بوقصة عبدو
2010-10-22, 20:42
نحو مقاربة تداولية في تعليمية اللغة العربية
لماذا؟ وكيف؟
تعليمية الدرس النحوي أنموذجا
بقلم: عبدالله بوقصة
نروم من خلال هذه الورقة إلى التأسيس لرؤى جديدة في إعداد الدرس اللغوي العربي في بلادنا (الجزائر)، تقوم على استثمار المقاربة التداولية في تعليمية اللغة على وجه الخصوص. إذ ما فتئ الألسنيون الغربيون والعرب على حدّ سواء يطرحون مشاريع متعدّدة، يمكن الإفادة منها في تطوير اللغة العربية ومعالجة قضايا تدريسها من منظور لساني وظيفي فعّال. فلماذا استشراف هذه المقاربة؟ وكيف يمكن استثمارها؟
جوانب من تداوليات الخطاب التعليمي
والحال إنّ التداولية من شأنها أن تفيد الدرس اللغوي في المدرسة المعاصرة من جوانب شتّى، أهمها:
- الجانب التواصلي، لأنّ عملية التعليم في أنجع سبلها، هي تواصل ناجح بين الملقي (المعلِّم) والمتلقي (المتعلم)، ينهض على تكاتف جهود كلّ من الطرفين في خلق التشويق والإعجاب والإقناع والتأثير والتثقيف.
- الجانب الكلامي، فلا بدّ للمعلّم أن يمرِّن متعلميه على التفريق بين الأفعال التقريرية، والأفعال الإنجازية في الخطاب التعليمي، المتّصل بقواعد التداولية ومبادئها على غرار(الكمية، النوعية، الهيئة) بغية نجاح الفعل التعليمي التعلمي للدرس اللغوي.
- الجانب الحِجاجي، الذي يهيمن على الخطاب التعليمي في أبسط صوره، الذي هو إدارة موضوع بين طرفين مختلفين (المعلم/المتعلم). وذلك بأسلوب حواري تربوي شائق ومركّز، يستدعي في أحيان كثيرة توظيف مجموعة من الروابط والعوامل الحجاجية. وقوام هذا الحوار "الأخذ والردّ في الكلام وطرح الحجة وبيان الرأي والرأي المضاد". لذا ينطبق على الخطاب التعليمي بمختلف مراحله التوصيف الحجاجي. إذ يرمي إلى التأثير في المتلقي وتعديل سلوكه.
- الجانب المجازي، الذي يمكن أن يندرج تحت الفعل الكلامي غير مباشر، لا تدل صيغته على ظاهره الجلي، بل على باطنه المضمر. فقولنا: البرد شديد اليوم، يمكن أن تفهم منه الظاهر أي شدّة البرد، كما يمكن أن تستنبط منه الباطن أي المطالبة بغلق النافذة مثلا. وكذلك المثال الذي يسوقه لنا جون سيرل: إنّك تدوس رجلي". يمكن أن يوظف بوصفه فعلا حقيقيا مباشرا، أو نستعمله فعلا مجازيا غير مباشر. وكلّ ذلك من شأنه أن يطغى على الخطاب التعليمي التعلمي، ويوجّهه نحو الوجهة الأجود.
وقد اقتضت منّا طبيعة الموضوع الاعتماد على المنهج التداولي خصوصا في محاولتنا التأسيس لرؤيتنا المستقبلية المتعلّقة بإمكانية تطبيق هذا المنهج في منظومتنا التربوية لترقية تعليمية اللغات، استنادا إلى التواصلية والحِجاج وأفعال الكلام وغيرها. كما لم نجد ضيرا من المراوحة بين بعض المناهج الأخرى على غرار التاريخي في معرض تأريخنا لأهم المراحل التي مرّ بها التعليم في الجزائر. وكذا الإحصائي لمّا رحنا نعدّد النتائج المحقّقة في كلّ مرحلة. والمقارن أثناء مقارنتنا بين هذه النتائج.
ونحن في هذا البحث لا ندّعي طرح مشروع تربوي جديد، بقدر ما نروم التأسيس لرؤى استشرافية متجدّدة قصد تطوير تعليمية الدرس اللغوي في مدارسنا.
تعليمية اللغة العربية بين المنهج و اللامنهج
إنّ تدريس نشاطات اللغة العربية في مختلف مراحل التعليم بالجزائر بعد الاستقلال، اتّسم بالعشوائية و التراكمية والمعيارية وفق مناهج وطرائق تربوية كلاسيكية، نحاول في هذا المقام التعريف بها، وتبيان إيجابياتها وسلبياتها. ويمكن حصر هذه الطرائق الثلاثة فيما يأتي:
1- بيداغوجيا المعارف أو المضامين ( La pédagogie des connaissances )
يوظف المعلّم في هذا المنهج التربوي كما هائلا من رصيده المعرفي في العملية التعليمية التعلمية قصد تبليغه إلى المتعلمين، على يطالبهم لاحقا بحفظه واستظهاره. والمتعلم في هذا النوع التعليمي غير مطالب بالإسهام في سير الدرس في جميع أنشطته، لأنّ المعلّم هو من يعرض المعارف، ويلقيها على تلامذته من عناوين وعناصر وقواعد وقضايا وحتى استنتاجات جزئية... وممّا يُعاب على هذه الطريقة التقليدية افتقارها إلى الأهداف التربوية ( Les objectifs pédagogiques )، "وما يمكن أن تؤديه من أدوار في الرقي بالعملية التعليمية" ، لكنّ المتأمل في الشأن التربوي أنذاك، يمكن أن يعدّ قدرة المتعلم على الحفظ والاستظهار هدفا منشودا، لأنّ "الأهداف هي تلك الغايات والمرامي الساعية إلى تحقيق إيصال و إدماج القيم المتعلِّقة بالاختبارات" . لكنّ الهدف المغيّب في هذه الطريقة هو الإجراء التربوي، والملمح النهائي العام. وقد ورثنا هذا الأنموذج التدريسي من عصور سالفة، إذ خصّه بن خلدون (ت808ه) في مقدمته بشيء من التفصيل في معرض حديثه عن طريقة التعليم، إذ قال: "اعلم أنّ تلقين العلوم للمتعلمين، إنّما يكون مفيدا، إذا كان هذا التدريج شيئا فشيئا. يلقي عليه مسائل من كلّ باب... ويقرّب له في شرحها على سبيل الإجمال... حتىّ ينتهي إلى آخر الفن... ثمّ يرجع به إلى الفن ثانية فيرفعه في التلقين، ويخرج عن الإجمال" . ممّا يوحي إلى أنّ معلّم ذلك الزمان كان ينتقل في كلامه من الإجمال إلى التفصيل حتىّ تصل معارفه إلى المتعلم الذي يتكفّل لاحقا بحفظها واستظهارها، أمّا عناصر التعليم في ظلّ بيداغوجيا المعارف هذه فهي: (المدرِّس، التلميذ، الطريقة، المواد الدراسية، نمط التواصل، الحفظ، الاستظهار)، ومن المنظِّرين التربويين من يطلق على هذه الطريقة "التلقين المطلق" المرادف للتعليم بالحفظ عن طريق المنظومات العلمية المعروفة في الحضارة الإسلامية.
ففي درس "الفاعل" على سبيل المثال، يلقن المعلّم تلامذته التعريف بـ"الفاعل"، ونوعه ودلالته، وإعرابه، وعمله، ويلخّص درسه بشكل تلقيني، من هذا القبيل: " اسم مرفوع يأتي بعد فعل مبني للمعلوم ، ويدل على من فعل الفعل . نحو : سافر الحجاج.
