dmd39
2010-11-21, 22:49
عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال : أول من يُؤتى كتابهُ بيمينه عمر بن الخطاب ، وله شعاع كشعاع الشمس فقيل له و أين أبو بكر يا ابن عم رسول الله ؟ قال ، هيهات...رفعتهُ الملائكة إلى الجنة.
عمر رضي الله عنه وأرضاه ، أسلم بسورة طه، وكان أصدق من الشمس في ضحاها، وكان أوضح من القمر إذا تلاها ، وأشهر من النهار إذا جلاَّها ، تولّى الخلافة فأعلاها، وقاد الأُمَّةَ فرعاها.
السلام ُ عليك يا عُمر يوم أسلمت ، والسلامُ عليك يوم هاجرت، والسلامُ عليك يوم توليت الخلافةَ ، والسلامُ عليك يوم متّ شهيداً، ويوم تبعثُ يوم القيامةِ في الخالدين.
نعيش مع سيرة الفاروق العطرة ، ليعلم العالمون أن عُمر ينبغي أن يُكرم ، حتّى في القرن العشرين، وأن عُمر جامِعة للعدل وللحُب و للإيمان ، وللطموح، ولأننا نُحبُ عمر-رضي الله عنه - رجاءَ أن نكون معه لأنّ المرءَ مع من أَحبّ ، ولأننا لو سلكنا سُلوكَه، لما انحدرنا إلى القاعِ السحيقِ، الذي نُعاني منهُ ومن واقِعُه ما نرى وما نُحسُ وما نعيش ، ولكن الفرصة لم تفت والأريب من إن فاتته فُرصة استعد وتربص لغيرها ، وعلى هذا الأساس دراستنا لشخصية عُمَر المتميزة ؛ لأننا نأمل أن تكون تربية عمر لنا منجاة، و خلاصاً لهذه الأُمة المسلِمة المُعنَّاة ، وما يزال في الأملِ مطمَع ، وفي الوقت مُتسَع .
علو همة وأنفة:
إن دِقة إحساس عمر وعُلوَ همته ، وأنَفته في الجاهلية لزِمتهُ منذ أول لحظة أسلَم فيها .. عزَّ عليه بعد إسلامِه أن يَخفيه فلا يُعلِن به ، الإباءُ و الصراحة وعُلو الهِمة من شيم الرُجولَة عند صاحبِ العقيدةِ الحقة، هذه الخِلالُ العالية تُلزِمَهُ أن يقفَ إلى جانب الحق الّذي آمن به ، بالِغةٌ ما بلَغــت تكاليفُ هذا الوقوف مِن تبعاتٍ وأعباءٍ، حتى مصادرة الحرية و تعذيب البدن وفُقدان الحياة ، وفي هذا المعنى يقول النبي - صلى الله عليه وسلّم - : "لقيام أحدكم في الدُنيا يتكلم بِحقٍ يرُد به باطِلاً و ينصُر به حقَّاً أفضلُ من هجرةٍ معي"
سلامة فطرته
وموقِفٌ لعُمر في جاهليته يدلُ على شِدةِ نكيره للمسلِمين ، إلا أنّ سلامة فِطرته المُهيأة للخير كانت تبدو منها ومضات تدل على ما في دخيلةِ نفسِه من خير ، تقولُ ليلى بنت أبي جُثيمة القرشية العدوية: كان عُمَر من أشدِ الناسِ علينا في إسلامِنا ، فلما تهيأنا للخروج جاءني عمر وأنا على بعيري فقال: إلى أين يا أُم عبد الله؟ فقالت: آذيتمونا في ديننا فنذهبُ إلى أرضِ الله، فقال: صَحِبكم الله.
امرأة ٌ مُهاجرةٌ مؤمِنةٌ ، لم ترهب عمر على شدته في الجاهلية تُصارحه بما انتوت، و رجلٌ فُطِر على الصراحة؛ لأنه رجلٌ قبل كل شيء ، فقد أكبَر فيها صراحتها فاحترمها .
تقولُ له زوجته عاتِكة بنت زيد: ألا تنام الليل؟ قال إن نمتُ الليل ضاعت نفسي ، ولو نمتُ النهارَ لضاعت رعيتي .
