اسماعيل الجوال
2010-10-02, 19:53
مولده صلى الله عليه وسلم
@-ولد النبي صلى اللّه عليه وسلم في فجر يوم الاثنين لاثنتي عشرة ليلة مضت من شهر ربيع الأول (وأهل مكة يزورون موضع مولده في هذا الوقت) في عام الفيل ولأربعين سنة خلت من حكم كسرى أنوشروان خسرو بن قياذ بن فيروز 20 أغسطس سنة (570) بمكة (1) في الدار التي صارت تدعى لمحمد بن يوسف الثقفي أخي الحجاج. وكانت قبل ذلك لعقيل بن أبي طالب ونزل على يد الشفا أم عبد الرحمن بن عوف فهي قابلته رافعاً بصره إلى السماء واضعاً يده بالأرض وكانت أمه تحدث أنها لم تجد حين حملت به ما تجده الحوامل من ثقل وكان يطوف بالبيت تلك الليلة فجاء إليها فقالت له يا أبا الحارث ولد لك مولود عجيب فذعر عبد المطلب وقال أليس بشراً سوياً؟ فقالت نعم ولكن سقط ساجداً ثم رفع رأسه وأصبعيه إلى السماء فأخرجته ونظر إليه وأخذه ودخل به الكعبة وعوذه ودعا له ثم خرج ودفعه إليها. وهو الذي سماه محمداً .. فقيل كيف سميت بهذا الاسم وليس لأحد من آبائك فقال أني لأرجو أن يحمده أهل الأرض كلهم. وكانت تلك السنة التي حمل فيها برسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم سنة الفتح والابتهاج فإن قريشاً كانت قبل ذلك في جدب وضيق في تلك السنة ... ومن عجيب ولادته ما روى من ارتجاج إيوان كسرى وسقوط أربع عشرة شرفة [من؟؟] شرفاته وذلك إشارة إلى أنه لم يبق من ملوكهم المستنين بالملك إلا أربعة عشر ملكا فهلك عشرة في أربع سنين وهلك أربعة إلى زمن عثمان رضي اللّه عنه. وغيض بحيرة طبرية وخمود نار فارس وكان على ما يقال لها ألف عام لم تخمد كما رواه البيهقي وأبو نعيم والخرائطي في الهواتف وابن عساكر. ومن ذلك أيضاً ما وقع من زيادة حراسة السماء بالشهب وقطع رصد الشياطين ومنعهم من استراق السمع. ولقد أحسن الشقراطيسي حيث قال:
ضاءت لمولده الآفاق واتصلت * بشرى الهواتف في الإشراق والطفل
وصرح كسرى تداعى من قواعده * وانقض منكسر الأرجاء ذا ميل
ونار فارس لم توقد وما خمدت * مذ ألف عام ونهر القوم لم يسل
خرت لمبعثه الأوثان وانبعثت * ثواقب الشهب ترمى الجن بالشهب
وينسب بعضهم ذلك إلى أنه حدث في ذلك الوقت زلزال عظيم. قال اليعقوبي في تاريخه: "وأصابت الناس زلزلة عمت جميع الدنيا الخ". ويروى أن الرشيد أراد هدم إيوان كسرى فقال له وزيره يحيى بن خالد البرمكي يا أمير المؤمنين لا تهدم بناء هو آية الإسلام. وقال البوصيري في الهمزية:
وتدعى إيوان كسرى ولولا * آية منك ما تداعى البناء
وغدا كل بيت نار وفيه * كربة من خمودها وبلاء
وعيون للفرس غارت فهل كا * ن (كان) لنيرانهم بها إطفاء
-------------------
(1) كان علماء الجغرافيا من الإغريق يطلقون على اسم مكة ما كورابا Makoraba
-------------------
*2*الاحتفال بمولده صلى اللّه عليه وسلم.
@-قال الإمام أبو شامة شيخ النووي: ومن أحسن ما ابتدع في زماننا ما يفعل كل عام في اليوم الموافق ليوم مولده صلى اللّه عليه وسلم من الصدقات والمعروف وإظهار الزينة والسرور. فإن ذلك، مع ما فيه من الإحسان للفقراء، مُشْعِرٌ بمحبة النبي صلى اللّه عليه وسلم وتعظيمه في قلب فاعِلِ ذلك، وشكرٌ اللّه تعالى على ما مَّن به من إيجاد رسوله صلى اللّه عليه وسلم الذي أرسله رحمة للعالمين.
قال السخاوي: إن عمل المولد حدث بعد القرون الثلاثة ثم لا زال أهل الإسلام في سائر الأقطار والمدن الكبار يعملون المولد ويتصدقون في لياليه بأنواع الصدقات ويعتنون بقراءة مولده الكريم ويظهر عليهم من بركاته كل فضل عميم.
وقال ابن الجوزي: من خواصه إنه أمان في ذلك العام وبشرى عاجلة بنيل البغية والمرام.
وأول من أحدثه من الملوك، الملك المظفر أبو سعيد صاحب إربل وألف له الحافظ بن دحية تأليفاً أسماه "التنوير في مولد البشير النذير" فأجازه الملك المظفر بألف دينار.
وصنع الملك المظفر المولد وكان يعمله في ربيع الأول ويحتفل به احتفالا هائلا وكان شهماً شجاعاً بطلا عاقلا عادلا وقيل أنه كان يصرف على المولد ثلاثمائة ألف دينار.
وكان السلطان أبو حمو موسى صاحب تلمسان يحتفل ليلة المولد غاية الاحتفال كما كان ملوك المغرب والأندلس في ذلك العصر وما قبله، ومن احتفاله له ما حكاه الحافظ سيدي أبو عبد اللّه التنسي ثم التلمساني في كتابه راح الأرواح فيما قاله المولى أبو حمو من الشعر وقيل فيه من الأمداح وما يوافق ذلك على حسب الاقتراح ونصه أنه كان يقيم ليلة الميلاد النبوي على صاحبه الصلاة والسلام بمشورة من تلمسان المحروسة مدعاة حفيلة يحشر فيها الناس خاصة وعامة فما شئت من نمارق مصفوفة وزرابى مبثوثة وبسط موشاة ووسائد بالذهب مغشاة وشمع كالأسطوانات وموائد كالهالات ومباخر منصوبة كالقباب يخالها المبصر تبراً مذاباً ويفاض على الجميع أنواع الأطعمة كأنها أزهار الربيع المنمنة فتشتهيها الأنفس وتستلذها النواظر ويخالط حسن رياها الأرواح ويخامر رتب الناس فيها على مراتبهم ترتيب احتفال وقد علت الجميع أبهة الوقار والإجلال وبعقب ذلك يحتفل المسمعون بامداح المصطفى عليه الصلاة والسلام ومكفرات ترغب في الإقلاع عن الآثام يخرجون فيها من فن إلى فن ومن أسلوب إلى أسلوب ويأتون من ذلك بما تطرب له النفوس وترتاح إلى سماعه القلوب وبالقرب من السلطان رضوان اللّه تعالى عليه خزانة المنجانة قد زخرفت كأنها حلة يمانية لها أبواب موجفة على عدد ساعات الليل الزمانية فمهما مضت ساعة وقع النقر بقدر حسابها وفتح رفعة مشتملة على نظم فيه تلك الساعة باسمها مسطورة فتصقها بين يدي السلطان بلطافة ويسراها على فمها كالمؤدية بالمبايعة حق الخلافة. هكذا حالهم إلى انبلاج عمود الصباح ونداء المنادي حي على الفلاح. انتهى
وفي زماننا هذا يحتفل المسلمون بيوم مولده صلى اللّه عليه وسلم في جميع الأمم الإسلامية. وفي القطر المصري تتلى الأذكار وتوزع الصدقات على الفقراء والمحتاجين. وفي القاهرة يتحرك موكب أرباب الطرق بعد الظهر من ميدان باب الخلق أمام المحافظة، ويسير قاصداً ميدان الاحتفال بالعباسية مجتازاً شوارع تحت الربع فالسكرية فالغورية فميدان الأشراقية فالفحامين فالحسينية فالعباسية ويشتد الزحام في هذه الشوارع وتتقدم الموكب كوكبة من فرسان رجال الشرطة وتحف به من الجانبين قوة من رجال الجيش وقد جرت عادة الحكومة أن تحتفل بهذا اليوم المبارك احتفالا رسمياً في العباسية حيث تقام سرادقات للوزارات ويتوجه جلالة الملك أو نائبه إلى مكان الاحتفال وهناك يعرض الحامية المصرية على أثر وصوله ثم ينتقل إلى السرادق الملكي ويستقبل رجال الطرق الصوفية بأعلامهم وبعدئذ يقصد سرادق شيخ مشايخ الطرق الصوفية فيستمع تلاوة القصة النبوية وبعد سماعها يخلع على تاليها الخلعة الملكية وتدار المرطبات والحلوى على الحاضرين ثم ينصرف بعد ذلك بموكبه الحافل أثناء قصف المدافع وفي المساء تنار الزينات المقامة على السرادقات وتطلق الألعاب النارية البديعة وفي الصباح تعطل الحكومة وزارتها ومصالحها وتتلى القصة النبوية الشريفة في المشهد الحسيني بحضور محافظ مصر.
*2*مرضعاته صلى اللّه عليه وسلم
@-أول من أرضعه صلى اللّه عليه وسلم من النساء أمه آمنة ثم ثويبة الأسلمية جارية أبي لهب التي أعتقها حين بشرته بولادته أياماً قبل قدوم حليمة، وخولة بنت الأزور وأم أيمن، وامرأة سعدية غير حليمة، وثلاث نسوة من العواتك.
وأكثرهن إرضاعاً له حليمة بنت أبي ذؤيب السعدية وكان من عادة العرب إذا ولد لهم مولود يلتمسون له مرضعة من غير قبيلتهم ليكون أنجب للولد وأفصح له فجاءت نسوة من بني سعد إلى مكة يلتمسن الرضعى ومعهن حليمة السعدية في سنة شديدة القحط فكل امرأة أخذت رضيعاً الا حليمة وقد كانت تحدث أنها خرجت من بلدها مع زوجها الحارث بن عبد العزى وابن لها صغير ترضعه في نسوة من بني سعد بن بكر يلتمس الرضعاء. قالت وهي سنة شهباء (1) لم تبق لنا شيئا، فخرجت على أتانِ لي قمراء (2) معنا مشارف (3) لنا واللّه ما تبض (4) بقطرة وما ننام ليلنا من صبينا (5) الذي معناه من بكائه من الجوع. ما في ثديي ما يغنيه وما في شارفنا ما يغذيه ولكنا كنا نرجو الغيث والفرج. فخرجت على أتان تلك فلقد أدمت (6) بالركب حتى شق ذلك عليهم ضعفا وعجفا (7) حتى قدمنا مكة نلتمس الرضعاء فما منا امرأة إلا وقد عرض عليها رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فتأباه إذا قيل لها أنه يتيم وذلك أنا إنما كنا نرجو المعروف من أبي الصبي فكنا نقول يتيم وما عسى أن تصنع أمه وجده فكنا نتركه لذلك فما بقيت امرأة قدمت معي إلا أخذت رضيعاً فقلت واللّه لأذهبن إلى ذلك اليتيم فلآخذنه. فقال لا بأس عليك أن تفعلي عسى اللّه أن يجعل لنا فيه بكرة فذهبت إليه فأخذته وما حملني على أخذه إلا أني لم أجد غيره، فما أخذته رجعت به إلى رحلي فما وضعته في حجري أقبل على ثديي بما شاء من لبن فشرب حتى روى وشرب معه أخوه حتى روى ثم ناما وما كنا ننام معه قبل ذلك وقام زوجي إلى شارفنا فإذا إنها لحافل (8) فحلب منها ما شرب وشربت معه حتى انتهينا ريا فبتنا بخير ليلة وقال صاحبي حين أصبحنا تعلمي واللّه يا حليمة لقد أخذت نسمة مباركة فقلت واللّه أني لأرجو ذلك، ثم خرجنا وركبت أتاني وحملته عليها معي فواللّه لقطعت بالركب ما يقدر عليها شيء من حمرهم حتى إن صواحبي ليقلن لي يا ابنة أبي ذؤيب ويحك أربعي علينا (9) أليست هذه أتانك التي كنت خرجت عليها فأقول لهن بلى واللّه إنها لهي فيقلن واللّه إن لها شأناً ثم قدمنا منازلنا من بلاد بني سعد وما أعلم أرضاً من أرض اللّه أجدب منها فكانت غنمي تروح على حين قدمنا به معنا شباعا لبناً فنحلب ونشرب وما يحلب إنسان قطرة لبن ولا يجدها في ضرع حتى كان الحاضرون من قومنا يقولون لرعيانهم ويلكم اسرحوا حيث يسرح راعي بنت أبي ذؤيب فتروح أغنامهم جياعاً ما تبض بقطرة لبن وتروح غنمي شباعاً لبناً فلم نزل نتعرف من اللّه الزيادة والخير حتى مضت سنتاه وفصلته وكان يشب شباباً لا يشبه الغلمان فلم يبلغ سنتيه حتى كان غلاماً جفراً (10) فقدمنا به على أمه ونحن أحرص شيء على مكثه فينا لما كنا نرى من بركته فلم نزل بها حتى ردته معنا.
