زكريا ضياء الدين
2010-11-03, 10:15
مأساة التباعد بين الشريعة والقانون
بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه،
أما بعد،
فقد شاهدت ذات مرة طفلة مر التاكسي على قدمها، فحملتها إلى المستشفى لإسعافها وإذا بالطبيبة تنصرف وتذهب وتجيء دون شيء، وأنا أستحثها لتخفيف الآلام عن الصغيرة دون استجابة.
وبعد فترة أتى رجل البوليس لفتح محضر معي، فانتبهت إلى وقوعي في المحظور، وأن معاني الشفقة والرأفة لا تشفع لصاحبها من وجهة نظر القانون، فقد أكون أنا الذي صدمت الطفلة وحملتها إلى المستشفى وبالتالي فلا بد من التحقق من الجاني أولاً؛ حتى وإن ترتب على ذلك موت المجني عليه، وليس فقط المزيد من نزفه وألمه.
وأنا في ذهولي من الموقف دخلت أم الطفلة تحكي ما حدث، فلما استوثقوا براءتي أغلق المحضر وخرجت من المستشفى.
وتتابعت الأيام والحكايات وأنا أسمع عن الحوادث على الطريق السريع وهنا وهناك ولا يكاد يقترب منها أحد؛ فتزهق الأرواح وتسيل الدماء والكل يمضي إلى حال سبيله بتبلد وبرود شديد، وكأنه لا يشاهد شيئاً، أو أن الأمر لا يعنيه.
وإذا كان الجناة يفرون ويهربون عادة بعد ارتكاب الحادثة وتقيد الجرائم ضد مجهول، فالأدهى من ذلك أن جرائم الاغتصاب تحدث في وضح النهار، وفي أشد الأماكن ازدحاماً دون تدخل من المارة!!
ولا ندري كيف ضاعت معاني الرجولة والنخوة والنصرة والأخوة، وكيف يكون الحال والشأن لو كانت هذه هي أخته أو ابنته؟!! وكيف تتحقق معاني الانتماء والشعور بالأمن والأمان؟ ومتى وكيف تُرد الحقوق لأصحابها؟
وعشرات الأسئلة التي يسوغ طرحها على هذا الواقع البائس حتى يتيسر الخروج من هذا النفق المظلم.
وهذا مثل، وغيض من فيض -كما يقولون-، فكم من مرة نقرأ في صفحات الحوادث عن ضبط سيدة متزوجة من رجلين، ولو دققت النظر لعلمت أن الأمر ليس كذلك، وما هو إلا مأساة وصورة من صور التباعد بين الشريعة والقانون، فالرجل قد يطلق امرأته ثلاثاً ولا يثبت ذلك عند المأذون في الأوراق الرسمية، ومن المعلوم أن المرأة إذا طلقت ثلاثاً بانت من زوجها بينونة كبرى، ولا تحل له حتى تنكح زوجاً غيره.
فإذا تزوجت هذه المرأة من رجل آخر، وعلم زوجها الأول بذلك وأراد أن ينتقم منها ويكيد لها، فما أيسر أن يثبت أنها زوجته في الأوراق الرسمية، وإن كان الأمر شرعاً وديناً وخلقاً ليس كذلك؛ فقد بانت منه.
ولا تستبعد التشهير بهذه المرأة المسكينة بل ودخولها السجن!! والجنايات في الزواج لا تقل عن الجنايات في الطلاق.
فالرذيلة تشيع ويقنن لها باسم الحرية الشخصية، وحرية المرأة، فإذا زنت المرأة برضاها فإنه يستحق خمس سنوات عقوبة على هذا الجرم.
والبعض يطالب برفع سن الزواج إلى 21سنة، وهذا معمول به في بعض الأماكن.
وضبط الشخص متلبساً بالزواج قبل السن القانوني أشد من ضبطه متلبساً بالفعل الفاضح في الطريق العام!!
ختان الإناث جناية قانونية، أما العري والخلاعة والرقص والغناء واتخاذ الأخدان وما يسمى بالصداقة البريئة، فهذه ليست بتعديات ولا مخالفات قانونية!!
الربا يستشري على مستوى الأفراد والدول والجماعات، والنصب يحدث ويتم بأوراق رسمية موثقة، والموالد وصرف العبادة للمقبورين، والتشريع مع الله، والحكم بغير ما أنزل الله، واستحداث النظم والدساتير والمناهج الوضعية كالديمقراطية والاشتراكية... كل ذلك قانوني.
ما أيسر سن قوانين الظلم كما حدث فيما يسمى بالقضاء على الإقطاع، والرأسمالية حيث أخذ الحق من أصحابه وأعطى من لا يملك من لا يستحق!!
