قدوري رشيدة
2008-07-14, 20:11
أرواح حالمة
لم تكن هدى بالمرأة المتوترة الأعصاب رغم ما عانته في حياتها بل على العكس من دلك، امرأة هادئة جدا سلاحها الصبر والصمود، يطبع محياها الجميل تلك الابتسامة التي لا تلبث أن تفارقها رغم الأسى والمرارة.
كان زوجها "سعيد" رجلا متسلطا لا يأبه لحالها، يعاملها معاملة الجارية أو قطعة من أثاث المنزل، لا يحب العمل ولا يفكر فيه، وربما حياة الترف التي عاشها جعلته كداك، فوالده دلك الشيخ الثري الذي تعرفه كل قرية"سي قاسم" وتمنحه الولاء، فهو بمثابة الحاكم والقاضي الذي يفض نزاعات القرية ، والدي يلجأ له سكانها لحل مشاكلهم باختلافها.
أما بالنسبة لابنه "سعيد"لم يكن يأخذ وقتا وحيزا من حياة والده المشغول دوما بمشاكل القرية ومشاريعها، فسعيد ادن الابن المدلل الذي ما إن طلب شيئا إلا وجده، فلم يعرف ماهو الاعتماد على النفس وقيمته، ولم يعان الحرمان ليتصلب قلبه ويحس برجولته، بل كل ما يحتاج إليه شاب في سنه متوفر وموجود ومتوفر.
وعندما أصبح شابا في السادسة عشر من عمره خطب له أبوه"هدى"ابنة الفلاح"مسعود" الذي سر بدلك وما لبث إلا إن زوجه بها في بضعة أيام، وكانت "هدى" آخر من يعلم بالخبر، ولم يخطر أبدا ببال أب سعيد جهل ابنه للمسؤولية التي تلحق الزواج، فكيف لا يكون له حفيدا وقد أصبح شيخا طاعنا في السن، فمن يحافظ على اسم العائلة بعده خاصة وان"سعيد"ابنه الوحيد بين أربع بنات.
أما هدى فكانت الفتاة الطامحة الحالمة التي تنظر إلى المستقبل بنظرة كلها تفاؤل وأمل، ورغم تفوقها في دراستها الإعدادية إلا أن والدها منعها من مواصلة الدراسة بالمدينة، وهدا طبعا نظرا للعقلية المتخلفة المنغلقة التي لا تهتم بتعليم المرأة، ولا تعترف به، بل المرأة في قبيلة "سي قاسم"لا تصلح لشيء في هده الحياة إلا لتربية الأولاد والقيام بشؤون المنزل.
لكن كيف ستقوم يهدا الدور الحساس إن لم تخد بدورها حظا وقسطا وافرا من التعليم والتوعية الأمر الذي كانت تؤمن به"هدى" لكنها لم تجد أدان صاغية، بل أدن واحدة، وبالتالي لم يبق أمامها خيارا أو بديلا آخر لقرار أبيها المتسلط فرضخت له، حيث تجرعت المرارة بعد مدة قصيرة من زواجها، اد أصبح لا يهمه إلا الإغراق في النوم إلى غاية الظهر، أما ليلا فالسهر والعودة كل يوم ورائحة الخمرة تفوح منه بعدما شربها حتى الثمالة.
ضاقت الدنيا بهدى لما وجدته من مبالاة زوجها واستهتاره وتجاهله لها باستمرار، فما كان عليها إلا التفكير في طريقة تصلح بها حال زوجها "سعيد"فاهتدت إلى الطريقة تلو الأخرى دون جدوى أو نتيجة تذكر...توالت الأيام والشهور على هده الحالة رغم أن ولادة"أحمد" غيرت قليلا من تصرفات أبيه لكن ما لبث أن عاد لطبيعته المعهودة بعد أشهر قليلة.
كانت الجدة "آمنة"تصنع الأواني الفخارية، وبما أنها تسكن مع ابنتها هدى وزوجها أصبحت تعيل العائلة من خلال الحرفة التي أفنت شبابها في التفنن فيها، رغم دلك لم تبق الأوضاع على حالها إذ زادت متطلبات العائلة لاسيما بعد ولادة "أحلام"حينها كان "أحمد"يبلغ خمس سنوات.