-------------------
(1) سنة شهباء يعني الجدب والقحط لأن الأرض تكون في بيضاء.
(2) على أتان لي قمراء الأتان الأنثى من الحمير، والقمراء التي في لونها بياض.
(3) المشارف - بضم الميم -: الناقة المسنة.
(4) ما نبض معناه لا ترشح.
(5) اسم هذا الصبي عبد اللّه بن الحارث وهو أخو رسول اللّه من الرضاعة وأخوته غيره أنيسة بنت الحارث وجذامة بنت الحارث وهي الشيماء غلب ذلك على أسمها فلا تعرف في قومها إلا به وهم لحليمة.
(6) أدمت بالركب أي أطلت عليهم المسافة لتمهلهم عليها، مأخوذ من الشيء الدائم.
(7) العجف بفتح العين والجيم الهزال.
(8) الحافل الممتلئة الضرع من اللبن.
(9) أربعي علينا أي أعطفي علينا بالرفع وعدم الشدة في السير.
(10) حتى كان غلاما جفراً. أي غليظا شديداً.
-------------------
*2*شق الصدر
@-قالت حليمة فرجعنا فواللّه أنه بعد مقدمنا بأشهر مع أخيه لفي بهم لنا (1) خلف بيوتنا إذا أتانا أخوه يشتد فقال لي ولأبيه ذاك أخي القرشي قد أخذه رجلان عليهما ثياب بيض فأضجعاه فشقا بطنه فهما يسوطانه (2) قالت فخرجت أنا وأبوه نحوه فوجدناه قائماً منقعاً وجهه (3) فالتزمته والتزمه أبوه فقلنا له مالك يا بني؟ قال جاءني رجلان عليهما ثياب بيض فأضجعاني وشقا بطني فالتمسا فيه شيئا لا أدري ما هو؟ قالت فرجعنا إلى خبائنا وقال لي أبوه يا حليمة لقد خشيت أن يكون هذا الغلام قد أصيب فألحقيه بأهله قبل أن يظهر ذلك به فاحتملناه فقدمنا به على أمه فقالت ما أقدمك به ما ظئر (4) وقد كنت حريصة عليه وعلى مكثه عندك فقلت قد بلغ اللّه بابني وقضيت الذي عليَّ وتخوفت الأحداث عليه فأديته عليك كما تحبين. قالت ما هذا شأنك فاصدقيني خبرك قالت فلم تدعني حتى أخبرتها. قالت أفتخوفت عليه الشيطان؟ قلت نعم. قالت كلا: واللّه ما للشيطان عليه من سبيل، وإن لبنيّ لشأناً أفلا أخبرك خبره؟ قلت بلى. قالت رأيت حين حمله به أنه خرج مني نور أضاء لي به قصور بصرى (5) من أرض الشام، ثم حملت به فواللّه ما رأيت من حمل قط كان أخف ولا أيسر منه ووقع حين ولدته وأنه لواضع يديه بالأرض رافع رأسه إلى السماء. دعيه عنك وانطلقي راشدة.
كان أو ما شق صدره عليه الصلاة والسلام في السنة الثالثة من عمره وقيل في الرابعة وذلك لتطهيره وإخراج حظ الشيطان منه ويقول مؤرخو الأفرنج (6) ومنهم الأستاذ نيكلوسن في كتابه أدب العرب صفحة (147 - 148) طبعة 1908 وكذا الأستاذ موير في كتابه حياة محمد: إن هذه نوبة صرعية، وهذا مردود لأنه لم تشاهد فيه علامات الصرع طول عمره.
وإلى قصة إرضاعه صلى اللّه عليه وسلم يشير الهمزية حيث يقول:
وبدت في رضاعه معجزات * ليس فيها عن العيون خفاء
إذ أبته ليتمه مرضعات * قلن ما في اليتيم عنا غناء
فأتته من آل سعد فتاة * قد أبتها لفقرها الرضعاء
أرضعته لبانها فسقتها * وبنيها ألبانهن الشاء
أصبحت شولا عجافا وأمست * ما بها شائل ولا عجفاء
أخصب العيش عندها بعد محل * إذ غدا للنبي منها غذاء
يا لها منة لقد ضوعف الأجـ * ـر (الأجر) عليها من جنسها والجزاء
وإذا سخر الإله أناساً * لسعيد فإنهم سعداء
-------------------
(1) البهم بفتح الباء الصغار من الغنم واحدتها بهمة.
(2) فهما يسوطانه. يقال سطت اللبن والدم وغيرهما أسوطه إذا ضربت بعضه ببعض وحركته. واسم العود الذي يضرب به، المسوط.
(3) منتقعا وجهه. أي متغيراً.
(4) يا ظئر. أصل الظئر الناقة التي تعطف على ولد غيرها فتدر عليه، فسميت المرأة التي ترضع ولد غيرها ظئرا بذلك.
(5) بصرى بضم الباء مدينة من أرض الشام.
(6) [يقول ذلك "بعض" مؤرخي الإفرنج، من المعاندين. دار الحديث]
-------------------
*2*الحض على قتله صغيراً
@-وكانت حليمة كلما مر بها جماعة من اليهود وحدثتهم بشأنه صلى اللّه عليه وسلم حضوا على قتله ولكما عرضته على العرافيى [العرافين؟؟] في الأسواق صاحوا بقتله وكانوا يقولون اقتلوا هذا الصبي فليقتلن أهل دينكم وليكسرن أصنامكم وليظهرن أمره عليكم. وعن حليمة رضي اللّه عنها أنه مر بها جماعة من اليهود فقالت ألا تحدثوني عن ابني هذا؟ حملته أمه كذا ووضعته كذا ورأت عند ولادته كذا وذكرت لهم كل ما سمعته من أمه وكل ما رأته هي بعد أن أخذته وأسندت الجميع إلى نفسها كأنها هي التي حملته ووضعته. فقال أولئك اليهود بعضهم لبعض اقتلوه. فقالوا أو يتيم هو؟ فقالت لا. هذا أبوه وأنا أمه. فقالوا لو كان يتيما قتلناه لأن ذلك عندهم من علامات نبوته. وعن حليمة أيضاً رضي اللّه عنها أنها نزلت به صلى اللّه عليه وسلم بسوق عكاظ وكان سوقاً للجاهلية بين الطائف ونخلة المحل المعروف، كانت العرب إذا قصدت الحج أقامت بهذا السوق شهر شوال يتفاخرون ويتناشدون الأشعار ويبيعون ويشترون. فلما وصلت حليمة به سوق عكاظ رآه كاهن من الكهان فقال يا أهل عكاظ اقتلوا هذا الغلام فإن له ملكا. فمالت به وحادت عنه الطريق فأنجاه اللّه. وقد رأت حليمة السعدية من النبي صلى اللّه عليه وسلم الخير والبركة وأسعدها اللّه بالإسلام هي وزوجها وبنيها.
*2*وفاة آمنة
@-بعد أن ردت حليمة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم خرجت به أمه مرة إلى المدينة سنة 575-576 لزيارة أخواله من بني النجار أي أخوال جده عبد المطلب فمرضت وهي راجعة به وماتت ودفنت بالأبواء بين مكة والمدينة وعمره ست سنوات وكان عمر آمنة حين وفاتها ثلاثين سنة.
وفي الحديث أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم زار قبر أمه بالأبواء في إلف مقنع فبكى وأبكى.
فحضته أم أيمن بركة الحبشية التي ورثنها من أبيه وحملته إلى جده عبد المطلب بن هاشم الذي كان يحبه ويكرمه فقد كان يوضع لعبد المطلب فراش في ظل الكعبة فكان بنوه يجلسون حول فراشه ذلك حتى يخرج إلا لا يجلس عليه أحد من بنيه إجلالا له. فكان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يأتي وهو غلام جفر حتى يجلس عليه فيأخذه أعمامه ليؤخروه عنه. فيقول عبد المطلب إذا رأي ذلك منهم: "دعوا ابني فواللّه إن له لشأناً".
ثم يجلسه معه عليه ويمسح ظهره بيده ويسره ما يراه يصنع.
وبوفاة أمه صار يتيما وقد أشير إلى يتمه في القرآن قال تعالى {ألم يجدك يتيماً فآوى} وفي السنة التي استقل جده صلى اللّه عليه وسلم فيها بكفالته رمد رمداً شديداً.
*2*عبد المطلب يهنئ سيف بن ذي يزن
@-لما ظفر سيف بن ذي يزن الحميري بالحبشة وذلك بعد مولد النبي صلى اللّه عليه وسلم أتته وفود العرب وأشرافها وكان من جملتهم وفد قريش وفيهم عبد المطلب بن هاشم جد النبي صلى اللّه عليه وسلم وأمية بن عبد شمس وأسد بن عبد العزى وعبد اللّه بن جدعان فقدموا عليه وهو في قصر يقال له غمدان بضم الغين فطلبوا الأذن عليه فأذن لهم وتكلم عبد المطلب مهنئاً ولما فرغ أدناه وقربه ثم استنهضوا إلى دار الضيافى وقاموا ببابه شهراً لا يصلون إليه ولا يؤذن لهم في الإنصراف. ثم انتبه إليهم انتباهه فدعا بعبد المطلب من بينهم فخلا به وأدنى مجلسه قوال: (1) "يا عبد المطلب أني مفوض إليك من علمي أمراً لو غيرك كان لم أبح له به ولكني رأيت معدنه فأطلعتك عليه فليكن مصوناً حتى يأذن اللّه بالغ أمره. أني أجد في العلم المخزون والكتاب المكنون الذي أرخرناه لأنفسنا واحتجبناه دون غيرنا خبراً عظيماً وخطراً فيه شرف الحياة وفضيلة الوفاة للناس كافة ولرهطك عامة ولنفسك خاصة".
قال عبد المطلب: "مثلك يا أيها الملك بر، وسر ، وبشر، ما هو؟ فداك أهل الوبر زمراً بعد زمر".
قال ابن ذي يزن: "إذا ولد مولود بتهامة. بين كتفيه شامة. كانت له الإمامة. إلى يوم القيامة" . قال عبد المطلب : "أبيت اللعن لقد أبت بخير ما آب به أحد فلولا اجلال الملك لسألته عما ساره إلى ما أزداد به سروراً" .
قال ابن ذي يزن: "هذا حينه الذي يولد فيه أو قد ولد. يموت أبوه وأمه. ويكفله جده وعمه وقد وجناه مرارا. واللّه باعثه جهاراً. وجاعل له منا أنصارا يعزبهم أولياءه. ويذل به أعداءه. ويفتتح كرائم الأرض. ويضرب بهم الناس عن عرض. يخمد الأديان. وكسر الأوثان ويعبد الرحمن. قوله حكم وفصل. وأمره خزم وعدل. يأمر بالمعروف ويفعله. وينهي عن المنكر ويبطله".
فقال عبد المطلب: "طال عمرك. ودام ملكك. وعلا جدك. وعز فخرك. فهل الملك يسرني بأن يوضح فيه بعض الإيضاح؟".
فقال ابن ذي يزن:
"والبيت ذي الطنب. والعلامات والنصب. إنك يا عبد المطلب لجده من غير كذب".
فخر عبد المطلب ساجداً. قال ابن ذي يزن:
"ارفع رأسك. ثلج صدرك. وعلا أمرك. فهل أحسست شيئا مما ذكرت لك؟".
