بنيامين
2010-10-30, 19:10
كان الفتى الذي يشتغل في مكتبة جامعة مدريد مبتسما وهو يعير الكتب للطلبة والأساتذة الذين يصطفون بالمناسبة في الصف نفسه الذي...
لا يتصدره إلا من سبق سواء كان أستاذا أو طالبا. بدت على الفتى علامات الابتهاج وهو يُهدي رواد مكتبة العلوم الإنسانية فاصلا جميلا يضعه في بطن الكتاب ثم يقول: «يوم كتاب سعيد يا سيدي». كان العالم يوم الجمعة يحتفل باليوم العالمي للكتاب وهو يوم لا يُحتفى به في كل أنحاء العالم مع الأسف الشديد؛ لأن هناك دولا وشعوبا عندها أولويات أخرى لا تتجاوز أساسيات الحياة، وما أكثر الناس الذين يعتقدون على هدى أو على خطأ أن القراءة ضرب من ضروب الترف لا يتأتى إلا للموسرين، وهذا قول يُناقش ما دام أمر القراءة يرتبط ارتباطا وثيقا بنفس الإنسان الذي تميل روحه وهواه إلى المحسوسات أكثر من الملموسات فتجده على فقره وحاجته لأساسيات الحياة يتكلف لاقتناء الكتب والصحف مقتطعا مصاريف القراءة من مصاريف مأكله ومشربه وملبسه.
في اليوم الموالي لليوم العالمي للكتاب فتحت المكتبة الوطنية بمدريد أبوابها للمواطنين ليزوروا هذا الصرح الثقافي والمعرفي العظيم ويروا عن قرب كيف تشتغل هذه المؤسسة العريقة وكيف ينهل الباحثون من معين كتبها. في أهم شوارع العاصمة الإسبانية كانت أروقة المكتبات المتنقلة قد نصبت على الأرصفة وأصبحت المدينة بين عشية وضحاها سوقا ضخما للكتب. خرج كبار الكتاب والمؤلفين للشارع للالتقاء بالمواطنين والحديث إليهم بمن فيهم الأطفال الذين لم يبلغوا الحلم، وتهادى الناس الكتب في يوم بلغت فيه مبيعات الكتاب أرقاما خيالية.
ومع كل هذا الحراك هناك تخوف؛ جراء تراجع القراءة في الغرب؛ لأن نمط حياة الأجيال الجديدة يتغير شيئا فشيئا؛ حيث أصبحت شبكة الإنترنت والألعاب الإلكترونية تثير اهتمام صغار السن أكثر من الكتاب، إلى درجة أن إحدى الدراسات التي أنجزت حول نسبة القراءة عند الأطفال الأميركيين أظهرت أن قراءة الكتب الأخرى عدا الكتاب المدرسي لا تتجاوز ست دقائق يوميا، لكن الدراسة نفسها أفادت أن الأطفال في العالم العربي لا يطلعون على نصوص أخرى غير النصوص المدرسية إلا بنسبة سبع دقائق في السنة.
طبعا لا قياس مع وجود الفارق، خصوصا إذا أخذنا بعين الاعتبار نسبة الأمية المستشرية في الدول العربية وعدم وجود تقاليد تكرس القراءة داخل العائلات حتى الموسرة منها، وانتشار مجموعة من المغالطات حول مفهوم الواجبات المدرسية، حيث أصبح التكوين منحصرا في المدرسة والجامعة وأصبح الانتقال من مستوى إلى مستوى دليلا على نجاح عملية التحصيل، وهذا تقييم خاطئ تماما.
أزمة القراءة في الدول العربية هي في إحدى جوانبها رديفة فشل المنظومة التعليمية في أغلب هذه الدول التي تنهج سياسات مستوردة لا تأخذ بعين الاعتبار المعطيات الاجتماعية لهذه الدول ولا حاجيات الدولة وتطلعاتها. ومن ثم وجب الاعتراف بأن ظاهرة العزوف عن القراءة ليست إشكالا عابرا بقدر ما هي أزمة بنيوية تضرب بجذورها في عمق المجتمعات العربية.