وقد كانت له دِرَةٌ يُؤدبُ بها حُكّامَ المُسلمين من أُمراءٍ للأقاليم ووُلاة ، وكان يحكمُ اثنين وعشرين دولة إسلامية اليوم، يحكُمها عمر من المدينةِ .. وكان إذا سمع بصيته كسرى وقيصر ارتعدوا على كراسيهم، يقول الشاعر :
مالي وللنجم يرعاني أرعاه * * أمسى كلانا يعاف ُالغمض ُجفناهُ
لي فيك ياليل ُ آهاتٌ أردِدُها * *أواهُ لو أدت المحزونُ أواهُ
كم صرّفتنا يدٌ كُنا نُصرِفها * *وبات يملِكُنا شعبٌ ملكناهُ
يامن يرى عمر الفاروق تنعمه ** تكسوه بردته والزيت أدم له والكوخ مأواهُ
يهزُّ كِسرى على كُرسيه فَرَ قاً* * من خوف ٍ و ملوكُ الرُّوم تخشاهُ
صَعَدَ عامَ الرمادة ليتكلم إلى الناس فقرقرت أمعاؤه ، فقال لبطنه: قرقِر أو لا تُقرقر فو الله لا تشبع حتى يشبع أطفال المسلمين .
خادم الفقـراء:
يروي ابن كثير عن طلحة بن عبيد الله أن عمر خرج فَدخل بيتاً فيه عجوزٌ عمياء حسيرة ، فلما خرج دخل طلحة فقال للمرأة : من أنتِ يا أمةَ الله؟ قالت: أنا عجوزٌ عمياء حسيرة في هذا البيت. فقال: من هذا الذي يأتيكِ ؟ فقالت: يكنِسُ بيتي، ويحلبُ شاتي، ويغسلُ ثوبي، ويَضعُ الفطور لي ، فبكى طلحة حتى جلس وقال: أتعبت الخلفاء من بعدك يا عمر.
وقف َعمر على المنبرِ يوماً فقال: أيُها الناسُ ، ماذا تقولون إن اعوججتُ عن الطريق هكذا وأشار بيده فأمالها ، فسَكت الناسُ وقام أعرابيٌ من آخرِ المسجدِ فاستلَ سيفه ُ وقال: إن اعوججتُ عن الطريق هكذا قُلنا بسيوفنا هكذا، فقال: الحمدُ لله الّذي جعل في رعيتي من إن اعوججتُ عن الطريق هكذا قال بسيفه هكذا.
وعمر الخليفة لمّا وعَى قولَ النبي - صلى الله عليه وسلّم -: "إن الله مع الحاكم ما لم يجر ، فإن جار وكله الله إلى نفس". لمّا علِم ذلك عاشَ وتفانى في التزامِهِ ، لم يهتم بشخصه ولكن بالمهمة الكبرى التي هيأهُ اللهُ لها، هي التي يجبُ أن تظلَ مرفوعَةَ الجانبِ ، ليظلَ أمرُ الأُمّةِ سَليماً ما سلِمَت فيه الأوضاع التي لا يقوم صلاح الناسِ إلا عليها.
قد عرف تبعَتَهُ كخليفة ، وأنّ هذه الخلافةَ يجبُ أنّ تظلَ نظيفةً ، لا ترقى إليها الظُنون ، فهو لذلك دائِمُ التفقُدِ لأهله في تصرفاتِهم مخافة أن يقعَ من أحدُهم ما لا يُجمل به كفردٍ في أُسرةِ رئيسِ الدولةِ ، التي يجِبُ أنّ تتجنب كل ما يُطلِقُ القالة ، ولو على غيِر أساسِ .
