بارتكابه لجريمة ما سيمتثل حتما أمام القاضي الجنائي فهذا لا يعني أنه مضطرا لدفع التعويضات للطرف المدني إلا إذا ثبت خطأه الشخصي ، أي إذا كانت الجريمة التي إرتكبها تمثل خطأ شخصيا .
فبموجب هذا القرار تم الفصل نهائيا بين المفهومين فقد يتمثل دور الطرف المدني أساسا في تحريك الدعوى العمومية التي لا ينحصر تحريكها على النيابة العامة فقط ( كما هو معروف في ق ا ج) ، و لكن ذلك لا يعني ثبوت حقه في التعويض و هذا في حالة ما إذا كيف خطأ الموظف على أنه خطأ مرفقي ، لأن ثبوت الخطأ المرفقي لا يمنع أبدا المتابعات الجزائية.
فقد تشكل الجنايات في جميع الحالات خطأ شخصيا بينما الجنح فلابد من التمييز بين ما هو عمدي و الذي يكون خطا شخصيا ( معيار نية الموظف )، أما فيما يخص الجنح غير العمدية فلا مجال في الغالب للحديث عن الخطأ الشخصي و على أية حال فلا بد على القاضي الجزائي أن يرجع إلى المعايير السالفة الذكر لتحديد ما إذا كان الخطأ شخصيا أم انه كان يستهدف من ورائه تحقيق الصالح العام، و هذا حالة بحالة .
ب- الخطأ الشخصي و التعدي المادي :
التعدي المادي – كما هو معروف – هو كل عمل إداري يتسم بلا مشروعية صارخة يمس أساسا بالحريات الأساسية للأفراد أو ممتلكاتهم.
و في هذا الصدد كذلك بدأ القضاء يتراجع عن فكرة تطابق المفهومين خاصة بعد القرار الصادر عن محكمة التنازع الفرنسية بتاريخ 8 أفريل 1935 ، بحيث جاء في خلا صات محافظ الحكومة Josse التي جاء فيها
أن القاضي العادي يمنحه الاختصاص الاستثنائي في حالات التعدي للنظر في مسؤولية الإدارة في الوقت نفسه الذي ينظر فيه في مسؤولية الموظف، عليه أن يبحث فيما إذا كان هذا الأخير قد ارتكب خطأ شخصيا و هذا لتبرير مسؤوليته المالية و إلزامه بالتعويض.
ج- الخطأ الشخصي و أوامر الرئيس:
هل يمكننا القول بأن الموظف ارتكب خطأ شخصيا عندما يقتصر عمله على تنفيذ أوامر رؤسائه حسب ما يقتضيه التسلسل السلطاوي؟
إن مع تطور القضاء ، و القانون ، أنشىء التزام بعدم الطاعة للموظف فيما يخص أوامر رؤسائه و التي تبدو بوضوح بأنها غير مشروعة و انه من شأنها أن تمس أو تعرقل الصالح العام بصورة خطيرة.
و في حالة عدم التزام الموظف بذلك فإنه من الممكن جدا القول بارتكاب الموظف خطأ شخصيا، و هذا يخرج بنا عن المبدأ القائل بأن تنفيذ أمر صادر عن رئيس ينقل المسؤولية الشخصية إلى هذا الأخير ، فهو استثناء عن المبدأ و الذي نصت عليه المادة 129 من قانوننا المدني .
كما تكون مسؤولية المرؤوس شخصية في حالة إذا ما تجاوز حدود ما طلب منه فيكون بذلك قد إرتكب خطأ شخصيا.
الفرع الثاني : آثار الخطأ الشخصي
في حالة ارتكاب الموظف لخطأ شخصي فإنه يكون محل متابعة قضائية من قبل الضحية بقصد تعويضه عن الضرر اللاحق به ، فهذا هو المبدأ (1) ، إلا أن هناك ثمة استثناءات عن هذا الأخير (2):
1- المبدأ : الدعوى التي يرفعها الضحية ضد الموظف العام امام المحاكم العادية
هذا المبدأ تنجر عنه مجموعة من النتائج :
أ- الإختصاص : ( القاضي الناظر في النزاع)
لقد وضع أساس هذا المبدأ قرارPelletier - السالف الذكر- فلا يحق للقاضي الإداري مساءلة الموظف عن خطئه الشخصي الذي تنجر عنه مسؤوليته الشخصية، و هذا المنع جد منطقي ما دام أن النزاع ينحصر بين شخصين طبيعيين عاديين .
فالقاضي الذي ينظر إذا في النزاع هو القاضي المدني و قد يكون القاضي الجنائي متى كان الخطأ يشكل جريمة يعاقب عليها القانون.
ب- المكلف بالتعويض :
يتكلف الموظف شخصيا بالتعويض و هذا من ذمته الخاصة أي من ماله الخاص -و هذا متى طلب ذلك الضحية- ما دام أن مسؤوليته شخصية.
ج- القواعد المطبقة : ( القانون الواجب التطبيق )
إن القواعـد التي يطبقهـا القاضي في هذه الحـالة هي نفس القواعد الموجـودة في القانون العــــام ( Le droit commun) ، فعلى القاضي الرجوع إلى المبادىء العام
و من هنا نلمس أهمية التمييز بين الخطأ الشخصي و الخطأ المرفقي .
2- الإستثناءات :
نجد هذه الإستثناءات على المبدأ في مجال حلول الدولة محل الموظف فعلى الرغم من ثبوت الخطأ الشخصي في حق الموظف إلا أن الدولة تتدخل و تحل محله فيما يخص الإلتزام بالتعويض و جبر الضرر.
فنجد مثلا : - حلول الدولة محل المعلم .
- حلول الدولة محل السائق في حالة الحوادث التي تحدثها المركبات التابعة لها... .
فالاختصاص في هذه الحالات يعود إلى القاضي الإداري على الرغم من ان الخطأ شخصي ما دام ان الإدارة ستتكفل بالتعويض – ما لم ينص القانون على خلاف ذلك- .
المطلب الثالث: الخـطــأ الـمـرفـقـي
على عكس الخطأ الشخصي فإن الخطأ المرفقي حسب تعريف "Laferrière" هو الذي يكشف الرجل الإداري محلا للخطأ و ليس الرجل العادي بضعفه و عواطفه و عدم حرصه ، بمعنى آخر هو الخطأ العادي الذي نعترف بإمكانية ارتكابه من طرف أي عون في إطار المرفق دون أن يكون خطأ عمديا أو ذو جسامة غير مقبولة .
الفرع الأول : مفهوم الخطأ المرفقي و إثباته:
إن عبارة الخطأ المرفقي لها معنيان متميزان في الاجتهاد القضائي، فمن جهة الأخطاء الناجمة عن التنظيم السيئ أو التسيير السيئ كذلك للمرفق العام، و الأخطاء التي ارتكبت من طرف موظفين مجهولين هي أخطاء مرفقية بالمعنى الدقيق، و من جهة أخرى فإن الأخطاء المنسوبة لأعوان المرفق العام و المرتكبة من قبلهم في إطار تأدية مهامهم هي أخطاء شخصية و لكن بما أن المرفق لا ينفصل عنها فإنها تعتبر بالتالي أخطاء مرفقية .
و يمكن وصف الخطأ المرفقي على سبيل الاستهداء و وفقا لمعايير بعض الفقهاء بأنه " الخطأ غير المطبوع بطابع شخصي ، و الذي يسند إلى موظف يكون عرضة للخطأ او الصواب " ( معيار Laferrière) أو انــه
" الخطأ الذي لا يمكن فصله عن واجبات الوظيفة بحيث يعتبر من المخاطر التي يتعرض لها الموظفون " ( معيار Horiou )، أو : " هو الخطأ الذي يرتكبه الموظف بقصد تحقيق غرض إداري " ( معيار Duguو أمثلة الأخطاء المرفقية عديدة كعمليات مادية مختلفة ، خرق لنص قانوني، خطأ في التقدير، السحب غير المنتظم لقرار أنتج حقوق ، رفض اتخاذ إجراء ضروري ، الإهمال في ممارسة السلطة ...
