عبد الغني عبده
2011-01-25, 10:52
"الساعة"
قصة قصيرة
بقلم: عبد الغني عبده
***
(1)
عندما صدرت الأوامر للجيش المصري بالانسحاب خلال العدوان الثلاثي عام 1956م، بدأ التحرك مع عدد من أفراد كتيبة المشاة التي كانت متمركزة في غزة... تفرقوا في مجموعات صغيره قوامها اثنين أو ثلاثة أفراد على الأكثر...
نهاراتٍ طويلة - رغم شتاء نوفمبر - يسيرون على أقدامهم، وليالي أكل صقيعها عمر واحدٍ من ثلاثتهم.... ودفعت المتاهة في صحراء سيناء ثانيهم إلى الاستسلام للعدو....... بعد أسبوعين من هيامه وحيداً لم يعد لديه حتى البول الذي تجرعه بعد أن أفرغه أكثر من مرة في فردة حذائه... في السَحَرِ كان يضع "الظلطة" تلو الأخرى في فمه ماصاً ما علق بها من ندى...
فجأة ظهر له كالسَّرَاب يَجُرُ خلفه بعيراً... لَوَّحَ له فاقترب... طلب منه جرعة ماء ووصفاً للطريق الموصل إلى القنطرة شرق.... ساومه على سلاحه... فَضَّلَ أن يتنازل عن الساعة "الجوفيال" السويسرية التي كانت تزين معصمه بمينتها البيضاء و(الأوستيك) الحريري الأسود، وقلبها الفضي....
إحدى عشرة سنة مرت قبل أن يلتقيا... ضمن قافلة اعتادت أن تتكسب من استخدام الإبل في نقل محصول الذرة من الحقول إلى المخازن؛ أتى صاحب البعير إلى القرية حيث كان الجندي - بعد أن أنهى خدمته العسكرية – قد استأنف عمله في الفلاحة....
من أي بطون سيناء يا أخا العرب؟ وجه سؤاله لصاحب البعير الذي لم تفارق صورته مخيلته... رد: وما أدراك بسيناء وبطونها؟!... سؤال بسؤال!! حسناً؛ تلك قصة طويلة أحكيها لك على مائدة الغذاء؛ تفضل....عندما انتهيا من شرب الشاي؛ مد صاحب البعير معصمه وفك (أستيك) الساعة "الجوفيال" وناوله إياها– خجلاً -... للتأكد فتح الغطاء الخلفي ليجد اسمه منقوشاً عليه من الداخل "عبده عبد الغني أبو علي"!!
(2)
في سبعينات القرن العشرين عرفت القرية الساعات الرقمية... ساعات بلاستيكية سوداء رخيصة الثمن، ليست في فخامة ولا جمال الساعات القديمة ذات العقارب، ولكنها تعمل بكفاءة.... لم يعد الجمال التقليدي مهماً في هذا "التوقيت".
كانت شغوفة بتنظيم جدول مذاكرتها اليومية بالدقيقة... منظمة إلى أبعد ما يكون النظام... حتى فترات الأكل والراحة واللعب لها دقائقها... ينقصها فقط ساعة يد تكون في متناول مصروفها التي تحرص على ادخاره... دست في يد أخيها - طالب تجارة بنها - خمسة جنيهات قائلة: اشتري لي ساعة رقمية... أعرف جيداً أن ثمنها لا يتجاوز ثلاثة جنيهات؛ أخبرتني زميلتي... حلال عليك الباقي....
تنتظر كل ليلة عودته بالساعة... تتوق أن تضع خطتها – التي سهرت على جدولتها وتلوينها بألوان الطيف - موضع التنفيذ.... يتعمد التأخر – ولا يحاسبه أحد – لأنه أنفق على نزواته الجنيهات الخمسة التي كانت قادرة على تسهيل الكثير من الموبقات....