تواصلت الهموم والآلام على هدى وبدت شاحبة الوجه فمسؤولية البيت أثقلت كاهلها من جهة، وما تسمعه باستمرار من سب وشتم من زوجها من جهة أخرى، فغدت خدودها كسيل لوديان من من كثرة البكاء فضعف بصرها خاصة بعدما أصبحت أمها آ منة لا تقوى على صناعة الأواني وإتقانها كمن ذي قبل، وبالتالي لم يكن أمام هدى مخرجا آخر لإعالة أسرتها الصغيرة سوى الأيام بالصنعة بدلا من أمها وخاصة بعدما توفي والد سعيد ولم يترك لابنه شيئا رغم ثرائه بعدما تخلى عنه هدا الأخير الذي خرج عن طاعته وأصبح لا يغادر الحانات الأمر الذي دفع الشيخ إلى أن يهب كل ثروته إلى أهل القرية قبل أيام قليلة من وفاته.
وكثيرة هي الأوقات التي لم تكن تجد فيها ما تطعم به أولادها الصغار، حيث أصبحت جفونها لا تعرف النوم حتى تفي متطلبات عائلتها من خلال إتمامها لمشوار أمها "آمنة".
هدا كله لم يحرك في نفس "سعيد" الدب بقي حاضرا جسديا غائبا روحيا طول هده المدة التي عرفت فيها كل أنواع الحرمان.
صار"أحمد" في سن التمرس وكانت فرحة هدى كبيرة خاصة بعدما عمم التعليم بقرية" سي قاسم"وبما أن حلم الدراسة لا زال يراودها ويلاحقها، حاولت تجسيده في ابنها"احمد" الذي علمته أبجدية الكلام في سن مبكرة وساعدت مجانية التعليم الأم "هدى " على تسجيل ابنها للمدرس.
تمضي الأيام والسنون تباعا وتموت الجدة "آمنة" وتزداد حالة "هدى" الصحية تدهورا وتأزما، وتصبح غير قادرة على مواصلة تعليم ابنها"احمد" الذي أصبح في المرحلة الثانوية التي تتطلب مصاريف لاسيما أن الثانوية توجد بالمدينة البعيدة عدة كيلومترات عن القرية، مادا تفعل؟ سؤال لطالما راودها ليلا نهارا وحز في نفسها كثيرا جمود زوجها، وفي لحظة غضب ذهبت لتناقشه في الأمر لربما أحس بمسؤوليته وانتبه لاستهتاره، لكنه ثار في وجهها وأشبعها شتما بل وضربا مبرحا حينها دارت الأرض من حولها ففقدت أعصابها وتد كرت أيامها القاسية معه، ولم تفق من دوامتها إلا وهي تضرب بكل ثقلها رأس زوجها "سعيد" بإحدى القدور التي كانت أمامها، فيسقط أرضا مغميا عليهن تصرخ الصغيرة أحلام التي كانت بالمنزل بأعلى صوتها ويقف ناس القرية على دلك المشهد المريب، وهم في أخد ورد فمنهم من يتلفظ كلمة : مسكينة... والآخر يتهمها بالجنون... في هده الأثناء تقف هدى مذعورة بين الكل وتسرد لهم مأساتها وكيف ضربته وهي فاقدة لصوابها...تؤخذ "هدى" بعدها لشبه سجن بالقرية لحين النظر في قضيتها أما "سعيد" فنقل مباشرة إلى مستشفى المدينة.
في اليوم الموالي يجتمع كبار القرية للحكم في القضية ويجمع اغلبهم على أنها عاشت مقهورة حياتها و مظلومة من زوجها ولم تفعل دلك بإرادتها بل هو من دفعها لضربه لبرودة قلبه وعدم إحساسه بالمسؤولية وتوصلوا إلى حكم الإفراج عنها خاصة بعدما نجا "سعيد" من الموت.
