تسجيل الدخول

مشاهدة النسخة كاملة : علم التاريخ عند ابن خدون


انتصار عربي
2010-10-06, 17:51
السلام عليكم : جمعت لكم هذه الاراء في فكر ابن خلدون التاريخي إليكموها :
تطور المنهج العلمي في الكتابات التاريخية(ابن خلدون)تطور المنهج العلمي في الكتابات التاريخيةعند العرب
تمهيد:
قبل أن يصبح التاريخ "علماً" له نظرياته وأسسه الفلسفية وقوانينه وتحقيقاته وتعليلاته، لدى ابن خلدون ومن جاء بعده، كانت الكتابات التاريخية عند العرب تسير وفق أنماط متصاعدة تتفاوت في عمقها وسرعتها وتأثرها بالاقليم والعصر.
ولا بد لنا من إلمامة بتطور تلك الكتابات التاريخية ورصد اتجاهاتها، وتمحيص ما يتصل بها من سرد حوادث، وتيارات سياسية واجتماعية وشعوبية.
ويمكن أن نتوقف عند القرن الثاني للهجرة، ولدى بعض رواة التاريخ والمغازي والسيرة، من أمثال "وهب بن منبه" (1) المتوفى 411هـ ـ732م. وعروة بن الزبير (ت 94هـ ـ 712م(2) . وشرحبيل بن سعد (ت 123هـ ـ 740م) وعاصم بن عمر بن قتادة (ت 120هـ ـ 737م).
وقد كانت كتابات هؤلاء في المغازي تمهيداً هيأ الأرضية اللازمة لمن جاء بعدهم كالزهري والواقدي وابن اسحق.
فالزهري (ت 124هـ ـ 741م) هو الذي توسع في جمع الروايات وتمحيصها واستخدام عبارة "السيرة" بدلاً من المغازي. حتى إذا وصلنا إلى ابن اسحق (ت 151هـ ـ 761م) نجده يمضي شوطاً في الجمع بين الروايات التاريخية والأحاديث الشريفة والشعر والقصص الشعبي. وقد وصلتنا السيرة التي كتبها ابن اسحق منقحة على يد ابن هشام (ت 218هـ ـ 813م) ومن أعلام تلك المرحلة "الواقدي" (ت 207هـ ) في كتابه المغازي وكتبه الأخرى.
وتبرز لدينا أسماء مثل أبي مخنف(3) وعوانة بن الحكم(4) ونصر بن مزاحم(5) ، وذلك في سياق رواية الأخبار، ولعل أبرز هؤلاء الإخباريين (المدائني 225هـ)(6)، (وابن الكلبي 204هـ) (7) ، والهيثم بن عدي (206هـ)(8) وأبو عبيدة(9) (211 هـ).
وقبل أن نغادر القرن الثالث للهجرة يقف أمامنا "البلاذري ت 279هـ"(10) صاحب /فتوح البلدان/ و/أنساب الأشراف/. وهو وإن كان يعتمد على أخبار من سلفه، إلا أنه ينتقد تلك الأخبار ويفحصها وينتقي منها. وكذلك يفعل معاصره اليعقوبي(11) (ت 284هـ) في كتاب "البلدان" الذي يعتبر أول كتاب في الجغرافية التاريخية. ثم ابن قتيبة (ت 270هـ) (12) في كتاب "المعارف" والدينوري (ت 288هـ) في كتاب "الأخبار الطوال".
حتى إذا دلفنا إلى بداية القرن الرابع الهجري نجد (الطبري ت 310هـ) الذي تكتمل لديه مرحلة نضوج البدايات والتكوين للكتابة التاريخية. وقد اعتمد الطبري على ثقافته الواسعة ومنهجه كمحدث وفقيه يدقق في السند ويمحص الروايات.
وهكذا نجد تفاوت مدارس الكتابة التاريخية في مراحلها عبر القرون الثلاثة، وعبر الأماكن المختلفة في المدينة والكوفة والبصرة وبقية الأمصار وصولاً إلى القرن الرابع الهجري الذي نتوقف معه عند مسكويه(13) وتطويره للمنهج التاريخي ثم عند ابن الخطيب وابن خلدون والمقريزي كأمثلة لأبرز المؤرخين أصحاب المنهج الواضح في الكتابات التاريخية.
ترك أبو علي أحمد بن محمد بن يعقوب المعروف بمسكويه أكثر من أربعين كتاباً(14). أبرزها كتابه الهام "تجارب الأمم" المطبوع في طهران بتحقيق وتقديم أبي القاسم إمامي. وقد عاش مسكويه قرناً كاملاً (320-421هـ) واعتمد على الطبري بصورة واسعة، كما اعتمد على مشاهداته وتجاربه في حياته الطويلة، واطلاعه على علوم العصر من فلسفة وأديان وحديث ورواية.
ويمثل مسكويه خطوة متقدمة في الكتابة التاريخية الموضوعية، فإنه على الرغم من معاصرة السلاطين والوزراء البويهيين لا نجده يمدحهم أو يتملقهم في كتاباته. ولم يظهر ميلاً إلى تيار أو ملك أو اتجاه، بل حاول أن يرصد عصره ويحلل أحداثه بعقلانية، إلى درجة أنه لقّب بالمعلم الثالث نظراً لتمكنه من الفكر الفلسفي والإفادة منه في الكتابة التاريخية.
ويمكن تلخيص ملامح المنهج التاريخي لدى مسكويه على النحو التالي:
ـ التاريخ أحداث يمكن أن يستفيد منها الإنسان في أمور تتكرر ، أو يمكن أن تحدث مستقبلاً .
ـ أمور الدنيا متشابهة في الإطار العام وعلى الإنسان تجربتها .
ـ مقارنة الماضي بالحاضر للإفادة من خبرات الماضي .
ـ ضرورة غربلة الأخبار من الأساطير والأسمار والمعجزات .
ـ محاولة تفسير أحداث التاريخ وفق منهج علمي تجريبي قائم على الحذر في تلقي الروايات ، والدقة في تحليلها .
ـ استفاد مسكويه من فكره الفلسفي في تفسير التاريخ . فهو بذلك أول من بدأ فلسفة التاريخ .
ـ مسكويه موضوعي لا ينطلق من تصور مسبق . وحيادي في قراءة مصادره والإفادة منها .
ـ يعتبر كتابه : " تجارب الأمم " من أهم المراجع التاريخية لأنه سجل حي لأحداث القرن الرابع الهجري. وقد سجل مسكويه تلك الأحداث من أصحابها وقام بتفسيرها على أساس الاستدلال الفلسفي الواعي، والنظرة العملية، والذهن البنّاء المنظم، والنظرة المحايدة.
ونلمح أثر هذا المنهج بصور مختلفة لدى المؤرخين المسلمين الذين أتوا في العصور اللاحقة مثل رشيد الدين فضل الله (ت 718هـ) وهو صاحب كتاب "جامع التواريخ" وابن خلدون والسخاوي والمقريزي وبعض مؤرخي الأندلس ممن سوف نتوقف عندهم.
وقد اعتمدت نشأة علم التاريخ في الأندلس على تأثيرات مشرقية، وتبرز لدينا في الأندلس أسماء هامة تراكمت لديها خبرات أخذت تتبلور مع الزمن. ومن هذه الأسماء عبد الملك بن حبيب وأبناء الرازي، وابن القوطية وعريب بن سعد. ثم تغدو الكتابة التاريخية أكثر نضوجاً وأرسخ قدماً لدى أبي مروان بن حيان صاحب المقتبس. وابن حزم العلامة الموسوعي صاحب الجمهرة والفصل، ثم ابن صاحب الصلاة، وبني سعيد في كتابيهم الموسوعيين "المُغرب" و"المُشرق"، وسواهم. (15)
وحينما نصل إلى القرن الثامن الهجري" الرابع عشر الميلادي"تكون الكتابة في علم التاريخ قد بلغت أوجها لدى ابن الخطيب العلامة الموسوعي، وابن خلدون صاحب فلسفة التاريخ وعلم الاجتماع.
* * *
ونتوقف قليلاً عند المنهج التاريخي لدى لسان ابن الخطيب في كتبه التاريخية المختلفة، وبخاصة الإحاطة في أخبار غرناطة (16) واللمحة البدرية(17) ونفاضة الجراب (18).
