عبدالمومن عبدالقدوس
2010-12-12, 12:31
أما فيما يتعلق بصلة التصوف بالديانات الأخرى فلا شك أن الصوفية تأثرت بالديانات البرهمية والنصرانية أكثر من غيرها.
وفي الأسطر الآتية نبين بعض نقاط الالتقاء بين التصوف وهاتيك الديانات.
أولاً: تأثر الصوفية بالبرهمية:
تأثرت المذاهب الصوفية بالاعتقادات البرهمية وحتى لا أطيل في إثبات ذلك سوف أستعرض لبعض نصوص شريعة البرهمية وبعض النصوص الصوفية تاركاً المقارنة للقارئ.
• تقول المادة الثامنة والأربعون من آداب التلميذ في شريعة "منو سمرتي "أي شريعة البراهمية :
على التلميذ بعد أن يأخذ العصا أن يعبد الشمس ثم ليطف بالنار ثم ليخرج للسؤال وفاقا للطريق المشروعة.
يقابلها من عقائد الصوفية ترك العمل والارتزاق ، والتواكل وانتظار أموال الصدقات أو سؤال الناس اللقمة.
• مادة (51) على التلميذ أن يقدم لأستاذه كل ما جمعه في يومه من غير أن يغل منه شيئا .
يقابلها عند الصوفية أن على المريد أن يقدم كل ماله للشيخ بدون أن يخبئ شيئا . وقد طلب أبو يزيد ممن أراد الوصول أن يوزع كل أمواله على الفقراء ، وكانت ثروته كبيرة ، فزاده هذا حزنا .
• على التلميذ أن يقرأ ويكف عن القراءة بأمر أستاذه "م73".
ومثله عند الصوفية ، فالقراءة لا تكون إلا عن الشيخ ولا نكون إلا بإذنه .أنظر آداب الطريقة التيجانية .
• "م120"لا تخاطب العالم الذي يقوم بالعبادة باسمه ولو كان أصغر منك سنا بل خاطبه بالقول "بهوث" أي يا سيدي .
وعند الصوفية لا يخاطب التلميذ شيخه باسمه إنما يخاطبه بلفظ يا سيدي.
• أما في فصل تعظيم الأستاذ فتقول المادة "144" من شريعة البراهمة ما يلي :
"يجب أن لا يستغضب من يملأ الأذنين بالويد لأنه كالأب والأم للتلميذ.((والويد :تعني علوم الشريعة)).
ونجد مثله عند الصوفية فلا ينبغي على التلميذ أن يغضب شيخه أو يعترض عليه وقد قالوا:((لا تعترض فتنطرد)) .
• "م162"على البرهمي أن لا يغتر بتعظيم الناس وتكريمهم إياه بل أن ينظر إلى ذلك نظرة السم , وأن يعتبر توهينهم واحتقارهم إياه كماء الحياه.
يقابلها قول أبي يزيد لمن أراد الوصول :"أحلق لحيتك ورأسك وضع مخلاة فيها جوز في عنقك وادخل السوق وقل للأولاد أن يصفعوك ،فكل من يصفعك تعطي له جوزة ... وذلك من أجل كسر كبرياء النفس وترويضها على قبول الاحتقار.
ومن يقرأ شريعة "منو سمرتي" يجد مئات المواد التي تتفق مع مناهج الصوفية ، ولكننا أردنا إعطاء فكرة سريعة عن مدى اقتباس الصوفية من تلك الأديان:
أما نقاط التلاقي مع النصارى فهي كثيرة جداً أيضاً ونذكر باختصار مجموعة من النقاط:
1- الصوفية يعبدون ربهم بالجوع والنصوص في كتبهم مليئة بمن صام أسبوعاً أو سنة أو أكثر أو أقل. وقد جاء في إنجيل "متَّى" الإصحاح الخامس الفقرات من 5 إلى 9 ما نصه: "طوبى للودعاء لأنهم يرثون الأرض طوبى للجياع العطاش إلى البر لأنهم يُشبَعون.
