عنتربن شداد
2011-02-01, 18:56
سادساً : من يشرع قتاله ممن يمتنع
باب الجهاد كغيره من أبواب الشريعة لا مدخل للاجتهاد فيه إذا جاء النص عن الله ورسوله ؛ فقد منع الإسلام أشد المنع قتل بعض الكفرة وجعل قتلهم من أعظم الذنوب والخطايا ، وأوجب إراقة دماء بعض المسلمين لبغيهم وعدوانهم وجعل قتلهم من أعظم القربات عند الله سبحانه ، وليس للمسلم في ذلك إلا محض التسليم والأتباع ، ولذا فالناس في هذا الباب على قسمين :
القسم الأول : المعصوم دمه من الكفار ثلاثة أقسام : الأول : الذمي الذي أقام بدار الإسلام إقامة دائمة بأمان مؤبّد يجري عليه حكم الإسلام. الثاني : المعاهد المقيم بداره وبينه وبين أهل الإسلام عهد فلا يجري عليه أحكام الإسلام. الثالث : المستأمن : وهو الكافر الحربي الذي يدخل دار الإسلام بغير استيطان بأمانٍ مؤقت. بل حتى في الحرب لو فهم الكافر الأمان حرم دمه ، ولذا أنكر النبي على أسامة وخالد قتل المتعوذين في الحرب ، قال شيخ الإسلام (الصارم المسلول:1/408) : "الحربي إذا قُلتَ له أو عَمِلتَ معه ما يعتقد أنه أمانٌ صار له أمانٌ"أ.هـ. فهولاء الكفار يحرم الاعتداء عليهم لتقدم الأمان لهم من المسلمين أو بعضهم لهم ، قال الشوكاني (نيل الأوطار:7/155) : "المعاهد : هو الرجل من أهل دار الحرب يدخل إلى دار الإسلام بأمان ، فيحرم على المسلمين قتله بلا خلاف بين أهل الإسلام حتى يرجع إلى مأمنه ، ويدل على ذلك أيضاً قوله تعالى: وَإِنْ أَحَدٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ. (*) وقد جاء الوعيد لمن تعرض لدماء هؤلاء الكفار من ثلاثة أوجه : (الأول) : أنه بغير حق ؛ قال تعالىوَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ، وروى البخاري قال : "لن يزال المؤمن في فُسْحةٍ من دينه ما لم يُصب دماً حراماً" ، قال القرطبي في تفسير الآية (أحكام القرآن:7/133) : "وهذه الآية نهي عن قتل النفس المحرمة ، مؤمنةً كانت أو معاهدةً إلا بالحق الذي يوجب قتلها مما في كتاب الله وسنة رسوله "أ.هـ. (الثاني) : أنه غدر كما روى البخاري قَالَ : "مَنْ قَتَلَ مُعَاهَدًا لَمْ يَرِحْ رَائِحَةَ الْجَنَّةِ". وصحح الحاكم وابن حبان عنه قال :"أيُّمَا رَجُلٍ أمَّنَ رَجُلاً عَلَى دَمِهِ ثَمَّ قَتَلَهُ , فَأَنَا مِن القاتِلِ بَرِيءٌ , وَإنْ كَانَ المَقْتُولُ كَافِراً". وروى أبو داود قَالَ : "الإِيمَانُ قَيَّدَ الْفَتْكَ لاَ يَفْتِكُ مُؤْمِنٌ" ، قال البغوي(شرح السنة:11/45) : "والفتك أن يُقتل مَن له أمان فجأة"أ.هـ. وروى الشيخان قَالَ : الْغَادِر يُرْفَعُ لَهُ لِوَاءٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُقَالُ هَذِهِ غَدْرَةُ فُلاَنِ بْنِ فُلاَنٍ" ، وبوب عليه أبو داود فقال : {بَاب فِي الْوَفَاءِ بِالْعَهْدِ}. (الثالث) : أنه خفرٌ لذمة المسلم ، روى الشيخان قَالَ النَّبِيُّ : "وَذِمَّةُ الْمُسْلِمِينَ وَاحِدَةٌ يَسْعَى بِهَا أَدْنَاهُمْ ، فَمَنْ أَخْفَرَ مُسْلِمًا فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلاَئِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ لاَ يُقْبَلُ مِنْهُ صَرْفٌ وَلاَ عَدْلٌ" ، وروى البخاري في باب [أَمَانِ النِّسَاءِ وَجِوَارِهِنَّ] قال لأم هانئ لمّا أجارت حربياً في فتح مكة : "قَدْ أَجَرْنَا مَنْ أَجَرْتِ يَا أُمَّ هَانِئٍ". قال ابن القيم(أحكام أهل الذمة:3/1441) : "فإنَّ الأمان يجـوز عقده لكل كافر ، ويعقده كل مسلم ، ولا يشترط على المستأمـن شيء من الشروط ، والذمة لا يعقدها إلاَّ الإمام أو نائبه"أ.هـ
القسم الثاني : المباح دمه من أهل القبلة ثلاثة أقسام : الأول : قطاع الطرق وهم قوم امتنعوا من طاعة الإمام وخرجوا عن قبضته بغير تأويل فهؤلاء. الثاني : البغاة وهم قوم يخرجون عن الإمام يريدون خلعه لتأويل وفيهم منعة يحتاج في كفهم إلى جمع الجيش ، فيجب على الناس معونة إمامهم في قتالهم. الثالث : الخوارج الذين يكفرون بالذنب ويستحلون دماء المسلمين وأموالهم إلا من خرج معهم ، ولذا قال عنهم فيما روى البخاري : (فَأَيْنَمَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاقْتُلُوهُمْ فَإِنَّ قَتْلَهُمْ أَجْـرٌ لِمَنْ قَتَلَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) ، وروى مسلم قال : (هُمْ شَرُّ الْخَلْقِ وَالْخَلِيقَةِ لَئِنْ أَدْرَكْتُهُمْ لأَقْتُلَنَّهُمْ قَتْلَ عَادٍ). ورجح شيخ الإسلام ابن تيمية أن قتال الخوارج ليس كقتال البغاة فقال (مجموع الفتاوى:28/518) : "فكلام علي وغيره في الخوارج يقتضى أنهم ليسوا كفاراً كالمرتدين عن أصل الإسلام ، وهذا هو المنصوص عن الأئمة كأحمد وغيره ، وليسوا مع ذلك حكمهم كحكم أهل الجمل وصفين ، بل هم نوع ثالث وهذا أصح الأقوال فيهم"أ.هـ. وسبب قتال هؤلاء لأن الأمن مطلب شرعي لحصول التكاليف الشرعية ، وركيزة أساسية وقاعدة عظمى تستند عليها الحياة البشرية ، ولذا قال تعالى : إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُواْ أَوْ يُصَلَّبُواْ أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الأَرْضِ ، قال الطبري (تفسيره4/546) : "المحارب لله ورسوله من حارب في سابلة المسلمين وذمتهم ، والمغير عليهم في أمصارهم وقراهم حرابة"أ.هـ. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية (مجموع الفتاوى:28/470) : "فكل من امتنع من أهل الشوكة عن الدخول في طاعة الله ورسوله فقد حارب الله ورسوله ، ومن عمل في الأرض بغير كتاب الله وسنة رسوله فقد سعى في الأرض فساداً ، ولهذا تأول السلف هذه الآية على الكفار وعلى أهل القبلة حتى أدخل عامة الأئمة فيها قطاع الطريق الذين يشهرون السلاح لمجرد أخذ الأموال وجعلوهم بأخذ أموال الناس بالقتال محاربين لله ورسوله ساعين في الأرض فساداً ، وإن كانوا يعتقدون تحريم ما فعلوه ويقرون بالإيمان بالله ورسوله ، فالذي يعتقد حل دماء المسلمين وأموالهم ويستحل قتالهم أولى بأن يكون محارباً لله ورسوله ساعياً في الأرض فساداً من هؤلاء"أ.هـ.
سابعاً : ضوابط لمشروعية الجهاد
الضابط الأول : لا جهاد إلا لتحقيق التوحيد وإعداد القوة الإيمانية قبل القوة الحسية : روى البخاري في صحيحه في كتاب الجهاد :{بَاب عَمَلٌ صَالِحٌ قَبْلَ الْقِتَالِ} : عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ : إِنَّمَا تُقَاتِلُونَ بِأَعْمَالِكُمْ. ويقول وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً ، قال الشيخ السعدي في تفسيره الآية : "ولا يزال الأمر إلى قيام الساعة ، مهما قاموا بالإيمان والعمل الصالح ، فلا بد أن يوجد ما وعدهم الله ، وإنما يسلط عليهم الكفار والمنافقين ، ويديلهم في بعض الأحيان ، بسبب إخلال المسلمين بالإيمان والعمل الصالح"أ.هـ. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية (الجواب الصحيح:6/450) : "وحيث ظهر الكفار ، فإنما ذاك لذنوب المسلمين التي أوجبت نقص إيمانهم ، ثم إذا تابوا بتكميل إيمانهم نصرهم الله"أ.هـ. (*) ولذا انحرف مفهوم الجهاد عند البعض في العصور المتأخرة من وجهين : (الأول) أنه لم يكن تحقيق التوحيد الذي شرع من أجله الجهاد ذا بال عندهم ، ويظنون مع هذا أنهم سينتصرون على عدوهم ، أقوامٌ صارت البدع والبناء على القبور في المساجد والطواف بها وسؤالها من دون الله دينهم ، وتجد من يقاتل معهم فلا ينبههم بحجة أن الوقت ليس وقت دعوة ؟!! فأي جهاد هذا ؟ يقول شيخ الإسلام ابن تيمية (الرد على البكري:2/731) : "حتى إن العدو الخارج عن شريعة الإسلام لما قدم دمشق خرجوا يستغيثون بالموتى عند القبور التي يرجون عندها كشف ضرهم ، وقال بعض الشعراء : يا خائفين من التتر .. لوذوا بقبر أبي عمر ، أو قال : عوذوا بقبر أبي عمر .. ينجيكم من الضرر. فقلت لهم : هؤلاء الذين تستغيثون بهم لو كانوا معكم في القتال لانهزموا كما انهزم من انهزم من المسلمين يوم أحد ... ولهذا كان أهـل المعرفة بالدين والمكاشفة لم يقاتلوا في تلك المرة لعدم القتال الشرعي الذي أمر الله به ورسوله ، ولما يحصل في ذلك من الشر والفساد وانتفاء النصرة المطلوبة من القتال فلا يكون فيه ثواب الدنيا ولا ثواب الآخرة لمن عرف هذا وهذا ... فلما كان بعد ذلك جعلنا نأمر الناس بإخلاص الدين لله عز وجل والاستغاثة به ، وأنهم لا يستغيثون إلا إياه لا يستغيثون بملك مقرب ولا نبي مرسل ... فلما أصلح الناس أمورهم وصدقوا في الاستغاثة بربهم نصرهم على عدوهم نصراً عزيزاً ، ولم تهزم التتار مثل هذه الهزيمة قبل ذلك أصلاً لما صح من تحقيق توحيد الله تعالى وطاعة رسوله ما لم يكن قبل ذلك"أ.هـ. (الثاني) : تجد بعض المتحمسين مع هذا الانحراف يجرون الأمة إلى معارك هي الطرف الأضعف عدداً وعدة مخالفين بذلك قوله تعالى : وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ ، ويقول العلامة الألباني -رحمه الله-(سلسلة الهدى والنور - شريط790 - بعنوان رد شبهات مدعي الجهاد) : "يظنون أن المسألة مسألة نجمع مائة شخص ألف شخص ألفين شخص ونُحَمِّسْهُم على الجهاد في سبيل الله ، ثم ليس في استطاعتهم أن يصنعوا إِبْرَة لِيُرَتِّقوا الفَتْقَ في ثيابهم .. فضلاً أن يصنعوا سلاحاً يقاتلون عدوَّهم ، أين هذا الاستعداد المأمور به في القرآن ؟"أ.هـ. وقال شيخنا العلامة محمد العثيمين (شرح بلوغ المرام من كتاب الجهاد الشريط الأول الوجه-أ). ولهذا لو قال لنا قائل : الآن لماذا لا نحارب أمريكا وروسيا وفرنسا وانجلترا ؟ لماذا ؟ لعدم القدرة الأسلحة التي قد ذهب عصرها عندهم هي التي في أيدينا وهي عند أسلحتهم بمنزلة سكاكين الموقد عند الصواريخ ما تفيد شيئاً فكيف يمكن أن نقاتل هؤلاء ؟ ولهذا أقول : إنه من الحمق أن يقول قائل : أنه يجب علينا أن نقاتل أمريكا وفرنسا وانجلترا وروسيا كيف نقاتل هذا تأباه حكمة الله عز وجل ويأباه شرعه لكن الواجب علينا أن نفعل ما أمر الله به عز وجلَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ ، هذا الواجب علينا أن نعد لهم ما استطعنا من قوة ، وأهم قوة نعدها هو الإيمان والتقوى"أ.هـ.
الضابط الثاني : لا جهاد طلب إلا بإذن الإمام ولا دفع إذا أمكن استئذانه : دلَّ عليه الكتاب والسنة واعتقاد أهل السنة على أن أمر الجهاد في الإسلام موكلٌ إلى الأئمة لما يترتب على نتائجه من خطر على مصير الأمة : أما الكتاب : فقد قال الله تعالى : أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلإِ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ مِن بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُواْ لِنَبِيٍّ لَّهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكاً نُّقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ، قال البيضاوي(1/539) :"أقم لنا أميراً ننهض معه للقتال يدبر أمره ونصدر فيه عن رأيه" ، ويقول الله تعالى : وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوه[النور:62] ، قال البغوي(تفسيره:1/66) : "قال أهل العلم : وكذلك كل أمر اجتمع عليه المسلمون مع الإمام لا يخالفونه ولا يرجعون عنه إلا بإذن"أ.هـ. وأما السنة : فقد كان الجهاد منذ شرع بيد النبي كما سيأتي بيانه قريباً ، وروى الشيخان قال : "مَنْ يَعْصِ الأَمِيرَ فَقَدْ عَصَانِي ، وَإِنَّمَا الإِمَامُ جُنَّةٌ يُقَاتَلُ مِنْ وَرَائِهِ ، وَيُتَّقَى بِهِ". قال النووي (شرح مسلم:12/230) في معنى كون الإمام جنة : "أي كالستر ؛ لأنه يمنع العدو من أذى المسلمين ، ويمنع الناس بعضهم من بعض ، ويحمي بيضة الإسلام ، ويتقيه الناس ويخافون سطـوته ، ومعنى يقاتل من ورائه : أي يقاتل معه الكفار والبغاة والخوارج وسائر أهل الفساد والظلم"أ.هـ. وأما اعتقاد أهل السنة : فإنه لا يعلم في عهد الخلفاء الراشدين والصحابة من خـرج مجاهداً بغير إذن إمامه أو بدون رايته ، والخروج عن سبيلهم خروج عن سبيل المؤمنين. وقد نص العلماء رحمهم الله على أن من أصول أهل السنة والجماعة مضي الجهاد تحت راية الأئمة برهم وفاجرهم : قال الحطاب المالكي (مواهب الجليل) : قال مالك عن العدو ينزل بالمسلمين : "إن كان الوالي قريباً منهم أن يستأذنوه في قتالهم قبل أن يقاتلوهم , وإن كان بعيداً لم يتركوهم حتى يقعوا بهم"أ.هـ. قال الإمام أحمد ( مسائل عبدالله:2/258) عمن خرجوا بغير إذن الإمام : "لا , إلا أن يأذن الإمام , إلا أن يكون يفاجئهم أمرٌ مِن العدو ولا يُمكِنُهم أن يستأذنوا الإمام". قال ابن قدامة (المغنى:8/354) : "وأمر الجهاد موكول إلى الإمام ويلزم الرعية طاعته فيما يراه من ذلك"أ.هـ. وقال الطحاوي (العقيدة الطحاوية:1/49) : "والحج والجهاد ماضيان مع أولي الأمر من المسلمين برهم وفاجرهم إلى قيام الساعة"أ.هـ. وقال شيخ الإسلام حاكياً مذهب أهل السنة والجماعة (في الواسطية) : "ويرون إقامة الحج والجهاد والجمع مع الأمراء أبراراً كانوا أو فجاراً". ويؤيد كلام هؤلاء الأئمة في وجوب استئذان الإمام في جهاد الدفع إذا أمكن دون ضرر فضلاً عن جهاد الطلب ما قدمنا في معركتي الخندق وأحد اللتين هما جهاد دفع : (1) يقول في غزوة الأحزاب وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِّنْهُمُ النَّبِيَّ ، وروى مسلم قال لحذيفة : "اذْهَبْ فَأْتِنِي بِخَبَرِ الْقَوْمِ وَلاَ تَذْعَرْهُمْ عَلَيَّ" رواه مسلم ، وفي لفظ أحمد "وَلاَ تُحْدِثَنَّ شَيْئًا". وفيه قال: "فَرَأَيْتُ أَبَا سُفْيَانَ يَصْلِي ظَهْرَهُ بِالنَّارِ ، فَوَضَعْتُ سَهْمًا فِي كَبِدِ الْقَوْسِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَرْمِيَهُ ، فَذَكَرْتُ قَوْلَ رَسُولِ اللَّهِ [وَلاَ تَذْعَرْهُمْ عَلَيَّ] ، وَلَوْ رَمَيْتُهُ لأَصَبْتُهُ". وفي مسلم عن أَبِي سَعِيدٍ في قصة فَتًى حَدِيثُ عَهْدٍ بِعُرْسٍ ، قال : "فَخَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ إِلَى الْخَنْدَقِ ، فَكَانَ ذَلِكَ الْفَتَى يَسْتَأْذِنُ رَسُولَ اللَّهِ بِأَنْصَافِ النَّهَارِ فَيَرْجِعُ إِلَى أَهْلِهِ". (2) في غزوة أحد قال النبي للرماة :"إِنْ رَأَيْتُمُونَا تَخْطَفُنَا الطَّيْرُ فَََلاَ تَبْرَحُوا مَكَانَكُمْ هَذَا حَتَّى أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ" ، بوّب عليه البخاري {بَاب مَا يُكْرَهُ مِنْ التَّنَازُعِ وَالاخْتِلاَفِ فِي الْحَرْبِ وَعُقُوبَةِ مَنْ عَصَى إِمَامَهُ} ، قال ابن حجر (فتح الباري:6/163) : "قوله (وعقوبة من عصى أمامه) أي بالهزيمة وحرمان الغنيمة"أ.هـ. فهذه الأحاديث تدل على وجوب استئذان الإمام حتى في جهاد الدفع وعقوبة مخالفته ، وأن محل سقـوط إذنه حيث هجم عدو على ناحية ، فيكون باستئذانه تفويت المصلحة الشرعية المتحققة في الدفع ، وهذه ربما تكون شبه معدومة في عصرنا لتطور وسائل الاتصال في الجيوش الحديثة ، فإذا كان ذلك كذلك فلا يتأتى ما ذكره الفقهاء رحمهم الله. تنبيه : يتتبع بعض الناس شذوذات لبعض الفقهاء ذكروا فيها عدم اشتراط إذن الإمام في الجهاد ، ويهمل هؤلاء لهوى ما تواتر عند أهل السنة في كتب العقائد قولهم "والجهاد ماض مع الأمراء برهم وفاجرهم" ، ولذ قال شيخ الإسلام ابن تيمية وذكر جهاد الخوارج وأنه لا يقوم به إلا ولاة الأمور (منهاج السنة النبوية:6/118): "وقد اتفقت الصحابة على قتالهم ولا خلاف بين علماء السنة أنهم يقاتلون مع أئمة العدل ، مثل أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ، لكن هل يقاتلون مع أئمة الجور ؟ فنقل عن مالك أنهم لا يقاتلون ، وكذلك قال فيمن نقض العهد من أهل الذمة لا يقاتلون مع أئمة الجور ، ونقل عنه أنه قال ذلك في الكفار ، وهذا منقول عن مالك وبعض أصحابه ، ونقل عنه خلاف ذلك وهو قول الجمهور ، وأكثر أصحابه خالفوه في ذلك وهو مذهب أبي حنيفة والشافعي وأحمد ، وقالوا : يغزى مع كل أمير براً كان أو فاجراً إذا كان الغزو الذي يفعله جائزاً ، فإذا قاتل الكفار أو المرتدين أو ناقضي العهد أو الخوارج قتالاً مشروعاً قوتل معه ، وإن قاتل قتالاً غير جائز لم يقاتل معه ، فيعاون على البر والتقوى ولا يعاون على الإثم والعدوان"أ.هـ.
الضابط الثالث : لابد من مرجعية شرعية يفرق بها بين الجهاد الشرعي والبدعي : الجهاد مرجعه للدليل الشرعي لا للعاطفة والغيرة ، لمّا صالح النبي الكفار في شروط منها تسليم بعض المسلمين للكفار ، لم يتحمل أكثر الصحابة مثل هذه الشروط حتى قال سَهْلُ بْنُ حُنَيْفٍ : "اتَّهِمُوا رَأْيَكُمْ ؛ رَأَيْتُنِي يَوْمَ أَبِي جَنْدَلٍ ، وَلَوْ أَسْتَطِيعُ أَنْ أَرُدَّ أَمْرَ النَّبِيِّ لَرَدَدْتُهُ" رواه الشيخان ، ولمَا ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية أن الذي حملهم على ذلك بغض ظهور الكفر على الإيمان قال (المنهاج:8/409) : "لكن معلوم وجوب تقديم النص على الرأي ، والشرع على الهوى"أ.هـ. وقد جعل الله تعالى المرجعية في الجهاد لأهل العلم بالدليل من ورثة الرسل كما قال تعالى في سياق السرايا والمغازيوَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ ، قال الشوكاني(فتح القدير:1/741) : "وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ ، وهم أهل العلم والعقول الراجحة الذين يرجعون إليهم في أمورهم ، أو هم الولاة عليهم لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ أي : يستخرجونه بتدبيرهم وصحة عقولهم"أ.هـ. وقال تعالى في نفس السياق فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ ، قال ابن القيم(إعلام الموقعين:2/252) : "جعل قيام الدين بهذين الفريقين ، وهم الأمراء والعلماء ؛ أهل الجهاد وأهل العلم ، فالنافرون يجاهدون عن القاعدين ، والقاعدون يحفظون العلم للنافرين ، فإذا رجعوا من نفيرهم استدركوا ما فاتهم من العلم"أ.هـ. وقال العلامة ابن عاشور(التحرير والتنوير:1/1922) : "فإن اتساع الفتوح وبسالة الأمة لا يكفيان لاستبقاء سلطانها إذا هي خلت من جماعة صالحة من العلماء والساسة وأولي الرأي المهتمين بتدبير ذلك السلطان"أ.هـ. ولذلك بيَّن شيخ الإسلام ابنُ تيمية أنَّ خواصَّ أهل العلم هم من يبين وقت مشروعيَّة الجهاد من عدمه ، فقال (منهاج السنة:4/405) : "وفي الجملةِ فالبحثُ في هذه الدقائق من وظيفة خواصِّ أهل العلم"أ.هـ. فعلى الحريص على نصرة الإسلام لا يجعل عاطفته هي المقياس دون النظر في الأدلة كلها على ضوء القواعد الكلية ، مع النظر في عواقب الأمور التي لا يحسنها في الغالب إلا من آتاه الله الرسوخ في العلم والفهم من ورثة الرسول من أهل العلم ، ولنذكر نموذجين من السنة تبين أن الجهاد بلا علم الوحي يكون انحرافاً أو فساداً :
(1) أن الجهاد قد يكون بمخالفة السنة بدعياً : ففي زماننا هذا ضلَّ قوم فجعلوا الجهاد هو استحلال دماء المسلمين والتفجير ببلادهم كما فعلت الخوارج الأولون الذي قال فيهم : "يَقْتُلُونَ أَهْلَ الإِسْلامِ وَيَدَعُونَ أَهْلَ الأَوْثَانِ" ، فهم الذي قاتلوا أصحاب رسول الله ، وقالـوا معرضين بكفر علي بن أبي طالب "لا حكم إلا الله" ، فمرجع هؤلاء الأهواء دون أهل العلم الراسخين فيه الذين أمر الله بالرد إليهم ، وجعل الرجوع إليهم قسيماً للجهاد ؛ قال ابن القيم عنهم(إعلام الموقعين:2/305) : "فاشتركوا هم والرافضة في رد المحكـم من النصوص وأفعال المؤمنين بالمتشابه منها ، فكفروهم وخرجوا عليهم بالسيف يقتلون أهل الإيمان ويدعون أهل الأوثان ، ففساد الدنيا والدين من تقديم المتشابه على المحكم ، وتقديم الرأي على الشرع والهوى على الهدى"أ.هـ. (2) أن الجهاد بالتأويل المقابل للنص يكون خطأ : ففي الصحيحين رجلاً أوجع في المسلمين ثم قال كلمة التوحيد لمّا غشاه السيف ، فكف عنه الأنصاري وطعنه أسامة ، فقال له : "فَكَيْفَ تَصْنَعُ بِلاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ إِذَا جَاءَتْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ". وفي البخاري أيضاً أَنَّ خالداً قَتل من لم يحسنوا أن يقولوا أسلمنا ، فقالوا : صبأنا ، وامتنع ابن عمر عن قتل أسيره، فَرَفَعَ النَّبِيُّ يَدَهُ فَقَالَ : اللَّهُمَّ إِنِّي أَبْرَأُ إِلَيْكَ مِمَّا صَنَعَ خَالِدٌ مَرَّتَيْنِ". فالنبي جعل فعل أسامة وخالد من الجهاد غير المشروع فتبرأ منه ؛ لأنه اجتهـاد في مقابل النص ، في الوقت الذي منع العلم الأنصاري وابن عمر عن الدم المعصوم بعصمة الدليل ، قال ابن حجر (ص:13/182) : "قوله (اللَّهُمَّ إِنِّي أَبْرَأُ إِلَيْكَ مِمَّا صَنَعَ خَالِدٌ) يعني من قتله الذين قالوا : صبأنا قبل أن يستفسرهم عن مرادهم بذلك القول ، فإن فيه إشارة إلى تصويب فعل ابن عمر ومن تبعه في تركهم متابعة خالد على قتل من أمرهم بقتلهم من المذكورين"أ.هـ.
الضابط الرابع : يباح في جهاد الدعوة أو الدفع عقد الصلح والهدنة مع الكفار : فقد أباح الإسلام معاهدة الكفار إذا كان في ذلك جلب مصلحة أو دفع ضرر عنهم خصوصاً عند الضعف ، وأوجب حفظ العهد الذي بيننا وبينهم ، (1) قال تعالى : وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ : قال ابن كثير(التفسير:2/322) : "فأما إذا كان العدوّ كثيفاً فإنه يجوز مهادنتهم كما دلت الآية الكريمة: وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ. (2) وكما فعل النبي يوم الحديبية لما صالح كفار مكة على وضع الحرب عشر سنين ، فبوب عليه البخاري {بَاب الشُّرُوطِ فِي الْجِهَادِ وَالْمُصَالَحَةِ مَعَ أَهْلِ الْحَرْبِ} ، وابن حبان {ذِكْرُ مَا يُسْتَحَبُّ لِلإِمَامِ اسْتِعْمَالُ المُهَادَنَةُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَعْدَاءِ اللهِ إِذَا رَأَى بِالمُسْلِمِيْنَ ضَعَفًا يَعْجَزُوْنَ عَنْهُمْ} ، ويقول ابن القيم(زاد المعاد:3/304): "يجوز ابتداء الإمام بطلب صلح العدو إذا رأى المصلحة للمسلمين فيه ، ولا يتوقف ذلك على أن يكون ابتداء الطلب منهم"أ.هـ. وقال ابن قدامة (المغني:10/509) : "ومعنى الهدنة أن يعقد لأهل الحرب عقداً على ترك القتال مدة بعوضٍ وبغيرِ عوضٍ ، وتسمى مهادنة وموادعة معاهدة ، وذلك جائز بدليل قول الله تعالى: بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ، وقال سبحانهوَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا ، وروى مروان ومسور بن مخرمة أن النبي صالح سهيل بن عمرو بالحديبية على وضع القتال عشر سنين ، ولأنه قد يكون بالمسلمين ضعف فيهادنهم حتى يقوى المسلمون ، ولا يجوز ذلك إلا للنظر للمسلمين ، إما : أن يكون بهم ضعف عن قتالهم ، وإما أن يطمع في إسلامهم بهدنتهم ، أو في أدائهم الجزية والتزامهم أحكام الملة ، أو غير ذلك من المصالح"أ.هـ. قال الشيخ عبد العزيز بن باز (مجموع فتاوى:8/212): "تجوز الهدنة مع الأعداء مطلقة ومؤقتة إذا رأى ولي الأمر المصلحة في ذلك لقوله تعالى: وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ[الأنفال:61] ، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم فعلهما جميعاً، كما صالح أهل مكة على ترك الحرب عشر سنين يأمن فيها الناس ، ويكف بعضهم عن بعض ، وصالح كثيراً من قبائل العرب صلحاً مطلقاً"أ.هـ.
الضابط الخامس : لا جهاد في دار الإسلام وإنما فتنة وإفساد : من عقيدة أهل السنة والجماعة أن الدار دار إسلام إذا كان أهلها مسلمون تظهر فيهم شعائر الإسلام التي من أعظمها الأذان وإقامة الصلاة ، يحرم بذلك دماءهم وأموالهم وأعراضهم ، فمن حمل عليهم السلاح فليس منهم كما ثبت عـن النبي ، وقد بوّب البخاري ـ رحمه الله ـ {بَاب مَا يُحْقَنُ بِالأَذَانِ مِنْ الدِّمَاءِ} ، فأورد حديث أنَسِ بْنِ مَالِكٍ قالَ : أَنَّ النَّبِيَّ كَانَ إِذَا غَزَا بِنَا قَوْمًا لَمْ يَكُنْ يَغْزُو بِنَا حَتَّى يُصْبِحَ وَيَنْظُرَ ، فَإِنْ سَمِعَ أَذَانًا كَفَّ عَنْهُمْ وَإِنْ لَمْ يَسْمَعْ أَذَانًا أَغَارَ عَلَيْهِمْ". قال حافظ المغرب أبو عمر ابن عبد البر(التمهيد:13/276) : "وكان في غزواته إذا سمع أذاناً كف ، وعلم أنها دار إيمان ، وإذا لم يسمعه أغار وكان يأمر سراياه بذلك". وقال شيخ الإسلام ابن تيمية (مجموع الفتاوى:3/283) : "والأصل أن دماء المسلمين وأموالهم وأعراضهم محرمة من بعضهم على بعض لا تحل إلا بإذن الله ورسوله ؛ قال النبي لما خطبهم في حجة الوداع : (إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في بلدكم هذا في شهركم هذا)"أ.هـ. وقد خالف الخوارج أهل السنة والجماعة فجعلوا الدار دار كفر بالذنوب وحولوا الجهاد إلى بلاد الإسلام بدل بلاد الكفر ، فقتلوا أهل الإسلام وتركوا أهل الأوثان ، قال الإمام أبو بكر الإسماعيلي (اعتقاد أهل السنة:51) ناقلاً اعتقاد أهل السنة : "ويرون أنَّ الدار دار إسلام لا دار كفر ، كما رأته المعتزلة ، ما دام النداء بالصلاة والإقامة بها ظاهرين ، وأهلها ممكنين"أ.هـ. ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية (مجموع الفتاوى:19/72) وذكر علامة الخوارج: "أنهم يكفرون بالذنوب والسيئات ، ويترتب على تكفيرهم بالذنوب استحلال دماء المسلمين وأموالهم ، وأن دار الإسلام دار حرب ، ودارهم هي دار الإيمان"أ.هـ. وقال ـ رحمه الله ـ (النبوات:1/140) : "باينوا المسلمين في الدار وسموا دارهم دار الهجرة ، وكانوا كما وصفهم النبي يقتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان "أ.هـ. وقال سماحة الشيخ ابن باز رحمه الله(مجموع فتاوى:4/91) : "وهذه الدولة بحمد الله لم يصدر منها ما يوجب الخروج عليها ، وإنما الذي يستبيح الخروج على الدولة بالمعاصي هم الخوارج الذين يكفرون المسلمين بالذنوب ، ويقاتلون أهل الإسلام ، ويتركون أهل الأوثان ، وقد قال فيهم النبي : (إنهم يمرقون من الإسـلام كما يمرق السهـم من الرمية) ، وقال : (أينما لقيتموهم فاقتلوهم فإن في قتلهم أجراً لمن قتلهم عند الله يوم القيامة) متفق عليه ، والأحاديث في شأنهم كثيرة معلومة". وقال شيخنا العثيمين رحمه الله بعد تفجير الخبر(لقاء الباب المفتوح:ونشرت في جريدة المسلمون) : "الواجب على طلاب العلم أن يبينوا أن هذا المنهج منهج خبيث , منهج الخوارج الذين استباحوا دماء المسلمين وكفّوا عن دماء المشركين"أ.هـ.