في ظل أوضاع تغيب فيها الشريعة وتتلاعب الأهواء والآراء بأهلها، فلا تستبعد أن يحدث أي شيء وكل شيء بالقانون، حتى في كرة القدم يقولون: كتف قانوني!!
وهذا من إفرازات الدولة المدنية التي ينادي بها العلمانيون، ومن جراء القوانين التي تصطدم بالكتاب والسنة.
فلا يتوهم عاقل أن مجرد المناداة بدولة القانون سيحقق الجنة الموعودة على ظهر الأرض، بل نظرة سريعة على ما كان عليه حالنا وما آل إليه أمرنا تجعلك تدرك أنه لا صلاح ولا فلاح، ولا أمن ولا أمان في ظل هذه القوانين الوضعية التي تتفتق عنها أذهان بشر لم يضعوا الشرع نصب أعينهم.
لا خير للبلاد والعباد في العاجل والآجل، وهم يعيشون حياة السراب والأوهام الزائفة الخادعة تصطدم بالفطرة السوية والعقول السليمة، عندما ننسى ديننا وربنا نصير مسخاً، ونصبح كالببغاوات والقردة نقلد الشرق تارة والغرب تارة أخرى، ويصل التدني بنا للانبهار بالنجاسات الموجودة في أمعائهم.
تضيع المصالح والحدود والحقوق وسط أبناء المسلمين، ويشيع الاضطراب والقلق في نفوسهم، يحدث ذلك وغيره مع من يتكلمون بلساننا ومن أبناء جلدتنا، ومع تشدق بعضهم بأنه قانوني، ويحب القانون، ويتكلم بنزاهة وعدالة القانون، ويطالب ليل نهار بدولة القانون. وما أكثر العبارات الفارغة من المعنى والمضمون.
فإلى محبي القانون وعشَّاقه، وإلى دارسي القانون الدولي والجنائي والمدني والتجاري والبحري والإداري... تفكروا وتدبروا في قوله -تعالى-: (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ) (آل عمران:19)، وقوله -تعالى-: (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ) (آل عمران:85)، وقوله -عز وجل-: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا) (المائدة:3)، وقوله -تبارك وتعالى-: (أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) (المائدة:50)، وقوله -تعالى-: (أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) (الملك:14)، وقوله -عز وجل-: (أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ) (الأعراف:54)، وقوله -سبحانه وتعالى-: (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) (النساء:65)، وقوله -جل جلاله-: (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ) (الأحزاب:36)، وقوله -جل جلاله-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الأخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلا) (النساء:59).
وفي الحديث: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يوم حجة الوداع: (إني قد تركت فيكم ما إن اعتصمتم به فلن تضلوا أبدا كتاب الله وسنة نبيه)[رواه الحاكم، وصححه الألباني].
هذا الذي نؤمن به، ويؤمن به كل من رضي بالله ربا، وبالإسلام ديناً، وبمحمد -صلى الله عليه وسلم- نبياً.
نريد قانوناً ينبثق من الكتاب والسنة، تتحقق به المصلحة وتندفع به المضرة والمفسدة، ويتواصل به ماضي الأمة مع حاضرها ومستقبلها، ويطبق على الحاكم والمحكوم، ويشيع به الخير والعدل في البلاد والعباد، ويرضى عنه خالق الأرض والسماء.
نرفض الغلو في ولاة الأمر أو غيرهم من القانونيين ممن يشرعون مع الله، ويحلون الحرام، و يحرمون الحلال؛ فالحلال ما أحل الله والحرام ما حرم، والدين ما شرع الله، وليس لنا إلا أن نقول: (سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ) (البقرة:285)
إن أمثال القوانين التي تبيح الربا، والتأمين على الحياة ضد الغرق والحرق -الذي يوصف بأنه ربا وقمار وغرر-، وتؤدي إلى منع النسل وتحديده. هذه ليست بقوانين يعول عليها أو تحترم.
فتصرف الحاكم منوط بالمصلحة، والخلافة موضوعة لإقامة الدين وسياسة الدنيا به، وكل مخالفة لشرع الله مردودة على صاحبها كائناً من كان، وكل إنسان يؤخذ من قوله ويُترك إلا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
وقد أحسن من قال: إذا رأيتم قولي يخالف قول رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فخذوا بقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم- واضربوا بقولي عرض الحائض (لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ)(الحجرات:1)، (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ)(النور:63)
نحن ندرك تغير الدنيا، وسرعة نبض الحياة، وكثرة المستجدات والمتطلبات، وكل ذلك لا يضيق به الشرع؛ فالشريعة كاملة وشاملة لكل ما يحقق المصلحة في العاجل والآجل، وباب الاجتهاد مفتوح لمن تأهل.