وتبدو أبرز عناصر منهجه التاريخي في الملاحظات التالية:
-التاريخ فـنٌ غايته نقل الأخبار.
2-الفن التاريخي مأرب البشر ووسيلة ......... النشر، يعرفون به أنسابهم في ذلك شرعاً وطبعاً ما فيه، ويكتسبون به عقل التجربة في حال السكون والرفيه، ويرى العاقل من تصريف قدرة الله تعالى ما يشرح صدره ويشفيه...." (19)
وهكذا فالتاريخ معرفة الماضي للإفادة منها في رؤية الحاضر.
3-التاريخ لدى ابن الخطيب ليس مجرد نقل للأحداث السياسية وسيَر الملوك والسلاطين، بل هو تصوير للحياة الاجتماعية والاقتصادية والعمرانية بما تشمله هذه الحياة من رقي وازدهار، أو تخلف وتدهور. وهو في ذلك يتابع التفاصيل الدقيقة للموضوع الذي يتحدث عنه.
يتحدث في الرحلة الأندلسية" خطرة الطيف" عن مشهد استقبال السلطان من قبل سكان إحدى المناطق في وادي فرذش، فيقول:
"واستقبلتنا البلدة حرسها الله- نادى بأهل المدينة، موعدكم يوم الزينة، فسمحت الحجال برباتها والقلوب بحباتها، والمقاصر بحورها والمنازل بدورها، فرأينا تزاحم الكواكب بالمناكب، وتدافع البدور بالصدور، بيضاً كأسراب الحمام،...."
ثم يقول:" واختلط النساء بالرجال، والتقى أرباب الحجا بربات الجمال..ز فلم نفرق بين السلاح والعيون الملاح، ولا بين البنود حمر الخدود....
ويلاحظ هنا دقة ابن الخطيب، كما يلاحظ وصفه للحياة الاجتماعية التي يظهر فيها النساء والرجال. كما يشير في مكان آخر إلى وجود رعايا مسيحيين في مملكة غرناطة خرجوا لاستقبال السلطان وهم يتمتعون بكامل حقوقهم.
4-يركز ابن الخطيب على الوصف الجغرافي للأماكن التي يتحدث عنها ويجعل هذا الوصف مدخلاً لبحثه التاريخي. وهذا ما فعله في حديثه عن غرناطة في مقدمة كتابه"الإحاطة" وكذلك في كتابه "نفاضة الجراب" حينما يصف الأماكن التي زارها. ومن ذلك حديثه عن مدينة أغمات في كتاب "نفاضة الجراب" حيث يقول:
"ثم أتينا مدينة أغمات في بسيط سهل موطأ لا نشز فيه، ينال جميعه السقي الرغد، وسورها محمر الترب، مندمل الخندق، يخترقها واديان اثنان من ذوب الثلج، منيعة البناء، مسجدها عتيق عادي، كبير الساحة، ومئذنته لا نظير لها في معمور الأرض..." (20).
5-يحترم ابن الخطيب التسلسل الزمني بدقة وموضوعية، شان المؤرخين المحترمين، فهو يستعرض الدول ونشوءها وسقوطها استعراضاً تاريخياً دقيقاً، ولا يقرب دولة لشرفها أو مكانتها كالأدارسة مثلاً. وقد فعل سواه ذلك تقرباً لسلاطين عصرهم.
6-يدأب ابن الخطيب على ذكر مصادر معلوماته، ويحرص على ذكر المؤرخين السابقين باحترام. وقد أورد من الأسماء ما يشير إلى سعة إطلاع وعمق معرفته. فهو يذكر في مقدمة الإحاطة الكتب التي اطلع عليها كتواريخ للمدن أراد أن ينافسها في كتابه "الإحاطة" ومن ذلك على سبيل المثال: تاريخ بخارى لأبي عبد الله الفخار، وتاريخ أصبهان لصاحب الحلية، وتاريخ همذان لغنا خسرو الديلمي،.... وتاريخ الرقّة للقشيري، وتاريخ بغداد للخطيب البغدادي، وتاريخ دمشق لابن عساكر، وتاريخ الإسكندرية لوجيه الدين الشافعي، وتاريخ مكة للأزرقي... الخ.
إن ذكر هذه الأسماء دليل على سعة المعرفة، وأمانة النقل، واحترام الرأي الآخر.
7-حرص على الاستعانة بالمعلومات من مصادرها القريبة. ومن ذلك طلبه من صديقه سفير قشتالة يوسف بن وقارق معلومات عن تاريخ الممالك النصرانية: قشتالة وأراغون والبرتغال وذلك لتكون معلوماته موثقة ومستندة إلى مراجعها (21).
8-اعتماده على مشاهداته من النقوش والكتابات على العمائر والأضرحة والمنشآت المختلفة، وتوثيق تلك النقوش والكتابات والإفادة منها في مادته التاريخية.
9-أخلاقيته العالية في منهجه التاريخي، وصدقه وموضوعيته ومثال ذلك رسالته التي نصح فيها الملك القشتالي بدرو القاسي، وقد أوردها المستشرقون الأسبان كشاهد على أخلاقية ابن الخطيب. وقد أورد الحادثة المؤرخ الأسباني المعاصر دي إيالا. ووصفها المؤرخ "جاريباي" بأنها قيم أخلاقية جاءت من هذا المسلم ابن الخطيب، وهي تفوق في قيمها ما كتبه سينكا وغيره من فلاسفة الرواقيين الأقدمين(22).
10-مزج ابن الخطيب بين التاريخ والجغرافية والرحلات في إطار من النثر الفني الرشيق والبليغ. بحيث جاءت كتاباته التاريخية يغلب عليها الطابع الأدبي والسجع اللطيف.
هذه الملاحظات العشر هي التي تميز المنهج التاريخي لابن الخطيب ويمكن مقارنتها مع مؤرخين آخرين أحدهما من القرن الرابع الهجري هو مسكويه. والآخر معاصر لابن الخطيب وهو شيخ المؤرخين العرب ابن خلدون.
وتقوم عناصر المنهج التاريخي عند ابن خلدون على الملاحظات الموجزة التالية(23):
1- التاريخ علم
2- محتويات التاريخ والفكرة عنها
3- العناصر التي تجتمع لصنع التاريخ البشري
4- قوانين التاريخ
5- التاريخ علم فلسفي عند ابن خلدون(والفلسفة كل ما ليس له صفة دينية)
6- التاريخ عند ابن خلدون أخبار عن الأيام والدول والسوابق من القرون الأولى، وهو نظر وتحقيق وتعليل للكائنات ومبادئها، وعلم بكيفيات الوقائع وأسبابها ..
7- ابن خلدون يدحض الأساطير
8- ابن خلدون يضع القواعد اللازمة لمقارنة الحقيقة
9- النقد التاريخي عند ابن خلدون يبدو في:
- تبدل الأحوال بتبدل الأيام.
- وحدة النفسية الاجتماعية
- ظروف الأقاليم الجغرافية
- التاريخ الحضاري البشري
أما منهج البحث التاريخي عند ابن خلدون فيعتمد على :
- ملاحظة ظواهر الاجتماع لدى الشعوب التي أتيح له الاحتكاك بها والحياة بين أهلها.
- تعقب هذه الظواهر في تاريخ الشعوب نفسها في العصور السابقة لعصره
- تعقب أشباهها في تاريخ شعوب أخرى لم يتح الاحتكاك بها والحياة بين أهلها.
- الموازنة بين هذه الظواهر جميعاً.
- التأمل في مختلف الظواهر للوقوف على طبائعها وعناصرها الذاتية وصفاتها العرضية واستخلاص قانون تخضع له هذه الظواهر في الفكر السياسي وفلسفة التاريخ وعلم الاجتماع.
ويرى ابن خلدون في مقدمته :
1- ان دراسة التاريخ ضرورية لمعرفة أحوال الأمم وتطور هذه الأحوال بفعل العوامل السياسية والاقتصادية والاجتماعية .
2- يركز ابن خلدون على موضوع الاستبداد والبطش الذي يقوم به السلطان ضد شعبه وأثر ذلك في الشعب.
3- يشرح ابن خلدون كيف أن بعض السلاطين ينافسون رعيتهم في الكسب والتجارة . ويسخرون القوانين لخدمة مصالحهم الخاصة وتسلطهم على أموال الناس، وإطلاق يد الجند في الأموال العامة مما يرسخ الشعور بالظلم والإحساس بالحقد لدى الشعب .