ولم تسلم النخب من هذه الأزمة ولا الباحثون أنفسهم. أذكر في هذا الباب البحث الميداني الذي أجراه أحد الباحثين؛ للوقوف على مستوى البحث العلمي في مجال العلوم الإنسانية في إحدى الدول العربية. قال لي قبل أن يهاجر إلى أقصى غرب هذا الكوكب: «إنهم لا يفعلون شيئا. أحد الأساتذة يلازم مقهى الجامعة ملازمة الكلب لأصحاب الرقيم». لا يمكن أن ننسب هذا الوضع للتهاون فقط، بل الأمر مرتبط بنظرة الإنسان إلى الحياة وبالأولويات التي يضعها لنفسه وبالتربية التي تلقاها منذ الصغر، لذلك لا تعدو عملية الحصول على الشهادات الجامعية أن تكون ممراً آمناً للحصول على وظيفة معينة وهو الأمر الذي يتطلب مراكمة بعض المعارف والخبرات لبلوغ الهدف المنشود، وما عدا ذلك فهو جهد يدخل في باب النوافل التي يُسقطها صاحب الشأن مباشرة عن نفسه، وهذا ما يفسر النتائج الكارثية التي وصل إليها هذا الباحث.
وهناك إشكال آخر في الدول العربية وخصم عنيد يزاحم الكتاب ويقضي على القراءة وهو الإقبال المقلق على الترفيه والتسـمّـر لساعات طويلة أمام التلفزة. الترويح عن النفس التي تعيش أصلا في راحة هو الشغل الشاغل لمن يهجر الكتاب. لقد فوجئت خلال زيارتي لجامعة في دولة خليجية بوجود قاعة للألعاب الإلكترونية والبلياردو داخل الحرم الجامعي. كانت القاعة تعج بالطلبة وفي الوقت نفسه كانت المكتبة خاوية على عروشها. كان المشهد محزنا لأن الترفيه غزا المعرفة في عقر دارها وألحق بها هزيمة نكراء. يمكن أن تكون هناك ملاعب رياضية في الحرم الجامعي بل يجب أن تكون لأن العلاقة بين صحة الأبدان وصحة العقول هي علاقة تكامل، لكن أن تشتري الجامعة من ميزانيتها آلات إهدار الوقت، فهذا هو الأمر الذي لا يُستساغ.
أتمنى أن يحتفل العرب بيوم الكتاب كما يحتفلون بقديسهم الجديد فالنتاين في يوم الحب، وأن يستهلكوا الكتاب كما يستهلكون أطنان البضائع والخدمات، وهو أمر لن يتأتّى إلا إذا قامت العائلة والأفراد بثورة حقيقية تطال أول ما تطال نمط حياتهم وتوزيع أوقاتهم. حينها فقط، يمكن أن ننقد وزارات الثقافة والحكومات على تقصيرها في حق النشر والكتاب.
نقلا عن صحيفة العرب القطرية
لا يتصدره إلا من سبق سواء كان أستاذا أو طالبا. بدت على الفتى علامات الابتهاج وهو يُهدي رواد مكتبة العلوم الإنسانية فاصلا جميلا يضعه في بطن الكتاب ثم يقول: «يوم كتاب سعيد يا سيدي». كان العالم يوم الجمعة يحتفل باليوم العالمي للكتاب وهو يوم لا يُحتفى به في كل أنحاء العالم مع الأسف الشديد؛ لأن هناك دولا وشعوبا عندها أولويات أخرى لا تتجاوز أساسيات الحياة، وما أكثر الناس الذين يعتقدون على هدى أو على خطأ أن القراءة ضرب من ضروب الترف لا يتأتى إلا للموسرين، وهذا قول يُناقش ما دام أمر القراءة يرتبط ارتباطا وثيقا بنفس الإنسان الذي تميل روحه وهواه إلى المحسوسات أكثر من الملموسات فتجده على فقره وحاجته لأساسيات الحياة يتكلف لاقتناء الكتب والصحف مقتطعا مصاريف القراءة من مصاريف مأكله ومشربه وملبسه.
في اليوم الموالي لليوم العالمي للكتاب فتحت المكتبة الوطنية بمدريد أبوابها للمواطنين ليزوروا هذا الصرح الثقافي والمعرفي العظيم ويروا عن قرب كيف تشتغل هذه المؤسسة العريقة وكيف ينهل الباحثون من معين كتبها. في أهم شوارع العاصمة الإسبانية كانت أروقة المكتبات المتنقلة قد نصبت على الأرصفة وأصبحت المدينة بين عشية وضحاها سوقا ضخما للكتب. خرج كبار الكتاب والمؤلفين للشارع للالتقاء بالمواطنين والحديث إليهم بمن فيهم الأطفال الذين لم يبلغوا الحلم، وتهادى الناس الكتب في يوم بلغت فيه مبيعات الكتاب أرقاما خيالية.
