تسجيل الدخول

مشاهدة النسخة كاملة : رثاء الشيخ البشير الابراهيمي للشيخ ابن باديس رحمهما الله


يوسف سعيد1
2010-11-21, 11:46
المقالة التي رثا بها الإبراهيمي صاحبه الشيخ ابن باديس (http://www.nouralhuda.com/%D8%A7%D9%84%D9%84%D8%BA%D8%A9/60-%D8%A7%D9%84%D9%85%D9%82%D8%A7%D9%84%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%AA%D9%8A-%D8%B1%D8%AB%D8%A7-%D8%A8%D9%87%D8%A7-%D8%A7%D9%84%D8%A5%D8%A8%D8%B1%D8%A7%D9%87%D9%8A%D 9%85%D9%8A-%D8%B5%D8%A7%D8%AD%D8%A8%D9%87-%D8%A7%D9%84%D8%B4%D9%8A%D8%AE-%D8%A7%D8%A8%D9%86-%D8%A8%D8%A7%D8%AF%D9%8A%D8%B3.html)


ـ سلام يتنفس عنه الأقاحُ بإزهاره وإيراقه، ويتبسم عنه الصباحُ بنوره وإشراقه ، وثناءٌ يتوهج به من عنبر الشجر عبيرُه ، ويتبلج به من بدر التمام على الركب الخابط في الظلام منيره ، وصلوات من الله طهورها الروح والريحان ، وأركانها النعيم والرضوان ، وتحيات زكيات تتنزل بها -من الملأ الأعلى- الملائكة والروح ، ونفحات ذكيات تغدو بها رسل الرحمة وتروح ، وخيرات مباركات يصدّق برهانُ الحقِّ قولَها الشارحَ بفعلها المشروح[2].
وسلام من أصحاب اليمين، وغيوث من صوادق الوعود، لا صواعق الرعود لا تخلف ولا تمين،[3] وسحائب من الرحمات تنهل سواكبها،
و كتائب من المبشرات تزجى مواكبها، وسوافح من العبرات تنحلّ عزاليها، ولوافح من الزفرات تسابق أواخرها أواليها على الجدث الذي التأمتْ حافَّتاه على العلم الجم والفضل العد ، و وارَى ترابُه جواهرَ الحِجا والذكاء والعزم والجد ، وطَوى البحرَ الزخَّار في عدة أشبار ، فأوقف ما لا حدّ له عند حد ، واستأثر بالفضائل الغُزْر،[4] والمساعي الغرّ،[5] والخلال الزُّهر، فلم يكن له في الأجداث ند، وأصبح من بينها المفردَ العلم كما كان صاحبه في الرجال العلمَ الفرد.
وسلام على مشاهدَ كانت بوجوده مشهودة، وعلى معاهد كانت تحت ظلال رعايته وتعهّده عليها ممدودة، وعلى مساجد كانت بعلومه ومواعظه معمورة، وعلى مدارس كانت بفيضه الزاخر، ونوره الزاهر مغمورة، وعلى جمعيات كان شَمْلها بوجوده مجموعاً، وكان صوته الجهير كصوت الحق الشهير مدوّياً في جنباتها مسموعاً.
مشاهد كان يراوحها للخير والنفع، وكانت آفاقها بأنواره مسفرة، ومعاهد كان حاديَ زُمَرها إلى السلم، وهادي نُزَّاعها إلى الإحسان والعلم؛ فأصبحت بعده مقفرة ومدارس، ما مدارس؟ مَهَدها للعلم والإصلاح مغارس، ونَصَبَها في نحور المبطلين حصوناً ومتارس، وشيّدها للحق والفضيلة مرابطَ ومحارس.