ولن تخلو الأرض من قائم لله بحجة، يقيمون حجج الله وبيناته على العباد، ينفون عن دين الله تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين، ولا تزال طائفة من الأمة ظاهرين على الحق لا يضرهم من خالفهم أو خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك. ويبعث الله على رأس كل مائة عام من يحدد لهذه الأمة شبابها.
وقد حذرنا الله -سبحانه- من تعدي الحدود، وتخطى الشرائع فقال: (قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) (يونس:15)، وقال -تعالى-: (أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ)(الشورى:21).
قد ندرس قوانين الكفر ونظم الضلال على جهة نقضها وتفنيدها والرد عليها، فناقل الكفر ليس بكافر، أما على جهة الانبهار بها، أو تلويث عقول أبناء المسلمين والتسلل من خلالها لهدم الشريعة وإحلال النظم الوضعية مكانها فلا وألفُ لا (فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ) (الأنعام:89)
إن سياسات الخطوة خطوة والعمل بالمثل الإنجليزي: «بطيء لكن أكيد»، لا يروج على من عنده بصيرة، والمؤمن لا يُلدغ من جحره مرتين، ولست بالخب ولا الخب يخدعني.
راجعوا بدايات الشرك، وكيف تم خلع الحجاب، ووصلت النساء إلى ارتداء ملابس البحر، وكيف انخدع البعض بالشورى وآل به الأمر إلى الديمقراطية الوثنية، وكيف تم إحلال الشريعة الفرنسية محل شرع الله، وكيف... وكيف...
في حديث حذيفة -رضي الله عنه-: (كَانَ النَّاسُ يَسْأَلُونَ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- عَنِ الْخَيْرِ، وَكُنْتُ أَسْأَلُهُ عَنِ الشَّرِّ مَخَافَةَ أَنْ يُدْرِكَنِي)[متفق عليه].
إن مجاراة معاني التطور والتحضر والتقدم، ومواكبة العصر لا مانع منه، بل هو مطلوب ومشروع، (إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ) (الإسراء:9)، أي للتي هي أسد وأعدل، و(الْمُؤْمِنُ الْقَوِىُّ خَيْرٌ وَأَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ) [رواه مسلم]، ولا حجر على الأخذ بأسباب القوة، (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ) (الأنفال:60)، والاستعداد بالإجراءات القانونية المناسبة للمشاكل الطارئة ولشتى صور الحياة، كل ذلك لا حرج فيه.
فكما أن الأصل في العبادات الحظر والمنع والتوقيف فإن الأصل في المعاملات الإباحة إذا روعيت ضوابطها الكلية مثل: (لاَ ضَرَرَ وَلاَ ضِرَارَ)، و(إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا)(النساء:58)، و(وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى)(المائدة:8).
فطالما لم تصطدم المعاملة بنصوص الكتاب والسنة فلا مانع منها، وهذا من يسر الشريعة، قال -تعالى-: (يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ)(البقرة:185)، وقال -تعالى-: (وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) (الحج:87).
لقد كانت الدولة الإسلامية على عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- وعهود الخلفاء الراشدين المهديين من بعده بمثابة التطبيق العملي لما جاء في الكتاب والسنة، وفي حديث العرباض بن سارية -رضي الله عنه-: (فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِى وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الْمَهْدِيِّينَ الرَّاشِدِينَ تَمَسَّكُوا بِهَا وَعَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الأُمُورِ فَإِنَّ كُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلاَلَةٌ) [رواه أبو داود، وصححه الألباني]
وهنا يجب أن نحذر أشد الحذر من دعاة الفتنة والغواية الذين يشوهون صورة الخلافة العثمانية والعباسية ويطعنون في حكم يزيد بن معاوية، هارون الرشيد، وذلك ليس بغية الرجوع لمثل ما كان عليه النبي -صلى الله عليه وسلم- والصحابة الكرام، وإنما لإبعاد الأمة عن دين ربها، وسلخها عن كتاب الله وسنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
فالدولة عند الملاحدة والزنادقة والديمقراطيين والليبراليين والعلمانيين يجب أن تكون مدنية ليس لها صلة بالكتاب والسنة، وقوانينها المعمول بها يجب أن تساوي بين المسلم والكافر وبين المرأة والرجل، يتولى فيها المرأة والكفار إمرة المسلمين، والحكم فيها للأغلبية، لا ما نع عندهم من الردة والكفر، والحريات شاملة للشذوذ والتعامل بالربويات.
قوانين هي أشبه بزبالات أذهان البشر، والمطلوب منها أن نرضى بحكم المخلوق، ونرفض حكم خالق البشر، ولا يقبل ذلك إلا من انطمست بصيرته، وسفهت نفسه وضل عقله.