إن الإلمام بمفهوم الخطأ المرفقي يتطلب التطرق إلى خصائصه و الصور التي يتخذها.
-Iالخصائص العامة للخطأ المرفقي:
للخطأ المرفقي طابعين أساسيين :
1-طابع الخطأ المجهول:
عادة ما يكون الخطأ مرتكبا ماديا من قبل أعوان عموميون معلومين ، أي أن مرتكب الخطأ يكون معلوم ، ففي هذه الصورة نتحدث عن خطا المرفق ، « Faute de service » إلا أن عبارة الخطأ المرفقي « Faute du service publique » يقصد بها حسب بعض الفقهاء أن مرتكب الخطأ مجهول ، و مهما يكن من امر هذا التمييز فإن شخص العون لا يهم كثيرا ذلك أن التزامات الإدارة هي محل مساءلة و ليس التزامات هذا العون .
و يظهر طابع الخطأ المرفقي كخطأ مجهول في صورتين:
- صورة خطأ مرفقي أرتكب من طرف شخص واحد لكنه مجهول مثل قضية Auxerre ، أين اعتبرت الإدارة مسؤولة عن حادثة أدت إلى قتل جندي إثر مناورات عسكرية كان من المفروض أن تستعمل خلالها خراطيش مزيفة ، و استحال خلالها معرفة الفاعل المسؤول عن قتل الجندي .
- صورة الخطأ المرفقي الذي ينتج عن مجموعة أخطاء ارتكبت من طرف موظفين مجهولين كما هو الحال في قضية السيدة Boigard ، حيث دخلت هذه الأخيرة إلى مستشفى عمومي في الصباح و لم يتم
فحصها إلا في آخر اليوم و مع ذلك إزداد مرضها و توفيت إثر نقلها إلى مستشفى آخر ليتبين عند إجراء التحقيق أن سبب وفاتها يعود لعدة أخطاء تتمثل في عدم المراقبة الكافية و غياب الطبيب المختص في الإنعاش و الرقابة السيئة خلال نقل الضحية . و بالتالي أعتبر مجلس الدولة ان هذه الأخطاء مرفقية تنسب للمستشفى بسبب سوء تسييره و ليس لأشخاص معينة .
فالخطأ المرفقي المرتكب من قبل أحد او عدة أعوان لا ينفصل عن ممارسة الوظائف و لا تقع المسؤولية على العون و إنما على الإدارة فتصبح بذلك المنازعات إدارية محضة.
2-الطابع المباشر :
يجب أن ينسب الخطأ المرفقي مباشرة إلبى شخص عمومي قام بتصرف خاطيء أثناء ممارسة أعماله ، و بالتالي حينما تختفي شخصية العون خلف المرفق العام الذي ينتمي إليه فإن الخطأ المرفقي يعتبر مرتكبا من قبل الإدارة ، و بمعنى آخر يعتبر القاضي أن الخطأ قد أرتكب من طرف الشخص العمومي الذي نسب إليه .
-IIصور الخطأ المرفقي :
يكون خطأ الإدارة في عدة حالات يمكن تصنيفها إلى ثلاث طوائف تمثل في ذات الوقت التطور التاريخي لقضاء مجلس الدولة الفرنسي في هذا الصدد .
1- التنظيم السيئ للمرفق العام :
إن الإدارة ملزمة بتنظيم المرفق العام و عندما لا تقوم بذلك فإنها تكون مسؤولة عن الأضرار الناتجة عن سوء التنظيم ، و تكمن أمثلة هذه الصورة عادة في : فقدان ملفات – التنفيذ المادي غير المنتظم – خرق قواعد
تنظيم القرارات الإدارية... ، وفي هذا الصدد صدر قرار عن الغرفة الإدارية للمحكمة العليا في قضية " بن مشيش " ضد " بلدية الخروب " بتاريخ 6 أبريل 1973 ، إذ تتلخص وقائعها في أنه بتاريخ 28 ماي 1969 شب حريق في مصنع للنجارة ملك للسيد بن مشيش بسبب رمي المفرقعات من طرف أطفال يحتفلون بالمولد النبوي الشريف، و قد جاء في حيثيات قرار الغرفة الإدارية للمجلس الأعلى فيما يتعلق بمرفق مكافحة الحرائق في ظل قانون البلدية السابق :
ـ حيث انه ينجم عن الملف أن الظروف التي تمت فيها مكافحة الحريق تبين نقصا في الوسائل.
ـ حيث يتبين حينئذ أنه لم يوجد أي خطأ في تنظيم و سير مرفق عام لمكافحة الحريق ..."
و بذلك اعتبر القرار أن نقص الوسائل لا يشكل خطأ في تنظيم المرفق العام و بالتالي فلا وجود لأي خطأ مرفقي .
2- التسيير السيئ للمرفق العام:
إن عدم الكفاءة أو الإهمال من طرف الأعوان العموميين يؤدي إلى التسيير السيئ للمرفق العام و كذلك التأخير المفرط في تسييره، فمتى أدى ذلك إلى ضرر ما فإنه يمكن للمضرور مطالبة الإدارة بالتعويض.
و قد أصدرت الغرفة الإدارية بالمجلس الأعلى قرارا بتاريخ 8 أفريل 1966 في هذا النطاق فيما يخص قضيـة " حميدوش " ضد الدولة و الذي تم توظيفه وفق شروط غير نظامية، و بعد 8 سنوات قامت الإدارة بتصحيح الإجراء و هذا بإلغاء قرار توظيفه ، فرفع الأمر أمام الغرفة الإدارية التي قررت بأن ذلك يشكل خطأ مصلحيا تنجر عنه مسؤولية الإدارة.
3-عدم تسيير المرفق أو الجمود الإداري :
في هذه الحالة لم يقم العون العمومي بعمله على الإطلاق ، و قد فصلت الغرفة الإدارية للمجلس الأعلى في قضية في هذا الشأن أصدرت بموجبها قرارا بتاريخ 19/04/1972 ,تتلخص وقائعها في انه تلقى أحد كتاب الضبط مبلغا من المال في شكل أوراق مصرفية لإيداعه اثر عملية حجز قامت بها الشرطة القضائية ، و بعدها تم إصدار أوراق نقدية جديدة ، فنسي هذا الكاتب إن يبدل الأوراق المحجوزة ، و بعد الحكم ببراءة صاحب المال و الإفراج عنه قام هذا الأخير برفع دعوى ضد وزارة العدل فاعترف مجلس قضاء الجزائر بمسؤولية الإدارة على أساس سوء تسيير المرفق ، وحصل المعني على حقوقه بسبب إهمال كاتب الضبط المعتبر عونا للدولة .
و قد صدر قرار مماثل عن مجلس الدولة في 31/01/2000 صرح خلاله بمسؤولية البلدية على أساس الخطأ المرفقي في قضية "بلدية الذرعان" ضد "سوايبية عبد المجيد و من معه" ، و ذالك لتأييده لقرار الغرفة الإدارية لمجلس قضاء عنابة ، إذ يتجلى من دراسة الملف أن المستأنف عليه "سوايبية" كان متابعا جزائيا أمام محكمة الدرعان بتهمة التزوير فحجزت سيارته ووضعت بالحضيرة التابعة لبلدية الذرعان , وبعد استفادته من البراءة طلب استرجاع سيارته إلا أنها ضاعت من الحضيرة فاعتبر مجلس الدولة : "أن الحضيرة تابعة للبلدية و تشرف على تسييرها و تعتبر البلدية كحارس الشيء و ملزمة برد السيارة أو تعويضها نقدا ".
ففعل البلدية هنا يدجل في إطار عدم تأدية المرفق للخدمة المتمثلة في المحا فظة على السيارة و إعادتها كما استلمتها إذ أن البلدية لم تؤد الخدمة على الإطلاق.
هذه هي الأنواع الثلاثة الأساسية التي تجسد الخطأ المرفقي, ويبقى التساؤل مطروحا حول على من يقع إثبات هذا الخطأ ؟.