وبعد ذلك يأتي دور المتعلم في حفظ المادة المدروسة واستظهارها أمام معلّمه، وعلى هذا المحمل تحمل بقية أنشطة اللغة العربية على غرار البلاغة، والعَروض، وكذا الأنشطة الأدبية الأخرى كالنصوص والتعبير والمطالعة. هذا ولا يخرج المعلّم في تلقين درسه على هذا النمط الذي يمكن أن نمثّله في الخطّاطة التالية:
الخطاطة رقم 01 : بيداغوجيا المعارف
وهكذا يكون المتعلم وفق هذه الطريقة مستقبِلا متلقيا للمعرفة دون المشاركة فعليا في العملية التعليمية، فنسجّل غياب الأهداف الإجرائية والتقويم المرحلي، وكذا ندرة التقويم الذاتي Auto-évaluation بالنسبة للمتعلم، الذي يهدر وقتا طويلا في الحفظ دون الاستيعاب. كما لا يستطيع الربط بين المعرفة البعدية الجديدة ومكتسباته القبلية السابقة.
2- بيداغوجيا الأهداف La pédagogie des objectifs
في هذه الطريقة يلجأ المعلّم إلى تقسيم درسه إلى مراحل محددة، في كلّ مرحلة يقوم بإبلاغ معلومات معينة إلى المتعلم الذي من شأنه أن يشارك في التحصيل المعرفي. وبعد كلّ فترة يجري المعلّم اختبارا بسيطا خفيفا ليقف على مدى فهم واستيعاب المتعلمين وإمكانية تحقيق أهدافه. وهذا النوع من التقويم يطلق عليه منظِّرو التربية ورواد التعليمية "التقويم الجزئي أو المرحلي"، "أمّا الاختبارات البسيطة الخفيفة (أي ما يسمّى بالتطبيقات الفورية) فتسمى الأهداف الإجرائية" . والمهم في هذه الطريقة هو مشاركة المتعلم في الدرس المقدم، إذ لم يعد مجرد وعاء يُملأ بالمعارف ليستظهرها فيما بعد، "لأنّ المناقشة بوصفها طريقة تعليم هي تنظيم محكم هادف وموجّه للحوار والحديث بين الأفراد، فليست دردشة عفوية، وإنّما هي تفكيك يبنى على أسس واضحة محددة" .
ولو شئنا تصنيف هذه الطريقة تصنيفا لسانيا لأدرجناها ضمن المدرسة السلوكية باعتبارها تنهض على سؤال المعلّم وجواب المتعلم، أي المثير والاستجابة. فيصبح سؤال المعلّم مثيرا للمتعلم الذي سرعان ما يستجيب بإجابته. وبعد التقويم المرحلي وتحقيق الهدف الإجرائي، يصير استيعاب المتعلم مثيرا للمعلّم لينطلق إلى المرحلة الموالية من الدرس، وهكذا دواليك إلى نهايته.
فلو كان المعلّم بصدد تدريس "البدل" على سبيل المثال، نجده ينأى قدر المستطاع عن تلقين المتعلمين التعريف المباشر، بل لا يتوانى في عرض جملة ورد فيها بدل، نحو: (الفاروق عمر أعدل الناس)، ثمّ يتوجّه بأسئلة دقيقة إلى متعلميه: ماذا يحدث لو حذفنا لفظ (الفاروق)؟ هل يختّل المعنى؟؟ فماذا نعدّ إذن لفظ (عمر) بالنسبة لفظ (الفاروق)؟ من ههنا يستخلص المعلّم عنوان درسه "البدل"، ثمّ ينطلق في التعريف بالبدل، وطبيعته، وإعرابه، وعمله، وذلك وفق طريقة السؤال والجواب سالفة الذكر.
ويمكن تمثيل خطوات هذا المنهج التعليمي في الخطاطة التالية:
الخطاطة رقم 02 : بيداغوجيا الأهداف
ففي هذا المنهج التعليمي يسهم المتعلم في العملية التعليمية إسهانما فعّالا، ولكنّه يفتقر إلى التقويم النهائي الشامل، إذ تقويمها يكون جزئيا لا أكثر.. وحتىّ وإن أجرى المعلّم على متعلميه تطبيقا شاملا في نهاية الدرس. فإنّ ذلك لا يحقّق النتائج المرجوة، لأنّ التطبيقات عادةً لا تشمل كلّ جزئيات الدرس اللغوي والأدبي.
وممّا يُؤاخذ على هذه الطريقة أيضا انتظار المعلّم إجابات المتعلمين، الذي غالبا ما يكون افتراضيا. فالمعلّم حين يصوغ أسئلته يفترض إجابات محددة مسبقا، وبناءً عليها يبني درسه. فلو جاءت إجابات المتعلمين لا تتماشى مع ما يفترضه المعلّم، فلا يستطيع تكملة درسه، أو يضطر إلى التلقين المباشر، ويهدر الوقت الذي يعدّ عنصرا مهما في عملية التعليم.
3- المقاربة بالكفايات L’approche par compétence
يستغلّ المعلّم في ضوء هذه المقاربة كلّ المدارك والمعارف التي يمتلكها المتمدرس، ليحقّق إدماج ذلك المتعلم، ليس بمشاركته في أطوار الدرس فحسب، بل بما اكتسبه من معارف قبلية، وما يتمتع به من كفايات مسبقة في العملية التعليمية. بهذا يعكف المعلّم في بناء مناهجه على خبرات فردية مسبقة لتلاميذه، في ظلّ إدماج العناصر المتعددة المترابطة والمتآلفة كي تصير وظيفية. ويطلق على هذه العملية في سياقها التربوي المحض بيداغوجية الإدماج La pédagogie d’intégration. وهي بيداغوجية مضادة إلى أي نوع تعليمي كمي تراكمي.
وينصرف الإدماج في أبسط أحواله إلى "توظيف المتعلم مختلف مكتسباته بشكل متّصل في وضعيات ذات دلالة، أي التفاعل بين مجموعة من العناصر بطريقة منسجمة" ، أو بالأحرى هو الربط بين موضوعات دراسية مختلفة في مجال معينة...، أو توزيع مرن ومتنوع للمواد في فصل دراسي ما، أو مدرسة ما بكيفية تراعي قدرات وحاجات المتعلمين. فحينما ينبري المعلّم إلى تعليم درس ما، يجب عليه أن يبحث أولاً في مخزون المتعلمين المعرفي عمّا يعرفونه عن حيثيات ذلك الدرس، وعناصره. ثمّ يشرع في الدرس موجِّها لنشاط المتعلمين الفعّال، ومهذِّبا لإسهاماتهم المتنوعة عبر أطوار الدرس.
ويمكن أن نمثّل لهذه الطريقة بالخطاطة التالية:
الخطاطة رقم 03 : بيداغوجيا المقاربة بالكفايات
وفي مثل هذه الطرائق، ينبغي للمعلّم أن يزوّد المتعلمين بمعارف، زيادةً على الكفايات والخبرات المسبقة، لأنّ هذه القدرات والمكتسبات القبلية فردية ولا يمكن لها أن تبني منهاجا دراسيا عامّا. كما أنّ المعلّم قد يهدر وقتا ثمينا في اكتشاف الخبرات الفردية. وإدراكيا يعدّ هذا الوقت وقتا ضائعا من شأنه أن يعرقل إنهاء المقرّر الدراسي، ممّا يحتّم على هذا المعلّم العودة إلى الطرائق الكلاسيكية مثل: تلقينية المعارف، وإجرائية الأهداف.
وهكذا فإنّ المتعلم لا يدمج في العملية التعليمية إدماجا ناجحا وجادا. ثمّ ينبغي أن نقرّ أنّ هذه الوضعية الإدماجية والوضعيات المشكلة التي يطرحها المعلم على تلاميذه قصد بناء المعرفة (فكريا،ولغويا، وفنيا)، لا يمكن الاعتداد بها بوصفها منهجا موحّدا في تعليمية اللغة العربية. ذلك لأنّ المدركات القبلية التي ينهض عليها هذا النوع من التعليم أمر مختلف من متعلم إلى آخر، ومن منطقة إلى أخرى، بذلك نستشفّ أنّها لا تحقّق النتائج المرجوة ذاتها في المناطق المتعددة، ولا تمنح تكافؤ فرض التعلم بهذا الفصل الدراسي أو ذاك.