2- الصوفية يزعمون أن العبادة بالقلب، وزعم غلاتهم أنهم بعد أن أتاهم اليقين سقط التكليف عنهم مستدلين -زوراً وبهتاناً- بقوله تعالى: وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ [99- سورة الحجر] " فإذا جاء اليقين فلا عبادة.
وعند النصارى بنفس الإصحاح السابق من إنجيل "متَّى" طوبى لأنقياء القلب لأنهم يعاينون الله.
3- جعلت الصوفية من ملابس الصوفي شعاراً لها بل وزيادة بالزهد الخادع، بدأوا يخرقون هذه الثياب ويرقعونها ويسمونها بالمرقعات. ولبس الصوف هو لباس رهبان النصارى الذين ينقطعون في صوامعهم لعبادتهم، وصحيح أن يحيى المعمداني -رمزهم- كان يلبس -حسب إنجيل متَّى الإصحاح الثالث وحسب إنجيل مرقس الإصحاح الأول- "كان لباسه وبر الإبل" ولكن لما لم يكن وبر الإبل متحققاً لأي راهب تمت الاستعاضة عنه بالصوف.
4- يقول الصوفية -وخصوصاً الرفاعية- من تمشيخ عليكم فتتلمذوا له ومن مد يده لتقبلوها فقبلوا رجله ومن تقدم عليكم فقدموه( ). ويقول إنجيل متَّى الإصحاح الخامس: وأما أنا فأقول لكم لا تقاوموا الشر ومن لطمك على خدك الأيمن فحوِّل له الآخر، ومن أراد أن يخاصمك ويأخذ ثوبك فأزل له الرداء، ومن سخَّرك ميلاً واحداً فاذهب معه ميلين.
5- يظهر الصوفية الحب لأعداء الله، فهذا أبو يزيد يمر من قرب مقبرة النصارى فيقول: "معذورون" ويطلب من ربه أن يكبر جسمه فيكون في النار فيملأها حتى لا يتعذب أحد غيره ولو كان كافراً.
ويحض أبو يزيد الناس على احتقار الصوفية وضعفهم كما طالب من يريد الوصول في فقرات سابقة.
والإنجيل يقول "متَّى 5" قيل أن تحب قريبك وتبغض عدوك: وأما أنا فأقول: أحبوا أعداءكم وباركوا لاعنيكم أحسنوا إلى مبغضيكم. وفي هذا القدر كفاية، والله أعلم.
بعدما تقدم يمكن أن يتساءل المرء ما هي الصوفية إذن ما هو تعريفها؟!
لم يعرف أحد من قبل الصوفية تعريفاً دقيقاً جامعاً مانعاً ولعلِّي لا أستطيع أن أفعل ذلك نتيجة الخلاف على المرتكزات الأساسية للصوفية. لذا فإني سأنقل بعض تعاريف الصوفية وبعض تعاريف غير الصوفية وسأحاول أن أضع تعريفاً بإذن الله.
أولاً: تعاريف مشايخ الصوفية للصوفية:
1- قال الجنيد: التصوف أن تكون مع الله بلا علاقة وبأن يميتك الحق عنك ويحييك به وهو ذكر مع اجتماع ووجد مع استماع وتحمُّل مع اتباع( ).
2- وقال ذو النون المصري: أن لا تملك شيئاً ولا يملكك شيء ونقل هذا التعريف عن سحنون.
3- قال أبو علي الروذباري :التصوف هو الإناخة على باب الحبيب وإن طرد.
4- الشبلي: الصوفية أطفال في حجر الحق( ).
5- وقال أبو يعقوب المزابلي: التصوف حال تضمحل فيها معالم الإنسانية( ).
6- وقال رويم بن أحمد البغدادي: التصوف مبني على ثلاث خصال: التمسك بالافتقار والتحقق بالبذل والإيثار وترك التعرض والاختيار( ).
7- وقال عبد الواحد بن زيد: الصوفية هم القائمون بعقولهم على همومهم والعاكفون عليها بقلوبهم المعتصمون بسيدهم من شر نفوسهم( ).