-IIIإثبات الخطأ المرفقي:
حسب المبادىء العامة في الإجراءات القضائية فإنه على من يدعي الفعل الضار أن يثبته , وبناءا على ذلك فإنه على طالب التعويض الذي يدعي الخطأ المرفقي أن يثبت وجوده , إلا أن هذه القاعدة تصطدم بعدة صعوبات تواجهها الضحية ذلك لان إثبات الخطأ يوجد عادة في ملفات الإدارة , وهذا ما جعل التطورات الحديثة تتجه إلى البحث عن طرق لتسهيل إثبات الخطأ من قبل الضحية كإلزام الإدارة بتسبيب قراراتها و فرض إمكانية الإطلاع على ملفاتها , وذلك إلى جانب الدور الذي أصبح يلعبه القاضي الإداري في الإجراءات القضائية ، فعندما تمتنع الإدارة أو تعجز عن تقديم وثيقة أو ملف بناءا على طلب القاضي فان هذا الأخير يعتبر الخطأ المرفقي قائما , وكذلك الأمر في حالة ادعاء الإدارة وجود سبب لنفي مسؤوليتها فعليها إثبات ذلك .
وقد جاء الاجتهاد القضائي في بعض الميادين بما يسمى بالخطأ المفترض ومفاده نقل عبء الإثبات, إذ أن تقنية الافتراض تسمح باستنتاج حقيقة الأفعال الضارة التي يستحيل إثباتها من خلال وجود أفعال ضارة ثابتة ، وهنا نجد أن القاضي الإداري يستعمل عادة مصطلح " يكشف" (Révèle) ،خاصة في الميدان الطبي , وبالتالي إذا كان مريض متواجد بالمستشفى بسبب مرض معين ليجد نفسه مصابا بمرض أخر لا علاقة له بمرضه الأول في نفس المصلحة , فإن القاضي يعتبر الإصابة ناتجة عن خطأ ينسب إلى المستشفى , وقد
صدر :قرار عن مجلس الدولة في هذا الإطار بتاريخ : 01 مارس 1989 قرار "BALLY" ،إذ تم نقل مكروب إلى جسم مريض خلال عملية جراحية .
كما أنه يمكن للقاضي الإداري لتكوين اقتناعه حول وجود الخطأ المرفقي أن يأمر بإجراء تحقيق تكميلي كاللجوء إلى الخبرة بخلاف الانتقال إلى المعاينة الذي هو قليل الاستعمال، و مهما يكن من أمر فإن القاضي يبقى حرا في تقديره لوجود الخطأ المرفقي و نسبته إلى الإدارة، و من تم في تقديره لأدلة إثبات الأطراف.
الفرع الثاني : درجة جسامة الخطأ المرفقي :
ينقسم الخطأ المرفقي في نظام المسؤولية الإدارية إلى خطأ بسيط و خطأ جسيم، ففي الحالات العادية و استنادا إلى قواعد القانون المدني يكون الخطأ البسيط كافيا لقيام المسؤولية، غير أن القضاء الإداري اشترط وقوع خطأ جسيم في حالات معينة كما هو الحال في القرارات الإدارية ، كما اشترط هذه الدرجة من الجسامة في الخطأ المرفقي لإقامة مسؤولية بعض المرافق العامة التي يتميز نشاطها بصعوبة معينة .
- I الخطأ في حالة القرارات الإدارية:
إذا كان الضرر يرجع إلى قرار أصدرته الإدارة ، كما لو أمرت بفصل موظف أو برفض التصريح لأحد الأفراد بمزاولة عمل معين ، أو بهدم منزل أو بإغلاق محل عام أو فرضت قيودا معينة بلائحة على نشاط فردي... ففي هذه الصور و أمثالها يأخذ الخطأ صورة ملموسة هي " عدم المشروعية" ، ذلك ان عدم المشروعية بأوجهها الأربعة كما هي مصدر للإلغاء ، فإنها مصدر للمسؤولية .
أ-عيب عدم الإختصاص :
إن عدم الاختصاص من أول أسباب إلغاء القرار الإداري، و هو يتعلق بالنظام العام ، و من تم يملك القاضي الإداري إثارته من تلقاء نفسه، إلا أن الأمر يختلف في نطاق التعويض فلا يؤدي هذا العيب إلى
تعويض الضحية إذا كان سيقع في حالة صدور القرار من الجهة المختصة، فقد أتجه مجلس الدولة الفرنسي إلى إعلان عدم المسؤولية عن عيب عدم الاختصاص إذا ما كان الضرر المطالب بالتعويض عنه لاحقا بالفرد لو ان القرار ذاته صدر من الجهة المختصة.
ب- عيب الشكل:
عند إصدار قرار إداري فعلى الإدارة أن تحترم بعض الأشكال و الإجراءات،و القاضي الإداري لا يشترط احترام جميع الأشكال و ذلك حتى لا يعرقل نشاط الإدارة ، فنجده هنا يميز بين الأشكال الجوهرية
و الأشكال غير الجوهرية، ووفقا لذلك تؤدي مخالفة الشكل الجوهري وحدها إلى إلغاء القرار الإداري ومع ذلك لا يوجد تلازم بين إلغاء القرار لعيب الشكل والحصول على تعويض ، ذلك أن التعويض مقصور على الحالات التي يؤثر فيها الشكل على مضمون القرار .
ج- عيب الإنحراف استعمال السلطة:
تحدث حالة انحراف السلطة عندما تستعمل الإدارة سلطتها لغرض يختلف عن الغرض الذي منحت لها من اجله هذه السلطة ، إذ أن القاضي يعاقب دائما و بصفة مشددة هذه الصورة من عدم المشروعية ، و نجد نفس التشديد في ميدان المسؤولية بحيث أن كل ضرر ناتج عن الإنحراف بالسلطة من اللازم إصلاحه ،و من تم يمكن القول أن عيب الإنحراف بالسلطة يعد مصدرا للمسؤولية لأن هذا الخطأ يستوجب التعويض إذا ترتب عليه ضرر ثابت .
د- عيب مخالفة القانون:
عندما يبحث القاضي الإداري عن عيب مخالفة القانون، فإنه يفحص القرار المطعون فيه و يقوم بدراسة أسبابه ، فإذا كان الخطأ على مستوى الأسباب القانونية فإننا نكون بصدد قرار معيب بخطأ قانوني ، أما إذا
كان الخطأ يرجع إلى وقائع القرار فإننا نكون بصدد خطأ في الوقائع، و يبدو ان القضاء يعطي دائما الحق في التعويض في حالات الخطأ في القانون ، في حين انه يتبنى موقفا متباينا في حالة الغلط الفعلي و قد أخذت الغرفة الإدارية للمجلس الأعلى بهذا التمييز في قرار صادر عنها بتاريخ : 09/04/1971 ، في قضيــــة " دخلي" ضد " والي ولاية الجزائر" ، إذ قام هذا الأخير بغلق محل المدعي ووضعه بصفة غير مشروعة تحت حماية الدولة ليعيده إليه فيما بعد، مما جعل السيد" دخلي" يطالب بالتعويض أمام القاضي الإداري الذي منحه إياه على أساس أن اللامشروعية في حد ذاتها جسيمة .
و في الأخير يمكن القول أنه في بعض الحالات لا تشكل اللامشروعية خطأ إذا ارتكبت لفائدة الصالح العام، إذ أن مسؤولية الإدارة تقوم على أساس المساواة في تحمل اللأعباء العامة كما أن عدم قبول دعوى الإلغاء ضد قرار معين لا يعد عائقا في ممارسة دعوى التعويض المؤسسة على ضرر ناتج عن القرار اللامشروع محل دعوى الإلغاء
II- الخطأ البسيط و الخطا الجسيم:
من المفروض أن الحطأ البسيط يكفي لترتيب المسؤولية الإدارية ، إلا انه أحيانا يشترط القاضي الإداري خطأ يوصف بالخطا الجسيم و ذلك في بعض نشاطات المرافق العامة التي تجد صعوبة خاصة في تنفيذها مما يجعل الخطأ البسيط معذور ومن تم يرتب الخطأ الجسيم وحده مسؤولية هذه المرافق العامة، فعكس القانون المدني الذي يحاول في كل الحالات حماية الضحية فإننا نجد أن القاضي الإداري يلتزم بالبحث عن حل توفيقي
بين ضرورة تعويض الأشخاص و بين رغبته في إظهار بعض الامتنان اتجاه الإدارة فيما يخص بعض المرافق لأنه يعتبر أن نشاطاتها صعبة التنفيذ و تتطلب بعض التسامح و هذا كله حتى لا يعرقل نشاطاتها و من تم حتى لا يحول دون تحقيق المصلحة العامة.