4- يوضح ابن خلدون أن هذه العوامل الداخلية هي التي تؤدي إلى الخلل في أحوال الدولة أكثر من العوامل الخارجية .لأن المجتمع الذي يعاني من خلل داخلي لا يستطيع مجابهة عدو خارجي.
5- تمكن ابن خلدون من الربط الدقيق بين العوامل الاقتصادية سابقاً بذلك مفكرين أوروبيين بعدة قرون
6- استوعب ابن خلدون الإرهاصات السابقة في الفكر السياسي لدى الفارابي والماوردي والغزالي وإخوان الصفا والطرطوشي ومسكويه وسواهم. وصاغ من كل ذلك نظريته الناضجة في الفكر السياسي وفلسفة التاريخ وعلم الاجتماع.
7- يتضح من قراءة مقدمة ابن خلدون فهمه لفلسفة التاريخ من خلال ثلاث نقاط أساسية:
- الأولى : أن التاريخ علم، وليس مجرد سرد أخبار بلا تدقيق ولا تمحيص.
- الثانية : أن هذا العلم ليس منفصلاً عن العلوم الأخرى كالسياسة والاقتصاد والعمران وعلوم الدين والأدب والفن.
- الثالثة : أن هذا العلم يخضع لقوانين تنتظم بموجبها أحوال الدول من قوة وضعف، ورفعة وانحلال.
وقد طبق ابن خلدون هذه النظرية على كتابه "العبر" في سرده للأحداث والتعليق عليها وتحليل نتائجها.
8- يرى ابن خلدون أن الظلم مؤذن بخراب العمران، ويعدد أشكال هذا الظلم من اعتداء على الناس، وتضييق على حرياتهم، وسلب أموالهم، وإضعاف فرص معاشهم وتحصيل رزقهم. والعمران يفسد بفساد العوامل التي تصنعه، والفساد يؤدي إلى الخراب.
9- إن الفساد يؤدي إلى هرم الدولة وشيخوختها. والهرم من الأمراض المزمنة التي قد تكون طبيعية مع عمر الدول والأفراد.
وقد تكون طارئة بفعل تفاقم الظلم والفساد والعدوان.
10- كان ابن خلدون على قدر كبير من الموضوعية والحياد العلمي في قراءته لأحداث التاريخ وتفسيرها رغم صعوبة الحياد في عصره.
واستمراراً لمنهج ابن خلدون وتطويراً له، ودخولاً في التفاصيل الدقيقة يأتي المقريزي في وقت غدت فيه القاهرة مركز العالم الإسلامي ثقافياً واقتصادياً وسياسياً أيام حكم المماليك . وفي القاهرة ولد المقريزي لأسرة أصلها من بعلبك. ويذكر أنه كان سعيداً بولادته وعيشه في القاهرة (24) وقد ترك عدداً من الكتابات التاريخية الفائقة الأهمية مثل:
- السلوك لمعرفة دول الملوك
- اتعاظ الحنفا بذكر الأئمة الفاطميين الخلفا
- عقد جواهر الأسفاط في تاريخ مدينة الفسطاط.
- المواعظ والاعتبار (المعروف باسم خطط المقريزي).
- إغاثة الأمة بكشف الغمة.
وقد أفاد المقريزي من تجارب حياته العملية كاتباً في ديوان الانشاء وقاضياً وخطيباً . كما أفاد من اطلاعه الواسع على الكتابات التاريخية السابقة وبخاصة ابن خلدون.
ولعل أهم ما يميزه :
1- الموضوعية والأمانة التاريخية في السرد والعرض.(25)
2- وتنبثق عن الموضوعية صفة العفة والأخلاق الرفيعة والترفع عن الإساءة إلى الآخرين.
3- التدقيق والتقصي والتحقيق والتعليل (26)
4- الدخول في التفاصيل الدقيقة : أحوال النيل – الحياة اليومية – الفساد – الرشوة – الغلاء – إغراق الأسواق بالنقود.
5- التركيز على الموضوع وعدم الاستطراد، وعدم الخروج على الموضوع .
6- الحيادية تجاه الحكام وعدم مداهنتهم والتقرب إليهم .
- التنبه إلى ربط حركة التاريخ بالعوامل الاقتصادية من تجارة وصناعة وزراعة وانتقال أموال وتوزيع ثروات واقطاعات (27)
- رصد كثير من الظواهر الاجتماعية بدقة : شهادة الزور، الزنا، اللواط، الفسوق، الخمر.
* * *
والآن نخلص إلى بعض الملاحظات العامة والاستنتاجات التي تشمل مراحل تطور الكتابات التاريخية عند العرب:
1- ان الفكر العربي التاريخي اتجه أساساً إلى سرد الوقائع والأحداث من خلال الرصد أو الرواية المسندة، مستفيداً من علم الحديث.
2- إن كلمة "التاريخ" تعني في المعجم الغاية والوقت الذي ينتهي إليه كل شيء. وبذلك يتصل المعنى بحركة الزمن المرصودة وليس بالحكاية الاسطورية التي تشير إليها كلمة History باللغات الأوروبية.
3- الغاية النبيلة من كتابة التاريخ كعلم، ويندرج ذلك في إطار العلوم جميعاً كعمل يتقرب به صاحبه إلى الله وكأنه شكل من أشكال العبادة، وليس عملاً نفعياً يتوخى مصلحة آنية.
4- سرد الروايات القديمة بصورة حيادية وترك التعليق عليها وإلقاء مسؤولية روايتها على من أسندت إليه.
5- الاعتراف بالآخر وعرضه بموضوعية إلى حد بعيد وعدم إلغاء من يخالف الرأي أو الدين أو المذهب أو العرق.
6- يلاحظ في الدراسات التاريخية الحديثة والمعاصرة تأثر المؤرخين العرب بالمدارس القومية أو الماركسية أو العلمانية أو الليبرالية أو البراغماتية . وهم في أغلب الأحيان متأثرون بالعوامل السياسية الضاغطة بصورة أو بأخرى.
7- بروز التخصصات الدقيقة في الدراسات التاريخية :
- قديمة – حديثة
- مشرقية – أندلسية
- حضارات: مصر القديمة، بابل، بلاد الشام، المغرب
- الحركات الإسلامية – الشعوبية
- تاريخ الأدب
- التاريخ الاجتماعي
- علم الآثار
- التراث غير المادي
8- محاولة إظهار جانب العبقرية لدى المؤرخين العرب، وبيان مدى تأثر المؤرخين الغربيين بهم.
9- اللجوء إلى صفحات التاريخ المشرقة هرباً من الإحباط المتلاحق الذي يعيشه العرب اليوم.
مفهوم التاريخ عند ابن خلدون

إعداد الباحث: مهتدي مصطفى غالب

في هذه العجالة سنلقي بشكل مختصر الضوء على مفهوم التاريخ عند العالم الاجتماعي العربي ابن خلدون ، دون العودة لسيرته الحياتية التي لها مكان آخر،وسنعرض لهذا المفهوم من خلال أربع نقاط تؤطر مفهوم التاريخ عند ابن خلدون ، و هي :
أولاً- تعريف التاريخ:
لم يتفق الباحثون على تعريف محدد و ثابت للتاريخ ، قديماً و حديثاً ،فالقدماء حددوه بأنه سجلٌ لأعمال الإنسان ، و لم يتفقوا على تفاصيل ذلك ،ومجمل التعاريف تشمل كل شيء من المُعَا ش و الاجتماع و السياسة و الاقتصاد و الدين و الفلسفة و الفن وغيرها ، و تشترك مجمل هذه التعاريف بالعناصر الأولية فيما بينها ، و هي الإنسان و الماضي و التطور ، فالتاريخ : هو سجل لأعمال الإنسان و أفكاره و تطورها ، أو هو درس هذه الأعمال و الأفكار و تحليلها و تعليلها ، أما عند ابن خلدون فنجد بعض التعاريف المأخوذة من مقدمته مثل :
1- التاريخ في ظاهره لا يزيد عن أخبار عن الأيام و الدول ، و السوابق من القرون الأُول تنمو فيها الأقوال، وتضرب فيها الأمثال ، و تطرف فيها الأندية إذا غصَّها الاحتفال،و تؤدي شأن الخليقة كيف تقلبت بها الأحوال.