الضابط السادس : وجوب استئذان أصحاب الحقوق في جهاد الدفع : تقدم في الضابط الثاني أنه لا جهاد طلب إلا بإذن الإمام ولا جهاد دفع كذلك إذا أمكن استئذانه ، وقد نص الفقهاء كذلك على وجوب استئذان الوالد والغريم في جهاد الطلب :
1- أذن الوالدين : روى الشيخان عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ : سَأَلْتُ النَّبِيَّ : أَيُّ الْعَمَلِ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ ؟ قَالَ الصَّلاةُ عَلَى وَقْتِهَا ، قَالَ : ثُمَّ أَيٌّ ؟ قَالَ : ثُمَّ بِرُّ الْوَالِدَيْنِ ، قَالَ : ثُمَّ أَيٌّ ؟ قَالَ : الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ". فقدم برّهما على الجهاد ، وروى البخاري ومسلم عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ : جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ فَاسْتَأْذَنَهُ فِي الْجِهَادِ ، فَقَالَ : أَحَيٌّ وَالِدَاكَ ؟ قَالَ نَعَمْ ، قَالَ : فَفِيهِمَا فَجَاهِدْ". وروى أبـو داود وابن حبّان وصححه عَنْ أَبِي سَعِيد "اِرْجِعْ فَاسْتَأْذِنْهُمَا ، فَإِنْ أَذِنَا لَك فَجَاهِدْ , وَإِلاَّ فَبِرّهمَا" : فلا يجوز جهاد الطلب إلا بإذن الأبوين المسلمين ، قال ابن رشد(بداية المجتهد:1/502) : "وعامة الفقهاء متفقون على أن من شرط هذه الفريضة إذن الأبوين فيها إلا أن تكون عليه فرض عين"أ.هـ. وحتى في جهاد الدفع ذكروا أنه إذا كان لـه أبوان شيخان كبيران أو أحدهما وليس لهمـا عائل سواه ، فلا يحل له ترك من يضيع منهما ، بل قال الحنفية وبعض المالكية : إنه لا يخرج إلا بإذن الأبوين الكافرين أو أحدهما إذا كره خروجه مخافة ومشقة , وأما إذا كان لكراهة قتال أهل دينه فلا يطيعه ما لم يخف عليه الضيعة . إذ لو كان معسراً محتاجاً إلى خدمته فرضت عليه ولو كافراً , ولا يترك فرض عين ليتوصل إلى فرض كفاية.
2- أذن الغريم : روى مسلم عَنْ أَبِي قَتَادَةَ قَالَ : قَالَ رَجُلٌ : يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْتَ إِنْ قُتِلْتُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ تُكَفَّرُ عَنِّي خَطَايَايَ ؟ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ : نَعَمْ وَأَنْتَ صَابِرٌ مُحْتَسِبٌ مُقْبِلٌ غَيْرُ مُدْبِرٍ إِلاَّ الدَّيْنَ فَإِنَّ جِبْرِيلَ قَالَ لِي ذَلِكَ". قال القرطبي وذكر الحديث(تفسير:4/260) : " قال علماؤنا ذكر الدين تنبيه على ما في معناه من الحقوق المتعلقة بالذمم كالغصب وأخذ المال بالباطل وقتل العمد وجراحه وغير ذلك من التبعات فإن كل هذا أولى ألا يغفر بالجهاد من الدين فإنه أشد والقصاص في هذه كله بالحسنات والسيئات حسبما وردت به السنة الثابتة"أ.هـ. وقد اتفق الفقهاء على أنه لا يخرج المدين للجهاد إذا كان الدين حالاً ، واختلفوا فيما وراء ذلك , قال ابن قدامة (المغني:10/378) : "ومن عليه دين حال أو مؤجل لم يجز له الخروج إلى الغزو إلا بإذن غريمه إلا أن يترك وفاء أو يقيم به كفيلاً أو يوثقه برهن ، وبهذا قال الشافعي ، ورخص مالك في الغزو لمن لا يقدر على قضاء دينه لأنه لا تتوجه المطالبة به ولا حبسه من أجله فلم يمنع من الغزو كما لو لم يكن عليه دين ، ولنا أن الجهاد تقصد منه الشهادة التي تفوت بها النفس فيفوت الحق بفواتها وقد جاء أن (رَجَلاً جَاءَ إلى رَسُولِ اللهِ فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللهِ إنْ قُتِلْتُ في سَبيْلِ اللهِ صَابِراً مُحْتَسِباً تُكَفَّرُ عَنْيْ خَطَايَايْ ؟ قَالَ : نَعَمْ إِلاَّ الدَّيْنَ فَإِنَّ جِبْرِيْلَ قَالَ لِيْ ذَلِكَ) رواه مسلم ، وأما إذا تعين عليه الجهاد فلا إذن لغريمه ، لأنه تعلق بعينه فكان مقدماً على ما في ذمته كسائر فروض الأعيان ، ولكن يستحب له أن لا يتعرض لمظان القتل من المبارزة والوقوف في أول المقاتلة لأن فيه تغريراً بتفويت الحق"أ.هـ.
ثامناً : شبهات حول الجهاد والرد عليها :
إن الخلل الذي وقع في تأريخ الأمة وحاضرها في باب الجهاد كان بسبب عدم فهم النصوص الشرعية على مرادها التي وضعت له ، فلم يعرفوا العام والخاص والمجمل والمقيد والناسخ والمنسوخ والمحكم والمتشابه ، بل سلكوا طريق أهل الأهواء بتنزيل النصوص على قواعد قعدوها لأنفسهم ، صار الجهاد هو التفجير والقتل في بلاد السنة والتوحيد كما فعل الخوارج الأولون مع أصحاب النبي ، قال شيخ الإسلام ابن تيمية(مجموع الفتاوى:13/210) : "فانتحلت الخوارج كتاب الله وانتحلت الشيعة أهل البيت وكلاهما غير متبع لما انتحله ، فإن الخوارج خالفوا السنة التي أمر القرآن باتباعها ، وكفّروا المؤمنين الذين أمر القرآن بموالاتهم ، ولهذا تأول سعد بن أبى وقاص فيهم هذه الآية وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفَاسِقِينَ الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْض[البقرة:26-27] ، وصاروا يتتبعون المتشابه من القرآن فيتأولونه على غير تأويله من غير معرفة منهم بمعناه ، ولا رسوخ في العلم ، ولا اتباع للسنة ، ولا مراجعة لجماعة المسلمين الذين يفهمون القرآن"أ.هـ. وقال ابن القيم عنهم (إعلام الموقعين:2/305) : "فاشتركوا هم والرافضة في رد المحكم من النصوص وأفعال المؤمنين بالمتشابه منها ، فكفروهم وخرجوا عليهم بالسيف يقتلون أهل الإيمان ويدعون أهل الأوثان ، ففساد الدنيا والدين من تقديم المتشابه على المحكم وتقديم الرأي على الشرع والهوى على الهدى وبالله التوفيق"أ.هـ. ولنستعرض الآن بعض شبهات من يدعي الفقه في دين الله وهم يتأولونه على غير تأويله من غير معرفة منهم بمعناه ، ولا رسوخ في العلم ، ولا اتباع للسنة ، ولا مراجعة لجماعة المسلمين الذين يفهمون القرآن :
الشبهة الأولى : الجهاد ماض إلى يوم القيامة في حال القوة والضعف : يحتج البعض على وجوب استمرار الجهاد على المسلمين بكل حال دون مراعاة لضوابط الجهاد المذكورة في كتب أهل العلم ـ كشرط القدرة ، أو انتفاء العهد ، أو وضوح الراية المنافية للرايات العُمية ـ بما روي عن النبي بأسانيد ضعيفة قال : "الجِهَادُ ماضٍ إِلَى يَومِ القِيَامِةِ" ، وبما روى مسلم عن معاوية وبنحوه عن جابر وعقبة بن عامر وجابر بن سمرة عَنْ رَسُولِ اللَّهِ قالَ : "لاَ تَزَالُ عِصَابَةٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ يُقَاتِلُونَ عَلَى الْحَقِّ ظَاهِرِينَ عَلَى مَنْ نَاوَأَهُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ"، وهذا التقرير يناقض الشرع والإجماع والنظر الصحيح والواقع : (*) أما الشرع : فلقوله تعالى وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا ، وقد صالح النبي كفار مكة صلح الحديبية فأودعه البخاري في {باب ما يجوز من الشروط في الإسلام والأحكام والمبايعة} ، وروى أبو داود في باب {صلح العدو} عَنْ ذِي مِخْبَرٍ قَالَ : قَالَ النبي : "سَتُصَالِحُونَ الرُّومَ صُلْحًا آمِنًا" ، وتقدم الأمر بالفرار من الدجال ، وقول الله عزوجل لعيسى عليه السلام "إِنِّي قَدْ أَخْرَجْتُ عِبَادًا لِي لاَ يَدَانِ لأَحَدٍ بِقِتَالِهِمْ فَحَرِّزْ عِبَادِي إِلَى الطُّورِ" ، فأثبتت النصوص أن لا جهاد في مثل هذه الأزمان والحالات. (*) وأما الإجماع : فالأمة مجمعة على أن حكم الصلح والمهادنة باق إلى يوم القيامة لم يأت ما ينسخه ، وقد عقد أصحاب المذهب السنية لذلك أبواباً في كتاب الجهاد كما ذكرنا بعضه في الضابط الرابع من ضوابط الجهاد. (*) وأما النظر : فلأن الله لا يكلف الأمة ما لا تطيق إذا عجزت عن القتال في بعض الأوقات، لذا أمر الله عيسى باللجوء بالمسلمين إلى الطور. (*) وأما الواقع : فالمسلمون من عصور مضت لا ينطبق عليهم أو طائفة منهم وصف الغلبة والقهر والظهور على عدوهم كما جاء في ظاهر الحديث ، مع كون المسلمين ما زالوا في مختلف العصور يجنحون للصلح والمهادنة إذا عجزوا عن قتال عدوهم ، وما أنكر ذلك أحد من العلماء. (*) وأما معنى الحديث : فيحمل على أحد معنيين : (الأول) : أنه بمعنى الخبر على غالب الأحوال ولو تخلف ذلك في بعض العصور ، وهذا الذي فهمه الصحابة ، فقد قال عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو كما روى مسلم : لاَ تَقُومُ السَّاعَةُ إِلاَّ عَلَى شِرَارِ الْخَلْقِ. فاعترض عُقْبَةُ بْنُ عَامِرٍ بعموم هذا الحديث بأنه (لاَ تَزَالُ عِصَابَةٌ يُقَاتِلُونَ حَتَّى تَأْتِيَهُمْ السَّاعَةُ) ، فوافقه عَبْدُ اللَّهِ ، لكنّه أخبر أنَّ اللَّهُ يَبْعَثُ بعدها رِيحًا لاَ تَتْرُكُ مُؤمِناً إِلاَّ قَبَضَتْهُ ، ثُمَّ يَبْقَى شِرَارُ النَّاسِ عَلَيْهِمْ تَقُومُ السَّاعَةُ. ، قال الحافظ ابن حجر (فتح الباري:13/19) : "والجمع بينه وبين حديث (لا تزال طائفة) حمل الغاية في حديث (لا تزال طائفة) على وقت هبوب الريح الطيبة التي تقبض روح كل مؤمن ومسلم فلا يبقى إلا الشرار فتهجم الساعة عليهم بغتة"أ.هـ. ومثل ذلك قوله فيما روى الشيخان قال في الْخَيْل : "مَعْقُودٌ فِي نَوَاصِيهَا الْخَيْرُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ" ، بوب البخـاري عليه ، فقال : {بَاب الْجِهَادُ مَاضٍ مَعَ الْبَرِّ وَالْفَاجِرِ} ، فمن فهم من حديث الطائفة لزوم الجهاد في كل زمان يلزمه أن يقول : بلزوم الجهاد على الخيل في كل زمان حتى في عصرنا. (الثاني) : أن الجهاد ماض إلى يوم القيامة بالسنان إذا توفرت شروطه ، فإن تعذر فبالحجة والبرهان واللسان ثم بالقلب في حال ضعفهم ، وهذا الذي فهمه كبار الأئمة كالبخاري حين بوّب على حديث الطائفة ، فقال : {بَاب قَوْلِ النَّبِيِّ لاَ تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي ظَاهِرِينَ عَلَى الْحَقِّ يُقَاتِلُونَ ، وَهُمْ أَهْلُ الْعِلْمِ} ، وكذا نقل الحافظ ابن حجر في (فتح الباري:13/293) عن علي بن المديني وأحمد ويزيد بن هارون قالوا : إن لم يكونوا أهل الحديث فلا أدري من هم. وذكر النووي أن هذه الطائفة قد تكون من مقاتلين ومن فقهاء ومحدثين وغيرهم من أهل الخير مجتمعين أو متفرقين في أقطار الأرض حتى قال (شرح مسلم13/67) : "وفى هذا الحديث معجزة ظاهرة فان هذا الوصف ما زال بحمد الله تعالى من زمن النبي إلى الآن"أ.هـ. فهذا ما فهمه الأئمة من أن الظهور لا يكون من قتال بكل حال ، بل يكون في القتال في عصر دون عصر ، وبينما يكون بجهاد الحجة والبيان باللسان في كل عصر لزوماً وإن ضعفت قوتهم وقل عددهم ، فيكون الجهاد قائماً مستمراً بأحد هذه الأشياء ، قال ابن القيم (زاد المعاد3/64) :"والتحقيق أن جنس الجهاد فرض عين : إما بالقلب ، وإما باللسان ، وإما بالمال ، وإما باليد فعلى كل مسلم أن يجاهد بنوع من هذه الأنواع"أ.هـ. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية (الفتاوى الكبرى:5/537) : "والجهاد منه ما هو باليد ، ومنه ما هو بالقلب ، والدعوة والحجة واللسان والرأي والتدبير والصناعة ، فيجب بغاية ما يمكنه"أ.هـ. ولنختم هذه الشبهة بفهم عالمين من كبار العلماء في عصرهما : قال شيخ الإسلام ابن تيمية (الصارم المسلول:1/228): "فمن كان من المؤمنين بأرض هو فيها مستضعف أو في وقت هو فيه مستضعف فليعمل بآية الصبر والصفح والعفو عمن يؤذي الله ورسوله من الذين أوتوا الكتاب"أ.هـ. وسئل الشيخ العلامة صالح الفوزان عمن يستشهد بحديث النبي (الجهاد ماضٍ إلى أن تقوم الساعة) ؟ فأجاب الشيخ(الجهاد وضوابطه الشرعية:48) : "نعم الجهاد ماضٍ إذا توفرت شروطه ومقوماته فهو ماضٍ ، أما إذا لم تتوفر شروطه ولا مقوماته فإنه ينتظر حتى تعود للمسلمين قوتهم وإمكانيتهم واستعدادهم ، ثم يقاتلون عدوهم"أ.هـ.
الشبهة الثانية : إذن الإمام لا يجب في الجهاد لقصة أبي بصير ومن معه : استدل بعض الناس بهروب أبي بصير ومن معه إلى ساحل البحر مع التعرض لعير قريش بقتلهم وسلب أموالهم دون أذن النبي لم ينكر عليه النبي ، فالجواب من وجهين : (الأول) : أن لا يجوز أن يحتج بحال أبي بصير من كان في عنقه بيعة لإمام فيخرج بدون إذنه فيقاتل لقوله فيما روى الشيخان :"وَمَنْ يَعْصِ الأَمِيرَ فَقَدْ عَصَانِي ، وَإِنَّمَا الإِمَامُ جُنَّةٌ يُقَاتَلُ مِنْ وَرَائِهِ وَيُتَّقَى بِهِ" ، وروى مسلم قَالَ : "مَنْ خَرَجَ مِنْ الطَّاعَةِ وَفَارَقَ الْجَمَاعَةَ ، فَمَاتَ مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً ، وَمَنْ قَاتَلَ تَحْتَ رَايَةٍ عِمِّيَّةٍ : يَغْضَبُ لِعَصَبَةٍ أَوْ يَدْعُو إِلَى عَصَبَةٍ أَوْ يَنْصُرُ عَصَبَةً فَقُتِلَ فَقِتْلَةٌ جَاهِلِيَّةٌ ، وَمَنْ خَرَجَ عَلَى أُمَّتِي يَضْرِبُ بَرَّهَا وَفَاجِرَهَا وَلاَ يَتَحَاشَى مِنْ مُؤْمِنِهَا وَلاَ يَفِي لِذِي عَهْدٍ عَهْدَهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَلَسْتُ مِنْهُ". وروى الشيخان عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ النَّبِيِّ قَالَ : "مَنْ كَرِهَ مِنْ أَمِيرِهِ شَيْئًا فَلْيَصْبِرْ ؛ فَإِنَّهُ مَنْ خَرَجَ مِنْ السُّلْطَانِ شِبْرًا مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً". قال ابن قدامة (المغنى:8/354) : "وأمر الجهاد موكول إلى الإمام ويلزم الرعية طاعته فيما يراه من ذلك"أ.هـ. وإنما يصح أن يحتج بقصة أبي بصير في حال تعدد الولايات بأن من كان تحت ولاية إمام فلا يلزمه استئذان إمام آخر ليس هو تحت ولايته ؛ فإن أبا بصير لم يكن تحت يد النبي وحكمه بل صار متميزاً له أحكامه الخاصة التي تلزم من كان تحت يده : قال ابن القيم(زاد المعاد:3/267) "والعهد الذي كان بين النبي وبين المشركين لم يكن عهدًا بين أبي بصير وأصحابه وبينهم ، وعلى هذا فإذا كان بين بعض ملوك المسلمين وبعض أهل الذمة من النصارى وغيرهم عهدٌ جاز لملك آخر من ملوك المسلمين أن يغزوهم ويغنم أموالهم إذا لم يكن بينه وبينهم عهد ، كما أفتى به شيخ الإسلام في نصارى ملطية وسبيهم مستدلاً بقصة أبي بصير مع المشركين"أ.هـ. ورد الشيخ صالح بن فوزان الفوزان على هذه الشبهة بقوله (الجهاد وضوابطه:52) : "أبو بصير ما هو في قبضة الإمام ، أبو بصير في قبضة الكفار في ولايتهم ، فهو يريد أن يخلص نفسه من الكفار وليس هو تحت ولاية الرسول ؛ لأن الرسول رده لهم بموجب العهد والصلح"أ.هـ. (الثاني) : قد يجاب بما روى البخاري ، وفيه :" فَجَاءَ أَبُو بَصِيرٍ فَقَالَ : يَا نَبِيَّ اللَّهِ! قَدْ وَاللَّهِ أَوْفَى اللَّهُ ذِمَّتَكَ قَدْ رَدَدْتَنِي إِلَيْهِمْ ، ثُمَّ أَنْجَانِي اللَّهُ مِنْهُمْ ، قَالَ النَّبِيُّ : وَيْلُ أُمِّهِ مِسْعَـرَ حَرْبٍ لَوْ كَانَ لَهُ أَحَدٌ". فأشار بأن بقاءه يقتضي تسليمه لهم ، وأن فراره يخلي مسؤولية المسلمين ، وتعليمه ما يجوز له شرعاً يعتبر نوع من الأذن من طرف خفي ، قال ابن حجر (فتح الباري5/350) : "وفي رواية الأوزاعي (لو كان له رجال. فلقنها أبو بصير فانطلق) ، وفيه إشارة إليه بالفرار لئلا يرده إلى المشركين ، ورمز إلى من بلغه ذلك من المسلمين أن يلحقوا به ، قال جمهور العلماء من الشافعية وغيرهم : يجوز التعريض بذلك لا التصريح كما في هذه القصة"أ.هـ.
الشبهة الثالثة : تكفير من استعان بالكفار في الجهاد بدون تفصيل : يتسارع بعض الناس في التكفير من استعان في المشركين بالجهاد ، وليس فيما قالوا أثارة من علم إلا اتباع الظن ؛ لأن الاستعانة بالكفار لمصلحة حماية بيضة الإسلام والمسلمين جائزٌ شرعاً ، ذكرت في أبواب الفقه لا في أبواب الاعتقاد على اعتبار أنها مسألة خلافية ، وحتى من اختار من العلماء عدم الاستعانة بالكفار لم يصم من استعان بهم بالكفر ، قال سماحة الشيخ ابن باز(مجموع فتاوى ومقالات:7/363) : :"ومما يجب التنبيه عليه أن بعض الناس قد يظن أن الاستعانة بأهل الشرك تعتبر موالاة لهم ، وليس الأمر كذلك فالاستعانة شيء والموالاة شيء آخر"أ.هـ. وسأسوق بعض الأدلة على جواز هذا الفعل للمصلحة باختصار لأني قد بسطته في كتابي "الولاء والبراء بين تحريف الغالين وتأويل الجاهلين": (الدليل الأول) : دخول قبيلة خزاعة في حلف النبي وفيهم مشركون ، وقاتلوا مع النبي قريش عام الفتح ، قال سماحة الشيخ ابن باز(فتاوى ومقالات:6/172) :"ولا شك أن الاستعانة بغير المسلمين في الدفاع عن المسلمين وعن بلادهم وحمايتها من كيد الأعداء أمر جائز شرعاً ، بل واجب محتم عند الضرورة إلى ذلك لما في ذلك من إعانة للمسلمين وحمايتهم من كيد أعدائهم وصد العدوان المتوقع عنهم ... وكانت خزاعة مسلمها وكافرها في جيش النبي في غزوة الفتح ضد كفار أهل مكة"أ.هـ.
(الدليل الثاني) : روى أحمـد وأبو داود بإسناد صحيح قال : "سَتُصَالِحُونَ الرُّومَ صُلْحًا آمِنًا ، فَتَغْزُونَ أَنْتُمْ وَهُمْ عَدُوًّا مِنْ وَرَائِكُمْ ، فَتُنْصَرُونَ وَتَغْنَمُونَ وَتَسْلَمُونَ" ، ذكره ابن حبان في باب {ذِكْرِ الإِخْبَارِ عَنْ وَصْفِ مُصَالَحَةِ المُسْلِمِيْنَ الرُّوْمَ} ، والمجد في "المنتقى" في باب {ما جاء في الاستعانة بالمشركين} ، قال سماحة الشيخ ابن باز (فتاوى ومقالات:6/185) مبيناً جواز استعانة المسلم بكافر ليدفع شـر كافر آخر أو مسلم معتد : "وصح عنه أنه قال : "إنكم تصالحون الروم صلحا آمنا ثم تقاتلون أنتم وهم عدوا من ورائكم" فهذا معناه الاستعانة بهم على قتال العدو الذي من وراءنا"أ.هـ. (الدليل الثالث) : شهود كثير من المشركين غزوة حنين مع النبي في جيش ، كما روى مسلم في "صحيحه" عَنْ صَفْوَانَ بنِ أُمَيَّةَ قَالَ : وَاللَّهِ لَقَدْ أَعْطَانِي رَسُولُ اللَّهِ مَا أَعْطَانِي وَإِنَّهُ لأَبْغَضُ النَّاسِ إِلَيَّ ، فَمَا بَرِحَ يُعْطِينِي حَتَّى إِنَّهُ لأَحَبُّ النَّاسِ إِلَيَّ". قال الحافظ ابن حجر (6/179) وذكر نسخ حكم عدم الاستعانة بالكافر : "وحجة النسخ شهود صفوان بن أمية حنيناً مع النبي وهو مشرك ، وقصته مشهورة في المغازي"أ.هـ.
(الدليل الرابع) : استعانة النبي بدروع صفوان بن أمية وهو مشرك ، قال الإمام الشافعي (الأم:4/372) : "واستعان رسول الله في غزاة حنين سنة ثمان بصفوان بن أمية وهو مشرك"أ.هـ. وقال سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز (مجموع فتاوى ومقالات:6/109) : "وقال يوم بدر : لا أستعين بمشرك ، ولم يقل لا تستعينوا ، بل قال : لا أستعين لأنه ذلك الوقت غير محتاج لهم ، والحمد لله معه جماعة مسلمون ، وكان ذلك من أسباب هداية الذي رده حتى أسلم. وفي يوم الفتح استعان بدروع من صفوان بن أمية وكان على دين قومه"أ.هـ.
(الدليل الخامس) : استعانة النبي بالمنافقين في غزواته خاصة في يوم أحد والخندق والمصطلق : روى البخاري ومسلم قصة انخذال المنافقين عن النبي فَنَزَلَتْ فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ". قال الشيخ السعدي : "لما أمروا بالقتال وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ قَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أي : ذبًا عن دين الله وحماية له وطلباً لمرضاة الله أَوِ ادْفَعُواْ عن محارمكم وبلدكم إن لم يكن لكم نية صالحة"أ.هـ. وقال الصنعاني (سبل السلام:1/199): "ويجوز الاستعانة بالمنافق إجماعاً لاستعانته بعبد الله بن أبيّ وأصحابه"أ.هـ.
(الدليل السادس) : استعانة النبي في هجرته بدليل عَلَى دِينِ كُفَّارِ قُرَيْشٍ كما روى البخاري فِي {بَاب اسْتِئْجَارِ الْمُشْرِكِينَ عِنْدَ الضَّرُورَةِ} ، قال سماحة الشيخ ابن باز (مجموع فتاوى ومقالات:6/109) مبينًا جواز الاستعانة بغير المسلمين : "واستعان بعبد الله بن أريقط في سفره وهجرته إلى المدينة - وهو كافر - لما عرف أنه صالح لهذا الشيء وأن لا خطر منه في الدلالة"أ.هـ. (الدليل السابع) : استجارة النبي بمطعـم بن عدي لما رجع من الطائف وخاف أهل مكة فحماه ، قال سماحة الشيخ ابن باز (مجموع فتاوى ومقالات:6/109) : "فاستجار بالمطعم وهو من كبارهم في الكفر وحماه لما دعت الضرورة إلى ذلك ، وكان يعرض نفسه عليه الصلاة والسلام على المشركين في منازلهم في منى يطلب منهم أن يجيروه حتى يبلغ رسالة ربه عليه الصلاة والسلام على تنوع كفرهم"أ.هـ.
(الدليل الثامن) : روى البخاري :"إِذْ جَاءَ بُدَيْلُ بْنُ وَرْقَاءَ الْخُزَاعِيُّ فِي نَفَرٍ مِنْ قَوْمِهِ مِنْ خُزَاعَةَ ـ وَكَانُوا عَيْبَةَ نُصْحِ رَسُولِ اللَّهِ " ، قال شيخ الإسلام ابن تيمية (مجموع الفتاوى:4/114) : "وكانت خزاعة عيبة نصح رسول الله مسلمهم وكافرهم ، وكان يقبل نصحهم وكل هذا في الصحيحين ، وكان أبو طالب ينصر النبي ويذب عنه مع شركه ، وهذا كثير فإن المشركين وأهل الكتاب : فيهم المؤتمن كما قال تعالى وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِن تَأْمَنْهُ بِقِنطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُم مَّنْ إِن تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لاَّ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَآئِماً"أ.هـ.
(الدليل التاسع) : اتخاذ النبي عيناً مأموناً ففي صحيح البخاري "وَبَعَثَ عَيْنًا لَهُ مِنْ خُزَاعَةَ" ، قال ابن القيم (زاد المعاد:3/267) في فوائد قصة الحديبية : "ومنها : أن الاستعانة بالمشرك المأمون في الجهاد جائزة عند الحاجة ؛ لأن عينه الخزاعي كان كافراً إذ ذاك ، وفيه من المصلحة أنه أقرب إلى اختلاطه بالعدو وأخذه أخبارهم"أ.هـ.
الشبهة الرابعة : دعوى الجهاد في المملكة العربية السعودية وجعلها دار حرب : (*) عرف فقهاء الإسلام أنها كل بقعة يقطنها المسلمون تكون فيها أحكام الإسلام ظاهرة ، ولا تصير دار الإسلام دار كفر إلا بظهور أحكام الكفر فيها عند الجمهور ، وزاد أبو حنيفة : أن تكون متاخمة لدار الكفر ، وأن لا يبقى فيها مسلم. وأما الشافعية فقالوا : لا تصير دار الإسلام دار كفر بحال ، قال الشوكاني(السيل الجرار:4/575) : "الاعتبار بظهور الكلمة ، فإن كانت الأوامر في الدار لأهل الإسلام ، بحيث لا يستطيع من فيها من الكفار أن يتظاهر بكفره ، إلاَّ كونه مأذوناً له بذلك من أهل الإسلام ؛ فهذه دار إسلام ، ولا يضر ظهور خصال كفرية فيها ؛ لأنَّها لم تظهر بقوة الكفار ، ولا بصولتهم ، وإذا كان الأمر بالعكس ، فالدار بالعكس» أ.هـ. ولذا قال سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز (شرح بلوغ المرام من كتاب البيوع- شريط رقم2) : "إذا غلب عليها اسم الإسلام والصلاح وغيرها من شعائر الإسلام ، فهي بلاداً إسلام ، وإن كان الحاكم كافراً"أ.هـ. وقال العلامة الألباني (سلسلة الهدى والنور: رقم- 717) : "فإذا كان الغالب على سكان البلد ونظامهم هو الإسلام ، فهي دار إسلام ، وإن كان قد يحكمون بنظام غير إسلامي صرفاً أو محضاً"أ.هـ. وقال شيخنا العلامة محمد العثيمين عن بلاد الجزائر مع كون الحكم فيه بالقانون : في اشتداد هذه المضايقات هل تُشرع الهجرة إلى بلاد الكفر ؟ فقال الشيخ (براءة علماء الملة من تزكية أهل البدعة والمذمة:112) : "الواجب الصـبر ؛ لأن البلاد بلـد إسلام ، ينادى بها للصلوات الخمس وتقام فيها الجمعة والجماعات ، فالواجب الصبر حتى يأتي الله بأمره". (*) بل ذهب شيخ الإسلام ابن تيمية إلى أن البلاد التي يظهر فيها أحكام الكفر ، ويختلط فيها المسلمون مع الكفار لا تكون دار كفر خالصة ، لأنه لما سئل عن بلاد "ماردين" وهي ثغر مختلط به عساكر وسكَّان مسلمون ، وفيها كفار من سكان وحاكم هل هي بلد حرب أم بلد سلم قال (مجموع الفتاوى:28 /240) : "وأما كونها دار حرب أو سلم فهي مركبة فيها المعنيان ، ليست بمنزلة دار السلم التي تجرى عليها أحكام الإسلام لكون جندها مسلمين ، ولا بمنزلة دار الحرب التي أهلها كفار ، بل هي قسم ثالث يعامل المسلم فيها بما يستحقه ، ويقاتل الخارج عن شريعة الإسلام بما يستحقه"أ.هـ. والبلاد السعودية باتفاق عقلاء العصر ممن لم يسلم عقله لشياطين الفتنة هي الدولة الوحيدة التي تقوم على منهج السلف الصالح بتحقيق التوحيد والعبودية ، وهي أكثر دولة في هذا العصر تطبيقاً لشرائع الإسلام في محاكمها وأنظمتها ، وتظهر شعائره في مساجدها وسائر مرافقها ، وهي التي ينطبق عليها دار الإسلام عند جميع من عرّف دار الإسلام من فقهاء المذاهب السّنية ، بل دار الإسلام في عصر غربة الإسلام وأحق الدول بوصف دار الإسلام اعتقاداً وعملاً مما سواها من الدول ، ولذا فمن حكم على هذه البلاد السعودية بأنها دار حرب ، ونظّر لأتباعه دعوى الجهاد فيها باستباحة دماء أهلها كجنودها أو المستأمنين فيها ، فقد سلك مسلك الخوارج الذين هجروا بلاد التوحيد وجعلوها دار كفر بالذنوب ، واستقروا بلاداً أخف أحوالها أنها دار بدع وخرافة مع ظهور الشرك فجعلوها دار الإسلام ، قال الإمام أبو بكر الإسماعيلي (اعتقاد أهل السنة:51) ناقلاً اعتقاد أهل السنة : "ويرون أنَّ الدار دار إسلام لا دار كفر ، كما رأته المعتزلة ، ما دام النداء بالصلاة والإقامة بها ظاهرين ، وأهلها ممكنين"أ.هـ. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية (مجموع الفتاوى:19/72) في علامة الخوارج : "أنهم يكفرون بالذنوب والسيئات ، ويترتب على تكفيرهم بالذنوب استحلال دماء المسلمين وأموالهم ، وأن دار الإسلام دار حرب ، ودارهم هي دار الإيمان"أ.هـ. فهذا المنهج طبقه ورّاث الخوارج في عصرنا على هذه البلاد التي رفعت شعار السنة والتوحيد ، وأوت المضطهدين ونصرت المستضعفين وواست المحتاجين من المسلمين في أصقاع الأرض ، فلم يحفظوا لها سابقتها ، بل هي فئة الإسلام والمسلمين في هذا العصر ينطبق عليها ما قاله شيخ الإسلام حين ذكر الطائفة المنصورة في وقته بأكناف الشام وفساد أكثر أهل الأرض(مجموع الفتاوى:28/532) فقال : "والعز الذي للمسلمين بمشارق الأرض ومغاربها هو بعزهم ، ولهذا لما هزموا سنة تسع وتسعين وستمائة دخل على أهل الإسلام من الذل والمصيبة بمشارق الأرض ومغاربها مالا يعلمه إلا الله والحكايات في ذلك كثيرة ليس هذا موضعها ... فلو إستولى عليهم التتار لم يبق للإسلام عز ولا كلمة عالية ولا طائفة ظاهرة عالية يخافها أهل الأرض تقاتل عنه"أ.هـ. وإليك نصوص كبار العلماء الذين هم أعرف الناس بالله وأخشاهم له في هذا الزمان في أن ما قاله شيخ الإسلام إنما يتنزل اليوم على بلاد التوحيد والسنة التي قامت على دعوة الإمام المجد محمد بن عبد الوهاب : قال سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز(مجموع فتاوى ومقالات:9/98) : "وهذه الدولة السعودية دولة مباركة نصر الله بها الحق ، ونصر بها الدين ، وجمع بها الكلمة ، وقضى بها على أسباب الفساد وأمن الله بها البلاد ، وحصـل بها من النعم العظيمة ما لا يحصيه إلا الله"أ.هـ. وقال رحمه الله(مجموع فتاوى ومقالات:4/91) : "وهذه الدولة بحمد الله لم يصدر منها ما يوجب الخروج عليها ، وإنما الذي يستبيح الخروج على الدولة بالمعاصي هم الخوارج. الذين يكفرون المسلمين بالذنوب ، ويقاتلون أهل الإسلام ، ويتركون أهل الأوثان ، وقد قال فيهم النبي : إنهم يمرقون من الإسـلام كما يمرق السهـم من الرمية" ، وقـال :"أينما لقيتموهم فاقتلوهم فإن في قتلهم أجراً لمن قتلهم عند الله يوم القيامة" متفق عليه ، والأحاديث في شأنهم كثيرة معلومة". وقال العلامة محمد بن صالح العثيمين(الفتاوى الشرعية في القضايا العصرية:58) : "لا يوجد ـ الحمد لله ـ مثل بلادنا اليوم في التوحيد وتحكيم الشريعة ، وهي لا تخلو من الشرّ كسائر بلاد العالم ، بل حتى المدينة النبوية في عهـد النبي وُجد من بعض الناس شرٌّ ، لقد حصلت السرقة وحصل الزنا"أ.هـ. وقال رحمه الله بعد تفجير الخبر(لقاء الباب المفتوح:ونشرت في جريدة المسلمون): "الواجب على طلاب العلم أن يبينوا أن هذا المنهج منهج خبيث , منهج الخوارج الذين استباحوا دماء المسلمين وكفّوا عن دماء المشركين"أ.هـ. وقال سماحة الشيخ عبد العزيز آل الشيخ مفتي السعودية الحالي(جريدة الرياض-8/8/1422هـ- عدد12175) : "أما من يشكك في هذا ويشكك في منهج هذه الدولة المباركة فهذا إما جاهل أو أن في قلبه مرضاً ، وليحذر المسلم أن ينساق وراء مثل هؤلاء فليس وراءهم إلا الفتنة وإثارة التنازع والشقاق"أ.هـ.
