المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : احتجاجات الشارع بين الوسيلة والغاية..


أمين تكوك
2011-01-30, 11:52
احتجاجات الشارع بين الوسيلة والغاية..
الوضع المعيشي بالجزائر ليس بخير، بل يزداد تدهورا وتقهقرا رغم امتلاك الخزينة العمومية لمدخرات مالية تستوجب واقع أفضل، هذا حكم لا يختلف حوله اثنان، لكنه لا يعني انتقادا لهذه السياسة أو تلك أو انتقاص من قيمة هذا المسؤول أو ذاك، أو تحميل المسؤولية لأولي الأمر أو من يسهر على تطبيق قراراتهم أو الشعب، ذلك لأن المجتمع تفاعلي يُؤثر ويتأثر، فالحالة التي تدحرج إليها الوضع بعد الحركة الاحتجاجية التي شهدتها ولا تزال مختلف مناطق الوطن هي نتاج ترسبات سنين وليست وليدة مرحلة أو سياسة، وعليه فإن مسؤولية ذلك مشتركة بين الجميع، إنها مسؤولية مجتمع برمته.
الشارع في آخر المطاف هو صورة مصغرة للمجتمع، يضم تنوعه وتناقضاته ويعكس واقعه بإيجابياته وسلبياته، لذا نجد فيه مختلف السلوكيات الموجودة في المجتمع، ونجد فيه من العنصر البشري الطالح منه والصالح وما بينهما. من المفروض بل الواجب أن تُؤثر سياسة الدولة في هذا المجتمع، فمثل هذه الاحتجاجات ليست المؤشر الوحيد عن تعفن الوضع وانحرافه، لأن أعمال شغب من هذا القبيل تحدث حتى في دول متقدمة ومتطورة في مختلف الميادين، لكن الفرق يكون دائما في كيفية التطبيق والترجمة على أرض الواقع.
في أمريكا مثلا تحدث جرائم أبشع واحتجاجات أعنف تُخلف خسائر أكثر، لكنها دائما تحدث كعمل استثنائي في تناقض رهيب مع الوسط الذي حدثت فيه، ولا تعبر عن حقيقة ما يحدث في مؤسسات الدولة ولا تشكك في رسالتها أو وظيفتها. لكن الوضع في الجزائر غير ذلك تماما، فالانهيار الشامل الرهيب الذي تعرفه جل المؤسسات باعتراف أولي الأمر يعكس وضعا مأساويا تعيشه هذه المؤسسات وينذر بمزيد من التعفن والتدهور، فاحتجاجات الأمس القريب تأتي ضمن مسلسل من التدني بدأ في يوم ما بتجاوز بسيط، ولا مبالاة، ثم تدرج عبر الأيام والسنين ليسقط أخيرا في مستنقع جرائم القتل والنهب وغيرهما..
لقد انسحبت منظمات المجتمع المدني من الحركية الاجتماعية والسياسية منذ سنين، وانطوت على نفسها تستقبل مختلف مكونات المجتمع ومشاكله وعلى أكثر تقدير تتأثر بها، دون أن يكون لها في المقابل أي تأثير في ذلك، تعيش على هامش المجتمع تتكبد ضرباته فاقدة لكل قدرة على الرد أو حتى حماية نفسها من الانزلاقات الاجتماعية والسياسية والثقافية الحاصلة في البلاد، في وقت كان من المفروض أن تكون في قلب هذه الحركية كقوة حية لإنتاج ومناقشة الأفكار وبلورتها، أو على أقل تقدير مسرح لغربلة ما يحدث في المجتمع وفرض ديناميكية سلمية تحصن المجتمع وتجعل منه منشطا فاعلا في الساحة.
إن تحييد الشباب على وجه الخصوص من قطاعات صنع القرار ومحاولة تهميشه بزرع مركب النقص فيه، ورضوخه _أي الشباب_ لذلك للأسف الشديد، هو الذي يفسر ما آلت إليه الأوضاع في هذا المجتمع. فقد كان لذلك نتائج وخيمة على الجميع، على الذين حيدوا الشاب خوفا من أن يكون قوة فاعلة للتأثير في الأحداث، وعلى منظمات المجتمع المدني، وعلى الذين اعتقدوا أن حيادها يضمن الاستقرار والتطور بعيدا عن الاضطرابات السياسية، وعلى المجتمع بمختلف اعتقاداته ومواقفه، والدليل على ذلك هذا الوضع الذي لا يحتاج إلى تحليل أو تدليل فالصورة واضحة للعيان ولا تتطلب ذكاء كبيرا.
إن الاستمرار في تسيير ومسايرة وحتى معالجة الوضع الراهن لن يوصلنا إلى بر الأمان ولن يخرجنا من النفق، لأن ذلك لن يكون في الأخير سوى محاولة لتسيير الأزمة بالمسكنات دون علاجها، وسيكون بمثابة إعادة إنتاج نفس نماذج الخطأ ونفس سيناريوهات الانحراف والتاريخ يشهد على ذلك. إن الوضع الذي وصلنا إليه يستوجب تغييرا في الإستراتيجية بإعادة تفعيل دور منظمات المجتمع المدني واحتكاكها بالمجتمع وتمكينها من التفاعل الإيجابي مع الواقع بإخراجها من العزلة التي تعيش فيها والسماح باكتمال المعادلة أي "التأثر.. والتأثير" وهذه مهمة الجميع، وليست مهمة وزارة ما فحسب، إنها قضية وطنية.