أبعاد المقاربة التداولية في النهوض بتعليمية اللغة العربية
المعروف أن التداولية تداوليات، لما تشتمل عليه من نظريات لغوية كأفعال الكلام، والقصدية، والسياق والحجاج وغيرها، وتبعا لذلك تشعبت تعاريفها التي لا يتّسع المقام لحصرها في هذه العجالة. ولعلّ من أشهر التعريفات الشائعة بالتداولية كونها "دراسة اللغة في الاستعمال والتواصل" ، كما أنّها تعدّ منهجا يصلح لقراءة النصوص، وإجراء المقاربات التي من شأنها أن توصل القارئ إلى فهم فعلي أعمق للنص وتعالقاته وقيمه. غير أنّ علامة الاستفهام الكبرى تُطرَح سبب الاستناد إلى اللسانيات المعاصرة في منظومتنا التربوية، وكيفية اعتماد المقاربة التداولية في التعليمية عامة، وفي تعليمية اللغة العربية خاصة. وههنا نؤكّد أنّ التداولية تتعلّق بتحليل الخطاب ولسانيات النص، والخطاب غالبا ما يرتكز على ثنائية (ملقٍ/ متلقٍ) أو (مرسِل/ مرسَل إليه)، شأنه شأن العملية التعليمية التي تقوم أيضا على ثنائية (المعلم كمرسل/ المتعلٍّم كمرسل إليه) على التوالي والتداول والتبادل.
ويمكن من هذا المنظور أن يكون المعلم ملقيا، والمتعلم متلقيا، وهو الأمر المعتاد. لكن قد يتبادل الطرفان الأدوار، فيصير المتعلم ملقيا والمعلم متلقيا. ويتجسّد ذلك في الخطاطتين التاليتين:
الرســــالة
النشــــــــــاط المقــــــــــــدم
أ ب ج د
الخطاطة رقم 04 : بيداغوجية المقاربة التداولية « أ »
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــ
الرسالة ( الخطاب التعليمي )
النشــــــــــاط المقــــــــــــدم
بناء فكري بناء لغوي بناء فني وضعية إدماجية
الخطاطة رقم 04 : بيداغوجية المقاربة التداولية « ب »
ففي الخطاطة رقم 04 "أ" تقوم الرسالة بين طرفي الخطاب بوصف المعلم ملقيا والمتعلم متلقيا، وهو الشكل الذي يطغى على الخطاب التعليمي. ولكن يمكن أن يتبادل الطرفان الأدوار، فيصبح المتعلم ملقيا والمعلم متلقيا كما في الخطاطة رقم 04 "ب"، وهذا حين يكون المتعلم في وضعية إجابة أو سؤال، أو يكون المعلم في تقويم نهائي لدرسه. هذا عن عملية التواصل القائمة على (الإلقاء والتلقي)، والتي تعدّ أساسَ المقاربة التداولية.
كما يمكن استعارة مبادئ أخرى من الدرس التداولي لاستغلالها في تعليمية اللغة على غرار ثلاثية (الكمية /الكيفية/ الهيئة) المساعدة على ربح الوقت بوصفه عنصرا أساسا في عملية التعليم. ويحسُن أيضا استعمال أفعال الكلام (أفعال تقريرية/ أفعال إنجازية) خاصة في دروس البلاغة وأنشطة النصوص وحصص المطالعة، فيصبح المتعلم متحكِّما في تمييز خطاب المعلم، فهل المعلم يُستجوَب ويُسأَل فيحتاج إلى إجابات، أو يقرِّر حقائق؟ وهذا يوفر الوقت المهم جدا في العملية التعليمية.
تعليمية الدرس اللغوي وفق المقاربة التداولية
لا غرو أنّ المقاربة التداولية قد حشرت أنفها، وفرضت نفسها في جميع الحقول المعرفية إلى درجة أنّ بعضهم عدّها "سلة للمهملات للسانيات الحديثة" ، كما هيمنت بوصفها منهجا لقراءة النصوص الأدبية وتحليل الخطابات التواصلية بين الملقي والمتلقي كما أنّها "قد أحدثت الأثر الأكبر في التعليمية La didactique، سواء تعلّق الأمر بتعليمية اللغة الأم أو اللغات الأجنبية" . وذلك باعتبار التداولية تبحث في كيفية تأويل الخطاب وكذا في علاقة الملقي بالمتلقي، وتنقِّب عن العلائق التي تربط العلامات اللغوية بمستخدميها، أي الأفعال الكلامية، التواصلية (المتكلم/السامع)، وعملية التعليم تقوم على التواصل بين ملقٍ (المعلم) ومتلقٍ (المتعلم)، وتُستغَلُّ المواقف الكلامية، ممّا يجعلنا نفيد من التداولية بوصفها مبحثا لسانيا مهما في تعليمية اللغة العربية مثلا.
أ- الدرس النحوي في ضوء المقاربة التداولية أنموذجا
يُدرَس النحو -عادةً - على أنّه بنية لغوية مستقلّة، وينبغي أن يدرك المتعلّم هذه البنية وقواعدها إدراكا سالما، سواء كان ذلك على سبيل بيداغوجيا المعارف وتلقينيتها، أو بيداغوجيا الأهداف إجرائيتها، أو المقاربة بالكفايات واستكشاف خبراتها، لكنّ التداولية لا تبالي بتلقين القاعدة النحوية تلقينا صارما، "فالأمر لم يعد متعلّقا بتلقين بنية نحوية معينة، بل إنّه مرتبط بتوفير وسائط لسانية تتيح للمتعلّم الاختيار بين مختلف الأقوال وذلك حسب المقام" .
لنلاحظ كيفية تقديم نشاط النحو حسب المنهج التداولي:
الدرس المقترح: الفاعل
تصنيفه: اسم
إعرابه: مرفوع
دلالته: من قام بالفعل
وظيفته: عامل+معمول (كيفية عمله)
الخلاصة: عملية تركيب ما سبق من عناصر الدرس.
يشرع المعلم في تقديم درسه حسب قواعد التداولية وذلك كالتالي:
-المعلم: إلى كم قسم تنقسم الكلمة العربية؟
-المتعلم: إلى ثلاثة أقسام، اسم وفعل وحرف.
-المعلم: ما صفات كلّ منها؟
-المتعلم: يذكر صفات كلّ قسم حسب القواعد المعروفة لديه.
-المعلم: في أي قسم يمكن أن نضع اسم الفاعل؟
-المتعلم: في قسم "الأسماء".
وهكذا توصّل المتعلم في هذا الحوار إلى نوعية الفاعل، ليس عن طريق التلقين ولا المناقشة ولا في مخزونه المعرفي السابق، بل أنّ هذا المسمى النحوي ( الفاعل) حمل في ذاته ماهيته على أنّه اسم، وقد طبقنا في هذا الحوار قواعد تداولية منها:
-الكمية: إذا كان إسهام طرفي التداول (المعلم/المتعلم) لم يتعدّ القدر الكافي من الكلام دون زيادة أو نقصان.
-النوعية: حينما يصل المتعلم إلى أنّ هذا المسمى النحوي (الفاعل) يُصنَّفه ضمن الأسماء، فإنّ هذا الكلام لا يكون اعتباطيا دون تبرير، فالمتعلم يمرّ إلى التحليل مباشرة دون سؤال من المعلم، حيث يذكر سبب تصنيف اسم الفاعل ضمن الأسماء (الـ)التعريف والتصريف...وما إلى ذلك من صفات الأسماء.
-الهيئة: أي يكون الكلام موجزا ومنتظما وواضحا بعيدا عن اللبس والغموض، والتلاعب بالألفاظ. فلا ينطق المعلم من الكلمات إلاّ ما يخدم موضوعه. وهذه الخطاطة توضح ذلك:
الخطاطة رقم 05
ونلحظ ههنا تمكن بعض القواعد السلوكية من ضمان المحادثة وربط الموضوع بمبدأ التعاون، الذي يندرج ضمن مبادئ التواصل. لذا نرى أنّه من الممكن "تعميم اقتراح منهجية مثلى لبناء درس لغوي يتمحور حول التواصل، في وضعيات مختلفة، وحتى تلبي حاجات اللغة المكتوبة، كما في اللغة المنطوقة" لذا كان لزاما على منظّري التربية البحث في المنهج اللساني التداولي الذي هو في أصله منهج تعليمي، إذ إنّ التواصل هو بؤرة هذا البحث، بينما درس "الفاعل" هو بؤرة التواصل.