الشبهة الخامسة : التفجير بحجة إخراج المشركين من جزيرة العرب : نتج من تكفير هؤلاء لحكام البلاد السعودية وجعلها دار حرب أنهم خرجوا يقتلون النصارى المستأمنين ، ثم يفجرون في مساكن أهل التوحيد ، بل ويقتلون جنودها بحجة إخراجهم من جزيرة العرب تطبيقاً بزعمهم للحديث الصحيح عن النبي أخرجوا المشركين من جزيرة العرب ، فصاروا كالخوارج الذين فهموا من نصوص الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أنه الخروج بالسيف على المجتمع المسلم وولاته ، فانطبق عليهم قوله فيما روى مسلم : "مَنْ خَرَجَ مِنْ الطَّاعَةِ وَفَارَقَ الْجَمَاعَةَ ، فَمَاتَ مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً ، وَمَنْ قَاتَلَ تَحْتَ رَايَةٍ عِمِّيَّةٍ : يَغْضَبُ لِعَصَبَةٍ أَوْ يَدْعُو إِلَى عَصَبَةٍ أَوْ يَنْصُرُ عَصَبَةً فَقُتِلَ فَقِتْلَةٌ جَاهِلِيَّةٌ ، وَمَنْ خَرَجَ عَلَى أُمَّتِي يَضْرِبُ بَرَّهَا وَفَاجِرَهَا وَلاَ يَتَحَاشَى مِنْ مُؤْمِنِهَا وَلاَ يَفِي لِذِي عَهْدٍ عَهْدَهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَلَسْتُ مِنْهُ" ، ووصف النبي الخوارج كما في الصحيحين عَنْ عَلِيٌّ : "أَحْدَاثُ الأَسْنَانِ سُفَهَاءُ الأَحْلاَمِ ، يَقُولُونَ مِنْ خَيْـرِ قَوْلِ الْبَرِيَّةِ ، يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لاَ يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ". في رواية البخاري : "لاَ يُجَاوِزُ إِيمَانُهُمْ حَنَاجِرَهُمْ" ، وفي حديث عَليٍّ عندَ مسلمٍ : "يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ يَحْسِبُونَ أَنَّهُ لَهُمْ وَهُوَ عَلَيْهِمْ" ، وفي لفظٍ : "يَقُولُونَ الْحَقَّ بِأَلْسِنَتِهِمْ لاَ يَجُوزُ هَذَا مِنْهُمْ ـ وَأَشَارَ إِلَى حَلْقِهِ ـ مِنْ أَبْغَضِ خَلْقِ اللَّهِ إِلَيْهِ" ، وفي حديث أبي ذرٍ عند مسلم : "هُمْ شَرُّ الْخَلْقِ وَالْخَلِيقَةِ". قال الآجري في {باب ذم الخوارج وسوء مذهبهم وإباحة قتالهم وثواب من قتلهم أو قتلوه} (الشريعة:1/136): "لم يختلف العلماء قديماً وحديثاً أن الخوارج قوم سوء ، عصاة لله ولرسوله وإن صلّوا وصاموا ، واجتهدوا في العبادة ، فليس ذلك بنافع لهم ، وإن أظهروا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وليس ذلك بنافع لهم ؛ لأنهم قوم يتأولون القرآن على ما يهوون ، ويموّهون على المسلمين. وقد حذرنا الله منهم، وحذّرنا النبي ، وحذرنا الخلفاء الراشدون بعده ، وحذرناهم الصحابة ومن تبعهم بإحسان –رحمة الله تعالى عليهم-. والخوارج هم الشراة الأنجاس الأرجاس ، ومن كان على مذهبهم من سائر الخوارج ، يتوارثون هذا المذهب قديماً وحديثاً ، ويخرجون على الأئمة والأمراء ويستحلون قتل المسلمين"أ.هـ. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية(منهاج السنة:5/248) : "وما روي من أنهم شر قتلى تحت أديم السماء خير قتيل من قتلوه في الحديث الذي رواه أبو أمامة رواه الترمذي وغيره. أي أنهم شر على المسلمين من غيرهم ، فإنهم لم يكن أحد شراً على المسلمين منهم لا اليهود ولا النصارى ، فإنهم كانوا مجتهدين في قتل كل مسلم لم يوافقهم مستحلين لدماء المسلمين وأموالهم وقتل أولادهم مكفرين لهم ، وكانوا متدينين بذلك لعظم جهلهم وبدعتهم المضلة"أ.هـ. وبيان ضلال هؤلاء بالاحتجاج بالحديث على قتل معصومي الدماء من أوجه :
1- اختلاف أهل العلم في المراد بجزيرة العرب ، فقيل : هي الحجاز , وقيل : هي من عدن أبين إلى ريف العراق. لكنهم اتفقوا جميعاً على أنَّ المراد بالحديث النهي عن استيطان غير المسلم فيها ، ولم يفهم أحد منهم ما فهمه هؤلاء من تحريم دخول الكفار لها مطلقاً ، لأن النبي لما أجلى اليهود إلى خيبر قال :"نُقِرُّكُمْ مَا أَقَرَّكُمْ اللَّهُ" ، حتى أجلاهم عمرُ ، فقال "إِنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ خَرَجَ إِلَى مَالِهِ هُنَاكَ فَعُدِيَ عَلَيْهِ مِنْ اللَّيْلِ فَفُدِعَتْ يَدَاهُ وَرِجْلاَهُ ، وَلَيْسَ لَنَا هُنَاكَ عَدُوٌّ غَيْرَهُمْ ، هُمْ عَدُوُّنَا وَتُهْمَتُنَا ، وَقَدْ رَأَيْتُ إِجْلاَءَهُمْ" رواه البخاري. وكذلك كان في المدينة في عهد عمر جماعة منهم ، حتى إنَّ عُمَرَ قَالَ لمّا قتله المجوسيُّ قال لابنِ عبّاسٍ : "الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَجْعَلْ مِيتَتِي بِيَدِ رَجُلٍ يَدَّعِي الإِسْلامَ ، قَدْ كُنْتَ أَنْتَ وَأَبُوكَ تُحِبَّانِ أَنْ تَكْثُرَ الْعُلُوجُ بِالْمَدِينَةِ ، وَكَانَ الْعَبَّاسُ أَكْثَرَهُمْ رَقِيقًا" رواه البخاري. فلو فهم عمر المنع مطلقاً لمّا أقرهم على ذلك ، قال شيخنا العثيمين(لقاء الباب المفتوح:2/368-لقاء39) : "أما قوله (لأخرجن اليهود والنصارى من جزيرة العرب) ، فالمراد منها السكنى ، وأما الأجراء وما أشبه ذلك فلا يدخلون في هذا ؛ لأنهم ليسوا قاطنيين بل سيخرجون"أ.هـ.
2- أن الحديث أمرٌ بإخراجهم لا قتلهم بعد تأمينهم ، ففي قصة إخراج عمر لليهود من خيبر الآنفة : "فَأَجْلاَهُمْ عُمَرُ وَأَعْطَاهُمْ قِيمَةَ مَا كَانَ لَهُمْ مِنْ الثَّمَرِ مَالاً وَإِبِلاً وَعُرُوضًا مِنْ أَقْتَابٍ وَحِبَالٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ" ، ففيه عدم جواز ظلم من أخرج منهم ، بل يجب أن يوفى لهم بحقوقهم كما فعل عمر من إعطائهم قيمة ما كان لهـم من الطعام والمال ، فأين هؤلاء ممن يفتتئتون على الولاية ويقتلون المستأمنين الذين حرم الله دماءهم وأموالهم.
3- أن قتل هؤلاء هو من أعظم الخيانة التي حرمها ، لأن هؤلاء إما أن يكونوا معاهدين ، وإما أن يكونوا مستأمنين ، وقد روى البخاري عَنْ النَّبِيُّ قَالَ : "مَنْ قَتَلَ مُعَاهَدًا لَمْ يَرِحْ رَائِحَةَ الْجَنَّةِ ، وَإِنَّ رِيحَهَا تُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ أَرْبَعِينَ عَامًا". قال ابن حجر(فتح الباري:12/259) : "والمراد به من لـه عهد مع المسلمين ، سواء كان بعقد جزية أو هدنة من سلطان ، أو أمان من مسلم"أ.هـ. وروى الشيخان ـ قَالَ : "وَذِمَّةُ الْمُسْلِمِينَ وَاحِدَةٌ يَسْعَى بِهَا أَدْنَاهُمْ ، فَمَنْ أَخْفَرَ مُسْلِمًا فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلاَئِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ لاَ يُقْبَلُ مِنْهُ صَرْفٌ وَلاَ عَدْلٌ" ، وصحح الحاكم وابن حبان قوله :"أيُّمَا رَجُلٍ أمَّنَ رَجُلاً عَلَى دَمِهِ ثَمَّ قَتَلَهُ , فَأَنَا مِن القاتِلِ بَرِيءٌ , وَإنْ كَانَ المَقْتُولُ كَافِراً". وفي سنن أبي داود عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ قَالَ : "الإِيمَانُ قَيَّدَ الْفَتْكَ لاَ يَفْتِكُ مُؤْمِنٌ" ، قال البغوي(شرح السنة:11/45) : "والفتك أن يُقتل مَن له أمان فجأة"أ.هـ. وقال فضيلة شيخنا العلامة محمد العثيمين (كما في خطبة بخط يده) عن قتل المستأمنين في البلاد السعودية وذكر (مَنْ أَخْفَرَ مُسْلِمًا) : " ومعنى الحديث أن الإنسان إذا أمن إنساناً وجعله في عهده ، فإن ذمته ذمة للمسلمين جميعاً مـن أخفرهـا وغـدر بهذا الـذي أعطي الأمان من مسلم ، فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين"أ.هـ.
4- أن الشريعة لم تخاطب بمسائل العهود والعقود آحاد الناس ، بل المخاطب فيها هم ولاة الأمور الذين أوجب الله طاعتهم على الرعية ، وجعل الله في أيديهم إقامة الدين والحل والعقد ، وقد قدمنا ما روى البخاري في قصةِ إجلاءِ اليهودِ من خيبر قَالَ : قَامَ عُمَرُ خَطِيبًا فَقَالَ : "وَقَدْ رَأَيْتُ إِجْلاَءَهُمْ" ، ففي الحديث أن الذي بيده إخراجهم هو من بيده العهد ونقضه ، وهو ولي الأمر. وروى البخاري في باب [يُقَاتَلُ عَنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ وَلاَ يُسْتَرَقُّونَ] : قَالَ عُمَـرُ : أُوصِي الْخَلِيفَةَ مِنْ بَعْدِيْ بِذِمَّةِ اللَّهِ وَذِمَّةِ رَسُولِهِ أَنْ يُوفَى لَهُمْ بِعَهْدِهِمْ ، وَأَنْ يُقَاتَلَ مِنْ وَرَائِهِمْ ، وَأَنْ لاَ يُكَلَّفُوا فَوْقَ طَاقَتِهِمْ" ، وقد تقدم قول ابن قدامة المقدسي(المغني:10/509) : "فان هادنهم غير الإمام أو نائبه لم يصح"أ.هـ. وقول ابن القيم(أحكام أهل الذمة:3/1441) : "والذمة لا يعقدها إلاَّ الإمام أو نائبه"أ.هـ. وقال العيني (عمدة القاري:14/299) في دخول المشرك للجزيرة : "فإن استأذن في دخوله أذن الإمام أو نائبه فيه إن كان مصلحة للمسلمين"أ.هـ. ولذا قال بعض علماء الدعوة (الدرر السنية :9/168) : "فإن النبي حارب وسالم ، وصالح قريشاً صلح الحديبية ، وهادن اليهود وعاملهـم على خيبر ، وصالح نصارى نجران ، وكذلك الخلفاء الراشدون من بعده ، ولا يجوز الاعتراض على ولي الأمر في شيء من ذلك ؛ لأنه نائب المسلمين ، والناظر في مصالحهم"أ.هـ.
5- لو زعموا أنه لا يصح لهؤلاء عهد بسبب شبهة استوطنت الأفئدة الغاوية ، فيقال قد قرر العلماء أن الكافر الحربي إذا دخل بلاد المسلمين بأمان أو بشبهة أمان أو فهم أنه أمان فإنه يحرم التعرض له : قال الإمام أحمد بن حنبل(مسائل أبي داود:334) : "كلُّ شيء يرى العلج أَنه أمانٌ فهو أمان"أ.هـ. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية(بيان الدليل:64) : "جاءت السنة بأن كل ما فَهِمَ الكافرُ أنه أمان ، كان أماناً ، لئلا يكون مخدوعاً ، وإن لم يقصد خَدْعه"أ.هـ. ،وسيأتي تفصيل هذه النقطة في الشبهة التالية.
الشبهة السادسة : بعض الجهلة الضلال قد لجّوا بتبرير قتل المعاهدين في البلاد السعودية احتجاجاً بقصة كعب بن الأشرف ، وهذا جهل في الشريعة وسوء قصد في النية ؛ من وجهين :
(الوجه الأول) : إنه فرض مطابقة ما قالوه الحقيقة فإن إبرام العهود ونقضها وإقامة الحدود والتعزيرات ليست لهم ولآحاد الناس ، وإنما هي من صلاحيات الإمام ، قال ابن قدامة (المغني:13/157) : "ولا يجـوز عقد الهدنة ولا الذمة إلا من الإمام أو نائبه ؛ لأنه عقد مع جملة الكفار وليس ذلك لغيره ، ولأنه يتعلق بنظر الإمام وما يراه من المصلحة على ما قدمناه ، ولأن تجويزه من غير الإمام يتضمن تعطيل الجهاد بالكلية أو إلى تلك الناحية ، وفيه افتيات على الإمام"أ.هـ. وقال ابن القيم(أحكام أهل الذمة:3/1441) : "فإنَّ الأمان يجوز عقده لكل كافر ، ويعقده كل مسلم ، ولا يشترط على المستأمـن شيء من الشروط ، والذمة لا يعقدها إلاَّ الإمام أو نائبه"أ.هـ. ولذا قدمنا أن النبي عاهد كفار مكة في الحديبية مع كراهة الصحابة لذلك ، وبوب عليه البخاري في {بَاب الشُّرُوطِ فِي الْجِهَادِ وَالْمُصَالَحَةِ مَعَ أَهْلِ الْحَرْبِ وَكِتَابَةِ الشُّرُوطِ} ، وَبَوَّب عَلِيْه ابن حبان {ذِكْرُ مَا يُسْتَحَبُّ لِلإِمَامِ اسْتِعْمَالُ المُهَادَنَةُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَعْدَاءِ اللهِ إِذَا رَأَى بِالمُسْلِمِيْنَ ضَعَفًا يَعْجَزُوْنَ عَنْهُمْ} ، وَبَوَّبَ عَلَيْه البَيْهَقِيُّ {بَاب الهُدْنَةِ عَلَى أَنْ يَرُدَّ الإِمَامُ مَنْ جَاءَ بَلَدَهُ مُسْلِمًا مِنْ المُشْرِكِيْنَ} ، وبسبب هذا العهد لم يتعرض مسلمٌ لكافر في مدة العهد حتى أعلن ذلك النبي لنقضهم العهد ففتح مكة. وكذا في تبويب البخاري على قصة الرماة في أحد : {بَاب مَا يُكْرَهُ مِنْ التَّنَازُعِ وَالاخْتِلاَفِ فِي الْحَرْبِ وَعُقُوبَةِ مَنْ عَصَى إِمَامَهُ}.
(الوجه الثاني) : أن هؤلاء المعاهدين أو المستأمنين لم يأتوا بما ينقض عهدهم أو أمانهم ، بخلاف كعب بن الأشرف الذي نقض العهد بهجـاء النبي وخلع الأمان وذهابه لمكة ينصر المشركين فصار حربياً بذلك ، ولهذا تنبه الحافظ أبو داود السجستاني ـ رحمه الله ـ في "سننه" فبوَّب في كتاب " الجهاد" باباً {فِي الْعَدُوِّ يُؤْتَى عَلَى غِرَّةٍ وَيُتَشَبَّهُ بِهِمْ} فذكر فيه : حديث قصة قتل كعب بن الأشرف ، ثم عقَّبه بحديث "الإِيمَانُ قَيَّدَ الْفَتْكَ ، لاَ يَفْتِكُ مُؤْمِنٌ" ، قال المناوي(فيض القدير:3/186) : "(لا يفتك مؤمن): خبر بمعنى النهي لأنه متضمن للمكر والخديعة ، أو هو نهي ، وما روي من الفتك بكعب بن الأشرف وابن أبي حقيق وغيرهما : فكان قبل النهي ، أو هي وقائع مخصوصة بأمر سماوي لما في المفتوكين من الغدر وسب الإسلام وأهله ، قال الزمخشري : (الفرق بين الفتك والغيلة : أن الفتك أن تهتبل غرته فتهلكه جهارًا ، والغيلة أن تكتمن له في محل فتقتله خفية) ، وظاهرٌ أن المراد في الحديث هما معا"أ.هـ. فأهل الحديث وعلماؤه ذكروا حديث كعب بن الأشرف في كتاب الجهاد ، وفي قتال أهل الحرب ، ولهذا بوَّب البخاري ـ كما تقدم ـ على حديث كعب بن الأشرف هذا فقال : {بَاب الْفَتْكِ بِأَهْلِ الْحَرْبِ} :
* قال الحافظ ابن حجر(فتح الباري:6/185) : "(قوله باب الفتك بأهل الحرب) : "وإنما فتكوا به ؛ لأنه نقض العهد ، وأعان على حرب النبي وهجـاه ، ولم يقع لأحد ممن توجه إليه تأمينٌ له بالتصريح ، وإنما أوهموه ذلك وآنسوه حتى تمكنوا من قتله"أ.هـ. وقال البغوي رحمه الله(شرح السنة:11/45) : "قد ذهب بعضُ مَن ضلَّ في رأيه وزلَّ عن الحق إلى أن قتل كعب بن الأشرف كان غدراً وفتكاً , فأبعد الله هذا القائل , وقبَّح رأيهُ من قائل , ذهب عليه معنى الحديث , والتبس عليه طريق الصواب , بل قد روي عن أبي هريرة عن النبي أنه قال : (الإيمان
قيَّدَ الفتكَ, لا يفتكُ مؤمنٌ). والفتك أن يُقتل مَن له أمان فجأة. وكان كعب بن الأشرف ممن عاهد رسولَ الله أن لا يعين عليه أحداًَ ولا يقاتلـه , ثم خلع الأمان , ونقض العهد , ولحق بمكة , وجاء مُعلناً معاداة النبي يهجوه في أشعاره ويسبه ، فاستحقَّ القتل لذلك"أ.هـ.
* وقال الشيخ العلامة صالح الفوزان رداً على من احتج بقصة ابن الأشرف على اغتيال المعاهدين أو المستأمنين في البلاد السعودية(فتاوى الأئمة في النوازل المدلهمة:157) :"ليس في قصة كعب بن الأشرف دليل على جواز الاغتيالات ؛ فإن قتل كعب بن الأشرف كان بأمر الرسول وهو وليُّ الأمر ، وكعب من رعيته بموجب العهد ، وقد حصلت منه خيانة للعهد ، اقتضت جواز قتله كَفًّا لشره عن المسلمين ، ولم يكن قتله بتصرف من آحاد الناس ، أو بتصرف جماعة منهم دون ولي الأمر ، كما هو حال الاغتيالات المعروفة اليوم في الساحة ؛ فإن هذه فوضى لا يقرها الإسلام ، لما يترتب عليها من المضار العظيمة في حقِّ الإسلام والمسلمين"أ.هـ.
* وقال سماحة الشيخ عبدالعزيز بن باز عن حكم الاعتداء على الأجانب السياح والزوار في البلاد الإسلامية (مجموع الفتاوى 8/239) : ": هذا لا يجوز ، الاعتداء لا يجوز على أي أحد ، سواء كانوا سياحاً أو عمالاً ؛ لأنهم مستأمنون ، دخلوا بالأمان ، فلا يجوز الاعتداء عليهم ، ولكن تناصح الدولة حتى تمنعهم مما لا ينبغي إظهاره ، أما الاعتداء عليهم فلا يجوز ، أما أفراد الناس فليس لهم أن يقتلوهم أو يضربوهم أو يؤذوهم ، بل عليهم أن يرفعوا الأمر إلى ولاة الأمور ؛ لأن التعدي عليهم تعد على أناس قد دخلوا بالأمان فلا يجوز التعدي عليهم ، ولكن يرفع أمرهم إلى من يستطيع منع دخولهم أو منعهم من ذلك المنكر الظاهر. أما نصيحتهم ودعوتهم إلى الإسلام أو إلى ترك المنكر إن كانوا مسلمين فهذا مطلوب ، وتعمه الأدلة الشرعية ، والله المستعان ، ولا حول ولا قوة إلا بالله. وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وآله وصحبه"أ.هـ.
* وقال فضيلة شيخنا العلامة محمد بن عثيمين (لقاء الباب المفتوح في صفر 1417هـ : نشر في جريدة المسلمون) عن قتل المستأمنين في البلاد السعودية : "... ولا يخفى علينا أيضاً أنه قال : "ذِمَّةُ الْمُسْلِمِينَ وَاحِدَةٌ يَسْعَى بِهَا أَدْنَاهُمْ ، فَمَنْ أَخْفَرَ مُسْلِمًا فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلاَئِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ" ، ولا يخفى علينا أن الائتمان أو التأمين والإجارة يكون حتّى من واحدٍ من المسلمين ، وإن لم يكن ولي أمرٍ ، حتّى ولو كان امرأة ، قال النبي : " قَدْ أَجَرْنَا مَنْ أَجَرْتِ يَا أُمَّ هَانِئٍ" ، فكيف إذا كان الأمان من ولاة الأمور؟! فهذا عين المحادة لله ورسوله ، وعين المشاقّة لله ورسوله ، ثالثاً : لو قدرنا على أسوأ تقدير أن الدولة التي ينتمي إليها هؤلاء الذين قتلوا دولة معادية للإسلام فما ذنب هؤلاء ؟ هؤلاء الذين جاؤوا بأمر حكومتهم ، قد يكون بعضهم جاؤوا عن كره ولا يريد الاعتداء"أ.هـ.
(الوجه الثالث) : أن هؤلاء لو فرض أنه لا يجوز للإمام معاهدتهم وتأمينهم بزعمهم تنزلاً ، فإنه لا ينطبق عليهم حالة كعب بن الأشرف لأن قصة كعب واقعة عين تنزل على أهل الذمة الذين تجري عليهم أحكام أهل الإسلام بالاتفاق فلإمام قتل من نقض عهده منهم أو أحدث فيكون في حكم أهل الحرب ، أما هؤلاء فهم إما معاهدون أو مستأمنون لا تجري عليهم أحكام الإسلام ، ولذا فتحريم الغدر حكم محكم فيهم على الأصل ، وبأقل الأحوال فلهم شبهة الأمان ، لما علم من أن الكافر الحربي إذا أمنه المسلمون أو فهم ذلك منهم لا يحل لأحد أن يتعرض له لئلا يدخل في نصوص الوعيد في الغدر وخفر الذمم كما في قوله :"أيُّمَا رَجُلٍ أمَّنَ رَجُلاً عَلَى دَمِهِ ثَمَّ قَتَلَهُ , فَأَنَا مِن القاتِلِ بَرِيءٌ , وَإنْ كَانَ المَقْتُولُ كَافِراً" صححه الحاكم وابن حبان ، وحديث : "فَمَنْ أَخْفَرَ مُسْلِمًا فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلاَئِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ لاَ يُقْبَلُ مِنْهُ صَرْفٌ وَلاَ عَدْلٌ" رواه الشيخان ، وقد قرّر ذلك أهل العلم في من لهم شبهة أمان أو فهم الأمان :
* قال أبو داود (مسائل الإمام أحمد بن حنبل لأبي داود:333) : "قلت لأحمد : الرجل يحمل على العلجِ ، فيصيح بِه بالرومية : قف أو ألق سلاحك ؟ قال : هذا أمان ، قلت : فإن العلج علم أنّه ليس له منْه مَنْجَا ؟ فقال : هذا أمانٌ ، قلت : فإن قال له : ذهبتَ أو نحو ذلك ، يريد يرعبه ؟ قال : كلُّ شيء يرى العلج أَنه أمانٌ فهو أمان"أ.هـ.
* وقال ابن عبد البر(الاستذكار:14/84) : "وسئل مالك عن الإشارة بالأمان : أهي بمنزلة الكلام ؟ فقال نعم ، وإني أرى أن يتقدم إلى الجيوش : أن لا تقتلوا أحداً أشاروا إليه بالأمان ؛ لأن الإشارة عندي بمنزلة الكلام ، وإنه بلغني أن عبد الله بن عباس قال : ما ختر قوم بالعهد إلا سلط الله عليهم العدو. [وقال أبو عمر] : إذا كان دم الحربي الكافر يحرم بالأمان ، فما ظنك بالمؤمن الذي يصبح ويمسي في ذمة الله! كيف ترى في الغدر به والقتل ، وقد قال : ( الإيمان قيد الفتك لا يفتك مؤمن)"أ.هـ.
*وقال ابن قدامة فيمن عقد العهد دون إذن الإمام(المغني:13/157) : "وإن دخل بعضهم دار الإسلام بهذا الصلح كان آمنا ؛ لأنه دخل معتقداً للأمان ، ويرد إلى دار الحرب ولا يقر في دار الإسلام لأن الأمان لم يصح"أ.هـ.
* وقال شيخ الإسلام ابن تيمية (الصارم المسلول:3/768) وذكر قتل كعب بن الأشرف كان لمجرد سب النبي ولم يتعد لغيره من بني جنسه : "ولو كان كعب بمنزلة كافرٍ محاربٍ فقط لم يجز قتله إذا أَمّنهم كما تقدم ؛ لأن الحربي إذا قُلتَ له أو عَمِلتَ معه ما يعتقد أنه أمانٌ صار له أمانٌ ، وكذلك كلُ من يجوز أمانه"أ.هـ. وقال أيضاً(الصارم المسلول:2/33) : "وشبهة الأمان كحقيقته ، فإن من تكلم بكلام يحسبـه الكافر أماناً كان في حقه أماناً ، وإن لم يقصده المسلم "أ.هـ. وقال رحمه الله(الفتاوى الكبرى:6/19) : "جاءت السنة بأن كل ما فَهِمَ الكافرُ أنه أمان ، كان أماناً ، لئلا يكون مخدوعاً ، وإن لم يقصد خَدْعه"أ.هـ.
الشبهة السابعة : شبهة أن جهاد الدفع لا يشترط له قدرة : قد قدمنا الرد عليها مفصلاً في التنبيه الأول بقيوده في فصل شروط الجهاد ص (6).
الشبهة الثامنة : أن ترك نصرة المسلمين هو ترك للجهاد الواجب : قد قدمنا الرد على هذا الإطلاق في القيد الثاني والثالث من التنبيه الأول من أن وجوب نصرة المسلم لأخيه المسلم إذا اعتدي عليه ليست مطلقة بل مقيدة بعدم العجزٍ ، أو وجود الميثاق ، أو بعدم أرادة الدين بالقتال ، أو الاختلاف في العهود (ص11).
