تسجيل الدخول

مشاهدة النسخة كاملة : أضواء تراثيّة على مساجد دمشق


dmd39
2010-12-30, 23:13
-ترميمات الجامع الأموي الكبير:‏

يعدّ الجامع الأموي الكبير بدمشق من أهم المنشآت المعمارية والدينية الهامة في الوطن العربي والعالم الإسلامي، فبناء هذا الجامع في بيئته العربية التي اختزنت الحضارة الكلاسيكية لألف عام هو أول تشخيص للعقيدة الإسلامية، متمثل في فن العمارة والتصوير الوليدين، وهو بداية ناضجة لفن تلمس أبعاده أولاً من القيم الثقافية والأدبية للعقيدة الجديدة، وتحقق بفضل فنانين ومعماريين عرب، دخل الإيمان إلى قلوبهم وتفتحت نزعة الأصالة في أعمالهم، رافضين ذلك التشكل الكاذب لفن غريب، كان قد ظهر قسراً بأمر السلطة البيزنطية المحتلة.‏

بعد تحرير دمشق من الحكم البيزنطي سنة 14هـ/635م. وقع اختيار المسلمين على البقعة التي يحتلها الجامع الأموي اليوم ليقيموا فيها صلواتهم، وهي أرض مقدسة، كرست للعبادة منذ آلاف السنين، أقيم فيها معبد للإله "حدد" الآرامي، في مطلع الألف الأول قبل الميلاد، ثم شيد في العهد الروماني معبد الإله "جوبيتر" ويبدو من آثار هذا المعبد الباقية إلى الآن، أنه يحتل مساحة واسعة، وكان له سور خارجي تبلغ أطواله (380×300) متراً، وكان المعبد الحقيقي مشيداً داخل هذا السور حيث أقيم الجامع الأموي فيما بعد.‏

*المسجد الفريد:‏

وبعد انتصار المسيحية على الوثنية أنشأ الإمبراطور "تيودوسيوس" كنيسة داخل المعبد على اسم القديس يوحنا المعمدان، وبعد الفتح الإسلامي اقتسم المسلمون هذا المعبد الكبير مع المسيحيين ليقيموا الصلوات فيه، وبقي المسلمون والمسيحيون يؤدون فرائض دينهم متجاورين حوالي سبعين عاماً، حتى عام 86هـ-705م حين تسلم سدة الخلافة الأموية الوليد بن عبد الملك حيث جرت مفاوضات مع الرعايا المسيحيين لكي يتنازلوا عن نصف المعبد الذي أقاموا عليه كنيستهم، وتم ذلك مقابل بناء كنائس جديدة في أماكن مختلفة من مدينة دمشق. وتم للوليد ما أراد، وهدم ما كان داخل جدران المعبد من منشآت رومانية وبيزنطية، ثم شيد الجامع وفق مخطط جديد مبتكر يتجاوب مع شعائر الدين الإسلامي، وأغراض الحياة العامة، فجاء فريداً في هندسته، لم يبن على نسقه في العهود السابقة أي بناء آخر ووضعت بإشادته مبادئ هندسة الجوامع الكبرى التي شيدت بعده في العالم الإسلامي، وظل المعماريون عدة قرون يستوحون منه وينسجون على منواله.‏

لقد استغرق بناء الجامع الأموي قرابة عشر سنوات (705-715)م وقد وصف الجامع عدد كبير من المؤرخين والعلماء العرب والأجانب، فكان في غاية الإبداع والروعة والجمال وعُدّ بين أعاجيب الدنيا، وقد وضع الفن الإسلامي والعمارة الإسلامية مبادئهما الأولى فيه، يقول عنه الفرنسي سوفاجيه "أول نجاح معماري في الإسلام" وقد حافظ على عظمة بنائه وروعة زخارفه قرابة ثلاثة قرون ونصف، ثم تعرض بعد ذلك للحرائق والزلازل، وكان في كل مرة يصاب فيها بجهة من جهاته يفقد شيئاً من بهائه ورونقه حتى وصل إلى ما هو عليه الآن.‏

