تسجيل الدخول

مشاهدة النسخة كاملة : فن السرور


ثائرة الجبال
2008-06-21, 22:08
نعمة كبرى أن يمنح الإنسان القدرة على السرور، يستمتع به إن كانت أسبابه ، ويخلقها إن لم تكن .
يعجبني القمر في تقلده هالة جميلة تشع فنا وسرورا ، وبهاء ونورا ، ويعجبني الإنسان حين يخلق حوله جوا مشبعا بالغبطة والسرور ، ثم يتشربه فيشرق في محياه ، ويلمع في عينيه ويتألق في جبينه ، ويتدفق من وجهه .
يخطىء من يظن أن أسباب السرور كلها في الظروف الخارجية ، فيشترط ليسر مالا وبنين وصحة ، فالسرور يعتمد على النفس أكثر مما يعتمد على الظروف ، وفي الناس من يشقى في النعيم ، ومنهم من ينعم في الشقاء ، وفي الناس من لا يستطيع أن يشتري ضحكة عميقة بكل ماله وهو كثير ، وفيهم من يستطيع أن يشتري ضحكات عالية عميقة واسعة بأتفه الأثمان وبلا ثمن .
مع الأسف ألاحظ أن كمية السرور في بلاد نا قليلة وليست تنقصنا الوسائل .
أكبر سبب لذلك في نظري أن الحياة فن ، والسرور كسائر شؤون الحياة فن ، فمن عرف كيف ينتفع بالفن استغله واستفاد منه وحظى به ، ومن لم يعرفه شقى به .
أول درس يجب تعلمه في فن السرور ( قوة الاحتمال ) فأكبر أسباب الشقاء رخاوة النفس وانزعاجها العظيم للشيء الحقير، فما أن يصاب المرء بالتافه من الأمر حتى تراه حرج الصدر لهيف القلب ، كاسف الوجه ، ناكس البصر ، تهتاج الهموم في صدره ، وتقض مضجعه ، وتؤرق جفنه ، وهي وأكثر منها إذا حدثت لمن هو أقوى احتمالا ، لم يلق لها بالا ولم تحرك منه نفسا ، ونام ملء جفونه رضي البال فارغ الصدر .