بعد أسبوع واحد تعود"هدى" إلى بيتها وهي تحمد الله على دلك وعلى نجاة زوجها تقرر البحث عن كيفية لكسب قوت أولادها وزوجها الذي أصبح مقعدا بعد إصابته بشلل نصفي نظرا للضربة القوية التي تلقاها، أما هدى فكلما رأته تزيد تألما وحسرة قائلة: ليتني صبرت ولم أقدم على دلك...لكن مادا ينفع الندم.. وأدركت أنها لا تستطيع فعل شيء إلا الاهتمام به قدر الإمكان لعل الله يغفر لها.
أما ابنها "أحمد" فلم يشبه أباه بل عكسه تماما اد حسم في الأمر مدة غياب أمه واستطاع أن يجد عملا بالمدينة بعد خروجه من الثانوية، اد أصبح يمسح السيارات مقابل بعض النقود الزهيدة.
ظلت العائلة تعيش على هده الحالة وبعد سنة ونصف تقريبا يموت"سعيد" تاركا عائلته تواصل المعاناة و الأسى، وفي أحد المرات وبينما أحمد يمسح سيارة أحد الأشخاص اد اقترب منه صاحبها قائلا: ألست ابن سعيد؟ يجيبه أحمد بصوت خافت: نعم سيدي ومن تكون؟ يعلم بعدها انه ابن عم أمه "عمران" ، هدا الأخير الذي لطالما تكلمت له أمه عنه، فقد كانا يدرسا معا بالإعدادية، وقد واصل عمران دراسته بالمدينة وأبح معلما ، ورغم أنه تزوج بامرأة متعلمة إلا ان الزواج لم يدم طويلا لشعور "عمران" بفارق المستوى الأسري هدا ما بقي حائلا بينهما حتى الطلاق، وعندما سمع من أحمد ما آلت إليه حياتهم، قرر ان يزور العائلة، وفي نهاية الأسبوع يعود عمران مع احمد .. رحبت هدى بضيفها الذي لم تعرفه للوهلة الأولى لضعف بصرها من وكذلك لتغير ملامح"عمران" وما ان عرفته حتى صاحت بأعلى صوتها: عمران...ثم انفجرت بالبكاء ..استطاع "عمران" ان يرفه ولو قليلا على هدى ليغير جو الكآبة الذي عاشته طويلا مضفيا عليه نوعا من البسمة الأمل، تحدثا عن أيام الدراسة وطيش الطفولة،...يمضي الوقت سريعا ويمضي معه شريط الذكريات...يغادر "عمران"بيت "هدى" بعد الاستئذان ليمر على أهل القرية واعدا العائلة بزيارة أخرى.
يعود "عمران" إلى المدينة وفكره مشغول بحال ابنة عمه وما أضحت عليه حالتها الصحية والمعيشية، وفي هده اللحظات تبادرت إلى دهنه فكرة الزواج بهدى، فقد كانت أمنيته وهو شاب إلا ان أبا هدى سارع بتزويجها من "سعيد" ولم يترك لها فرصة للاختيار أو التفكير حينها، فهدى كانت ولا زالت امرأة هادئة الطباع رزينة ومتفهمة، فلما لا يكمل معها مشوار حياته.
وبعد حوالي شهرين يعود "عمران" إلى القرية يحمل بعض الأغراض..تفرح هدى وولديها لرؤيته، وفي أخر المطاف وقبل مغادرته استطاع ان يقنعها بالزواج منه والإقامة معه في المدينة رغم رفضها في البداية.
هكذا انتقلت هدى إلى المدينة، وبما ان حالة "عمران" المدية حسنة استطاع معالجة ضعف بصرها وبالنسبة لأحمد تخلى عن عمله واكتفى بالجد والمثابرة في الدراسة حيث التحق بالجامعة لدراسة الطب، كما واصلت أحلام دراستها الثانوية ليحقق كل منهما ما عجزت عن تحقيقه أمهما ، فتحولت حياة القهر والأسى الطويلة إلى حياة مفعمة بالحب والسعادة خاصة بعد تخرج "أحمد" من الجامعة حاملا لشهادة طبيب ليلتحق مباشرة بالعمل بمستشفى المدينة.