أهدى أبو مُوسى الأشعري لعاتِكة زوج عمر - رضي الله عنه - حُلةًَ ، فردها إلى أبي موسى بعد أنْ ضربها بها على رأسِها ، وعنّفَ أبا موسى تعنيفاً شديداً ؛ لأن الهدايا إلى الحُكّامِ مالها من سبيلٍ في عالمِ الحُكمِ النظيف، وكم قضتِ الهدايا على قادةٍ وزُعماء؟ قد يَعِفُ المسؤولُ عن هديةٍ لشخصه، ولكنه قد يغضي عنها لبعض أهلِه ، أما عمر فلا يقبلُها لنفسه ولا لأحدٍ من ذويه ، ويُؤنبُ على قُبولِها بما يراه ُ مُناسِباً ، إنّ الحاكم الذي يقبل الهدية يهونُ على مرؤوسيه قُبُولُها بدورهم، فلا تُقضى مصالِحُ الرعية إلا عن طريق الهدية ، أو ما هو شرٌ منها، وما أخطره من طريق .
رحلته لبيت المقدس:
عمر قصةٌ طويلةٌ طويلة .. وعمر شرفٌ للأُمة ، وأيُّ شرف .. يُرسِل جيوشَه لتفتحَ بيت المقدس فتحاصر فلسطين ... وتُضّيقُ الخناق على النصارى ، فرأوا أن لا قِبَلَ لهم بجيوشِ عُمر ، فأرسلوا إليه يطلبون منه القُدومَ بنفسه ليفتح بيت المقدس فيوافق ، ويأتي بمولاه ويقول: تنطلقُ معي ، فقال: معك يا أمير المؤمنين ، فيخرج ويقول لمولاه : أركب عُقبةً و تركبُ عُقبةً ، فقال المولى : ما يصلُحُ هذا يا أمير المؤمنين ، فقال: ألا تتعبُ أنت؟ فقال: نعم ، قال: أركب إذن ، حتى بلغوا مشارف بيت المقدس فدخلوا فإذا جيوش عمر في استقباله في طوابيرٍ كأنها جبال راسية ، فيقولُ له عمرو بن العاص: خيبتنا يا أمير المؤمنين ، أتيت َ بهذا الزيّ ، فقال: اسكت ، نحن قوم أعزّنا الله بالإسلام ، ومهما ابتغينا العِزة بغير هذا الدين أذلنا الله ، ثم قال لأبي عُبيدة : تعال أبكي أنا وأنت على عُهودِنا التي خلفنا رسولُ الله -صلى الله عليه وسلّم- عليها ، فلما انتهى استمرَ في الطريق، وخرج النصارى عن بكرة أبيهم ، ينتظرون هذا الذي ذاع صيته ، وهزّ ملك كسرى وقيصر، وفتح المُدن و هو في المدينة ، فلما اقتربوا من بيت المقدس قال لمولاه : اركب أنت ، قال: يا أميَر المؤمنين وصلنا ، فقال: والله لتركبنّ ، فقال : يا أميَر المؤمنين الناس ينظرون ويظنّون أني أنا الأمير ، ولكن عمر أصر على رأيه ، و قال: النصارى ، أهذا رسولٌ مبشر بين يديّ الخليفة ، فقالوا: لا، بل هو الخليفة ، فقالوا : أهو الذي على الراحِلة ، فقالوا : لا بل هو الذي يقودها ، فضجَ الناسُ بالبكاء ...
وفتح بيت المقدس ، و قال لبلال : أذِّن ، و عزم عليه أن يفعل ، فرفع نِداء الحق بصوته الخالد ، وضجَ الناسُ بالبكاء .
الله أكبر ... إنّ هذا لنموذج من مدرسة محمد بن عبد الله -عليه الصلاة والسلام- ، التي أخرجت نماذج ما كانت لتوجد من دون تربيةِ الإسلامِ ، ومن دون فهم لمعانيه.
سلوا كل سماءٍ في السماءِ عنّا ، و سلوا كل أرضٍ في الأرضِ عنّا...من الذي كتب على الأرض بدمه لا إله إلا الله ، من الذي نشر العدل ، من الذي أعلن مبادئه من المنابرِ كلّ يومٍ خمس مرات ، من الذي صلّى على دجلة و الفرات ، سيقول المجد عندها : نحن المسلمون .
وذهب عمر بعدها إلى الله ، ولكن بقي عدله ، وبقي حبه في القلوب ، وبقي عمر في خمائرنا ، وفي مجدِنا و تاريخنا وعلى منابِرنا.