وسلام على شيخه الذي غذّى وربّى، وأجاب داعيَ العلم فيه ولبّى، وآثر في توجيهه خير الإسلام ، فقلّد الإسلام منه صارماً عضباً، وفجّر منه للمسلمين معيناً عذباً ، فلئن ضايقته الأيامُ في حدود عمره فقد أبقت له منه الصيت العريض، والذكر المستفيض، ولئن سلبته الحليةَ الفانية فقد أَلْبستْه من مآثر حُلل التاريخ الضافية، ولئن أذاقتْه مرارة فقده فقد متّعته بقلوب أمّة كاملة، ولئن حرمته لذة ساعات معدودة فقد أسعدته به سعادةً غير محدودة.
وسلام على إخوان كانوا زينة ناديه ، وبشاشةَ واديه ، وكانوا عمَّار سامره، والطِّيبَ المتضوع[6] من مجامره ، والجوارحَ الماضيةَ في تنفيذ أوامره.
وسلام على أعوان كانوا معه بناة الصرح ، وحماة السرح ، وكانوا سيوف الحق التي بها يصول، وألسنة الصدق التي بها يقول.
أبت لهم عزة الإسلام أن يضّرعوا أو يذلّوا ، وأبتْ لهم هداية القرآن أن يزيغوا عن منهاجه أو يضلّوا ، تشابهت السبل على الناس فاتخذوا سبيل الله سبيلاً ، وافترق الناس شيعاً فجعلوا محمداً وحزبه قبيلاً .
ولقد أقول على عادة الشعراء -وما أنا بشاعر- لصاحبين من تصوير الخيال أو من تكييف الخَبال ، تُمثِّلهما الخواطر تمثيلَ صفاء ، وتقيمهما في ذهني تمثالَ وفاء: بكِّرا صاحبي فالنجاح في التبكير،[7] وما على طالب النّجْح بأسبابه من نكير، تُنْجِحا لصاحبكما طِيةً ،[8] لا تبلغ إلاّ بشد الرحل وتقريب المطية، فقد خُتِمت -كما بُدئت- الأطوار، بدولة الرحال والأكوار، فادفعا بالْمهريّة القُوْد[9] في نحر الوديقة الصيخود،[10] ولا تخشيا لذع الهواجر،[11] وإن كنتما في شهري ناجر،[12] ولا يهولنَّكما بُعْدُ الشُّقة، وخيال المشقَّة، ولا الفلَواتُ يُصِمّ صداها، ويقصر الطرف عن مداها، ولا السراب يترجرج رقراقُه، ويخدع الظامئ المحرور مُراقُه.
سيرا - على اسم الله - *في نهار ضاح ، وفضاء منساح ، ضاحك الأَسرَّة وضَّاح، وتخلَّلا الأحياءَ ؛ فستجدان لاسم مَنْ تَنْتَجعانِه ذكراً ذائعاً في الأفواه ، وثناءً شائعاً على الشفاه ، وأثراً أزكى نماءً وأبقى بركةً على الأرض من أثر الغمام المنهل ، فإذا مَسّكُما الملالُ أو غشّى مطيّكما الكلالُ فاحدوا بذكراه ينبعث النشاط ، وينتشر الاغتباط ، وتَغْنيا بها عن حمل الزاد ، ومَلءِ المزاد، وتأمنا غوْل الغوائل ، من أفناء دراج ونائل
[13].
سيرا -روحي فداؤكما من رضيعي همة ، وسليلي منجبة من هذه الأمّة - حتى تدفعا في مَسِيِّ خامسٍ ، له يوم الترحل خامس،[14] إلى الوادي الذي طرّز جوانبه آذار، وخلع عليه الصانع البديع من حَلْي الترصيع ، وحلل التفويف[15] والتوشيع ما تاه به على الأودية ؛ فخلع العذار.
وأتِيا العُدوة الدنيا فثمَّ المنتجعَ والمرَاد ، وثمّ المطلب والمراد ، وثمّ محلة الصدق التي لا يصدر عنها الوُرّاد ، وثمّ مناخ المطايا على حُلاّل الحق وجيرة الصدق، وعُشراء الخلود ، الذين محا الموت ما بينهم من حدود ، اهتفا فيها بسكان المقابر عني:
أوَ ما استقلَّت بالسميع الواعي ما للمقابر لا تُجيب iiالداعي