فالثبات الثبات على دين الله وإن تغيرت الأزمنة أو الأمكنة، وإن زخرفوا لك القول وبهرجوا لك الضلال، (وَقُلْ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنَّا عَامِلُونَ . وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ . وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الأمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُون) (هود121-123)، (وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ . قُلْ لا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ . قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيم)(سبأ:24-26)، (قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ . لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ)(الأنعام:162-163).
إن متابعة اليهود والنصارى والشرق والغرب في قوانينهم الضالة الفاجرة يصدق عليه قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: (لَتَتَّبِعُنَّ سَنَنَ مَنْ قَبْلَكُمْ شِبْرًا بِشِبْرٍ، وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ، حَتَّى لَوْ سَلَكُوا جُحْرَ ضَبٍّ لَسَلَكْتُمُوهُ. قُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى؟ قَالَ: فَمَنْ)[رواه البخاري ومسلم]، وهذا من دلائل نبوته -صلى الله عليه وسلم-.
والغرب اليوم يعيش حضارة القلق، ويعاني من التمزق والضياع (يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ)(الروم:7)، فهل نقلدهم ونأخذ قوانينهم التي هي من أسباب هلكتهم؟
لقد كفانا الله -سبحانه- وأغنانا؛ ولذلك لما سمع عمر -رضي الله عنه- أن أبا موسى الأشعري ولَّى كاتباً نصرانياً قال: لا تكرموهم وقد أهانهم الله، ولا تعزوهم وقد أذلهم الله، ولا تقربوهم وقد أبعدهم الله.
وإذا كنا نحن لا نقبل زلات العلماء ولا أقوالهم الاجتهادية المخالفة لشرع الله، فكيف نقبل تشريعات الغرب الكافر أو الشرق الملحد؟!
لقد حُكمت مصر وغيرها بالإسلام دون التفات لهوية أهلها، ولا سابقة في استشارة الأغلبية أو الأقلية في تطبيق شرع الله أو العمل بالقوانين الوضعية، فلا رأي لأحد مع الله (إِنِ الْحُكْمُ إِلا لِلَّهِ أَمَرَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ)(يوسف:40)، (وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ)(المائدة:49)
لا يجوز العمل ببعض الكتاب والكفر بالبعض الآخر، ولا يحل للحاكم أو المحكوم أن ينزل على حكم الله في الصلاة والصيام، ثم يعمل بالقوانين الوضعية في السياسة والاقتصاد والاجتماع والحرب والسلم.
فالمسائل والقوانين كلها من مخرج واحد (أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ)(البقرة:85)
يُستشار الخبراء والعلماء والأمناء فيما لا نص فيه، فلا مشورة في: هل تمنع الخمر والربا والزنا أم لا؟... فالله يحكم لا معقب لحكمه، ويقضي ولا راد لقضائه، حتى وإن حكمت الأغلبية واتفق الناس جميعاً على بيع الخمر والتعامل بالربا، فهذا لا يبيحه ولا يصيره مشروعاً (وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ)(الأنعام:116)، (وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ)(يوسف:103)، (وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلا وَهُمْ مُشْرِكُونَ)(يوسف:106).
فاعرف الحق تعرف أهله، واعرف الباطل تعرف من أتاه، واسلك طريق الهدى ولا يضرك قلة السالكين، وإياك وطرق الضلال وتغتر بكثرة الهالكين، والنار يوم القيامة ستقول: هل من مزيد؟، ومصانعة وجه واحد أيسر من مصانعة جميع الوجوه.
قد تُسن القوانين الجائرة الفاجرة، ويُستكره الناس على العمل بها، وقد يطول عليهم الأمد وتقسو قلوبهم، وترضى أكثريتهم بهذه القوانين، وهذه النظم والدساتير، وهذا لا يعطيها صفة المشروعية.
فالشرعية الدستورية والقانونية هي التي لا تصطدم بالكتاب والسنة، ولا تخالف ما كان عليه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وصحابته الكرام.
لا يخفى على أحد أن الشعوب المسلمة تستيقظ من سباتها وتعاود الالتزام بدين ربها، فلا يليق ولا يقبل أن تُحكم بغير إسلامها، ولا أن يشرع قوانينها أشباه الأحبار والرهبان، ولا أن تُصاغ حياتها على غير ما يُرضي اللهَ؛ فالحياة بغير الله سراب يحسبه الظمآن ماءً حتى إذا جاءه لم يجد شيئاً ووجد الله عنده فوفاه حسابه والله سريع الحساب.
وفقكم الله وهداكم وسدد خطاكم، ووقانا وإياكم الفتن ما ظهر منها وما بطن، وجعلنا وإياكم هداة مهتدين غير ضالين ولا مضلين.
وَآخِرُ دَعْوَانا أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.