فقال عبد المطلب:
"أيها الملك. كان لي ابن كنت له محبا وعليه حدبا مشفقا. فزوجته كريمة من كرائم قومه. يقال لها آمنة بنت وهب بن عبد مناف فجاءت بغلام بين كتفيه شامة فيه كل ما ذكرت من علامة مات أبوه وأمه وكفلته أنا وعمه".
قال ابن ذي يزن:
"أن الذي قلت لك كما قلت. فاحفظ ابنك واحذر عليه اليهود فانهم له أعداء ولن يجعل اللّه لهم عليه سبيلا. أطو ما ذكرت لك دون هؤلاء الرهط الذين معك فإني لست آمن أن تدخلهم النفاسة من أن تكون لكم الرياسة. فيبغون لك الغوائل وينصبون لك الحبائل وهم فاعلون وأبناؤهم، ولولا أني أعلم أن الموت مجتاحي قبل مبعثه لسرت بخيلي ورجلي حتى أصير بيثرب دار مهاجره، فإني أجد في الكتاب الناطق العلم السابق أن يثرب دار هجرته، وبيت نصرته، ولولا أني أقيه الآفات، وأحذر عليه العاهات لأعلنت على حدائه ستة وأوطأت أقدام العرب عقبه ولكني صارف إليك ذلك عن تقصير مني بمن معك".
ثم أمر لكل رجل منهم بعشرة أعبد وعشر إماء سود وخمسة أرطال فضة وحلتين من حلل اليمن وكرش مملوء عنبرا وأمر لعبد المطلب بعشرة أضعاف ذلك وقال:
"إذا حال الحول فأنبئني بما يكون من أمره".
فما حال الحول حتى مات ابن ذي يزن. فكان عبد المطلب بن هاشم يقول "يا معشر قريش لا يغبطني رجل منكم بجزيل عطاء الملك فإنه إن نفاد ولكن يغبطني بما يبقى لي ذكره وفخره ولعقى." فإذا قالوا له وما ذاك قال سيظهر بعد حين اهـ.
وفي أسد الغابة أن سيف بن ذي يزن أدرك النبي صلى اللّه عليه وسلم وأخبره جده عبد المطلب بنبوة محمد صلى اللّه عليه وسلم وصفته.
كانت اليمن تابعة للحبشة فكره أهلها حكمهم ونهض سيف بن ذي يزن لسترداد عرش آبائه فسعى لدى الإمبراطورية الرومانية لشد أزره فلم يفلح فالتجأ إلى ملك الفرس فأمده بجيش فحارب الحبشة وانتصر عليها وقتل وإليها الذي كان يدعى مسروقا وذلك حوالي سنة 575 م ويوافق العام الذي توفيت فيه آمنة أم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم. فليس هناك اعترض على ذهاب الوفود العربية لتهنئة ابن ذي يزن من الوجهة التاريخية. أضف إلى ذلك أن الواجب يقضي على رؤساء العرب بذلك لقرابتهم وجوارهم واشتراك مصالحهم التجارية لأنهم كانوا يرحلون إلى اليمن للتجارة في الشتاء كما كانوا يرحلون إلى الشام صيفا.
وقد اعترض الأستاذ "فيل" Weil على صحة القصة المتقدمة من الوجهة التاريخية وفيما شرحه الأستاذ "برسيفال" M.C. de Perceval رد على إعتراضه لأنه أثبت انهزام الحبشة لأول مرة في سنة 575 م وإن كانت لم تطرد نهائيا من اليمن إلا سنة 597 م. أما الأستاذ موير فإنه لم يستطع تكذيب ذهاب الوفود ومعهم عبد المطلب (الذي كان وقتئذ حاكم مكة) تكذيبا باتا قال أن قصة تشمل مبالغات كثيرة فيما يتعلق بالأخبار عن النبي المنتظر وهذا ما جعله يرتاب فيها. على أن المتتبع للسيرة النبوية يجد أن هذه القصة ليست فريدة في بابها من حيث الأخبار برسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فإن ما أخبره به سيف لعبد المطلب قاله بحيرا لأبي طالب وعرفه سلمان الفارسي وأذاعه أحبار اليهود مما سنعني بذكره مفصلا في كتابنا هذا إن شاء اللّه تعالى ولعل ما أخبر به ابن ذي يزن لعبد المطلب كان من الأسباب التي جعلت عبد المطلب يكرم النبي صلى اللّه عليه وسلم ويقول لأولاده إذا نحوا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عن مجلسه لصغره (دعوا ابني فو اللّه إن له لشأنا).
-------------------
(1) راجع الجزء الأول من العقد الفريد لابن عبد ربه والجزء الأول من تاريخ ابن عساكر.
-------------------
*2*وفاة جده عبد المطلب وكفالة عمه أبي طالب
@-لما بلغ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ثماني سنوات توفى جده عبد المطلب في مكة سنة 578 م بعد عام الفيل بثماني سنين وله عشر ومائة سنة وقيل أكثر من ذلك ودفن بالحجون جبل بأعلى مكة عنده مدافن أهلها عند قبر جده قصي ولما حضرته الوفاة أوصى به إلى عمه شقيق أبيه "أبي طالب" واسمه عبد مناف وعبد الكعبة وكان كريما لكنه كان فقيرا كثير الأولاد. وكان يرى منه صلى اللّه عليه وسلم الخير والبركة ويحبه حبا شديدا ولذا لا ينام إلا جنبه ويخرج به متى خرج وأوصى عبد المطلب إلى أبي طالب أيضا بسقاية زمزم وإلي ابنه الزبير بالحكومة وأمر الكعبة وكان رسول اللّه يبكي خلف سرير جده.
وفي هذه السنة مات حاتم الطائي وكسرى أنوشروان.
وقد أخرج ابن عساكر عن جهلمة بن عرفطة قال:
قدمت مكة وهم في قحط فقالت قريش يا أبا طالب أقحط الوادي وأجدب. فهلم فاستسق فخرج أبو طالب ومعه غلام كأنه شمس دجى تجلت عنه سحابة قتماء حوله أغيلمة (جمع غلام) فأخذه أبو طالب فألصق ظهره بالكعبة ولاذ الغلام بإصبعه (اشار بأصبعه إلى السماء كالمتضرع الملتجئ) وما في السماء قزعة (قطعة من سحاب) فأقبل السحاب من هنا وهنا وأغدق وأغدودق (كثر مطره) وانفجر الوادي وأخصب النادي. وفي ذلك يقول أبو طالب مادحا النبي صلى اللّه عليه وسلم:
وأبيض يستسقي الغمام بوجهه ثمال اليتامى عصمة للأرامل
يلوذ به الهلاك من آل هاشم فهم عنده في نعمة وفواضل
(الثمال) بكسر المثلثة الملجأ والغياث وقيل المطعم في الشدة. (عصمة للأرامل) أي يمنعهم من الضياع والحاجة. هذان بيتان من قصيدة طويلة لأبي طالب(1). وقد شاهد أبو طالب هذا الاستسقاء فنظم هذه القصيدة وقد شاهده مرة أخرى قبل هذه فروى الخطابي حديثا فيه أن قريشا تتابعت عليهم سنو جدب في حياة عبد المطلب فارتقى هو ومن حضره من قريش أبا قبيس (بالتصغير اسم الجبل المشرف على مكة). فقام عبد المطلب واعتضده صلى اللّه عليه وسلم فرفعه على عاتقه وهو يومئذ غلام فقال أيفع أو قرب ثم دعا فسقوا في الحال فقد شاهد أبو طالب ما دله على ما قال أعني قوله: "وأبيض يستسقي الغمام بوجهه" وكان الاستسقاء في الجاهلية الأولى بخاف هذه الطريقة فكانوا إذا تتابعت عليهم الأزمات واشتد الجدب واحتاجوا إلى الأمطار يجمعون لها بقراً معلقة في أذنابها وعراقيبها السلع والعشر(2) ويصعدون بها إلى جبل وعر ويشعلون النار ويضجون بالدعاء والتضرع وكانوا يرون من الأسباب المتوصل بها إلى نزول الغيث.
-------------------
(1) ذكر القصيدة ابن اسحق وهي أكثر من ثمانين بيتا.(2) السلع والعشر نوعان من الشجر.
-------------------
*2*السفر إلى الشام.
@-لما بلغ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم اثنتي عشرة خرج مع عمه أبي طالب إلى الشام في ركب للتجارة سنة 582 م فلما نزل الركب بصرى من أرض الشام وهي قصبة حوران وكانت في ذلك الوقت قصبة للبلاد العربية التي كانت تحت حكم الرومان وكان ببصرى راهب يقال له بحيرا في صومعة له. وكان ذا علم من أهل النصرانية ولم يزل في تلك الصومعة راهباً إليه يصير علمهم عن كتاب يتوارثونه كابراً عن كابر فلما نزلوا ذلك العام ببحيرا وكانوا كثيراً ما يمرون به قبل ذلك فلا يكلمهم ولا يعرض لهم حتى كان ذلك العام نزلوا به قريبا من صومعته. فصنع لهم طعاماً كثيراً وذلك عن شيء رآه من صومعته
فقد رأى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في الركب حين أقبلوا وغمامة تظله من بين القوم ثم أقبلوا فنزلوا في ظل شجرة قريباً منه فنظر إلى الغمامة حتى أظلت الشجرة وتهصرت أغصانها على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حتى استظل تحتها
فلما رأى ذلك بحيرا نزل من صومعته وقد أمر بذلك الطعام فصنع ثم أرسل إليهم فقال إني صنعت لكم طعاما يا معشر قريش. فإني أحب أن تحضروا كلكم صغيركم وكبيركم. وعبدكم وحركم.