تاسعاً : مثال معاصر على الجهاد البدعي في ميزان العلم
يقول الله تعالى وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا ، وفي مسلم ومسند أحمد قال :"إِنَّ اللَّهَ يَرْضَى لَكُمْ : أَنْ تَعْبُدُوهُ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا ، وَأَنْ تَعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا ، وَأَنْ تُنَاصِحُوا مَنْ وَلاَّهُ اللَّهُ أَمْرَكُمْ " ، وللشيخين قال :" مَنْ كَرِهَ مِنْ أَمِيرِهِ شَيْئًا فَلْيَصْبِرْ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ لَيْسَ أَحَدٌ مِنْ النَّاسِ خَرَجَ مِنْ السُّلْطَانِ ـ وفي روايةٍ الجماعةِ ـ شِبْرًا فَمَاتَ عَلَيْهِ إِلاَّ مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً". ولهما أيضاً عن عُبَادَةَ قَالَ : "بَايَعَنَا النَّبِيُّ عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ فِي مَنْشَطِنَا وَمَكْرَهِنَا وَعُسْرِنَا وَيُسْرِنَا وَأَثَرَةً عَلَيْنَا ، وَأَنْ لاَ نُنَازِعَ الأَمْرَ أَهْلَهُ إِلاَّ أَنْ تَرَوْا كُفْرًا بَوَاحًا عِنْدَكُمْ مِنْ اللَّهِ فِيهِ بُرْهَانٌ" ، ولمسلم عَنْ عَرْفَجَةَ قال : "مَنْ أَتَاكُمْ وَأَمْرُكُمْ جَمِيعٌ عَلَى رَجُلٍ وَاحِدٍ يُرِيدُ أَنْ يَشُقَّ عَصَاكُمْ أَوْ يُفَرِّقَ جَمَاعَتَكُمْ فَاقْتُلُوهُ" ، وله عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَ :"إِنَّهُ يُسْتَعْمَلُ عَلَيْكُمْ أُمَرَاءُ فَتَعْرِفُونَ وَتُنْكِرُونَ ، فَمَنْ كَرِهَ فَقَدْ بَرِئَ ، وَمَنْ أَنْكَرَ فَقَدْ سَلِمَ ، وَلَكِنْ مَنْ رَضِيَ وَتَابَعَ ، قَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلاَ نُقَاتِلُهُمْ ؟ قَالَ :"لاَ مَا صَلَّوْا" ، وله عن عَوْفَ بْنَ مَالِكٍ "أَفَـلاَ نُنَابِذُهُمْ عِنْدَ ذَلِكَ ؟ قَالَ :"لاَ مَا أَقَامُوا فِيكُمْ الصَّلاَةَ ، لاَ مَا أَقَامُوا فِيكُمْ الصَّلاَةَ. أَلاَ مَنْ وَلِيَ عَلَيْهِ وَالٍ فَرَآهُ يَأْتِي شَيْئًا مِنْ مَعْصِيَةِ اللَّهِ فَلْيَكْرَهْ مَا يَأْتِي مِنْ مَعْصِيَةِ اللَّهِ وَلاَ يَنْزِعَنَّ يَدًا مِنْ طَاعَةٍ". وله عن وَائِلٍ الْحَضْرَمِيِّ قَالَ : "اسْمَعُوا وَأَطِيعُوا فَإِنَّمَا عَلَيْهِمْ مَا حُمِّلُوا وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ" ، وله عن حذيفة :"تَسْمَعُ وَتُطِيعُ لِلأَمِيرِ وَإِنْ ضُرِبَ ظَهْرُكَ وَأُخِذَ مَالُكَ فَاسْمَعْ وَأَطِعْ" ، ويقول :"آمُرُكُمْ بِخَمْسٍ اللَّهُ أَمَرَنِي بِهِنَّ : بِالْجَمَاعَةِ ، وَبِالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ ، وَالْهِجْرَةِ ، وَالْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ، فَإِنَّهُ مَنْ خَرَجَ مِنْ الْجَمَاعَةِ قِيدَ شِبْرٍ فَقَدْ خَلَعَ رِبْقَةَ الإِسْلامِ مِنْ عُنُقِهِ إِلَى أَنْ يَرْجِعَ ، وَمَنْ دَعَا بِدَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ فَهُوَ مِنْ جُثَا جَهَنَّمَ ، صَامَ وَصَلَّى وَزَعَمَ أَنَّهُ مُسْلِمٌ ، دْعُوا الْمُسْلِمِينَ بِمَا سَمَّاهُمْ الْمُسْلِمِينَ الْمُؤْمِنِينَ عِبَادَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ" رواه أحمد والترمذي. وهذا من النبي بيان لفضل الإمامة وعظم حرمتها عند الله ورسوله ، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله(الفتاوى:28/390) : "يجب أن يعرف أن ولاية أمر الناس من أعظم واجبات الدين ، بل لا قيـام للدين ولا للدنيا إلا به بها … فالواجب اتخاذ الإمارة قربة يتقرب بها إلى الله ، فإن التقرب إليه فيها بطاعته وطاعة رسوله من أفضل القربات"أ.هـ. ثم فانظر أيها المنصف حرص النبي الكريم على حفظ الأمن وتسكين الناس بالسمع والطاعة ولزوم الجماعة مهما حصل من الولاة من ظلم وجور دون الكفر ، في الوقت الذي أمر بجهاد من فارقوا الجماعة أشد المجاهدة مع عبادتهم حتى قال عنهم كما في الصحيح : "يَخْرُجُ فِي هَذِهِ الأُمَّةِ ـ وَلَمْ يَقُلْ مِنْهَا ـ قَوْمٌ تَحْقِرُونَ صَلاتَكُمْ مَعَ صَلاَتِهِمْ يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لا يُجَاوِزُ حُلُوقَهُمْ أَوْ حَنَاجِرَهُمْ يَمْرُقُونَ مِنْ الدِّينِ مُرُوقَ السَّهْمِ مِنْ الرَّمِيَّةِ" ، وقال:"سَيَخْرُجُ قَوْمٌ فِي آخِرِ الزَّمَانِ أَحْدَاثُ الأَسْنَانِ سُفَهَاءُ الأَحْلامِ يَقُولُونَ مِنْ خَيْرِ قَوْلِ الْبَرِيَّةِ لا يُجَاوِزُ إِيمَانُهُمْ حَنَاجِرَهُمْ يَمْرُقُونَ مِنْ الدِّينِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنْ الرَّمِيَّةِ ، فَأَيْنَمَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاقْتُلُوهُمْ فَإِنَّ فِي قَتْلِهِمْ أَجْرًا لِمَنْ قَتَلَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ" ، وقال : "يَخْرُجُونَ مِنْ الدِّينِ كَمَا يَخْرُجُ السَّهْمُ مِنْ الرَّمِيَّةِ ثُمَّ لاَ يَعُودُونَ فِيهِ ، هُمْ شَرُّ الْخَلْقِ وَالْخَلِيقَةِ". ولذا يقول شيخ الإسلام ابن تيمية(مجموع الفتاوى:28/470) : "ولهذا اتفق أئمة الإسلام على أن هذه البدع المغلظة شر من الذنوب التي يعتقد أصحابها أنها ذنوب وبذلك مضت سنة رسول الله حيث أمر بقتال الخوارج عن السنة ، وأمر بالصبر على جور الأئمة وظلمهم والصلاة خلفهم مع ذنوبهم ، وشهد لبعض المصرين من أصحابه على بعض الذنوب أنه يحب الله ورسوله ونهى عن لعنته ، وأخبر عن ذي الخويصرة وأصحابه مع عبادتهم وورعهم أنهم يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية"أ.هـ. ونحنُ في هذِه البلادِ ننعمُ بأمرينِ عظيمينِ تحققتْ بها مقوماتُ الجماعةِ لا يوجدُ لهُما نظيْرٌ في العالمِ اليومَ : فولايةٌ شرعيةٌ سلفيةٌ مرتبطةٌ بولايةٍ شرعيةٍ علميةٍ قائمةٍ على منهاجِ النبوةِ ، يقولُ مؤسسُ هذه البلادِ الملكُ عبدُ العزيزِ رحمه اللهُ في يومِ فِي حجِ سنةِ إحدى وخمسينَ وثلاثمائةٍ بعدَ الألفِ (1351) : (يقولونَ إننا وهابيةٌ ، والحقيقةُ أننا سلفيونَ محافظونَ على دينِنَا نتبعُ كتابَ اللهِ وسنةِ رسولِهِ، وليسَ بيننا وبينَ المسلمينَ إلا كتابُ اللهِ وسنةُ رسولِه"أ.هـ. فهذِه من أعظمِ مفاخرِ هذه البلادِ أن حكامَها يتشرفونَ بانتمائِهم لمنهجِ السلفِ الصالحِ ، ويعلنُ أولُهم وآخرُهم تمسكَهم بالدعوةِ الإصلاحيةِ التي جددتْ منهجَ السلفِ الصالحِ في العصورِ المتأخرةِ ، ولذا فشعار علماء هذه البلاد من لدن الإمام محمد بن عبد الوهاب إلى يومنا هذا هو شعار أهل السنة السلفيين مع الأئمة أبراراً كانوا أم فجاراً من لدن الصحابة مروراً بالإمام أحمد وشيخ الإسلام أحمد بن تيمية ثم شيـخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب إلى وقتنا هذا هو شعار السمع والطاعة والجماعة مع النصيحة يفارقون بذلك جميع أهل الأهواء والبدع ، تطبيقاً لهذه النصوص التي أمر بها النبي ، وهو المعصوم الذي لا ينطق عن الهوى وحث عليها مهما بلغ التغير والفساد في الراعي والرعية ما دام أمر الصلاة قائم والكفر البواح غير ظاهر ، فمن هذه المواقف العملية في تطبيق مع هذا الشعار السلفي : (الموقف الأول) : موقف ابن عمر حين جاء إلى ابن مطيع في زمان فتنة الحرة وقد أضمر الخروج على يزيد بن معاوية فحدثه بقول النبي :"مَنْ خَلَعَ يَدًا مِنْ طَاعَةٍ لَقِيَ اللَّهَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لاَ حُجَّةَ لَهُ ، وَمَنْ مَاتَ وَلَيْسَ فِي عُنُقِهِ بَيْعَةٌ مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً" رواه مسلم . وكان ابن عمر وأنس وغيرهم من الصحابة يصلون خلف الحجـاج على ظلمه وجوره ، بل قد روى البخاري أنهم لما شكوا إلى أنس ما يلقون من الحجاج ، قال : "اصْبِـرُوا فَإِنَّهُ لاَ يَأْتِي عَلَيْكُمْ زَمَانٌ إِلاَّ الَّذِي بَعْدَهُ شَرٌّ مِنْهُ حَتَّى تَلْقَوْا رَبَّكُمْ ، سَمِعْتُهُ مِنْ نَبِيِّكُمْ ". (الموقف الثاني) : موقف الإمام أحمد رحمه الله حين أظهر أمراء بني العباس في زمنه بدعة خلق القرآن وألزموا الناس بها ، فلم يفارق رحمه الله شعار أهل السنة من السمع والطاعة مع النصيحة لهم مع أنهم ضربوه وحبسوه ، ولما جاءه قوم من أهل بغداد أضمروا الخروج ، فقال لهم الإمام(كما في السنة للخلال:1/133) : ليس هذا صواباً ، هذا خلاف الآثار أ.هـ. وناظرهم رحمه الله فكان مما قال : "ولا تخلعوا يداً من طاعة ، ولا تشقوا عصا المسلمين ، ولا تسفكوا دماءكم ودماء المسلمين معكم ، وانظروا في عاقبة أمركم ، واصبروا حتى يستريح برٌّ أو يُستراح من فاجر"أ.هـ. (الموقف الثالث) : هو موقف شيخ الإسلام أحمد بن تيمية الحراني رحمه الله حين نصر حكام عصره عقيدة الأشاعرة الذين آذوه أذية عظيمة لنشره عقيدة أهل السلف الصالح ، ومع ذلك هاهو يقول(الفتاوى:35/13):"وأما أهل العلم والدين والفضل فلا يرخصون لأحد بما نهى الله عنه من معصية ولاة الأمور وغشهم والخروج عليهم بوجه من الوجوه ، كما عرف من عادات أهل السنة والدين قديماً وحديثاً"أ.هـ. (الموقف الرابع) : هو موقف علماء الدعوة السلفية في هذه البلاد الذين مواقفهم أشهر من أن تذكر سابقهم ولاحقهم في نصيحة ولاة الأمر بالتي هي أحسن والدعاء ، وعدم السماح بنشر مثالبهم أو الوقيعة بهم ، منها أنَّ إمام الدعوةِ شيخ الإسلامِ محمد بن عبدِ الوهابِ رحمـه الله لم!ا ذكر أصولاً ستة من أًصولِ وقواعدِ الدينِ ، بدأ بإخلاصِ الدينِ للهِ وحدَه ، ثم أمرِ اللهِ بالإجماعِ في الدينِ ، ثم قال (الدرر السنية:1/173) : "الأصل الثالث : أن من تمام الاجتماع السمع والطاعة لمن تأمر علينا ، ولو كان عبداً حبشياً ؛ فبين الله هذا بياناً شافياً كافياً بوجوه من أنواع البيان شرعاً وقدراً ، ثم صار هذا الأصل لا يعرف عند أكثر من يدعي العلم ، فكيف العمل به ؟!"أ.هـ. ومع الأسف صار موقف أهل السنة والجماعة والسلف الصالح في هذا الباب غريباًً يوصم أصحابه بالتخاذل والضعف أو بالعمالة وبيع الذمة؛ لأن الساحة في بلادنا قد اخترقت على حين غفلة من أمرائها وعلمائها وحسن ظن ، فتربى الكثير من شبابنا على مناهج وافدة منحرفة في عقائدها وسلوكها لأنها لا تنطلق من منطلق علماء هذه البلاد من قواعد شرعية ومصالح مرعية ، وإنما من قواعد وضعها أقوام جهال يظنون أن الخير وعز الأمة فيما وضعوه لأتباعهم من أصول وضوابط مـا أنزل الله بها من سلطان ، ولذا تجد أن شبابنا ودعاتنا المتأثرين بالحزبيات الوافدة يقفون في كل مواقفهم في الصف المقابل لما يقفه علماء هذه البلاد سالكين في إنكارهم للمنكرات التهييج على ولاة الأمر وتحزيب الشباب ضد العلماء ففرقـوا الصف وأضعفوا جانب الدين في البلاد. و انظر لمباينة مواقفهم لمواقف العلماء الكبار في موافقة كل شخص يعادي هذا البلاد ، فإنك ستجدهم سيلتفون حوله ويناصرونه بغض النظر عن موافقتهم لكل ما يقول كما حصل من توزيع لنشرات المسعري والفقيه ومحمد نايف سرور ، وسأذكر نموذجاً واحداًً لرجل يمثل الجهاد غير المنضبط بضوابط الشرع ، هو أسامة بن لادن هداه الله الذي جعل الجهاد الذي شرع لنشر التوحيد هو في التفجير والقتل في بلاد الحرمين وتحرير أرضها من حكامها الذين هم أنصار التوحيد في هذا العصر ، في نفس الوقت الذي سلم منه الوثنيون القبوريون الذين يعيش بلادهم فلا يعرف له سابقة واحدة في نشر التوحيد وإنكار الشرك بينهم ، بل أعلن تقسيم العالم إلى فسطاطين : أحدهما فسطاط إيمان له ومن معه في بلاد الشرك والخرافة ، والفسطاط الآخر هو فسطاط الكفر في سائر العالم ممن أوجب الهجرة عليهم إليه ، وجعل التفجير والإرهاب في بلاد الحرمين من الجهاد في سبيل الله ، فصار حاله كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله عن الخوارج (الفتاوى:19/72) : "لهم خاصتان مشهورتان فارقوا بهما جماعة المسلمين وأئمتهم : أحدهما : خروجهم عن السنة وجعلهم ما ليس بسيئة سيئة أو ما ليس بحسنة حسنة ... الفرق الثاني في الخوارج وأهل البدع : إنهم يكفرون بالذنوب والسيئات ويترتب على تكفيرهم بالذنوب استحلال دماء المسلمين وأموالهم وأن دار الإسلام دار حرب ، ودارهم هي دار الايمان ... فينبغي للمسلم أن يحذر من هذين الأصلين الخبيثين وما يتولد عنهما من بغض المسلمين وذمهم ولعنهم واستحلال دمائهم وأموالهم. وهذان الأصلان هما خلاف السنة والجماعة ، فمن خالف السنة فيما أتت به أو شرعته فهو مبتدع خارج عن السنة ، ومن كفر المسلمين بما رآه ذنباَ سواء كان ديناً أو لم يكن ديناً وعاملهم معاملة الكفار فهو مفارق للجماعة ، وعامة البدع والأهواء إنما تنشأ من هذين الأصلين". وقال رحمه الله (الفتاوى:28/479) : "وقد اتفق أهل العلم بالأحوال أن أعظم السيوف التي سلت على أهل القبلة ممن ينتسب إليها ، وأعظم الفساد الذي جرى على المسلمين ممن ينتسب إلى أهل القبلة إنما هو من الطوائف المنتسبة إليهم فهم أشد ضررًا على الدين وأهله"أ.هـ. ثم نقارن أراءه المنحرفة بموقف العلماء الربانيين السلفيين الذين يعرفون مقاصد الشريعة ويلتزمون حدودها :
1- تكفيره لجميع الدول منها السعودية بلاد التوحيد : قال أسامة بن لادن في مقابلة نشرتها (جريدة الرأي العام الكويتية) (بتاريخ11/11/2001م) : "أفغانستان وحدها دولة إسلامية ، باكستان تتبع القانون الإنكليزي ، وأنا لا أعتبر السعودية دولة إسلامية". وقال في كلمته لأهل العراق (في شهر ذي الحجة 1423هـ) : "كما نؤكد على الصادقين من المسلمين أنه يجب عليهم أن يتحركوا ويحرضوا ويجيشوا الأمة في مثل هذه الأحداث العظام والأجواء الساخنة لتتحرر من عبودية هذه الأنظمة الحاكمة الظالمة المرتدة المستعبدة من أمريكا وليقيموا حكم الله في الأرض ، ومن أكثر المناطق تأهلاً للتحرير ، الأردن والمغرب ونيجيريا وباكستان وبلاد الحرمين واليمن". وقال في شريط: (استعدوا للجهاد) : "ولا شك أن تحرير جزيرة العرب من المشركين هو كذلك فرض عين". وقال في (5/12/1423) لقناة الجزيرة [http://www.aljazeera.net/programs/ho...3/2/2-22-1.htm] : "فخلافنا مع الحكام ليس خلافاً فرعياً يمكن حله ، وإنما نتحدث عن رأس الإسلام ، شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله فهؤلاء الحكام قد نقضوها من أساسها". فما ميزان أقوال ابن لادن الضالة عند العلماء الربانيين ؟ سئل شيخنا العلامة صالح الفوزان : لا يخفى على سماحتكم ما لأسامة بن لادن من تحريض للشباب في العالم ، وأيضا الإفساد في الأرض ، والسؤال : هل يسوغ لنا أن نصفه بأنه من الخوارج ؟ لا سيما وأنه مؤيد للتفجيرات في بلادنا وغيرها ؟ فقال الشيخ(موقع الشيخ: رقم الفتوى 6587) : "كل من اعتنق هذا الفكر فهو من الخوارج ، كل من اعتنق هذا الفكر ودعا إليه وحرٌض عليه فهو من الخوارج بقطع النظر عن اسمه وعن مكانه ، فهذه قاعدة : أن كل من دعا إلى هذا الفكر ، وهو الخروج على ولاة الأمور ، وتكفير المسلمين واستباحة دماء المسلمين فهو من الخوارج"أ.هـ. ويقول سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز(مجموع فتاوى:4/91) : "وهذه الدولة بحمد الله لم يصدر منها ما يوجب الخروج عليها ، وإنما الذي يستبيحون الخروج على الدولة بالمعاصي هم الخوارج ، الـذين يكفرون المسلمين بالذنوب ، ويقاتلون أهل الإسلام ، ويتركون أهل الأوثان ، وقد قال فيهم النبي إنهم: (يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية) ، وقال: (أينما لقيتموهم فاقتلوهم فإن في قتلهم أجراً لمن قتلهم عند الله يوم القيامة) متفق عليه. والأحاديث في شأنهم كثيرة معلومة"أ.هـ. وقال – رحمه الله – (مجموع فتاوى :9/93) :"صارت هذه البلاد مضرب المثل في توحيد الله والإخلاص له ، والبعد عن البدع والضلالات، ووسائل الشرك ... وهذه الدولة السعودية دولة مباركة نصر الله بها الحق ، ونصر بها الدين ، وجمع بها الكلمة ، وقضى بها على أسباب الفساد وأمّن الله بها البلاد ، وحصل بها من النعم العظيمة ما لا يحصيه إلا الله"أ.هـ. ويَقولُ سماحته رحمِهُ الله (محاضرة بعنوان "حقوق ولاة الأمر على الأمـة" - بتأريخ29/4/1417هـ) : "هذا بلاء عظيم وشر عظيم جهلوا الحق وعادوا أهله ، فالعداء لهذه الدولة عـداء للحـق عداء للتوحيد ، أي دولة تقوم بالتوحيد الآن ، أي دولة ؟ من حولنا من جيراننا ؟ مصر والشام والعراق والشام وجميع دول العالم ؟ من هو الذي يدعو للتوحيد الآن ويحكم شريعة الله ويهدم القبور التي تعبد من دون الله ؟ من هم ؟ أين هم ؟ أين الدولة التي تقوم بهذه الشريعة ؟ غير هذه الدولة"أ.هـ. وقال شيخنا محمد بن صالح العثيمين – رحمه الله ـ ( من شريط كشف اللثام– تسجيلات دار بن رجب) : "هؤلاء الذين يكفّرون ؛ هؤلاء ورثة الخوارج الذين خرجوا على علي بن أبي طالب "أ.هـ. ويقول(الفتاوى الشرعية في القضايا العصرية:58) : "لا يوجد ـ الحمد لله ـ مثل بلادنا اليوم في التوحيد وتحكيم الشريعة"أ.هـ. ويقول في خطبـة تفجير الخبر بخط يده : "وإننا وغيرنا من ذوي الخبرة والإنصاف ليعلم أن بلادنا ولله الحمد خير بلاد المسلمين اليوم في الحكم بما أنزل الله ، وفي اجتناب سفاسف الأمور ودمار الأخلاق ؛ ليس في بلادنا ولله الحمد قبور يطاف بها وتعـبد ، وليس فيها خمور تباع علناً وتشرب ، وليس فيها كنائس ظاهرة يعبد فيها غير الله سبحانه جهاراً ، وليس فيها مما هو معلوم في كثير من بلاد المسلمين اليوم ، فهل يليق بناصح لله ورسوله والمؤمنين ، هل يليق به أن ينقل الفتن إلى بلادنا ، إلا فليتقوا الله"أ.هـ.
2- جعله الإرهاب والإجرام في بلاد الحرمين جهاداً : يقول أسامة بن لادن في مقابلة له مع قناة الجزيرة القطرية عن التفجيرات التي وقعت في منطقة العليا من مدينة الرياض [http://www.aljazeera.net/programs/pr.../9-23-1.htm#L5] : "شرف عظيم فاتنا أن لم نكن قد ساهمنا في قتل الأمريكان في الرياض". وقال أيضا : "فأنا أنظر بإجلال كبير واحترام إلى هؤلاء الرجال العظام على أنهم رفعوا الهوان عن جبين أمتنا سواء الذين فجروا في الرياض أو تفجيرات الخبر أو تفجيرات شرق إفريقيا وما شابه ذلك". وقال أيضا : "أنني كنت أحد الذين وقعوا على الفتـوى لتحريض الأمة للجهاد ، وحرضنا منذ بضع سنين ، وقد استجاب كثير من الناس ـ بفضل الله ـ كان منهم الأخوة الذين نحسبهم شهداء ، الأخ عبد العزيز المعثم الذي قتل في الرياض ، ولا حول ولا قوة إلا بالله ، والأخ مصلح الشمراني ، والأخ رياض الهاجري ، نرجو الله - سبحانه وتعالى- أن يتقبلهم جميعاً ، والأخ خالد السعيد ، فهؤلاء اعترفوا أثناء التحقيق أنهم تأثروا ببعض الإصدارات والبيانات التي ذكرناها للناس". فما ميزان أقوال ابن لادن الضالة عند علماء الأمة الربانيين ؟ بعد أن بينت هيئة كبار العلماء في السعودية برئاسة سماحة الشيخ ابن باز أن هذه التفجير محرم شـرعًا بإجماع المسلمين ، قالوا (مجلة البحوث الإسلامية ـ العدد 47 ص 367) : "المجلس إذ يبين تحريم هذا العمل الإجرامي في الشرع المطهر ، فإنه يعلن للعالم أن الإسلام برئ من هذا العمل ، وهكذا كل مسلم يؤمن بالله واليوم الآخر بريء منه ، وإنما هو تصرف من صاحب فكر منحرف وعقيدة ضالة ، فهو يحمل إثمه وجرمه ، فلا يحتسب عمله على الإسلام ولا على المسلمين المهتدين بهدي الإسلام المعتصمين بالكتاب والسنة المستمسكين بحبل الله المتين ، وإنما هو محض إفساد وإجرام تأباه الشريعة والفطرة"أ.هـ. وقال سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز – رحمه الله - بشأن حادث تفجير الرياض (جريدة المدينة في 25/5/1416هـ ، وهي في فتاواه) : "لا شك أن هذا الحادث إنما يقوم به من لا يؤمن بالله واليوم الآخر ، لا تجد من يؤمن بالله واليوم الآخر إيماناً صحيحاً يعمل هذا العمل الإجرامي الخبيث الذي حصل به الضرر العظيم والفساد الكبير ، إنما يفعل هذا الحادث وأشباهه نفوس خبيثة مملوءة من الحقد والحسد والشر والفساد وعدم الإيمان بالله ورسوله نسأل الله العافية والسلامة"أ.هـ. ويقول شيخنا محمد بن عثيمين (لقاء الباب المفتوح في صفر 1417هـ _ وفي شريط "الحادث العجيب في البلد الحبيب) بعدَ حادث التفجير الذي وقع في مدينة الخبر بتاريخ 9/2/1417هـ: "الواجب على طلبة العلم أن يبينوا أن هذا المنهج منهج خبيث ، منهج الخوارج الذين استباحوا دماء المسلمين وكفوا عن دماء المشركين"أ.هـ. بل قال الشيخ عمن يلقون المتفجرات في مجمعات الكفار(شرح أصول التفسير - في الشريط الأول) : "وأعني بهم أولئك الذين يلقون المتفجرات في صفوف الناس زعماً منهم أن هذا من الجهاد في سبيل الله ، والحقيقة أنهم أساؤا إلى الإسلام وأهل الإسلام أكثر بكثير مما أحسنوا. ماذا أنتج هولاء ؟ أسألكم هل أقبل الكفار على الإسلام أو ازدادوا نفرة منه ؟ وأهل الإسلام يكاد الإنسان يغطي وجهه لئلا ينسب إلى هذه الطائفة المرجفة المروعة والإسلام بريء منها ، الإسلام بريء منها. حتى بعد أن فرض الجهاد ما كان الصحابة يذهبون إلى مجتمع الكفار يقتلونهم أبداً إلا بجهاد له راية من ولي قادر على الجهاد. أما هذا الإرهاب فهو والله نقص على المسلمين ، أقسم بالله. لأننا نجد نتائجه ، ما في نتيجة أبدًا ، بل هو بالعكس فيه تشويه السمعة"أ.هـ.
3- الجهل بحرمة العهود وخفره الذمم : قال ابن لادن مخاطباً جميع أبناء لمسلمين(في شريط استعدوا للجهاد): "ليتقدم كل امرئ منهم لقتل هؤلاء اليهود والأمريكان ، فإن قتلهم من أوجب الواجبات ، ومن أعظم القربان ... فلا تشاور أحداً في قتل الأمريكان أمضي على بركة الله ، وتذكر موعودك عند الله سبحانه وتعالى بصحبة خير الأنبياء عليه الصلاة والسلام"أ.هـ. ويقول في كلمته لأهل العراق في (شهر ذي الحجة 1423) : "واعلموا أن استهداف الأميركيين واليهود بالقتل في طول الأرض وعرضها من أعظم الواجبات وأفضل القربات إلى الله تعالى". فهو لا يفرق بين معتدي وغيره ، ولا بين مستأمن وحربي ، وأين هذا من قول الإمام أحمد بن حنبل(مسائل أبي داود:334) : "كلُّ شيء يرى العلج أَنه أمانٌ فهو أمان"أ.هـ. وقول شيخ الإسلام (الصارم المسلول:2/522) : "ومعلوم أن شبهة الأمان كحقيقته في حقن الدماء"أ.هـ. ثم لننظر لميزان أقوال ابن لادن الضالة عند علماء الأمة الربانيين: وقال سماحة الشيخ عبدالعزيز بن باز رداً على الشيخ أحمد شاكر لما أوجب على المسلمين قتل كل إنجليزي حيثما وجدوا مدنيين أو عسكريين لما غزوا مصر(الرسائل المتبادلة بين الشيخ ابن باز والعلماء:595) : "والصواب أن يُستثنى من ذلك من كان من المسلمين رعية لدولة أخرى من الدول المنتسبة للإسلام التي بينها وبين الإنجليز مهادنة ؛ لأن محاربة الإنجليز لمصر لا توجب انتقاض الهدنة التي بينها وبين دولة أخرى من الدول الإسلامية ، ولا يجوز لأي مسلم من رعية الدولة المهادنة محاربة الإنجليز ؛ لعدوانهم على مصر وعدم جلائهم عنها ، والدليل على ذلك قوله ـ سبحانه ـ في حق المسلمين الذين لم يهاجروا : وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلاَّ عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاق ، ومن السنة قصة أبي جندل وأبي بصير لمّا هربا من قريش وقت الهدنة ، والقصة لا تخفى فضيلتكم"أ.هـ. وقال سماحته عن حكم الاعتداء على الأجانب السياح والزوار في البلاد الإسلامية (مجموع الفتاوى 8/239) : "هذا لا يجوز ، الاعتداء لا يجوز على أي أحد ، سواء كانوا سياحاً أو عمالاً ؛ لأنهم مستأمنون ، دخلوا بالأمان" ، وقال (المعلوم من واجب العلاقة بين لحاكم والمحكوم:15): "لا يجوز قتل الكافر المستأمن الذي أدخلته الدولة آمنا " ، وألقى فضيلة شيخنا محمد بن صالح العثيمين -رحمه الله- خطبة على أثر تفجير الخبر فذكر دم المعاهـد وأن سفكه من كبائر الذنوب ؛ لأن من قتله لم يرح رائحة الجنة كما قال ، ثم قال : "وأما المستأمن فقد قال الله عز وجل في كتابه وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ) أي اجعله في حماية منك حتى يبلغ المكان الآمن في بلده. وفي صحيح البخاري ومسلم أن النبي قال: (ذمة المسلمين واحدة يسعى بها أدناهم فمن أخفر مسلمًا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل منه صرف ولا عدل) ومعنى الحديث : أن الإنسان المسلم إذا أمّنَ إنساناً وجعله في عهده فإن ذمته ذمة للمسلمين جميعاً ، من أخفرها وغدر بهذا الذي أعطي الأمان من مسلم فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين ، وإننا لنلعن من لعنه الله ورسوله ملائكته وإنه لا يقبل منه صرف ولا عدل"أ.هـ. وقال الشيخ رحمه الله (لقاء الباب المفتوح في صفر 1417هـ _ وفي شريط "الحادث العجيب في البلد الحبيب) بعدَ حادث التفجير الذي وقع في مدينة الخبر بتاريخ 9/2/1417هـ : "لو قدَّرنا على أسوأ تقدير أن الدولة التي ينتمي إليها هؤلاء الذين قُتِلوا دولة معادية للإسلام , فما ذنبُ هؤلاء, هؤلاء الذين جاؤوا بأمر حكومتهم ، وقد يكون بعضهم جاء عن كره , ولا يريد الاعتداء"أ.هـ.
3- طعونه بأئمة الدين لجهله : قال أسامة بن لادن يخاطب إمام أهل السنة في هذا العصر الشيخ ابن باز في خطابه الذي بتاريخ (27/07/1415هـ) الصادر من هيئة النصيحة بلندن: "ونحن سنذكركم ـ فضيلة الشيخ ـ ببعض هذه الفتاوى والمواقف التي قد لا تلقون لها بالاً ، مع أنها قد تهوي بها الأمة سبعين خريفًا في الضلال". ثم قال في خطابه الآخر بتاريخ (28/8/1415هـ) محذراً الأمة من فتاوى الإمام ابن باز -: "ولذا فإننا ننبه الأمة إلى خطورة مثل هذه الفتاوى الباطلة وغير مستوفية الشروط". وقال في موضع آخر : "إن علة المسلمين اليوم ليست في الضعف العسكري ، ولا في الفقر المادي ، وإنما علتهم خيانات الحكام ، وتخاذل الأنظمة وضعف أهل الحق ، وإقرار علماء السلطان لهذا الوضع وركونهم إلى الذين ظلموا من حكام السوء وسلاطين الفساد". وقال : "فقد سبق لنا في ( هيئة النصيحة والإصلاح) أن وجهنا لكم رسالة مفتوحة في بياننا رقم (11) وذكرناكم فيها بالله ، وبواجبكم الشرعي تجاه الملة والأمة ، ونهيناكم فيها على مجموعة من الفتاوى والمواقف الصادرة منكم والتي ألحقت بالأمة والعاملين للإسلام من العلماء والدعاة أضراراً جسيمة عظيمة". وقال : "فضيلة الشيخ لقد تقدمت بكم السن ، وقد كانت لكم أياد بيضاء في خدمة الإسلام سابقًا ، فاتقوا الله وابتعدوا عن هؤلاء الطواغيت والظلمة الذين أعلنوا الحرب على الله ورسوله". فسبحان الله! كيف يفعل الهوى بصاحبه إذا جمع مع الهوى جهلاً ؟ كيف ينصب صاحبه لمحاربة أهل العلم ووصمهم بأقذع الأوصاف ؟ وصدق ابن القيم رحمه الله حين قال (مدارج السالكين :3/335) : "ولا يكون وليُّ لله كامل الولاية من غير أولي العلم أبداً ، فما اتخذ الله ولا يتخذ وليّا جاهلاً ، والجهل رأس كل بدعة وضلالة ونقص ، والعلم أصل كل خير وهدى ، وهؤلاء الجهلة الذين جمعوا بين الجهل بما جاء به والظلم بإتباع أهوائهم الذين قال الله تعالى فيهم: إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الأَنفُسُ وَلَقَدْ جَاءهُم مِّن رَّبِّهِمُ الْهُدَى"أ.هـ. وأما سماحة الشيخ فقد نصح أسامة وأمثاله حين قال(فتاواه:9/ 93) "ونصيحتي للمسعري والفقيه وابن لادن وجميع من يسلك سبيلهم أن يدَعوا هذا الطريق الوخيم ، وأن يتقوا الله ويحذروا نقمته وغضبه ، وأن يعودوا إلى رشدهم ، وأن يتوبوا إلى الله مما سلف منهم ، والله سبحانه وعد عباده التائبين بقبول توبتهم والإحسان إليهم" ، وقال – رحمه الله – لما تبين أمره كما في (جريدة المسلمون -9/5/ 1417): "أسامة بـن لادن : من المفسدين في الأرض ، ويتحرى طرق الشر الفاسدة ، وخرج عن طاعة ولي الأمر"أ.هـ.