وخصّا القبر الذي تضمّن الواعيَ السميع، والواحدَ الذي بذّ الجميع ، فقولا له عني:
يا قبر، عزَّ على دفينك الصبر، وتعاصى كسرُ القلوب الحزينة على من فيك أن يُقابَل بالجبر، ورجع الجدال إلى الاعتدال بين القائلين بالاختيار والقائلين بالجبر.
يا قبر، ما أقدر الله أن يطويَ عَلماً ملأ الدنيا في شبر!
يا قبر، ما عهدنا قبلك رمساً، وارى شمساً، ولا مساحة، تكال بأصابع الراحة، ثم تلتهم فلكاً دائراً، وتحبس كوكباً سائراً.
يا قبر، قد فصل بيننا وبينك خط التواء لا خط استواء، فالقريب منك والبعيد على السواء.
يا قبر، أتدري من حويت؟ وعلى أي الجواهر احتويت؟ إنك احتويت على أمة ، في رمّة ، وعلى عالَم في واحد.
يا قبر، أيدري مَنْ خطّك، وقاربَ شطّك، أي بحر ستضُم حافتاك ؟ وأي معدن ستزن كفتاك ؟ وأيَّ ضرغامةِ غابٍ ستحتبل كفتاك ؟ وأي شيخٍ كشيخك ؟ وأي فتى كفتاك ؟ فويح الحافرين ماذا أودعوا فيك حين أودعوا ؟ وويح المشيعين ماذا شيعوا إليك يوم شيّعوا ؟ ومن ذا ودّعوا منك إذ ودّعوا ؟ إنهم لا يدرون أنهم أودعوا بنَّاء أجيال في حفرة ، وودَّعوا عامر أعمال بقفرة ، وشيعوا خِدَن أسفارٍ ، وطليعة استنفارٍ إلى آخر سَفْرة .
يا قبر، لا نستسقي لك كل وطفاء سكوب ، تهمي على تربتك الزكية وتصوب، ولا نحذو في الدعاء لك حذو الشريف الرضي ، فنستعير للنبت جنيناً ترضعه المراضع ، من السحب الهوامع ، تلك أودية هامت فيها أخيلة الشعراء ، فنبذتهم بالعراء ، وزاغوا بها عن أدب الإسلام ومنهاجه ،
وراغوا عن طينته ومزاجه ، بل تلك بقية من بقايا الجهل ، ما أنت ولا صاحبك لها بأهل .
قولا لصاحب القبر عني: يا ساكنَ الضريح ، نجوى نِضْوٍ طليح ، صادرةً عن جفن قريح ، وخافق بين الضلوع جريح ، يَتَأَوَّبُهُ في كل لحظةٍ خيالُك وذكراك ، فيحملان إليه على أجنحة الخيال من مسراك اللهب والريح ، وتؤدي عنهما شؤونه المنسربة ، وشجونه الملتهبة، وعليهما شهادة التجريح .
إن من تركت وراءك ، لم يحمد الكرى فهل حمدت كراك؟ وهيهات ، ما عانٍ كمستريح!
يا ساكن الضريح ، أأكني؟ أم أنت كعهدي بك تؤثر التصريح ؟ إن بُعدك أتعب من بَعدك .