ولنلاحظ كيف يكون درس "الفاعل" هو بؤرة التواصل:
درس (الفاعل) ــــــــــــــــ بؤرة التواصل
عناصر الدرس ـــــــــــــــــ عناصر التواصل
أطراف التواصل: المعلم (طرف التواصل الأول)+المتعلّم (طرف التواصل الثاني)
تصنيفه تصنيفه
إعرابه الفاعل إعرابه
دلالته بؤرة دلالته
ا الأداء التواصل
عمله عمله
الخطاطة رقم 05
دأبت المدرسة الجزائرية منذ الاستقلال على اعتماد منهج تعليمي معياري موحّد لتدريس جميع المواد من رياضيات وعلوم تجريبية واجتماعيات ولغات وغيرها. لكنّنا في هذا المضمار نشير إلى منهج لساني تداولي، وننبّه إلى فائدته في تعليم اللغات عامة بما فيها اللغة العربية خاصة قصد تحقيق نتائج على مستويات متعددة (المدركات والمكتسبات، وإسهام المتعلم، واستغلال عامل الوقت، والتقويم العام.) ذلك لأنّ تطبيق مثل هذا المنهج قي تعليمية اللغات من شأنه أن يجعل المتعلم في جو لغوي وأدبي وتواصلي مع المعلم. فيكون التقويم حينئذ للغة باللغة. ممّا يتقاطع مع دعوة دوسوسير (F De Saussure ) إلى "أنّ اللغة تدرس لذاتها وبذاتها" لذا كان لابدّ من البحث عن منهج تعليمي لساني يحقّق مقاربة جديدة خاصة بتعليمية اللغات دون سواها.
وقد وجدنا في المقاربة التداولية ما يمكن أن ينفعنا في ذلك، يكفي أنّها تبحث في آليات التواصل لتخدم التعليم بوصفه عملية تواصلية بالدرجة الأولى تنهض على ثلاثة ثنائيات مرتبة على التوالي:
- (تواصل، تعليم)
- (إقناع، مستند على استراتيجيات الحِجاج من روابط وعوامل وسلالم)
- (اقتناع، تعلّم).
كما أنّها تستغلّ مبادئها من مثل: الكمية (استعمال القدر الكافي من الكلام للإفهام والفهم)، والنوعية (تقديم الحُجة والدليل من طرف المعلم كمُفهِم والمتعلّم كفاهم)، والهيئة (كلام منتظم واضح مع حوامل خارجية كالحركات والإشارات). ولا تغفل تعليمية اللغة وفق المقاربة التداولية الإفادة من نظرية الأفعال الكلامية. فإذا أدى المعلم دور المرسل والمتعلم دور المرسل إليه، يكون الفعل التعليمي فعلا تقريريا. أمّا في حالة تبادل الأدوار، فيصبح المتعلّم مرسلا والمعلم مرسلا إليه، يكون الفعل التعليمي فعلا إنجازيا.
وكلّ من الفعلين التقريري والإنجازي يعدّ من الوظائف التداولية للخطاب التي تتمثّل "مهمتها في التأشير إلى الوضع الإخباري الذي تتخذه حدود المحمول داخل العبارة، بحسب حمولتها المعلوماتية" ففي تصنيف "الفاعل"، الفعل التقريري: ذكر المعلم عنوان الدرس (الفاعل)، والفعل الإنجازي: قدرة المتعلم على تصنيفه بذكر تسميته، إذ أنّه يحمل اسمه في مسماه.
ولأنّ نشاط تعليمية الدرس اللغوي في المدرسة الجزائرية حدّده منهاج اللغة العربية بـ"ساعة واحدة"، فلابدّ من تطبيق مبدأ آخر من مبادئ التداولية هو "مبدأ الاقتضاء Présupposition ". ذلك أنّ المعلم بعدّه مرسلا يستبعد في خطابه التعليمي كلّ التعابير التي يمكن أن يتوّصل إليها المتعلم بوصفه مرسل إليه من خلال كلام سابق. فإذا قال: "زار الملك السعودي بلادنا أمس"، يكون الاقتضاء أنّ دولة السعودية مملكة. وهو اقتضاء لم يذكره المعلم إنّما أدركه المتعلم بمشاركته في عملية تأويل الخطاب التعليمي، إضافة إلى أنّ المعلم يسعى إلى بلوغ درجة الإفهام الكلّي من خلال أمثلة غير لغوية. وبهذا الطرح فإنّه عندما يقدّم المعلم عنوان درسه "الفاعل" مثلاً، ينبري المتعلم إلى طرح تساؤلات ذهنية سرعان ما تتحوّل إلى مقتضيات يتوصل من خلالها المتعلم إلى ماهيات الأشياء. وهذا يستوجب دربة ومرانا على القراءة والتلقي والتأويل، بأن يشرع المتعلم في طرح الأسئلة المتعلقة بالعنصر المراد دراسته، ولا يبقى متلقيا سلبيا، ولا يضيّع وقته في محاولة العثور على الإجابة الصحيحة، ولا يبحث في مكتسباته السابقة، بل يركّز كلّ التركيز على الدرس المقدّم. وبذلك يمكن له أن يحصّل المعلومات في أوجز وقت ممكن. فبمجرد ذكر المعلم عنوان الدرس "الفاعل"، تتبادر إلى ذهن المتعلم خصائصه (نوعه: اسم، إرابه: مرفوع، عمله: عامل ومعمول، دلالته: على من قام بالفعل....)
خاتمــة
وبعد هذا الاشتغال على موضوع يندرج ضمن الآفاق المستقبلية للتعليمية عامّة، وإمكانية تطبيق المقاربة التداولية في حقل تعليمية اللغة العربية خاصة، وبعد استعراضنا للدرس النحوي أنموذجا، تسنّى لنا الوقوف على جملة من النتائج منها:
-إنّ كل من بيداغوجيات: المضامين والأهداف والكفايات لها مزايا وعليها مآخذ.
فبيداغوجيا المضامين من شأنها أن تزوّد المتعلم بكم هائل من المعلومات هائلة، ولكنّها لا تحرّر تلقائيته المبدعة، بل تكبته، ولا تسمح بتقويمه تقويما أنجع.
-أمّا بيداغوجيا الأهداف فإنّها تثير المتعلم ليستجيب بمشاركته في العملية التعليمية، لكنّها لا توفر قدرا كافيا من المعرفة، كما لا تتحكّم في عامل الوقت بوصفه أساسا من أسس التدريس.
-وفي المقاربة بالكفايات يمكن توفير المعلومات وضمان مبادرة المتعلم في بناء معارفه، لكنّ ذلك غالبا ما يكون على حساب عامل الوقت.
-لذا تذهب الآفاق المستقبلية إلى استشراف المقاربة اللسانية التداولية بوصفها البديل الراهن المقترح في تعليمية اللغات، إذ إنّها توفر المعارف الهائلة في الوقت المناسب، كما تدرّب المتعلم على تعلّم اللغة في ظلّ الاستعمال والتواصل، وبإستراتيحيات دقيقة كالحِجاج الرامي إلى التأثير، المفضي إلى الإقناع والاقتناع.، وبأفعال تقريرية تارة، وإنجازية تارة أخرى على التبادل والتداول بين المعلم والمتعلم، وفق مبادئ تجمع بين الكمية والكيفية والهيئة والتعاون والاقتضاء وغيرها من قواعد اللسانيات التداولية. وإذا ساد العملية التعليمية التعلمية حضور مكثّف لمبادئ التداولية، فإنّها سرعان ما ترسخ في أذهان المتعلمين، وترقى بسلوكاتهم قولا وفعلا، لأنّ اللغة للإنسان استعمال تطبيق، أكثر ممّا هي تقعيد وتنظير.