2- و في باطنه نظر و تحقيق، و تعليل للكائنات و مباديها دقيق، و علم بكيفيات الوقائع و أسبابها عميق، فهو لذلك أصيل في الحكمة عريق، و جدير أن يعد في علومها و خليق .
3- يوقفنا على أحوال الماضين من الأمم في أخلاقهم ، و الأنبياء في سيرهم ن و الملوك في دولهم و سياستهم.
4-التاريخ هو ذكر الأخبار الخاصة بعصر أو جيل .
5-حقيقة التاريخ أنه خبرٌ عن الاجتماع الإنساني.
فالعناصر الأساسية هي: الإنسان ، و الماضي، و التقلب، و هي مطابقة للعناصر الموجودة عند تعاريف الباحثين من القدماء و المحدثين، بل هو يزيد على ذلك من خلال وجود التفلسف و التعليل و اكتشاف أسباب الحوادث .
ثانياً-موضوع التاريخ:عند ابن خلدون هو الإنسان و أعماله بما تحمله من مبررات ونتائج و غايات .
ثالثاً- أغراض التاريخ:كان من أغراض التاريخ في البدء إحياء آثار السلف و تمجيد مآثر الأبطال ، و ضرب المثل و إسداء النصح .أما ما وصل إليه المؤرخون فهو أنه من أهم أغراض درس الماضي هو فهم الحاضر من جميع وجوهه عن طريق درس الماضي من جميع وجوهه ، فالتاريخ لا يقتصر على الحروب و تعاقب الأسر ، بل يهتم بحياة الشعب و اشتغاله بالزراعة و الصناعة ، و درس الحياة الدينية و العلمية و الفنية ،و بهذا يمكن للجيل الحاضر أن يتصور حياة الأجيال السابقة كما كانت تقريباً ، و يفهموا كيف آلت الإنسانية إلى حالتها الحاضرة و أسباب ذلك.
و لقد قال ابن خلدون بهذا كله في تحديده الغرض من التاريخ ، فهو يقرر أن ضرب الأمثال عنصر مهم في التاريخ و درسه ، و لكنه يضيف إلى ذلك أن التاريخ يوقفنا على (تقلب) الأحوال في الخليقة، و يساعدنا على تعليل أسباب الوقائع ، و أنه فوق ذلك يتناول المجتمع الإنساني كله بالإضافة إلى عصر أو جيل أو بلد معين.
و لاشك أن القول بضرب الأمثال له ما سبقه في آثار العرب ، فالقرآن الكريم يذكر أخبار السابقين للعبرة، و مؤرخو العرب سلكوا مثل هذا السبيل ، و كتب الأدب العربي فيها شيء كثير من الأخبار التي هدفها الأول ضرب المثل، فعلى ضوء ذلك نستطيع أن نقول أن ظاهر التاريخ عند ابن خلدون هو: أخبار (تُطرَف فيها الأندية)، و باطنه: تعليل و فلسفة .
إذاً من أهم أغراض التاريخ عند ابن خلدون هي: التعليل و النظر و التحقيق و العلم بأسباب الوقائع ، و لا يتم ذلك،(أي لا ينظر الإنسان في الماضي نظرة تحقيق و فلسفة ) دون أن يستفيد من ذلك في حاضره بصراً و خبرة.
فتعليل و تحليل التاريخ و الفلسفة في التاريخ عند ابن خلدون هدفه و غايته و معناه النهائي هو: فهم الماضي على حقيقته و الاستفادة من ذلك في الحاضر، فالغاية الأساسية للتاريخ عند ابن خلدون هي فهم الماضي لعيش الحاضر و لبناء المستقبل.
رابعاً-هل التاريخ علم أم فن ؟؟:
العلم في أيامنا معناه هو المعرفة عن الأشياء المثبتة بالاختبار بحسب قواعد ثابتة، هذا هو العلم الصرف ، و هو علوم الطبيعة إجمالاً، و هو غير معناه عند ابن خلدون ، رغم وجود أنواع من المعرفة تسمى علوماً على سبيل المجاز كقولنا علوم الأدب ، علوم الدين ...إلخ، فالعلم هنا المقصود فيه الاجتهاد و الرأي ، و ليس الاختبار أو القواعد الثابتة.
أما الفن: فهو إبداع و خلق فيه شيء من اتساق العلوم الطبيعية، و من حرية العلوم الفكرية.
و رغم أنه من ليس من السهل المقابلة أو المقارنة و لا التطبيق على ما هو مفهومهما عند ابن خلدون، فهو استعمل المصطلحين ((علم))و((فن))... و قبل أن نعرض لمعنى هذين المصطلحين عند ابن خلدون، لا بد لنا من أن نستعرض كلا المفهومين عند العرب السابقين و المعاصرين و اللاحقين لابن خلدون:
فقد جاء في تاج العروس العلم و المعرفة و الشعور كلها بمعنى واحد، و إذا وقع العلم على المفعول كان بمعنى المعرفة).
و جاء في رسائل إخوان الصفا: ( العلم هو صور المعلومات في نفس العالم ).
و جاء في كشف الظنون العلم هو حصول صورة الشيء بالعقل ).
و عليه فالعلم في ذاك الزمان كان معناه: المعرفة إطلاقاً، فعلوم الدين و علوم اللغة و علوم الفلسفة و علوم الأدب و علوم الأخلاق كلها من العلم بهذا المعنى.
و بالتالي نستطيع أن نفهم لماذا اعتبر ابن خلدون العلم ( نوعاً من أنواع المعرفة) و الفن أعتبره كذلك : فالعمران عنده علم و فن ، و كذلك السياسة و الخطابة ، و الفقه علم و كذلك السحر و تعبير الرؤيا،أما بالنسبة للتاريخ فهو استعمل المصطلحين معاً و لكن هل كان يقصد بهما معناً واحداً أنا لا أعتقد ذلك لأن ابن خلدون بالتأكيد يعرف المعنى اللغوي للمفردتين في ذاك الزمان فالعلم هو المعرفة ، و الفن هو الصنعة، و بالتالي استعماله لهذين المصطلحين بأماكن متعددة هي لإعطاء مفاهيم و أغراض و معاني للتاريخ تحتوي المعرفة و الصنعة ، و ليس كما يقول بعض المستشرقين و المستغربين أن ابن خلدون كان يخلط بين المصطلحين مستندين إلى استعمالهما في مقدمته، مثل قوله:
أ- إن فن التاريخ من الفنون التي تتداوله الأمم ، وهنا يقصد حرفة و صنعة التاريخ و ليس معرفة التاريخ و هو بالتأكيد هنا دقيق تمام الدقة باستعمال المصطلح.
ب- التاريخ علم بكيفيات الوقائع و أسبابها عميق ، و هنا تتجسد الدقة باستعمال المصطلح فللعلم بالكيفيات و الأسباب نحتاج للمعرفة التي هي العلم.
ج- المقدمة في فضل علم التاريخ .
د- اعلم أن فن التاريخ .
ه- صار فن التاريخ واهياً.
و- و ما استكبر القدماء علم التاريخ إلا لذلك.
و لم نحاول أن نقرأ استعمال ابن خلدون الواعي للمصطلحين كل في مكانه المناسب ليعطي معناه المناسب، لأنه لا مجال هنا يتسع لذلك .
و أخيراً لا بد من إشارة إلى أن المقدمة تحتوي قوانين تاريخية اجتماعية تشبه قوانين العلوم الطبيعية ، منها على سبيل المثال لا الحصر: قانون السبب والمسبب، و قانون التشابه و التباين، و قانون الاستحالة و الإمكان.