حقيقة أن إصلاح الوضع المعيشي مرتبط بجملة إصلاحات أخرى في مجالات أخرى لا مناص من أن تكون شاملة، لكن المسألة المطروحة في الوقت الحالي ليست مسألة زيادة في الراتب أو خفض للأسعار لأجل تحسين المستوى المعيشي، إنما قضية جوهرية واستعجالية تتمثل في إخراج مختلف أطراف المعادلة من وضع الضحية المفروض عليها، وتمكينها من ردة الفعل من التفاعل مع الوسط الموجودة فيه، أي إدماجها مرة أخرى في النشاط الوطني بمختلف قطاعاته الاقتصادية والصناعية والثقافية والاجتماعية وحتى السياسية، لأن المجتمع لا يمكنه أن يتطور بمعزل عن هذه الحركية التي تضمن له ألا يظل مجرد انعكاس لما يحدث، ذلك لأن طاقة التحمل لا يمكنها أن تستمر مهما كانت الجهود المبذولة من أجل ذلك، ولا يمكنها إلا أن تنتهي بانفجار لا قدر الله.
صحيح أن إقدام بعض الشباب الطائش على تخريب ونهب المنشآت لقي استهجانا وتنديدا من قبل المواطنين جميعا. إنها صورة سوداء لما آل إليه المجتمع بكل تأكيد، ولكن علينا أن نعي ما آلت إليه الأحوال والأمور، فالصورة تشير بوضوح إلى غياب الحس الإنساني والأخلاقي لدى بعض المواطنين، فإعادة بعث الأخلاق الحميدة أضحت واجبا مقدسا يجب أن يحتل المقام الأول في أجندة الدولة، فالأمم الأخلاق ما بقيت فإن ذهبت أخلاقهم ذهبوا.
أطراف المعادلة من مسؤولين، مواطنين ومنظمات المجتمع المدني أصبحت تحكمهم المادة في تعاملاتهم مع أنه الأولى بهم أن يترفعوا على مثل هذه العلاقة. بعيدا عن موقف الدين، ليس بالضرورة أن تكون حياتنا سعيدة بتحسن مستوانا المعيشي وفقط، إن المادة مهمة في الحياة لكنها ليست كل شيء، وليس من العقل العمل على كسبها بأي طريقة وبأي وسيلة وبأي ثمن، الاحتجاج وسيلة للتعبير عن رفض واقع ما لكنه تحكمه شروط من مسببات وطرق إن توفرت تجعل منه مُجدي، وإن اختلت أو سُيرت في غير اتجاهها تجعل منه انتهاكا، المحتجون ومؤيدوهم يرون بأنها الطريقة الوحيدة التي يُسمِعون بها صوتهم ويَرفعون من خلالها تظلمهم، لكن الغاية لا يجب أن تبرر الوسيلة بأي حال من الأحوال، أما رافضو مثل هذه الاحتجاجات فيصفونها بالطريقة اللاحضارية ويُدعمون موفقهم بأن الممتلكات التي تعرضت للتخريب والسرقة ينتفع بها المجتمع وهم بذلك يُخربون بيوتهم بأنفسهم، لكن حتى وإن كانت نظرة أصحاب هذا الرأي صائبة إلا أن عذرهم أقبح من الذنب، لأنهم يغضون الطرف عن مسببات هذه الاحتجاجات وما زيادة أسعار بعض المواد الاستهلاكية الأساسية إلا بمثابة القطرة التي أفاضت الكأس، يرون بأن شباب اليوم غير واعٍ ويلهث وراء الرخاء السريع دون عمل، رغم أنهم وصفوه ولقبوه بأعلى درجات الوطنية لما خرج عن بكرة أبيه مُزين بالأعلام الوطنية حين مُست رموزه، أم أنها وطنية رياضية لا غير؟! نرفض بشكل قاطع انتهاج أسلوب التخريب لأجل التعبير عن سوء الأحوال المعيشية، نندد ونستنكر غياب منظمات المجتمع المدني التي لا تجيد سوى التصفيق، نستغرب ونتأسف للامبالاة من فوضهم الشعب للدفاع عن حقوقه فتنكروا له، كما نرفض العيش محرومين من أدنى شروط الحياة في بلد أنعم الله عليه بكل الخيرات ويُفتخر باكتنازه بحبوحة مالية مللنا من سماع جعجعتها إلا أننا لا نزال نترقب رؤية الطحين، لكننا وبالرغم من كل هذا لن نتردد لحظة واحدة في الدفاع عن كل شبر من وطننا، لن تذهب تضحيات شهدائنا ومن بعدهم آبائنا وإخواننا سُدى ولن نسمح بتكرير أخطاء الماضي..بقلم/ محمد أمين تكوك