لماذا؟ وكيف؟
تعليمية الدرس النحوي أنموذجا
بقلم: عبدالله بوقصة
نروم من خلال هذه الورقة إلى التأسيس لرؤى جديدة في إعداد الدرس اللغوي العربي في بلادنا (الجزائر)، تقوم على استثمار المقاربة التداولية في تعليمية اللغة على وجه الخصوص. إذ ما فتئ الألسنيون الغربيون والعرب على حدّ سواء يطرحون مشاريع متعدّدة، يمكن الإفادة منها في تطوير اللغة العربية ومعالجة قضايا تدريسها من منظور لساني وظيفي فعّال. فلماذا استشراف هذه المقاربة؟ وكيف يمكن استثمارها؟
جوانب من تداوليات الخطاب التعليمي
والحال إنّ التداولية من شأنها أن تفيد الدرس اللغوي في المدرسة المعاصرة من جوانب شتّى، أهمها:
- الجانب التواصلي، لأنّ عملية التعليم في أنجع سبلها، هي تواصل ناجح بين الملقي (المعلِّم) والمتلقي (المتعلم)، ينهض على تكاتف جهود كلّ من الطرفين في خلق التشويق والإعجاب والإقناع والتأثير والتثقيف.
- الجانب الكلامي، فلا بدّ للمعلّم أن يمرِّن متعلميه على التفريق بين الأفعال التقريرية، والأفعال الإنجازية في الخطاب التعليمي، المتّصل بقواعد التداولية ومبادئها على غرار(الكمية، النوعية، الهيئة) بغية نجاح الفعل التعليمي التعلمي للدرس اللغوي.
- الجانب الحِجاجي، الذي يهيمن على الخطاب التعليمي في أبسط صوره، الذي هو إدارة موضوع بين طرفين مختلفين (المعلم/المتعلم). وذلك بأسلوب حواري تربوي شائق ومركّز، يستدعي في أحيان كثيرة توظيف مجموعة من الروابط والعوامل الحجاجية. وقوام هذا الحوار "الأخذ والردّ في الكلام وطرح الحجة وبيان الرأي والرأي المضاد". لذا ينطبق على الخطاب التعليمي بمختلف مراحله التوصيف الحجاجي. إذ يرمي إلى التأثير في المتلقي وتعديل سلوكه.
- الجانب المجازي، الذي يمكن أن يندرج تحت الفعل الكلامي غير مباشر، لا تدل صيغته على ظاهره الجلي، بل على باطنه المضمر. فقولنا: البرد شديد اليوم، يمكن أن تفهم منه الظاهر أي شدّة البرد، كما يمكن أن تستنبط منه الباطن أي المطالبة بغلق النافذة مثلا. وكذلك المثال الذي يسوقه لنا جون سيرل: إنّك تدوس رجلي". يمكن أن يوظف بوصفه فعلا حقيقيا مباشرا، أو نستعمله فعلا مجازيا غير مباشر. وكلّ ذلك من شأنه أن يطغى على الخطاب التعليمي التعلمي، ويوجّهه نحو الوجهة الأجود.
وقد اقتضت منّا طبيعة الموضوع الاعتماد على المنهج التداولي خصوصا في محاولتنا التأسيس لرؤيتنا المستقبلية المتعلّقة بإمكانية تطبيق هذا المنهج في منظومتنا التربوية لترقية تعليمية اللغات، استنادا إلى التواصلية والحِجاج وأفعال الكلام وغيرها. كما لم نجد ضيرا من المراوحة بين بعض المناهج الأخرى على غرار التاريخي في معرض تأريخنا لأهم المراحل التي مرّ بها التعليم في الجزائر. وكذا الإحصائي لمّا رحنا نعدّد النتائج المحقّقة في كلّ مرحلة. والمقارن أثناء مقارنتنا بين هذه النتائج.
ونحن في هذا البحث لا ندّعي طرح مشروع تربوي جديد، بقدر ما نروم التأسيس لرؤى استشرافية متجدّدة قصد تطوير تعليمية الدرس اللغوي في مدارسنا.
تعليمية اللغة العربية بين المنهج و اللامنهج
إنّ تدريس نشاطات اللغة العربية في مختلف مراحل التعليم بالجزائر بعد الاستقلال، اتّسم بالعشوائية و التراكمية والمعيارية وفق مناهج وطرائق تربوية كلاسيكية، نحاول في هذا المقام التعريف بها، وتبيان إيجابياتها وسلبياتها. ويمكن حصر هذه الطرائق الثلاثة فيما يأتي:
1- بيداغوجيا المعارف أو المضامين ( La pédagogie des connaissances )
يوظف المعلّم في هذا المنهج التربوي كما هائلا من رصيده المعرفي في العملية التعليمية التعلمية قصد تبليغه إلى المتعلمين، على يطالبهم لاحقا بحفظه واستظهاره. والمتعلم في هذا النوع التعليمي غير مطالب بالإسهام في سير الدرس في جميع أنشطته، لأنّ المعلّم هو من يعرض المعارف، ويلقيها على تلامذته من عناوين وعناصر وقواعد وقضايا وحتى استنتاجات جزئية... وممّا يُعاب على هذه الطريقة التقليدية افتقارها إلى الأهداف التربوية ( Les objectifs pédagogiques )، "وما يمكن أن تؤديه من أدوار في الرقي بالعملية التعليمية" ، لكنّ المتأمل في الشأن التربوي أنذاك، يمكن أن يعدّ قدرة المتعلم على الحفظ والاستظهار هدفا منشودا، لأنّ "الأهداف هي تلك الغايات والمرامي الساعية إلى تحقيق إيصال و إدماج القيم المتعلِّقة بالاختبارات" . لكنّ الهدف المغيّب في هذه الطريقة هو الإجراء التربوي، والملمح النهائي العام. وقد ورثنا هذا الأنموذج التدريسي من عصور سالفة، إذ خصّه بن خلدون (ت808ه) في مقدمته بشيء من التفصيل في معرض حديثه عن طريقة التعليم، إذ قال: "اعلم أنّ تلقين العلوم للمتعلمين، إنّما يكون مفيدا، إذا كان هذا التدريج شيئا فشيئا. يلقي عليه مسائل من كلّ باب... ويقرّب له في شرحها على سبيل الإجمال... حتىّ ينتهي إلى آخر الفن... ثمّ يرجع به إلى الفن ثانية فيرفعه في التلقين، ويخرج عن الإجمال" . ممّا يوحي إلى أنّ معلّم ذلك الزمان كان ينتقل في كلامه من الإجمال إلى التفصيل حتىّ تصل معارفه إلى المتعلم الذي يتكفّل لاحقا بحفظها واستظهارها، أمّا عناصر التعليم في ظلّ بيداغوجيا المعارف هذه فهي: (المدرِّس، التلميذ، الطريقة، المواد الدراسية، نمط التواصل، الحفظ، الاستظهار)، ومن المنظِّرين التربويين من يطلق على هذه الطريقة "التلقين المطلق" المرادف للتعليم بالحفظ عن طريق المنظومات العلمية المعروفة في الحضارة الإسلامية.
ففي درس "الفاعل" على سبيل المثال، يلقن المعلّم تلامذته التعريف بـ"الفاعل"، ونوعه ودلالته، وإعرابه، وعمله، ويلخّص درسه بشكل تلقيني، من هذا القبيل: " اسم مرفوع يأتي بعد فعل مبني للمعلوم ، ويدل على من فعل الفعل . نحو : سافر الحجاج.