بقي عمر شرفاً لنا إلى يوم القيامة ... نسأل الله العلي القدير ،أن يجمعنا به في ظِلِّ عرشه يوم لا ظِلِّ إلا ظله و صلّى الله على سيدنا محمدٍ و على آلهِ و صحبِه و سلّم تسليماً كثيراً.
عمر رضي الله عنه وأرضاه ، أسلم بسورة طه، وكان أصدق من الشمس في ضحاها، وكان أوضح من القمر إذا تلاها ، وأشهر من النهار إذا جلاَّها ، تولّى الخلافة فأعلاها، وقاد الأُمَّةَ فرعاها.
السلام ُ عليك يا عُمر يوم أسلمت ، والسلامُ عليك يوم هاجرت، والسلامُ عليك يوم توليت الخلافةَ ، والسلامُ عليك يوم متّ شهيداً، ويوم تبعثُ يوم القيامةِ في الخالدين.
نعيش مع سيرة الفاروق العطرة ، ليعلم العالمون أن عُمر ينبغي أن يُكرم ، حتّى في القرن العشرين، وأن عُمر جامِعة للعدل وللحُب و للإيمان ، وللطموح، ولأننا نُحبُ عمر-رضي الله عنه - رجاءَ أن نكون معه لأنّ المرءَ مع من أَحبّ ، ولأننا لو سلكنا سُلوكَه، لما انحدرنا إلى القاعِ السحيقِ، الذي نُعاني منهُ ومن واقِعُه ما نرى وما نُحسُ وما نعيش ، ولكن الفرصة لم تفت والأريب من إن فاتته فُرصة استعد وتربص لغيرها ، وعلى هذا الأساس دراستنا لشخصية عُمَر المتميزة ؛ لأننا نأمل أن تكون تربية عمر لنا منجاة، و خلاصاً لهذه الأُمة المسلِمة المُعنَّاة ، وما يزال في الأملِ مطمَع ، وفي الوقت مُتسَع .
علو همة وأنفة:
إن دِقة إحساس عمر وعُلوَ همته ، وأنَفته في الجاهلية لزِمتهُ منذ أول لحظة أسلَم فيها .. عزَّ عليه بعد إسلامِه أن يَخفيه فلا يُعلِن به ، الإباءُ و الصراحة وعُلو الهِمة من شيم الرُجولَة عند صاحبِ العقيدةِ الحقة، هذه الخِلالُ العالية تُلزِمَهُ أن يقفَ إلى جانب الحق الّذي آمن به ، بالِغةٌ ما بلَغــت تكاليفُ هذا الوقوف مِن تبعاتٍ وأعباءٍ، حتى مصادرة الحرية و تعذيب البدن وفُقدان الحياة ، وفي هذا المعنى يقول النبي - صلى الله عليه وسلّم - : "لقيام أحدكم في الدُنيا يتكلم بِحقٍ يرُد به باطِلاً و ينصُر به حقَّاً أفضلُ من هجرةٍ معي"
سلامة فطرته
وموقِفٌ لعُمر في جاهليته يدلُ على شِدةِ نكيره للمسلِمين ، إلا أنّ سلامة فِطرته المُهيأة للخير كانت تبدو منها ومضات تدل على ما في دخيلةِ نفسِه من خير ، تقولُ ليلى بنت أبي جُثيمة القرشية العدوية: كان عُمَر من أشدِ الناسِ علينا في إسلامِنا ، فلما تهيأنا للخروج جاءني عمر وأنا على بعيري فقال: إلى أين يا أُم عبد الله؟ فقالت: آذيتمونا في ديننا فنذهبُ إلى أرضِ الله، فقال: صَحِبكم الله.
امرأة ٌ مُهاجرةٌ مؤمِنةٌ ، لم ترهب عمر على شدته في الجاهلية تُصارحه بما انتوت، و رجلٌ فُطِر على الصراحة؛ لأنه رجلٌ قبل كل شيء ، فقد أكبَر فيها صراحتها فاحترمها .
تقولُ له زوجته عاتِكة بنت زيد: ألا تنام الليل؟ قال إن نمتُ الليل ضاعت نفسي ، ولو نمتُ النهارَ لضاعت رعيتي .