باب الجهاد كغيره من أبواب الشريعة لا مدخل للاجتهاد فيه إذا جاء النص عن الله ورسوله ؛ فقد منع الإسلام أشد المنع قتل بعض الكفرة وجعل قتلهم من أعظم الذنوب والخطايا ، وأوجب إراقة دماء بعض المسلمين لبغيهم وعدوانهم وجعل قتلهم من أعظم القربات عند الله سبحانه ، وليس للمسلم في ذلك إلا محض التسليم والأتباع ، ولذا فالناس في هذا الباب على قسمين :
القسم الأول : المعصوم دمه من الكفار ثلاثة أقسام : الأول : الذمي الذي أقام بدار الإسلام إقامة دائمة بأمان مؤبّد يجري عليه حكم الإسلام. الثاني : المعاهد المقيم بداره وبينه وبين أهل الإسلام عهد فلا يجري عليه أحكام الإسلام. الثالث : المستأمن : وهو الكافر الحربي الذي يدخل دار الإسلام بغير استيطان بأمانٍ مؤقت. بل حتى في الحرب لو فهم الكافر الأمان حرم دمه ، ولذا أنكر النبي على أسامة وخالد قتل المتعوذين في الحرب ، قال شيخ الإسلام (الصارم المسلول:1/408) : "الحربي إذا قُلتَ له أو عَمِلتَ معه ما يعتقد أنه أمانٌ صار له أمانٌ"أ.هـ. فهولاء الكفار يحرم الاعتداء عليهم لتقدم الأمان لهم من المسلمين أو بعضهم لهم ، قال الشوكاني (نيل الأوطار:7/155) : "المعاهد : هو الرجل من أهل دار الحرب يدخل إلى دار الإسلام بأمان ، فيحرم على المسلمين قتله بلا خلاف بين أهل الإسلام حتى يرجع إلى مأمنه ، ويدل على ذلك أيضاً قوله تعالى: وَإِنْ أَحَدٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ. (*) وقد جاء الوعيد لمن تعرض لدماء هؤلاء الكفار من ثلاثة أوجه : (الأول) : أنه بغير حق ؛ قال تعالىوَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ، وروى البخاري قال : "لن يزال المؤمن في فُسْحةٍ من دينه ما لم يُصب دماً حراماً" ، قال القرطبي في تفسير الآية (أحكام القرآن:7/133) : "وهذه الآية نهي عن قتل النفس المحرمة ، مؤمنةً كانت أو معاهدةً إلا بالحق الذي يوجب قتلها مما في كتاب الله وسنة رسوله "أ.هـ. (الثاني) : أنه غدر كما روى البخاري قَالَ : "مَنْ قَتَلَ مُعَاهَدًا لَمْ يَرِحْ رَائِحَةَ الْجَنَّةِ". وصحح الحاكم وابن حبان عنه قال :"أيُّمَا رَجُلٍ أمَّنَ رَجُلاً عَلَى دَمِهِ ثَمَّ قَتَلَهُ , فَأَنَا مِن القاتِلِ بَرِيءٌ , وَإنْ كَانَ المَقْتُولُ كَافِراً". وروى أبو داود قَالَ : "الإِيمَانُ قَيَّدَ الْفَتْكَ لاَ يَفْتِكُ مُؤْمِنٌ" ، قال البغوي(شرح السنة:11/45) : "والفتك أن يُقتل مَن له أمان فجأة"أ.هـ. وروى الشيخان قَالَ : الْغَادِر يُرْفَعُ لَهُ لِوَاءٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُقَالُ هَذِهِ غَدْرَةُ فُلاَنِ بْنِ فُلاَنٍ" ، وبوب عليه أبو داود فقال : {بَاب فِي الْوَفَاءِ بِالْعَهْدِ}. (الثالث) : أنه خفرٌ لذمة المسلم ، روى الشيخان قَالَ النَّبِيُّ : "وَذِمَّةُ الْمُسْلِمِينَ وَاحِدَةٌ يَسْعَى بِهَا أَدْنَاهُمْ ، فَمَنْ أَخْفَرَ مُسْلِمًا فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلاَئِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ لاَ يُقْبَلُ مِنْهُ صَرْفٌ وَلاَ عَدْلٌ" ، وروى البخاري في باب [أَمَانِ النِّسَاءِ وَجِوَارِهِنَّ] قال لأم هانئ لمّا أجارت حربياً في فتح مكة : "قَدْ أَجَرْنَا مَنْ أَجَرْتِ يَا أُمَّ هَانِئٍ". قال ابن القيم(أحكام أهل الذمة:3/1441) : "فإنَّ الأمان يجـوز عقده لكل كافر ، ويعقده كل مسلم ، ولا يشترط على المستأمـن شيء من الشروط ، والذمة لا يعقدها إلاَّ الإمام أو نائبه"أ.هـ
القسم الثاني : المباح دمه من أهل القبلة ثلاثة أقسام : الأول : قطاع الطرق وهم قوم امتنعوا من طاعة الإمام وخرجوا عن قبضته بغير تأويل فهؤلاء. الثاني : البغاة وهم قوم يخرجون عن الإمام يريدون خلعه لتأويل وفيهم منعة يحتاج في كفهم إلى جمع الجيش ، فيجب على الناس معونة إمامهم في قتالهم. الثالث : الخوارج الذين يكفرون بالذنب ويستحلون دماء المسلمين وأموالهم إلا من خرج معهم ، ولذا قال عنهم فيما روى البخاري : (فَأَيْنَمَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاقْتُلُوهُمْ فَإِنَّ قَتْلَهُمْ أَجْـرٌ لِمَنْ قَتَلَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) ، وروى مسلم قال : (هُمْ شَرُّ الْخَلْقِ وَالْخَلِيقَةِ لَئِنْ أَدْرَكْتُهُمْ لأَقْتُلَنَّهُمْ قَتْلَ عَادٍ). ورجح شيخ الإسلام ابن تيمية أن قتال الخوارج ليس كقتال البغاة فقال (مجموع الفتاوى:28/518) : "فكلام علي وغيره في الخوارج يقتضى أنهم ليسوا كفاراً كالمرتدين عن أصل الإسلام ، وهذا هو المنصوص عن الأئمة كأحمد وغيره ، وليسوا مع ذلك حكمهم كحكم أهل الجمل وصفين ، بل هم نوع ثالث وهذا أصح الأقوال فيهم"أ.هـ. وسبب قتال هؤلاء لأن الأمن مطلب شرعي لحصول التكاليف الشرعية ، وركيزة أساسية وقاعدة عظمى تستند عليها الحياة البشرية ، ولذا قال تعالى : إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُواْ أَوْ يُصَلَّبُواْ أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الأَرْضِ ، قال الطبري (تفسيره4/546) : "المحارب لله ورسوله من حارب في سابلة المسلمين وذمتهم ، والمغير عليهم في أمصارهم وقراهم حرابة"أ.هـ. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية (مجموع الفتاوى:28/470) : "فكل من امتنع من أهل الشوكة عن الدخول في طاعة الله ورسوله فقد حارب الله ورسوله ، ومن عمل في الأرض بغير كتاب الله وسنة رسوله فقد سعى في الأرض فساداً ، ولهذا تأول السلف هذه الآية على الكفار وعلى أهل القبلة حتى أدخل عامة الأئمة فيها قطاع الطريق الذين يشهرون السلاح لمجرد أخذ الأموال وجعلوهم بأخذ أموال الناس بالقتال محاربين لله ورسوله ساعين في الأرض فساداً ، وإن كانوا يعتقدون تحريم ما فعلوه ويقرون بالإيمان بالله ورسوله ، فالذي يعتقد حل دماء المسلمين وأموالهم ويستحل قتالهم أولى بأن يكون محارباً لله ورسوله ساعياً في الأرض فساداً من هؤلاء"أ.هـ.
سابعاً : ضوابط لمشروعية الجهاد
الضابط الأول : لا جهاد إلا لتحقيق التوحيد وإعداد القوة الإيمانية قبل القوة الحسية : روى البخاري في صحيحه في كتاب الجهاد :{بَاب عَمَلٌ صَالِحٌ قَبْلَ الْقِتَالِ} : عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ : إِنَّمَا تُقَاتِلُونَ بِأَعْمَالِكُمْ. ويقول وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً ، قال الشيخ السعدي في تفسيره الآية : "ولا يزال الأمر إلى قيام الساعة ، مهما قاموا بالإيمان والعمل الصالح ، فلا بد أن يوجد ما وعدهم الله ، وإنما يسلط عليهم الكفار والمنافقين ، ويديلهم في بعض الأحيان ، بسبب إخلال المسلمين بالإيمان والعمل الصالح"أ.هـ. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية (الجواب الصحيح:6/450) : "وحيث ظهر الكفار ، فإنما ذاك لذنوب المسلمين التي أوجبت نقص إيمانهم ، ثم إذا تابوا بتكميل إيمانهم نصرهم الله"أ.هـ. (*) ولذا انحرف مفهوم الجهاد عند البعض في العصور المتأخرة من وجهين : (الأول) أنه لم يكن تحقيق التوحيد الذي شرع من أجله الجهاد ذا بال عندهم ، ويظنون مع هذا أنهم سينتصرون على عدوهم ، أقوامٌ صارت البدع والبناء على القبور في المساجد والطواف بها وسؤالها من دون الله دينهم ، وتجد من يقاتل معهم فلا ينبههم بحجة أن الوقت ليس وقت دعوة ؟!! فأي جهاد هذا ؟ يقول شيخ الإسلام ابن تيمية (الرد على البكري:2/731) : "حتى إن العدو الخارج عن شريعة الإسلام لما قدم دمشق خرجوا يستغيثون بالموتى عند القبور التي يرجون عندها كشف ضرهم ، وقال بعض الشعراء : يا خائفين من التتر .. لوذوا بقبر أبي عمر ، أو قال : عوذوا بقبر أبي عمر .. ينجيكم من الضرر. فقلت لهم : هؤلاء الذين تستغيثون بهم لو كانوا معكم في القتال لانهزموا كما انهزم من انهزم من المسلمين يوم أحد ... ولهذا كان أهـل المعرفة بالدين والمكاشفة لم يقاتلوا في تلك المرة لعدم القتال الشرعي الذي أمر الله به ورسوله ، ولما يحصل في ذلك من الشر والفساد وانتفاء النصرة المطلوبة من القتال فلا يكون فيه ثواب الدنيا ولا ثواب الآخرة لمن عرف هذا وهذا ... فلما كان بعد ذلك جعلنا نأمر الناس بإخلاص الدين لله عز وجل والاستغاثة به ، وأنهم لا يستغيثون إلا إياه لا يستغيثون بملك مقرب ولا نبي مرسل ... فلما أصلح الناس أمورهم وصدقوا في الاستغاثة بربهم نصرهم على عدوهم نصراً عزيزاً ، ولم تهزم التتار مثل هذه الهزيمة قبل ذلك أصلاً لما صح من تحقيق توحيد الله تعالى وطاعة رسوله ما لم يكن قبل ذلك"أ.هـ. (الثاني) : تجد بعض المتحمسين مع هذا الانحراف يجرون الأمة إلى معارك هي الطرف الأضعف عدداً وعدة مخالفين بذلك قوله تعالى : وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ ، ويقول العلامة الألباني -رحمه الله-(سلسلة الهدى والنور - شريط790 - بعنوان رد شبهات مدعي الجهاد) : "يظنون أن المسألة مسألة نجمع مائة شخص ألف شخص ألفين شخص ونُحَمِّسْهُم على الجهاد في سبيل الله ، ثم ليس في استطاعتهم أن يصنعوا إِبْرَة لِيُرَتِّقوا الفَتْقَ في ثيابهم .. فضلاً أن يصنعوا سلاحاً يقاتلون عدوَّهم ، أين هذا الاستعداد المأمور به في القرآن ؟"أ.هـ. وقال شيخنا العلامة محمد العثيمين (شرح بلوغ المرام من كتاب الجهاد الشريط الأول الوجه-أ). ولهذا لو قال لنا قائل : الآن لماذا لا نحارب أمريكا وروسيا وفرنسا وانجلترا ؟ لماذا ؟ لعدم القدرة الأسلحة التي قد ذهب عصرها عندهم هي التي في أيدينا وهي عند أسلحتهم بمنزلة سكاكين الموقد عند الصواريخ ما تفيد شيئاً فكيف يمكن أن نقاتل هؤلاء ؟ ولهذا أقول : إنه من الحمق أن يقول قائل : أنه يجب علينا أن نقاتل أمريكا وفرنسا وانجلترا وروسيا كيف نقاتل هذا تأباه حكمة الله عز وجل ويأباه شرعه لكن الواجب علينا أن نفعل ما أمر الله به عز وجلَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ ، هذا الواجب علينا أن نعد لهم ما استطعنا من قوة ، وأهم قوة نعدها هو الإيمان والتقوى"أ.هـ.
الضابط الثاني : لا جهاد طلب إلا بإذن الإمام ولا دفع إذا أمكن استئذانه : دلَّ عليه الكتاب والسنة واعتقاد أهل السنة على أن أمر الجهاد في الإسلام موكلٌ إلى الأئمة لما يترتب على نتائجه من خطر على مصير الأمة : أما الكتاب : فقد قال الله تعالى : أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلإِ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ مِن بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُواْ لِنَبِيٍّ لَّهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكاً نُّقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ، قال البيضاوي(1/539) :"أقم لنا أميراً ننهض معه للقتال يدبر أمره ونصدر فيه عن رأيه" ، ويقول الله تعالى : وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوه[النور:62] ، قال البغوي(تفسيره:1/66) : "قال أهل العلم : وكذلك كل أمر اجتمع عليه المسلمون مع الإمام لا يخالفونه ولا يرجعون عنه إلا بإذن"أ.هـ. وأما السنة : فقد كان الجهاد منذ شرع بيد النبي كما سيأتي بيانه قريباً ، وروى الشيخان قال : "مَنْ يَعْصِ الأَمِيرَ فَقَدْ عَصَانِي ، وَإِنَّمَا الإِمَامُ جُنَّةٌ يُقَاتَلُ مِنْ وَرَائِهِ ، وَيُتَّقَى بِهِ". قال النووي (شرح مسلم:12/230) في معنى كون الإمام جنة : "أي كالستر ؛ لأنه يمنع العدو من أذى المسلمين ، ويمنع الناس بعضهم من بعض ، ويحمي بيضة الإسلام ، ويتقيه الناس ويخافون سطـوته ، ومعنى يقاتل من ورائه : أي يقاتل معه الكفار والبغاة والخوارج وسائر أهل الفساد والظلم"أ.هـ. وأما اعتقاد أهل السنة : فإنه لا يعلم في عهد الخلفاء الراشدين والصحابة من خـرج مجاهداً بغير إذن إمامه أو بدون رايته ، والخروج عن سبيلهم خروج عن سبيل المؤمنين. وقد نص العلماء رحمهم الله على أن من أصول أهل السنة والجماعة مضي الجهاد تحت راية الأئمة برهم وفاجرهم : قال الحطاب المالكي (مواهب الجليل) : قال مالك عن العدو ينزل بالمسلمين : "إن كان الوالي قريباً منهم أن يستأذنوه في قتالهم قبل أن يقاتلوهم , وإن كان بعيداً لم يتركوهم حتى يقعوا بهم"أ.هـ. قال الإمام أحمد ( مسائل عبدالله:2/258) عمن خرجوا بغير إذن الإمام : "لا , إلا أن يأذن الإمام , إلا أن يكون يفاجئهم أمرٌ مِن العدو ولا يُمكِنُهم أن يستأذنوا الإمام". قال ابن قدامة (المغنى:8/354) : "وأمر الجهاد موكول إلى الإمام ويلزم الرعية طاعته فيما يراه من ذلك"أ.هـ. وقال الطحاوي (العقيدة الطحاوية:1/49) : "والحج والجهاد ماضيان مع أولي الأمر من المسلمين برهم وفاجرهم إلى قيام الساعة"أ.هـ. وقال شيخ الإسلام حاكياً مذهب أهل السنة والجماعة (في الواسطية) : "ويرون إقامة الحج والجهاد والجمع مع الأمراء أبراراً كانوا أو فجاراً". ويؤيد كلام هؤلاء الأئمة في وجوب استئذان الإمام في جهاد الدفع إذا أمكن دون ضرر فضلاً عن جهاد الطلب ما قدمنا في معركتي الخندق وأحد اللتين هما جهاد دفع : (1) يقول في غزوة الأحزاب وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِّنْهُمُ النَّبِيَّ ، وروى مسلم قال لحذيفة : "اذْهَبْ فَأْتِنِي بِخَبَرِ الْقَوْمِ وَلاَ تَذْعَرْهُمْ عَلَيَّ" رواه مسلم ، وفي لفظ أحمد "وَلاَ تُحْدِثَنَّ شَيْئًا". وفيه قال: "فَرَأَيْتُ أَبَا سُفْيَانَ يَصْلِي ظَهْرَهُ بِالنَّارِ ، فَوَضَعْتُ سَهْمًا فِي كَبِدِ الْقَوْسِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَرْمِيَهُ ، فَذَكَرْتُ قَوْلَ رَسُولِ اللَّهِ [وَلاَ تَذْعَرْهُمْ عَلَيَّ] ، وَلَوْ رَمَيْتُهُ لأَصَبْتُهُ". وفي مسلم عن أَبِي سَعِيدٍ في قصة فَتًى حَدِيثُ عَهْدٍ بِعُرْسٍ ، قال : "فَخَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ إِلَى الْخَنْدَقِ ، فَكَانَ ذَلِكَ الْفَتَى يَسْتَأْذِنُ رَسُولَ اللَّهِ بِأَنْصَافِ النَّهَارِ فَيَرْجِعُ إِلَى أَهْلِهِ". (2) في غزوة أحد قال النبي للرماة :"إِنْ رَأَيْتُمُونَا تَخْطَفُنَا الطَّيْرُ فَََلاَ تَبْرَحُوا مَكَانَكُمْ هَذَا حَتَّى أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ" ، بوّب عليه البخاري {بَاب مَا يُكْرَهُ مِنْ التَّنَازُعِ وَالاخْتِلاَفِ فِي الْحَرْبِ وَعُقُوبَةِ مَنْ عَصَى إِمَامَهُ} ، قال ابن حجر (فتح الباري:6/163) : "قوله (وعقوبة من عصى أمامه) أي بالهزيمة وحرمان الغنيمة"أ.هـ. فهذه الأحاديث تدل على وجوب استئذان الإمام حتى في جهاد الدفع وعقوبة مخالفته ، وأن محل سقـوط إذنه حيث هجم عدو على ناحية ، فيكون باستئذانه تفويت المصلحة الشرعية المتحققة في الدفع ، وهذه ربما تكون شبه معدومة في عصرنا لتطور وسائل الاتصال في الجيوش الحديثة ، فإذا كان ذلك كذلك فلا يتأتى ما ذكره الفقهاء رحمهم الله. تنبيه : يتتبع بعض الناس شذوذات لبعض الفقهاء ذكروا فيها عدم اشتراط إذن الإمام في الجهاد ، ويهمل هؤلاء لهوى ما تواتر عند أهل السنة في كتب العقائد قولهم "والجهاد ماض مع الأمراء برهم وفاجرهم" ، ولذ قال شيخ الإسلام ابن تيمية وذكر جهاد الخوارج وأنه لا يقوم به إلا ولاة الأمور (منهاج السنة النبوية:6/118): "وقد اتفقت الصحابة على قتالهم ولا خلاف بين علماء السنة أنهم يقاتلون مع أئمة العدل ، مثل أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ، لكن هل يقاتلون مع أئمة الجور ؟ فنقل عن مالك أنهم لا يقاتلون ، وكذلك قال فيمن نقض العهد من أهل الذمة لا يقاتلون مع أئمة الجور ، ونقل عنه أنه قال ذلك في الكفار ، وهذا منقول عن مالك وبعض أصحابه ، ونقل عنه خلاف ذلك وهو قول الجمهور ، وأكثر أصحابه خالفوه في ذلك وهو مذهب أبي حنيفة والشافعي وأحمد ، وقالوا : يغزى مع كل أمير براً كان أو فاجراً إذا كان الغزو الذي يفعله جائزاً ، فإذا قاتل الكفار أو المرتدين أو ناقضي العهد أو الخوارج قتالاً مشروعاً قوتل معه ، وإن قاتل قتالاً غير جائز لم يقاتل معه ، فيعاون على البر والتقوى ولا يعاون على الإثم والعدوان"أ.هـ.
الضابط الثالث : لابد من مرجعية شرعية يفرق بها بين الجهاد الشرعي والبدعي : الجهاد مرجعه للدليل الشرعي لا للعاطفة والغيرة ، لمّا صالح النبي الكفار في شروط منها تسليم بعض المسلمين للكفار ، لم يتحمل أكثر الصحابة مثل هذه الشروط حتى قال سَهْلُ بْنُ حُنَيْفٍ : "اتَّهِمُوا رَأْيَكُمْ ؛ رَأَيْتُنِي يَوْمَ أَبِي جَنْدَلٍ ، وَلَوْ أَسْتَطِيعُ أَنْ أَرُدَّ أَمْرَ النَّبِيِّ لَرَدَدْتُهُ" رواه الشيخان ، ولمَا ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية أن الذي حملهم على ذلك بغض ظهور الكفر على الإيمان قال (المنهاج:8/409) : "لكن معلوم وجوب تقديم النص على الرأي ، والشرع على الهوى"أ.هـ. وقد جعل الله تعالى المرجعية في الجهاد لأهل العلم بالدليل من ورثة الرسل كما قال تعالى في سياق السرايا والمغازيوَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ ، قال الشوكاني(فتح القدير:1/741) : "وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ ، وهم أهل العلم والعقول الراجحة الذين يرجعون إليهم في أمورهم ، أو هم الولاة عليهم لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ أي : يستخرجونه بتدبيرهم وصحة عقولهم"أ.هـ. وقال تعالى في نفس السياق فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ ، قال ابن القيم(إعلام الموقعين:2/252) : "جعل قيام الدين بهذين الفريقين ، وهم الأمراء والعلماء ؛ أهل الجهاد وأهل العلم ، فالنافرون يجاهدون عن القاعدين ، والقاعدون يحفظون العلم للنافرين ، فإذا رجعوا من نفيرهم استدركوا ما فاتهم من العلم"أ.هـ. وقال العلامة ابن عاشور(التحرير والتنوير:1/1922) : "فإن اتساع الفتوح وبسالة الأمة لا يكفيان لاستبقاء سلطانها إذا هي خلت من جماعة صالحة من العلماء والساسة وأولي الرأي المهتمين بتدبير ذلك السلطان"أ.هـ. ولذلك بيَّن شيخ الإسلام ابنُ تيمية أنَّ خواصَّ أهل العلم هم من يبين وقت مشروعيَّة الجهاد من عدمه ، فقال (منهاج السنة:4/405) : "وفي الجملةِ فالبحثُ في هذه الدقائق من وظيفة خواصِّ أهل العلم"أ.هـ. فعلى الحريص على نصرة الإسلام لا يجعل عاطفته هي المقياس دون النظر في الأدلة كلها على ضوء القواعد الكلية ، مع النظر في عواقب الأمور التي لا يحسنها في الغالب إلا من آتاه الله الرسوخ في العلم والفهم من ورثة الرسول من أهل العلم ، ولنذكر نموذجين من السنة تبين أن الجهاد بلا علم الوحي يكون انحرافاً أو فساداً :
(1) أن الجهاد قد يكون بمخالفة السنة بدعياً : ففي زماننا هذا ضلَّ قوم فجعلوا الجهاد هو استحلال دماء المسلمين والتفجير ببلادهم كما فعلت الخوارج الأولون الذي قال فيهم : "يَقْتُلُونَ أَهْلَ الإِسْلامِ وَيَدَعُونَ أَهْلَ الأَوْثَانِ" ، فهم الذي قاتلوا أصحاب رسول الله ، وقالـوا معرضين بكفر علي بن أبي طالب "لا حكم إلا الله" ، فمرجع هؤلاء الأهواء دون أهل العلم الراسخين فيه الذين أمر الله بالرد إليهم ، وجعل الرجوع إليهم قسيماً للجهاد ؛ قال ابن القيم عنهم(إعلام الموقعين:2/305) : "فاشتركوا هم والرافضة في رد المحكـم من النصوص وأفعال المؤمنين بالمتشابه منها ، فكفروهم وخرجوا عليهم بالسيف يقتلون أهل الإيمان ويدعون أهل الأوثان ، ففساد الدنيا والدين من تقديم المتشابه على المحكم ، وتقديم الرأي على الشرع والهوى على الهدى"أ.هـ. (2) أن الجهاد بالتأويل المقابل للنص يكون خطأ : ففي الصحيحين رجلاً أوجع في المسلمين ثم قال كلمة التوحيد لمّا غشاه السيف ، فكف عنه الأنصاري وطعنه أسامة ، فقال له : "فَكَيْفَ تَصْنَعُ بِلاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ إِذَا جَاءَتْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ". وفي البخاري أيضاً أَنَّ خالداً قَتل من لم يحسنوا أن يقولوا أسلمنا ، فقالوا : صبأنا ، وامتنع ابن عمر عن قتل أسيره، فَرَفَعَ النَّبِيُّ يَدَهُ فَقَالَ : اللَّهُمَّ إِنِّي أَبْرَأُ إِلَيْكَ مِمَّا صَنَعَ خَالِدٌ مَرَّتَيْنِ". فالنبي جعل فعل أسامة وخالد من الجهاد غير المشروع فتبرأ منه ؛ لأنه اجتهـاد في مقابل النص ، في الوقت الذي منع العلم الأنصاري وابن عمر عن الدم المعصوم بعصمة الدليل ، قال ابن حجر (ص:13/182) : "قوله (اللَّهُمَّ إِنِّي أَبْرَأُ إِلَيْكَ مِمَّا صَنَعَ خَالِدٌ) يعني من قتله الذين قالوا : صبأنا قبل أن يستفسرهم عن مرادهم بذلك القول ، فإن فيه إشارة إلى تصويب فعل ابن عمر ومن تبعه في تركهم متابعة خالد على قتل من أمرهم بقتلهم من المذكورين"أ.هـ.
الضابط الرابع : يباح في جهاد الدعوة أو الدفع عقد الصلح والهدنة مع الكفار : فقد أباح الإسلام معاهدة الكفار إذا كان في ذلك جلب مصلحة أو دفع ضرر عنهم خصوصاً عند الضعف ، وأوجب حفظ العهد الذي بيننا وبينهم ، (1) قال تعالى : وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ : قال ابن كثير(التفسير:2/322) : "فأما إذا كان العدوّ كثيفاً فإنه يجوز مهادنتهم كما دلت الآية الكريمة: وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ. (2) وكما فعل النبي يوم الحديبية لما صالح كفار مكة على وضع الحرب عشر سنين ، فبوب عليه البخاري {بَاب الشُّرُوطِ فِي الْجِهَادِ وَالْمُصَالَحَةِ مَعَ أَهْلِ الْحَرْبِ} ، وابن حبان {ذِكْرُ مَا يُسْتَحَبُّ لِلإِمَامِ اسْتِعْمَالُ المُهَادَنَةُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَعْدَاءِ اللهِ إِذَا رَأَى بِالمُسْلِمِيْنَ ضَعَفًا يَعْجَزُوْنَ عَنْهُمْ} ، ويقول ابن القيم(زاد المعاد:3/304): "يجوز ابتداء الإمام بطلب صلح العدو إذا رأى المصلحة للمسلمين فيه ، ولا يتوقف ذلك على أن يكون ابتداء الطلب منهم"أ.هـ. وقال ابن قدامة (المغني:10/509) : "ومعنى الهدنة أن يعقد لأهل الحرب عقداً على ترك القتال مدة بعوضٍ وبغيرِ عوضٍ ، وتسمى مهادنة وموادعة معاهدة ، وذلك جائز بدليل قول الله تعالى: بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ، وقال سبحانهوَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا ، وروى مروان ومسور بن مخرمة أن النبي صالح سهيل بن عمرو بالحديبية على وضع القتال عشر سنين ، ولأنه قد يكون بالمسلمين ضعف فيهادنهم حتى يقوى المسلمون ، ولا يجوز ذلك إلا للنظر للمسلمين ، إما : أن يكون بهم ضعف عن قتالهم ، وإما أن يطمع في إسلامهم بهدنتهم ، أو في أدائهم الجزية والتزامهم أحكام الملة ، أو غير ذلك من المصالح"أ.هـ. قال الشيخ عبد العزيز بن باز (مجموع فتاوى:8/212): "تجوز الهدنة مع الأعداء مطلقة ومؤقتة إذا رأى ولي الأمر المصلحة في ذلك لقوله تعالى: وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ[الأنفال:61] ، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم فعلهما جميعاً، كما صالح أهل مكة على ترك الحرب عشر سنين يأمن فيها الناس ، ويكف بعضهم عن بعض ، وصالح كثيراً من قبائل العرب صلحاً مطلقاً"أ.هـ.
الضابط الخامس : لا جهاد في دار الإسلام وإنما فتنة وإفساد : من عقيدة أهل السنة والجماعة أن الدار دار إسلام إذا كان أهلها مسلمون تظهر فيهم شعائر الإسلام التي من أعظمها الأذان وإقامة الصلاة ، يحرم بذلك دماءهم وأموالهم وأعراضهم ، فمن حمل عليهم السلاح فليس منهم كما ثبت عـن النبي ، وقد بوّب البخاري ـ رحمه الله ـ {بَاب مَا يُحْقَنُ بِالأَذَانِ مِنْ الدِّمَاءِ} ، فأورد حديث أنَسِ بْنِ مَالِكٍ قالَ : أَنَّ النَّبِيَّ كَانَ إِذَا غَزَا بِنَا قَوْمًا لَمْ يَكُنْ يَغْزُو بِنَا حَتَّى يُصْبِحَ وَيَنْظُرَ ، فَإِنْ سَمِعَ أَذَانًا كَفَّ عَنْهُمْ وَإِنْ لَمْ يَسْمَعْ أَذَانًا أَغَارَ عَلَيْهِمْ". قال حافظ المغرب أبو عمر ابن عبد البر(التمهيد:13/276) : "وكان في غزواته إذا سمع أذاناً كف ، وعلم أنها دار إيمان ، وإذا لم يسمعه أغار وكان يأمر سراياه بذلك". وقال شيخ الإسلام ابن تيمية (مجموع الفتاوى:3/283) : "والأصل أن دماء المسلمين وأموالهم وأعراضهم محرمة من بعضهم على بعض لا تحل إلا بإذن الله ورسوله ؛ قال النبي لما خطبهم في حجة الوداع : (إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في بلدكم هذا في شهركم هذا)"أ.هـ. وقد خالف الخوارج أهل السنة والجماعة فجعلوا الدار دار كفر بالذنوب وحولوا الجهاد إلى بلاد الإسلام بدل بلاد الكفر ، فقتلوا أهل الإسلام وتركوا أهل الأوثان ، قال الإمام أبو بكر الإسماعيلي (اعتقاد أهل السنة:51) ناقلاً اعتقاد أهل السنة : "ويرون أنَّ الدار دار إسلام لا دار كفر ، كما رأته المعتزلة ، ما دام النداء بالصلاة والإقامة بها ظاهرين ، وأهلها ممكنين"أ.هـ. ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية (مجموع الفتاوى:19/72) وذكر علامة الخوارج: "أنهم يكفرون بالذنوب والسيئات ، ويترتب على تكفيرهم بالذنوب استحلال دماء المسلمين وأموالهم ، وأن دار الإسلام دار حرب ، ودارهم هي دار الإيمان"أ.هـ. وقال ـ رحمه الله ـ (النبوات:1/140) : "باينوا المسلمين في الدار وسموا دارهم دار الهجرة ، وكانوا كما وصفهم النبي يقتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان "أ.هـ. وقال سماحة الشيخ ابن باز رحمه الله(مجموع فتاوى:4/91) : "وهذه الدولة بحمد الله لم يصدر منها ما يوجب الخروج عليها ، وإنما الذي يستبيح الخروج على الدولة بالمعاصي هم الخوارج الذين يكفرون المسلمين بالذنوب ، ويقاتلون أهل الإسلام ، ويتركون أهل الأوثان ، وقد قال فيهم النبي : (إنهم يمرقون من الإسـلام كما يمرق السهـم من الرمية) ، وقال : (أينما لقيتموهم فاقتلوهم فإن في قتلهم أجراً لمن قتلهم عند الله يوم القيامة) متفق عليه ، والأحاديث في شأنهم كثيرة معلومة". وقال شيخنا العثيمين رحمه الله بعد تفجير الخبر(لقاء الباب المفتوح:ونشرت في جريدة المسلمون) : "الواجب على طلاب العلم أن يبينوا أن هذا المنهج منهج خبيث , منهج الخوارج الذين استباحوا دماء المسلمين وكفّوا عن دماء المشركين"أ.هـ.