8- وأخيراً: حاول السراج صاحب اللمع أن يستخرج من مجموعة تعاريف الصوفية تعريفاً للتصوف قال فيه: هم العلماء بالله وبأحكام الله العاملون بما علمهم الله المتحققون بما استعملهم الله - عز وجل – الواجدون بما تحققوا الفانون بما وجدوا لأن كل واحد قد فني بما وجد( ).
ثانياً: تعريف الصوفية من وجهة نظر غير صوفية:
1- التصوف حركة دينية انتشرت في العالم الإسلامي عقب اتساع الفتوحات وازدياد الرخاء الاقتصادي كردة فعل على الانغماس في الترف الحضاري مما حمل بعضهم على الزهد الذي تطور بهم حتى صار طريقة مميزة معروفة باسم الصوفية( )...
2- عرفها العلامة ابن خلدون من خلال تقسيمها إلى عناصر أساسية فقال: إن للتصوف أربعة عناصر هي:
أ- الكلام في المجاهدات وما يحصل من الأذواق والمواجيد ومحاسبة النفس على الأعمال.
ب- الكلام في الكشف والحقيقة المدركة من عالم الغيب.
ج- التصرفات في العوالم والأكوان.
د- ألفاظ موهمة الظاهر نطق بها أئمة القوم.
ويمكنني بعد ما قدمت وما عرضت من تعريفات أن أبدي الملاحظات الآتية:
1- إن جلَّ التعاريف التي ذكرها مشايخ الصوفية ينطبق عليها تقسيم العلامة ابن خلدون بوصفها أنها كلام عام موهم ومثاله قال الجنيد: أن تكون مع الله بلا علاقة.. وكذلك تعريف أبو علي الروذباري والتعريفات الأخرى.
2- خلت كل تعريفات الصوفية بوصفها حركة دينية من الإشارة إلى العودة إلى "كتاب" أي كتاب و "السنة" أي سنة.
3- خلت من الإشارة إلى الالتزام بأحكام الشريعة.
4- ركزت على الفقر، السماع، الوجد، الغناء.
أما الملاحظات على تعريف الموسوعة فهي:
أ- إن القول بأن الصوفية قامت كردة فعل على الترف يحتاج إلى دليل.
ب- لا ينبغي الخلط بين الزهد والتصوف فالزهد خصلة محمودة في ذاته ما لم يخرج عن الحدود التي بينها لنا الرسول بأنه كان يصوم ويفطر ويقوم الليل وينام وينكح النساء، وأنه نبهنا أن لأنفسنا علينا حقاً ولأجسادنا علينا حقاً ولأهلنا علينا حقاً فما دام الزهد ضمن هذه الأطر فلا بأس، وأما إن خرج عنها كما فعل عثمان بن مظعون متأوِّلاً فيكون قد خرج عن المألوف واستحق تنبيه الرسول الكريم "من رغب عن سنتي فليس مني".
وكل معاني التطرف نلسمها واضحة في تعاريف القوم لمذهبهم وقد مر ذكر عدد منها.
وبعد كل هذا أقول:
الصوفية حركة دينية منحرفة اعتمدت الفلسفة البرهمية والنصرانية في تعبدها وبَنَتْ أسساً فلسفية من خارج الدين تحت ستار الكشف الرباني والإلهام والفناء ووحدة الوجود.
فقولي "حركة": أخرجت كونها مجرد لقاء فكري غير منظم بين مجموعة أفراد.
فمن زمن المحاسبي كان الصوفية يلتقون سراً لمدارسة مبادئهم وتبحث كيفية نشر أفكارهم.
قولي "دينية": واضح معناه أن الصوفية اتخذوا من حركتهم التي تهدف إلى تقويض أسس الدين مظهراً دينياً. وذلك مشابه لما فعل بن سبأ بادعائه له حب علي وتأليهه تحت ستار الدين وهو إنما يخطط لهدم الدين.
منحرفة: أقول منحرفة لابتعادها الواضح عن منهج كتاب الله وسنة نبيه ، وليس أكثر من الأقوال المنسوبة إلى مشايخهم الدالة على الكفر الصريح والانحراف عن منهج الدين الحنيف. كادعاء التيجاني مقابلة الرسول يقظة لا مناماً( )، وكقول أبي يزيد: حججت أول مرة فرأيت البيت وحججت الثانية فرأيت صاحب البيت ولم أر البيت، وحججت الثالثة فلم أر البيت ولا صاحبه( )، والأدلة في مجال الانحراف أكثر من أن تحصى من أقوالهم.