و في هذا الصدد نجد ان الخطأ الجسيم يكون لازما في كل او بعض أنشطة مرافق محددة، في حين انه يكفي الخطأ البسيط لترتيب مسؤولية مرافق أخرى، و بالتالي يستند القاضي الإداري إلى طبيعة النشاطات الإدارية المتسببة في الفعل الضار في تحديده لدرجة جسامة الخطأ.
و نستهل دراستنا بأهم المرافق التي تتطلب في بعض نشاطاتها الخطأ الجسيم لترتب مسؤوليتها و الخطأ البسيط في نشاطاتها الأخرى مع المرور بمراحل التطور التي مر بها الاجتهاد القضائي في كل مرفق منها و هي
- نشاط مصالح الشرطة - نشاط مصالح السجون – نشاط الرقابة الوصائية – نشاط مصالح الضرائب – نشاط مصالح مكافحة الحريق- النشاط الطبي.
1- نشاطات مصالح الشرطة :
لم يتخلى مجلس الدولة الفرنسي عن مبدئه القديم و المتمثل في عدم مسؤولية القوة العمومية إلا في 1905 من خلال القرار " Tomaso Gréco" الصادر بتاريخ 10/02/1905 ، حيث توسعت مسؤولية الشرطة منذ هذا التاريخ فنجدها تارة بدون خطأ و تارة تقوم على أساس الخطأ البسيط ، و أحيانا أخرى تقوم على أساس الخطأ الجسيم ، فتكون المسؤولية بدون خطأ في حالة الأضرار الناجمة عن تجمهر او حالة إستعمال سلاح ناري ضد ضحية لم تكن مستهدفة خلال مباشرة مصالح الشرطة لعملية محـــددة ، و تكون المسؤولية على أساس الخطأ البسيط في حالة الأضرار الناجمة عن استعمال سلاح ناري عندما تكون الضحية مستهدفة خلال العملية ، و بصفة عامة تكون مسؤولية مصالح الشرطة في حالة الأضرار الناجمة عن التصرفات القضائية أو المادية عندما لا يشكل التدخل صعوبة خاصة .
و مع ذلك نجد أن المسؤولية على أساس الخطأ الجسيم هي التي تحتل الصدارة في إطار مسؤولية مصالح الشرطة، إذ منذ 1925 أصبح الاجتهاد القضائي يشترط الخطأ الجسيم لترتيب مسؤولية الإدارة عن نشاط الضبطية الإدارية عندما يشكل هذا الأخير صعوبة خاصة في التدخل، و ذلك إثر قرار" Clef R.DP" الصادر عن مجلس الدولة بتاريخ 13/03/1925 ، و عادة ما يرتب نشاط الضبطية الإدارية مسؤولية المرفق على أساس خطأ بسيط لأن مباشرة الأعمال القضائية لا تشكل صعوبة خاصة إلا استثناءا، إذ أن الصعوبات
التي تتلقاها مثلا شرطة الطرق في باريس خلال تنظيمها لحركة المرور لا بد أن يرقى الخطأ الناتج عنها إلى درجة الخطأ الجسيم حتى تترتب مسؤولية ولاية باريس عن تنظيم حركة المرور فيها .
2- نشاطات مصالح السجون :
يشترط مجلس الدولة الفرنسي الخطأ الجسيم لترتيب مسؤولية مصالح السجون، و ذلك منذ سنة 1958 في قضية " Rakotoarinovy" حيث صدر فيها قرار بتاريخ 03/10/1958 ،و قد كان لابد قبل هذا التاريخ أن يكون الخطأ جليا و ذو خطورة خاصة ، كما صدر قرار بتاريخ 05/01/1971 في قضـــية " Veuve Picard" اعتبر فيه مجلس الدولة أن قتل مسجون من قبل مسجون آخر لا يرتب مسؤولية المرفق كونه لم يبين وجود خطأ جسيم في المراقبة، في حين قرر في قضية أخــرى بتاريخ 16/11/1988 " Epoux Deviller" أن الإهمال الخطير من قبل الأعوان و المتمثل في عدم الإعلان الطارىء عند اكتشافهم لمسجون مغمى عليه يشكل خطأ جسيما، و بالتالي يرتب مسؤولية المرفق.
و تجدر الإشارة إلى أن الخطأ الجسيم يشترط في هذه الحالة سواء كانت الضحية مسجون أو موظف ألحق به ضرر من قبل موقوف.
3-نشاط الرقابة الوصائية :
يتعلق الأمر بالرقابة التي تمارسها الدولة على الجماعات المحلية و كذا الأشخاص المعنوية، وهنا كذلك يشترط الاجتهاد القضائي الخطأ الجسيم لترتيب مسؤولية الإدارة عن ممارسة رقابتها الوصائية بشكل عام، و قد ظهر هذا الإتجاه من خلال قرار صادر عن مجلس الدولة يتعلق بالوصاية على الجماعات المحلية في
29/03/1946 : " Caisse d’assurances sociales de Meurth – et- Moselle" و قرار "Meunier " الصادر في 20/03/1966
و ما يلاحظ حاليا أن الخطأ الجسيم لم يعد لازما لترتيب مسؤولية الإدارة إذ صدرت عدة قرارات حديثة عن مجلس الدولة قضت بمسؤولية هذه الأخيرة رغم وجود خطأ بسيط مع الأخذ بعين الاعتبار أهمية سلطة الرقابة التي تملكها هذه الإدارة من بينها قرار "Société Hilton internationale " الصادر في 22/02/1991 يخص الترخيص حول عتاد الهاتف و قرار صادر في 13/03/1998 "Améon" يخص ترتيب مسؤولية الدولة في نشاطات الرقابة التقنية التي تمارسها على السفن.
4- نشاطات مصالح الضرائب:
في السابق كان يشترط أن تشكل الأضرار الناتجة عن نشاط مصالح الضرائب خطأ ذو جسامة خاصة، ومنذ 1962 أصبح الخطأ الجسيم يكفي لتقوم مسؤولية إدارة الضرائب و ذلك من خلال القرار الصادر عن مجلس الدولة بتاريخ 21/12/1962 وهو قرار "Husson-Chiffre " ومع ذلك تعرض موقف القضاء إلى النقض لان معظم عمليات مصالح الضرائب لا تكتسي صعوبة خاصة في التدخل ، وبقي الأمر كذلك إلى غاية 1990 إذ صدر قرار عن مجلس الدولة في 27/06/1990 "Yvon Bourgeois" يخص أخطاء الحفظ و المعالجة المعلوماتية للتصريحات وتنفيذ الاقتطاعات الشهرية ،قضى فيه بمسؤولية مصالح الضرائب علي
أساس الخطأ البسيط في كل نشاطاتها وذلك في غياب صعوبات خاصة في معالجة المشاركين ، أما الخطأ الجسيم فبقى لازما فيما يخص نشاط إقرار أساس الضرائب و التحصيل عليها .
5 – نشاط مصالح مكافحة الحريق:
لا يميز القضاء الإداري بين الأخطاء المتعلقة بتنظيم أو سير مصالح مكافحة الحريق وبين الأخطاء المتعلقة بتدخلها ويشترط في كل هذه الحالات الخطأ الجسيم .
إلا أنه منذ 1998 أصبحت نشاطات مكافحة الحريق و الإنقاذ في البحر ترتب مسؤولية الإدارة على أساس الخطأ البسيط رغم الصعوبة الخاصة التي تمتاز بها هذه النشاطات و ذلك من خلال قرار "Améon" الصادر عن مجلس الدولة في 13/03/1998 بالنسبة للاتقاد في البحر،وقرار " Commune de Hannapes " الصادر في 29/04/1998 بالنسبة لمكافحة الحرائق .