لقد كانوا يلوذون من حياتك الحية بكنف حماية ؛ ويستذْرُون من كفاءتك للمهمات بحصن كفاية ، ويستدفعون العظائم منك بعظيم ؛ وايم الله لقد تَلَفَّتَتْ بعدك الأعناق، واشرَأبَّتْ ، وماجت الجموع واتلأبَّتْ ، تبحث عن إمام لصفوف الأمة ، يملأ الفراغ ويسد الثلمة ، فما عادت إلا بالخيبة ، وصِفْر العَيبة[16].
يا ساكنَ الضريح ؛ مِتَّ فمات اللسان القوّال ، والعزم الصوّال ، والفكر الجوّال ، ومات الشخص الذي كان يصطرع حوله النقد ، ويتطايرُ عليه شرر الحقد ؛ ولكن لم يمت الاسم الذي كانت تقعقع به البرد ، وتتحلّى به القوافي الشُّرد ، ولا الذكرُ الذي كانت تطنطن به الأنباء ، وتتجاوب به الأصداء ، ولا الجلال الذي كانت تعنو له الرقاب ، وتنخفض لمجلاه العقاب ، ولا الدوي الذي كان يملأ سمعَ الزمان ، ولا يبيت منه إلا الحق في أمان .
مات الرسم ، وبقي الاسم ، واتفق الودود والكنود على الفضل والعلم .
وعزاء فيك لأمّة أردت رشادَها ، وأصلحت فسادَها ، ونفقت كسادَها ، وقوّمت منآدها ، وملكتَ بالاستحقاق قيادَها ، وأحسنتَ تهيئتها للخير وإعدادَها ، وحملتها على المنهج الواضح ، والعَلَمِ اللائح ، حتى أبلغتها سدادَها ، وبنيت عقائدها في الدين والحياة على صخرة الحق ، ومثلك مَنْ بنى العقائد وشادها ؛ أعليت اسمها بالعلم والتعليم ، وصيّرت ذكرها محل تكريم وتعظيم ، وأشربتها معاني الخير والرحمة والمحبة والصدق والإحسان والفضيلة فكنت لها نعم الراحم وكنت بها البر الرحيم .
ولقد حييتَ فما كانت لفضلك جاحدة ، ومتّ فما خَيَّبتْ من آمالك إلا واحدة[17].
وهنيئاً لك ذخرك عند الله مما قدّمت يداك من باقيات صالحات ، وعزاءاً لك فيمن كنت تستكفيهم ، وتضعُ ثقتك الغاليةَ فيهم ، من إخوانك العلماء العاملين ، الصالحين المصلحين .
فهم - كعهدك بهم - رُعاة لعهد الله في دينه ، وفي كتابه ، وفي سنّة نبيه ، دعاةٌ إلى الحق بين عباده ، يلقَوْن في سبيله القذى كُحْلا ، والأذى من العسل أحلى .
وسلام عليك في الأوّلين ، وسلام عليك في الآخرين ، وسلام عليك في العلماء العاملين ، وسلام عليك في الحكماء الربّانيين ، وسلام عليك إلى يوم الدين .
آفلو[18]، 22 ربيع أول 1360 هـ / 9 أفريل 1941.
15/11/1426هـ