الضابط السادس : وجوب استئذان أصحاب الحقوق في جهاد الدفع : تقدم في الضابط الثاني أنه لا جهاد طلب إلا بإذن الإمام ولا جهاد دفع كذلك إذا أمكن استئذانه ، وقد نص الفقهاء كذلك على وجوب استئذان الوالد والغريم في جهاد الطلب :
1- أذن الوالدين : روى الشيخان عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ : سَأَلْتُ النَّبِيَّ : أَيُّ الْعَمَلِ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ ؟ قَالَ الصَّلاةُ عَلَى وَقْتِهَا ، قَالَ : ثُمَّ أَيٌّ ؟ قَالَ : ثُمَّ بِرُّ الْوَالِدَيْنِ ، قَالَ : ثُمَّ أَيٌّ ؟ قَالَ : الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ". فقدم برّهما على الجهاد ، وروى البخاري ومسلم عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ : جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ فَاسْتَأْذَنَهُ فِي الْجِهَادِ ، فَقَالَ : أَحَيٌّ وَالِدَاكَ ؟ قَالَ نَعَمْ ، قَالَ : فَفِيهِمَا فَجَاهِدْ". وروى أبـو داود وابن حبّان وصححه عَنْ أَبِي سَعِيد "اِرْجِعْ فَاسْتَأْذِنْهُمَا ، فَإِنْ أَذِنَا لَك فَجَاهِدْ , وَإِلاَّ فَبِرّهمَا" : فلا يجوز جهاد الطلب إلا بإذن الأبوين المسلمين ، قال ابن رشد(بداية المجتهد:1/502) : "وعامة الفقهاء متفقون على أن من شرط هذه الفريضة إذن الأبوين فيها إلا أن تكون عليه فرض عين"أ.هـ. وحتى في جهاد الدفع ذكروا أنه إذا كان لـه أبوان شيخان كبيران أو أحدهما وليس لهمـا عائل سواه ، فلا يحل له ترك من يضيع منهما ، بل قال الحنفية وبعض المالكية : إنه لا يخرج إلا بإذن الأبوين الكافرين أو أحدهما إذا كره خروجه مخافة ومشقة , وأما إذا كان لكراهة قتال أهل دينه فلا يطيعه ما لم يخف عليه الضيعة . إذ لو كان معسراً محتاجاً إلى خدمته فرضت عليه ولو كافراً , ولا يترك فرض عين ليتوصل إلى فرض كفاية.
2- أذن الغريم : روى مسلم عَنْ أَبِي قَتَادَةَ قَالَ : قَالَ رَجُلٌ : يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْتَ إِنْ قُتِلْتُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ تُكَفَّرُ عَنِّي خَطَايَايَ ؟ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ : نَعَمْ وَأَنْتَ صَابِرٌ مُحْتَسِبٌ مُقْبِلٌ غَيْرُ مُدْبِرٍ إِلاَّ الدَّيْنَ فَإِنَّ جِبْرِيلَ قَالَ لِي ذَلِكَ". قال القرطبي وذكر الحديث(تفسير:4/260) : " قال علماؤنا ذكر الدين تنبيه على ما في معناه من الحقوق المتعلقة بالذمم كالغصب وأخذ المال بالباطل وقتل العمد وجراحه وغير ذلك من التبعات فإن كل هذا أولى ألا يغفر بالجهاد من الدين فإنه أشد والقصاص في هذه كله بالحسنات والسيئات حسبما وردت به السنة الثابتة"أ.هـ. وقد اتفق الفقهاء على أنه لا يخرج المدين للجهاد إذا كان الدين حالاً ، واختلفوا فيما وراء ذلك , قال ابن قدامة (المغني:10/378) : "ومن عليه دين حال أو مؤجل لم يجز له الخروج إلى الغزو إلا بإذن غريمه إلا أن يترك وفاء أو يقيم به كفيلاً أو يوثقه برهن ، وبهذا قال الشافعي ، ورخص مالك في الغزو لمن لا يقدر على قضاء دينه لأنه لا تتوجه المطالبة به ولا حبسه من أجله فلم يمنع من الغزو كما لو لم يكن عليه دين ، ولنا أن الجهاد تقصد منه الشهادة التي تفوت بها النفس فيفوت الحق بفواتها وقد جاء أن (رَجَلاً جَاءَ إلى رَسُولِ اللهِ فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللهِ إنْ قُتِلْتُ في سَبيْلِ اللهِ صَابِراً مُحْتَسِباً تُكَفَّرُ عَنْيْ خَطَايَايْ ؟ قَالَ : نَعَمْ إِلاَّ الدَّيْنَ فَإِنَّ جِبْرِيْلَ قَالَ لِيْ ذَلِكَ) رواه مسلم ، وأما إذا تعين عليه الجهاد فلا إذن لغريمه ، لأنه تعلق بعينه فكان مقدماً على ما في ذمته كسائر فروض الأعيان ، ولكن يستحب له أن لا يتعرض لمظان القتل من المبارزة والوقوف في أول المقاتلة لأن فيه تغريراً بتفويت الحق"أ.هـ.
ثامناً : شبهات حول الجهاد والرد عليها :
إن الخلل الذي وقع في تأريخ الأمة وحاضرها في باب الجهاد كان بسبب عدم فهم النصوص الشرعية على مرادها التي وضعت له ، فلم يعرفوا العام والخاص والمجمل والمقيد والناسخ والمنسوخ والمحكم والمتشابه ، بل سلكوا طريق أهل الأهواء بتنزيل النصوص على قواعد قعدوها لأنفسهم ، صار الجهاد هو التفجير والقتل في بلاد السنة والتوحيد كما فعل الخوارج الأولون مع أصحاب النبي ، قال شيخ الإسلام ابن تيمية(مجموع الفتاوى:13/210) : "فانتحلت الخوارج كتاب الله وانتحلت الشيعة أهل البيت وكلاهما غير متبع لما انتحله ، فإن الخوارج خالفوا السنة التي أمر القرآن باتباعها ، وكفّروا المؤمنين الذين أمر القرآن بموالاتهم ، ولهذا تأول سعد بن أبى وقاص فيهم هذه الآية وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفَاسِقِينَ الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْض[البقرة:26-27] ، وصاروا يتتبعون المتشابه من القرآن فيتأولونه على غير تأويله من غير معرفة منهم بمعناه ، ولا رسوخ في العلم ، ولا اتباع للسنة ، ولا مراجعة لجماعة المسلمين الذين يفهمون القرآن"أ.هـ. وقال ابن القيم عنهم (إعلام الموقعين:2/305) : "فاشتركوا هم والرافضة في رد المحكم من النصوص وأفعال المؤمنين بالمتشابه منها ، فكفروهم وخرجوا عليهم بالسيف يقتلون أهل الإيمان ويدعون أهل الأوثان ، ففساد الدنيا والدين من تقديم المتشابه على المحكم وتقديم الرأي على الشرع والهوى على الهدى وبالله التوفيق"أ.هـ. ولنستعرض الآن بعض شبهات من يدعي الفقه في دين الله وهم يتأولونه على غير تأويله من غير معرفة منهم بمعناه ، ولا رسوخ في العلم ، ولا اتباع للسنة ، ولا مراجعة لجماعة المسلمين الذين يفهمون القرآن :
الشبهة الأولى : الجهاد ماض إلى يوم القيامة في حال القوة والضعف : يحتج البعض على وجوب استمرار الجهاد على المسلمين بكل حال دون مراعاة لضوابط الجهاد المذكورة في كتب أهل العلم ـ كشرط القدرة ، أو انتفاء العهد ، أو وضوح الراية المنافية للرايات العُمية ـ بما روي عن النبي بأسانيد ضعيفة قال : "الجِهَادُ ماضٍ إِلَى يَومِ القِيَامِةِ" ، وبما روى مسلم عن معاوية وبنحوه عن جابر وعقبة بن عامر وجابر بن سمرة عَنْ رَسُولِ اللَّهِ قالَ : "لاَ تَزَالُ عِصَابَةٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ يُقَاتِلُونَ عَلَى الْحَقِّ ظَاهِرِينَ عَلَى مَنْ نَاوَأَهُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ"، وهذا التقرير يناقض الشرع والإجماع والنظر الصحيح والواقع : (*) أما الشرع : فلقوله تعالى وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا ، وقد صالح النبي كفار مكة صلح الحديبية فأودعه البخاري في {باب ما يجوز من الشروط في الإسلام والأحكام والمبايعة} ، وروى أبو داود في باب {صلح العدو} عَنْ ذِي مِخْبَرٍ قَالَ : قَالَ النبي : "سَتُصَالِحُونَ الرُّومَ صُلْحًا آمِنًا" ، وتقدم الأمر بالفرار من الدجال ، وقول الله عزوجل لعيسى عليه السلام "إِنِّي قَدْ أَخْرَجْتُ عِبَادًا لِي لاَ يَدَانِ لأَحَدٍ بِقِتَالِهِمْ فَحَرِّزْ عِبَادِي إِلَى الطُّورِ" ، فأثبتت النصوص أن لا جهاد في مثل هذه الأزمان والحالات. (*) وأما الإجماع : فالأمة مجمعة على أن حكم الصلح والمهادنة باق إلى يوم القيامة لم يأت ما ينسخه ، وقد عقد أصحاب المذهب السنية لذلك أبواباً في كتاب الجهاد كما ذكرنا بعضه في الضابط الرابع من ضوابط الجهاد. (*) وأما النظر : فلأن الله لا يكلف الأمة ما لا تطيق إذا عجزت عن القتال في بعض الأوقات، لذا أمر الله عيسى باللجوء بالمسلمين إلى الطور. (*) وأما الواقع : فالمسلمون من عصور مضت لا ينطبق عليهم أو طائفة منهم وصف الغلبة والقهر والظهور على عدوهم كما جاء في ظاهر الحديث ، مع كون المسلمين ما زالوا في مختلف العصور يجنحون للصلح والمهادنة إذا عجزوا عن قتال عدوهم ، وما أنكر ذلك أحد من العلماء. (*) وأما معنى الحديث : فيحمل على أحد معنيين : (الأول) : أنه بمعنى الخبر على غالب الأحوال ولو تخلف ذلك في بعض العصور ، وهذا الذي فهمه الصحابة ، فقد قال عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو كما روى مسلم : لاَ تَقُومُ السَّاعَةُ إِلاَّ عَلَى شِرَارِ الْخَلْقِ. فاعترض عُقْبَةُ بْنُ عَامِرٍ بعموم هذا الحديث بأنه (لاَ تَزَالُ عِصَابَةٌ يُقَاتِلُونَ حَتَّى تَأْتِيَهُمْ السَّاعَةُ) ، فوافقه عَبْدُ اللَّهِ ، لكنّه أخبر أنَّ اللَّهُ يَبْعَثُ بعدها رِيحًا لاَ تَتْرُكُ مُؤمِناً إِلاَّ قَبَضَتْهُ ، ثُمَّ يَبْقَى شِرَارُ النَّاسِ عَلَيْهِمْ تَقُومُ السَّاعَةُ. ، قال الحافظ ابن حجر (فتح الباري:13/19) : "والجمع بينه وبين حديث (لا تزال طائفة) حمل الغاية في حديث (لا تزال طائفة) على وقت هبوب الريح الطيبة التي تقبض روح كل مؤمن ومسلم فلا يبقى إلا الشرار فتهجم الساعة عليهم بغتة"أ.هـ. ومثل ذلك قوله فيما روى الشيخان قال في الْخَيْل : "مَعْقُودٌ فِي نَوَاصِيهَا الْخَيْرُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ" ، بوب البخـاري عليه ، فقال : {بَاب الْجِهَادُ مَاضٍ مَعَ الْبَرِّ وَالْفَاجِرِ} ، فمن فهم من حديث الطائفة لزوم الجهاد في كل زمان يلزمه أن يقول : بلزوم الجهاد على الخيل في كل زمان حتى في عصرنا. (الثاني) : أن الجهاد ماض إلى يوم القيامة بالسنان إذا توفرت شروطه ، فإن تعذر فبالحجة والبرهان واللسان ثم بالقلب في حال ضعفهم ، وهذا الذي فهمه كبار الأئمة كالبخاري حين بوّب على حديث الطائفة ، فقال : {بَاب قَوْلِ النَّبِيِّ لاَ تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي ظَاهِرِينَ عَلَى الْحَقِّ يُقَاتِلُونَ ، وَهُمْ أَهْلُ الْعِلْمِ} ، وكذا نقل الحافظ ابن حجر في (فتح الباري:13/293) عن علي بن المديني وأحمد ويزيد بن هارون قالوا : إن لم يكونوا أهل الحديث فلا أدري من هم. وذكر النووي أن هذه الطائفة قد تكون من مقاتلين ومن فقهاء ومحدثين وغيرهم من أهل الخير مجتمعين أو متفرقين في أقطار الأرض حتى قال (شرح مسلم13/67) : "وفى هذا الحديث معجزة ظاهرة فان هذا الوصف ما زال بحمد الله تعالى من زمن النبي إلى الآن"أ.هـ. فهذا ما فهمه الأئمة من أن الظهور لا يكون من قتال بكل حال ، بل يكون في القتال في عصر دون عصر ، وبينما يكون بجهاد الحجة والبيان باللسان في كل عصر لزوماً وإن ضعفت قوتهم وقل عددهم ، فيكون الجهاد قائماً مستمراً بأحد هذه الأشياء ، قال ابن القيم (زاد المعاد3/64) :"والتحقيق أن جنس الجهاد فرض عين : إما بالقلب ، وإما باللسان ، وإما بالمال ، وإما باليد فعلى كل مسلم أن يجاهد بنوع من هذه الأنواع"أ.هـ. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية (الفتاوى الكبرى:5/537) : "والجهاد منه ما هو باليد ، ومنه ما هو بالقلب ، والدعوة والحجة واللسان والرأي والتدبير والصناعة ، فيجب بغاية ما يمكنه"أ.هـ. ولنختم هذه الشبهة بفهم عالمين من كبار العلماء في عصرهما : قال شيخ الإسلام ابن تيمية (الصارم المسلول:1/228): "فمن كان من المؤمنين بأرض هو فيها مستضعف أو في وقت هو فيه مستضعف فليعمل بآية الصبر والصفح والعفو عمن يؤذي الله ورسوله من الذين أوتوا الكتاب"أ.هـ. وسئل الشيخ العلامة صالح الفوزان عمن يستشهد بحديث النبي (الجهاد ماضٍ إلى أن تقوم الساعة) ؟ فأجاب الشيخ(الجهاد وضوابطه الشرعية:48) : "نعم الجهاد ماضٍ إذا توفرت شروطه ومقوماته فهو ماضٍ ، أما إذا لم تتوفر شروطه ولا مقوماته فإنه ينتظر حتى تعود للمسلمين قوتهم وإمكانيتهم واستعدادهم ، ثم يقاتلون عدوهم"أ.هـ.
الشبهة الثانية : إذن الإمام لا يجب في الجهاد لقصة أبي بصير ومن معه : استدل بعض الناس بهروب أبي بصير ومن معه إلى ساحل البحر مع التعرض لعير قريش بقتلهم وسلب أموالهم دون أذن النبي لم ينكر عليه النبي ، فالجواب من وجهين : (الأول) : أن لا يجوز أن يحتج بحال أبي بصير من كان في عنقه بيعة لإمام فيخرج بدون إذنه فيقاتل لقوله فيما روى الشيخان :"وَمَنْ يَعْصِ الأَمِيرَ فَقَدْ عَصَانِي ، وَإِنَّمَا الإِمَامُ جُنَّةٌ يُقَاتَلُ مِنْ وَرَائِهِ وَيُتَّقَى بِهِ" ، وروى مسلم قَالَ : "مَنْ خَرَجَ مِنْ الطَّاعَةِ وَفَارَقَ الْجَمَاعَةَ ، فَمَاتَ مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً ، وَمَنْ قَاتَلَ تَحْتَ رَايَةٍ عِمِّيَّةٍ : يَغْضَبُ لِعَصَبَةٍ أَوْ يَدْعُو إِلَى عَصَبَةٍ أَوْ يَنْصُرُ عَصَبَةً فَقُتِلَ فَقِتْلَةٌ جَاهِلِيَّةٌ ، وَمَنْ خَرَجَ عَلَى أُمَّتِي يَضْرِبُ بَرَّهَا وَفَاجِرَهَا وَلاَ يَتَحَاشَى مِنْ مُؤْمِنِهَا وَلاَ يَفِي لِذِي عَهْدٍ عَهْدَهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَلَسْتُ مِنْهُ". وروى الشيخان عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ النَّبِيِّ قَالَ : "مَنْ كَرِهَ مِنْ أَمِيرِهِ شَيْئًا فَلْيَصْبِرْ ؛ فَإِنَّهُ مَنْ خَرَجَ مِنْ السُّلْطَانِ شِبْرًا مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً". قال ابن قدامة (المغنى:8/354) : "وأمر الجهاد موكول إلى الإمام ويلزم الرعية طاعته فيما يراه من ذلك"أ.هـ. وإنما يصح أن يحتج بقصة أبي بصير في حال تعدد الولايات بأن من كان تحت ولاية إمام فلا يلزمه استئذان إمام آخر ليس هو تحت ولايته ؛ فإن أبا بصير لم يكن تحت يد النبي وحكمه بل صار متميزاً له أحكامه الخاصة التي تلزم من كان تحت يده : قال ابن القيم(زاد المعاد:3/267) "والعهد الذي كان بين النبي وبين المشركين لم يكن عهدًا بين أبي بصير وأصحابه وبينهم ، وعلى هذا فإذا كان بين بعض ملوك المسلمين وبعض أهل الذمة من النصارى وغيرهم عهدٌ جاز لملك آخر من ملوك المسلمين أن يغزوهم ويغنم أموالهم إذا لم يكن بينه وبينهم عهد ، كما أفتى به شيخ الإسلام في نصارى ملطية وسبيهم مستدلاً بقصة أبي بصير مع المشركين"أ.هـ. ورد الشيخ صالح بن فوزان الفوزان على هذه الشبهة بقوله (الجهاد وضوابطه:52) : "أبو بصير ما هو في قبضة الإمام ، أبو بصير في قبضة الكفار في ولايتهم ، فهو يريد أن يخلص نفسه من الكفار وليس هو تحت ولاية الرسول ؛ لأن الرسول رده لهم بموجب العهد والصلح"أ.هـ. (الثاني) : قد يجاب بما روى البخاري ، وفيه :" فَجَاءَ أَبُو بَصِيرٍ فَقَالَ : يَا نَبِيَّ اللَّهِ! قَدْ وَاللَّهِ أَوْفَى اللَّهُ ذِمَّتَكَ قَدْ رَدَدْتَنِي إِلَيْهِمْ ، ثُمَّ أَنْجَانِي اللَّهُ مِنْهُمْ ، قَالَ النَّبِيُّ : وَيْلُ أُمِّهِ مِسْعَـرَ حَرْبٍ لَوْ كَانَ لَهُ أَحَدٌ". فأشار بأن بقاءه يقتضي تسليمه لهم ، وأن فراره يخلي مسؤولية المسلمين ، وتعليمه ما يجوز له شرعاً يعتبر نوع من الأذن من طرف خفي ، قال ابن حجر (فتح الباري5/350) : "وفي رواية الأوزاعي (لو كان له رجال. فلقنها أبو بصير فانطلق) ، وفيه إشارة إليه بالفرار لئلا يرده إلى المشركين ، ورمز إلى من بلغه ذلك من المسلمين أن يلحقوا به ، قال جمهور العلماء من الشافعية وغيرهم : يجوز التعريض بذلك لا التصريح كما في هذه القصة"أ.هـ.
الشبهة الثالثة : تكفير من استعان بالكفار في الجهاد بدون تفصيل : يتسارع بعض الناس في التكفير من استعان في المشركين بالجهاد ، وليس فيما قالوا أثارة من علم إلا اتباع الظن ؛ لأن الاستعانة بالكفار لمصلحة حماية بيضة الإسلام والمسلمين جائزٌ شرعاً ، ذكرت في أبواب الفقه لا في أبواب الاعتقاد على اعتبار أنها مسألة خلافية ، وحتى من اختار من العلماء عدم الاستعانة بالكفار لم يصم من استعان بهم بالكفر ، قال سماحة الشيخ ابن باز(مجموع فتاوى ومقالات:7/363) : :"ومما يجب التنبيه عليه أن بعض الناس قد يظن أن الاستعانة بأهل الشرك تعتبر موالاة لهم ، وليس الأمر كذلك فالاستعانة شيء والموالاة شيء آخر"أ.هـ. وسأسوق بعض الأدلة على جواز هذا الفعل للمصلحة باختصار لأني قد بسطته في كتابي "الولاء والبراء بين تحريف الغالين وتأويل الجاهلين": (الدليل الأول) : دخول قبيلة خزاعة في حلف النبي وفيهم مشركون ، وقاتلوا مع النبي قريش عام الفتح ، قال سماحة الشيخ ابن باز(فتاوى ومقالات:6/172) :"ولا شك أن الاستعانة بغير المسلمين في الدفاع عن المسلمين وعن بلادهم وحمايتها من كيد الأعداء أمر جائز شرعاً ، بل واجب محتم عند الضرورة إلى ذلك لما في ذلك من إعانة للمسلمين وحمايتهم من كيد أعدائهم وصد العدوان المتوقع عنهم ... وكانت خزاعة مسلمها وكافرها في جيش النبي في غزوة الفتح ضد كفار أهل مكة"أ.هـ.
(الدليل الثاني) : روى أحمـد وأبو داود بإسناد صحيح قال : "سَتُصَالِحُونَ الرُّومَ صُلْحًا آمِنًا ، فَتَغْزُونَ أَنْتُمْ وَهُمْ عَدُوًّا مِنْ وَرَائِكُمْ ، فَتُنْصَرُونَ وَتَغْنَمُونَ وَتَسْلَمُونَ" ، ذكره ابن حبان في باب {ذِكْرِ الإِخْبَارِ عَنْ وَصْفِ مُصَالَحَةِ المُسْلِمِيْنَ الرُّوْمَ} ، والمجد في "المنتقى" في باب {ما جاء في الاستعانة بالمشركين} ، قال سماحة الشيخ ابن باز (فتاوى ومقالات:6/185) مبيناً جواز استعانة المسلم بكافر ليدفع شـر كافر آخر أو مسلم معتد : "وصح عنه أنه قال : "إنكم تصالحون الروم صلحا آمنا ثم تقاتلون أنتم وهم عدوا من ورائكم" فهذا معناه الاستعانة بهم على قتال العدو الذي من وراءنا"أ.هـ. (الدليل الثالث) : شهود كثير من المشركين غزوة حنين مع النبي في جيش ، كما روى مسلم في "صحيحه" عَنْ صَفْوَانَ بنِ أُمَيَّةَ قَالَ : وَاللَّهِ لَقَدْ أَعْطَانِي رَسُولُ اللَّهِ مَا أَعْطَانِي وَإِنَّهُ لأَبْغَضُ النَّاسِ إِلَيَّ ، فَمَا بَرِحَ يُعْطِينِي حَتَّى إِنَّهُ لأَحَبُّ النَّاسِ إِلَيَّ". قال الحافظ ابن حجر (6/179) وذكر نسخ حكم عدم الاستعانة بالكافر : "وحجة النسخ شهود صفوان بن أمية حنيناً مع النبي وهو مشرك ، وقصته مشهورة في المغازي"أ.هـ.
(الدليل الرابع) : استعانة النبي بدروع صفوان بن أمية وهو مشرك ، قال الإمام الشافعي (الأم:4/372) : "واستعان رسول الله في غزاة حنين سنة ثمان بصفوان بن أمية وهو مشرك"أ.هـ. وقال سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز (مجموع فتاوى ومقالات:6/109) : "وقال يوم بدر : لا أستعين بمشرك ، ولم يقل لا تستعينوا ، بل قال : لا أستعين لأنه ذلك الوقت غير محتاج لهم ، والحمد لله معه جماعة مسلمون ، وكان ذلك من أسباب هداية الذي رده حتى أسلم. وفي يوم الفتح استعان بدروع من صفوان بن أمية وكان على دين قومه"أ.هـ.
(الدليل الخامس) : استعانة النبي بالمنافقين في غزواته خاصة في يوم أحد والخندق والمصطلق : روى البخاري ومسلم قصة انخذال المنافقين عن النبي فَنَزَلَتْ فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ". قال الشيخ السعدي : "لما أمروا بالقتال وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ قَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أي : ذبًا عن دين الله وحماية له وطلباً لمرضاة الله أَوِ ادْفَعُواْ عن محارمكم وبلدكم إن لم يكن لكم نية صالحة"أ.هـ. وقال الصنعاني (سبل السلام:1/199): "ويجوز الاستعانة بالمنافق إجماعاً لاستعانته بعبد الله بن أبيّ وأصحابه"أ.هـ.
(الدليل السادس) : استعانة النبي في هجرته بدليل عَلَى دِينِ كُفَّارِ قُرَيْشٍ كما روى البخاري فِي {بَاب اسْتِئْجَارِ الْمُشْرِكِينَ عِنْدَ الضَّرُورَةِ} ، قال سماحة الشيخ ابن باز (مجموع فتاوى ومقالات:6/109) مبينًا جواز الاستعانة بغير المسلمين : "واستعان بعبد الله بن أريقط في سفره وهجرته إلى المدينة - وهو كافر - لما عرف أنه صالح لهذا الشيء وأن لا خطر منه في الدلالة"أ.هـ. (الدليل السابع) : استجارة النبي بمطعـم بن عدي لما رجع من الطائف وخاف أهل مكة فحماه ، قال سماحة الشيخ ابن باز (مجموع فتاوى ومقالات:6/109) : "فاستجار بالمطعم وهو من كبارهم في الكفر وحماه لما دعت الضرورة إلى ذلك ، وكان يعرض نفسه عليه الصلاة والسلام على المشركين في منازلهم في منى يطلب منهم أن يجيروه حتى يبلغ رسالة ربه عليه الصلاة والسلام على تنوع كفرهم"أ.هـ.
(الدليل الثامن) : روى البخاري :"إِذْ جَاءَ بُدَيْلُ بْنُ وَرْقَاءَ الْخُزَاعِيُّ فِي نَفَرٍ مِنْ قَوْمِهِ مِنْ خُزَاعَةَ ـ وَكَانُوا عَيْبَةَ نُصْحِ رَسُولِ اللَّهِ " ، قال شيخ الإسلام ابن تيمية (مجموع الفتاوى:4/114) : "وكانت خزاعة عيبة نصح رسول الله مسلمهم وكافرهم ، وكان يقبل نصحهم وكل هذا في الصحيحين ، وكان أبو طالب ينصر النبي ويذب عنه مع شركه ، وهذا كثير فإن المشركين وأهل الكتاب : فيهم المؤتمن كما قال تعالى وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِن تَأْمَنْهُ بِقِنطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُم مَّنْ إِن تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لاَّ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَآئِماً"أ.هـ.
(الدليل التاسع) : اتخاذ النبي عيناً مأموناً ففي صحيح البخاري "وَبَعَثَ عَيْنًا لَهُ مِنْ خُزَاعَةَ" ، قال ابن القيم (زاد المعاد:3/267) في فوائد قصة الحديبية : "ومنها : أن الاستعانة بالمشرك المأمون في الجهاد جائزة عند الحاجة ؛ لأن عينه الخزاعي كان كافراً إذ ذاك ، وفيه من المصلحة أنه أقرب إلى اختلاطه بالعدو وأخذه أخبارهم"أ.هـ.
الشبهة الرابعة : دعوى الجهاد في المملكة العربية السعودية وجعلها دار حرب : (*) عرف فقهاء الإسلام أنها كل بقعة يقطنها المسلمون تكون فيها أحكام الإسلام ظاهرة ، ولا تصير دار الإسلام دار كفر إلا بظهور أحكام الكفر فيها عند الجمهور ، وزاد أبو حنيفة : أن تكون متاخمة لدار الكفر ، وأن لا يبقى فيها مسلم. وأما الشافعية فقالوا : لا تصير دار الإسلام دار كفر بحال ، قال الشوكاني(السيل الجرار:4/575) : "الاعتبار بظهور الكلمة ، فإن كانت الأوامر في الدار لأهل الإسلام ، بحيث لا يستطيع من فيها من الكفار أن يتظاهر بكفره ، إلاَّ كونه مأذوناً له بذلك من أهل الإسلام ؛ فهذه دار إسلام ، ولا يضر ظهور خصال كفرية فيها ؛ لأنَّها لم تظهر بقوة الكفار ، ولا بصولتهم ، وإذا كان الأمر بالعكس ، فالدار بالعكس» أ.هـ. ولذا قال سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز (شرح بلوغ المرام من كتاب البيوع- شريط رقم2) : "إذا غلب عليها اسم الإسلام والصلاح وغيرها من شعائر الإسلام ، فهي بلاداً إسلام ، وإن كان الحاكم كافراً"أ.هـ. وقال العلامة الألباني (سلسلة الهدى والنور: رقم- 717) : "فإذا كان الغالب على سكان البلد ونظامهم هو الإسلام ، فهي دار إسلام ، وإن كان قد يحكمون بنظام غير إسلامي صرفاً أو محضاً"أ.هـ. وقال شيخنا العلامة محمد العثيمين عن بلاد الجزائر مع كون الحكم فيه بالقانون : في اشتداد هذه المضايقات هل تُشرع الهجرة إلى بلاد الكفر ؟ فقال الشيخ (براءة علماء الملة من تزكية أهل البدعة والمذمة:112) : "الواجب الصـبر ؛ لأن البلاد بلـد إسلام ، ينادى بها للصلوات الخمس وتقام فيها الجمعة والجماعات ، فالواجب الصبر حتى يأتي الله بأمره". (*) بل ذهب شيخ الإسلام ابن تيمية إلى أن البلاد التي يظهر فيها أحكام الكفر ، ويختلط فيها المسلمون مع الكفار لا تكون دار كفر خالصة ، لأنه لما سئل عن بلاد "ماردين" وهي ثغر مختلط به عساكر وسكَّان مسلمون ، وفيها كفار من سكان وحاكم هل هي بلد حرب أم بلد سلم قال (مجموع الفتاوى:28 /240) : "وأما كونها دار حرب أو سلم فهي مركبة فيها المعنيان ، ليست بمنزلة دار السلم التي تجرى عليها أحكام الإسلام لكون جندها مسلمين ، ولا بمنزلة دار الحرب التي أهلها كفار ، بل هي قسم ثالث يعامل المسلم فيها بما يستحقه ، ويقاتل الخارج عن شريعة الإسلام بما يستحقه"أ.هـ. والبلاد السعودية باتفاق عقلاء العصر ممن لم يسلم عقله لشياطين الفتنة هي الدولة الوحيدة التي تقوم على منهج السلف الصالح بتحقيق التوحيد والعبودية ، وهي أكثر دولة في هذا العصر تطبيقاً لشرائع الإسلام في محاكمها وأنظمتها ، وتظهر شعائره في مساجدها وسائر مرافقها ، وهي التي ينطبق عليها دار الإسلام عند جميع من عرّف دار الإسلام من فقهاء المذاهب السّنية ، بل دار الإسلام في عصر غربة الإسلام وأحق الدول بوصف دار الإسلام اعتقاداً وعملاً مما سواها من الدول ، ولذا فمن حكم على هذه البلاد السعودية بأنها دار حرب ، ونظّر لأتباعه دعوى الجهاد فيها باستباحة دماء أهلها كجنودها أو المستأمنين فيها ، فقد سلك مسلك الخوارج الذين هجروا بلاد التوحيد وجعلوها دار كفر بالذنوب ، واستقروا بلاداً أخف أحوالها أنها دار بدع وخرافة مع ظهور الشرك فجعلوها دار الإسلام ، قال الإمام أبو بكر الإسماعيلي (اعتقاد أهل السنة:51) ناقلاً اعتقاد أهل السنة : "ويرون أنَّ الدار دار إسلام لا دار كفر ، كما رأته المعتزلة ، ما دام النداء بالصلاة والإقامة بها ظاهرين ، وأهلها ممكنين"أ.هـ. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية (مجموع الفتاوى:19/72) في علامة الخوارج : "أنهم يكفرون بالذنوب والسيئات ، ويترتب على تكفيرهم بالذنوب استحلال دماء المسلمين وأموالهم ، وأن دار الإسلام دار حرب ، ودارهم هي دار الإيمان"أ.هـ. فهذا المنهج طبقه ورّاث الخوارج في عصرنا على هذه البلاد التي رفعت شعار السنة والتوحيد ، وأوت المضطهدين ونصرت المستضعفين وواست المحتاجين من المسلمين في أصقاع الأرض ، فلم يحفظوا لها سابقتها ، بل هي فئة الإسلام والمسلمين في هذا العصر ينطبق عليها ما قاله شيخ الإسلام حين ذكر الطائفة المنصورة في وقته بأكناف الشام وفساد أكثر أهل الأرض(مجموع الفتاوى:28/532) فقال : "والعز الذي للمسلمين بمشارق الأرض ومغاربها هو بعزهم ، ولهذا لما هزموا سنة تسع وتسعين وستمائة دخل على أهل الإسلام من الذل والمصيبة بمشارق الأرض ومغاربها مالا يعلمه إلا الله والحكايات في ذلك كثيرة ليس هذا موضعها ... فلو إستولى عليهم التتار لم يبق للإسلام عز ولا كلمة عالية ولا طائفة ظاهرة عالية يخافها أهل الأرض تقاتل عنه"أ.هـ. وإليك نصوص كبار العلماء الذين هم أعرف الناس بالله وأخشاهم له في هذا الزمان في أن ما قاله شيخ الإسلام إنما يتنزل اليوم على بلاد التوحيد والسنة التي قامت على دعوة الإمام المجد محمد بن عبد الوهاب : قال سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز(مجموع فتاوى ومقالات:9/98) : "وهذه الدولة السعودية دولة مباركة نصر الله بها الحق ، ونصر بها الدين ، وجمع بها الكلمة ، وقضى بها على أسباب الفساد وأمن الله بها البلاد ، وحصـل بها من النعم العظيمة ما لا يحصيه إلا الله"أ.هـ. وقال رحمه الله(مجموع فتاوى ومقالات:4/91) : "وهذه الدولة بحمد الله لم يصدر منها ما يوجب الخروج عليها ، وإنما الذي يستبيح الخروج على الدولة بالمعاصي هم الخوارج. الذين يكفرون المسلمين بالذنوب ، ويقاتلون أهل الإسلام ، ويتركون أهل الأوثان ، وقد قال فيهم النبي : إنهم يمرقون من الإسـلام كما يمرق السهـم من الرمية" ، وقـال :"أينما لقيتموهم فاقتلوهم فإن في قتلهم أجراً لمن قتلهم عند الله يوم القيامة" متفق عليه ، والأحاديث في شأنهم كثيرة معلومة". وقال العلامة محمد بن صالح العثيمين(الفتاوى الشرعية في القضايا العصرية:58) : "لا يوجد ـ الحمد لله ـ مثل بلادنا اليوم في التوحيد وتحكيم الشريعة ، وهي لا تخلو من الشرّ كسائر بلاد العالم ، بل حتى المدينة النبوية في عهـد النبي وُجد من بعض الناس شرٌّ ، لقد حصلت السرقة وحصل الزنا"أ.هـ. وقال رحمه الله بعد تفجير الخبر(لقاء الباب المفتوح:ونشرت في جريدة المسلمون): "الواجب على طلاب العلم أن يبينوا أن هذا المنهج منهج خبيث , منهج الخوارج الذين استباحوا دماء المسلمين وكفّوا عن دماء المشركين"أ.هـ. وقال سماحة الشيخ عبد العزيز آل الشيخ مفتي السعودية الحالي(جريدة الرياض-8/8/1422هـ- عدد12175) : "أما من يشكك في هذا ويشكك في منهج هذه الدولة المباركة فهذا إما جاهل أو أن في قلبه مرضاً ، وليحذر المسلم أن ينساق وراء مثل هؤلاء فليس وراءهم إلا الفتنة وإثارة التنازع والشقاق"أ.هـ.