قال له رجل منهم واللّه يا بحيرا إن لك شأنا اليوم ما كنت تصنع هذا بنا وقد كنا نمر بك كثيراً فما شأنك اليوم؟ قال له بحيرا صدقت قد كان ما تقول ولكنكم ضيف وقد أحببت أن أكرمكم وأصنع لكم ضعاماً فتأكلون منه كلكم. فاجتمعوا وتخلف رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من بين القوم لحداثة سنه في رحال القوم تحت الشجرة. فلما نظر بحيرا في القوم فلم ير الصفة التي يعرف ويجد عنده فقال يا معشر قريش لا يتخلفن أحد منكم عن طعامي. قالوا يا بحيرا ما تخلف عنك أحد ينبغي له أن يأتيك وهو أحدث القوم سنا في رحالهم. فقال لا تفعلوا ادعوه فليحضر هذا الطعام معكم ثم قام إليه رجل من قريش فاحتضنه وأجلسه مع القوم. فلما رآه بحيرا جعل يلحظه لحظا شديدا وينظر إلى أشياء من جسده قد كان يجدها عنده من صفته حتى إذا فرغ القوم من طعامهم وتفرقوا قام بحيرا فقال يا غلام أسألك بحق اللات والعزي إلا ما أخبرتني عما أسألك عنه وإنما قال له بحيرا ذلك لأنه سمع قومه يحلفون بهما فأبى رسول اللّه أن يستحلفه بهما فقال له بحيرا ألا أخبرتني عما أسألك عنه؟ فقال له سلني عما بدا لك فجعل يسأله عن أشياء من حاله ومن نومه وهيئته وأموره فجعل رسول اللّه يخبره بخبره فيوافق ذلك ما عند بحيرا من صفته ثم نظر إلى ظهره فرأى خاتم النبوة بين كتفيه وكان مثل أثر المحجمة (يعني أثر المحجمة القابضة على اللحم حتى يكون ناتئا) فلما فرغ أقبل على عمه أبي طالب فقال ما هذا الغلام منك؟ قال ابني. قال بحيرا ما هو بابنك وما ينبغي لهذا الغلام أن يكون أبوه حيا؟ فقال إنه ابن أخي. قال فما فعل أبوه؟ قال مات وأمه حبلى به. قال صدقت فارجع بابن أخيك إلى بلده واحذر عليه اليهود فو اللّه لئن رأوه وعرفوا منه ما عرفت ليبغنه شراً فإنه كائن له شأن عظيم فأسرع به إلى بلده فخرج به عمه أبو طالب سريعاً حتى أقدامه مكة حين فرغ من تجارته بالشام(1)
إن بحيرا لما عرف رسول اللّه تخوف عليه من اليهود فنصح لأبي طالب بالرجوع به سريعاً والمحافظة عليه وقد روت حليمة أن اليهود كانوا إذا رأوه وعرفوه حض بعضهم بعضا على قتله حتى أنها كانت تضطر إلى الإختفاء به والإبتعاد عنهم وعلى كل حال كانوا ينتظرون في ذلك الوقت ظهور نبي وكان بعض المتعمقين في الدين يعرفون علامات ذلك النبي وسنذكر فيما بعد أوصافه صلى اللّه عليه وسلم المذكورة في التوراة ولا شك أن عالما مثل بحيرا كان يعرفها
قال مستر وليام موير في كتابه (حياة محمد) بشأن رحلته صلى اللّه عليه وسلم مع عمه إلى الشام: "أن جميع الذين دنوا سيرة الرسول قد ذكروا تفاصيل مضحكة عن هذه الرحلة تدل على عظمة نبوته المنتظرة"
ثم أورد قصة سفره كما ذكرت في هذا الكتاب وكما ذكرها المؤرخون. وإنا لا ندري لماذا كانت هذه التفاصيل مضحكة في نظر مستر موير؟ إنه يعترف بأن جميع المؤرخين رووا هذه التفاصيل ولا شك أنه يستسقي منهم سيرة الرسول. ومن بينهم من يعتمد عليه ويحتج بكلامه ويرفض ما يريد رفضه إذ لم تكن الحادثة أو الرواية واردة في كتبهم أو إذا طرأ تحريف في نص كلامهم فهو يعول مثلا على ابن اسحاق وعلى الطبري والواقدي وغيرهم. فكان الواجب عليه باعتبار كونه مؤرخاً أن يقر هذه التفاصيل التي ذكرها جميع المؤرخين بلا استثناء. هذا وليس لديه رواية أثبت من روايتهم تعارض أو تنفي ما ذكروه. أما كون هذه التفاصيل مضحكة فهذا ما لم يقل به أحد من أكابر المؤرخين الذين استمد منهم مادته. وكان ينبغي عليه أن يقدر موقفه ويعلم أنه إنما يكتب تاريخ نبي لا شخص عادي. فالأنبياء والرسل تقع في حياتهم أمور خارقة تدل على نبوتهم وتؤيد رسالتهم فالتي تقع قبل النبوة كالخوارق التي حدثت في مولده صلى اللّه عليه وسلم وما شاهدته حليمة من تيسير الرزق والبركة وشق الصدر وما حدث أثناء سفره إلى الشام تسمى أرهاصات والتي تقع بعد النبوة تسمى معجزات. وكرامات الأولياء كمعجزات الأنبياء غير أنهم لم يدعوا النبوة. ولا شك أن محمدا صلى اللّه عليه وسلم وقعت منه خوارق العادات قبل النبوة وبعدها ولا سبيل إلى إنكار مجموع ارهاصاته ومعجزاته (أولاً) من الوجهة التاريخية لأن معاصريه وكبار الصحابة قد شاهدوها ورووها ورواها عنهم كبار المؤرخين ولو أبطلنا مشاهداتهم ورواياتهم لم يبق للتاريخ قيمة (ثانياً) من الوجهة الدينية لأن الدين يقر معجزات الأنبياء وكرامات الأولياء. فمن ذلك معجزات عيسى عليه السلام فإنه تكلم في المهد صبياً وأبرأ الأعمى والأبرص وأحيا الميت. ومع ذلك لم يقل أحد من المسلمين أن هذه أمور مضحكة
وفي العالم أناس ليسوا بأنبياء ولا أولياء تراهم في كل زمان ممتازين على أبناء جيلهم يأتون أعمالا يستحيل على غيرهم الإتيان بمثلها ولقد شاهدنا في مصر فتى أميا من أبناء أحد المزارعين ذاع صيته ونشرت الجرائد صورته. هذا الطفل يضرب أرقاما طوالا وينطق بالجواب الصحيح بسهولة وبسرعة مدهشة من غير أن يخط بقلم وقد رأيته شخصياً أكثر من مرة وحار فيه علماء الرياضة وامتحنه كبار رجال الحكومة والصحافة. فهذا إنسان عادي له موهبة خاصة أذهلت عقول الخاصة. فكيف يمكن إنكار هذه الموهبة الخارقة والفتى لا يزال حياً بين ظهرانينا يحل المسائل في الطرق ويجيب كل سائل؟
فإذا جاء رجل مثل مستر موير بعد ذلك بجيل أو أكثر وزعم أن هذه خرافة مضحكة ابتدعها المصريون لم يغير ذلك شيئا من الحقيقة.
-------------------
(1) راجع قصة بحيرا في سيرة ابن هشام وتاريخ الطبري وطبقات ابن سعد ولا صحة لما زعمه الدكتور اشنرنجر من أن أبا طالب رد محمدا مع بحيرا إلى مكة "Life, P.79" Dr. Sprenger
-------------------
*2*من هو بحيرا؟
@-لا ريب أن بحيرا الذي مر ذكره كان راهباً مسيحياً في الشام في ذلك الوقت وقد ذكر في الآداب البيزنطية أنه راهب نسطوري على مذهب أريوس ونسطور وكان ينكر لاهوت المسيح ويقول أن تسميته بآله غير جائزة بل يجب أن يدعى كلمة وأن تدعى والدته مريم والدة الناسوت الذي هو مظهر الكلمة السامي لا والدة اللّه وكان بحيرا قساً عالما فلكياً منجماً وقد اتخذ صومعته بقرب الطريق الموصل إلى الشام وأقام هناك مدة تمر عليه العربان والقوافل فكان ينذرهم بعبادة اللّه الواحد وينهاهم عن عبادة الأصنام وله تلميذ اسمه مذهب، وكان من جملة المتتلمذين له سلمان الفارسي النصراني وسلامه قصة غريبة ستذكر في موضعها.
قال مذهب: إن بحيرا توفي قتيلا بدسيسة بعض يهود أشرار. ومعنى بحيرا في السريانية عالم متبحر(1).
-------------------
(1) راجع بحيرا في دائرة المعارف العربية للبستاني.
-------------------
*2*رعية رسول اللّه الغنم بمكة(1)
@-قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم "ما من نبي إلا قد رعى الغنم" قالوا وأنت يا رسول اللّه؟ قال "وأنا". وقال "ما بعث اللّه نبيا إلا راعي الغنم" قال له أصحابه وأنت يا رسول اللّه؟ قال "وأنا رعيتها لأهل مكة بالقراريط(2)" وعن جابر بن عبد اللّه قال. كنا مع النبي صلى اللّه عليه وسلم نجني الكباث(3) فقال عليكم بالأسود منه فإنه أطيبه فإني كنت أجنيه إذا كنت راعي الغنم قلنا وكنت ترعى الغنم يا رسول اللّه؟ قال نعم وما من نبي إلا قد رعاها.
-------------------
(1) راجع طبقات ابن سعد الجزء الأول.
(2) القراريط هي أجزاء من الدراهم والدنانير يشترى بها الحوائج الحقيرة. وقيل أن القراريط موضع.
(3) قال ابن سيدة الكثبان بالفتح نضيج ثمر الأراك.
-------------------
*2*حرب الفجار(1) (580 - 590 م)
@-أيام الفجار عدة. فالفجار الأول كان بين كنانة وهواز. والثاني بين قريش وهوازن والثالث بين كنانة وهوازن والفجار الأخير بين قريش وكنانة كلها وهوازن. وهذه الحروب كانت قبل مبعث النبي صلى اللّه عليه وسلم بخمس وعشرين سنة. وقد شهد النبي صلى اللّه عليه وسلم الفجار الأخير وهو ابن خمس عشرة سنة وكان سببها النعمان بن المنذر أمير الحيرة بعث بلطيمة له إلى سوق عكاظ للتجارة (واللطيمة الإبل تحمل التجارة كالطيب والبز وأشباههما) وأجارها له عروة الرجال من بني هوازن فنزلوا على ماء يقال له أوارة، فوثب البراض خلي من بني كنانة على عروة فقتله وهرب إلى خيبر فاستخفى بها ولقي بشر بن أبي خازم الأسدي الشاعر فأخبره الخبر وأمره أن يعلم ذلك عبد اللّه بن جدعان وهشام بن المغيرة وحرب بن أمية ونوفل بن معاوية الدبلي وبلعاء بن قيس فوافى عكاظا فأخبرهم فخرجوا موائلين منكشفين إلى الحرم وبلغ قيسا الخبر آخر ذلك اليوم فقال أبو براء رئيس هوازن ما كنا من قريش إلا في خدعة فخرجوا في آثارهم فأدركواهم وقد دخلوا الحرم فناداهم رجل من بني عامر يقال له الأدرم بن شعيب بأعلى صوته: أن ميعاد ما بيننا وبينكم هذه الليالي من قابل وإنا لا نأتي في جمع
ولم تقم في تلك السنة سوق عكاظ فمكثت قريش وغيرها من كنانة وأسد بن خزيمة ومن لحق بهم من الأحابيش سنة يتأهبون لهذه الحرب وتأهبت قيس بن عيلان ثم حضروا من قابل ورؤساء قريش: عبد اللّه بن جدعان بن المغيرة وحرب بن أمية وأبو أحيحة سعيد بن العاص وعتبة بن ربيعة والعاص بن وائل ومعمر بن حبيب الجمحي وعكرمة بن عامر بن هاشم بن عبد مناف بن عبد الدار وخرجوا متساندين (أي ليس لهم أمير واحد يجمعهم) ويقال بل أمرهم إلى عبد اللّه بن جدعان وكان في قيس أبو البراء عامر بن مالك بن جعفر وسبيع بن ربيعة بن معاوية النضري ودريد بن الصمة ومسعود بن معتب وأبو عروة بن مسعود وعوف بن أبي حارثة المرى وعباس بن رعل السلى. وهؤلاء الرؤساء والقادة. ويقال بل كان أمرهم جميعا إلى براء وكانت الراية بيده وهو سوي صفوفهم فالتقوا فكانت الدبرة أول النهار لقيس وكنانة على هوازن ومن ضوى إليهم. ثم صارت الدبرة آخر النهار لقريش وكنانة على قيس فقتلوهم قتلا ذريعاً حتى نادى عتبة بن ربيعة يومئذ - وإنه لشاب ما كملت له ثلاثون سنة - إلى الصلح فاصطلحوا على أن عدوا القتلى ووردت قريش لقيس ما قتلت فضلا عن قتلاهم ووضعت الحرب أوزارها فانصرفت قريش وقيس
قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وذكر الفجار فقال "قد حضرته مع عمومتي ورميت فيه بأسهم وماأحب أني لم أكن فعلت" وقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم "كنت أنبل على أعمامي" يعني أناولهم النبل.
-------------------
(1) الفجار بكسر الفاء بمعنى المفاجرة كالقتال والمقاتلة وذلك أن كان قتالا في الشهر الحرام ففجروا فيه.
-------------------
*2*حِلف الفضول
@-كان حلف الفضول منصرف قريش من الفجار وكان أشرف حلف. وأول من دعا إليه الزبير بن عبد المطلب فأجتمعت بنو هاشم وزهرة وتيم في دار عبد اللّه بن جدعان فصنع لهم طعاماً فتعاقدوا وتعاهدوا باللّه لنكونن مع المظلوم حتى يؤدى إليه حقه ما بل بحر صوفة، وفي التآسى في المعاش، فسمت قريش ذلك الحلف حلف الفضور. وعن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أنه قال "ماأحب أن لي بحلف حضرته في دار ابن جدعان حمر النعم وأني أعذر به هاشم وزهرة وتيم تحالفوا أن يكونوا مع المظلوم ما بل بحر صوفة ولو دعيت به لأجبت وهو حلف الفضول".