http://www.nouralhuda.com/%D8%A7%D9%84%D9%84%D8%BA%D8%A9/60-%D8%A7%D9%84%D9%85%D9%82%D8%A7%D9%84%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%AA%D9%8A-%D8%B1%D8%AB%D8%A7-%D8%A8%D9%87%D8%A7-%D8%A7%D9%84%D8%A5%D8%A8%D8%B1%D8%A7%D9%87%D9%8A%D 9%85%D9%8A-%D8%B5%D8%A7%D8%AD%D8%A8%D9%87-%D8%A7%D9%84%D8%B4%D9%8A%D8%AE-%D8%A7%D8%A8%D9%86-%D8%A8%D8%A7%D8%AF%D9%8A%D8%B3.html

الامام الغزالي
2010-11-21, 12:28
ماعساي ان أقول الا مقال ربنا عز وجل "كل نفس ذائقة الموت"رحم الله الامامين ابن باديس والبشير

الامام الغزالي
2010-11-21, 12:34
المولد والنشأة:

ولد "محمد البشير الإبراهيمي" في قرية (أولاد إبراهيم) قرب "سطيف" غربي مدينة قسطنطينة الجزائرية في (13من شوال 1306هـ= 14 من يوليو 1889م)، ونشأ في بيت كريم من أعرق بيوتات الجزائر؛ حيث يعود بأصوله إلىالأدارسة العلويين من أمراء المغرب في أزهى عصوره.. حفظ "البشير" القرآن الكريم، ودرس علوم العربية على يد عمه الشيخ "محمد المكي الإبراهيمي"، وكان عالم الجزائر لوقته، انتهت إليه علوم النحو والصرف والفقه في الجزائر، وصار مرجع الناس وطلاب العلم، وقد عني بابن أخيه عنايةً فائقةً، وفتح له أبوابًا كثيرةً في العلم، حتى إنه ليحفظ قدرًا كبيرًا من متون اللغة، وعددًا من دواوين فحول الشعراء، ويقف على علوم البلاغة والفقه والأصول، لما مات عمه تصدَّر هو لتدريس ما تلقاه عليه لزملائه في الدراسة، وكان عمره أربعة عشر عامًا.

الرحلة إلى المدينة المنورة:

ولما بلغ "البشير" العشرين من عمره ولَّى وجهه نحو المدينة المنورة سنة (1330هـ= 1912م)؛ ليلحق بأبيه الذي سبقه بالهجرة إليها منذ أربع سنوات فرارًا من الاحتلال الفرنسي، ونزل في طريقه إلى القاهرة، ومكث بها ثلاثة أشهر، حضر فيها دروس بعض علماء الأزهر الكبار، من أمثال "سليم البشرى"، و"محمد نجيب المطيعي"، ويوسف الدجوي، وزار دار الدعوة والإرشاد التي أسسها الشيخ "رشيد رضا"، والتقي بالشاعرين الكبيرين "أحمد شوقي" و"حافظ إبراهيم".

وفي المدينة المنورة استكمل "البشير" العلم في حلقات الحرم النبوي، واتصل بعالمين كبيرين كان لهما أعظم الأثر في توجيهه وإرشاده، أما الأول فهو الشيخ "عبدالعزيز" الوزير التونسي، وأخذ عنه (موطأ مالك)، ولزم دروسه في الفقه المالكي، وأما الثاني فهو الشيخ "حسين أحمد الفيض آبادي الهندي"، وأخذ عنه شرح صحيح مسلم، واستثمر "البشير" وقته هناك، فطاف بمكتبات المدينة الشهيرة، مثل: مكتبة شيخ الإسلام عارف حكمت، والسلطان محمود، ومكتبة آل المدني، ووجد في محفوظاتها الكثيرة ما أشبع نهمه العلمي.

وفي أثناء إقامته بالمدينة التقى بالشيخ "عبد الحميد بن باديس"، الذي كان قد قدم لأداء فريضة الحج، وقد ربطت بينهما المودة ووحدة الهدف برباط وثيق، وأخذا يتطلعان لوضع خطة تبعث الحياة في الأمة الإسلامية بالجزائر، وانضم إليهما "الطيب العقبي"؛ وهو عالم جزائري سبقهما في الهجرة إلى المدينة، والتقى الثلاثة في أيام متصلة ومناقشات جادة حول وضع الجزائر وسبل النهوض بها، فوضعوا الأسس الأولى لجمعية العلماء المسلمين الجزائريين.

العودة إلى الوطن:

عاد "البشير الإبراهيمي" إلى الجزائر سنة (1338هـ= 1920م)، والتقى بصديقه "ابن باديس"، فرأى جهوده التعليمية قد أثمرت شبابًا ناهضًا، وأدرك أن ما قام به زميله هو حجر الأساس في إرساء نهضة الجزائر، فارتحل إلى (سطيف) ليصنع ما صنع رفيقه في قسطنطينة، بدأ في إلقاء الدروس العلمية للطلبة، والدروس الدينية للجماعات القليلة، وتحرك بين القرى والمدن خطيبًا ومحاضرًا، فأيقظ العقول وبعث الحياة في النفوس التي أماتها الجهل والتخلف، ورأى الشيخ أن دروسه قد أثمرت، وأن الناس تتطلع إلى المزيد، فشجعه ذلك على إنشاء مدرسة يتدرب فيها الشباب على الخطابة والكتابة في الصحف، وقيادة الجماهير في الوقت الذي كان يتظاهر فيه المصلح اليقظ بالاشتغال بالتجارة؛ هربًا من ملاحقة الشرطة له ولزواره، وكان المحتل الفرنسي قد انتبه إلى خطورة ما يقوم به "البشير" ضد وجوده الغاصب، فعمل على تعويق حركته، وملاحقة أتباعه.