منقووووووووووووول
المصدر
http://www.al-fath.net
بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه،
أما بعد،
فقد شاهدت ذات مرة طفلة مر التاكسي على قدمها، فحملتها إلى المستشفى لإسعافها وإذا بالطبيبة تنصرف وتذهب وتجيء دون شيء، وأنا أستحثها لتخفيف الآلام عن الصغيرة دون استجابة.
وبعد فترة أتى رجل البوليس لفتح محضر معي، فانتبهت إلى وقوعي في المحظور، وأن معاني الشفقة والرأفة لا تشفع لصاحبها من وجهة نظر القانون، فقد أكون أنا الذي صدمت الطفلة وحملتها إلى المستشفى وبالتالي فلا بد من التحقق من الجاني أولاً؛ حتى وإن ترتب على ذلك موت المجني عليه، وليس فقط المزيد من نزفه وألمه.
وأنا في ذهولي من الموقف دخلت أم الطفلة تحكي ما حدث، فلما استوثقوا براءتي أغلق المحضر وخرجت من المستشفى.
وتتابعت الأيام والحكايات وأنا أسمع عن الحوادث على الطريق السريع وهنا وهناك ولا يكاد يقترب منها أحد؛ فتزهق الأرواح وتسيل الدماء والكل يمضي إلى حال سبيله بتبلد وبرود شديد، وكأنه لا يشاهد شيئاً، أو أن الأمر لا يعنيه.
وإذا كان الجناة يفرون ويهربون عادة بعد ارتكاب الحادثة وتقيد الجرائم ضد مجهول، فالأدهى من ذلك أن جرائم الاغتصاب تحدث في وضح النهار، وفي أشد الأماكن ازدحاماً دون تدخل من المارة!!
ولا ندري كيف ضاعت معاني الرجولة والنخوة والنصرة والأخوة، وكيف يكون الحال والشأن لو كانت هذه هي أخته أو ابنته؟!! وكيف تتحقق معاني الانتماء والشعور بالأمن والأمان؟ ومتى وكيف تُرد الحقوق لأصحابها؟
وعشرات الأسئلة التي يسوغ طرحها على هذا الواقع البائس حتى يتيسر الخروج من هذا النفق المظلم.
وهذا مثل، وغيض من فيض -كما يقولون-، فكم من مرة نقرأ في صفحات الحوادث عن ضبط سيدة متزوجة من رجلين، ولو دققت النظر لعلمت أن الأمر ليس كذلك، وما هو إلا مأساة وصورة من صور التباعد بين الشريعة والقانون، فالرجل قد يطلق امرأته ثلاثاً ولا يثبت ذلك عند المأذون في الأوراق الرسمية، ومن المعلوم أن المرأة إذا طلقت ثلاثاً بانت من زوجها بينونة كبرى، ولا تحل له حتى تنكح زوجاً غيره.
فإذا تزوجت هذه المرأة من رجل آخر، وعلم زوجها الأول بذلك وأراد أن ينتقم منها ويكيد لها، فما أيسر أن يثبت أنها زوجته في الأوراق الرسمية، وإن كان الأمر شرعاً وديناً وخلقاً ليس كذلك؛ فقد بانت منه.
ولا تستبعد التشهير بهذه المرأة المسكينة بل ودخولها السجن!! والجنايات في الزواج لا تقل عن الجنايات في الطلاق.
فالرذيلة تشيع ويقنن لها باسم الحرية الشخصية، وحرية المرأة، فإذا زنت المرأة برضاها فإنه يستحق خمس سنوات عقوبة على هذا الجرم.
والبعض يطالب برفع سن الزواج إلى 21سنة، وهذا معمول به في بعض الأماكن.
وضبط الشخص متلبساً بالزواج قبل السن القانوني أشد من ضبطه متلبساً بالفعل الفاضح في الطريق العام!!
ختان الإناث جناية قانونية، أما العري والخلاعة والرقص والغناء واتخاذ الأخدان وما يسمى بالصداقة البريئة، فهذه ليست بتعديات ولا مخالفات قانونية!!
الربا يستشري على مستوى الأفراد والدول والجماعات، والنصب يحدث ويتم بأوراق رسمية موثقة، والموالد وصرف العبادة للمقبورين، والتشريع مع الله، والحكم بغير ما أنزل الله، واستحداث النظم والدساتير والمناهج الوضعية كالديمقراطية والاشتراكية... كل ذلك قانوني.
ما أيسر سن قوانين الظلم كما حدث فيما يسمى بالقضاء على الإقطاع، والرأسمالية حيث أخذ الحق من أصحابه وأعطى من لا يملك من لا يستحق!!