6- الـنـشـاط الــطــبـي :
كان القضاء الإداري يميز ضمن نشاطات المستشفى بين النشاط الإداري لهذا المرفق وبين النشاط الطبي . وذلك إلى غاية 1992 ، فبالنسبة للأضرار الناجمة عن ظروف تنظيم أو تسيير مرفق المستشفى فإن الخطأ البسيط يكفي لترتيب مسؤولية هذا الأخير كأن لا يتضمن طاقمه أي طبيب مختص في التخدير ، أو الحراسة غير الكافية في مصلحة الأمراض العقلية . أو استعمال أدوات غير صالحة أو الإهمال مثل معالجة ضحية حادث مرور في قاعة مخصصة لمصابين بأوبئة معدية .أما بالنسبة للأضرار الناجمة عن الخطأ الطبي فإن
الاجتهاد القضائي قبل 1992 يختلف عنه بعد 1992 ، فقبل هذا التاريخ كان الخطأ الجسيم وحده يرتب مسؤولية المستشفى بسبب الخطأ الطبي ، وهذه الصرامة كانت منتقدة من قبل الفقه الفرنسي طالما أن
الجهات القضائية كانت تكتفي بالخطأ البسيـط لتحميل العـيادات الخاصة مسؤولية الأضرار الناجمة عن أخطائها الطبية .
أما بعد 1992 أصبح مجلس الدولة يرتب مسؤولية المستشفى على أساس الخطأ البسيط رغم أن العمليات تتطلب صعوبة خاصة ، ومهما كانت طبيعة هذا الخطأ وذلك من خلال قرار " Epoux .V " الصادر عنه في 10/04 1992 وقد ذهب مجلس الدولة الفرنسي أحيانا إلى أبعد من ذلك إذ قضى بمسؤولية المستشفى بدون خطأ عندما يكون الضرر ذو خطورة خاصة ناتجة عن نشاط طبي يشكل خطرا معترف به والذي يكون تحقيقه استثنائيا وذلك في قرار " Bianchi " الصادر عنه في 09/04/1993 .
وقد صدر قرار عن مجلس الدولة في الجزائر بتاريخ 19/04/1999 يتعلق بمسؤولية المستشفى عن الخطأ الطبي ، وتتلخص وقائع القضية في أن السيدة "رقية " انتقلت إلى مستشفى أدرار لوضع حملها فأجريت لها عمليتان جراحيتان أثناء الولادة ، فتوفيت المولودة مباشرة وأصيبت السيدة بعاهة مستديمة تتمثل في العقم ، فرفعت هذه الأخيرة دعوى أمام الغرفة الإدارية لمجلس أدرار للمطالبة بالتعويض و التي عينت خبير مختص توصل إلى أن الخطأ الطبي هو الذي أدى إلى عقم السيدة ووفاة ابنتها ، فقضت لها الغرفة الإدارية بتعويض عن الضرر المادي والمعنوي مما جعل القطاع الصحي لأدرار يستأنف القرار ، وهنا قضى مجلس الدولة بالتأييد على أساس عدة أخطاء طبية مؤكدة أثناء عملية بسيطة ، وما نلاحظه في القرار الصادر عنه أن مجلس الدولة لم
يتكلم في حيثياته عن وجوب اشتراط الخطأ الجسيم في الخطأ الطبي ، كما أنه لم يعط أي وصف لهذا الخطأ الطبي ، وبالتالي نستشف من خلال ذلك أن مسؤولية المستشفى قائمة بغض النظر عن نوعية الخطأ المرتكب .
وقد اتخذ مجلس الدولة نفس الموقف في قرار آخر صادر عنه بتاريخ 17/01/2000 في قضية المستشفى الجامعي (ض) ، ضد (س . م) ، حيث لم يقم بتكييف الخطأ المتمثل في عدم اتخاذ الإجراءات الطبية اللازمة وعدم ربط الهالكة طبقا للتعليمات الطبية مما أدى إلى رمي نفسها من نافذة الطابق الأول والتي كانت مصابة بالكوليرا التي ترفع لها درجة الحمى وبالتالي تأثر على حالتها النفسية ، ونجد هنا أن مجلس الدولة قد اعتبر عدم ربط المريضة على سريرها بناءا على تعليمات الطبيب خطأ مرفقيا وليس خطأ شخصيا ذلك لأن عملية ربط المريضة هي إجراء وقائي لتفادي الحاقها الضرر بنفسها مما يشكل اهمال صادر عن موظفي المستشفى الذي يعد في هذه القضية مرفقا متوقفا عن سيره أي أننا أمام صورة عدم تسيير مرفق عام السابق ذكرها .
كما صدرت عدة قرارات عن مجلس قضاء بجاية في هذا الشأن ، نذكر منها قرار صادر عن الغرفة الإدارية به بتاريخ 28/05/2002 تحت رقم فهرسه 436 /2002 إذ قضت فيه بمسؤولية القطاع الصحي وعيادة الولادة على أساس الخطأ الطبي المرتكب أثناء عملية توليد المدعية ، ونلاحظ هنا أيضا عدم استعمال قضاة الغرفة لعبارة خطأ جسيم أو خطأ بسيط أي أنهم اكتفوا بتأسيس قرارهم على الخطـأ الطبي دون تحديد وصف لهم وهذا يعني عدم اشتراط الخطأ الجسيم لترتيب مسؤولية مرفق المستشفى ، كما صدر قرار آخر عن نفس الغرفة بتاريخ 13/07/2004 تحت رقم فهرسه443/04 في إحدى حيثياته : " إن
الوفاة لم تكن ناتجة عن خطأ علاجي إلا أن مسؤولية المستشفى قائمة باعتبار أن اهمال الممرضين دورهم في مراقبة مساعدة المريضة لقضاء حاجتها ساهم في تدهور حالتها الصحية نظرا لما بذلته من جهد يفوق طاقتها وهي تتوجه بمفردها إلى دورة المياه". فالغرفة الإدارية أسست مسؤولية المستشفى على أساس الخطأ المرتكب من طرف ممرضي المصلحة الذين يقع عليهم واجب حراسة ومساعدة المرضى .
وفي الأخير يمكن القول أنه في مختلف النشاطات والمرافق التي تطرقنا إليها فإن معيار الصعوبة " Critère de la difficulté " الذي أصبح مستعملا في النشاط المعني وذلك حالة بحالة وليس مرفق بمرفق كما كان الحال سابقا ، والذي بات يعد حاليا الأداة الحاسمة لتحديد مجال تطبيق نظام المسؤولية الإدارية على أساس الخطأ الجسيم .
المطلب الرابع: قــاعــدة الجــمـع
تظهر أهمية تحديد طبيعة الخطأ في توزيع المسؤوليات وبالتالي في توزيع الاختصاص بين الجهات القضائية ، فإذا كان الخطأ المرتكب خطأ شخصيا فإن الجهة القضائية العادية هي التي تنظر في الدعـوى و تحمل الموظف عبء تعويض الضحية من ماله الخاص ، أما إذا كان الخطأ المرتكب خطأ مرفقيا فـإن الإدارة تكون مسؤولة عن تعويض الضرر الذي لحق الضحية أمام جهة القضاء الإداري ، و في حـالة وجود لبس وغموض حول طبيعة الخطأ المرتكب فإن الإدارة كانت ترفع النزاع أمام محكمة التنازع بفرنسا .
ومن تمﱠ فإن فكرة الجمع بين المسؤوليات كانت مستبعدة تماما باتفاق الفقه والقضاء على عدم الجمع بين مسؤولية الإدارة ومسؤولية الموظـف على أساس الـفصل التـام بين الخطأين، وعـدم إمكان تصور اشتراك الخطأين في إحداث الضرر للضحية .
وقد أدى هذا الاتجاه إلى وضع مضر بالضحية خاصة في حالة كان الموظف مرتكب الخطأ مفلـسا وهي الحالة الغالبة ، وهذا ما جعل القضاء الإداري يتساءل عما إذا كان الخطأ الشخصي يلزم الإدارة اتجاه الضحية عوض الموظف وذلك في إطار تحسين مصير الضحية ، بتمكينها من مطالبة اّلإدارة بتعويض الضرر باعتبار هذه الأخيرة عامرة الذمة دائما ومن تم يكون حصول الضحية على التعويض أكيــدا .