وكان المجاهدان "ابن باديس" و"الإبراهيمي" يتبادلان الزيارات؛ سواءً في قسطنطينة أو (سطيف)، ويتناقشان أمر الدعوة وخطط المستقبل، وتكوين جيل يؤمن بالعروبة والإسلام ويناهض الاستعمار عن طريق تربية إسلامية صحيحة.

وبارك الله في جهود المصلحين الكبيرين، فحين نادى "ابن باديس" بمقاطعة الاحتفال الذي ستقيمه فرنسا بمناسبة مرور مائة عام على الاحتلال، استجاب الشعب الجزائري لنداء "ابن باديس" عن طريق دعاته الذين اندسوا وسط الشعب، وأثاروا نخوته، فقاطعوا هذا الاحتفال الذي يهين الأمة الجزائرية ويعبث بمشاعرها وذكرى شهدائها.

"البشير الإبراهيمي" وجمعية العلماء المسلمين:

أثار الاحتفال المئوي للاحتلال الفرنسي للجزائر سنة (1348هـ= 1930) حفيظة العلماء الجزائريين، فقام المصلحان الكبيران بإنشاء جمعية العلماء المسلمين، وعقد المؤتمر التأسيسي لهذه الجمعية في (17 من ذي الحجة 1349هـ= 5 من مايو 1931م) تحت شعار: "الإسلام ديننا والعربية لغتنا والجزائر وطننا"، وانتخبت الجمعية "ابن باديس" رئيسًا لها، و"البشير الإبراهيمي" وكيلاً، وتقاسم أقطاب الحركة الإصلاحية المسئولية في المقاطعات الجزائرية الثلاث، وتولى "الإبراهيمي" مسئولية (تلمسان) العاصمة العلمية في الغرب الجزائري، واختص "ابن باديس" بالإشراف على مقاطعة قسطنطينة بما تضم من القرى والمدن، واختص الشيخ "الطيب العقبي" بالإشراف على مقاطعة الجزائر.

ونشط "الإبراهيمي" في (تلمسان)، وبث فيها روحًا جديدة، فكان يلقي عشرة دروس في اليوم الواحد، يبتدئها بدرس الحديث بعد صلاة الصبح، ويختمها بدرس التفسير بين المغرب والعشاء، ثم ينصرف بعد الصلاة الأخيرة إلى بعض النوادي الجامعة؛ ليلقي محاضرات في التاريخ الإسلامي، وكانت له جولات في القرى أيام العطل الأسبوعية، وينشط العزائم ويبعث الهمم في النفوس، وقد نتج من ذلك كله بناء أربعمائة مدرسة إسلامية، تضم مئات الآلاف من البنات والبنين، وبناء أكثر من مائتي مسجد للصلوات والمحاضرات.

وقد أقلق هذا النشاط العارم المستعمرين، وأدركوا عاقبة ذلك إن سكتوا عليه، فأسرعوا باعتقال "البشير" ونفيه إلى صحراء (وهران) سنة (1359هـ= 1940م)، وبعد أسبوع من اعتقاله توفي "ابن باديس"، واختاره العلماء رئيسًا لجمعيتهم، ولبث في منفاه ثلاث سنوات، ثم خُلي عنه عقيب انتهاء الحرب العالمية الثانية سنة (1362هـ= 1943م).

رئاسة جمعية العلماء:

بعد خروجه من المنفى أعاد نشاط جمعية العلماء في بناء المساجد وتأسيس المدارس، وإصدار جريدة البصائر في سلسلتها الثانية بعد أن توقفت أثناء الحرب، وتولى رئاسة تحريرها، وكانت مقالاته الافتتاحية فيها نسيجًا فريدًا من نوعه في النبض العربي الإسلامي.