الشبهة الخامسة : التفجير بحجة إخراج المشركين من جزيرة العرب : نتج من تكفير هؤلاء لحكام البلاد السعودية وجعلها دار حرب أنهم خرجوا يقتلون النصارى المستأمنين ، ثم يفجرون في مساكن أهل التوحيد ، بل ويقتلون جنودها بحجة إخراجهم من جزيرة العرب تطبيقاً بزعمهم للحديث الصحيح عن النبي أخرجوا المشركين من جزيرة العرب ، فصاروا كالخوارج الذين فهموا من نصوص الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أنه الخروج بالسيف على المجتمع المسلم وولاته ، فانطبق عليهم قوله فيما روى مسلم : "مَنْ خَرَجَ مِنْ الطَّاعَةِ وَفَارَقَ الْجَمَاعَةَ ، فَمَاتَ مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً ، وَمَنْ قَاتَلَ تَحْتَ رَايَةٍ عِمِّيَّةٍ : يَغْضَبُ لِعَصَبَةٍ أَوْ يَدْعُو إِلَى عَصَبَةٍ أَوْ يَنْصُرُ عَصَبَةً فَقُتِلَ فَقِتْلَةٌ جَاهِلِيَّةٌ ، وَمَنْ خَرَجَ عَلَى أُمَّتِي يَضْرِبُ بَرَّهَا وَفَاجِرَهَا وَلاَ يَتَحَاشَى مِنْ مُؤْمِنِهَا وَلاَ يَفِي لِذِي عَهْدٍ عَهْدَهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَلَسْتُ مِنْهُ" ، ووصف النبي الخوارج كما في الصحيحين عَنْ عَلِيٌّ : "أَحْدَاثُ الأَسْنَانِ سُفَهَاءُ الأَحْلاَمِ ، يَقُولُونَ مِنْ خَيْـرِ قَوْلِ الْبَرِيَّةِ ، يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لاَ يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ". في رواية البخاري : "لاَ يُجَاوِزُ إِيمَانُهُمْ حَنَاجِرَهُمْ" ، وفي حديث عَليٍّ عندَ مسلمٍ : "يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ يَحْسِبُونَ أَنَّهُ لَهُمْ وَهُوَ عَلَيْهِمْ" ، وفي لفظٍ : "يَقُولُونَ الْحَقَّ بِأَلْسِنَتِهِمْ لاَ يَجُوزُ هَذَا مِنْهُمْ ـ وَأَشَارَ إِلَى حَلْقِهِ ـ مِنْ أَبْغَضِ خَلْقِ اللَّهِ إِلَيْهِ" ، وفي حديث أبي ذرٍ عند مسلم : "هُمْ شَرُّ الْخَلْقِ وَالْخَلِيقَةِ". قال الآجري في {باب ذم الخوارج وسوء مذهبهم وإباحة قتالهم وثواب من قتلهم أو قتلوه} (الشريعة:1/136): "لم يختلف العلماء قديماً وحديثاً أن الخوارج قوم سوء ، عصاة لله ولرسوله وإن صلّوا وصاموا ، واجتهدوا في العبادة ، فليس ذلك بنافع لهم ، وإن أظهروا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وليس ذلك بنافع لهم ؛ لأنهم قوم يتأولون القرآن على ما يهوون ، ويموّهون على المسلمين. وقد حذرنا الله منهم، وحذّرنا النبي ، وحذرنا الخلفاء الراشدون بعده ، وحذرناهم الصحابة ومن تبعهم بإحسان –رحمة الله تعالى عليهم-. والخوارج هم الشراة الأنجاس الأرجاس ، ومن كان على مذهبهم من سائر الخوارج ، يتوارثون هذا المذهب قديماً وحديثاً ، ويخرجون على الأئمة والأمراء ويستحلون قتل المسلمين"أ.هـ. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية(منهاج السنة:5/248) : "وما روي من أنهم شر قتلى تحت أديم السماء خير قتيل من قتلوه في الحديث الذي رواه أبو أمامة رواه الترمذي وغيره. أي أنهم شر على المسلمين من غيرهم ، فإنهم لم يكن أحد شراً على المسلمين منهم لا اليهود ولا النصارى ، فإنهم كانوا مجتهدين في قتل كل مسلم لم يوافقهم مستحلين لدماء المسلمين وأموالهم وقتل أولادهم مكفرين لهم ، وكانوا متدينين بذلك لعظم جهلهم وبدعتهم المضلة"أ.هـ. وبيان ضلال هؤلاء بالاحتجاج بالحديث على قتل معصومي الدماء من أوجه :
1- اختلاف أهل العلم في المراد بجزيرة العرب ، فقيل : هي الحجاز , وقيل : هي من عدن أبين إلى ريف العراق. لكنهم اتفقوا جميعاً على أنَّ المراد بالحديث النهي عن استيطان غير المسلم فيها ، ولم يفهم أحد منهم ما فهمه هؤلاء من تحريم دخول الكفار لها مطلقاً ، لأن النبي لما أجلى اليهود إلى خيبر قال :"نُقِرُّكُمْ مَا أَقَرَّكُمْ اللَّهُ" ، حتى أجلاهم عمرُ ، فقال "إِنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ خَرَجَ إِلَى مَالِهِ هُنَاكَ فَعُدِيَ عَلَيْهِ مِنْ اللَّيْلِ فَفُدِعَتْ يَدَاهُ وَرِجْلاَهُ ، وَلَيْسَ لَنَا هُنَاكَ عَدُوٌّ غَيْرَهُمْ ، هُمْ عَدُوُّنَا وَتُهْمَتُنَا ، وَقَدْ رَأَيْتُ إِجْلاَءَهُمْ" رواه البخاري. وكذلك كان في المدينة في عهد عمر جماعة منهم ، حتى إنَّ عُمَرَ قَالَ لمّا قتله المجوسيُّ قال لابنِ عبّاسٍ : "الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَجْعَلْ مِيتَتِي بِيَدِ رَجُلٍ يَدَّعِي الإِسْلامَ ، قَدْ كُنْتَ أَنْتَ وَأَبُوكَ تُحِبَّانِ أَنْ تَكْثُرَ الْعُلُوجُ بِالْمَدِينَةِ ، وَكَانَ الْعَبَّاسُ أَكْثَرَهُمْ رَقِيقًا" رواه البخاري. فلو فهم عمر المنع مطلقاً لمّا أقرهم على ذلك ، قال شيخنا العثيمين(لقاء الباب المفتوح:2/368-لقاء39) : "أما قوله (لأخرجن اليهود والنصارى من جزيرة العرب) ، فالمراد منها السكنى ، وأما الأجراء وما أشبه ذلك فلا يدخلون في هذا ؛ لأنهم ليسوا قاطنيين بل سيخرجون"أ.هـ.
2- أن الحديث أمرٌ بإخراجهم لا قتلهم بعد تأمينهم ، ففي قصة إخراج عمر لليهود من خيبر الآنفة : "فَأَجْلاَهُمْ عُمَرُ وَأَعْطَاهُمْ قِيمَةَ مَا كَانَ لَهُمْ مِنْ الثَّمَرِ مَالاً وَإِبِلاً وَعُرُوضًا مِنْ أَقْتَابٍ وَحِبَالٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ" ، ففيه عدم جواز ظلم من أخرج منهم ، بل يجب أن يوفى لهم بحقوقهم كما فعل عمر من إعطائهم قيمة ما كان لهـم من الطعام والمال ، فأين هؤلاء ممن يفتتئتون على الولاية ويقتلون المستأمنين الذين حرم الله دماءهم وأموالهم.
3- أن قتل هؤلاء هو من أعظم الخيانة التي حرمها ، لأن هؤلاء إما أن يكونوا معاهدين ، وإما أن يكونوا مستأمنين ، وقد روى البخاري عَنْ النَّبِيُّ قَالَ : "مَنْ قَتَلَ مُعَاهَدًا لَمْ يَرِحْ رَائِحَةَ الْجَنَّةِ ، وَإِنَّ رِيحَهَا تُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ أَرْبَعِينَ عَامًا". قال ابن حجر(فتح الباري:12/259) : "والمراد به من لـه عهد مع المسلمين ، سواء كان بعقد جزية أو هدنة من سلطان ، أو أمان من مسلم"أ.هـ. وروى الشيخان ـ قَالَ : "وَذِمَّةُ الْمُسْلِمِينَ وَاحِدَةٌ يَسْعَى بِهَا أَدْنَاهُمْ ، فَمَنْ أَخْفَرَ مُسْلِمًا فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلاَئِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ لاَ يُقْبَلُ مِنْهُ صَرْفٌ وَلاَ عَدْلٌ" ، وصحح الحاكم وابن حبان قوله :"أيُّمَا رَجُلٍ أمَّنَ رَجُلاً عَلَى دَمِهِ ثَمَّ قَتَلَهُ , فَأَنَا مِن القاتِلِ بَرِيءٌ , وَإنْ كَانَ المَقْتُولُ كَافِراً". وفي سنن أبي داود عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ قَالَ : "الإِيمَانُ قَيَّدَ الْفَتْكَ لاَ يَفْتِكُ مُؤْمِنٌ" ، قال البغوي(شرح السنة:11/45) : "والفتك أن يُقتل مَن له أمان فجأة"أ.هـ. وقال فضيلة شيخنا العلامة محمد العثيمين (كما في خطبة بخط يده) عن قتل المستأمنين في البلاد السعودية وذكر (مَنْ أَخْفَرَ مُسْلِمًا) : " ومعنى الحديث أن الإنسان إذا أمن إنساناً وجعله في عهده ، فإن ذمته ذمة للمسلمين جميعاً مـن أخفرهـا وغـدر بهذا الـذي أعطي الأمان من مسلم ، فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين"أ.هـ.
4- أن الشريعة لم تخاطب بمسائل العهود والعقود آحاد الناس ، بل المخاطب فيها هم ولاة الأمور الذين أوجب الله طاعتهم على الرعية ، وجعل الله في أيديهم إقامة الدين والحل والعقد ، وقد قدمنا ما روى البخاري في قصةِ إجلاءِ اليهودِ من خيبر قَالَ : قَامَ عُمَرُ خَطِيبًا فَقَالَ : "وَقَدْ رَأَيْتُ إِجْلاَءَهُمْ" ، ففي الحديث أن الذي بيده إخراجهم هو من بيده العهد ونقضه ، وهو ولي الأمر. وروى البخاري في باب [يُقَاتَلُ عَنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ وَلاَ يُسْتَرَقُّونَ] : قَالَ عُمَـرُ : أُوصِي الْخَلِيفَةَ مِنْ بَعْدِيْ بِذِمَّةِ اللَّهِ وَذِمَّةِ رَسُولِهِ أَنْ يُوفَى لَهُمْ بِعَهْدِهِمْ ، وَأَنْ يُقَاتَلَ مِنْ وَرَائِهِمْ ، وَأَنْ لاَ يُكَلَّفُوا فَوْقَ طَاقَتِهِمْ" ، وقد تقدم قول ابن قدامة المقدسي(المغني:10/509) : "فان هادنهم غير الإمام أو نائبه لم يصح"أ.هـ. وقول ابن القيم(أحكام أهل الذمة:3/1441) : "والذمة لا يعقدها إلاَّ الإمام أو نائبه"أ.هـ. وقال العيني (عمدة القاري:14/299) في دخول المشرك للجزيرة : "فإن استأذن في دخوله أذن الإمام أو نائبه فيه إن كان مصلحة للمسلمين"أ.هـ. ولذا قال بعض علماء الدعوة (الدرر السنية :9/168) : "فإن النبي حارب وسالم ، وصالح قريشاً صلح الحديبية ، وهادن اليهود وعاملهـم على خيبر ، وصالح نصارى نجران ، وكذلك الخلفاء الراشدون من بعده ، ولا يجوز الاعتراض على ولي الأمر في شيء من ذلك ؛ لأنه نائب المسلمين ، والناظر في مصالحهم"أ.هـ.
5- لو زعموا أنه لا يصح لهؤلاء عهد بسبب شبهة استوطنت الأفئدة الغاوية ، فيقال قد قرر العلماء أن الكافر الحربي إذا دخل بلاد المسلمين بأمان أو بشبهة أمان أو فهم أنه أمان فإنه يحرم التعرض له : قال الإمام أحمد بن حنبل(مسائل أبي داود:334) : "كلُّ شيء يرى العلج أَنه أمانٌ فهو أمان"أ.هـ. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية(بيان الدليل:64) : "جاءت السنة بأن كل ما فَهِمَ الكافرُ أنه أمان ، كان أماناً ، لئلا يكون مخدوعاً ، وإن لم يقصد خَدْعه"أ.هـ. ،وسيأتي تفصيل هذه النقطة في الشبهة التالية.
الشبهة السادسة : بعض الجهلة الضلال قد لجّوا بتبرير قتل المعاهدين في البلاد السعودية احتجاجاً بقصة كعب بن الأشرف ، وهذا جهل في الشريعة وسوء قصد في النية ؛ من وجهين :
(الوجه الأول) : إنه فرض مطابقة ما قالوه الحقيقة فإن إبرام العهود ونقضها وإقامة الحدود والتعزيرات ليست لهم ولآحاد الناس ، وإنما هي من صلاحيات الإمام ، قال ابن قدامة (المغني:13/157) : "ولا يجـوز عقد الهدنة ولا الذمة إلا من الإمام أو نائبه ؛ لأنه عقد مع جملة الكفار وليس ذلك لغيره ، ولأنه يتعلق بنظر الإمام وما يراه من المصلحة على ما قدمناه ، ولأن تجويزه من غير الإمام يتضمن تعطيل الجهاد بالكلية أو إلى تلك الناحية ، وفيه افتيات على الإمام"أ.هـ. وقال ابن القيم(أحكام أهل الذمة:3/1441) : "فإنَّ الأمان يجوز عقده لكل كافر ، ويعقده كل مسلم ، ولا يشترط على المستأمـن شيء من الشروط ، والذمة لا يعقدها إلاَّ الإمام أو نائبه"أ.هـ. ولذا قدمنا أن النبي عاهد كفار مكة في الحديبية مع كراهة الصحابة لذلك ، وبوب عليه البخاري في {بَاب الشُّرُوطِ فِي الْجِهَادِ وَالْمُصَالَحَةِ مَعَ أَهْلِ الْحَرْبِ وَكِتَابَةِ الشُّرُوطِ} ، وَبَوَّب عَلِيْه ابن حبان {ذِكْرُ مَا يُسْتَحَبُّ لِلإِمَامِ اسْتِعْمَالُ المُهَادَنَةُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَعْدَاءِ اللهِ إِذَا رَأَى بِالمُسْلِمِيْنَ ضَعَفًا يَعْجَزُوْنَ عَنْهُمْ} ، وَبَوَّبَ عَلَيْه البَيْهَقِيُّ {بَاب الهُدْنَةِ عَلَى أَنْ يَرُدَّ الإِمَامُ مَنْ جَاءَ بَلَدَهُ مُسْلِمًا مِنْ المُشْرِكِيْنَ} ، وبسبب هذا العهد لم يتعرض مسلمٌ لكافر في مدة العهد حتى أعلن ذلك النبي لنقضهم العهد ففتح مكة. وكذا في تبويب البخاري على قصة الرماة في أحد : {بَاب مَا يُكْرَهُ مِنْ التَّنَازُعِ وَالاخْتِلاَفِ فِي الْحَرْبِ وَعُقُوبَةِ مَنْ عَصَى إِمَامَهُ}.
(الوجه الثاني) : أن هؤلاء المعاهدين أو المستأمنين لم يأتوا بما ينقض عهدهم أو أمانهم ، بخلاف كعب بن الأشرف الذي نقض العهد بهجـاء النبي وخلع الأمان وذهابه لمكة ينصر المشركين فصار حربياً بذلك ، ولهذا تنبه الحافظ أبو داود السجستاني ـ رحمه الله ـ في "سننه" فبوَّب في كتاب " الجهاد" باباً {فِي الْعَدُوِّ يُؤْتَى عَلَى غِرَّةٍ وَيُتَشَبَّهُ بِهِمْ} فذكر فيه : حديث قصة قتل كعب بن الأشرف ، ثم عقَّبه بحديث "الإِيمَانُ قَيَّدَ الْفَتْكَ ، لاَ يَفْتِكُ مُؤْمِنٌ" ، قال المناوي(فيض القدير:3/186) : "(لا يفتك مؤمن): خبر بمعنى النهي لأنه متضمن للمكر والخديعة ، أو هو نهي ، وما روي من الفتك بكعب بن الأشرف وابن أبي حقيق وغيرهما : فكان قبل النهي ، أو هي وقائع مخصوصة بأمر سماوي لما في المفتوكين من الغدر وسب الإسلام وأهله ، قال الزمخشري : (الفرق بين الفتك والغيلة : أن الفتك أن تهتبل غرته فتهلكه جهارًا ، والغيلة أن تكتمن له في محل فتقتله خفية) ، وظاهرٌ أن المراد في الحديث هما معا"أ.هـ. فأهل الحديث وعلماؤه ذكروا حديث كعب بن الأشرف في كتاب الجهاد ، وفي قتال أهل الحرب ، ولهذا بوَّب البخاري ـ كما تقدم ـ على حديث كعب بن الأشرف هذا فقال : {بَاب الْفَتْكِ بِأَهْلِ الْحَرْبِ} :
* قال الحافظ ابن حجر(فتح الباري:6/185) : "(قوله باب الفتك بأهل الحرب) : "وإنما فتكوا به ؛ لأنه نقض العهد ، وأعان على حرب النبي وهجـاه ، ولم يقع لأحد ممن توجه إليه تأمينٌ له بالتصريح ، وإنما أوهموه ذلك وآنسوه حتى تمكنوا من قتله"أ.هـ. وقال البغوي رحمه الله(شرح السنة:11/45) : "قد ذهب بعضُ مَن ضلَّ في رأيه وزلَّ عن الحق إلى أن قتل كعب بن الأشرف كان غدراً وفتكاً , فأبعد الله هذا القائل , وقبَّح رأيهُ من قائل , ذهب عليه معنى الحديث , والتبس عليه طريق الصواب , بل قد روي عن أبي هريرة عن النبي أنه قال : (الإيمان
قيَّدَ الفتكَ, لا يفتكُ مؤمنٌ). والفتك أن يُقتل مَن له أمان فجأة. وكان كعب بن الأشرف ممن عاهد رسولَ الله أن لا يعين عليه أحداًَ ولا يقاتلـه , ثم خلع الأمان , ونقض العهد , ولحق بمكة , وجاء مُعلناً معاداة النبي يهجوه في أشعاره ويسبه ، فاستحقَّ القتل لذلك"أ.هـ.
* وقال الشيخ العلامة صالح الفوزان رداً على من احتج بقصة ابن الأشرف على اغتيال المعاهدين أو المستأمنين في البلاد السعودية(فتاوى الأئمة في النوازل المدلهمة:157) :"ليس في قصة كعب بن الأشرف دليل على جواز الاغتيالات ؛ فإن قتل كعب بن الأشرف كان بأمر الرسول وهو وليُّ الأمر ، وكعب من رعيته بموجب العهد ، وقد حصلت منه خيانة للعهد ، اقتضت جواز قتله كَفًّا لشره عن المسلمين ، ولم يكن قتله بتصرف من آحاد الناس ، أو بتصرف جماعة منهم دون ولي الأمر ، كما هو حال الاغتيالات المعروفة اليوم في الساحة ؛ فإن هذه فوضى لا يقرها الإسلام ، لما يترتب عليها من المضار العظيمة في حقِّ الإسلام والمسلمين"أ.هـ.
* وقال سماحة الشيخ عبدالعزيز بن باز عن حكم الاعتداء على الأجانب السياح والزوار في البلاد الإسلامية (مجموع الفتاوى 8/239) : ": هذا لا يجوز ، الاعتداء لا يجوز على أي أحد ، سواء كانوا سياحاً أو عمالاً ؛ لأنهم مستأمنون ، دخلوا بالأمان ، فلا يجوز الاعتداء عليهم ، ولكن تناصح الدولة حتى تمنعهم مما لا ينبغي إظهاره ، أما الاعتداء عليهم فلا يجوز ، أما أفراد الناس فليس لهم أن يقتلوهم أو يضربوهم أو يؤذوهم ، بل عليهم أن يرفعوا الأمر إلى ولاة الأمور ؛ لأن التعدي عليهم تعد على أناس قد دخلوا بالأمان فلا يجوز التعدي عليهم ، ولكن يرفع أمرهم إلى من يستطيع منع دخولهم أو منعهم من ذلك المنكر الظاهر. أما نصيحتهم ودعوتهم إلى الإسلام أو إلى ترك المنكر إن كانوا مسلمين فهذا مطلوب ، وتعمه الأدلة الشرعية ، والله المستعان ، ولا حول ولا قوة إلا بالله. وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وآله وصحبه"أ.هـ.
* وقال فضيلة شيخنا العلامة محمد بن عثيمين (لقاء الباب المفتوح في صفر 1417هـ : نشر في جريدة المسلمون) عن قتل المستأمنين في البلاد السعودية : "... ولا يخفى علينا أيضاً أنه قال : "ذِمَّةُ الْمُسْلِمِينَ وَاحِدَةٌ يَسْعَى بِهَا أَدْنَاهُمْ ، فَمَنْ أَخْفَرَ مُسْلِمًا فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلاَئِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ" ، ولا يخفى علينا أن الائتمان أو التأمين والإجارة يكون حتّى من واحدٍ من المسلمين ، وإن لم يكن ولي أمرٍ ، حتّى ولو كان امرأة ، قال النبي : " قَدْ أَجَرْنَا مَنْ أَجَرْتِ يَا أُمَّ هَانِئٍ" ، فكيف إذا كان الأمان من ولاة الأمور؟! فهذا عين المحادة لله ورسوله ، وعين المشاقّة لله ورسوله ، ثالثاً : لو قدرنا على أسوأ تقدير أن الدولة التي ينتمي إليها هؤلاء الذين قتلوا دولة معادية للإسلام فما ذنب هؤلاء ؟ هؤلاء الذين جاؤوا بأمر حكومتهم ، قد يكون بعضهم جاؤوا عن كره ولا يريد الاعتداء"أ.هـ.
(الوجه الثالث) : أن هؤلاء لو فرض أنه لا يجوز للإمام معاهدتهم وتأمينهم بزعمهم تنزلاً ، فإنه لا ينطبق عليهم حالة كعب بن الأشرف لأن قصة كعب واقعة عين تنزل على أهل الذمة الذين تجري عليهم أحكام أهل الإسلام بالاتفاق فلإمام قتل من نقض عهده منهم أو أحدث فيكون في حكم أهل الحرب ، أما هؤلاء فهم إما معاهدون أو مستأمنون لا تجري عليهم أحكام الإسلام ، ولذا فتحريم الغدر حكم محكم فيهم على الأصل ، وبأقل الأحوال فلهم شبهة الأمان ، لما علم من أن الكافر الحربي إذا أمنه المسلمون أو فهم ذلك منهم لا يحل لأحد أن يتعرض له لئلا يدخل في نصوص الوعيد في الغدر وخفر الذمم كما في قوله :"أيُّمَا رَجُلٍ أمَّنَ رَجُلاً عَلَى دَمِهِ ثَمَّ قَتَلَهُ , فَأَنَا مِن القاتِلِ بَرِيءٌ , وَإنْ كَانَ المَقْتُولُ كَافِراً" صححه الحاكم وابن حبان ، وحديث : "فَمَنْ أَخْفَرَ مُسْلِمًا فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلاَئِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ لاَ يُقْبَلُ مِنْهُ صَرْفٌ وَلاَ عَدْلٌ" رواه الشيخان ، وقد قرّر ذلك أهل العلم في من لهم شبهة أمان أو فهم الأمان :
* قال أبو داود (مسائل الإمام أحمد بن حنبل لأبي داود:333) : "قلت لأحمد : الرجل يحمل على العلجِ ، فيصيح بِه بالرومية : قف أو ألق سلاحك ؟ قال : هذا أمان ، قلت : فإن العلج علم أنّه ليس له منْه مَنْجَا ؟ فقال : هذا أمانٌ ، قلت : فإن قال له : ذهبتَ أو نحو ذلك ، يريد يرعبه ؟ قال : كلُّ شيء يرى العلج أَنه أمانٌ فهو أمان"أ.هـ.
* وقال ابن عبد البر(الاستذكار:14/84) : "وسئل مالك عن الإشارة بالأمان : أهي بمنزلة الكلام ؟ فقال نعم ، وإني أرى أن يتقدم إلى الجيوش : أن لا تقتلوا أحداً أشاروا إليه بالأمان ؛ لأن الإشارة عندي بمنزلة الكلام ، وإنه بلغني أن عبد الله بن عباس قال : ما ختر قوم بالعهد إلا سلط الله عليهم العدو. [وقال أبو عمر] : إذا كان دم الحربي الكافر يحرم بالأمان ، فما ظنك بالمؤمن الذي يصبح ويمسي في ذمة الله! كيف ترى في الغدر به والقتل ، وقد قال : ( الإيمان قيد الفتك لا يفتك مؤمن)"أ.هـ.
*وقال ابن قدامة فيمن عقد العهد دون إذن الإمام(المغني:13/157) : "وإن دخل بعضهم دار الإسلام بهذا الصلح كان آمنا ؛ لأنه دخل معتقداً للأمان ، ويرد إلى دار الحرب ولا يقر في دار الإسلام لأن الأمان لم يصح"أ.هـ.
* وقال شيخ الإسلام ابن تيمية (الصارم المسلول:3/768) وذكر قتل كعب بن الأشرف كان لمجرد سب النبي ولم يتعد لغيره من بني جنسه : "ولو كان كعب بمنزلة كافرٍ محاربٍ فقط لم يجز قتله إذا أَمّنهم كما تقدم ؛ لأن الحربي إذا قُلتَ له أو عَمِلتَ معه ما يعتقد أنه أمانٌ صار له أمانٌ ، وكذلك كلُ من يجوز أمانه"أ.هـ. وقال أيضاً(الصارم المسلول:2/33) : "وشبهة الأمان كحقيقته ، فإن من تكلم بكلام يحسبـه الكافر أماناً كان في حقه أماناً ، وإن لم يقصده المسلم "أ.هـ. وقال رحمه الله(الفتاوى الكبرى:6/19) : "جاءت السنة بأن كل ما فَهِمَ الكافرُ أنه أمان ، كان أماناً ، لئلا يكون مخدوعاً ، وإن لم يقصد خَدْعه"أ.هـ.
الشبهة السابعة : شبهة أن جهاد الدفع لا يشترط له قدرة : قد قدمنا الرد عليها مفصلاً في التنبيه الأول بقيوده في فصل شروط الجهاد ص (6).
الشبهة الثامنة : أن ترك نصرة المسلمين هو ترك للجهاد الواجب : قد قدمنا الرد على هذا الإطلاق في القيد الثاني والثالث من التنبيه الأول من أن وجوب نصرة المسلم لأخيه المسلم إذا اعتدي عليه ليست مطلقة بل مقيدة بعدم العجزٍ ، أو وجود الميثاق ، أو بعدم أرادة الدين بالقتال ، أو الاختلاف في العهود (ص11).