*2*هل سافر النبي إلى اليمن؟
@-قال الأستاذ فيل الألماني Weil إن رسول اللّه سافر في السادسة من عمره إلى اليمن مع عمه الزبير في رحلة تجارية. ورد عليه الدكتور اشبرنجر Dr.Sprenger أن هذا الخبر ليس له أساس صحيح وأنه لم يجده في الكتب الموثوق بها. والحقيقة كما قال الدكتور اشبرنجر. نعم قد ذكر الطبري رواية جاء فيها أن خديجة إنما كاننت استأجرت رسول اللّه ورجلا آخر من قريش إلى سوق حباشة بتهامة الخ، غير أنه جاء في الطبري بعد ذلك أن الواقدي قال "فكل هذا خطأ والمشهور رواية ابن اسحاق وهي رحلته إلى الشام
@-ولد النبي صلى اللّه عليه وسلم في فجر يوم الاثنين لاثنتي عشرة ليلة مضت من شهر ربيع الأول (وأهل مكة يزورون موضع مولده في هذا الوقت) في عام الفيل ولأربعين سنة خلت من حكم كسرى أنوشروان خسرو بن قياذ بن فيروز 20 أغسطس سنة (570) بمكة (1) في الدار التي صارت تدعى لمحمد بن يوسف الثقفي أخي الحجاج. وكانت قبل ذلك لعقيل بن أبي طالب ونزل على يد الشفا أم عبد الرحمن بن عوف فهي قابلته رافعاً بصره إلى السماء واضعاً يده بالأرض وكانت أمه تحدث أنها لم تجد حين حملت به ما تجده الحوامل من ثقل وكان يطوف بالبيت تلك الليلة فجاء إليها فقالت له يا أبا الحارث ولد لك مولود عجيب فذعر عبد المطلب وقال أليس بشراً سوياً؟ فقالت نعم ولكن سقط ساجداً ثم رفع رأسه وأصبعيه إلى السماء فأخرجته ونظر إليه وأخذه ودخل به الكعبة وعوذه ودعا له ثم خرج ودفعه إليها. وهو الذي سماه محمداً .. فقيل كيف سميت بهذا الاسم وليس لأحد من آبائك فقال أني لأرجو أن يحمده أهل الأرض كلهم. وكانت تلك السنة التي حمل فيها برسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم سنة الفتح والابتهاج فإن قريشاً كانت قبل ذلك في جدب وضيق في تلك السنة ... ومن عجيب ولادته ما روى من ارتجاج إيوان كسرى وسقوط أربع عشرة شرفة [من؟؟] شرفاته وذلك إشارة إلى أنه لم يبق من ملوكهم المستنين بالملك إلا أربعة عشر ملكا فهلك عشرة في أربع سنين وهلك أربعة إلى زمن عثمان رضي اللّه عنه. وغيض بحيرة طبرية وخمود نار فارس وكان على ما يقال لها ألف عام لم تخمد كما رواه البيهقي وأبو نعيم والخرائطي في الهواتف وابن عساكر. ومن ذلك أيضاً ما وقع من زيادة حراسة السماء بالشهب وقطع رصد الشياطين ومنعهم من استراق السمع. ولقد أحسن الشقراطيسي حيث قال:
ضاءت لمولده الآفاق واتصلت * بشرى الهواتف في الإشراق والطفل
وصرح كسرى تداعى من قواعده * وانقض منكسر الأرجاء ذا ميل
ونار فارس لم توقد وما خمدت * مذ ألف عام ونهر القوم لم يسل
خرت لمبعثه الأوثان وانبعثت * ثواقب الشهب ترمى الجن بالشهب
وينسب بعضهم ذلك إلى أنه حدث في ذلك الوقت زلزال عظيم. قال اليعقوبي في تاريخه: "وأصابت الناس زلزلة عمت جميع الدنيا الخ". ويروى أن الرشيد أراد هدم إيوان كسرى فقال له وزيره يحيى بن خالد البرمكي يا أمير المؤمنين لا تهدم بناء هو آية الإسلام. وقال البوصيري في الهمزية:
وتدعى إيوان كسرى ولولا * آية منك ما تداعى البناء
وغدا كل بيت نار وفيه * كربة من خمودها وبلاء
وعيون للفرس غارت فهل كا * ن (كان) لنيرانهم بها إطفاء
-------------------
(1) كان علماء الجغرافيا من الإغريق يطلقون على اسم مكة ما كورابا Makoraba
-------------------
*2*الاحتفال بمولده صلى اللّه عليه وسلم.
@-قال الإمام أبو شامة شيخ النووي: ومن أحسن ما ابتدع في زماننا ما يفعل كل عام في اليوم الموافق ليوم مولده صلى اللّه عليه وسلم من الصدقات والمعروف وإظهار الزينة والسرور. فإن ذلك، مع ما فيه من الإحسان للفقراء، مُشْعِرٌ بمحبة النبي صلى اللّه عليه وسلم وتعظيمه في قلب فاعِلِ ذلك، وشكرٌ اللّه تعالى على ما مَّن به من إيجاد رسوله صلى اللّه عليه وسلم الذي أرسله رحمة للعالمين.
قال السخاوي: إن عمل المولد حدث بعد القرون الثلاثة ثم لا زال أهل الإسلام في سائر الأقطار والمدن الكبار يعملون المولد ويتصدقون في لياليه بأنواع الصدقات ويعتنون بقراءة مولده الكريم ويظهر عليهم من بركاته كل فضل عميم.
وقال ابن الجوزي: من خواصه إنه أمان في ذلك العام وبشرى عاجلة بنيل البغية والمرام.
وأول من أحدثه من الملوك، الملك المظفر أبو سعيد صاحب إربل وألف له الحافظ بن دحية تأليفاً أسماه "التنوير في مولد البشير النذير" فأجازه الملك المظفر بألف دينار.
وصنع الملك المظفر المولد وكان يعمله في ربيع الأول ويحتفل به احتفالا هائلا وكان شهماً شجاعاً بطلا عاقلا عادلا وقيل أنه كان يصرف على المولد ثلاثمائة ألف دينار.
وكان السلطان أبو حمو موسى صاحب تلمسان يحتفل ليلة المولد غاية الاحتفال كما كان ملوك المغرب والأندلس في ذلك العصر وما قبله، ومن احتفاله له ما حكاه الحافظ سيدي أبو عبد اللّه التنسي ثم التلمساني في كتابه راح الأرواح فيما قاله المولى أبو حمو من الشعر وقيل فيه من الأمداح وما يوافق ذلك على حسب الاقتراح ونصه أنه كان يقيم ليلة الميلاد النبوي على صاحبه الصلاة والسلام بمشورة من تلمسان المحروسة مدعاة حفيلة يحشر فيها الناس خاصة وعامة فما شئت من نمارق مصفوفة وزرابى مبثوثة وبسط موشاة ووسائد بالذهب مغشاة وشمع كالأسطوانات وموائد كالهالات ومباخر منصوبة كالقباب يخالها المبصر تبراً مذاباً ويفاض على الجميع أنواع الأطعمة كأنها أزهار الربيع المنمنة فتشتهيها الأنفس وتستلذها النواظر ويخالط حسن رياها الأرواح ويخامر رتب الناس فيها على مراتبهم ترتيب احتفال وقد علت الجميع أبهة الوقار والإجلال وبعقب ذلك يحتفل المسمعون بامداح المصطفى عليه الصلاة والسلام ومكفرات ترغب في الإقلاع عن الآثام يخرجون فيها من فن إلى فن ومن أسلوب إلى أسلوب ويأتون من ذلك بما تطرب له النفوس وترتاح إلى سماعه القلوب وبالقرب من السلطان رضوان اللّه تعالى عليه خزانة المنجانة قد زخرفت كأنها حلة يمانية لها أبواب موجفة على عدد ساعات الليل الزمانية فمهما مضت ساعة وقع النقر بقدر حسابها وفتح رفعة مشتملة على نظم فيه تلك الساعة باسمها مسطورة فتصقها بين يدي السلطان بلطافة ويسراها على فمها كالمؤدية بالمبايعة حق الخلافة. هكذا حالهم إلى انبلاج عمود الصباح ونداء المنادي حي على الفلاح. انتهى
وفي زماننا هذا يحتفل المسلمون بيوم مولده صلى اللّه عليه وسلم في جميع الأمم الإسلامية. وفي القطر المصري تتلى الأذكار وتوزع الصدقات على الفقراء والمحتاجين. وفي القاهرة يتحرك موكب أرباب الطرق بعد الظهر من ميدان باب الخلق أمام المحافظة، ويسير قاصداً ميدان الاحتفال بالعباسية مجتازاً شوارع تحت الربع فالسكرية فالغورية فميدان الأشراقية فالفحامين فالحسينية فالعباسية ويشتد الزحام في هذه الشوارع وتتقدم الموكب كوكبة من فرسان رجال الشرطة وتحف به من الجانبين قوة من رجال الجيش وقد جرت عادة الحكومة أن تحتفل بهذا اليوم المبارك احتفالا رسمياً في العباسية حيث تقام سرادقات للوزارات ويتوجه جلالة الملك أو نائبه إلى مكان الاحتفال وهناك يعرض الحامية المصرية على أثر وصوله ثم ينتقل إلى السرادق الملكي ويستقبل رجال الطرق الصوفية بأعلامهم وبعدئذ يقصد سرادق شيخ مشايخ الطرق الصوفية فيستمع تلاوة القصة النبوية وبعد سماعها يخلع على تاليها الخلعة الملكية وتدار المرطبات والحلوى على الحاضرين ثم ينصرف بعد ذلك بموكبه الحافل أثناء قصف المدافع وفي المساء تنار الزينات المقامة على السرادقات وتطلق الألعاب النارية البديعة وفي الصباح تعطل الحكومة وزارتها ومصالحها وتتلى القصة النبوية الشريفة في المشهد الحسيني بحضور محافظ مصر.
*2*مرضعاته صلى اللّه عليه وسلم
@-أول من أرضعه صلى اللّه عليه وسلم من النساء أمه آمنة ثم ثويبة الأسلمية جارية أبي لهب التي أعتقها حين بشرته بولادته أياماً قبل قدوم حليمة، وخولة بنت الأزور وأم أيمن، وامرأة سعدية غير حليمة، وثلاث نسوة من العواتك.
وأكثرهن إرضاعاً له حليمة بنت أبي ذؤيب السعدية وكان من عادة العرب إذا ولد لهم مولود يلتمسون له مرضعة من غير قبيلتهم ليكون أنجب للولد وأفصح له فجاءت نسوة من بني سعد إلى مكة يلتمسن الرضعى ومعهن حليمة السعدية في سنة شديدة القحط فكل امرأة أخذت رضيعاً الا حليمة وقد كانت تحدث أنها خرجت من بلدها مع زوجها الحارث بن عبد العزى وابن لها صغير ترضعه في نسوة من بني سعد بن بكر يلتمس الرضعاء. قالت وهي سنة شهباء (1) لم تبق لنا شيئا، فخرجت على أتانِ لي قمراء (2) معنا مشارف (3) لنا واللّه ما تبض (4) بقطرة وما ننام ليلنا من صبينا (5) الذي معناه من بكائه من الجوع. ما في ثديي ما يغنيه وما في شارفنا ما يغذيه ولكنا كنا نرجو الغيث والفرج. فخرجت على أتان تلك فلقد أدمت (6) بالركب حتى شق ذلك عليهم ضعفا وعجفا (7) حتى قدمنا مكة نلتمس الرضعاء فما منا امرأة إلا وقد عرض عليها رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فتأباه إذا قيل لها أنه يتيم وذلك أنا إنما كنا نرجو المعروف من أبي الصبي فكنا نقول يتيم وما عسى أن تصنع أمه وجده فكنا نتركه لذلك فما بقيت امرأة قدمت معي إلا أخذت رضيعاً فقلت واللّه لأذهبن إلى ذلك اليتيم فلآخذنه. فقال لا بأس عليك أن تفعلي عسى اللّه أن يجعل لنا فيه بكرة فذهبت إليه فأخذته وما حملني على أخذه إلا أني لم أجد غيره، فما أخذته رجعت به إلى رحلي فما وضعته في حجري أقبل على ثديي بما شاء من لبن فشرب حتى روى وشرب معه أخوه حتى روى ثم ناما وما كنا ننام معه قبل ذلك وقام زوجي إلى شارفنا فإذا إنها لحافل (8) فحلب منها ما شرب وشربت معه حتى انتهينا ريا فبتنا بخير ليلة وقال صاحبي حين أصبحنا تعلمي واللّه يا حليمة لقد أخذت نسمة مباركة فقلت واللّه أني لأرجو ذلك، ثم خرجنا وركبت أتاني وحملته عليها معي فواللّه لقطعت بالركب ما يقدر عليها شيء من حمرهم حتى إن صواحبي ليقلن لي يا ابنة أبي ذؤيب ويحك أربعي علينا (9) أليست هذه أتانك التي كنت خرجت عليها فأقول لهن بلى واللّه إنها لهي فيقلن واللّه إن لها شأناً ثم قدمنا منازلنا من بلاد بني سعد وما أعلم أرضاً من أرض اللّه أجدب منها فكانت غنمي تروح على حين قدمنا به معنا شباعا لبناً فنحلب ونشرب وما يحلب إنسان قطرة لبن ولا يجدها في ضرع حتى كان الحاضرون من قومنا يقولون لرعيانهم ويلكم اسرحوا حيث يسرح راعي بنت أبي ذؤيب فتروح أغنامهم جياعاً ما تبض بقطرة لبن وتروح غنمي شباعاً لبناً فلم نزل نتعرف من اللّه الزيادة والخير حتى مضت سنتاه وفصلته وكان يشب شباباً لا يشبه الغلمان فلم يبلغ سنتيه حتى كان غلاماً جفراً (10) فقدمنا به على أمه ونحن أحرص شيء على مكثه فينا لما كنا نرى من بركته فلم نزل بها حتى ردته معنا.