اعتمدت الفلسفة البرهمية النصرانية: وقد ضربنا لذلك أمثلة في الصفحات السابقة فلتراجع.
وتبنت أسساً فلسفية من خارج الدين :
وذلك من خلال القول بوحدة الوجود أو الإتحاد أو الحلول ، يقول ابن عربي:
العبـد ربٌّ والـربُّ عبدٌ يا ليت شعري من المكلَّفْ
إن قـلت عبدٌ فـذاك ربٌّ أو قـلت ربٌّ أنَّى يكلَّف؟
وانظر قصة تصوف إبراهيم بن أدهم كما نقلها الأستاذ عبد الرحمن عبد الخالق في كتاب "الفكر الصوفي في ضوء الكتاب والسنة"( ).
واعتماد هذه الفلسفة في الدين تغيير له، فأصبح أمر التكليف محل استفهام عند ابن عربي. وقد قال تعالى: "وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون".
ويقول الحلاج:
أنا من أهوى ومن أهوى أنا نـحن روحان حللـنا بدنا
فإذا أبـصرتـني أبـصرته وإذا أبـصرتـه أبـصرتنـا( )
تحت ستار الكشف والفناء ووحدة الوجود:فالقوم يعتبرون أنفسهم هم المسلمون بكشوفاتهم التي تم بيان أمثلة منها ولا داعي للتكرار وما بقية المسلمين المتمسكين بالظاهر إلا مبتدئين وهم بحاجة إلى تهذيب.
وهذا كشف ابن عربي في تفسير قوله تعالى من سورة نوح "مما خطيئاتهم أغرقوا فأدخلوا ناراًً" قال ابن عربي: مما خطيئاتهم" التي خطت بهم في بحر العلم بالله... "فلم يجدوا لهم من دون الله أنصاراً" فكان عين الله أنصارهم فهلكوا فيه إلى الأبد( ).
وفي الأسطر الآتية نبين بعض نقاط الالتقاء بين التصوف وهاتيك الديانات.
أولاً: تأثر الصوفية بالبرهمية:
تأثرت المذاهب الصوفية بالاعتقادات البرهمية وحتى لا أطيل في إثبات ذلك سوف أستعرض لبعض نصوص شريعة البرهمية وبعض النصوص الصوفية تاركاً المقارنة للقارئ.
• تقول المادة الثامنة والأربعون من آداب التلميذ في شريعة "منو سمرتي "أي شريعة البراهمية :
على التلميذ بعد أن يأخذ العصا أن يعبد الشمس ثم ليطف بالنار ثم ليخرج للسؤال وفاقا للطريق المشروعة.
يقابلها من عقائد الصوفية ترك العمل والارتزاق ، والتواكل وانتظار أموال الصدقات أو سؤال الناس اللقمة.
• مادة (51) على التلميذ أن يقدم لأستاذه كل ما جمعه في يومه من غير أن يغل منه شيئا .
يقابلها عند الصوفية أن على المريد أن يقدم كل ماله للشيخ بدون أن يخبئ شيئا . وقد طلب أبو يزيد ممن أراد الوصول أن يوزع كل أمواله على الفقراء ، وكانت ثروته كبيرة ، فزاده هذا حزنا .
• على التلميذ أن يقرأ ويكف عن القراءة بأمر أستاذه "م73".
ومثله عند الصوفية ، فالقراءة لا تكون إلا عن الشيخ ولا نكون إلا بإذنه .أنظر آداب الطريقة التيجانية .
• "م120"لا تخاطب العالم الذي يقوم بالعبادة باسمه ولو كان أصغر منك سنا بل خاطبه بالقول "بهوث" أي يا سيدي .
وعند الصوفية لا يخاطب التلميذ شيخه باسمه إنما يخاطبه بلفظ يا سيدي.