وقد مرت نظرية الجمع بمرحلتين، أولـها جمع الأخطاء وثانيها جمع المسـؤوليات، كما أنه تترتب عن هذه القاعدة عدة نتائج تتعلق من جهة بحقوق الضحية ومن جهة أخـرى بدعاوى الرجوع، و سنتطرق إلى كل ذلك فيما يلـــي :
الفرع الأول : جـمــــع الأخـطــــاء:
بعد صدور قرار "Pelletier" في 1873 استبعدت كل إمكانية للجمع بين الخطأ الشخصي والخطأ المرفقي ، و جسد ت فكرة قيام إما مسؤولية الإدارة أو مسؤولية الموظف حسب طبيعة الخطأ وأمــام الجـهـة القــــضائية المختصة ، وفي 1911 منح قرار " Anguet" للضحية إمكانية الاختيار بين متابعة الموظف المتسبب في الضرر أو متابعة الإدارة للحصول على تعويض، و هنا نكون امام خطأ شخصي و خطأ مرفقي في آن واحد .
أس وتتلخص وقائع قضيةAnguet 1 في أن هذا الأخير دخل مكتب البريد قبل غلقه لقبض حوالة ، ولما همﱠ بالخروج وجد أبوابه مغلقة ، فقصد الباب الخلفي المخصص لخروج العمال ، وفي طريقه إليه مرﱠ بقاعة الطرود فظنه بعض الموظفين لصا وهجموا عليه بالضرب ودفعوه مما أدى إلى سقوطه وكسر ساقه ، وقد ثبت أن ساعة المكتب لم تكن مضبوطة مما جعل الموظفين يغلقونه قبل الموعد الرسمي بدقائق ، فالخطأ المرفقي يتمثل في سوء تسيير مصلحة البريد بغلق أبواب المكتب قبل الموعد الرسمي ، أما الخطأ الشخصي فيتمثل في المعاملة غير العادية التي تلقاها السيد Anguet من قبل الموظفين مما أدى إلى كسر رجله.
في هذه الحالة كان يمكن للضحية الخيار بين المسؤوليتين ، فبإمكانها المطالبة بكامل التعويض عن الضرر من الموظف أمام القضاء العادي على أساس الخطأ الشخصي ، أو مطالبة الإدارة أمام القاضي الإداري بالتعويض الكامل على أساس الخطأ المرفقي .
ونلاحظ هنا أن جمع الأخطاء يطرح بصفة منطقية ، إذ أن هذه الصورة من الجمع قبلت في وقت مبكر وهي محل إجتهادات قضائية مستمرة .
الفرع الثانــي : جــمــع ا لـمـسـؤولـيـات
نكون أمام حالة جمع المسؤوليات عند حدوث ضرر ناتج عن خطأ شخصي مرتكب من قبل الموظف ويقرر القاضي الإداري مسؤولية الإدارة ، وقد ظهرت هذه الصورة من الجمع بعد فكرة جمع الأخطاء بسنوات مما أدى إلى توسيع مجال المسؤولية الإدارية ، فبعد أن كانت تقوم على أساس الخطأ المرفقي وحده ثم على اس الخطأ المرفقي والخطأ الشخصي معا ، أصبحت تقوم رغم وجود خطأ شخصي فقط.
وفي هذا الإطار وقع تطور هام ، إذ بعد اعتراف القضاء الإداري بمسؤولية الإدارة على أساس الخطأ الشخصي المرتكب داخل المرفق أصبح يعترف بمسؤولية هذه الأخيرة رغم أن الخطأ الشخصي ارتكب خارج المرفق.
1 - مسؤولية الإدارة على أساس الخطأ الشخصي المرتكب من طرف العون العمومي أثناء القيام بتسيير المرفق :
قد يرتكب العون العمومي خطأ أثناء تأديته لعمله دون أن يكون لهذا الخطأ علاقة بتسيير المرفق العام فيكون بذلك هذا الخطأ شخصيا، ورغم هذا فإن القضاء الفرنسي قرر لأول مرة في قراره المبدئي "Arrêt Lemonnier " أن الإدارة مسؤولة عن الخطأ الشخصي ، وتتلخص وقائع هذه القضية في أنه عند التحضير لحفلة محلية نظمت ألعاب نارية أو ألعاب بالسلاح على أهداف عائمة في نهر صغير ، فأعلم رئيس البلدية بخطورة هذه الألعاب لعدم توفير الشروط الأمنية اللازمة إضافة إلى هذا عدم براعة المشاركين ، ولكن هذا الأخير لم يأخذ هذا الرأي بعين الاعتبار فلم يتخذ أي إجراء لمنع المارة من السير والمرور في الضفة الأخرى للنهر ، واكتفى بنصح اللاعبين بمزيد من المهارة في التصويب ، فحدث أن أصابت رصاصة طائشة السيدة Lemonnier التي كانت تسير مع زوجها وذلك في خذها الأيمن لتستقر بين عمودها الفقري وحنجرتها
، فقام الزوجان برفع دعوى أمام القاضي العادي ضد رئيس البلدية ، ودعوى أخرى ضد البلدية أمام مجلس الدولة ، وهنا حكم لهما هذا الأخير بالتعويض ، معلنا أن تقرير المسؤولية الشخصية للموظف لا تحول دون قيام مسؤولية الإدارة ، وإن كان هذا الجمع بين المسؤوليتين لا يعطي للمضرور الحق في التعويض مرتين تطــبـيـقا لـمـبـادئ الـعـدالـــة .
وقد سلم مجلس الدولة الفرنسي بقاعدة الجمع بين مسؤولية الإدارة و مسؤولية الموظف عند ارتكاب هذا الاخير خطأ شخصيا داخل المرفق و ذلك بناء على رأي مفوض الدولة " Léon Blum" في هذه القضية الذي جاء فيه : " إذا كان الخطأ قد ارتكب داخل المرفق أو بمناسبة مباشرة العمل به ، وإذا كانت وسائل وأدوات الخطأ قد وضعت تحت تصرف الجاني بواسطة المرفق ، وباختصار إذا كان المرفق قد مهد لارتكاب الخطأ فالقاضي الإداري يمكنه بل يجب عليه القول : أن الخطأ قد يكون شخصيا وينفصل عن المرفق وهذا أمر متروك تقديره للمحاكم العادية ، ولكن المرفق لا يمكن أن ينفصل عن الخطأ " فمجلس الدولة إذن اعتمد جمع المسؤوليتين رغم أن الخطأ شخصي على أساس التسيير السيئ للمرفق .
وهناك حالات مشابهة طرحت أمام المجلس الأعلى الذي فصل في الاتجاه ذاته ، إذ ذهب أحد الجنود المناوبين في الثكنة إلى حفل أقيم في جوار الثكنة ، مصطحبا معه سلاحه ودون ترخيص فوقع حادث مميت أدى إلى صدور حكم جنائي من طرف مجلس قضاء الجزائر ضد الجندي وحكم نقدي ضد الدولة باعتبارها المسؤولة مدنيا ، وقد تعرض هذا الحكم للنقض من طرف المجلس الأعلى (04 جويلية 1966 ) لأنه من جهة الجرم الجنائي المرتكب من طرف الجندي يخضع لاختصاص المحاكم العسكرية الدائمة وليس للقاضي الجنائي العادي ، ومن جهة أخرى التعويض المدني الذي يقع على الإدارة بسبب الخطأ الشخصي للجندي يدخل في ا
ختصاص المحاكم المختصة بالنظر في المواد الإدارية ، وبالتالي نجد أن قرار المجلس الأعلى قد اعتمد ولو ضمنيا موقف القضاء الإداري الفرنسي في القضية المذكورة كونه نقض القرار الصادر عن مجلس قضاء الجزائر لمسائل إجرائية وليس موضوعية ، وهذا ما تبينه من خلال الحيثية الثانية المتعلقة بالتعويض المدني .