*نزهة الناظرين:‏

إن حجم الجهد والتكاليف التي أنفقها الوليد في بناء الجامع الأموي الكبير والتي ذكرها المؤرخون تؤكد أن هذا الجهد لا يمكن أن يقتصر على تزيين الجامع، بل على إنشائه أيضاً بحلة جديدة مستفيداً من بعض جدران وأروقة المعبد فقط.. لقد استعمل الوليد في إنشاءاته الجديدة الحجر المنحوت الذي كان قائماً في سور المعبد الخارجي، ويؤكد ذلك العلامات الإغريقية التي كانت على بعض الأحجار والمتراكمة في البرجين إلى يومنا هذا.‏

يقول المؤرخون: لقد أنفق الوليد على بناء الجامع الأموال الطائلة حتى جعله نزهة للناظرين، وأنفق عليه أربعمائة صندوق، كل صندوق أربعة عشر ألف دينار، ويقال إن الوليد أنفق عليه خراج المملكة سبع سنين، وحملت إليه الحسابات بما أنفق عليه على ثمانية عشر بعيراً، فأمر بإحراقها ولم ينظر فيها، وقال: هو شيء أخرجناه لله فلم نتبعه.‏

وقال الجاحظ: "قال أهل السلف: ما يجوز أن يكون أحد أشد شوقاً إلى الجنة من أهل دمشق، لما يرونه من حسن مسجدهم". وقال في كتابه الحيوان: "وقول الدمشقيين ما تأملنا قط مسجدنا، وتركيب محرابنا، وقبة مصلانا إلا أثار لنا التأمل، واستخرج لنا التفرس بين غرائب حسن لم نعرفها، وعجائب صنعه لم نقف عليها، وما ندري أجواهر مقطعاته أكرم من الجواهر، أم تنضيد أجزائه في تنضيد الأجزاء".‏

ويصف ابن عساكر الجامع بقوله: "وأفضيت إلى جامعه فشاهدت ما ليس في استطاعة الواصف أن يصفه، ولا الرائي أن يعرفه. وجملته أن بكر الدهر، ونادرة الوقت، وأعجوبة الزمان، وغريبة الأوقات، ولقد أبقت به بنو أمية ذكراً يدرس، وخلفت به أثراً لا يخفى ولا يدرس".‏

*أشهرها حسناً:‏

ويصف ابن جبير زينة الجامع الأموي فيقول: "هو من أشهر جوامع الإسلام حسناً وإتقان بناء، وغرابة صنعة واحتفال تنميق وتزيين، وشهرته المتعارفة في ذلك تغني عن استغراق الوصف فيه، ومن عجيب شأنه أن لا تنسج به العنكبوت ولا تدخله ولا تلم به الطير المعروفة بالخطاف".‏

ويضيف: "وكان هذا الجامع المبارك ظاهراً وباطناً منزلاً كله بالفصوص المذهبة مزخرفاً بأبدع زخاريف البناء المعجز الصنعة، فأدركه الحريق مرتين، فتهدم وجدد وذهب أكثر رخامه، فاستحال رونقه، فأسلم ما فيه اليوم قبلته مع ثلاث قباب المتصلة بها، ومحرابه من أعجب المحاريب الإسلامية حسناً وغرابة صنعة، يتقد ذهباً كله".‏

ولم يكن الجامع الأموي الكبير مصلى فحسب، بل كان بجلال بنائه وأهميته في دمشق عاصمة الإمبراطورية الأموية العربية، مركزاً لفعاليات مختلفة، ومن أهم هذه الفعاليات، الفعاليات السياسية، ففي هذا الصرح المنيف والرائع بزخارفه كان الخليفة يستقبل عماله ورسله ويقاضي الناس ويفصل في الأمور الجلل.‏