عندما استطاع – بعد إلحاحها اليومي وتدخل الأم ومضي ثلاثة أشهر – أن يدبر ثمن الساعة رفضت أن تأخذها.... (لا حاجة لي اليوم إليها... ولا في أي يوم قادم) قالت؛ مطالبة إياه بجنيهاتها الخمسة... من يومها لم تضع ساعة حول معصمها وينتابها شعور أنها لو فعلت لأصبحت سجينة الزمن... مرددة؛ مع رفضها الدائم للساعات كهدايا؛ "لو لبستها سأصير منقوصة الحرية"!!
(3)
أينما يَمَّمْتُ اصطدمتْ عيناي بواحدة على الأقل... على شاشة الكمبيوتر (التي أغرس فيها رأسي ثماني ساعات على الأقل بحكم "أكل العيش" يومياً) ثلاثة؛ واحدة تنزل أوتوماتيكياً مع نظام التشغيل، والثانية تنزيل مع بعض البرامج المنتشرة على سطح المكتب، والثالثة على المواقع الإلكترونية الأثيرة لدي.... وعلى شاشة تليفوني المحمول واحدة... وواحدة على شاشة أغلب قنوات الدش التي لا أنفك أتنقل بينها باقي ساعات النهار والليل... ناهيك عن تلك التي في معصمي والأخرى المدمجة في سلسلة المفاتيح، فضلاً عن المعلقات على حوائط الصالة وغرفة النوم والمطبخ.... وفي الميادين العامة وواجهات كثير من البنايات... وفي "طابلونات" السيارات ومعاصم الرجال والسيدات...
رغم هذا الحضور الطاغي للساعات بأنواعها؛ معوقات كثيرة تحول دون التزامي بـ:- الاستيقاظ المبكر، ومواعيد العمل، وما أضربه من وعود للمقابلات الرسمية والشخصية!!...
وبصرف النظر عن تقديم بعضها أوتأخير أخريات أو حتى تعطلها؛ لنفاد الطاقة من البطاريات المغروسة في أحشائها...لم يتعطل ؛ ولا للحظة واحدة؛ موت أمي وأبي... ولا قدوم العام الجديد... ولا وقوع حادث كنيسة القديسين في الإسكندرية... ولا أمجاد شعب أراد الحياة في تونس الخضراء!!
(تمت)
الرياض في: 24 يناير 2011م
قصة قصيرة
بقلم: عبد الغني عبده
***
(1)
عندما صدرت الأوامر للجيش المصري بالانسحاب خلال العدوان الثلاثي عام 1956م، بدأ التحرك مع عدد من أفراد كتيبة المشاة التي كانت متمركزة في غزة... تفرقوا في مجموعات صغيره قوامها اثنين أو ثلاثة أفراد على الأكثر...
نهاراتٍ طويلة - رغم شتاء نوفمبر - يسيرون على أقدامهم، وليالي أكل صقيعها عمر واحدٍ من ثلاثتهم.... ودفعت المتاهة في صحراء سيناء ثانيهم إلى الاستسلام للعدو....... بعد أسبوعين من هيامه وحيداً لم يعد لديه حتى البول الذي تجرعه بعد أن أفرغه أكثر من مرة في فردة حذائه... في السَحَرِ كان يضع "الظلطة" تلو الأخرى في فمه ماصاً ما علق بها من ندى...
فجأة ظهر له كالسَّرَاب يَجُرُ خلفه بعيراً... لَوَّحَ له فاقترب... طلب منه جرعة ماء ووصفاً للطريق الموصل إلى القنطرة شرق.... ساومه على سلاحه... فَضَّلَ أن يتنازل عن الساعة "الجوفيال" السويسرية التي كانت تزين معصمه بمينتها البيضاء و(الأوستيك) الحريري الأسود، وقلبها الفضي....
إحدى عشرة سنة مرت قبل أن يلتقيا... ضمن قافلة اعتادت أن تتكسب من استخدام الإبل في نقل محصول الذرة من الحقول إلى المخازن؛ أتى صاحب البعير إلى القرية حيث كان الجندي - بعد أن أنهى خدمته العسكرية – قد استأنف عمله في الفلاحة....