تاسعاً : مثال معاصر على الجهاد البدعي في ميزان العلم
يقول الله تعالى وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا ، وفي مسلم ومسند أحمد قال :"إِنَّ اللَّهَ يَرْضَى لَكُمْ : أَنْ تَعْبُدُوهُ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا ، وَأَنْ تَعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا ، وَأَنْ تُنَاصِحُوا مَنْ وَلاَّهُ اللَّهُ أَمْرَكُمْ " ، وللشيخين قال :" مَنْ كَرِهَ مِنْ أَمِيرِهِ شَيْئًا فَلْيَصْبِرْ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ لَيْسَ أَحَدٌ مِنْ النَّاسِ خَرَجَ مِنْ السُّلْطَانِ ـ وفي روايةٍ الجماعةِ ـ شِبْرًا فَمَاتَ عَلَيْهِ إِلاَّ مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً". ولهما أيضاً عن عُبَادَةَ قَالَ : "بَايَعَنَا النَّبِيُّ عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ فِي مَنْشَطِنَا وَمَكْرَهِنَا وَعُسْرِنَا وَيُسْرِنَا وَأَثَرَةً عَلَيْنَا ، وَأَنْ لاَ نُنَازِعَ الأَمْرَ أَهْلَهُ إِلاَّ أَنْ تَرَوْا كُفْرًا بَوَاحًا عِنْدَكُمْ مِنْ اللَّهِ فِيهِ بُرْهَانٌ" ، ولمسلم عَنْ عَرْفَجَةَ قال : "مَنْ أَتَاكُمْ وَأَمْرُكُمْ جَمِيعٌ عَلَى رَجُلٍ وَاحِدٍ يُرِيدُ أَنْ يَشُقَّ عَصَاكُمْ أَوْ يُفَرِّقَ جَمَاعَتَكُمْ فَاقْتُلُوهُ" ، وله عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَ :"إِنَّهُ يُسْتَعْمَلُ عَلَيْكُمْ أُمَرَاءُ فَتَعْرِفُونَ وَتُنْكِرُونَ ، فَمَنْ كَرِهَ فَقَدْ بَرِئَ ، وَمَنْ أَنْكَرَ فَقَدْ سَلِمَ ، وَلَكِنْ مَنْ رَضِيَ وَتَابَعَ ، قَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلاَ نُقَاتِلُهُمْ ؟ قَالَ :"لاَ مَا صَلَّوْا" ، وله عن عَوْفَ بْنَ مَالِكٍ "أَفَـلاَ نُنَابِذُهُمْ عِنْدَ ذَلِكَ ؟ قَالَ :"لاَ مَا أَقَامُوا فِيكُمْ الصَّلاَةَ ، لاَ مَا أَقَامُوا فِيكُمْ الصَّلاَةَ. أَلاَ مَنْ وَلِيَ عَلَيْهِ وَالٍ فَرَآهُ يَأْتِي شَيْئًا مِنْ مَعْصِيَةِ اللَّهِ فَلْيَكْرَهْ مَا يَأْتِي مِنْ مَعْصِيَةِ اللَّهِ وَلاَ يَنْزِعَنَّ يَدًا مِنْ طَاعَةٍ". وله عن وَائِلٍ الْحَضْرَمِيِّ قَالَ : "اسْمَعُوا وَأَطِيعُوا فَإِنَّمَا عَلَيْهِمْ مَا حُمِّلُوا وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ" ، وله عن حذيفة :"تَسْمَعُ وَتُطِيعُ لِلأَمِيرِ وَإِنْ ضُرِبَ ظَهْرُكَ وَأُخِذَ مَالُكَ فَاسْمَعْ وَأَطِعْ" ، ويقول :"آمُرُكُمْ بِخَمْسٍ اللَّهُ أَمَرَنِي بِهِنَّ : بِالْجَمَاعَةِ ، وَبِالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ ، وَالْهِجْرَةِ ، وَالْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ، فَإِنَّهُ مَنْ خَرَجَ مِنْ الْجَمَاعَةِ قِيدَ شِبْرٍ فَقَدْ خَلَعَ رِبْقَةَ الإِسْلامِ مِنْ عُنُقِهِ إِلَى أَنْ يَرْجِعَ ، وَمَنْ دَعَا بِدَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ فَهُوَ مِنْ جُثَا جَهَنَّمَ ، صَامَ وَصَلَّى وَزَعَمَ أَنَّهُ مُسْلِمٌ ، دْعُوا الْمُسْلِمِينَ بِمَا سَمَّاهُمْ الْمُسْلِمِينَ الْمُؤْمِنِينَ عِبَادَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ" رواه أحمد والترمذي. وهذا من النبي بيان لفضل الإمامة وعظم حرمتها عند الله ورسوله ، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله(الفتاوى:28/390) : "يجب أن يعرف أن ولاية أمر الناس من أعظم واجبات الدين ، بل لا قيـام للدين ولا للدنيا إلا به بها … فالواجب اتخاذ الإمارة قربة يتقرب بها إلى الله ، فإن التقرب إليه فيها بطاعته وطاعة رسوله من أفضل القربات"أ.هـ. ثم فانظر أيها المنصف حرص النبي الكريم على حفظ الأمن وتسكين الناس بالسمع والطاعة ولزوم الجماعة مهما حصل من الولاة من ظلم وجور دون الكفر ، في الوقت الذي أمر بجهاد من فارقوا الجماعة أشد المجاهدة مع عبادتهم حتى قال عنهم كما في الصحيح : "يَخْرُجُ فِي هَذِهِ الأُمَّةِ ـ وَلَمْ يَقُلْ مِنْهَا ـ قَوْمٌ تَحْقِرُونَ صَلاتَكُمْ مَعَ صَلاَتِهِمْ يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لا يُجَاوِزُ حُلُوقَهُمْ أَوْ حَنَاجِرَهُمْ يَمْرُقُونَ مِنْ الدِّينِ مُرُوقَ السَّهْمِ مِنْ الرَّمِيَّةِ" ، وقال:"سَيَخْرُجُ قَوْمٌ فِي آخِرِ الزَّمَانِ أَحْدَاثُ الأَسْنَانِ سُفَهَاءُ الأَحْلامِ يَقُولُونَ مِنْ خَيْرِ قَوْلِ الْبَرِيَّةِ لا يُجَاوِزُ إِيمَانُهُمْ حَنَاجِرَهُمْ يَمْرُقُونَ مِنْ الدِّينِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنْ الرَّمِيَّةِ ، فَأَيْنَمَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاقْتُلُوهُمْ فَإِنَّ فِي قَتْلِهِمْ أَجْرًا لِمَنْ قَتَلَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ" ، وقال : "يَخْرُجُونَ مِنْ الدِّينِ كَمَا يَخْرُجُ السَّهْمُ مِنْ الرَّمِيَّةِ ثُمَّ لاَ يَعُودُونَ فِيهِ ، هُمْ شَرُّ الْخَلْقِ وَالْخَلِيقَةِ". ولذا يقول شيخ الإسلام ابن تيمية(مجموع الفتاوى:28/470) : "ولهذا اتفق أئمة الإسلام على أن هذه البدع المغلظة شر من الذنوب التي يعتقد أصحابها أنها ذنوب وبذلك مضت سنة رسول الله حيث أمر بقتال الخوارج عن السنة ، وأمر بالصبر على جور الأئمة وظلمهم والصلاة خلفهم مع ذنوبهم ، وشهد لبعض المصرين من أصحابه على بعض الذنوب أنه يحب الله ورسوله ونهى عن لعنته ، وأخبر عن ذي الخويصرة وأصحابه مع عبادتهم وورعهم أنهم يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية"أ.هـ. ونحنُ في هذِه البلادِ ننعمُ بأمرينِ عظيمينِ تحققتْ بها مقوماتُ الجماعةِ لا يوجدُ لهُما نظيْرٌ في العالمِ اليومَ : فولايةٌ شرعيةٌ سلفيةٌ مرتبطةٌ بولايةٍ شرعيةٍ علميةٍ قائمةٍ على منهاجِ النبوةِ ، يقولُ مؤسسُ هذه البلادِ الملكُ عبدُ العزيزِ رحمه اللهُ في يومِ فِي حجِ سنةِ إحدى وخمسينَ وثلاثمائةٍ بعدَ الألفِ (1351) : (يقولونَ إننا وهابيةٌ ، والحقيقةُ أننا سلفيونَ محافظونَ على دينِنَا نتبعُ كتابَ اللهِ وسنةِ رسولِهِ، وليسَ بيننا وبينَ المسلمينَ إلا كتابُ اللهِ وسنةُ رسولِه"أ.هـ. فهذِه من أعظمِ مفاخرِ هذه البلادِ أن حكامَها يتشرفونَ بانتمائِهم لمنهجِ السلفِ الصالحِ ، ويعلنُ أولُهم وآخرُهم تمسكَهم بالدعوةِ الإصلاحيةِ التي جددتْ منهجَ السلفِ الصالحِ في العصورِ المتأخرةِ ، ولذا فشعار علماء هذه البلاد من لدن الإمام محمد بن عبد الوهاب إلى يومنا هذا هو شعار أهل السنة السلفيين مع الأئمة أبراراً كانوا أم فجاراً من لدن الصحابة مروراً بالإمام أحمد وشيخ الإسلام أحمد بن تيمية ثم شيـخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب إلى وقتنا هذا هو شعار السمع والطاعة والجماعة مع النصيحة يفارقون بذلك جميع أهل الأهواء والبدع ، تطبيقاً لهذه النصوص التي أمر بها النبي ، وهو المعصوم الذي لا ينطق عن الهوى وحث عليها مهما بلغ التغير والفساد في الراعي والرعية ما دام أمر الصلاة قائم والكفر البواح غير ظاهر ، فمن هذه المواقف العملية في تطبيق مع هذا الشعار السلفي : (الموقف الأول) : موقف ابن عمر حين جاء إلى ابن مطيع في زمان فتنة الحرة وقد أضمر الخروج على يزيد بن معاوية فحدثه بقول النبي :"مَنْ خَلَعَ يَدًا مِنْ طَاعَةٍ لَقِيَ اللَّهَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لاَ حُجَّةَ لَهُ ، وَمَنْ مَاتَ وَلَيْسَ فِي عُنُقِهِ بَيْعَةٌ مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً" رواه مسلم . وكان ابن عمر وأنس وغيرهم من الصحابة يصلون خلف الحجـاج على ظلمه وجوره ، بل قد روى البخاري أنهم لما شكوا إلى أنس ما يلقون من الحجاج ، قال : "اصْبِـرُوا فَإِنَّهُ لاَ يَأْتِي عَلَيْكُمْ زَمَانٌ إِلاَّ الَّذِي بَعْدَهُ شَرٌّ مِنْهُ حَتَّى تَلْقَوْا رَبَّكُمْ ، سَمِعْتُهُ مِنْ نَبِيِّكُمْ ". (الموقف الثاني) : موقف الإمام أحمد رحمه الله حين أظهر أمراء بني العباس في زمنه بدعة خلق القرآن وألزموا الناس بها ، فلم يفارق رحمه الله شعار أهل السنة من السمع والطاعة مع النصيحة لهم مع أنهم ضربوه وحبسوه ، ولما جاءه قوم من أهل بغداد أضمروا الخروج ، فقال لهم الإمام(كما في السنة للخلال:1/133) : ليس هذا صواباً ، هذا خلاف الآثار أ.هـ. وناظرهم رحمه الله فكان مما قال : "ولا تخلعوا يداً من طاعة ، ولا تشقوا عصا المسلمين ، ولا تسفكوا دماءكم ودماء المسلمين معكم ، وانظروا في عاقبة أمركم ، واصبروا حتى يستريح برٌّ أو يُستراح من فاجر"أ.هـ. (الموقف الثالث) : هو موقف شيخ الإسلام أحمد بن تيمية الحراني رحمه الله حين نصر حكام عصره عقيدة الأشاعرة الذين آذوه أذية عظيمة لنشره عقيدة أهل السلف الصالح ، ومع ذلك هاهو يقول(الفتاوى:35/13):"وأما أهل العلم والدين والفضل فلا يرخصون لأحد بما نهى الله عنه من معصية ولاة الأمور وغشهم والخروج عليهم بوجه من الوجوه ، كما عرف من عادات أهل السنة والدين قديماً وحديثاً"أ.هـ. (الموقف الرابع) : هو موقف علماء الدعوة السلفية في هذه البلاد الذين مواقفهم أشهر من أن تذكر سابقهم ولاحقهم في نصيحة ولاة الأمر بالتي هي أحسن والدعاء ، وعدم السماح بنشر مثالبهم أو الوقيعة بهم ، منها أنَّ إمام الدعوةِ شيخ الإسلامِ محمد بن عبدِ الوهابِ رحمـه الله لم!ا ذكر أصولاً ستة من أًصولِ وقواعدِ الدينِ ، بدأ بإخلاصِ الدينِ للهِ وحدَه ، ثم أمرِ اللهِ بالإجماعِ في الدينِ ، ثم قال (الدرر السنية:1/173) : "الأصل الثالث : أن من تمام الاجتماع السمع والطاعة لمن تأمر علينا ، ولو كان عبداً حبشياً ؛ فبين الله هذا بياناً شافياً كافياً بوجوه من أنواع البيان شرعاً وقدراً ، ثم صار هذا الأصل لا يعرف عند أكثر من يدعي العلم ، فكيف العمل به ؟!"أ.هـ. ومع الأسف صار موقف أهل السنة والجماعة والسلف الصالح في هذا الباب غريباًً يوصم أصحابه بالتخاذل والضعف أو بالعمالة وبيع الذمة؛ لأن الساحة في بلادنا قد اخترقت على حين غفلة من أمرائها وعلمائها وحسن ظن ، فتربى الكثير من شبابنا على مناهج وافدة منحرفة في عقائدها وسلوكها لأنها لا تنطلق من منطلق علماء هذه البلاد من قواعد شرعية ومصالح مرعية ، وإنما من قواعد وضعها أقوام جهال يظنون أن الخير وعز الأمة فيما وضعوه لأتباعهم من أصول وضوابط مـا أنزل الله بها من سلطان ، ولذا تجد أن شبابنا ودعاتنا المتأثرين بالحزبيات الوافدة يقفون في كل مواقفهم في الصف المقابل لما يقفه علماء هذه البلاد سالكين في إنكارهم للمنكرات التهييج على ولاة الأمر وتحزيب الشباب ضد العلماء ففرقـوا الصف وأضعفوا جانب الدين في البلاد. و انظر لمباينة مواقفهم لمواقف العلماء الكبار في موافقة كل شخص يعادي هذا البلاد ، فإنك ستجدهم سيلتفون حوله ويناصرونه بغض النظر عن موافقتهم لكل ما يقول كما حصل من توزيع لنشرات المسعري والفقيه ومحمد نايف سرور ، وسأذكر نموذجاً واحداًً لرجل يمثل الجهاد غير المنضبط بضوابط الشرع ، هو أسامة بن لادن هداه الله الذي جعل الجهاد الذي شرع لنشر التوحيد هو في التفجير والقتل في بلاد الحرمين وتحرير أرضها من حكامها الذين هم أنصار التوحيد في هذا العصر ، في نفس الوقت الذي سلم منه الوثنيون القبوريون الذين يعيش بلادهم فلا يعرف له سابقة واحدة في نشر التوحيد وإنكار الشرك بينهم ، بل أعلن تقسيم العالم إلى فسطاطين : أحدهما فسطاط إيمان له ومن معه في بلاد الشرك والخرافة ، والفسطاط الآخر هو فسطاط الكفر في سائر العالم ممن أوجب الهجرة عليهم إليه ، وجعل التفجير والإرهاب في بلاد الحرمين من الجهاد في سبيل الله ، فصار حاله كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله عن الخوارج (الفتاوى:19/72) : "لهم خاصتان مشهورتان فارقوا بهما جماعة المسلمين وأئمتهم : أحدهما : خروجهم عن السنة وجعلهم ما ليس بسيئة سيئة أو ما ليس بحسنة حسنة ... الفرق الثاني في الخوارج وأهل البدع : إنهم يكفرون بالذنوب والسيئات ويترتب على تكفيرهم بالذنوب استحلال دماء المسلمين وأموالهم وأن دار الإسلام دار حرب ، ودارهم هي دار الايمان ... فينبغي للمسلم أن يحذر من هذين الأصلين الخبيثين وما يتولد عنهما من بغض المسلمين وذمهم ولعنهم واستحلال دمائهم وأموالهم. وهذان الأصلان هما خلاف السنة والجماعة ، فمن خالف السنة فيما أتت به أو شرعته فهو مبتدع خارج عن السنة ، ومن كفر المسلمين بما رآه ذنباَ سواء كان ديناً أو لم يكن ديناً وعاملهم معاملة الكفار فهو مفارق للجماعة ، وعامة البدع والأهواء إنما تنشأ من هذين الأصلين". وقال رحمه الله (الفتاوى:28/479) : "وقد اتفق أهل العلم بالأحوال أن أعظم السيوف التي سلت على أهل القبلة ممن ينتسب إليها ، وأعظم الفساد الذي جرى على المسلمين ممن ينتسب إلى أهل القبلة إنما هو من الطوائف المنتسبة إليهم فهم أشد ضررًا على الدين وأهله"أ.هـ. ثم نقارن أراءه المنحرفة بموقف العلماء الربانيين السلفيين الذين يعرفون مقاصد الشريعة ويلتزمون حدودها :
1- تكفيره لجميع الدول منها السعودية بلاد التوحيد : قال أسامة بن لادن في مقابلة نشرتها (جريدة الرأي العام الكويتية) (بتاريخ11/11/2001م) : "أفغانستان وحدها دولة إسلامية ، باكستان تتبع القانون الإنكليزي ، وأنا لا أعتبر السعودية دولة إسلامية". وقال في كلمته لأهل العراق (في شهر ذي الحجة 1423هـ) : "كما نؤكد على الصادقين من المسلمين أنه يجب عليهم أن يتحركوا ويحرضوا ويجيشوا الأمة في مثل هذه الأحداث العظام والأجواء الساخنة لتتحرر من عبودية هذه الأنظمة الحاكمة الظالمة المرتدة المستعبدة من أمريكا وليقيموا حكم الله في الأرض ، ومن أكثر المناطق تأهلاً للتحرير ، الأردن والمغرب ونيجيريا وباكستان وبلاد الحرمين واليمن". وقال في شريط: (استعدوا للجهاد) : "ولا شك أن تحرير جزيرة العرب من المشركين هو كذلك فرض عين". وقال في (5/12/1423) لقناة الجزيرة [http://www.aljazeera.net/programs/ho...3/2/2-22-1.htm] : "فخلافنا مع الحكام ليس خلافاً فرعياً يمكن حله ، وإنما نتحدث عن رأس الإسلام ، شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله فهؤلاء الحكام قد نقضوها من أساسها". فما ميزان أقوال ابن لادن الضالة عند العلماء الربانيين ؟ سئل شيخنا العلامة صالح الفوزان : لا يخفى على سماحتكم ما لأسامة بن لادن من تحريض للشباب في العالم ، وأيضا الإفساد في الأرض ، والسؤال : هل يسوغ لنا أن نصفه بأنه من الخوارج ؟ لا سيما وأنه مؤيد للتفجيرات في بلادنا وغيرها ؟ فقال الشيخ(موقع الشيخ: رقم الفتوى 6587) : "كل من اعتنق هذا الفكر فهو من الخوارج ، كل من اعتنق هذا الفكر ودعا إليه وحرٌض عليه فهو من الخوارج بقطع النظر عن اسمه وعن مكانه ، فهذه قاعدة : أن كل من دعا إلى هذا الفكر ، وهو الخروج على ولاة الأمور ، وتكفير المسلمين واستباحة دماء المسلمين فهو من الخوارج"أ.هـ. ويقول سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز(مجموع فتاوى:4/91) : "وهذه الدولة بحمد الله لم يصدر منها ما يوجب الخروج عليها ، وإنما الذي يستبيحون الخروج على الدولة بالمعاصي هم الخوارج ، الـذين يكفرون المسلمين بالذنوب ، ويقاتلون أهل الإسلام ، ويتركون أهل الأوثان ، وقد قال فيهم النبي إنهم: (يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية) ، وقال: (أينما لقيتموهم فاقتلوهم فإن في قتلهم أجراً لمن قتلهم عند الله يوم القيامة) متفق عليه. والأحاديث في شأنهم كثيرة معلومة"أ.هـ. وقال – رحمه الله – (مجموع فتاوى :9/93) :"صارت هذه البلاد مضرب المثل في توحيد الله والإخلاص له ، والبعد عن البدع والضلالات، ووسائل الشرك ... وهذه الدولة السعودية دولة مباركة نصر الله بها الحق ، ونصر بها الدين ، وجمع بها الكلمة ، وقضى بها على أسباب الفساد وأمّن الله بها البلاد ، وحصل بها من النعم العظيمة ما لا يحصيه إلا الله"أ.هـ. ويَقولُ سماحته رحمِهُ الله (محاضرة بعنوان "حقوق ولاة الأمر على الأمـة" - بتأريخ29/4/1417هـ) : "هذا بلاء عظيم وشر عظيم جهلوا الحق وعادوا أهله ، فالعداء لهذه الدولة عـداء للحـق عداء للتوحيد ، أي دولة تقوم بالتوحيد الآن ، أي دولة ؟ من حولنا من جيراننا ؟ مصر والشام والعراق والشام وجميع دول العالم ؟ من هو الذي يدعو للتوحيد الآن ويحكم شريعة الله ويهدم القبور التي تعبد من دون الله ؟ من هم ؟ أين هم ؟ أين الدولة التي تقوم بهذه الشريعة ؟ غير هذه الدولة"أ.هـ. وقال شيخنا محمد بن صالح العثيمين – رحمه الله ـ ( من شريط كشف اللثام– تسجيلات دار بن رجب) : "هؤلاء الذين يكفّرون ؛ هؤلاء ورثة الخوارج الذين خرجوا على علي بن أبي طالب "أ.هـ. ويقول(الفتاوى الشرعية في القضايا العصرية:58) : "لا يوجد ـ الحمد لله ـ مثل بلادنا اليوم في التوحيد وتحكيم الشريعة"أ.هـ. ويقول في خطبـة تفجير الخبر بخط يده : "وإننا وغيرنا من ذوي الخبرة والإنصاف ليعلم أن بلادنا ولله الحمد خير بلاد المسلمين اليوم في الحكم بما أنزل الله ، وفي اجتناب سفاسف الأمور ودمار الأخلاق ؛ ليس في بلادنا ولله الحمد قبور يطاف بها وتعـبد ، وليس فيها خمور تباع علناً وتشرب ، وليس فيها كنائس ظاهرة يعبد فيها غير الله سبحانه جهاراً ، وليس فيها مما هو معلوم في كثير من بلاد المسلمين اليوم ، فهل يليق بناصح لله ورسوله والمؤمنين ، هل يليق به أن ينقل الفتن إلى بلادنا ، إلا فليتقوا الله"أ.هـ.
2- جعله الإرهاب والإجرام في بلاد الحرمين جهاداً : يقول أسامة بن لادن في مقابلة له مع قناة الجزيرة القطرية عن التفجيرات التي وقعت في منطقة العليا من مدينة الرياض [http://www.aljazeera.net/programs/pr.../9-23-1.htm#L5] : "شرف عظيم فاتنا أن لم نكن قد ساهمنا في قتل الأمريكان في الرياض". وقال أيضا : "فأنا أنظر بإجلال كبير واحترام إلى هؤلاء الرجال العظام على أنهم رفعوا الهوان عن جبين أمتنا سواء الذين فجروا في الرياض أو تفجيرات الخبر أو تفجيرات شرق إفريقيا وما شابه ذلك". وقال أيضا : "أنني كنت أحد الذين وقعوا على الفتـوى لتحريض الأمة للجهاد ، وحرضنا منذ بضع سنين ، وقد استجاب كثير من الناس ـ بفضل الله ـ كان منهم الأخوة الذين نحسبهم شهداء ، الأخ عبد العزيز المعثم الذي قتل في الرياض ، ولا حول ولا قوة إلا بالله ، والأخ مصلح الشمراني ، والأخ رياض الهاجري ، نرجو الله - سبحانه وتعالى- أن يتقبلهم جميعاً ، والأخ خالد السعيد ، فهؤلاء اعترفوا أثناء التحقيق أنهم تأثروا ببعض الإصدارات والبيانات التي ذكرناها للناس". فما ميزان أقوال ابن لادن الضالة عند علماء الأمة الربانيين ؟ بعد أن بينت هيئة كبار العلماء في السعودية برئاسة سماحة الشيخ ابن باز أن هذه التفجير محرم شـرعًا بإجماع المسلمين ، قالوا (مجلة البحوث الإسلامية ـ العدد 47 ص 367) : "المجلس إذ يبين تحريم هذا العمل الإجرامي في الشرع المطهر ، فإنه يعلن للعالم أن الإسلام برئ من هذا العمل ، وهكذا كل مسلم يؤمن بالله واليوم الآخر بريء منه ، وإنما هو تصرف من صاحب فكر منحرف وعقيدة ضالة ، فهو يحمل إثمه وجرمه ، فلا يحتسب عمله على الإسلام ولا على المسلمين المهتدين بهدي الإسلام المعتصمين بالكتاب والسنة المستمسكين بحبل الله المتين ، وإنما هو محض إفساد وإجرام تأباه الشريعة والفطرة"أ.هـ. وقال سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز – رحمه الله - بشأن حادث تفجير الرياض (جريدة المدينة في 25/5/1416هـ ، وهي في فتاواه) : "لا شك أن هذا الحادث إنما يقوم به من لا يؤمن بالله واليوم الآخر ، لا تجد من يؤمن بالله واليوم الآخر إيماناً صحيحاً يعمل هذا العمل الإجرامي الخبيث الذي حصل به الضرر العظيم والفساد الكبير ، إنما يفعل هذا الحادث وأشباهه نفوس خبيثة مملوءة من الحقد والحسد والشر والفساد وعدم الإيمان بالله ورسوله نسأل الله العافية والسلامة"أ.هـ. ويقول شيخنا محمد بن عثيمين (لقاء الباب المفتوح في صفر 1417هـ _ وفي شريط "الحادث العجيب في البلد الحبيب) بعدَ حادث التفجير الذي وقع في مدينة الخبر بتاريخ 9/2/1417هـ: "الواجب على طلبة العلم أن يبينوا أن هذا المنهج منهج خبيث ، منهج الخوارج الذين استباحوا دماء المسلمين وكفوا عن دماء المشركين"أ.هـ. بل قال الشيخ عمن يلقون المتفجرات في مجمعات الكفار(شرح أصول التفسير - في الشريط الأول) : "وأعني بهم أولئك الذين يلقون المتفجرات في صفوف الناس زعماً منهم أن هذا من الجهاد في سبيل الله ، والحقيقة أنهم أساؤا إلى الإسلام وأهل الإسلام أكثر بكثير مما أحسنوا. ماذا أنتج هولاء ؟ أسألكم هل أقبل الكفار على الإسلام أو ازدادوا نفرة منه ؟ وأهل الإسلام يكاد الإنسان يغطي وجهه لئلا ينسب إلى هذه الطائفة المرجفة المروعة والإسلام بريء منها ، الإسلام بريء منها. حتى بعد أن فرض الجهاد ما كان الصحابة يذهبون إلى مجتمع الكفار يقتلونهم أبداً إلا بجهاد له راية من ولي قادر على الجهاد. أما هذا الإرهاب فهو والله نقص على المسلمين ، أقسم بالله. لأننا نجد نتائجه ، ما في نتيجة أبدًا ، بل هو بالعكس فيه تشويه السمعة"أ.هـ.
3- الجهل بحرمة العهود وخفره الذمم : قال ابن لادن مخاطباً جميع أبناء لمسلمين(في شريط استعدوا للجهاد): "ليتقدم كل امرئ منهم لقتل هؤلاء اليهود والأمريكان ، فإن قتلهم من أوجب الواجبات ، ومن أعظم القربان ... فلا تشاور أحداً في قتل الأمريكان أمضي على بركة الله ، وتذكر موعودك عند الله سبحانه وتعالى بصحبة خير الأنبياء عليه الصلاة والسلام"أ.هـ. ويقول في كلمته لأهل العراق في (شهر ذي الحجة 1423) : "واعلموا أن استهداف الأميركيين واليهود بالقتل في طول الأرض وعرضها من أعظم الواجبات وأفضل القربات إلى الله تعالى". فهو لا يفرق بين معتدي وغيره ، ولا بين مستأمن وحربي ، وأين هذا من قول الإمام أحمد بن حنبل(مسائل أبي داود:334) : "كلُّ شيء يرى العلج أَنه أمانٌ فهو أمان"أ.هـ. وقول شيخ الإسلام (الصارم المسلول:2/522) : "ومعلوم أن شبهة الأمان كحقيقته في حقن الدماء"أ.هـ. ثم لننظر لميزان أقوال ابن لادن الضالة عند علماء الأمة الربانيين: وقال سماحة الشيخ عبدالعزيز بن باز رداً على الشيخ أحمد شاكر لما أوجب على المسلمين قتل كل إنجليزي حيثما وجدوا مدنيين أو عسكريين لما غزوا مصر(الرسائل المتبادلة بين الشيخ ابن باز والعلماء:595) : "والصواب أن يُستثنى من ذلك من كان من المسلمين رعية لدولة أخرى من الدول المنتسبة للإسلام التي بينها وبين الإنجليز مهادنة ؛ لأن محاربة الإنجليز لمصر لا توجب انتقاض الهدنة التي بينها وبين دولة أخرى من الدول الإسلامية ، ولا يجوز لأي مسلم من رعية الدولة المهادنة محاربة الإنجليز ؛ لعدوانهم على مصر وعدم جلائهم عنها ، والدليل على ذلك قوله ـ سبحانه ـ في حق المسلمين الذين لم يهاجروا : وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلاَّ عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاق ، ومن السنة قصة أبي جندل وأبي بصير لمّا هربا من قريش وقت الهدنة ، والقصة لا تخفى فضيلتكم"أ.هـ. وقال سماحته عن حكم الاعتداء على الأجانب السياح والزوار في البلاد الإسلامية (مجموع الفتاوى 8/239) : "هذا لا يجوز ، الاعتداء لا يجوز على أي أحد ، سواء كانوا سياحاً أو عمالاً ؛ لأنهم مستأمنون ، دخلوا بالأمان" ، وقال (المعلوم من واجب العلاقة بين لحاكم والمحكوم:15): "لا يجوز قتل الكافر المستأمن الذي أدخلته الدولة آمنا " ، وألقى فضيلة شيخنا محمد بن صالح العثيمين -رحمه الله- خطبة على أثر تفجير الخبر فذكر دم المعاهـد وأن سفكه من كبائر الذنوب ؛ لأن من قتله لم يرح رائحة الجنة كما قال ، ثم قال : "وأما المستأمن فقد قال الله عز وجل في كتابه وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ) أي اجعله في حماية منك حتى يبلغ المكان الآمن في بلده. وفي صحيح البخاري ومسلم أن النبي قال: (ذمة المسلمين واحدة يسعى بها أدناهم فمن أخفر مسلمًا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل منه صرف ولا عدل) ومعنى الحديث : أن الإنسان المسلم إذا أمّنَ إنساناً وجعله في عهده فإن ذمته ذمة للمسلمين جميعاً ، من أخفرها وغدر بهذا الذي أعطي الأمان من مسلم فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين ، وإننا لنلعن من لعنه الله ورسوله ملائكته وإنه لا يقبل منه صرف ولا عدل"أ.هـ. وقال الشيخ رحمه الله (لقاء الباب المفتوح في صفر 1417هـ _ وفي شريط "الحادث العجيب في البلد الحبيب) بعدَ حادث التفجير الذي وقع في مدينة الخبر بتاريخ 9/2/1417هـ : "لو قدَّرنا على أسوأ تقدير أن الدولة التي ينتمي إليها هؤلاء الذين قُتِلوا دولة معادية للإسلام , فما ذنبُ هؤلاء, هؤلاء الذين جاؤوا بأمر حكومتهم ، وقد يكون بعضهم جاء عن كره , ولا يريد الاعتداء"أ.هـ.
3- طعونه بأئمة الدين لجهله : قال أسامة بن لادن يخاطب إمام أهل السنة في هذا العصر الشيخ ابن باز في خطابه الذي بتاريخ (27/07/1415هـ) الصادر من هيئة النصيحة بلندن: "ونحن سنذكركم ـ فضيلة الشيخ ـ ببعض هذه الفتاوى والمواقف التي قد لا تلقون لها بالاً ، مع أنها قد تهوي بها الأمة سبعين خريفًا في الضلال". ثم قال في خطابه الآخر بتاريخ (28/8/1415هـ) محذراً الأمة من فتاوى الإمام ابن باز -: "ولذا فإننا ننبه الأمة إلى خطورة مثل هذه الفتاوى الباطلة وغير مستوفية الشروط". وقال في موضع آخر : "إن علة المسلمين اليوم ليست في الضعف العسكري ، ولا في الفقر المادي ، وإنما علتهم خيانات الحكام ، وتخاذل الأنظمة وضعف أهل الحق ، وإقرار علماء السلطان لهذا الوضع وركونهم إلى الذين ظلموا من حكام السوء وسلاطين الفساد". وقال : "فقد سبق لنا في ( هيئة النصيحة والإصلاح) أن وجهنا لكم رسالة مفتوحة في بياننا رقم (11) وذكرناكم فيها بالله ، وبواجبكم الشرعي تجاه الملة والأمة ، ونهيناكم فيها على مجموعة من الفتاوى والمواقف الصادرة منكم والتي ألحقت بالأمة والعاملين للإسلام من العلماء والدعاة أضراراً جسيمة عظيمة". وقال : "فضيلة الشيخ لقد تقدمت بكم السن ، وقد كانت لكم أياد بيضاء في خدمة الإسلام سابقًا ، فاتقوا الله وابتعدوا عن هؤلاء الطواغيت والظلمة الذين أعلنوا الحرب على الله ورسوله". فسبحان الله! كيف يفعل الهوى بصاحبه إذا جمع مع الهوى جهلاً ؟ كيف ينصب صاحبه لمحاربة أهل العلم ووصمهم بأقذع الأوصاف ؟ وصدق ابن القيم رحمه الله حين قال (مدارج السالكين :3/335) : "ولا يكون وليُّ لله كامل الولاية من غير أولي العلم أبداً ، فما اتخذ الله ولا يتخذ وليّا جاهلاً ، والجهل رأس كل بدعة وضلالة ونقص ، والعلم أصل كل خير وهدى ، وهؤلاء الجهلة الذين جمعوا بين الجهل بما جاء به والظلم بإتباع أهوائهم الذين قال الله تعالى فيهم: إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الأَنفُسُ وَلَقَدْ جَاءهُم مِّن رَّبِّهِمُ الْهُدَى"أ.هـ. وأما سماحة الشيخ فقد نصح أسامة وأمثاله حين قال(فتاواه:9/ 93) "ونصيحتي للمسعري والفقيه وابن لادن وجميع من يسلك سبيلهم أن يدَعوا هذا الطريق الوخيم ، وأن يتقوا الله ويحذروا نقمته وغضبه ، وأن يعودوا إلى رشدهم ، وأن يتوبوا إلى الله مما سلف منهم ، والله سبحانه وعد عباده التائبين بقبول توبتهم والإحسان إليهم" ، وقال – رحمه الله – لما تبين أمره كما في (جريدة المسلمون -9/5/ 1417): "أسامة بـن لادن : من المفسدين في الأرض ، ويتحرى طرق الشر الفاسدة ، وخرج عن طاعة ولي الأمر"أ.هـ.