وتقوم مسؤولية الإدارة على أساس الخطأ الشخصي المرتكب من طرف العون العمومي أثناء تسيير مرفق عام في حالات أخرى وبمقتضى نصوص تشريعية فنجد مثلا أن مسؤولية الدولة تحل محل مسؤولية المعلمين والمربين عن أخطائهم الشخصية فيما يخص الأضرار اللاحقة بالتلاميذ أو الناتجة عن أفعالهم ، وهذا الحلول لا يمس إلا أعضاء أسرة التعليم العمومي على المستوى الابتدائي و الثانوي ويتمثل الخطأ الشخصي للمعلم هنا في إخلاله بالتزام المراقبة الذي يقع عليه اتجاه تلامذته وقد ورد النص على أن مسؤولية المعلمين والمربين في المادة 135/1 ق. المدني وذلك عن الأضرار التي يسببها تلامذتهم في الوقت الذي يكونون تحت رقابتهم ، والمثير للاهتمام أن المادة اقتصرت على الأضرار تسبب فيها التلاميذ دون الأضرار التي تلحق بهم عكس ما هو وارد في القضاء الإداري الفرنسي الذي يأخذ كذلك بدعوى الرجوع التي تمارسها الدولة ضد المعلم الذي يرتكب الخطأ الشخصي في حين لا وجود لحكم مماثل في المادة المذكورة .
كما أن هناك حالة أخرى تكون فيها البلدية أو الولاية مسؤولة عن الأضرار التي يتسبب فيها منتخبوها المحليين في غياب أي خطأ مرفقي ، إذ نصت المادة 145 من القانون رقم 90-08 المؤرخ في 07 أفريل 1990 والمتعلق بالبلدية على أن البلدية تكون مسؤولة عن الأخطاء التي يرتكبها رئيس المجلس الشعبي البلدي والمنتخبون البلديون وهم أعضاء المجلس وموظفو البلدية وهذا أثناء قيامهم بوظائفهم أو بمناسبتها شريطة أن يكونوا موكلين من طرفها للعمل باسمها بصفة خاصة ، على أنه يمكن للبلدية مباشرة دعوى ضد هؤلاء في
حالة كان الخطأ المرتكب شخصيا ويبقى إذن حق البلدية في ممارسة دعوى الرجوع ضد هم منوطا بها، وقد نصت المادة 118 من قانون الولاية الصادر07أفريل 1990 تحت رقم 90-09 على مسؤولية الولاية مدنيا
عن الأخطاء التي يرتكبها أعضاء المجلس الشعبي الولائي بما فيهم رئيسه ، على أنه يمكن للولاية الطعن لدى القضاء الإداري ضد مرتكب هذه الأخطاء وذلك في شكل دعوى الرجوع .
2 – مسؤولية الإدارة على أساس الخطأ الشخصي المرتكب من طرف العون العمومي خارج تسيير المرفق العام :
من المنطقي أن يسند الخطأ المرتكب من طرف الموظف خارج تسيير المرفق العام له شخصيا ويؤدي إلى مسؤوليته الشخصية ، ولكن رغم ذلك ولمساعدة الضحية جاء مجلس الدولة الفرنسي بحل يختلف عن هذه القاعدة المنطقية ، وكان ذلك في عدة قضايا تتعلق كلها بحوادث المرور التي تسبب فيها سيارات الإدارة والمستعملة من طرف أعوانها العموميين خارج تخصيصها الطبيعي أولها قضية الآنسة Mimeur . وتتلخص وقائع الآنسة ميمور أن سائق شاحنة عسكرية لم يتحكم في سياقتها فاصطدم بسكن الآنسة ميمور التي رفعت دعوى ضد وزارة الدفاع تطلب فيها تعويضها عن الأضرار التي لحقت بسكنها، إلا أن دعواها رفضت على أساس أن الجندي وقت الحادث لم يكن في مهمة خاصة بالمرفق العام، إذ أتضح عند التحقيق أن العسكري بعدما أنهى مهمته كان راجعا لمقر عمله وأثناء ذلك مرﱠعلى طريق غير مباشر لزيارة عائلته، فاعتبر مجلس الدولة أنه رغم وجود خطأ شخصي قام به الجندي في سياقة شاحنة ملك للإدارة إلا أن هذا الخطأ له علاقة ولو غير مباشر مع المرفق العام مما جعل جزء من التعويض يقع على عاتق الإدارة .
ورغم أن تعويض الأضرار التي تسببت فيها سيارة الإدارة أصبح من اختصاص القاضي العادي إلا أن مسؤولية الإدارة على أساس الخطأ الشخصي للعون العمومي خارج تسيير المرفق العام مازالت تطرح بغض النظــر عن حــوادث المرور ، إذ صــدر قرار عن مجلس الدولة في 28 أكتوبر 1953
" Dame Banquet " يخص قيام أعوان مكلفين بالتفتيش بسرقة أموال منقولة كما صدر قرار آخر عنه رتب مسؤولية الإدارة رغم وقوع الخطأ الشخصي خارج أوقات العمل في 26 أكتوبر 1973 "Sadoudi " وتتلخص وقائعه في أن شرطيا كان بغرفته بصحبة المدعو "Sadoudi " وعند تنظيف مسدسه انطلقت طلقة نارية أدت إلى وفاة هذا الأخير، واعتبر مجلس الدولة أن الإدارة مسؤولة مع العون العمومي رغم أن العون لم يكن يقوم بتنفيذ مرفق عام أثناء الحادث ، وذلك لأن قواعد تنظيم المهنة كانت تلزم الأعوان بإبقاء المسدس في منازلهم ونظرا للخطورة التي يشكلها التزام حفظ السلاح في منازل الأعوان على الغير فإنه لا يمكن القول بعدم وجود علاقة بين الحادث والمرفق .
وفي هذا المجال يحاول القضاء الوصول إلى علاقة بين خطأ العون العمومي والمرفق العام، وذلك حتى عندما تكون الأشياء المستعملة لارتكاب الخطأ لم تكن تلك المستعملة لتسيير المرفق العام .
حـيـث صــدر عـن مـجـلـس الـدولـة فـــي 18 نـوفـمـبـر 1988 فـي قـضـية الـزوجـيـن "RASZEWSKI" ، في هذه القضية كان دركي يقوم بسرقة السيارات ويتعدى على الأشخاص بسلاحه وذلك عن طريق إطلاق النار عليهم ، فقام بقتل شخص بمسدسه الشخصي وبينما يظهر أنه لا توجد أية علاقة بين الأخطاء الشخصية التي كان يقوم بها ذلك الدر كي والمرفق العام ، اعتبر مجلس الدولة أن الاقتتال له ارتباط مع المرفق العام بحيث أن العون العمومي كان در كيا يشرف على
التحقيق حول كل الأخطار التي كان يقوم بها شخصيا الشيء الذي جعله يستمر خلال مدة طويلة في القيام بعدة جنايات ، فمشاركته في التحقيقات حول كل الأفعال الإجرامية التي كان يقوم بها بالدائرة التي يمارس فيها مهامه ساعدته في الهروب من إلقاء القبض عليه وكشف أمره وبالتالي في القيام بفعل القتل .
وبالتالي يمكن القول أن طبيعة العلاقة بين الخطأ الشخصي والمرفق العام إما أن تكون مكانية أي أن الخطأ يرتكب بالمكان الذي يمارس فيه العون العمومي مهامه ، وإما أن تكون زمنية أي أن الخطأ يرتكب في الوقت الذي كان على العون العمومي أن يمارس خلاله مهامه .
الفرع الثالث : نتائج الجمع
إن النتائج التي ترتبها قاعدة الجمع تتعلق من جهة بحقوق الضحية المجسدة في الدعوى التي يمكنها رفعها ، وبالعلاقة الموجودة بين الإدارة والموظف مرتكب الخطأ من جهة أخرى.