رشيدة 2005
لم تكن هدى بالمرأة المتوترة الأعصاب رغم ما عانته في حياتها بل على العكس من دلك، امرأة هادئة جدا سلاحها الصبر والصمود، يطبع محياها الجميل تلك الابتسامة التي لا تلبث أن تفارقها رغم الأسى والمرارة.
كان زوجها "سعيد" رجلا متسلطا لا يأبه لحالها، يعاملها معاملة الجارية أو قطعة من أثاث المنزل، لا يحب العمل ولا يفكر فيه، وربما حياة الترف التي عاشها جعلته كداك، فوالده دلك الشيخ الثري الذي تعرفه كل قرية"سي قاسم" وتمنحه الولاء، فهو بمثابة الحاكم والقاضي الذي يفض نزاعات القرية ، والدي يلجأ له سكانها لحل مشاكلهم باختلافها.
أما بالنسبة لابنه "سعيد"لم يكن يأخذ وقتا وحيزا من حياة والده المشغول دوما بمشاكل القرية ومشاريعها، فسعيد ادن الابن المدلل الذي ما إن طلب شيئا إلا وجده، فلم يعرف ماهو الاعتماد على النفس وقيمته، ولم يعان الحرمان ليتصلب قلبه ويحس برجولته، بل كل ما يحتاج إليه شاب في سنه متوفر وموجود ومتوفر.
وعندما أصبح شابا في السادسة عشر من عمره خطب له أبوه"هدى"ابنة الفلاح"مسعود" الذي سر بدلك وما لبث إلا إن زوجه بها في بضعة أيام، وكانت "هدى" آخر من يعلم بالخبر، ولم يخطر أبدا ببال أب سعيد جهل ابنه للمسؤولية التي تلحق الزواج، فكيف لا يكون له حفيدا وقد أصبح شيخا طاعنا في السن، فمن يحافظ على اسم العائلة بعده خاصة وان"سعيد"ابنه الوحيد بين أربع بنات.
أما هدى فكانت الفتاة الطامحة الحالمة التي تنظر إلى المستقبل بنظرة كلها تفاؤل وأمل، ورغم تفوقها في دراستها الإعدادية إلا أن والدها منعها من مواصلة الدراسة بالمدينة، وهدا طبعا نظرا للعقلية المتخلفة المنغلقة التي لا تهتم بتعليم المرأة، ولا تعترف به، بل المرأة في قبيلة "سي قاسم"لا تصلح لشيء في هده الحياة إلا لتربية الأولاد والقيام بشؤون المنزل.
لكن كيف ستقوم يهدا الدور الحساس إن لم تخد بدورها حظا وقسطا وافرا من التعليم والتوعية الأمر الذي كانت تؤمن به"هدى" لكنها لم تجد أدان صاغية، بل أدن واحدة، وبالتالي لم يبق أمامها خيارا أو بديلا آخر لقرار أبيها المتسلط فرضخت له، حيث تجرعت المرارة بعد مدة قصيرة من زواجها، اد أصبح لا يهمه إلا الإغراق في النوم إلى غاية الظهر، أما ليلا فالسهر والعودة كل يوم ورائحة الخمرة تفوح منه بعدما شربها حتى الثمالة.
ضاقت الدنيا بهدى لما وجدته من مبالاة زوجها واستهتاره وتجاهله لها باستمرار، فما كان عليها إلا التفكير في طريقة تصلح بها حال زوجها "سعيد"فاهتدت إلى الطريقة تلو الأخرى دون جدوى أو نتيجة تذكر...توالت الأيام والشهور على هده الحالة رغم أن ولادة"أحمد" غيرت قليلا من تصرفات أبيه لكن ما لبث أن عاد لطبيعته المعهودة بعد أشهر قليلة.
كانت الجدة "آمنة"تصنع الأواني الفخارية، وبما أنها تسكن مع ابنتها هدى وزوجها أصبحت تعيل العائلة من خلال الحرفة التي أفنت شبابها في التفنن فيها، رغم دلك لم تبق الأوضاع على حالها إذ زادت متطلبات العائلة لاسيما بعد ولادة "أحلام"حينها كان "أحمد"يبلغ خمس سنوات.