في ظل أوضاع تغيب فيها الشريعة وتتلاعب الأهواء والآراء بأهلها، فلا تستبعد أن يحدث أي شيء وكل شيء بالقانون، حتى في كرة القدم يقولون: كتف قانوني!!
وهذا من إفرازات الدولة المدنية التي ينادي بها العلمانيون، ومن جراء القوانين التي تصطدم بالكتاب والسنة.
فلا يتوهم عاقل أن مجرد المناداة بدولة القانون سيحقق الجنة الموعودة على ظهر الأرض، بل نظرة سريعة على ما كان عليه حالنا وما آل إليه أمرنا تجعلك تدرك أنه لا صلاح ولا فلاح، ولا أمن ولا أمان في ظل هذه القوانين الوضعية التي تتفتق عنها أذهان بشر لم يضعوا الشرع نصب أعينهم.
لا خير للبلاد والعباد في العاجل والآجل، وهم يعيشون حياة السراب والأوهام الزائفة الخادعة تصطدم بالفطرة السوية والعقول السليمة، عندما ننسى ديننا وربنا نصير مسخاً، ونصبح كالببغاوات والقردة نقلد الشرق تارة والغرب تارة أخرى، ويصل التدني بنا للانبهار بالنجاسات الموجودة في أمعائهم.
تضيع المصالح والحدود والحقوق وسط أبناء المسلمين، ويشيع الاضطراب والقلق في نفوسهم، يحدث ذلك وغيره مع من يتكلمون بلساننا ومن أبناء جلدتنا، ومع تشدق بعضهم بأنه قانوني، ويحب القانون، ويتكلم بنزاهة وعدالة القانون، ويطالب ليل نهار بدولة القانون. وما أكثر العبارات الفارغة من المعنى والمضمون.
فإلى محبي القانون وعشَّاقه، وإلى دارسي القانون الدولي والجنائي والمدني والتجاري والبحري والإداري... تفكروا وتدبروا في قوله -تعالى-: (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ) (آل عمران:19)، وقوله -تعالى-: (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ) (آل عمران:85)، وقوله -عز وجل-: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا) (المائدة:3)، وقوله -تبارك وتعالى-: (أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) (المائدة:50)، وقوله -تعالى-: (أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) (الملك:14)، وقوله -عز وجل-: (أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ) (الأعراف:54)، وقوله -سبحانه وتعالى-: (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) (النساء:65)، وقوله -جل جلاله-: (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ) (الأحزاب:36)، وقوله -جل جلاله-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الأخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلا) (النساء:59).
وفي الحديث: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يوم حجة الوداع: (إني قد تركت فيكم ما إن اعتصمتم به فلن تضلوا أبدا كتاب الله وسنة نبيه)[رواه الحاكم، وصححه الألباني].
هذا الذي نؤمن به، ويؤمن به كل من رضي بالله ربا، وبالإسلام ديناً، وبمحمد -صلى الله عليه وسلم- نبياً.
نريد قانوناً ينبثق من الكتاب والسنة، تتحقق به المصلحة وتندفع به المضرة والمفسدة، ويتواصل به ماضي الأمة مع حاضرها ومستقبلها، ويطبق على الحاكم والمحكوم، ويشيع به الخير والعدل في البلاد والعباد، ويرضى عنه خالق الأرض والسماء.
نرفض الغلو في ولاة الأمر أو غيرهم من القانونيين ممن يشرعون مع الله، ويحلون الحرام، و يحرمون الحلال؛ فالحلال ما أحل الله والحرام ما حرم، والدين ما شرع الله، وليس لنا إلا أن نقول: (سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ) (البقرة:285)
إن أمثال القوانين التي تبيح الربا، والتأمين على الحياة ضد الغرق والحرق -الذي يوصف بأنه ربا وقمار وغرر-، وتؤدي إلى منع النسل وتحديده. هذه ليست بقوانين يعول عليها أو تحترم.
فتصرف الحاكم منوط بالمصلحة، والخلافة موضوعة لإقامة الدين وسياسة الدنيا به، وكل مخالفة لشرع الله مردودة على صاحبها كائناً من كان، وكل إنسان يؤخذ من قوله ويُترك إلا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
وقد أحسن من قال: إذا رأيتم قولي يخالف قول رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فخذوا بقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم- واضربوا بقولي عرض الحائض (لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ)(الحجرات:1)، (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ)(النور:63)
نحن ندرك تغير الدنيا، وسرعة نبض الحياة، وكثرة المستجدات والمتطلبات، وكل ذلك لا يضيق به الشرع؛ فالشريعة كاملة وشاملة لكل ما يحقق المصلحة في العاجل والآجل، وباب الاجتهاد مفتوح لمن تأهل.