1- دعوى المضرور ( حقوق الضحية ) :
إن الاعتراف بجمع المسؤوليات فيما يخص حقوق الضحية يخضع للقواعد التالية :
1 - يكون للضحية حق الاختيار بكل حرية بين رفع دعوى ضد الإدارة أمام القاضي الإداري للمطالبة بالتعويض الكامل وبين رفع دعوى ضد الموظف أمام القاضي العادي للمطالبة بكامل التعويض أيضا ، وفي الواقع نجد أن الضحية تفضل عادة متابعة الإدارة لتضمن دفع مبلغ التعويض ودون تماطل .
2 - إذا كان مبدأ جمع المسؤوليات يهدف إلى تمكين الضحية من الاختيار بين متابعة الإدارة أو متابعة الموظف ، فإنه لا يمكنه أن يسمح بتعويض الضحية مرتين نتيجة الدعويين المرفوعتين ، وبالتالي يقابل مبدأ جمع المسؤوليات مبدأ عدم الجمع بين تعويضين .
ومن أجل ضمان إمكانية تعويض واحد فإن الاجتهاد القضائي كان يعتمد مبدأ الضمان ، وتبعا لذلك يكون على القاضي الإداري أن يأخذ بعين الاعتبار ما حكم به القاضي العادي ، فإما أن يحمل الإدارة بكامل التعويض أو يحملها بجزء منه ، ونظرا للنتائج المعقدة التي تتطلبها طريقة الضمان لطول الإجراءات وتعقيدها لتجد في الأخير موظف معسر في معظم الأحوال ، هجر القضاء الإداري هذه الطريقة وأصبح يطبق مبدأ الحلول وذلك منذ قرار"THévenet" في 23 جوان 1916 ، وبالتالي أصبح القاضي الإداري يحكم على الإدارة بكامل التعويض .
2 - دعاوى الرجوع :
إذا كانت نتائج جمع المسؤوليات بسيطة فيما يخص علاقة الضحية بالإدارة والموظف فإنها أكثر تعقيدا فيما يخص عبء التعويض الذي يقع عادة على الإدارة ، إذ تكون تصفية التعويض عن طريق دعوى الرجوع التي تمارسها الإدارة ضد الموظف في حالة قيامها بدفع المبلغ كاملا للضحية أو يمارسها الموظف ضد الإدارة في الحالة العكسية .
2- 1- دعوى الرجوع المرفوعة من الإدارة على الموظف :
نظرا لكون الضحية تفضل غالبا رفع دعوى التعويض ضد الإدارة ، فإننا نجد أن دعوى الرجوع المرفوعة من الإدارة على الموظف هي الأكثر استعمالا ، وهذا يثير مسؤولية الموظف اتجاه الإدارة فيما يخص متابعتها أمام القاضي الإداري بسبب الخطأ الشخصي لهذا الموظف .
• في النظام القديم :
لم يكن مسموح للإدارة المحكوم عليها بدفع كامل التعويض - دون أن يكون هناك خطأ مرفقي- إما على أساس جمع الأخطاء أو جمع المسؤوليات الرجوع على الموظف مرتكب الخطأ محل التعويض ، والذي
كانت مسؤولياته تفلت من كل عقاب ، ففكرة الجمع كانت تؤدي إلى الحصانة الكاملة للموظف من الأخطاء الشخصية ليس فيما يخص المجال المالي فقط ، وإنما حتى فيما يخص حسن سير الإدارة ، إذ أن الاجتهاد القضائي كان يعترف فقط بمبدأ الحلول منذ 1916، من خلال قرار "Thévenet" ، وقد صدر قرار عن مجلس الدولة في هذا الشأن بتاريخ 28 مارس 1924 "Poursines " ، في هذه القضية السيد "Boxtel " تم قتله بناءا على أمر الضابط " Poursines" باعتباره مشبوه فيه قامت الدولة بتعويض ورثة "Boxtel " بمبلغ أربعون ألف فرنك فرنسي ، وبعدها قام وزير الحرب آنذاك بإعذار الضابط المسؤول بدفع مبلغ التعويض للدولة ، في 02 جويلية أصدر أمر يلزمه برد المبلغ ، فطلب الضابط إلغاء هذا التصرف من مجلس الدولة الذي رأى أنه طبقا لقانون 24 ماي 1872 فإن مسؤولية الموظف غير المحاسب العمومي لا تقوم اتجاه الدولة بسبب الأخطاء التي ارتكبها عند مباشرة مهامه إلا إذا صدرت نصوص تشريعية خاصة تسمح للوزير بالتصريح بمديونية الموظف اتجاه الدولة ، وفي غياب مثل هذه النصوص تكون إدارة الحرب قد أخطأت حينما حملت الضابط عن طريق قرار بإلزامه بأن يرد لها مبلغ أربعون ألف فرنك نتيجة التعويض الذي دفعته لورثة الضحية ، وقرر مجلس الدولة في الأخير إلغاء قرار وزير الحرب .
• في النظام الحالي :
لقد جاء قرار "Laruelle " الصادر عن مجلس الدولة في 28 /07/1951 بقواعد جديدة تقضي بمسؤولية الموظف مرتكب الخطأ الشخصي اتجاه الإدارة على أساس قيام هذه الأخيرة بتعويض الضحية عن الضرر الذي لحقها من جراء هذا الخطأ ، وتتلخص وقائع القضية في أن : "Laruelle " ، ضابط صف قام بتاريخ15 جوان 1945 بصدم الضحية السيدة "Marchand " بواسطة سيارة عسكرية كان يستعملها لأغراض شخصية لا علاقة لها بعمله ، فصدر قرار من مجلس الدولة بتاريخ 12 مارس 1948 يلزم الإدارة ب
تعويض الضحية وذلك على أساس أن السلطة العسكرية لم تتخذ الإجراءات اللازمة لمراقبة خروج سياراتها من المرآب ، وبناءا على هذا القرار صدر قرار "Laruelle " مفاده ترتيب مسؤولية هذا الأخير اتجاه الإدارة وبالتالي تحميله بمبلغ التعويض الذي دفعته للضحية .
وقد صدرت عدة قرارات عن مجلس الدولة في هذا الشأن أهمها قـرار "Delville " وقرار "Moritz" نتجت عنها عدة قواعد أهمها :
1- يمكن للإدارة بعدما تقوم بتعويض الضحية التي رافعتها أمام القاضي الإداري أن ترفع دعوى رجوع أمام نفس الجهة حتى في غياب أي دعوى ضد الموظف ترفعها الضحية (Laruelle) وكذلك حتى ولو قامت بدفع التعويض تطوعا (Moritz ).
وبالتالي يمكن للإدارة حتى تضمن رد مبلغ التعويض من قبل عونها أن تلجأ إلى إجراءات تنفيذية.
2- يكون للقاضي الإداري النظر في توزيع المسؤولية بين الإدارة والموظف وبالتالي في توزيع عبء التعويض بينهما ، وفي حالة تعدد الموظفين المتسببين في الضرر اللاحق للضحية فإن فكرة الضمان مستبعدة ويكون بذلك كل واحد منهم مسؤول اتجاه الإدارة بقدر حصته في التعويض لقاء حصته في المســـــؤولية " Jeannier " .
3 - وعلى القاضي الإداري أن يأخذ بعين الإعتبار وجود الأخطاء المرتكبة من طرف الإدارة والموظف ومدى خطورتها فيكون للإدارة في حالة نتج جمع المسؤوليات عن خطأ شخصي أن تعود على الموظف بكامل التعويض الذي دفعته للضحية أو بتحميله بجزء منه كما حدث في قرار " Jeannier " الصادر عن مجلس الدولة في 22 مارس 1957 أين حاولت الإدارة تحميل الجنود الستة الذين كانوا في الشاحنة
العسكرية المتسببة في الحادث بكامل التعويض ، وقد قرر مجلس الدولة عندما رفعت الدعوى أمامه تحميلهم بربع قيمة التعويض المحكوم به على الإدارة .
4- إن القرار القضائي الذي ألزمت بموجبه الإدارة بتعويض الضحية لا يحوز قوة الشيء المقضي فيه في مواجهة الموظف أي انه لا يمكن له أن يحتج به كدفع في دعوى الرجوع المقامة ضده من قبل الإدارة ، فيكون له أن يطلب مراجعة قيمة مبلغ التعويض أو مبدأ مسؤوليته في حد ذاته "Laruelle " .