و استناداً لما سبق و قلناه مستخرجاً من مقولات مقدمة ابن خلدون نستطيع أن نقول : أن ابن خلدون قدم تعريفاً شاملاً جامعاً للتاريخ يقبله حتى علماء حاضرنا ، فوضع أهدافاً و غايات للتاريخ تشابه بل تتطابق مع غاياتهم و أهدافهم ، و ابتكر فهماً للعمران و الحضارة مستنداً بشكل أساسي على ما ورد في رسائل إخوان الصفا لدرجة أتهمه الباحث العربي الدكتور محمود إسماعيل بسرقة مقدمته كلها من هذه الرسائل و نشر كتاباً هاما في هذا الموضوع ، لنا عودة إليه في مقالة أخرى، فالتأثير و التأثر سر تطور الحضارة البشرية لأنها استمرارية و ليست تقطعية مكانية و زمانية ، و ليس مهما أن تتأثر، فهذا شيء من طبيعة تتطور العقل البشري ، و المهم أكثر ألا تنكر هذا التأثر، أنت و الباحثون في أفكارك و أعمالك، فلا بد و أن تكشف الحقيقة برقع الزيف، لتظهر ساطعة كشمسٍ من خلف غيوم سوداء فتبدو أكثر سطوعاً و جمالاً، و كأننا نراها للمرة الأولى.
أربع نقاط تؤطر مفهوم التاريخ عند ابن خلدون ، و هي :
أولاً- تعريف التاريخ:
التاريخ في ظاهره لا يزيد عن أخبار عن الأيام و الدول و في باطنه نظر و تحقيق، و تعليل للكائنات و مباديها دقيق،يوقفنا على أحوال الماضين من الأمم في أخلاقهم
ثانياً-موضوع التاريخ:عند ابن خلدون هو الإنسان و أعماله بما تحمله من مبررات ونتائج و غايات .
ثالثاً- أغراض التاريخ:كان من أغراض التاريخ في البدء إحياء آثار السلف
رابعاً-هل التاريخ علم أم فن ؟؟:
العلم في أيامنا معناه هو المعرفة عن الأشياء المثبتة بالاختبار بحسب قواعد ثابتة، أما الفن: فهو إبداع و خلق فيه شيء من اتساق العلوم الطبيعية، و من حرية العلوم الفكرية
لقد تجمعت في شخصية ابن خلدون العناصر الأساسية النظرية والعملية التي تجعل منه مؤرخاً حقيقياً - رغم أنه لم يول في بداية حياته الثقافية عناية خاصة بمادة التاريخ - ذلك أنه لم يراقب الأحداث والوقائع عن بعد كبقية المؤرخين، بل ساهم إلى حد بعيد ومن موقع المسؤولية في صنع تلك الأحداث والوقائع خلال مدة طويلة من حياته العملية تجاوزت 50 عاما، وضمن بوتقة جغرافية امتدت من الاندلس وحتى بلاد الشام. فقد استطاع، ولأول مرة، (اذا استثنينا بعض المحاولات البسيطة هنا وهناك) أن يوضح أن الوقائع التاريخية لا تحدث بمحض الصدفة أو بسبب قوى خارجية مجهولة، بل هي نتيجة عوامل كامنة داخل المجتمعات الإنسانية، لذلك انطلق في دراسته للأحداث التاريخية من الحركة الباطنية الجوهرية للتاريخ. فعلم التاريخ، وان كان (لايزيد في ظاهره عن أخبار الايام والدول) انما هو (في باطنه نظر وتحقيق وتعليل للكائنات ومبادئها دقيق وعلم بكيفيات الوقائع وأسبابها عميق، لذلك فهو أصيل في الحكمة عريق، وجدير بأن يعد في علومها وخليق(المقدمة). فهو بذلك قد اتبع منهجا في دراسة التاريخ يجعل كل أحداثه ملازمة للعمران البشري وتسير وفق قانون ثابت.
يقول: فالقانون في تمييز الحق من الباطل في الأخبار بالإمكان والاستحالة أن ننظر في الاجتماع البشري الذي هو العمران ونميز ما يلحقه لذاته وبمقتضى طبعه وما يكون عارضا لا يعتد به وما لايمكن أن يعرض له، وإذا فعلنا ذلك، كان ذلك لنا قانونا في تمييز الحق من الباطل في الأخبار، والصدق من الكذب بوجه برهان لا مدخل للشك فيه، وحينئذ فاذا سمعنا عن شيء من الأحوال الواقعة في العمران علمنا ما نحكم بقبوله مما نحكم بتزييفه، وكان ذلك لنا معيارا صحيحا يتحرى به المؤرخون طريق الصدق والصواب فيما ينقلونه. ا
وهكذا فهو وان لم يكتشف مادة التاريخ فانه جعلها علما ووضع لها فلسفة ومنهجا علميا نقديا نقلاها من عالم الوصف السطحي والسرد غير المعلل إلى عالم التحليل العقلاني والأحداث المعللة بأسباب عامة منطقية ضمن ما يطلق عليه الآن بالحتمية التاريخية، وذلك ليس ضمن مجتمعه فحسب، بل في كافة المجتمعات الإنسانية وفي كل العصور، وهذا ما جعل منه أيضا وبحق أول من اقتحم ميدان ما يسمى بتاريخ الحضارات أو التاريخ المقارن.إني أدخل الأسباب العامة في دراسة الوقائع الجزئية، وعندئذ أفهم تاريخ الجنس البشري في إطار شامل...اني ابحث عن الأسباب والأصول للحوادث السياسية. كذلك قولهداخلا من باب الأسباب على العموم على الأخبار الخصوص فاستوعب أخبار الخليقة استيعابا...وأعطي الحوادث علة أسبابا
________________________________________
ابن خلدون وعلم التاريخ
أمام انعدام سجل يكون بمثابة وعاء للثقافة وذاكرة للشعوب وسعيا إلى تدوين مآثر الحضارة وتطورّها بمرور الزمن ومنذ وجد الإنسان على سطح البسيطة ظهر التاريخ وتعدّد المؤرخون فتعدّت أسماؤهم حدود الأمصار كالطبري والمسعودي... غير أن أبرزهم يظلّ العلاّمة عبد الرّحمن بن خلدون الملّقّب بولي الدين (ت: 808هـ/1406م). واضع"علم التاريخ"،
ويؤكد كثير من المؤرخين العرب ومؤرخي أوروبا والغرب أن ابن خلدون هو مؤرخ الحضارة الإسلامية بلا منازع، كيف لا؟ وهو أوّل من تحدث عن جوانب الحكم والسياسة والاقتصاد والاجتماع والفنون والآداب وتطوّرها في العالم، وذلك في فصول طويلة وبتفصيل وإسهاب. كان ابن خلدون ناقدا تاريخيا فذّا، فقد طالع كتب المؤرخين قبله وفهم ما كتبوه وتصدى لنقد أعمالهم التاريخية فأنشأ كتابا تاريخيا يقول عنه:
"وأنشأت في التاريخ كتابا رفعت به عن أحوال الناشئة من الأجيال حجابا".
وعلم التاريخ حسب ما أورد ابن خلدون في خطبة كتاب المقدمة "فن من الفنون التي تتداوله الأمم والأجيال، وتُشّد إليه الركائب والرحال، وتسمو إلى معرفته السّوقة والإغفال، وتتساوى في فهمه العلماء والجهال، إذ هو في ظاهره لا يزيد على إخبار عن الأيام والدول والسوابق من القرون الأولى وتضرب فيها الأمثال، وفي باطنه نظر وتحقيقّ، وتحليل للكائنات ومباديها دقيق، وعلم بكيفيات الوقائع وأسبابها عمـيق، فهو لذلك أصيل في الحكمة عريق، وجدير بأن يعّد في علومــــها و خليق".
وانطلاقا مما تقدم نتبين أن ماهية التاريخ حسب ابن خلدون تتثنى إلى معنيين: أولهما سرد للوقائع و"إخبار عن الأيام والدول" وثانيها "نظر وتحقيق" وتأمل وتحليل عميق. فالتاريخ في رأيه هو خبر عن الاجتماع الإنساني الذي هو العمران ولكن ليس على أساس ما كان يتناوله المؤرخون قبله من السرد لمجرد النقل أو إضافة الأباطيل وإنما على الخصوص على أساس التحليل ولذلك يطلق عليه الفن أو "فن التاريخ"، وهاهو يوضح ذلك في قوله حول كون التاريخ "خبيرا عن الاجتماع الإنساني الذي هو عمران العالم وما يتعرض لطبيعة ذلك العمران من الأحوال مثل التوحّش والتأنس والعصبيات وأصناف التغلبات للبشر بعضهم إلى بعض، وما ينشأ عن ذلك من الملك والدول ومراتبها، وما ينتحله البشر بأعمالهم ومساعيهم من الكسب والمعاش والعلوم والصنائع وسائر ما يحدث من ذلك العمران بطبيعة من الأحوال
فالتاريخ على هذا النحو ليس مجّرد سرد لأخبار الماضي وإنما هو علم قائم على ثلاثة أركان هي: النظر والتحقيق والتحليل للوقائع وكيفياتها، فليست مهمة المؤرخ الإخبار عن الأيام والدول والحروب والجيوش بل دراسة ما يعرض للاجتماع الإنساني من الأحوال والأطوار التي أشار إليها. وقد كان من مقاصده باستخدام هذا المنهج التاريخي الجديد ليس فقط معرفة الماضي لذاته وإنما قصد أيضا الأجيال الناشئة - على حدّ قوله – بالربط بين الماضي والحاضر.