وبعد ذلك يأتي دور المتعلم في حفظ المادة المدروسة واستظهارها أمام معلّمه، وعلى هذا المحمل تحمل بقية أنشطة اللغة العربية على غرار البلاغة، والعَروض، وكذا الأنشطة الأدبية الأخرى كالنصوص والتعبير والمطالعة. هذا ولا يخرج المعلّم في تلقين درسه على هذا النمط الذي يمكن أن نمثّله في الخطّاطة التالية:
الخطاطة رقم 01 : بيداغوجيا المعارف
وهكذا يكون المتعلم وفق هذه الطريقة مستقبِلا متلقيا للمعرفة دون المشاركة فعليا في العملية التعليمية، فنسجّل غياب الأهداف الإجرائية والتقويم المرحلي، وكذا ندرة التقويم الذاتي Auto-évaluation بالنسبة للمتعلم، الذي يهدر وقتا طويلا في الحفظ دون الاستيعاب. كما لا يستطيع الربط بين المعرفة البعدية الجديدة ومكتسباته القبلية السابقة.
2- بيداغوجيا الأهداف La pédagogie des objectifs
في هذه الطريقة يلجأ المعلّم إلى تقسيم درسه إلى مراحل محددة، في كلّ مرحلة يقوم بإبلاغ معلومات معينة إلى المتعلم الذي من شأنه أن يشارك في التحصيل المعرفي. وبعد كلّ فترة يجري المعلّم اختبارا بسيطا خفيفا ليقف على مدى فهم واستيعاب المتعلمين وإمكانية تحقيق أهدافه. وهذا النوع من التقويم يطلق عليه منظِّرو التربية ورواد التعليمية "التقويم الجزئي أو المرحلي"، "أمّا الاختبارات البسيطة الخفيفة (أي ما يسمّى بالتطبيقات الفورية) فتسمى الأهداف الإجرائية" . والمهم في هذه الطريقة هو مشاركة المتعلم في الدرس المقدم، إذ لم يعد مجرد وعاء يُملأ بالمعارف ليستظهرها فيما بعد، "لأنّ المناقشة بوصفها طريقة تعليم هي تنظيم محكم هادف وموجّه للحوار والحديث بين الأفراد، فليست دردشة عفوية، وإنّما هي تفكيك يبنى على أسس واضحة محددة" .
ولو شئنا تصنيف هذه الطريقة تصنيفا لسانيا لأدرجناها ضمن المدرسة السلوكية باعتبارها تنهض على سؤال المعلّم وجواب المتعلم، أي المثير والاستجابة. فيصبح سؤال المعلّم مثيرا للمتعلم الذي سرعان ما يستجيب بإجابته. وبعد التقويم المرحلي وتحقيق الهدف الإجرائي، يصير استيعاب المتعلم مثيرا للمعلّم لينطلق إلى المرحلة الموالية من الدرس، وهكذا دواليك إلى نهايته.
فلو كان المعلّم بصدد تدريس "البدل" على سبيل المثال، نجده ينأى قدر المستطاع عن تلقين المتعلمين التعريف المباشر، بل لا يتوانى في عرض جملة ورد فيها بدل، نحو: (الفاروق عمر أعدل الناس)، ثمّ يتوجّه بأسئلة دقيقة إلى متعلميه: ماذا يحدث لو حذفنا لفظ (الفاروق)؟ هل يختّل المعنى؟؟ فماذا نعدّ إذن لفظ (عمر) بالنسبة لفظ (الفاروق)؟ من ههنا يستخلص المعلّم عنوان درسه "البدل"، ثمّ ينطلق في التعريف بالبدل، وطبيعته، وإعرابه، وعمله، وذلك وفق طريقة السؤال والجواب سالفة الذكر.
ويمكن تمثيل خطوات هذا المنهج التعليمي في الخطاطة التالية:
الخطاطة رقم 02 : بيداغوجيا الأهداف
ففي هذا المنهج التعليمي يسهم المتعلم في العملية التعليمية إسهانما فعّالا، ولكنّه يفتقر إلى التقويم النهائي الشامل، إذ تقويمها يكون جزئيا لا أكثر.. وحتىّ وإن أجرى المعلّم على متعلميه تطبيقا شاملا في نهاية الدرس. فإنّ ذلك لا يحقّق النتائج المرجوة، لأنّ التطبيقات عادةً لا تشمل كلّ جزئيات الدرس اللغوي والأدبي.
وممّا يُؤاخذ على هذه الطريقة أيضا انتظار المعلّم إجابات المتعلمين، الذي غالبا ما يكون افتراضيا. فالمعلّم حين يصوغ أسئلته يفترض إجابات محددة مسبقا، وبناءً عليها يبني درسه. فلو جاءت إجابات المتعلمين لا تتماشى مع ما يفترضه المعلّم، فلا يستطيع تكملة درسه، أو يضطر إلى التلقين المباشر، ويهدر الوقت الذي يعدّ عنصرا مهما في عملية التعليم.
3- المقاربة بالكفايات L’approche par compétence
يستغلّ المعلّم في ضوء هذه المقاربة كلّ المدارك والمعارف التي يمتلكها المتمدرس، ليحقّق إدماج ذلك المتعلم، ليس بمشاركته في أطوار الدرس فحسب، بل بما اكتسبه من معارف قبلية، وما يتمتع به من كفايات مسبقة في العملية التعليمية. بهذا يعكف المعلّم في بناء مناهجه على خبرات فردية مسبقة لتلاميذه، في ظلّ إدماج العناصر المتعددة المترابطة والمتآلفة كي تصير وظيفية. ويطلق على هذه العملية في سياقها التربوي المحض بيداغوجية الإدماج La pédagogie d’intégration. وهي بيداغوجية مضادة إلى أي نوع تعليمي كمي تراكمي.
وينصرف الإدماج في أبسط أحواله إلى "توظيف المتعلم مختلف مكتسباته بشكل متّصل في وضعيات ذات دلالة، أي التفاعل بين مجموعة من العناصر بطريقة منسجمة" ، أو بالأحرى هو الربط بين موضوعات دراسية مختلفة في مجال معينة...، أو توزيع مرن ومتنوع للمواد في فصل دراسي ما، أو مدرسة ما بكيفية تراعي قدرات وحاجات المتعلمين. فحينما ينبري المعلّم إلى تعليم درس ما، يجب عليه أن يبحث أولاً في مخزون المتعلمين المعرفي عمّا يعرفونه عن حيثيات ذلك الدرس، وعناصره. ثمّ يشرع في الدرس موجِّها لنشاط المتعلمين الفعّال، ومهذِّبا لإسهاماتهم المتنوعة عبر أطوار الدرس.
ويمكن أن نمثّل لهذه الطريقة بالخطاطة التالية:
الخطاطة رقم 03 : بيداغوجيا المقاربة بالكفايات
وفي مثل هذه الطرائق، ينبغي للمعلّم أن يزوّد المتعلمين بمعارف، زيادةً على الكفايات والخبرات المسبقة، لأنّ هذه القدرات والمكتسبات القبلية فردية ولا يمكن لها أن تبني منهاجا دراسيا عامّا. كما أنّ المعلّم قد يهدر وقتا ثمينا في اكتشاف الخبرات الفردية. وإدراكيا يعدّ هذا الوقت وقتا ضائعا من شأنه أن يعرقل إنهاء المقرّر الدراسي، ممّا يحتّم على هذا المعلّم العودة إلى الطرائق الكلاسيكية مثل: تلقينية المعارف، وإجرائية الأهداف.
وهكذا فإنّ المتعلم لا يدمج في العملية التعليمية إدماجا ناجحا وجادا. ثمّ ينبغي أن نقرّ أنّ هذه الوضعية الإدماجية والوضعيات المشكلة التي يطرحها المعلم على تلاميذه قصد بناء المعرفة (فكريا،ولغويا، وفنيا)، لا يمكن الاعتداد بها بوصفها منهجا موحّدا في تعليمية اللغة العربية. ذلك لأنّ المدركات القبلية التي ينهض عليها هذا النوع من التعليم أمر مختلف من متعلم إلى آخر، ومن منطقة إلى أخرى، بذلك نستشفّ أنّها لا تحقّق النتائج المرجوة ذاتها في المناطق المتعددة، ولا تمنح تكافؤ فرض التعلم بهذا الفصل الدراسي أو ذاك.