ويتحدث ابن جبير عن الجامع في أنه كان أيضاً مجمعاً للناس يتحدثون ويتسامرون في صحنه فيقول: "ومنظر هذا الصحن من أجمل المناظر وأحسنها، وفيه مجتمع أهل البلد، من باب جيرون إلى باب البريد، فمنهم من يتحدث مع صاحبه، ومنهم من يقرأ، ولا يزالون على هذه الحال من ذهاب ورجوع إلى انقضاء صلاة العشاء ثم ينصرفون ولبعضهم بالغداة مثل ذلك، وأكثر الاحتفال إنما هو بالعشي، فيخيل لمبصر ذلك أنها ليلة سبع وعشرين من رمضان العظيم لما يرى من احتفال الناس واجتماعهم".‏

وكان المسجد الأموي الكبير بمثابة مدرسة علم وتدريس، وفيه اعتكف الإمام الغزالي وكتب بعض كتبه وقام بالتدريس، ولا زالت هذه الزاوية موجودة حتى اليوم ويقوم شيخ الجامع بإعطاء الدروس الدينية فيها.‏

*المخطط والأقسام:‏

شكل الجامع الأموي مستطيل الشكل أبعاده (97×156) متراً، يحتل جانبه الشمالي صحن مكشوف تحيط به أروقة مسقوفة، ويحتل قسمه الجنوبي الحرم أو المصلى، وللجامع ثلاثة أبواب رئيسية تؤدي إلى الصحن، تصله بجهات المدينة الثلاث، الشرقية والغربية والشمالية. أما أقسامه وعناصره المعمارية فتتألف من:‏

1-السور والأبواب: سور الجامع مبني بالحجارة الكلسية، مداميك كبيرة الحجم، مزودة بدعائم جدارية، وهو من العهد الروماني، إلا أن أكثر أقسامه جددت في العهود العربية.‏

2-الصحن والأروقة: الصحن مستطيل مبلط بالحجر، وقد جدد بلاطه في عهود متعددة وارتفعت سويته، ثم أعيد مؤخراً إلى مستواه الأصلي، بناء على دراسات دقيقة أجريت عليه.‏

3-الحرم: يتألف من ثلاثة أروقة للقبلة، محمولة على صفين من الأعمدة الحجرية مؤلفة من طابقين: السفلي مؤلف من قناطر كبيرة نصف دائرية والثاني يتألف من عدد مضاعف من القناطر، كما هي الحال في الأروقة المحيطة بالصحن، ويغطي الحرم سقوف سنامية الشكل (جمالونات) صنعت من الخشب وصفحت من الخارج بالرصاص.‏

4-المآذن: كان للمعبد أربعة أبراج لم يبق منها حين تشييد الجامع سوى البرجين الجنوبيين فاتخذا مئذنتين، ثم شيدت مئذنة ثالثة إلى جانب الباب الشمالي على هيئة برج مربع وهي التي عرفت فيما بعد بمئذنة العروس، وشيدت المئذنة الشرقية فوق برج المعبد ودعيت مئذنة عيسى. أما المئذنة الغربية فهي أجمل المآذن، شيدت أيضاً فوق برج المعبد.‏

أما فسيفساء الجامع الأموي التي غطت جميع سقوف وجدران الأروقة، وبطون الأقواس والدهاليز والأقسام العليا من الحرم بعد ارتفاع سبعة أمتار.. فتعتبر على الرغم من زوال أكثرها ثروة فنية إسلامية لا تقدر بثمن، وتتميز هذه الفسيفساء بمواضيعها الخالية من الصور فهي تقتصر على مشاهد الطبيعة والعمائر والزخارف النباتية والهندسية، ويعتقد بأن لوحة الرواق الغربي تمثل نهر بردى وعلى ضفافه القصور والدارات والجسور، التي تمثل قرى جميلة تتخللها الأشجار المختلفة الأنواع، ويحيط بها إطار من الزخارف الهندسية.‏