-------------------
(1) سنة شهباء يعني الجدب والقحط لأن الأرض تكون في بيضاء.
(2) على أتان لي قمراء الأتان الأنثى من الحمير، والقمراء التي في لونها بياض.
(3) المشارف - بضم الميم -: الناقة المسنة.
(4) ما نبض معناه لا ترشح.
(5) اسم هذا الصبي عبد اللّه بن الحارث وهو أخو رسول اللّه من الرضاعة وأخوته غيره أنيسة بنت الحارث وجذامة بنت الحارث وهي الشيماء غلب ذلك على أسمها فلا تعرف في قومها إلا به وهم لحليمة.
(6) أدمت بالركب أي أطلت عليهم المسافة لتمهلهم عليها، مأخوذ من الشيء الدائم.
(7) العجف بفتح العين والجيم الهزال.
(8) الحافل الممتلئة الضرع من اللبن.
(9) أربعي علينا أي أعطفي علينا بالرفع وعدم الشدة في السير.
(10) حتى كان غلاما جفراً. أي غليظا شديداً.
-------------------
*2*شق الصدر
@-قالت حليمة فرجعنا فواللّه أنه بعد مقدمنا بأشهر مع أخيه لفي بهم لنا (1) خلف بيوتنا إذا أتانا أخوه يشتد فقال لي ولأبيه ذاك أخي القرشي قد أخذه رجلان عليهما ثياب بيض فأضجعاه فشقا بطنه فهما يسوطانه (2) قالت فخرجت أنا وأبوه نحوه فوجدناه قائماً منقعاً وجهه (3) فالتزمته والتزمه أبوه فقلنا له مالك يا بني؟ قال جاءني رجلان عليهما ثياب بيض فأضجعاني وشقا بطني فالتمسا فيه شيئا لا أدري ما هو؟ قالت فرجعنا إلى خبائنا وقال لي أبوه يا حليمة لقد خشيت أن يكون هذا الغلام قد أصيب فألحقيه بأهله قبل أن يظهر ذلك به فاحتملناه فقدمنا به على أمه فقالت ما أقدمك به ما ظئر (4) وقد كنت حريصة عليه وعلى مكثه عندك فقلت قد بلغ اللّه بابني وقضيت الذي عليَّ وتخوفت الأحداث عليه فأديته عليك كما تحبين. قالت ما هذا شأنك فاصدقيني خبرك قالت فلم تدعني حتى أخبرتها. قالت أفتخوفت عليه الشيطان؟ قلت نعم. قالت كلا: واللّه ما للشيطان عليه من سبيل، وإن لبنيّ لشأناً أفلا أخبرك خبره؟ قلت بلى. قالت رأيت حين حمله به أنه خرج مني نور أضاء لي به قصور بصرى (5) من أرض الشام، ثم حملت به فواللّه ما رأيت من حمل قط كان أخف ولا أيسر منه ووقع حين ولدته وأنه لواضع يديه بالأرض رافع رأسه إلى السماء. دعيه عنك وانطلقي راشدة.
كان أو ما شق صدره عليه الصلاة والسلام في السنة الثالثة من عمره وقيل في الرابعة وذلك لتطهيره وإخراج حظ الشيطان منه ويقول مؤرخو الأفرنج (6) ومنهم الأستاذ نيكلوسن في كتابه أدب العرب صفحة (147 - 148) طبعة 1908 وكذا الأستاذ موير في كتابه حياة محمد: إن هذه نوبة صرعية، وهذا مردود لأنه لم تشاهد فيه علامات الصرع طول عمره.
وإلى قصة إرضاعه صلى اللّه عليه وسلم يشير الهمزية حيث يقول:
وبدت في رضاعه معجزات * ليس فيها عن العيون خفاء
إذ أبته ليتمه مرضعات * قلن ما في اليتيم عنا غناء
فأتته من آل سعد فتاة * قد أبتها لفقرها الرضعاء
أرضعته لبانها فسقتها * وبنيها ألبانهن الشاء
أصبحت شولا عجافا وأمست * ما بها شائل ولا عجفاء
أخصب العيش عندها بعد محل * إذ غدا للنبي منها غذاء
يا لها منة لقد ضوعف الأجـ * ـر (الأجر) عليها من جنسها والجزاء
وإذا سخر الإله أناساً * لسعيد فإنهم سعداء
-------------------
(1) البهم بفتح الباء الصغار من الغنم واحدتها بهمة.
(2) فهما يسوطانه. يقال سطت اللبن والدم وغيرهما أسوطه إذا ضربت بعضه ببعض وحركته. واسم العود الذي يضرب به، المسوط.
(3) منتقعا وجهه. أي متغيراً.
(4) يا ظئر. أصل الظئر الناقة التي تعطف على ولد غيرها فتدر عليه، فسميت المرأة التي ترضع ولد غيرها ظئرا بذلك.
(5) بصرى بضم الباء مدينة من أرض الشام.
(6) [يقول ذلك "بعض" مؤرخي الإفرنج، من المعاندين. دار الحديث]
-------------------
*2*الحض على قتله صغيراً
@-وكانت حليمة كلما مر بها جماعة من اليهود وحدثتهم بشأنه صلى اللّه عليه وسلم حضوا على قتله ولكما عرضته على العرافيى [العرافين؟؟] في الأسواق صاحوا بقتله وكانوا يقولون اقتلوا هذا الصبي فليقتلن أهل دينكم وليكسرن أصنامكم وليظهرن أمره عليكم. وعن حليمة رضي اللّه عنها أنه مر بها جماعة من اليهود فقالت ألا تحدثوني عن ابني هذا؟ حملته أمه كذا ووضعته كذا ورأت عند ولادته كذا وذكرت لهم كل ما سمعته من أمه وكل ما رأته هي بعد أن أخذته وأسندت الجميع إلى نفسها كأنها هي التي حملته ووضعته. فقال أولئك اليهود بعضهم لبعض اقتلوه. فقالوا أو يتيم هو؟ فقالت لا. هذا أبوه وأنا أمه. فقالوا لو كان يتيما قتلناه لأن ذلك عندهم من علامات نبوته. وعن حليمة أيضاً رضي اللّه عنها أنها نزلت به صلى اللّه عليه وسلم بسوق عكاظ وكان سوقاً للجاهلية بين الطائف ونخلة المحل المعروف، كانت العرب إذا قصدت الحج أقامت بهذا السوق شهر شوال يتفاخرون ويتناشدون الأشعار ويبيعون ويشترون. فلما وصلت حليمة به سوق عكاظ رآه كاهن من الكهان فقال يا أهل عكاظ اقتلوا هذا الغلام فإن له ملكا. فمالت به وحادت عنه الطريق فأنجاه اللّه. وقد رأت حليمة السعدية من النبي صلى اللّه عليه وسلم الخير والبركة وأسعدها اللّه بالإسلام هي وزوجها وبنيها.
*2*وفاة آمنة
@-بعد أن ردت حليمة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم خرجت به أمه مرة إلى المدينة سنة 575-576 لزيارة أخواله من بني النجار أي أخوال جده عبد المطلب فمرضت وهي راجعة به وماتت ودفنت بالأبواء بين مكة والمدينة وعمره ست سنوات وكان عمر آمنة حين وفاتها ثلاثين سنة.
وفي الحديث أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم زار قبر أمه بالأبواء في إلف مقنع فبكى وأبكى.
فحضته أم أيمن بركة الحبشية التي ورثنها من أبيه وحملته إلى جده عبد المطلب بن هاشم الذي كان يحبه ويكرمه فقد كان يوضع لعبد المطلب فراش في ظل الكعبة فكان بنوه يجلسون حول فراشه ذلك حتى يخرج إلا لا يجلس عليه أحد من بنيه إجلالا له. فكان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يأتي وهو غلام جفر حتى يجلس عليه فيأخذه أعمامه ليؤخروه عنه. فيقول عبد المطلب إذا رأي ذلك منهم: "دعوا ابني فواللّه إن له لشأناً".
ثم يجلسه معه عليه ويمسح ظهره بيده ويسره ما يراه يصنع.
وبوفاة أمه صار يتيما وقد أشير إلى يتمه في القرآن قال تعالى {ألم يجدك يتيماً فآوى} وفي السنة التي استقل جده صلى اللّه عليه وسلم فيها بكفالته رمد رمداً شديداً.
*2*عبد المطلب يهنئ سيف بن ذي يزن
@-لما ظفر سيف بن ذي يزن الحميري بالحبشة وذلك بعد مولد النبي صلى اللّه عليه وسلم أتته وفود العرب وأشرافها وكان من جملتهم وفد قريش وفيهم عبد المطلب بن هاشم جد النبي صلى اللّه عليه وسلم وأمية بن عبد شمس وأسد بن عبد العزى وعبد اللّه بن جدعان فقدموا عليه وهو في قصر يقال له غمدان بضم الغين فطلبوا الأذن عليه فأذن لهم وتكلم عبد المطلب مهنئاً ولما فرغ أدناه وقربه ثم استنهضوا إلى دار الضيافى وقاموا ببابه شهراً لا يصلون إليه ولا يؤذن لهم في الإنصراف. ثم انتبه إليهم انتباهه فدعا بعبد المطلب من بينهم فخلا به وأدنى مجلسه قوال: (1) "يا عبد المطلب أني مفوض إليك من علمي أمراً لو غيرك كان لم أبح له به ولكني رأيت معدنه فأطلعتك عليه فليكن مصوناً حتى يأذن اللّه بالغ أمره. أني أجد في العلم المخزون والكتاب المكنون الذي أرخرناه لأنفسنا واحتجبناه دون غيرنا خبراً عظيماً وخطراً فيه شرف الحياة وفضيلة الوفاة للناس كافة ولرهطك عامة ولنفسك خاصة".
قال عبد المطلب: "مثلك يا أيها الملك بر، وسر ، وبشر، ما هو؟ فداك أهل الوبر زمراً بعد زمر".
قال ابن ذي يزن: "إذا ولد مولود بتهامة. بين كتفيه شامة. كانت له الإمامة. إلى يوم القيامة" . قال عبد المطلب : "أبيت اللعن لقد أبت بخير ما آب به أحد فلولا اجلال الملك لسألته عما ساره إلى ما أزداد به سروراً" .
قال ابن ذي يزن: "هذا حينه الذي يولد فيه أو قد ولد. يموت أبوه وأمه. ويكفله جده وعمه وقد وجناه مرارا. واللّه باعثه جهاراً. وجاعل له منا أنصارا يعزبهم أولياءه. ويذل به أعداءه. ويفتتح كرائم الأرض. ويضرب بهم الناس عن عرض. يخمد الأديان. وكسر الأوثان ويعبد الرحمن. قوله حكم وفصل. وأمره خزم وعدل. يأمر بالمعروف ويفعله. وينهي عن المنكر ويبطله".
فقال عبد المطلب: "طال عمرك. ودام ملكك. وعلا جدك. وعز فخرك. فهل الملك يسرني بأن يوضح فيه بعض الإيضاح؟".
فقال ابن ذي يزن:
"والبيت ذي الطنب. والعلامات والنصب. إنك يا عبد المطلب لجده من غير كذب".
فخر عبد المطلب ساجداً. قال ابن ذي يزن:
"ارفع رأسك. ثلج صدرك. وعلا أمرك. فهل أحسست شيئا مما ذكرت لك؟".