أبعاد المقاربة التداولية في النهوض بتعليمية اللغة العربية
المعروف أن التداولية تداوليات، لما تشتمل عليه من نظريات لغوية كأفعال الكلام، والقصدية، والسياق والحجاج وغيرها، وتبعا لذلك تشعبت تعاريفها التي لا يتّسع المقام لحصرها في هذه العجالة. ولعلّ من أشهر التعريفات الشائعة بالتداولية كونها "دراسة اللغة في الاستعمال والتواصل" ، كما أنّها تعدّ منهجا يصلح لقراءة النصوص، وإجراء المقاربات التي من شأنها أن توصل القارئ إلى فهم فعلي أعمق للنص وتعالقاته وقيمه. غير أنّ علامة الاستفهام الكبرى تُطرَح سبب الاستناد إلى اللسانيات المعاصرة في منظومتنا التربوية، وكيفية اعتماد المقاربة التداولية في التعليمية عامة، وفي تعليمية اللغة العربية خاصة. وههنا نؤكّد أنّ التداولية تتعلّق بتحليل الخطاب ولسانيات النص، والخطاب غالبا ما يرتكز على ثنائية (ملقٍ/ متلقٍ) أو (مرسِل/ مرسَل إليه)، شأنه شأن العملية التعليمية التي تقوم أيضا على ثنائية (المعلم كمرسل/ المتعلٍّم كمرسل إليه) على التوالي والتداول والتبادل.
ويمكن من هذا المنظور أن يكون المعلم ملقيا، والمتعلم متلقيا، وهو الأمر المعتاد. لكن قد يتبادل الطرفان الأدوار، فيصير المتعلم ملقيا والمعلم متلقيا. ويتجسّد ذلك في الخطاطتين التاليتين:
الرســــالة
النشــــــــــاط المقــــــــــــدم
أ ب ج د
الخطاطة رقم 04 : بيداغوجية المقاربة التداولية « أ »
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــ
الرسالة ( الخطاب التعليمي )
النشــــــــــاط المقــــــــــــدم
بناء فكري بناء لغوي بناء فني وضعية إدماجية
الخطاطة رقم 04 : بيداغوجية المقاربة التداولية « ب »
ففي الخطاطة رقم 04 "أ" تقوم الرسالة بين طرفي الخطاب بوصف المعلم ملقيا والمتعلم متلقيا، وهو الشكل الذي يطغى على الخطاب التعليمي. ولكن يمكن أن يتبادل الطرفان الأدوار، فيصبح المتعلم ملقيا والمعلم متلقيا كما في الخطاطة رقم 04 "ب"، وهذا حين يكون المتعلم في وضعية إجابة أو سؤال، أو يكون المعلم في تقويم نهائي لدرسه. هذا عن عملية التواصل القائمة على (الإلقاء والتلقي)، والتي تعدّ أساسَ المقاربة التداولية.
كما يمكن استعارة مبادئ أخرى من الدرس التداولي لاستغلالها في تعليمية اللغة على غرار ثلاثية (الكمية /الكيفية/ الهيئة) المساعدة على ربح الوقت بوصفه عنصرا أساسا في عملية التعليم. ويحسُن أيضا استعمال أفعال الكلام (أفعال تقريرية/ أفعال إنجازية) خاصة في دروس البلاغة وأنشطة النصوص وحصص المطالعة، فيصبح المتعلم متحكِّما في تمييز خطاب المعلم، فهل المعلم يُستجوَب ويُسأَل فيحتاج إلى إجابات، أو يقرِّر حقائق؟ وهذا يوفر الوقت المهم جدا في العملية التعليمية.
تعليمية الدرس اللغوي وفق المقاربة التداولية
لا غرو أنّ المقاربة التداولية قد حشرت أنفها، وفرضت نفسها في جميع الحقول المعرفية إلى درجة أنّ بعضهم عدّها "سلة للمهملات للسانيات الحديثة" ، كما هيمنت بوصفها منهجا لقراءة النصوص الأدبية وتحليل الخطابات التواصلية بين الملقي والمتلقي كما أنّها "قد أحدثت الأثر الأكبر في التعليمية La didactique، سواء تعلّق الأمر بتعليمية اللغة الأم أو اللغات الأجنبية" . وذلك باعتبار التداولية تبحث في كيفية تأويل الخطاب وكذا في علاقة الملقي بالمتلقي، وتنقِّب عن العلائق التي تربط العلامات اللغوية بمستخدميها، أي الأفعال الكلامية، التواصلية (المتكلم/السامع)، وعملية التعليم تقوم على التواصل بين ملقٍ (المعلم) ومتلقٍ (المتعلم)، وتُستغَلُّ المواقف الكلامية، ممّا يجعلنا نفيد من التداولية بوصفها مبحثا لسانيا مهما في تعليمية اللغة العربية مثلا.
أ- الدرس النحوي في ضوء المقاربة التداولية أنموذجا
يُدرَس النحو -عادةً - على أنّه بنية لغوية مستقلّة، وينبغي أن يدرك المتعلّم هذه البنية وقواعدها إدراكا سالما، سواء كان ذلك على سبيل بيداغوجيا المعارف وتلقينيتها، أو بيداغوجيا الأهداف إجرائيتها، أو المقاربة بالكفايات واستكشاف خبراتها، لكنّ التداولية لا تبالي بتلقين القاعدة النحوية تلقينا صارما، "فالأمر لم يعد متعلّقا بتلقين بنية نحوية معينة، بل إنّه مرتبط بتوفير وسائط لسانية تتيح للمتعلّم الاختيار بين مختلف الأقوال وذلك حسب المقام" .
لنلاحظ كيفية تقديم نشاط النحو حسب المنهج التداولي:
الدرس المقترح: الفاعل
تصنيفه: اسم
إعرابه: مرفوع
دلالته: من قام بالفعل
وظيفته: عامل+معمول (كيفية عمله)
الخلاصة: عملية تركيب ما سبق من عناصر الدرس.
يشرع المعلم في تقديم درسه حسب قواعد التداولية وذلك كالتالي:
-المعلم: إلى كم قسم تنقسم الكلمة العربية؟
-المتعلم: إلى ثلاثة أقسام، اسم وفعل وحرف.
-المعلم: ما صفات كلّ منها؟
-المتعلم: يذكر صفات كلّ قسم حسب القواعد المعروفة لديه.
-المعلم: في أي قسم يمكن أن نضع اسم الفاعل؟
-المتعلم: في قسم "الأسماء".
وهكذا توصّل المتعلم في هذا الحوار إلى نوعية الفاعل، ليس عن طريق التلقين ولا المناقشة ولا في مخزونه المعرفي السابق، بل أنّ هذا المسمى النحوي ( الفاعل) حمل في ذاته ماهيته على أنّه اسم، وقد طبقنا في هذا الحوار قواعد تداولية منها:
-الكمية: إذا كان إسهام طرفي التداول (المعلم/المتعلم) لم يتعدّ القدر الكافي من الكلام دون زيادة أو نقصان.
-النوعية: حينما يصل المتعلم إلى أنّ هذا المسمى النحوي (الفاعل) يُصنَّفه ضمن الأسماء، فإنّ هذا الكلام لا يكون اعتباطيا دون تبرير، فالمتعلم يمرّ إلى التحليل مباشرة دون سؤال من المعلم، حيث يذكر سبب تصنيف اسم الفاعل ضمن الأسماء (الـ)التعريف والتصريف...وما إلى ذلك من صفات الأسماء.
-الهيئة: أي يكون الكلام موجزا ومنتظما وواضحا بعيدا عن اللبس والغموض، والتلاعب بالألفاظ. فلا ينطق المعلم من الكلمات إلاّ ما يخدم موضوعه. وهذه الخطاطة توضح ذلك:
الخطاطة رقم 05
ونلحظ ههنا تمكن بعض القواعد السلوكية من ضمان المحادثة وربط الموضوع بمبدأ التعاون، الذي يندرج ضمن مبادئ التواصل. لذا نرى أنّه من الممكن "تعميم اقتراح منهجية مثلى لبناء درس لغوي يتمحور حول التواصل، في وضعيات مختلفة، وحتى تلبي حاجات اللغة المكتوبة، كما في اللغة المنطوقة" لذا كان لزاما على منظّري التربية البحث في المنهج اللساني التداولي الذي هو في أصله منهج تعليمي، إذ إنّ التواصل هو بؤرة هذا البحث، بينما درس "الفاعل" هو بؤرة التواصل.