*ترميمات جديدة:‏

إن جامع بني أمية الكبير كما ذكرنا سابقاً، لم ينجُ من مصائب الزمان، فتعرض للحرائق والزلازل أكثر من عشر مرات خلال تاريخه الطويل، وكان أول حريق سنة 460هـ/1607م ودمر الحرم بكامله. فرمم في بضع سنين، ووقع الحريق الأخير سنة 1893م ودمر الحرم أيضاً، ورمم أيضاً حسب الظروف والإمكانات الفنية المتوافرة، ولكن مما يؤسف له أن محاولات إعادة البناء والزخارف في كثير من الأحيان لم تكن مدروسة بشكل كاف، لذلك جاءت بعض أعمال الإعادة والترميم لا تتناسب مطلقاً مع قيمة هذا الأثر الخالد من آثار الحضارة العربية الإسلامية، فكان القرار الجمهوري رقم /36/ تاريخ 6/10/1991 الصادر عن السيد الرئيس حافظ الأسد بتشكيل لجنة مؤلفة من كبار المؤرخين والاختصاصيين والمعماريين، أنيطت بها مهمة إصلاح وتطوير الجامع الأموي الكبير حتى يعود إلى سابق عهده، كما كان أيام الخليفة الوليد بن عبد الملك.. وزودت هذه اللجنة بإمكانات مادية وفنية كبيرة حتى تستطيع إنجاز عملها على أكمل وجه في مدة زمنية لا تتجاوز سنتين من تاريخ صدور القرار.‏

إن هذه اللجنة تتابع أعمالها بسرعة كبيرة فمن يزر الجامع الأموي بدمشق في هذه الأيام يشاهد ورشات العمل الفنية والهندسية والمعمارية تقوم بأعمالها على قدم وساق وتصل الليل بالنهار وبخاصة إنجاز الأعمال العاجلة، مثل ترميم المئذنة الغربية بشكل كامل وإزالة الحظر عنها، وإكمال ترميم ميضأة الجامع وجعلها قيد الاشغال بصورة لائقة، وإتمام الإكساءات الرخامية والعمل بالسرعة الكلية على ترميم الأسقف والجمالونات وترميم قبة النسر وفق التشققات الحاصلة، وإصلاح فرن تذويب الرصاص، وترميم المظلة الواقية في المسكية، وإعادة إحياء ورشة الفسيفساء التابعة للجامع. دعمها بكادر فني جيد، ودراسة مشروع إنارة جديدة للجامع وفق الطرق الحديثة، وترميم وتزيين صالة الاستقبال، وترميم وإصلاح الآيات القرآنية والجدارية الموجودة في أقسام الجامع كافة، وترميم اللوحات الفسيفسائية، وترويب وإصلاح أرضيات الجامع بما فيها أرضيات الصحن ومشاهده، وترميم مشهد الحسين ترميماً شاملاً بقسميه الداخلي والخارجي وفق دراسة تاريخية وفنية دقيقة، وتتمة إكساء الرواق الغربي وجدران أسفل قبة النسر بمادة الفسيفساء حسب الرسومات القديمة وبالطرق المتبعة أصولاً.‏

إن هذه الأعمال الهامة سوف يكون لها انعكاساتها الكبيرة في إعادة المجد والرونق والحضارة والجمال الكامل إلى آبدة دينية ومعمارية نادرة الوجود في تاريخ العرب والإسلام، وفق أسس علمية ووثائق تاريخية ودراسات مستفيضة دقيقة.‏

2-مآذن دمشق: تاريخ وطراز:‏

تنتشر في دمشق اليوم أعداد كبيرة من المآذن القديمة والمعاصرة والحديثة، وتتوزع أساليب عمارتها في اتجاهات شتى، فمنها ما حافظت على الطابع الأصيل لخصائص العهد الذي أقيمت فيه، ومنها ما تعرضت للتجديد أو حتى البناء، الأمر الذي أدى إلى تغيّر معالمها التاريخية. كلياً أو جزئياً نتيجة تهجين عناصرها المعمارية، ومنها أيضاً ما شيد في الأصل بعمارة لا تلتزم بنهج معين مما أفقدها هويتها الطرازية المحددة.. وقد تعرضت بعض المآذن الدمشقية ذات الجذور التاريخية من العهود المتلاحقة إلى كثير من عمليات الترميم في حقب مختلفة، وفي كل مرة تجري عليها مثل هذه العمليات، كانت معالمها الطرازية تتبدل بحيث يصبح الناتج خليطاً مهجناً يعكس فوضوية ذلك العمل.‏