فالتاريخ إن تكلم عن الماضي فيقصد أن يعيش في حاضر متطوّر، ونحو مستقبل أفضل ولذلك لا يرى أن يورد المؤرخون تفاصيل لا تهم الأجيال القائمة ويتساءل ما الفائدة من ذلك؟ فابن خلدون، إذن اكتشف حركة التاريخ مما جعله ينبض بالحياة.
ولما كان التاريخ في نظر ابن خلدون فنا "عزيز المذهب، جمّ الفوائد، شريف الغاية" فهو محتاج كما يقول إلى مآخذ عدة ومعارف متنوعة و "حسن نظر وتثبت يفضيان إلى الحق وينكبان عن المزلات والمغالط". فكثيرا"ما وقع للمؤرخين والمفسرين وأئمة النقل من المغالط في الحكايات والوقائع لاعتمادهم فيها على مجرد النقل ولم يعرضوها على أصولها، ولا قاسوها بأشباهها، و بمعيار الحكمة والوقوف على طباع الكائنات وتحكيم النظر والبصيرة في الأخبار فضلّوا عن الحق".
لقد نهج ابن خلدون نهجا جديدا في دراسته للتاريخ. وقد اعتاد المؤرخون قبله أن يضعوا أحداث التاريخ في صورة جداول تاريخية مرتبة وفق السنين، وكانوا يجمعون حوادث كل سنة في جدول واحد، ويسمون هذه الطريقة الحوليات في حين أن ابن خلدون قسّم كتابة التاريخي (العبر) إلى كتب فرعية أو أبواب وقسّم كل كتاب إلى فصول وتتبع تاريخ كل دولة على حدة من بدايتها إلى نهايتها، مع مراعاة نقط الاتصال بين مختلف الدول التي تحدث عنها. كما نظم ابن خلدون عمله ببراعة وربط بين أحداث التاريخ على نحو غير مسبوق، فلم تعد أحداث التاريخ مشتتة مبعثرة وشهد له العالم بدقته في الترتيب في الموضوعات والفهارس، قد كان أوّل مؤرخ في العالم ينظر إلى التاريخ كعلم،
نظرات في الفكر المنهجي عند ابن خلدون
الجزء الأول
بقلم: علال البوزيدي
________________________________________
الحديث عن شخصية ابن خلدون وما تميزت به من عبقرية وعلم وفقه وأدب يقتضي الكتابة المسهبة والبحث والتقصي في أغوار الاجتهادات التي مارسها مفخرة عصره ومعجزة زمانه عبد الرحمن بن خلدون، وبما أن التعمق في آثار هذا المفكر العربي المسلم يحتاج إلى المزيد من الاستقراءات والاستنتاجات، فإن أقرب السبل وأيسر المراجع هي ما كتب مفكرنا الكبير وما خلّده من آثار أفادت كثيراً العلوم الإنسانية، أما ما كتِبَ حوله فهو شتات يصعب الإلمام به جملة وتفصيلاً، أو بالأحرى بجزء قليل منه.
مؤلفاته تعبر عن إحاطته وغزارة علمه..
وهكذا فإنه لابد ولا مناص من وقفات تأملية في أشهر مؤلفاته التي ظلّت مناراً لإشاعة الوعي الإنساني.
وهنا تجدر الإشارة إلى »ديوان العبر« الذي خصصه المترجَم له للحديث عن حياة الأغالبة وتاريخ تعمير صقلية، وقد ترجم هذا المجهود الكبير إلى عدة لغات أجنبية وبالأخص: الروسية، الإيطالية، الهولندية، الإسبانية، البرتغالية.. وكان ذلك سنة 1841م، وقد استغلت بعض الدول الاستعمارية الثورة الفكرية والعلمية الهامة للفكر الخلدوني، إلا أن المجلدات التي صدرت باللغتين العربية والفرنسية راجت أكثر وعلى نطاق أوسع في العالم بأسره.
ومن هذه المجلدات ما خصص لدراسة أحوال وتاريخ المغرب العربي أقطاراً ومدناً وقبائل.
وإذا ضربت صفحاً عن كتاب العبر، فإن كتابه الشهير المعروف بـ»المقدمة« يجذبني جذباً للإشارة والتلميح إليه هو الآخر ولو بقليل من الاختصار، وذلك أن المقدمة تعتبر مجمل تاريخ نادر فضلاً عن كونها مجلداً ضخماً وموسوعة لعلم من العلوم التي تهتم بالحياة البشرية.
وضع أساس علم الاجتماع..
ففي المقدمة الخلدونية تتجسد فلسفة وأسس علم الاجتماع، وبها حاز صاحبها قصب السبق في هذا الميدان لكونه قام بوضع أسس وقواعد هذا العلم، ومهّد الطريق للباحثين الذي أتوا من بعده، والذي يدرس المقدمة يتضح له بأن ابن خلدون كان يعيش قضايا العالم بكل ما تعني الكلمة من مفهوم الشمولية، كما كان من خلال مساهمته الفعالة في مجالات الفكر العالمي، وتنشيط المعارف الإنسانية، يقدم خدمات مفيدة للأمم والشعوب الناهضة المتطلعة نحو التطور والاتقاء، وذلك بفضل ما تركه من ثورة علمية.
والبحث في مسيرة حياة ابن خلدون يدلنا دلالات كثيرة عن مواقفه الإصلاحية. ولقد اشتغل بتحليل نفسية الفيلسوف الاجتماعي غير واحد من الأعلام والمؤرخين.
فلسفة التاريخ..
ومن الخصائص التي يتميز بها ابن خلدون عن غيره من المؤرخين هي كونه مؤرخاً ومفكراً، فلسفَ التاريخ، لأنه أدرك بأن حقيقة التاريخ تتجسم في كونه خبراً عن الاجتماع الإنساني، وهذا يعني إمعان النظر في أعمال البشر وصنعهم، ومنشآت الإنسان وتحاوره وتعايشه وعلاقاته مع بني الإنسان.
شخصية ابن خلدون
وفي وصف المؤرخين لشخصية ابن خلدون يتجلّى: بأنه كان واسع الاطلاع، غزير العلم، عميق الاستقراء والاستنتاج، كما كان قوي الحدس في التحليل والمقارنة، موفقاً في ضبط العلل والعوامل، وإقرار الأصول والأحكام والقواعد والأسس.
وانطلاقاً من هذه الخصائص والمميزات ظل ابن خلدون صورة ناصعة لأحوال البشر، وفي ذلك توضيح للمستوى الرفيع والتجربة الرائعة والتقدير الكبير لعظمة الحضارة الإسلامية، ودليل على اجتهادات العلماء وحرية الفكر.
مجدّد في التاريخ والأدب..
الدولة كما يراها ابن خلدون بناء طبيعي اضطراري لا مناص من نشأتها، وقد ركّز رأيه في سلطة الدولة، على أساس منهج صحيح استقصاه من تاريخ عصره، وتجاربه التي عايشها بممارسة الخبير الذي لا يغتر بالمظاهر، ولكن يؤمن بالحقائق والأبعاد، وكانت نظرته للآفاق المستقبلية تشير إلى أن العالم يسير بخطوات ديناميكية سريعة نحو التطور الاستمراري، وهكذا نجد بأن توقعاته كانت تؤكد بأن كل شيء تقريباً قابل للترقي.
بقدر ما امتازت به شخصيته من روح التجديد في علم التاريخ، بقدر ما هو مجدد كذلك في عالم الأدب.