ولن تخلو الأرض من قائم لله بحجة، يقيمون حجج الله وبيناته على العباد، ينفون عن دين الله تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين، ولا تزال طائفة من الأمة ظاهرين على الحق لا يضرهم من خالفهم أو خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك. ويبعث الله على رأس كل مائة عام من يحدد لهذه الأمة شبابها.
وقد حذرنا الله -سبحانه- من تعدي الحدود، وتخطى الشرائع فقال: (قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) (يونس:15)، وقال -تعالى-: (أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ)(الشورى:21).
قد ندرس قوانين الكفر ونظم الضلال على جهة نقضها وتفنيدها والرد عليها، فناقل الكفر ليس بكافر، أما على جهة الانبهار بها، أو تلويث عقول أبناء المسلمين والتسلل من خلالها لهدم الشريعة وإحلال النظم الوضعية مكانها فلا وألفُ لا (فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ) (الأنعام:89)
إن سياسات الخطوة خطوة والعمل بالمثل الإنجليزي: «بطيء لكن أكيد»، لا يروج على من عنده بصيرة، والمؤمن لا يُلدغ من جحره مرتين، ولست بالخب ولا الخب يخدعني.
راجعوا بدايات الشرك، وكيف تم خلع الحجاب، ووصلت النساء إلى ارتداء ملابس البحر، وكيف انخدع البعض بالشورى وآل به الأمر إلى الديمقراطية الوثنية، وكيف تم إحلال الشريعة الفرنسية محل شرع الله، وكيف... وكيف...
في حديث حذيفة -رضي الله عنه-: (كَانَ النَّاسُ يَسْأَلُونَ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- عَنِ الْخَيْرِ، وَكُنْتُ أَسْأَلُهُ عَنِ الشَّرِّ مَخَافَةَ أَنْ يُدْرِكَنِي)[متفق عليه].
إن مجاراة معاني التطور والتحضر والتقدم، ومواكبة العصر لا مانع منه، بل هو مطلوب ومشروع، (إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ) (الإسراء:9)، أي للتي هي أسد وأعدل، و(الْمُؤْمِنُ الْقَوِىُّ خَيْرٌ وَأَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ) [رواه مسلم]، ولا حجر على الأخذ بأسباب القوة، (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ) (الأنفال:60)، والاستعداد بالإجراءات القانونية المناسبة للمشاكل الطارئة ولشتى صور الحياة، كل ذلك لا حرج فيه.
فكما أن الأصل في العبادات الحظر والمنع والتوقيف فإن الأصل في المعاملات الإباحة إذا روعيت ضوابطها الكلية مثل: (لاَ ضَرَرَ وَلاَ ضِرَارَ)، و(إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا)(النساء:58)، و(وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى)(المائدة:8).
فطالما لم تصطدم المعاملة بنصوص الكتاب والسنة فلا مانع منها، وهذا من يسر الشريعة، قال -تعالى-: (يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ)(البقرة:185)، وقال -تعالى-: (وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) (الحج:87).
لقد كانت الدولة الإسلامية على عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- وعهود الخلفاء الراشدين المهديين من بعده بمثابة التطبيق العملي لما جاء في الكتاب والسنة، وفي حديث العرباض بن سارية -رضي الله عنه-: (فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِى وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الْمَهْدِيِّينَ الرَّاشِدِينَ تَمَسَّكُوا بِهَا وَعَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الأُمُورِ فَإِنَّ كُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلاَلَةٌ) [رواه أبو داود، وصححه الألباني]
وهنا يجب أن نحذر أشد الحذر من دعاة الفتنة والغواية الذين يشوهون صورة الخلافة العثمانية والعباسية ويطعنون في حكم يزيد بن معاوية، هارون الرشيد، وذلك ليس بغية الرجوع لمثل ما كان عليه النبي -صلى الله عليه وسلم- والصحابة الكرام، وإنما لإبعاد الأمة عن دين ربها، وسلخها عن كتاب الله وسنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
فالدولة عند الملاحدة والزنادقة والديمقراطيين والليبراليين والعلمانيين يجب أن تكون مدنية ليس لها صلة بالكتاب والسنة، وقوانينها المعمول بها يجب أن تساوي بين المسلم والكافر وبين المرأة والرجل، يتولى فيها المرأة والكفار إمرة المسلمين، والحكم فيها للأغلبية، لا ما نع عندهم من الردة والكفر، والحريات شاملة للشذوذ والتعامل بالربويات.
قوانين هي أشبه بزبالات أذهان البشر، والمطلوب منها أن نرضى بحكم المخلوق، ونرفض حكم خالق البشر، ولا يقبل ذلك إلا من انطمست بصيرته، وسفهت نفسه وضل عقله.