تواصلت الهموم والآلام على هدى وبدت شاحبة الوجه فمسؤولية البيت أثقلت كاهلها من جهة، وما تسمعه باستمرار من سب وشتم من زوجها من جهة أخرى، فغدت خدودها كسيل لوديان من من كثرة البكاء فضعف بصرها خاصة بعدما أصبحت أمها آ منة لا تقوى على صناعة الأواني وإتقانها كمن ذي قبل، وبالتالي لم يكن أمام هدى مخرجا آخر لإعالة أسرتها الصغيرة سوى الأيام بالصنعة بدلا من أمها وخاصة بعدما توفي والد سعيد ولم يترك لابنه شيئا رغم ثرائه بعدما تخلى عنه هدا الأخير الذي خرج عن طاعته وأصبح لا يغادر الحانات الأمر الذي دفع الشيخ إلى أن يهب كل ثروته إلى أهل القرية قبل أيام قليلة من وفاته.
وكثيرة هي الأوقات التي لم تكن تجد فيها ما تطعم به أولادها الصغار، حيث أصبحت جفونها لا تعرف النوم حتى تفي متطلبات عائلتها من خلال إتمامها لمشوار أمها "آمنة".
هدا كله لم يحرك في نفس "سعيد" الدب بقي حاضرا جسديا غائبا روحيا طول هده المدة التي عرفت فيها كل أنواع الحرمان.
صار"أحمد" في سن التمرس وكانت فرحة هدى كبيرة خاصة بعدما عمم التعليم بقرية" سي قاسم"وبما أن حلم الدراسة لا زال يراودها ويلاحقها، حاولت تجسيده في ابنها"احمد" الذي علمته أبجدية الكلام في سن مبكرة وساعدت مجانية التعليم الأم "هدى " على تسجيل ابنها للمدرس.
تمضي الأيام والسنون تباعا وتموت الجدة "آمنة" وتزداد حالة "هدى" الصحية تدهورا وتأزما، وتصبح غير قادرة على مواصلة تعليم ابنها"احمد" الذي أصبح في المرحلة الثانوية التي تتطلب مصاريف لاسيما أن الثانوية توجد بالمدينة البعيدة عدة كيلومترات عن القرية، مادا تفعل؟ سؤال لطالما راودها ليلا نهارا وحز في نفسها كثيرا جمود زوجها، وفي لحظة غضب ذهبت لتناقشه في الأمر لربما أحس بمسؤوليته وانتبه لاستهتاره، لكنه ثار في وجهها وأشبعها شتما بل وضربا مبرحا حينها دارت الأرض من حولها ففقدت أعصابها وتد كرت أيامها القاسية معه، ولم تفق من دوامتها إلا وهي تضرب بكل ثقلها رأس زوجها "سعيد" بإحدى القدور التي كانت أمامها، فيسقط أرضا مغميا عليهن تصرخ الصغيرة أحلام التي كانت بالمنزل بأعلى صوتها ويقف ناس القرية على دلك المشهد المريب، وهم في أخد ورد فمنهم من يتلفظ كلمة : مسكينة... والآخر يتهمها بالجنون... في هده الأثناء تقف هدى مذعورة بين الكل وتسرد لهم مأساتها وكيف ضربته وهي فاقدة لصوابها...تؤخذ "هدى" بعدها لشبه سجن بالقرية لحين النظر في قضيتها أما "سعيد" فنقل مباشرة إلى مستشفى المدينة.
في اليوم الموالي يجتمع كبار القرية للحكم في القضية ويجمع اغلبهم على أنها عاشت مقهورة حياتها و مظلومة من زوجها ولم تفعل دلك بإرادتها بل هو من دفعها لضربه لبرودة قلبه وعدم إحساسه بالمسؤولية وتوصلوا إلى حكم الإفراج عنها خاصة بعدما نجا "سعيد" من الموت.