وقد كانت له دِرَةٌ يُؤدبُ بها حُكّامَ المُسلمين من أُمراءٍ للأقاليم ووُلاة ، وكان يحكمُ اثنين وعشرين دولة إسلامية اليوم، يحكُمها عمر من المدينةِ .. وكان إذا سمع بصيته كسرى وقيصر ارتعدوا على كراسيهم، يقول الشاعر :
مالي وللنجم يرعاني أرعاه * * أمسى كلانا يعاف ُالغمض ُجفناهُ
لي فيك ياليل ُ آهاتٌ أردِدُها * *أواهُ لو أدت المحزونُ أواهُ
كم صرّفتنا يدٌ كُنا نُصرِفها * *وبات يملِكُنا شعبٌ ملكناهُ
يامن يرى عمر الفاروق تنعمه ** تكسوه بردته والزيت أدم له والكوخ مأواهُ
يهزُّ كِسرى على كُرسيه فَرَ قاً* * من خوف ٍ و ملوكُ الرُّوم تخشاهُ
صَعَدَ عامَ الرمادة ليتكلم إلى الناس فقرقرت أمعاؤه ، فقال لبطنه: قرقِر أو لا تُقرقر فو الله لا تشبع حتى يشبع أطفال المسلمين .
خادم الفقـراء:
يروي ابن كثير عن طلحة بن عبيد الله أن عمر خرج فَدخل بيتاً فيه عجوزٌ عمياء حسيرة ، فلما خرج دخل طلحة فقال للمرأة : من أنتِ يا أمةَ الله؟ قالت: أنا عجوزٌ عمياء حسيرة في هذا البيت. فقال: من هذا الذي يأتيكِ ؟ فقالت: يكنِسُ بيتي، ويحلبُ شاتي، ويغسلُ ثوبي، ويَضعُ الفطور لي ، فبكى طلحة حتى جلس وقال: أتعبت الخلفاء من بعدك يا عمر.
وقف َعمر على المنبرِ يوماً فقال: أيُها الناسُ ، ماذا تقولون إن اعوججتُ عن الطريق هكذا وأشار بيده فأمالها ، فسَكت الناسُ وقام أعرابيٌ من آخرِ المسجدِ فاستلَ سيفه ُ وقال: إن اعوججتُ عن الطريق هكذا قُلنا بسيوفنا هكذا، فقال: الحمدُ لله الّذي جعل في رعيتي من إن اعوججتُ عن الطريق هكذا قال بسيفه هكذا.
وعمر الخليفة لمّا وعَى قولَ النبي - صلى الله عليه وسلّم -: "إن الله مع الحاكم ما لم يجر ، فإن جار وكله الله إلى نفس". لمّا علِم ذلك عاشَ وتفانى في التزامِهِ ، لم يهتم بشخصه ولكن بالمهمة الكبرى التي هيأهُ اللهُ لها، هي التي يجبُ أن تظلَ مرفوعَةَ الجانبِ ، ليظلَ أمرُ الأُمّةِ سَليماً ما سلِمَت فيه الأوضاع التي لا يقوم صلاح الناسِ إلا عليها.
قد عرف تبعَتَهُ كخليفة ، وأنّ هذه الخلافةَ يجبُ أنّ تظلَ نظيفةً ، لا ترقى إليها الظُنون ، فهو لذلك دائِمُ التفقُدِ لأهله في تصرفاتِهم مخافة أن يقعَ من أحدُهم ما لا يُجمل به كفردٍ في أُسرةِ رئيسِ الدولةِ ، التي يجِبُ أنّ تتجنب كل ما يُطلِقُ القالة ، ولو على غيِر أساسِ .
أهدى أبو مُوسى الأشعري لعاتِكة زوج عمر - رضي الله عنه - حُلةًَ ، فردها إلى أبي موسى بعد أنْ ضربها بها على رأسِها ، وعنّفَ أبا موسى تعنيفاً شديداً ؛ لأن الهدايا إلى الحُكّامِ مالها من سبيلٍ في عالمِ الحُكمِ النظيف، وكم قضتِ الهدايا على قادةٍ وزُعماء؟ قد يَعِفُ المسؤولُ عن هديةٍ لشخصه، ولكنه قد يغضي عنها لبعض أهلِه ، أما عمر فلا يقبلُها لنفسه ولا لأحدٍ من ذويه ، ويُؤنبُ على قُبولِها بما يراه ُ مُناسِباً ، إنّ الحاكم الذي يقبل الهدية يهونُ على مرؤوسيه قُبُولُها بدورهم، فلا تُقضى مصالِحُ الرعية إلا عن طريق الهدية ، أو ما هو شرٌ منها، وما أخطره من طريق .