ولقد قال عنه بعض الباحثين في آثاره ومواقفه الأدبية، بأنه يعتَبر في طليعة أدباء القرن الثامن الهجري، الذي حرر الأدب العربي من تحكّم البيان اللفظي، وأعتقه من أغلال السجع. لقد تمكن ابن خلدون بقلمه السيال وقوته المفكرة من النهوض بالأدب، وجعله حراً يضطلع برسالته في روية وإبداع وجمال الألفاظ، وبراعة التراكيب، وسبك المعاني المتوخاة التي يدور حملها على محور الإفادة ودقة التصوير، وفي كل أدب حي واقعي يساير الحياة ويندمج فيها ويتفاعل مع معطياتها.
إعجاب العلماء به..
نظراً لما أبدعه ابن خلدون من منهجية صائبة، فقد كان موضع إعجاب وتقدير الجميع في تلك الحقبة التي عاصرها، وقد تضاعف هذا الإعجاب عبر مسار التاريخ، استحوذ ابن خلدون على إعجاب الألمان، مثلما حظي بتقدير الكثرة من كل جهاب المعمورة في الشرق والغرب، ففي بعض الاستقراءات يتضح بأن اعجاب الألمان به جاء نتيجة تذوقهم لروعة أسلوبه وعمق تفكيره، واستوعبوا ذلك من خلال الترجمة التي قام بها المستشرق »فون هامار«، والتي تناول فيها الدراسة التحليلية لفلسفة ابن خلدون بخصوص المجتمع والعصبية والدولة، والتي تحدث فيها كذلك عن الاقتصار الاجتماعي، وانطلاقاً من هذه النظرية الخالدة، لم يخفِ علماء أوروبا وفلاسفتها إعجابهم واعترافاتهم بتفوق هذا الفيلسوف العربي المغربي، وقد سجلت عدة دراسات وأبحاث هذه الاعترافات على لسان كبار الكتاب والباحثين، من الذين اهتموا بدراسة التراث العلمي الأصيل، الذي خلفه ابن خلدون، والذي يؤكد جملة وتفصيلاً اجتهاداته المثالية.
عبقري بلا منازع..
لقد أجمع غير واحد من الأعلام بأن معالم العبقرية المبدعة متوفرة في شخصية ابن خلدون، وقد قال عن المستشرق ليفي بروفنسال: »إن صفات العبقرية عند صاحب المقدمة تتجلى في كونه أحرز قصب السبق في مجالات المعارف الإنسانية؛ مما جعله في مسار يثير نزعة المعاصرين له من المؤرخين، مسار حدد فيه لنفسه مكانته الخاصة المرموقة في مصاف العظماء، ذلك أن منهجيته في فن التاريخ تعكس نظرة مطلقة أهّلته لإدراك حقيقته الخفية ومعناه البعيد، وفي الوقت الذي ارتقى فيه الفكر الخلدوني إلى مستوى عال في فلسفة التاريخ، عكف بعض المؤرخين أمثال الطبري والمسعودي وابن الأثير وغيرهم على دراسة التاريخ على أساس أنه سجل للحوادث والوقائق،وهكذا يتجلى الفرق في الاجتهاد الخلدوني الذي انصبّ على اعتبار التاريخ كموضوع له صلة جوهرية بأعمال البشر ونشاطاتهم وأوضاعهم وأحوالهم في حياتهم واجتماعاتهم.
وفي هذا المجال قال ابن خلدون: »فأنشأتُ في التاريخ كتاباً، وأبديتُ فيه لأولية الدول عملاً وأسباباً.. وسلكت في ترتيبه وتبويبه مسلكاً غريباً، واخترعتُه من بين المناحي مذهباً عجيباً، وطريقة مبتدعة وأسلوباً، وشرحت من أحوال التمدن والعمران، وما يعرض في الاجتماع الإنساني من العوارض الذاتية، وما يمتعك بعلل الكوائن وأسبابها«.
تمسكه بالطريقة التجريبية..
قال عنه بعض المحللين بأنه نفي عن نفسه التأثر بأرسطو والفارابي، بل ظهر في فكره المنهجي وبالأخص في مقدمته، بأنه يتمسك بالطريق التجريبية كما فعل ذلك كل من ابن رشد وابن الهيثم.
اتهام ابن خلدون بالتهجم على العرب..
قيل بأن التهجم على العرب المنسوب لابن خلدون يعزى في أساسه إلى تحريف وقع في بعض النصوص التي جاءت في المقدمة، وهذا التحريف مقصود من طرف بعض المتستشرقين الذين تجاهلوا المفهوم الحقيقي الذي تشير إليه تلك النصوص.
ومما جاء في بعض الآراء أن ابن خلدون كان يقصد باصطلاح »العرب« الإشارة إلى »البدو« أو »الأعراب« وليس مطلق الأمة العربية، ومن بين هذه الآراء رأي الدكتور علي عبد الواحد وافي الذي قال في بعض أبحاثه القيمة: »لو استعمل ابن خلدون كلمة »البدو« للدلالة على قبائل البدو والرّحّل بدلاً من كلمة العرب التي استخدمها في كل الحالات فأحدثت الالتباس، ذلك أن كلمة البداوة كثيراً ما تشير إلى الفطرة والكرم والنبل والشهامة، بينما كلمة العرب تؤول أحياناً إلى العربان، وهم قوم يتميزون بالشراسة وسوء الأخلال والجهل، كما تعني كلمة العرب الأعراب وهم قوم يتصفون بالغلظة والفظاظة، وإن كانوا فصحاء في لغتهم. وقد ورد في القرآن الكريم بشأن هذه الكلمة: (الأعرابُ أشدّ كفراً ونفاقاً وأجدرُ ألاّ يعلموا حدودَ ما أنزلَ اللهُ على رسولِه واللهُ عليمٌ حكيمٌ). [التوبة: 97].
ابن خلدون الفيلسوف..
قال عن الأستاذ »تياي« وهو من جنسية فرنسية، مارس تدريس الفلسفة في عدة جامعات عربية، من بينها تونس ومصر: »إن هذا المغربي الذي ولِد بتونس سنة 1332م من أسرة ذات أصل عربي، استوطنت الأندلس منذ بدء الفتح، ترك لنا تآليف قيمة، يمكن لنا أن نقول عنها: إنها لم تُثْر الآداب العربية وحدها، بل التراث الثقافي للإنسانية جمعاء، إن مؤسس علم الاجتماع (السوسيولوجية)، وباعث فلسفة اجتماعية جديدة، كما أنه المؤسس الحقيقي للمنهجية التاريخية. لقد توصل ابن خلدون إلى أن هناك فلسفتين: فلسفة أصيلة صحيحة، وفلسفة كاذبة غالطة، وهذا يعني أن ابن خلدون اهتدى قبل »كانت Kent « إلى التفكير النقدي الهادف إلى تحديد القواعد والمقاييس المنطقية لاستعمال العقل في البحوث الفلسفية، وانتقاداتها للتفكير الفلسفي الذي يتجاوز المقاصد الهادفة. إن كتاب المقدمة وكتاب العبر لابن خلدون عملٌ نادر ومجهود قيم موجه للناس جميعاً، لا لنخبة من المفكرين أو إلى جماعة محدودة من الفلاسفة. إن التاريخ كما يراه ابن خلدون فرع من الفلسفة، وعلم عقلي. وللتاريخ ظاهر وباطن، إذْ هو في ظاهره لا يزيد على أخبار الأيام والدول والسوالف من القرون الأولى، تنمق لها الأقوال، وتصرف فيها الأمثال، وتطرق لها الأندية إذا غصّها الاحتفال، وتؤدي لنا شأن الخليقة كيف تقلبت بها الأحوال، واتسع للدول الناطق فيها والمجال، وعمروا الأرض حتى نادى بهم الارتحال، وحان منهم الزوال«.
ويسترسل في تحليله للباطن التاريخي فيقول: »باطنه نظر وتحقيق، وتعليل للكانئات عميق، فهو لذلك أصل في الحكمة عريق، وجدير بأن يقيده في علومها وخليق«.