ولما تزايدت أعداد خريجي المدارس الابتدائية رأى "البشير الإبراهيمي" ضرورة الانتقال إلى المرحلة الثانوية، فدعا هو وزملاؤه العلماء الأمة الجزائرية إلى الاكتتاب في إنشاء معهدٍ ثانويٍّ، فاستجابت الأمة للدعوة، وأنشئ هذا المعهد الذي أطلق عليه معهد "عبدالحميد بن باديس" تخليدًا لذكراه، واستقبل المعهد طلابه في سنة (1367هـ= 1948م)، وكانوا ثمانمائة طالب، ثم تزايدت أعداد الطلاب بعد ذلك، ومن بين تلاميذ هذا المعهد كان دعاة الحركة التحريرية بالجزائر، حين تقدمت الوفود المؤمنة إلى معركة الاستقلال بحمية مشتعلة، ومن خريجيه تشكلت أولى البعثات العلمية الجزائرية إلى مصر والعراق وسوريا؛ حيث اعترفت بشهادة هذا المعهد جامعات الشرق العربي، وأصبح في وسع خريجيه الالتحاق بكلية دار العلوم والجامع الأزهر بالقاهرة، وجامعة بغداد وجامعة دمشق.

رحلة "البشير الإبراهيمي" إلى المشرق العربي:

غادر "الإبراهيمي" الجزائر العاصمة سنة (1371هـ= 1952م) متجهًا إلى المشرق العربي في رحلته الثانية التي دامت عشر سنوات حتى استقلال الجزائر سنة (1381هـ= 1962م)، وكانت جمعية العلماء قد كلفته القيام بهذه الرحلة لتحقيق ثلاثة أهداف:

بذل المساعي لدى الحكومات العربية لقبول عدد من الطلاب الجزائريين الذين تخرجوا من معاهد جمعية العلماء في جامعاتها.
طلب معونة مادية لجمعية العلماء لمساعدتها في النهوض برسالتها التعليمية.
الدعاية لقضية الجزائر التي نجحت فرنسا في تضليل الرأي العام في المشرق بأوضاع المغرب عامةً والجزائر خاصةً.
واستقر بـ"الإبراهيمي" المقام في القاهرة، وشرع في الاتصال بمختلف الهيئات والمنظمات والشخصيات العربية الإسلامية في القاهرة وبغداد ودمشق والكويت، ونشط في التعريف بالجزائر من خلال المؤتمرات الصحفية، والمحاضرات العامة التي كان يلقي كثيرًا منها في المركز العام للإخوان المسلمين، وكان بيته في القاهرة ملتقى العلماء والأدباء وطلبة العلم.
وسبق وصول "البشير" إلى القاهرة بعثة جمعية العلماء التي ضمت 25 طالبًا وطالبةً، وكانت بعثات الجمعية تقتصر على مصر وحدها للدراسة في الأزهر والمدارس المصرية، غير أن "البشير" تمكن من الحصول على عدد آخر من المنح التعليمية للطلاب الجزائريين في البلاد العربية الأخرى، واتخذ من القاهرة مقرًّا يشرف منه على شئون هذه البعثات في بغداد ودمشق والكويت، وكان يقوم بين الحين والآخر بزيارة هذه البلاد؛ لتفقد أحوال الطلاب الجزائريين والسعي لدى حكوماتها من أجل الحصول على منح جديدة.

وكان "الإبراهيمي" يعلق آمالاً واسعة على هؤلاء الطلبة المبعوثين، فلم يألُ جهدًا في تصحيحهم وإرشادهم وتذكيرهم بالوطن المستعمر، وبواجبهم نحو إحياء ثقافتهم العربية الإسلامية التي تحاربها فرنسا وتحاول النيل منها، وقد أثمرت جهوده التي بذلها تجاه هؤلاء المبعوثين عن نجاح ما يقرب من معظمهم في دراستهم الثانوية والجامعية، وساهموا في تحقيق الفكرة العربية الإسلامية التي كان يؤمن بها العلماء، وفي أثناء إقامته بالقاهرة اختير "الإبراهيمي" لعضوية مجمع اللغة العربية المصري سنة (1380هـ= 1961م).