حول "مآذن دمشق" صدر حديثاً بدمشق دراسة ميدانية مصورة تقع في (647) صفحة من القطع الكبير للدكتور قتيبة الشهابي، وقد قام بعمله الهام بتوزيع مآذن دمشق وفق مظهرها الخارجي (أطرزة واشتقاقات ومجموعات)، ونتيجة لتحليل مختلف الأساليب المطبقة في عمارة المآذن الدمشقية، استطاع التوصل إلى ترتيبها وفق العهود والطراز مسلسلة حسب القدم منذ العهد الأموي وحتى العهد الحديث، وقد أحصى منها تسعة عشر طرازاً عمرانياً شيدت بها مآذن دمشق.‏

-لقد تميزت جذوع المآذن في العهد الأموي بالشكل المربع البسيط الخالي من العناصر التزيينية أو الزخرفية، وكانت هذه الجذوع استمراراً شكلياً لطراز الأبراج الرومانية ثم الكنسية المربعة، ومن المؤسف ألا يبقى في دمشق أي مئذنة أموية واحدة، لم تتعرض إلى عوامل الترميم أو التجديد أو إعادة الإعمار في عهود مختلفة، نتيجة تعرضها للحرائق والزلازل والحروب والغزوات.. الأمر الذي بدّل كثيراً من معالمها الأصلية، أو جزئياً، وأضفى عليها مزيجاً من الطرز العمرانية، كانت تختلف باختلاف خصائص تلك العهود، غير أن بعض المآذن الأموية القليلة خارج دمشق لازالت تحتفظ بشكلها القديم تقريباً رغم تعرضها للتجديد، مثل مئذنة الجامع العمري في مدينة بصرى الشام.. وفي دمشق لم يبق فيها سوى مئذنتين في الجامع الأموي الكبير هما مئذنة (العروس) ومئذنة (عيسى)، أما الثالثة المعروفة بمئذنة (قايتباي) فمن العهد المملوكي وعلى طرازه.‏

-لم تترك العهود التي مرت على دمشق، منذ سقوطها في أيدي العباسيين سنة 132هـ-750م، إلى نشوء الدولة النورية سنة 945هـ/1154م من البصمات العمرانية إلا قلة محدودة، وفي بعض الأحيان لم تترك شيئاً على الإطلاق، فالعهد العباسي لم يخلّف في دمشق ولا مئذنة واحدة تنسب إليه، وكذا الأمر بالنسبة للدولة الطولونية، والدولة الإخشيدية والدولة الفاطمية، والمرحلة السلجوقية، ومن العهد النوري، هناك مئذنة الباب الشرقي التي تعود إلى القرن السادس للهجرة- الثاني عشر للميلاد، وهي مشيدة فوق الباب الشرقي نفسه، وحالتها الراهنة تعكس خصائص الجذع الأيوبي المربع، المتقشف، الخالي من العناصر التزيينية أو الزخرفية، وكذلك الشرفة البسيطة، وهناك مئذنة جامع حسان التي بحالتها الراهنة مزيج من أطرزة متعددة نتيجة أعمال الترميم التي جرت عليها.‏