من أي بطون سيناء يا أخا العرب؟ وجه سؤاله لصاحب البعير الذي لم تفارق صورته مخيلته... رد: وما أدراك بسيناء وبطونها؟!... سؤال بسؤال!! حسناً؛ تلك قصة طويلة أحكيها لك على مائدة الغذاء؛ تفضل....عندما انتهيا من شرب الشاي؛ مد صاحب البعير معصمه وفك (أستيك) الساعة "الجوفيال" وناوله إياها– خجلاً -... للتأكد فتح الغطاء الخلفي ليجد اسمه منقوشاً عليه من الداخل "عبده عبد الغني أبو علي"!!
(2)
في سبعينات القرن العشرين عرفت القرية الساعات الرقمية... ساعات بلاستيكية سوداء رخيصة الثمن، ليست في فخامة ولا جمال الساعات القديمة ذات العقارب، ولكنها تعمل بكفاءة.... لم يعد الجمال التقليدي مهماً في هذا "التوقيت".
كانت شغوفة بتنظيم جدول مذاكرتها اليومية بالدقيقة... منظمة إلى أبعد ما يكون النظام... حتى فترات الأكل والراحة واللعب لها دقائقها... ينقصها فقط ساعة يد تكون في متناول مصروفها التي تحرص على ادخاره... دست في يد أخيها - طالب تجارة بنها - خمسة جنيهات قائلة: اشتري لي ساعة رقمية... أعرف جيداً أن ثمنها لا يتجاوز ثلاثة جنيهات؛ أخبرتني زميلتي... حلال عليك الباقي....
تنتظر كل ليلة عودته بالساعة... تتوق أن تضع خطتها – التي سهرت على جدولتها وتلوينها بألوان الطيف - موضع التنفيذ.... يتعمد التأخر – ولا يحاسبه أحد – لأنه أنفق على نزواته الجنيهات الخمسة التي كانت قادرة على تسهيل الكثير من الموبقات....
عندما استطاع – بعد إلحاحها اليومي وتدخل الأم ومضي ثلاثة أشهر – أن يدبر ثمن الساعة رفضت أن تأخذها.... (لا حاجة لي اليوم إليها... ولا في أي يوم قادم) قالت؛ مطالبة إياه بجنيهاتها الخمسة... من يومها لم تضع ساعة حول معصمها وينتابها شعور أنها لو فعلت لأصبحت سجينة الزمن... مرددة؛ مع رفضها الدائم للساعات كهدايا؛ "لو لبستها سأصير منقوصة الحرية"!!
(3)
أينما يَمَّمْتُ اصطدمتْ عيناي بواحدة على الأقل... على شاشة الكمبيوتر (التي أغرس فيها رأسي ثماني ساعات على الأقل بحكم "أكل العيش" يومياً) ثلاثة؛ واحدة تنزل أوتوماتيكياً مع نظام التشغيل، والثانية تنزيل مع بعض البرامج المنتشرة على سطح المكتب، والثالثة على المواقع الإلكترونية الأثيرة لدي.... وعلى شاشة تليفوني المحمول واحدة... وواحدة على شاشة أغلب قنوات الدش التي لا أنفك أتنقل بينها باقي ساعات النهار والليل... ناهيك عن تلك التي في معصمي والأخرى المدمجة في سلسلة المفاتيح، فضلاً عن المعلقات على حوائط الصالة وغرفة النوم والمطبخ.... وفي الميادين العامة وواجهات كثير من البنايات... وفي "طابلونات" السيارات ومعاصم الرجال والسيدات...
رغم هذا الحضور الطاغي للساعات بأنواعها؛ معوقات كثيرة تحول دون التزامي بـ:- الاستيقاظ المبكر، ومواعيد العمل، وما أضربه من وعود للمقابلات الرسمية والشخصية!!...
وبصرف النظر عن تقديم بعضها أوتأخير أخريات أو حتى تعطلها؛ لنفاد الطاقة من البطاريات المغروسة في أحشائها...لم يتعطل ؛ ولا للحظة واحدة؛ موت أمي وأبي... ولا قدوم العام الجديد... ولا وقوع حادث كنيسة القديسين في الإسكندرية... ولا أمجاد شعب أراد الحياة في تونس الخضراء!!
(تمت)
الرياض في: 24 يناير 2011م