رحلته لبيت المقدس:
عمر قصةٌ طويلةٌ طويلة .. وعمر شرفٌ للأُمة ، وأيُّ شرف .. يُرسِل جيوشَه لتفتحَ بيت المقدس فتحاصر فلسطين ... وتُضّيقُ الخناق على النصارى ، فرأوا أن لا قِبَلَ لهم بجيوشِ عُمر ، فأرسلوا إليه يطلبون منه القُدومَ بنفسه ليفتح بيت المقدس فيوافق ، ويأتي بمولاه ويقول: تنطلقُ معي ، فقال: معك يا أمير المؤمنين ، فيخرج ويقول لمولاه : أركب عُقبةً و تركبُ عُقبةً ، فقال المولى : ما يصلُحُ هذا يا أمير المؤمنين ، فقال: ألا تتعبُ أنت؟ فقال: نعم ، قال: أركب إذن ، حتى بلغوا مشارف بيت المقدس فدخلوا فإذا جيوش عمر في استقباله في طوابيرٍ كأنها جبال راسية ، فيقولُ له عمرو بن العاص: خيبتنا يا أمير المؤمنين ، أتيت َ بهذا الزيّ ، فقال: اسكت ، نحن قوم أعزّنا الله بالإسلام ، ومهما ابتغينا العِزة بغير هذا الدين أذلنا الله ، ثم قال لأبي عُبيدة : تعال أبكي أنا وأنت على عُهودِنا التي خلفنا رسولُ الله -صلى الله عليه وسلّم- عليها ، فلما انتهى استمرَ في الطريق، وخرج النصارى عن بكرة أبيهم ، ينتظرون هذا الذي ذاع صيته ، وهزّ ملك كسرى وقيصر، وفتح المُدن و هو في المدينة ، فلما اقتربوا من بيت المقدس قال لمولاه : اركب أنت ، قال: يا أميَر المؤمنين وصلنا ، فقال: والله لتركبنّ ، فقال : يا أميَر المؤمنين الناس ينظرون ويظنّون أني أنا الأمير ، ولكن عمر أصر على رأيه ، و قال: النصارى ، أهذا رسولٌ مبشر بين يديّ الخليفة ، فقالوا: لا، بل هو الخليفة ، فقالوا : أهو الذي على الراحِلة ، فقالوا : لا بل هو الذي يقودها ، فضجَ الناسُ بالبكاء ...
وفتح بيت المقدس ، و قال لبلال : أذِّن ، و عزم عليه أن يفعل ، فرفع نِداء الحق بصوته الخالد ، وضجَ الناسُ بالبكاء .
الله أكبر ... إنّ هذا لنموذج من مدرسة محمد بن عبد الله -عليه الصلاة والسلام- ، التي أخرجت نماذج ما كانت لتوجد من دون تربيةِ الإسلامِ ، ومن دون فهم لمعانيه.
سلوا كل سماءٍ في السماءِ عنّا ، و سلوا كل أرضٍ في الأرضِ عنّا...من الذي كتب على الأرض بدمه لا إله إلا الله ، من الذي نشر العدل ، من الذي أعلن مبادئه من المنابرِ كلّ يومٍ خمس مرات ، من الذي صلّى على دجلة و الفرات ، سيقول المجد عندها : نحن المسلمون .
وذهب عمر بعدها إلى الله ، ولكن بقي عدله ، وبقي حبه في القلوب ، وبقي عمر في خمائرنا ، وفي مجدِنا و تاريخنا وعلى منابِرنا.
بقي عمر شرفاً لنا إلى يوم القيامة ... نسأل الله العلي القدير ،أن يجمعنا به في ظِلِّ عرشه يوم لا ظِلِّ إلا ظله و صلّى الله على سيدنا محمدٍ و على آلهِ و صحبِه و سلّم تسليماً كثيراً.