• أما في فصل تعظيم الأستاذ فتقول المادة "144" من شريعة البراهمة ما يلي :
"يجب أن لا يستغضب من يملأ الأذنين بالويد لأنه كالأب والأم للتلميذ.((والويد :تعني علوم الشريعة)).
ونجد مثله عند الصوفية فلا ينبغي على التلميذ أن يغضب شيخه أو يعترض عليه وقد قالوا:((لا تعترض فتنطرد)) .
• "م162"على البرهمي أن لا يغتر بتعظيم الناس وتكريمهم إياه بل أن ينظر إلى ذلك نظرة السم , وأن يعتبر توهينهم واحتقارهم إياه كماء الحياه.
يقابلها قول أبي يزيد لمن أراد الوصول :"أحلق لحيتك ورأسك وضع مخلاة فيها جوز في عنقك وادخل السوق وقل للأولاد أن يصفعوك ،فكل من يصفعك تعطي له جوزة ... وذلك من أجل كسر كبرياء النفس وترويضها على قبول الاحتقار.
ومن يقرأ شريعة "منو سمرتي" يجد مئات المواد التي تتفق مع مناهج الصوفية ، ولكننا أردنا إعطاء فكرة سريعة عن مدى اقتباس الصوفية من تلك الأديان:
أما نقاط التلاقي مع النصارى فهي كثيرة جداً أيضاً ونذكر باختصار مجموعة من النقاط:
1- الصوفية يعبدون ربهم بالجوع والنصوص في كتبهم مليئة بمن صام أسبوعاً أو سنة أو أكثر أو أقل. وقد جاء في إنجيل "متَّى" الإصحاح الخامس الفقرات من 5 إلى 9 ما نصه: "طوبى للودعاء لأنهم يرثون الأرض طوبى للجياع العطاش إلى البر لأنهم يُشبَعون.
2- الصوفية يزعمون أن العبادة بالقلب، وزعم غلاتهم أنهم بعد أن أتاهم اليقين سقط التكليف عنهم مستدلين -زوراً وبهتاناً- بقوله تعالى: وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ [99- سورة الحجر] " فإذا جاء اليقين فلا عبادة.
وعند النصارى بنفس الإصحاح السابق من إنجيل "متَّى" طوبى لأنقياء القلب لأنهم يعاينون الله.
3- جعلت الصوفية من ملابس الصوفي شعاراً لها بل وزيادة بالزهد الخادع، بدأوا يخرقون هذه الثياب ويرقعونها ويسمونها بالمرقعات. ولبس الصوف هو لباس رهبان النصارى الذين ينقطعون في صوامعهم لعبادتهم، وصحيح أن يحيى المعمداني -رمزهم- كان يلبس -حسب إنجيل متَّى الإصحاح الثالث وحسب إنجيل مرقس الإصحاح الأول- "كان لباسه وبر الإبل" ولكن لما لم يكن وبر الإبل متحققاً لأي راهب تمت الاستعاضة عنه بالصوف.
4- يقول الصوفية -وخصوصاً الرفاعية- من تمشيخ عليكم فتتلمذوا له ومن مد يده لتقبلوها فقبلوا رجله ومن تقدم عليكم فقدموه( ). ويقول إنجيل متَّى الإصحاح الخامس: وأما أنا فأقول لكم لا تقاوموا الشر ومن لطمك على خدك الأيمن فحوِّل له الآخر، ومن أراد أن يخاصمك ويأخذ ثوبك فأزل له الرداء، ومن سخَّرك ميلاً واحداً فاذهب معه ميلين.
5- يظهر الصوفية الحب لأعداء الله، فهذا أبو يزيد يمر من قرب مقبرة النصارى فيقول: "معذورون" ويطلب من ربه أن يكبر جسمه فيكون في النار فيملأها حتى لا يتعذب أحد غيره ولو كان كافراً.
ويحض أبو يزيد الناس على احتقار الصوفية وضعفهم كما طالب من يريد الوصول في فقرات سابقة.