-وبحلول عام (569هـ-1174م) استولى صلاح الدين الأيوبي على دمشق، فانتهى بذلك العهد النوري، وبدأ عهد الدولة الأيوبية التي خلفت وراءها تراثاً عمرانياً لا زال الكثير من آثاره قائماً إلى اليوم في المدينة، وقد تميزت عمارة المآذن خلال تلك الفترة بخصائص هي أقرب إلى التقشف منها إلى البذخ، فالجذع مربع أموي الطراز، بسيط البناء، خال من الزخارف والتزيينات، ويدل على ذلك المآذن العديدة التي تركت في دمشق وغيرها، ويظهر أن انشغال الدولة الأيوبية بالحروب الصليبية وتحرير أجزاء البلاد من آثارها دفعها إلى اتباع سياسة التقشف العمراني في بناء المساجد، ومثال ذلك مئذنة المدرسة الشامية البرانية ومئذنة المدرسة الأتابكية والماردانية، وتتميز مآذن العهد الأيوبي بأنها:‏

1-ذات جذع مربع بسيط ومتقشف في عمارته.‏

2-شرفتها وحيدة ومربعة.‏

3-مظلتها مربعة أيضاً.‏

4-خالية من المقرنصات وبقية العناصر التزيينية والزخرفية.‏

5-ينتهي رأسها غالباً بخوذة.‏

-في عام (658هـ- 1260م) صارت دمشق ولاية مملوكية، وبدأ فيها العهد المملوكي الذي استمر ما ينوف عن قرنين من الزمن، كانت البلاد خلالها مسرحاً للغزوات الصليبية والمغولية، وعلى الرغم من الصراع الذي دار بين المماليك والغزاة، وبين المماليك أنفسهم، تميز ذلك العهد بالبصمات العمرانية الكبيرة التي خلّفها لتحكي لنا أقاصيص تنافس سلاطينهم بالبناء والإنشاء والتشييد إشباعاً لرغبتهم وهواياتهم العمرانية، وتعبيراً عن عظمة إمكانياتهم، فكثرت إقامة المآذن في العاصمة الثانية لدولتهم دمشق وفي حلب وغيرها من الديار الشامية، وحدث في هذا العهد تطور حقيقي وهام لأشكال المآذن وعناصرها المعمارية، والزخرفية، فبعد أن كان الجذع الأيوبي المربع سائداً لفترة طويلة من الزمن، بقي في هذا العهد مستمراً، (مئذنتا جامع مسجد الأقصاب وجامع برسباي) جنباً إلى جنب مع أطرزة مغايرة، كطراز الجذع المثمن (مئذنة قايتباي) والجذع المتنوع الأضلاع (مئذنة جامع تنكز)، كما عاد الجذع الأسطواني إلى الظهور، كذلك تعددت الشرفات في المئذنة الواحدة، وشاع استعمال الزخارف والمقرنصات والشرفات والحشوات الهندسية والأشرطة التزيينية والكتابية والنقوش، كما ظهرت الذروة الصنوبرية لأول مرة في دمشق (مئذنة قايتباي).‏

وقد استمر التأثير المملوكي في بناء المآذن في الطراز المعاصر، وسار جنباً إلى جنب مع بقية الطرز الأخرى، وكانت مئذنة جامع (لالا باشا) هي المئذنة الأولى، وهي محاكاة لمآذن مملوكية في القاهرة، وتفرع عن الطراز المملوكي مجموعات كثيرة نجدها في كثير من مساجد دمشق المعاصرة.‏