بعد أسبوع واحد تعود"هدى" إلى بيتها وهي تحمد الله على دلك وعلى نجاة زوجها تقرر البحث عن كيفية لكسب قوت أولادها وزوجها الذي أصبح مقعدا بعد إصابته بشلل نصفي نظرا للضربة القوية التي تلقاها، أما هدى فكلما رأته تزيد تألما وحسرة قائلة: ليتني صبرت ولم أقدم على دلك...لكن مادا ينفع الندم.. وأدركت أنها لا تستطيع فعل شيء إلا الاهتمام به قدر الإمكان لعل الله يغفر لها.
أما ابنها "أحمد" فلم يشبه أباه بل عكسه تماما اد حسم في الأمر مدة غياب أمه واستطاع أن يجد عملا بالمدينة بعد خروجه من الثانوية، اد أصبح يمسح السيارات مقابل بعض النقود الزهيدة.
ظلت العائلة تعيش على هده الحالة وبعد سنة ونصف تقريبا يموت"سعيد" تاركا عائلته تواصل المعاناة و الأسى، وفي أحد المرات وبينما أحمد يمسح سيارة أحد الأشخاص اد اقترب منه صاحبها قائلا: ألست ابن سعيد؟ يجيبه أحمد بصوت خافت: نعم سيدي ومن تكون؟ يعلم بعدها انه ابن عم أمه "عمران" ، هدا الأخير الذي لطالما تكلمت له أمه عنه، فقد كانا يدرسا معا بالإعدادية، وقد واصل عمران دراسته بالمدينة وأبح معلما ، ورغم أنه تزوج بامرأة متعلمة إلا ان الزواج لم يدم طويلا لشعور "عمران" بفارق المستوى الأسري هدا ما بقي حائلا بينهما حتى الطلاق، وعندما سمع من أحمد ما آلت إليه حياتهم، قرر ان يزور العائلة، وفي نهاية الأسبوع يعود عمران مع احمد .. رحبت هدى بضيفها الذي لم تعرفه للوهلة الأولى لضعف بصرها من وكذلك لتغير ملامح"عمران" وما ان عرفته حتى صاحت بأعلى صوتها: عمران...ثم انفجرت بالبكاء ..استطاع "عمران" ان يرفه ولو قليلا على هدى ليغير جو الكآبة الذي عاشته طويلا مضفيا عليه نوعا من البسمة الأمل، تحدثا عن أيام الدراسة وطيش الطفولة،...يمضي الوقت سريعا ويمضي معه شريط الذكريات...يغادر "عمران"بيت "هدى" بعد الاستئذان ليمر على أهل القرية واعدا العائلة بزيارة أخرى.
يعود "عمران" إلى المدينة وفكره مشغول بحال ابنة عمه وما أضحت عليه حالتها الصحية والمعيشية، وفي هده اللحظات تبادرت إلى دهنه فكرة الزواج بهدى، فقد كانت أمنيته وهو شاب إلا ان أبا هدى سارع بتزويجها من "سعيد" ولم يترك لها فرصة للاختيار أو التفكير حينها، فهدى كانت ولا زالت امرأة هادئة الطباع رزينة ومتفهمة، فلما لا يكمل معها مشوار حياته.
وبعد حوالي شهرين يعود "عمران" إلى القرية يحمل بعض الأغراض..تفرح هدى وولديها لرؤيته، وفي أخر المطاف وقبل مغادرته استطاع ان يقنعها بالزواج منه والإقامة معه في المدينة رغم رفضها في البداية.
هكذا انتقلت هدى إلى المدينة، وبما ان حالة "عمران" المدية حسنة استطاع معالجة ضعف بصرها وبالنسبة لأحمد تخلى عن عمله واكتفى بالجد والمثابرة في الدراسة حيث التحق بالجامعة لدراسة الطب، كما واصلت أحلام دراستها الثانوية ليحقق كل منهما ما عجزت عن تحقيقه أمهما ، فتحولت حياة القهر والأسى الطويلة إلى حياة مفعمة بالحب والسعادة خاصة بعد تخرج "أحمد" من الجامعة حاملا لشهادة طبيب ليلتحق مباشرة بالعمل بمستشفى المدينة.
رشيدة 2005