والإنجيل يقول "متَّى 5" قيل أن تحب قريبك وتبغض عدوك: وأما أنا فأقول: أحبوا أعداءكم وباركوا لاعنيكم أحسنوا إلى مبغضيكم. وفي هذا القدر كفاية، والله أعلم.
بعدما تقدم يمكن أن يتساءل المرء ما هي الصوفية إذن ما هو تعريفها؟!
لم يعرف أحد من قبل الصوفية تعريفاً دقيقاً جامعاً مانعاً ولعلِّي لا أستطيع أن أفعل ذلك نتيجة الخلاف على المرتكزات الأساسية للصوفية. لذا فإني سأنقل بعض تعاريف الصوفية وبعض تعاريف غير الصوفية وسأحاول أن أضع تعريفاً بإذن الله.
أولاً: تعاريف مشايخ الصوفية للصوفية:
1- قال الجنيد: التصوف أن تكون مع الله بلا علاقة وبأن يميتك الحق عنك ويحييك به وهو ذكر مع اجتماع ووجد مع استماع وتحمُّل مع اتباع( ).
2- وقال ذو النون المصري: أن لا تملك شيئاً ولا يملكك شيء ونقل هذا التعريف عن سحنون.
3- قال أبو علي الروذباري :التصوف هو الإناخة على باب الحبيب وإن طرد.
4- الشبلي: الصوفية أطفال في حجر الحق( ).
5- وقال أبو يعقوب المزابلي: التصوف حال تضمحل فيها معالم الإنسانية( ).
6- وقال رويم بن أحمد البغدادي: التصوف مبني على ثلاث خصال: التمسك بالافتقار والتحقق بالبذل والإيثار وترك التعرض والاختيار( ).
7- وقال عبد الواحد بن زيد: الصوفية هم القائمون بعقولهم على همومهم والعاكفون عليها بقلوبهم المعتصمون بسيدهم من شر نفوسهم( ).
8- وأخيراً: حاول السراج صاحب اللمع أن يستخرج من مجموعة تعاريف الصوفية تعريفاً للتصوف قال فيه: هم العلماء بالله وبأحكام الله العاملون بما علمهم الله المتحققون بما استعملهم الله - عز وجل – الواجدون بما تحققوا الفانون بما وجدوا لأن كل واحد قد فني بما وجد( ).
ثانياً: تعريف الصوفية من وجهة نظر غير صوفية:
1- التصوف حركة دينية انتشرت في العالم الإسلامي عقب اتساع الفتوحات وازدياد الرخاء الاقتصادي كردة فعل على الانغماس في الترف الحضاري مما حمل بعضهم على الزهد الذي تطور بهم حتى صار طريقة مميزة معروفة باسم الصوفية( )...
2- عرفها العلامة ابن خلدون من خلال تقسيمها إلى عناصر أساسية فقال: إن للتصوف أربعة عناصر هي:
أ- الكلام في المجاهدات وما يحصل من الأذواق والمواجيد ومحاسبة النفس على الأعمال.
ب- الكلام في الكشف والحقيقة المدركة من عالم الغيب.
ج- التصرفات في العوالم والأكوان.
د- ألفاظ موهمة الظاهر نطق بها أئمة القوم.
ويمكنني بعد ما قدمت وما عرضت من تعريفات أن أبدي الملاحظات الآتية:
1- إن جلَّ التعاريف التي ذكرها مشايخ الصوفية ينطبق عليها تقسيم العلامة ابن خلدون بوصفها أنها كلام عام موهم ومثاله قال الجنيد: أن تكون مع الله بلا علاقة.. وكذلك تعريف أبو علي الروذباري والتعريفات الأخرى.
2- خلت كل تعريفات الصوفية بوصفها حركة دينية من الإشارة إلى العودة إلى "كتاب" أي كتاب و "السنة" أي سنة.
3- خلت من الإشارة إلى الالتزام بأحكام الشريعة.
4- ركزت على الفقر، السماع، الوجد، الغناء.
أما الملاحظات على تعريف الموسوعة فهي:
أ- إن القول بأن الصوفية قامت كردة فعل على الترف يحتاج إلى دليل.