الواقع الأدبي في عصر ابن خلدون
لقد حاولتُ فيما سلف الإلماح إلى جوانب من الفكر المنهجي عند ابن خلدون، ولكن هناك جوانب أخرى لها ارتباطها الوثيق بحياة هذا المفكر، لكونه عاصرها وعايشها، وهي أحداث ووقائع لا يمكن إغفالها في هذا البحث المختصر، بل ينبغي الإشارة إليها ولو بلمحات. عرف العصرُ الذي عاش فيه ابن خلدون الحروبَ والقلاقل والفتن، وكما قال أديب عربي: »وكيف يزدهر الأدب والعلم في جو متقلب غير مأمون العاقبة«. على أن الملوك والأمراء كانوا ينتهزون فرص السلام على قلتها وقصرها فيقرّبون إليهم العلماء والأدباء. فكان بنو حفص وبنو مرين ملاذ رجال الفكر والأدب، يظلونهم برعايتهم ويحتفون بهم ويولونهم المناصب الرفيعة.
يقول ابن خلدون: »... ولما استوى السلطان أبو الحسن على تلمسان، رفع من منزلة ابني الإمام: أبي زيد وأبي موسى، واختصهما بالشورى في بلدهما، وكان يستكثر من أهل العلم في دولته، ويجري عليهم الأرزاق، ويعمر بهم مجلسه، ثم أدنى ابن عبد النور وقرّبه من مجلسه وولاه قضاء عسكره. وكانت غرناطة حافلة بكثير من العلماء والأدباء، فلما طغت مملكة قشتالة النصرانية على أطراف المملكة الإسلامية، واستولت على أكثر ثغورها ومدنها، رحل كثير من علماء الأندلس وأدبائه إلى المغرب فازدادت ثراء بالأدب والثقافة«.
النثر في عصره
أما عن النثر في عصر ابن خلدون، فيجدر بمن يبحث النثر أو الشعر في المغرب، أو في الأندلس أن يتعرف حالهما في المشرق، وليس في هذا ما يثير العجب، لأن العرب نزحوا إلى الأندلس أن يتعرف حالهما في المشرق، وليس في هذا ما يثير العجب، لأن العرب نزحوا إلى الأندلس، وانبثوا في أرجائها، من كل قبيلة وعشيرة، من عدنانيين وقحطانيين، وابن خلدون نفسه يمني الأصل، كما يقرر ذلك عن نفسه.
ثم إن كثيراً من العلماء والأدباء وفدوا إلى الأندلس، فوجدوا ترحيباً وتكريماً وإغداقاً، ففاضت كتاباتهم، وقرضوا الشعر، وكتبوا النثر، مقيدين بطرائق التعبير التي جرى عليها أسلافهم، والتي يجري عليها معاصروهم في المشرق.
وكان كثير من علماء المغرب وأدبائه يرحلون إلى المشرق، حتى ليخيل لمن يقتفي آثار هذه الرحلات أن الطريق كان حافلاً بالرحالة الذين يسعون في سبيل التعليم أو طلب العلم دائماً.
ويضاف إلى ذلك أن الملوك والخلفاء بالأندلس كانوا في المشرق مثلاً أعلى جديراً بالاحتذاء، ولهذا استقدموا بعض العلماء والفنانين وبعض المؤلفات.
أما العرب في الأندلس فلم يحفلوا أول الأمر بما كان في بلاد الأندلس من كتابة لاتينية، ولم ينشطوا إلى نقل شيء من فلسفة اليونان وعلومهم، إذ أرادوا أن تكون دولتهم عربية خالصة ينافسون بعروبتها، حتى لقد كان طلاب العلم الذين يقصدون المشرق يكتفون بالتلمذة على علماء اللغة والدين، مثل يحيى بن يحيى الليثي، وأبي الخطاب عمر بن الحسن الأندلسي وابن مالك. كذلك كان العلماء الذين يقدمون إلى المغرب أدباء أو لغويين مثل أبي علي القالي.
الطريقة الشائعة للكتابة في عصر ابن خلدون
كانت الطريقة الشائعة في عصر ابن خلدون هي طريقة القاضي الفاضل المتوفى سنة 596 هـ، فقد سيطرت على كتاب مصر والأندلس والمغرب، وهي طريقة مؤسسة على طريقة ابن العميد، وتزيد عليها المبالغة في الزينة، من سجع ملتزم أكثره متكلف، في جمل طوال، وكلف بالتورية والجناس والطباق والتوجيه والاقتباس والتخمين.
وكان القاضي الفاضل يعتسف هذه المحسنات في نثره وفي شعره، ثم كان تلاميذه المتأثرون بطريقته من بعده أقل منه اطلاعاً، وأقصر باعاً، فهبطوا بتكلفهم هبوطاً شنيعاً، وربما سولت لبعضهم نفسه أن يبرز طريقة القاضي الفاضل بشحذ البديع، واستكراه الحلى اللفظية والمعنوية، فحمّلوا نثرهم أثقالاً ظنوها لآلئ، وهي في الحقيقة قواقع. وكان من الطبيعي أن تلفظ الأفكار أنفاسها تحت هذه الأثقال، وأن تنوء الأساليب بالضعف من هذه الأحمال.
وكان الدافع إلى ذلك سيطرة غريزة التقليد على الكتاب، وظنهم أن طريقة القاضي الفاضل أسمى ما انتهت إليه الأقلام. وشيء آخر أنهم كانوا فقراء في الثقافة العامة، فلا تختلج في نفوسهم معانٍ سامية، أو أفكار راقية، فعمدوا إلى تمويه هذه الضعف بستار وطلاء من الزخارف. على أنّ نقّاد العصر كانوا كلفين بالطريقة الفاضلية، فخضع الكتّاب للنقّاد وجاروهم في إعجابهم وأنشأوا على الغرار الذي يرضيهم.
ولسنا ننتظر من كتاب ذلك العصر أن يخرجوا على نقاده، ويثوروا على الطريقة العقيمة التي يكلفونهم احتذاءها، لأن عصور الضعف لا تجود بعبقري إلا نادراً. وقد كان هذا العبقري الجريء هو ابن خلدون. فقد تحرر من قيود الطريقة التي وضعها معاصروه للكتابة، فكان فذاً في عصره من حيث تفكيره الأدبي والمنهجي.
خلدونيات
فيما كتبناه لم نوفِ الموضوع حقه، وهذا اعتراف منطقي لأن شخصية ابن خلدون تستحق البحث والتقصي أوسع مما تمت الإشارة إليه بهذا الخصوص. والحقيقة أن إعطاء نظرة شمولية عن الفكر المنهجي عند صاحب المقدمة، والعمل على تحليل جوانب العبقرية والنبوغ عند هذا المفكر، عملية تستوجب الاستيعاب الكامل لعطاءاته، في مجالات لها اتصالها بنشاطات الفرد والدولة والأسرة والمجتمع، وبالتالي تحدد المعايير الأساسية لممارسة الحياة بشكل يتلاءم مع العمران البشري والاجتماع الإنساني في كل زمان ومكان مهما تطورت الممارسات.
إذن، فالبناء لا بد له من قواعد وأسس، وتلك هي المهمة الكبرى التي قام بها ابن خلدون رحمه الله.
وخلاصة القول أن هذا قليل جداً استخلصناه من كثير جداً لأن جلائل الأعمال وروائع الأفكار المنهجية الراسخة أعمق من أن تحشر في حديث قصير كهذا... إلا أن لسان الحال يقول: ما لا يدرك كله لا يترك جله.
وفي الختام
إن الإلمام بدراسة جانب محدد من جوانب حياة زاخرة بالإبداع الفكري والعطاء الثقافي والعلمي، كحياة فيلسوف العروبة والإسلام عبد الرحمن بن خلدون مسألة تقتضي البحث المسهب في ذلك التراث الأصيل الذي تركه للأجيال هدية رائعة لا تقدر بثمن. وهذا التراث هو حصيلة وثمرة جهاده طيلة حياته المليئة بجلائل الأعمال، والتي عاش خلالها عمراً ناهز 78 سنة إلى أن وافاه الأجل المحتوم سنة 1406م.

انتصار عربي
2010-10-08, 19:41
اطلعتم دون رد ........بارك الله فيكم و هداكم إلى ما يرضاه

لمسة حنااان
2010-10-09, 16:30
merciiiiiiiiiiiiiii

حاجة الزهراء
2010-10-12, 22:26
شكرا كتيييييييييييييييييييييييييير

tahiri
2010-10-12, 22:36
شكرا ااااااااااااااااااااا

نسيم الجود
2010-10-14, 13:57
بارك الله فيك

عبير ORAN
2011-10-10, 17:28
thank you so much

احلام 2012
2011-10-13, 07:52
بارك الله فيك