وأهم سبب لقلة السرور سوء النظم الاجتماعية ، ففي كل بيت محزنة من سوء العلاقات الزوجية والعلاقات الأبوية ، وفي كل مؤسسة حكومية مأساة من سوء العلاقات الإدارية وأحاديث الدرجات والرواتب ، وعدم التعاون في حمل الأعباء وبناء المعاملات على الفوضى والمصادفات لا النظام والقانون.
ثم عدم القدرة على خلق أسباب السرور الاجتماعية ، فاجتماعات المنازل التي تبعث السرور محدودة ونادرة ،وفي كثير من الأحيان تنتهي بمنغصات ، والملاهي العامة إما داعرة لا ترضي الذوق السليم ولا ترمي إلى غرض شريف ، وإما تافهة لا يجملها فن ولا يرقيها ذوق ومن أجل ذلك كان أشد الناس بؤسا عندنا الطبقة المثقفة المهذبة التي رقى ذوقها ، فهي لا تكاد تجد لها ملهى يتفق وذوقها .
ومع هذا كله ففي استطاعة الإنسان أن يتغلب على كل هذه المصاعب ويخلق السرور حوله وجزء كبير من الإخفاق في خلق السرور يرجع إلى الفرد نفسه ، بدليل أن ترى الشخص في الظروف الواحدة والأسرة الواحدة والأمة الواحدة من يستطيع أن يخلق من كل شيء سرورا وبجانبه أخوه الذي يخلق من كل شيء حزنا فالعامل الشخصي لا شك له دخل كبير في خلق نوع من الجو الذي يتنفس منه ، ففي الدنيا عاملان اثنان : عامل خارجي وهو كل العالم وعامل داخلي وهو نفسك ، فنفسك نصف العوامل ، فاجتهد أن تكسب النصف على الأقل وإذا فرجحان كفتها قريب الاحتمال ، بل إن النصف الآخر- وهو العالم لا قيمة له بالنسبة إليك إلا بمروره بمشاعرك ، فهي التي تلونه ، وتجمله أو تقبحه فإذا جلوت عينيك وأرهفت سمعك وأعددت مشاعرك للسرور فالعالم الخارجي ينفعل مع نفسك فيكون مسرورا .
إنا لنرى الناس يختلفون في القدرة على خلق السرور اختلاف مصابيح الكهرباء في القدرة على الضياء ، فمنهم المظلم كالمصباح المحترق ، ومنهم المضيء بقدر ضئيل كمصباح النوم ومنهم ذو القدرة الهائلة كمصباح الحفلات ، فغير مصباحك إن ضعف واستعض عنه بمصباح قوي ينير لنفسك وللناس .
ولكن ما الوسيلة إلى ذلك ؟
مما لا شك فيه أن غلبة الحزن مرض قد ينشأ من عوامل مختلفة ، فمن الخطأ رجوعها كلها إلى علة واحدة ، وإذا فمن الخطأ وضع علاج واحد للعلل كلها ، ولكن فحص كل نفس وأسباب حزنها ووضع العلاج الخاص بها لا يستطيعه إلا طبيب نفسي ماهر . أما الكاتب فلا يستطيع إلا قولا عاما ووصفا مشتركا ، وتعرضا للمسائل العامة .
ومن أهم أسباب الحزن ضيق الأفق وكثرة تفكير الإنسان في نفسه ، حتى أنها مركز العلم وكأن الشمس والقمر والنجوم والبحار والأنهار والأمة والحكومة والميزانية والسعادة والرخاء كلها خلقت لشخصه فهو يقيس كل المسائل بمقياس نفسه ، ويديم التفكير في نفسه وعلاقة العالم بها ، وهذا من غير ريب يوجد الحزن والبؤس ، فمحال أن يجري العالم وفق نفسه لأن نفسه ليست المركز ، وإنما هي نقطة حقيرة على المحيط الواسع ، فإن هو وسع أفقه ونظر إلى العالم الفسيح ، ونسى نفسه أحيانا ونسى نفسه كثيرا شعر بأن الأعباء التي ترزح تحتها نفسه والقيود الثقيلة التي تثقلها بها نفسه ، قد خفت شيئا فشيئا وتحللت شيئا فشيئا . وهذا هو السبب في أن أكثر الناس فراغا أشدهم ضيقا بنفسه لأنه يجدد من زمنه ما يطيل التفكير فيها إلى درجة أن يجن نفسه ، فإن استغرق في عمله ، وفكر في أمته وعالمه ، كان له من ذلك لذة مزدوجة ، لذة الفكر والعمل ، ولذة نسيان النفس .
ولعل من أول دروس فن السرور أن يقبض على زمام تفكيره فيصرفه كما يشاء ، فإن هو تعرض لموضوع مقبض كأن يناقش أسرته في أمر من الأمور المحزنة أو يجادل شريكه أو صديقه فيما يؤدي إلى الغضب ، حول ناحية تفكيره وأثار مسألة أخرى سارة ينسى بها مسألته الأولى المحزنة فإن تضايقت من حديث ميزانية البيت فتكلم في السياسة ، وانقل تفكيرك كما تنقل بيادق الشطرنج .
ثاني الدروس ألا تقدر الحياة فوق قيمتها ، فالحياة هينة ، وكل ما فيها زائل ، فاعمل الخير ما استطعت وافرح ما استطعت ، ولا تجمع على نفسك الألم بتوقع الشر ثم الألم بوقوعه ، فيكفي في هذه الحياة ألم واحد للشر الواحد .
وأخيرا ، افعل ما يفعله الفنانون ، فالرجل لا يزال يتشاعر حتى يكون شاعرا ، ويتخاطب حتى يصير خطيبا ، ويتكاتب حتى يكون كاتبا ، فتصنع الفرح والسرور والابتسام للحياة حتى يكون التطبع طبعا .

ARCHIO
2008-07-01, 11:58
بارك الله فيك على الموضوع ......حقيقة ماكتبتي ....فالسرور سر من اسرار الحياة السعيدة ...بوركتي ارشيو مر من هنا

ثائرة الجبال
2008-07-01, 18:33
شكرا سيدي على مرورك الذي عطر الأجواء وجعل البسمة في الأنحاء

صقرقريش
2008-07-04, 02:11
الله الله ...موضوع رائع ديباجة وتنسيقا
شكرا جزيلا على هذا النص الجميل .

ثائرة الجبال
2008-07-06, 17:28
شكرا سيدي لمرورك الطيب.