ب- لا ينبغي الخلط بين الزهد والتصوف فالزهد خصلة محمودة في ذاته ما لم يخرج عن الحدود التي بينها لنا الرسول بأنه كان يصوم ويفطر ويقوم الليل وينام وينكح النساء، وأنه نبهنا أن لأنفسنا علينا حقاً ولأجسادنا علينا حقاً ولأهلنا علينا حقاً فما دام الزهد ضمن هذه الأطر فلا بأس، وأما إن خرج عنها كما فعل عثمان بن مظعون متأوِّلاً فيكون قد خرج عن المألوف واستحق تنبيه الرسول الكريم "من رغب عن سنتي فليس مني".
وكل معاني التطرف نلسمها واضحة في تعاريف القوم لمذهبهم وقد مر ذكر عدد منها.
وبعد كل هذا أقول:
الصوفية حركة دينية منحرفة اعتمدت الفلسفة البرهمية والنصرانية في تعبدها وبَنَتْ أسساً فلسفية من خارج الدين تحت ستار الكشف الرباني والإلهام والفناء ووحدة الوجود.
فقولي "حركة": أخرجت كونها مجرد لقاء فكري غير منظم بين مجموعة أفراد.
فمن زمن المحاسبي كان الصوفية يلتقون سراً لمدارسة مبادئهم وتبحث كيفية نشر أفكارهم.
قولي "دينية": واضح معناه أن الصوفية اتخذوا من حركتهم التي تهدف إلى تقويض أسس الدين مظهراً دينياً. وذلك مشابه لما فعل بن سبأ بادعائه له حب علي وتأليهه تحت ستار الدين وهو إنما يخطط لهدم الدين.
منحرفة: أقول منحرفة لابتعادها الواضح عن منهج كتاب الله وسنة نبيه ، وليس أكثر من الأقوال المنسوبة إلى مشايخهم الدالة على الكفر الصريح والانحراف عن منهج الدين الحنيف. كادعاء التيجاني مقابلة الرسول يقظة لا مناماً( )، وكقول أبي يزيد: حججت أول مرة فرأيت البيت وحججت الثانية فرأيت صاحب البيت ولم أر البيت، وحججت الثالثة فلم أر البيت ولا صاحبه( )، والأدلة في مجال الانحراف أكثر من أن تحصى من أقوالهم.
اعتمدت الفلسفة البرهمية النصرانية: وقد ضربنا لذلك أمثلة في الصفحات السابقة فلتراجع.
وتبنت أسساً فلسفية من خارج الدين :
وذلك من خلال القول بوحدة الوجود أو الإتحاد أو الحلول ، يقول ابن عربي:
العبـد ربٌّ والـربُّ عبدٌ يا ليت شعري من المكلَّفْ
إن قـلت عبدٌ فـذاك ربٌّ أو قـلت ربٌّ أنَّى يكلَّف؟
وانظر قصة تصوف إبراهيم بن أدهم كما نقلها الأستاذ عبد الرحمن عبد الخالق في كتاب "الفكر الصوفي في ضوء الكتاب والسنة"( ).
واعتماد هذه الفلسفة في الدين تغيير له، فأصبح أمر التكليف محل استفهام عند ابن عربي. وقد قال تعالى: "وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون".
ويقول الحلاج:
أنا من أهوى ومن أهوى أنا نـحن روحان حللـنا بدنا
فإذا أبـصرتـني أبـصرته وإذا أبـصرتـه أبـصرتنـا( )
تحت ستار الكشف والفناء ووحدة الوجود:فالقوم يعتبرون أنفسهم هم المسلمون بكشوفاتهم التي تم بيان أمثلة منها ولا داعي للتكرار وما بقية المسلمين المتمسكين بالظاهر إلا مبتدئين وهم بحاجة إلى تهذيب.
وهذا كشف ابن عربي في تفسير قوله تعالى من سورة نوح "مما خطيئاتهم أغرقوا فأدخلوا ناراًً" قال ابن عربي: مما خطيئاتهم" التي خطت بهم في بحر العلم بالله... "فلم يجدوا لهم من دون الله أنصاراً" فكان عين الله أنصارهم فهلكوا فيه إلى الأبد( ).