فقال عبد المطلب:
"أيها الملك. كان لي ابن كنت له محبا وعليه حدبا مشفقا. فزوجته كريمة من كرائم قومه. يقال لها آمنة بنت وهب بن عبد مناف فجاءت بغلام بين كتفيه شامة فيه كل ما ذكرت من علامة مات أبوه وأمه وكفلته أنا وعمه".
قال ابن ذي يزن:
"أن الذي قلت لك كما قلت. فاحفظ ابنك واحذر عليه اليهود فانهم له أعداء ولن يجعل اللّه لهم عليه سبيلا. أطو ما ذكرت لك دون هؤلاء الرهط الذين معك فإني لست آمن أن تدخلهم النفاسة من أن تكون لكم الرياسة. فيبغون لك الغوائل وينصبون لك الحبائل وهم فاعلون وأبناؤهم، ولولا أني أعلم أن الموت مجتاحي قبل مبعثه لسرت بخيلي ورجلي حتى أصير بيثرب دار مهاجره، فإني أجد في الكتاب الناطق العلم السابق أن يثرب دار هجرته، وبيت نصرته، ولولا أني أقيه الآفات، وأحذر عليه العاهات لأعلنت على حدائه ستة وأوطأت أقدام العرب عقبه ولكني صارف إليك ذلك عن تقصير مني بمن معك".
ثم أمر لكل رجل منهم بعشرة أعبد وعشر إماء سود وخمسة أرطال فضة وحلتين من حلل اليمن وكرش مملوء عنبرا وأمر لعبد المطلب بعشرة أضعاف ذلك وقال:
"إذا حال الحول فأنبئني بما يكون من أمره".
فما حال الحول حتى مات ابن ذي يزن. فكان عبد المطلب بن هاشم يقول "يا معشر قريش لا يغبطني رجل منكم بجزيل عطاء الملك فإنه إن نفاد ولكن يغبطني بما يبقى لي ذكره وفخره ولعقى." فإذا قالوا له وما ذاك قال سيظهر بعد حين اهـ.
وفي أسد الغابة أن سيف بن ذي يزن أدرك النبي صلى اللّه عليه وسلم وأخبره جده عبد المطلب بنبوة محمد صلى اللّه عليه وسلم وصفته.
كانت اليمن تابعة للحبشة فكره أهلها حكمهم ونهض سيف بن ذي يزن لسترداد عرش آبائه فسعى لدى الإمبراطورية الرومانية لشد أزره فلم يفلح فالتجأ إلى ملك الفرس فأمده بجيش فحارب الحبشة وانتصر عليها وقتل وإليها الذي كان يدعى مسروقا وذلك حوالي سنة 575 م ويوافق العام الذي توفيت فيه آمنة أم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم. فليس هناك اعترض على ذهاب الوفود العربية لتهنئة ابن ذي يزن من الوجهة التاريخية. أضف إلى ذلك أن الواجب يقضي على رؤساء العرب بذلك لقرابتهم وجوارهم واشتراك مصالحهم التجارية لأنهم كانوا يرحلون إلى اليمن للتجارة في الشتاء كما كانوا يرحلون إلى الشام صيفا.
وقد اعترض الأستاذ "فيل" Weil على صحة القصة المتقدمة من الوجهة التاريخية وفيما شرحه الأستاذ "برسيفال" M.C. de Perceval رد على إعتراضه لأنه أثبت انهزام الحبشة لأول مرة في سنة 575 م وإن كانت لم تطرد نهائيا من اليمن إلا سنة 597 م. أما الأستاذ موير فإنه لم يستطع تكذيب ذهاب الوفود ومعهم عبد المطلب (الذي كان وقتئذ حاكم مكة) تكذيبا باتا قال أن قصة تشمل مبالغات كثيرة فيما يتعلق بالأخبار عن النبي المنتظر وهذا ما جعله يرتاب فيها. على أن المتتبع للسيرة النبوية يجد أن هذه القصة ليست فريدة في بابها من حيث الأخبار برسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فإن ما أخبره به سيف لعبد المطلب قاله بحيرا لأبي طالب وعرفه سلمان الفارسي وأذاعه أحبار اليهود مما سنعني بذكره مفصلا في كتابنا هذا إن شاء اللّه تعالى ولعل ما أخبر به ابن ذي يزن لعبد المطلب كان من الأسباب التي جعلت عبد المطلب يكرم النبي صلى اللّه عليه وسلم ويقول لأولاده إذا نحوا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عن مجلسه لصغره (دعوا ابني فو اللّه إن له لشأنا).
-------------------
(1) راجع الجزء الأول من العقد الفريد لابن عبد ربه والجزء الأول من تاريخ ابن عساكر.
-------------------
*2*وفاة جده عبد المطلب وكفالة عمه أبي طالب
@-لما بلغ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ثماني سنوات توفى جده عبد المطلب في مكة سنة 578 م بعد عام الفيل بثماني سنين وله عشر ومائة سنة وقيل أكثر من ذلك ودفن بالحجون جبل بأعلى مكة عنده مدافن أهلها عند قبر جده قصي ولما حضرته الوفاة أوصى به إلى عمه شقيق أبيه "أبي طالب" واسمه عبد مناف وعبد الكعبة وكان كريما لكنه كان فقيرا كثير الأولاد. وكان يرى منه صلى اللّه عليه وسلم الخير والبركة ويحبه حبا شديدا ولذا لا ينام إلا جنبه ويخرج به متى خرج وأوصى عبد المطلب إلى أبي طالب أيضا بسقاية زمزم وإلي ابنه الزبير بالحكومة وأمر الكعبة وكان رسول اللّه يبكي خلف سرير جده.
وفي هذه السنة مات حاتم الطائي وكسرى أنوشروان.
وقد أخرج ابن عساكر عن جهلمة بن عرفطة قال:
قدمت مكة وهم في قحط فقالت قريش يا أبا طالب أقحط الوادي وأجدب. فهلم فاستسق فخرج أبو طالب ومعه غلام كأنه شمس دجى تجلت عنه سحابة قتماء حوله أغيلمة (جمع غلام) فأخذه أبو طالب فألصق ظهره بالكعبة ولاذ الغلام بإصبعه (اشار بأصبعه إلى السماء كالمتضرع الملتجئ) وما في السماء قزعة (قطعة من سحاب) فأقبل السحاب من هنا وهنا وأغدق وأغدودق (كثر مطره) وانفجر الوادي وأخصب النادي. وفي ذلك يقول أبو طالب مادحا النبي صلى اللّه عليه وسلم:
وأبيض يستسقي الغمام بوجهه ثمال اليتامى عصمة للأرامل
يلوذ به الهلاك من آل هاشم فهم عنده في نعمة وفواضل
(الثمال) بكسر المثلثة الملجأ والغياث وقيل المطعم في الشدة. (عصمة للأرامل) أي يمنعهم من الضياع والحاجة. هذان بيتان من قصيدة طويلة لأبي طالب(1). وقد شاهد أبو طالب هذا الاستسقاء فنظم هذه القصيدة وقد شاهده مرة أخرى قبل هذه فروى الخطابي حديثا فيه أن قريشا تتابعت عليهم سنو جدب في حياة عبد المطلب فارتقى هو ومن حضره من قريش أبا قبيس (بالتصغير اسم الجبل المشرف على مكة). فقام عبد المطلب واعتضده صلى اللّه عليه وسلم فرفعه على عاتقه وهو يومئذ غلام فقال أيفع أو قرب ثم دعا فسقوا في الحال فقد شاهد أبو طالب ما دله على ما قال أعني قوله: "وأبيض يستسقي الغمام بوجهه" وكان الاستسقاء في الجاهلية الأولى بخاف هذه الطريقة فكانوا إذا تتابعت عليهم الأزمات واشتد الجدب واحتاجوا إلى الأمطار يجمعون لها بقراً معلقة في أذنابها وعراقيبها السلع والعشر(2) ويصعدون بها إلى جبل وعر ويشعلون النار ويضجون بالدعاء والتضرع وكانوا يرون من الأسباب المتوصل بها إلى نزول الغيث.
-------------------
(1) ذكر القصيدة ابن اسحق وهي أكثر من ثمانين بيتا.(2) السلع والعشر نوعان من الشجر.
-------------------
*2*السفر إلى الشام.
@-لما بلغ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم اثنتي عشرة خرج مع عمه أبي طالب إلى الشام في ركب للتجارة سنة 582 م فلما نزل الركب بصرى من أرض الشام وهي قصبة حوران وكانت في ذلك الوقت قصبة للبلاد العربية التي كانت تحت حكم الرومان وكان ببصرى راهب يقال له بحيرا في صومعة له. وكان ذا علم من أهل النصرانية ولم يزل في تلك الصومعة راهباً إليه يصير علمهم عن كتاب يتوارثونه كابراً عن كابر فلما نزلوا ذلك العام ببحيرا وكانوا كثيراً ما يمرون به قبل ذلك فلا يكلمهم ولا يعرض لهم حتى كان ذلك العام نزلوا به قريبا من صومعته. فصنع لهم طعاماً كثيراً وذلك عن شيء رآه من صومعته
فقد رأى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في الركب حين أقبلوا وغمامة تظله من بين القوم ثم أقبلوا فنزلوا في ظل شجرة قريباً منه فنظر إلى الغمامة حتى أظلت الشجرة وتهصرت أغصانها على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حتى استظل تحتها
فلما رأى ذلك بحيرا نزل من صومعته وقد أمر بذلك الطعام فصنع ثم أرسل إليهم فقال إني صنعت لكم طعاما يا معشر قريش. فإني أحب أن تحضروا كلكم صغيركم وكبيركم. وعبدكم وحركم.