فالثبات الثبات على دين الله وإن تغيرت الأزمنة أو الأمكنة، وإن زخرفوا لك القول وبهرجوا لك الضلال، (وَقُلْ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنَّا عَامِلُونَ . وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ . وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الأمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُون) (هود121-123)، (وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ . قُلْ لا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ . قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيم)(سبأ:24-26)، (قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ . لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ)(الأنعام:162-163).
إن متابعة اليهود والنصارى والشرق والغرب في قوانينهم الضالة الفاجرة يصدق عليه قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: (لَتَتَّبِعُنَّ سَنَنَ مَنْ قَبْلَكُمْ شِبْرًا بِشِبْرٍ، وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ، حَتَّى لَوْ سَلَكُوا جُحْرَ ضَبٍّ لَسَلَكْتُمُوهُ. قُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى؟ قَالَ: فَمَنْ)[رواه البخاري ومسلم]، وهذا من دلائل نبوته -صلى الله عليه وسلم-.
والغرب اليوم يعيش حضارة القلق، ويعاني من التمزق والضياع (يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ)(الروم:7)، فهل نقلدهم ونأخذ قوانينهم التي هي من أسباب هلكتهم؟
لقد كفانا الله -سبحانه- وأغنانا؛ ولذلك لما سمع عمر -رضي الله عنه- أن أبا موسى الأشعري ولَّى كاتباً نصرانياً قال: لا تكرموهم وقد أهانهم الله، ولا تعزوهم وقد أذلهم الله، ولا تقربوهم وقد أبعدهم الله.
وإذا كنا نحن لا نقبل زلات العلماء ولا أقوالهم الاجتهادية المخالفة لشرع الله، فكيف نقبل تشريعات الغرب الكافر أو الشرق الملحد؟!
لقد حُكمت مصر وغيرها بالإسلام دون التفات لهوية أهلها، ولا سابقة في استشارة الأغلبية أو الأقلية في تطبيق شرع الله أو العمل بالقوانين الوضعية، فلا رأي لأحد مع الله (إِنِ الْحُكْمُ إِلا لِلَّهِ أَمَرَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ)(يوسف:40)، (وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ)(المائدة:49)
لا يجوز العمل ببعض الكتاب والكفر بالبعض الآخر، ولا يحل للحاكم أو المحكوم أن ينزل على حكم الله في الصلاة والصيام، ثم يعمل بالقوانين الوضعية في السياسة والاقتصاد والاجتماع والحرب والسلم.
فالمسائل والقوانين كلها من مخرج واحد (أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ)(البقرة:85)
يُستشار الخبراء والعلماء والأمناء فيما لا نص فيه، فلا مشورة في: هل تمنع الخمر والربا والزنا أم لا؟... فالله يحكم لا معقب لحكمه، ويقضي ولا راد لقضائه، حتى وإن حكمت الأغلبية واتفق الناس جميعاً على بيع الخمر والتعامل بالربا، فهذا لا يبيحه ولا يصيره مشروعاً (وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ)(الأنعام:116)، (وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ)(يوسف:103)، (وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلا وَهُمْ مُشْرِكُونَ)(يوسف:106).
فاعرف الحق تعرف أهله، واعرف الباطل تعرف من أتاه، واسلك طريق الهدى ولا يضرك قلة السالكين، وإياك وطرق الضلال وتغتر بكثرة الهالكين، والنار يوم القيامة ستقول: هل من مزيد؟، ومصانعة وجه واحد أيسر من مصانعة جميع الوجوه.
قد تُسن القوانين الجائرة الفاجرة، ويُستكره الناس على العمل بها، وقد يطول عليهم الأمد وتقسو قلوبهم، وترضى أكثريتهم بهذه القوانين، وهذه النظم والدساتير، وهذا لا يعطيها صفة المشروعية.
فالشرعية الدستورية والقانونية هي التي لا تصطدم بالكتاب والسنة، ولا تخالف ما كان عليه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وصحابته الكرام.
لا يخفى على أحد أن الشعوب المسلمة تستيقظ من سباتها وتعاود الالتزام بدين ربها، فلا يليق ولا يقبل أن تُحكم بغير إسلامها، ولا أن يشرع قوانينها أشباه الأحبار والرهبان، ولا أن تُصاغ حياتها على غير ما يُرضي اللهَ؛ فالحياة بغير الله سراب يحسبه الظمآن ماءً حتى إذا جاءه لم يجد شيئاً ووجد الله عنده فوفاه حسابه والله سريع الحساب.
وفقكم الله وهداكم وسدد خطاكم، ووقانا وإياكم الفتن ما ظهر منها وما بطن، وجعلنا وإياكم هداة مهتدين غير ضالين ولا مضلين.
وَآخِرُ دَعْوَانا أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.
منقووووووووووووول
المصدر
http://www.al-fath.net