العودة بعد استقلال الجزائر:

ولما أعلن استقلال الجزائر عاد "البشير الإبراهيمي" إلى وطنه، خطب أول صلاة جمعة من مسجد (كتشاوة) بقلب العاصمة الجزائرية، وكان هذا المسجد قد حوله الفرنسيون إلى كتدرائية بعد احتلالهم الجزائر.

وفاة "البشير الإبراهيمي":
بعد عودة الشيخ "البشير الإبراهيمي" لزم بيته، ولم يشارك في الحياة العامة بعد أن كبر سنه وضعفت صحته، حتى لاقى ربه يوم الخميس الموافق (18 من المحرم 1385هـ= 19 من مايو 1965م) بعد حياة حافلة بجلائل الأعمال، وخرجت الأمة تودعه بقلوب حزينة وأعين دامعة، تعبيرًا عن تقديرها لرجل من رجالات الإصلاح فيها، وأحد بناة نهضتها الحديثة.

مؤلفات "الإبراهيمي":

كان "البشير الإبراهيمي" واسع المعرفة شأنه، شأن السلف الأول من حملة الثقافة الإسلامية، فكتب في الأصول والتشريع الإسلامي، وألف في اللغة وقضاياها الدقيقة، وفي الأخلاق والفضائل الإسلامية، وهو كاتب بليغ ذو أسلوب بديع، يحمل نفس مجاهد وروح مصلح وخيال شاعر وقوة ثائر، وتشهد على ذلك مقالاته النارية التي كان يفتتح بها مجلته الشهرية (البصائر)، وله ملحمة رجزية نظمها في الفترة التي كان فيها مبعدًا في الصحراء (الوهرانية)، وهي تبلغ ستًا وثلاثين ألف بيت، تتضمن تاريخ الإسلام، ووصفًا لكثير من الفرق التي نشأت في عصره، ومحاورات أدبية بين الشيطان وأوليائه، ووصفًا للاستعمار ومكائده ودسائسه.

وهذا بيان بمؤلفات الشيخ التي لا يزال بعضها حبيسًا لم ير النور:

عيون البصائر؛ وهى مجموعة مقالاته التي نشرت في جريدة (البصائر).
النقابات والنفايات في لغة العرب؛ وهو أثر لغوي يجمع كل ما هو على وزن فعالة من مأثور الشيء ومرذوله.
أسرار الضمائر العربية.
التسمية بالمصدر.
الصفات التي جاءت على وزن فعل.
الاطراد والشذود في العربية.
رواية كاهنة أوراس.
حكمة مشروعية الزكاة.
شعب الإيمان (في الأخلاق والفضائل الإسلامية).
الملحمة الرجزية في التاريخ.
فتاوى متناثرة.
وقد طبعت أخيرًا مجموعة من مؤلفات "البشير" في خمسة مجلدات تحت عنوان "آثار الإمام محمد البشير الإبراهيمي"، وأصدرته دار الغرب الإسلامي.

فريدرامي
2010-11-21, 19:58
الله الله ماهذه الروعة وقوة اللغة
انه شيخنا الابراهيمى فلا عجب
وقدقيل يوما فيه بعد ان ألقى خطبة فأدهش الحضور بفصاحته
....من اراد ان يتعلم العربية فليرضعها من جزائري
رحم الله الشيخين وادخلهما فسيح جنانه

يوسف سعيد1
2010-11-24, 14:36
بارك الله فيكما و جزاكما خير الجزاء على الإضافة الطيبة ..
لا يمكن لأحد أن ينكر فضل الشيخين على الثورة الجزائرية و على زرع بذور الدعوة السلفية في هذه البلاد الطيبة..