ولنلاحظ كيف يكون درس "الفاعل" هو بؤرة التواصل:
درس (الفاعل) ــــــــــــــــ بؤرة التواصل
عناصر الدرس ـــــــــــــــــ عناصر التواصل
أطراف التواصل: المعلم (طرف التواصل الأول)+المتعلّم (طرف التواصل الثاني)
تصنيفه تصنيفه
إعرابه الفاعل إعرابه
دلالته بؤرة دلالته
ا الأداء التواصل
عمله عمله
الخطاطة رقم 05
دأبت المدرسة الجزائرية منذ الاستقلال على اعتماد منهج تعليمي معياري موحّد لتدريس جميع المواد من رياضيات وعلوم تجريبية واجتماعيات ولغات وغيرها. لكنّنا في هذا المضمار نشير إلى منهج لساني تداولي، وننبّه إلى فائدته في تعليم اللغات عامة بما فيها اللغة العربية خاصة قصد تحقيق نتائج على مستويات متعددة (المدركات والمكتسبات، وإسهام المتعلم، واستغلال عامل الوقت، والتقويم العام.) ذلك لأنّ تطبيق مثل هذا المنهج قي تعليمية اللغات من شأنه أن يجعل المتعلم في جو لغوي وأدبي وتواصلي مع المعلم. فيكون التقويم حينئذ للغة باللغة. ممّا يتقاطع مع دعوة دوسوسير (F De Saussure ) إلى "أنّ اللغة تدرس لذاتها وبذاتها" لذا كان لابدّ من البحث عن منهج تعليمي لساني يحقّق مقاربة جديدة خاصة بتعليمية اللغات دون سواها.
وقد وجدنا في المقاربة التداولية ما يمكن أن ينفعنا في ذلك، يكفي أنّها تبحث في آليات التواصل لتخدم التعليم بوصفه عملية تواصلية بالدرجة الأولى تنهض على ثلاثة ثنائيات مرتبة على التوالي:
- (تواصل، تعليم)
- (إقناع، مستند على استراتيجيات الحِجاج من روابط وعوامل وسلالم)
- (اقتناع، تعلّم).
كما أنّها تستغلّ مبادئها من مثل: الكمية (استعمال القدر الكافي من الكلام للإفهام والفهم)، والنوعية (تقديم الحُجة والدليل من طرف المعلم كمُفهِم والمتعلّم كفاهم)، والهيئة (كلام منتظم واضح مع حوامل خارجية كالحركات والإشارات). ولا تغفل تعليمية اللغة وفق المقاربة التداولية الإفادة من نظرية الأفعال الكلامية. فإذا أدى المعلم دور المرسل والمتعلم دور المرسل إليه، يكون الفعل التعليمي فعلا تقريريا. أمّا في حالة تبادل الأدوار، فيصبح المتعلّم مرسلا والمعلم مرسلا إليه، يكون الفعل التعليمي فعلا إنجازيا.
وكلّ من الفعلين التقريري والإنجازي يعدّ من الوظائف التداولية للخطاب التي تتمثّل "مهمتها في التأشير إلى الوضع الإخباري الذي تتخذه حدود المحمول داخل العبارة، بحسب حمولتها المعلوماتية" ففي تصنيف "الفاعل"، الفعل التقريري: ذكر المعلم عنوان الدرس (الفاعل)، والفعل الإنجازي: قدرة المتعلم على تصنيفه بذكر تسميته، إذ أنّه يحمل اسمه في مسماه.
ولأنّ نشاط تعليمية الدرس اللغوي في المدرسة الجزائرية حدّده منهاج اللغة العربية بـ"ساعة واحدة"، فلابدّ من تطبيق مبدأ آخر من مبادئ التداولية هو "مبدأ الاقتضاء Présupposition ". ذلك أنّ المعلم بعدّه مرسلا يستبعد في خطابه التعليمي كلّ التعابير التي يمكن أن يتوّصل إليها المتعلم بوصفه مرسل إليه من خلال كلام سابق. فإذا قال: "زار الملك السعودي بلادنا أمس"، يكون الاقتضاء أنّ دولة السعودية مملكة. وهو اقتضاء لم يذكره المعلم إنّما أدركه المتعلم بمشاركته في عملية تأويل الخطاب التعليمي، إضافة إلى أنّ المعلم يسعى إلى بلوغ درجة الإفهام الكلّي من خلال أمثلة غير لغوية. وبهذا الطرح فإنّه عندما يقدّم المعلم عنوان درسه "الفاعل" مثلاً، ينبري المتعلم إلى طرح تساؤلات ذهنية سرعان ما تتحوّل إلى مقتضيات يتوصل من خلالها المتعلم إلى ماهيات الأشياء. وهذا يستوجب دربة ومرانا على القراءة والتلقي والتأويل، بأن يشرع المتعلم في طرح الأسئلة المتعلقة بالعنصر المراد دراسته، ولا يبقى متلقيا سلبيا، ولا يضيّع وقته في محاولة العثور على الإجابة الصحيحة، ولا يبحث في مكتسباته السابقة، بل يركّز كلّ التركيز على الدرس المقدّم. وبذلك يمكن له أن يحصّل المعلومات في أوجز وقت ممكن. فبمجرد ذكر المعلم عنوان الدرس "الفاعل"، تتبادر إلى ذهن المتعلم خصائصه (نوعه: اسم، إرابه: مرفوع، عمله: عامل ومعمول، دلالته: على من قام بالفعل....)
خاتمــة
وبعد هذا الاشتغال على موضوع يندرج ضمن الآفاق المستقبلية للتعليمية عامّة، وإمكانية تطبيق المقاربة التداولية في حقل تعليمية اللغة العربية خاصة، وبعد استعراضنا للدرس النحوي أنموذجا، تسنّى لنا الوقوف على جملة من النتائج منها:
-إنّ كل من بيداغوجيات: المضامين والأهداف والكفايات لها مزايا وعليها مآخذ.
فبيداغوجيا المضامين من شأنها أن تزوّد المتعلم بكم هائل من المعلومات هائلة، ولكنّها لا تحرّر تلقائيته المبدعة، بل تكبته، ولا تسمح بتقويمه تقويما أنجع.
-أمّا بيداغوجيا الأهداف فإنّها تثير المتعلم ليستجيب بمشاركته في العملية التعليمية، لكنّها لا توفر قدرا كافيا من المعرفة، كما لا تتحكّم في عامل الوقت بوصفه أساسا من أسس التدريس.
-وفي المقاربة بالكفايات يمكن توفير المعلومات وضمان مبادرة المتعلم في بناء معارفه، لكنّ ذلك غالبا ما يكون على حساب عامل الوقت.
-لذا تذهب الآفاق المستقبلية إلى استشراف المقاربة اللسانية التداولية بوصفها البديل الراهن المقترح في تعليمية اللغات، إذ إنّها توفر المعارف الهائلة في الوقت المناسب، كما تدرّب المتعلم على تعلّم اللغة في ظلّ الاستعمال والتواصل، وبإستراتيحيات دقيقة كالحِجاج الرامي إلى التأثير، المفضي إلى الإقناع والاقتناع.، وبأفعال تقريرية تارة، وإنجازية تارة أخرى على التبادل والتداول بين المعلم والمتعلم، وفق مبادئ تجمع بين الكمية والكيفية والهيئة والتعاون والاقتضاء وغيرها من قواعد اللسانيات التداولية. وإذا ساد العملية التعليمية التعلمية حضور مكثّف لمبادئ التداولية، فإنّها سرعان ما ترسخ في أذهان المتعلمين، وترقى بسلوكاتهم قولا وفعلا، لأنّ اللغة للإنسان استعمال تطبيق، أكثر ممّا هي تقعيد وتنظير.