قال له رجل منهم واللّه يا بحيرا إن لك شأنا اليوم ما كنت تصنع هذا بنا وقد كنا نمر بك كثيراً فما شأنك اليوم؟ قال له بحيرا صدقت قد كان ما تقول ولكنكم ضيف وقد أحببت أن أكرمكم وأصنع لكم ضعاماً فتأكلون منه كلكم. فاجتمعوا وتخلف رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من بين القوم لحداثة سنه في رحال القوم تحت الشجرة. فلما نظر بحيرا في القوم فلم ير الصفة التي يعرف ويجد عنده فقال يا معشر قريش لا يتخلفن أحد منكم عن طعامي. قالوا يا بحيرا ما تخلف عنك أحد ينبغي له أن يأتيك وهو أحدث القوم سنا في رحالهم. فقال لا تفعلوا ادعوه فليحضر هذا الطعام معكم ثم قام إليه رجل من قريش فاحتضنه وأجلسه مع القوم. فلما رآه بحيرا جعل يلحظه لحظا شديدا وينظر إلى أشياء من جسده قد كان يجدها عنده من صفته حتى إذا فرغ القوم من طعامهم وتفرقوا قام بحيرا فقال يا غلام أسألك بحق اللات والعزي إلا ما أخبرتني عما أسألك عنه وإنما قال له بحيرا ذلك لأنه سمع قومه يحلفون بهما فأبى رسول اللّه أن يستحلفه بهما فقال له بحيرا ألا أخبرتني عما أسألك عنه؟ فقال له سلني عما بدا لك فجعل يسأله عن أشياء من حاله ومن نومه وهيئته وأموره فجعل رسول اللّه يخبره بخبره فيوافق ذلك ما عند بحيرا من صفته ثم نظر إلى ظهره فرأى خاتم النبوة بين كتفيه وكان مثل أثر المحجمة (يعني أثر المحجمة القابضة على اللحم حتى يكون ناتئا) فلما فرغ أقبل على عمه أبي طالب فقال ما هذا الغلام منك؟ قال ابني. قال بحيرا ما هو بابنك وما ينبغي لهذا الغلام أن يكون أبوه حيا؟ فقال إنه ابن أخي. قال فما فعل أبوه؟ قال مات وأمه حبلى به. قال صدقت فارجع بابن أخيك إلى بلده واحذر عليه اليهود فو اللّه لئن رأوه وعرفوا منه ما عرفت ليبغنه شراً فإنه كائن له شأن عظيم فأسرع به إلى بلده فخرج به عمه أبو طالب سريعاً حتى أقدامه مكة حين فرغ من تجارته بالشام(1)
إن بحيرا لما عرف رسول اللّه تخوف عليه من اليهود فنصح لأبي طالب بالرجوع به سريعاً والمحافظة عليه وقد روت حليمة أن اليهود كانوا إذا رأوه وعرفوه حض بعضهم بعضا على قتله حتى أنها كانت تضطر إلى الإختفاء به والإبتعاد عنهم وعلى كل حال كانوا ينتظرون في ذلك الوقت ظهور نبي وكان بعض المتعمقين في الدين يعرفون علامات ذلك النبي وسنذكر فيما بعد أوصافه صلى اللّه عليه وسلم المذكورة في التوراة ولا شك أن عالما مثل بحيرا كان يعرفها
قال مستر وليام موير في كتابه (حياة محمد) بشأن رحلته صلى اللّه عليه وسلم مع عمه إلى الشام: "أن جميع الذين دنوا سيرة الرسول قد ذكروا تفاصيل مضحكة عن هذه الرحلة تدل على عظمة نبوته المنتظرة"
ثم أورد قصة سفره كما ذكرت في هذا الكتاب وكما ذكرها المؤرخون. وإنا لا ندري لماذا كانت هذه التفاصيل مضحكة في نظر مستر موير؟ إنه يعترف بأن جميع المؤرخين رووا هذه التفاصيل ولا شك أنه يستسقي منهم سيرة الرسول. ومن بينهم من يعتمد عليه ويحتج بكلامه ويرفض ما يريد رفضه إذ لم تكن الحادثة أو الرواية واردة في كتبهم أو إذا طرأ تحريف في نص كلامهم فهو يعول مثلا على ابن اسحاق وعلى الطبري والواقدي وغيرهم. فكان الواجب عليه باعتبار كونه مؤرخاً أن يقر هذه التفاصيل التي ذكرها جميع المؤرخين بلا استثناء. هذا وليس لديه رواية أثبت من روايتهم تعارض أو تنفي ما ذكروه. أما كون هذه التفاصيل مضحكة فهذا ما لم يقل به أحد من أكابر المؤرخين الذين استمد منهم مادته. وكان ينبغي عليه أن يقدر موقفه ويعلم أنه إنما يكتب تاريخ نبي لا شخص عادي. فالأنبياء والرسل تقع في حياتهم أمور خارقة تدل على نبوتهم وتؤيد رسالتهم فالتي تقع قبل النبوة كالخوارق التي حدثت في مولده صلى اللّه عليه وسلم وما شاهدته حليمة من تيسير الرزق والبركة وشق الصدر وما حدث أثناء سفره إلى الشام تسمى أرهاصات والتي تقع بعد النبوة تسمى معجزات. وكرامات الأولياء كمعجزات الأنبياء غير أنهم لم يدعوا النبوة. ولا شك أن محمدا صلى اللّه عليه وسلم وقعت منه خوارق العادات قبل النبوة وبعدها ولا سبيل إلى إنكار مجموع ارهاصاته ومعجزاته (أولاً) من الوجهة التاريخية لأن معاصريه وكبار الصحابة قد شاهدوها ورووها ورواها عنهم كبار المؤرخين ولو أبطلنا مشاهداتهم ورواياتهم لم يبق للتاريخ قيمة (ثانياً) من الوجهة الدينية لأن الدين يقر معجزات الأنبياء وكرامات الأولياء. فمن ذلك معجزات عيسى عليه السلام فإنه تكلم في المهد صبياً وأبرأ الأعمى والأبرص وأحيا الميت. ومع ذلك لم يقل أحد من المسلمين أن هذه أمور مضحكة
وفي العالم أناس ليسوا بأنبياء ولا أولياء تراهم في كل زمان ممتازين على أبناء جيلهم يأتون أعمالا يستحيل على غيرهم الإتيان بمثلها ولقد شاهدنا في مصر فتى أميا من أبناء أحد المزارعين ذاع صيته ونشرت الجرائد صورته. هذا الطفل يضرب أرقاما طوالا وينطق بالجواب الصحيح بسهولة وبسرعة مدهشة من غير أن يخط بقلم وقد رأيته شخصياً أكثر من مرة وحار فيه علماء الرياضة وامتحنه كبار رجال الحكومة والصحافة. فهذا إنسان عادي له موهبة خاصة أذهلت عقول الخاصة. فكيف يمكن إنكار هذه الموهبة الخارقة والفتى لا يزال حياً بين ظهرانينا يحل المسائل في الطرق ويجيب كل سائل؟
فإذا جاء رجل مثل مستر موير بعد ذلك بجيل أو أكثر وزعم أن هذه خرافة مضحكة ابتدعها المصريون لم يغير ذلك شيئا من الحقيقة.
-------------------
(1) راجع قصة بحيرا في سيرة ابن هشام وتاريخ الطبري وطبقات ابن سعد ولا صحة لما زعمه الدكتور اشنرنجر من أن أبا طالب رد محمدا مع بحيرا إلى مكة "Life, P.79" Dr. Sprenger
-------------------
*2*من هو بحيرا؟
@-لا ريب أن بحيرا الذي مر ذكره كان راهباً مسيحياً في الشام في ذلك الوقت وقد ذكر في الآداب البيزنطية أنه راهب نسطوري على مذهب أريوس ونسطور وكان ينكر لاهوت المسيح ويقول أن تسميته بآله غير جائزة بل يجب أن يدعى كلمة وأن تدعى والدته مريم والدة الناسوت الذي هو مظهر الكلمة السامي لا والدة اللّه وكان بحيرا قساً عالما فلكياً منجماً وقد اتخذ صومعته بقرب الطريق الموصل إلى الشام وأقام هناك مدة تمر عليه العربان والقوافل فكان ينذرهم بعبادة اللّه الواحد وينهاهم عن عبادة الأصنام وله تلميذ اسمه مذهب، وكان من جملة المتتلمذين له سلمان الفارسي النصراني وسلامه قصة غريبة ستذكر في موضعها.
قال مذهب: إن بحيرا توفي قتيلا بدسيسة بعض يهود أشرار. ومعنى بحيرا في السريانية عالم متبحر(1).
-------------------
(1) راجع بحيرا في دائرة المعارف العربية للبستاني.
-------------------
*2*رعية رسول اللّه الغنم بمكة(1)
@-قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم "ما من نبي إلا قد رعى الغنم" قالوا وأنت يا رسول اللّه؟ قال "وأنا". وقال "ما بعث اللّه نبيا إلا راعي الغنم" قال له أصحابه وأنت يا رسول اللّه؟ قال "وأنا رعيتها لأهل مكة بالقراريط(2)" وعن جابر بن عبد اللّه قال. كنا مع النبي صلى اللّه عليه وسلم نجني الكباث(3) فقال عليكم بالأسود منه فإنه أطيبه فإني كنت أجنيه إذا كنت راعي الغنم قلنا وكنت ترعى الغنم يا رسول اللّه؟ قال نعم وما من نبي إلا قد رعاها.
-------------------
(1) راجع طبقات ابن سعد الجزء الأول.
(2) القراريط هي أجزاء من الدراهم والدنانير يشترى بها الحوائج الحقيرة. وقيل أن القراريط موضع.
(3) قال ابن سيدة الكثبان بالفتح نضيج ثمر الأراك.
-------------------
*2*حرب الفجار(1) (580 - 590 م)
@-أيام الفجار عدة. فالفجار الأول كان بين كنانة وهواز. والثاني بين قريش وهوازن والثالث بين كنانة وهوازن والفجار الأخير بين قريش وكنانة كلها وهوازن. وهذه الحروب كانت قبل مبعث النبي صلى اللّه عليه وسلم بخمس وعشرين سنة. وقد شهد النبي صلى اللّه عليه وسلم الفجار الأخير وهو ابن خمس عشرة سنة وكان سببها النعمان بن المنذر أمير الحيرة بعث بلطيمة له إلى سوق عكاظ للتجارة (واللطيمة الإبل تحمل التجارة كالطيب والبز وأشباههما) وأجارها له عروة الرجال من بني هوازن فنزلوا على ماء يقال له أوارة، فوثب البراض خلي من بني كنانة على عروة فقتله وهرب إلى خيبر فاستخفى بها ولقي بشر بن أبي خازم الأسدي الشاعر فأخبره الخبر وأمره أن يعلم ذلك عبد اللّه بن جدعان وهشام بن المغيرة وحرب بن أمية ونوفل بن معاوية الدبلي وبلعاء بن قيس فوافى عكاظا فأخبرهم فخرجوا موائلين منكشفين إلى الحرم وبلغ قيسا الخبر آخر ذلك اليوم فقال أبو براء رئيس هوازن ما كنا من قريش إلا في خدعة فخرجوا في آثارهم فأدركواهم وقد دخلوا الحرم فناداهم رجل من بني عامر يقال له الأدرم بن شعيب بأعلى صوته: أن ميعاد ما بيننا وبينكم هذه الليالي من قابل وإنا لا نأتي في جمع
ولم تقم في تلك السنة سوق عكاظ فمكثت قريش وغيرها من كنانة وأسد بن خزيمة ومن لحق بهم من الأحابيش سنة يتأهبون لهذه الحرب وتأهبت قيس بن عيلان ثم حضروا من قابل ورؤساء قريش: عبد اللّه بن جدعان بن المغيرة وحرب بن أمية وأبو أحيحة سعيد بن العاص وعتبة بن ربيعة والعاص بن وائل ومعمر بن حبيب الجمحي وعكرمة بن عامر بن هاشم بن عبد مناف بن عبد الدار وخرجوا متساندين (أي ليس لهم أمير واحد يجمعهم) ويقال بل أمرهم إلى عبد اللّه بن جدعان وكان في قيس أبو البراء عامر بن مالك بن جعفر وسبيع بن ربيعة بن معاوية النضري ودريد بن الصمة ومسعود بن معتب وأبو عروة بن مسعود وعوف بن أبي حارثة المرى وعباس بن رعل السلى. وهؤلاء الرؤساء والقادة. ويقال بل كان أمرهم جميعا إلى براء وكانت الراية بيده وهو سوي صفوفهم فالتقوا فكانت الدبرة أول النهار لقيس وكنانة على هوازن ومن ضوى إليهم. ثم صارت الدبرة آخر النهار لقريش وكنانة على قيس فقتلوهم قتلا ذريعاً حتى نادى عتبة بن ربيعة يومئذ - وإنه لشاب ما كملت له ثلاثون سنة - إلى الصلح فاصطلحوا على أن عدوا القتلى ووردت قريش لقيس ما قتلت فضلا عن قتلاهم ووضعت الحرب أوزارها فانصرفت قريش وقيس
قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وذكر الفجار فقال "قد حضرته مع عمومتي ورميت فيه بأسهم وماأحب أني لم أكن فعلت" وقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم "كنت أنبل على أعمامي" يعني أناولهم النبل.
-------------------
(1) الفجار بكسر الفاء بمعنى المفاجرة كالقتال والمقاتلة وذلك أن كان قتالا في الشهر الحرام ففجروا فيه.
-------------------
*2*حِلف الفضول
@-كان حلف الفضول منصرف قريش من الفجار وكان أشرف حلف. وأول من دعا إليه الزبير بن عبد المطلب فأجتمعت بنو هاشم وزهرة وتيم في دار عبد اللّه بن جدعان فصنع لهم طعاماً فتعاقدوا وتعاهدوا باللّه لنكونن مع المظلوم حتى يؤدى إليه حقه ما بل بحر صوفة، وفي التآسى في المعاش، فسمت قريش ذلك الحلف حلف الفضور. وعن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أنه قال "ماأحب أن لي بحلف حضرته في دار ابن جدعان حمر النعم وأني أعذر به هاشم وزهرة وتيم تحالفوا أن يكونوا مع المظلوم ما بل بحر صوفة ولو دعيت به لأجبت وهو حلف الفضول".
*2*هل سافر النبي إلى اليمن؟
@-قال الأستاذ فيل الألماني Weil إن رسول اللّه سافر في السادسة من عمره إلى اليمن مع عمه الزبير في رحلة تجارية. ورد عليه الدكتور اشبرنجر Dr.Sprenger أن هذا الخبر ليس له أساس صحيح وأنه لم يجده في الكتب الموثوق بها. والحقيقة كما قال الدكتور اشبرنجر. نعم قد ذكر الطبري رواية جاء فيها أن خديجة إنما كاننت استأجرت رسول اللّه ورجلا آخر من قريش إلى سوق حباشة بتهامة الخ، غير أنه جاء في الطبري بعد ذلك أن الواقدي قال "فكل هذا خطأ والمشهور رواية ابن اسحاق وهي رحلته إلى الشام