ومع كل هذا الحراك هناك تخوف؛ جراء تراجع القراءة في الغرب؛ لأن نمط حياة الأجيال الجديدة يتغير شيئا فشيئا؛ حيث أصبحت شبكة الإنترنت والألعاب الإلكترونية تثير اهتمام صغار السن أكثر من الكتاب، إلى درجة أن إحدى الدراسات التي أنجزت حول نسبة القراءة عند الأطفال الأميركيين أظهرت أن قراءة الكتب الأخرى عدا الكتاب المدرسي لا تتجاوز ست دقائق يوميا، لكن الدراسة نفسها أفادت أن الأطفال في العالم العربي لا يطلعون على نصوص أخرى غير النصوص المدرسية إلا بنسبة سبع دقائق في السنة.
طبعا لا قياس مع وجود الفارق، خصوصا إذا أخذنا بعين الاعتبار نسبة الأمية المستشرية في الدول العربية وعدم وجود تقاليد تكرس القراءة داخل العائلات حتى الموسرة منها، وانتشار مجموعة من المغالطات حول مفهوم الواجبات المدرسية، حيث أصبح التكوين منحصرا في المدرسة والجامعة وأصبح الانتقال من مستوى إلى مستوى دليلا على نجاح عملية التحصيل، وهذا تقييم خاطئ تماما.
أزمة القراءة في الدول العربية هي في إحدى جوانبها رديفة فشل المنظومة التعليمية في أغلب هذه الدول التي تنهج سياسات مستوردة لا تأخذ بعين الاعتبار المعطيات الاجتماعية لهذه الدول ولا حاجيات الدولة وتطلعاتها. ومن ثم وجب الاعتراف بأن ظاهرة العزوف عن القراءة ليست إشكالا عابرا بقدر ما هي أزمة بنيوية تضرب بجذورها في عمق المجتمعات العربية.
ولم تسلم النخب من هذه الأزمة ولا الباحثون أنفسهم. أذكر في هذا الباب البحث الميداني الذي أجراه أحد الباحثين؛ للوقوف على مستوى البحث العلمي في مجال العلوم الإنسانية في إحدى الدول العربية. قال لي قبل أن يهاجر إلى أقصى غرب هذا الكوكب: «إنهم لا يفعلون شيئا. أحد الأساتذة يلازم مقهى الجامعة ملازمة الكلب لأصحاب الرقيم». لا يمكن أن ننسب هذا الوضع للتهاون فقط، بل الأمر مرتبط بنظرة الإنسان إلى الحياة وبالأولويات التي يضعها لنفسه وبالتربية التي تلقاها منذ الصغر، لذلك لا تعدو عملية الحصول على الشهادات الجامعية أن تكون ممراً آمناً للحصول على وظيفة معينة وهو الأمر الذي يتطلب مراكمة بعض المعارف والخبرات لبلوغ الهدف المنشود، وما عدا ذلك فهو جهد يدخل في باب النوافل التي يُسقطها صاحب الشأن مباشرة عن نفسه، وهذا ما يفسر النتائج الكارثية التي وصل إليها هذا الباحث.
وهناك إشكال آخر في الدول العربية وخصم عنيد يزاحم الكتاب ويقضي على القراءة وهو الإقبال المقلق على الترفيه والتسـمّـر لساعات طويلة أمام التلفزة. الترويح عن النفس التي تعيش أصلا في راحة هو الشغل الشاغل لمن يهجر الكتاب. لقد فوجئت خلال زيارتي لجامعة في دولة خليجية بوجود قاعة للألعاب الإلكترونية والبلياردو داخل الحرم الجامعي. كانت القاعة تعج بالطلبة وفي الوقت نفسه كانت المكتبة خاوية على عروشها. كان المشهد محزنا لأن الترفيه غزا المعرفة في عقر دارها وألحق بها هزيمة نكراء. يمكن أن تكون هناك ملاعب رياضية في الحرم الجامعي بل يجب أن تكون لأن العلاقة بين صحة الأبدان وصحة العقول هي علاقة تكامل، لكن أن تشتري الجامعة من ميزانيتها آلات إهدار الوقت، فهذا هو الأمر الذي لا يُستساغ.
أتمنى أن يحتفل العرب بيوم الكتاب كما يحتفلون بقديسهم الجديد فالنتاين في يوم الحب، وأن يستهلكوا الكتاب كما يستهلكون أطنان البضائع والخدمات، وهو أمر لن يتأتّى إلا إذا قامت العائلة والأفراد بثورة حقيقية تطال أول ما تطال نمط حياتهم وتوزيع أوقاتهم. حينها فقط، يمكن أن ننقد وزارات الثقافة والحكومات على تقصيرها في حق النشر والكتاب.
نقلا عن صحيفة العرب القطرية