-وفي عام (922هـ/ 1516م) احتل السلطان سليم الأول دمشق، فانتهى بذلك العهد المملوكي، وبدأ العصر العثماني، فنشأت خلاله مشيدات عمرانية لا زالت ماثلة إلى اليوم في دمشق وغيرها من مدن بلاد الشام، وقد تميزت عمارة المآذن في ذلك العهد بطابع فريد متطور، عن أسلوب عمارة المآذن السلجوقية فاتسمت المئذنة وليس دائماً بنحول الجذع والرشاقة والارتفاع، كما اتسمت بالشكل الأسطواني، أو الشكل كثير الأضلاع الذي يجعلها أقرب إلى الأسطوانة، وظهرت القلنسوة المخروطية المصفحة بالرصاص في أعلى المئذنة بديلة عن الذروة الصنوبرية التي شاعت في العهد المملوكي، ويشبه الباحثون هذه القلنسوة برأس قلم الرصاص (المبري جيداً) أو المخروط المدبب، كما تناقص استعمال الزخارف والعناصر التزيينية الأخرى إلى حد كبير إلا في بعض المآذن التي شيدت بالحجر الأبلق (ويسمونه في مصر الحجر المشهر) وهو المداميك الحجرية ذات اللونين المتناوبين (مئذنة جامع فتحي. ومئذنة مسجد الرفاعي). أما المقرنصات فبقيت شائعة على نطاق واسع في عدد كبير من مآذن تلك الفترة، وقد شيدت إبان ذلك العهد بضعة مآذن على طراز العمارة المملوكية ذات الجذوع المثمنة والذروة الصنوبرية، (مئذنة جامع مراد باشا) وقد استمر هذا الطراز في العهد العثماني أكثر بكثير من استمرار الجذوع الأيوبية المربعة فيه، كذلك لم يكن عدد الشرفات في المآذن العثمانية ثابتاً، فهي مفردة (مئذنتا التكية السليمانية، ومئذنة سنان باشا وثنائية (مئذنة عيسى) في الجامع الأموي، ولكن لم تشيد في دمشق خلال ذلك العهد ولا مئذنة بثلاث شرفات على غرار مثيلاتها في استانبول وبقية المدن التركية، (ص 352) وهذا ما أدى إلى ما يعرف بالطراز الشامي بتأثير عثماني، مما أعطى للمئذنة شكلاً خاصاً محدداً يميزها عن بقية المآذن المشيدة بطرز أخرى، وتركز التغيير في الجذوع المشيدة بالمداميك الحجرية ذات اللونين المتناوبين (المعروفة بالأبلق) مما أعطاها هوية تختلف عن هوية بقية المآذن المقامة في تلك الفترة، وقد استمر هذا الطراز حتى الخمسينات من قرننا الحالي.‏

وفي حي "الأكراد" أقيمت مآذن بطابع شامي ونَفَس عثماني، جذوعها صماء كثيرة الأضلاع يزخرفها شريط بسيط أو أكثر بلون بني أو ترابي داكن، وينتهي جذع كل مئذنة في أعلاه بشرفة كثيرة الأضلاع تستقر فوق أفاريز بديلة عن المقرنصات ويحيطها درابزين من الحديد المشغول كما تغطيها مظلة على غرارها وفوق الجميع "جوسق" كثير الأضلاع أيضاً في أعلاه قلنسوة مخروطية بنفس شكله، وتمثل مئذنتا جامع سعيد باشا شمدين، المشيدتان في العهد العثماني المتأخر، خصائص عمارة هذا الطراز.‏

وهكذا –كما نرى- أصبحت مآذن دمشق متباينة ومختلفة ومتنوعة الطراز والخصائص، وهذا حصيلة المراحل التاريخية التي مرت على دمشق منذ العهد الأموي، مما خلق تكوينات معمارية، وأفقدوا المئذنة الدمشقية في كثير من المراحل شخصيتها المميزة وهويتها المحددة وطابعها المعين، وكان هذا بداية لظهور الطراز الهجين ثم الطراز الحديث الذي أخذ مجراه في عمارة مآذن دمشق، منذ بداية السبعينات من قرننا الحالي، (مئذنة الجامع المحمدي، ومئذنة جامع عمر بن عبد العزيز) في حي المزة، والطراز الحديث في العمارة هو أسلوب يعتمد على تشكيل تكوينات وعلاقات حجمية ومساحية يبدعها المصمم ويبتعد بها عن الأساليب العادية بحيث تبدو الكتلة المعمارية بمظهر جديد وفريد لا يمت إلى الطرز المألوفة بصلة، أو قد يستفيد أحياناً من بعض عناصر تلك الطرز فيستغلها بشكل محدود أو يطورها كي تبدو معها المشيدة ذات لمسات تراثية ضمن الهيكل المعماري المسطور.‏