طاهر القلب
2010-08-14, 11:08
بسم الله الرحمان الرحيم
السلام عليكم و رحمة الله و بركاته
مـدرسة الثـلاثين يـوماً
الأستاذ مصطفى صادق الرافعي
قال الأستاذ :
لم أقرأ لأحد قولاً شافياً في فلسفة الصوم وحكمته ، أما منفعته للجسم ، وأنه نوع من الطب له ، وباب من السياسة في تدبيره ، فقد فرغ الأطباء من تحقيق القول في ذلك ، وكأن أيام هذا الشهر المبارك إن هي إلا ثلاثون حبة تؤخذ كل في كل سنة مرة ، لتقوية المعدة وتصفية والدم وحياطة أنسجة للجسم.
ولكننا الآن لسنا بصدد من هذا وإنما نستوحي تلك الحقيقة الإسلامية الكبرى التي شرعت هذا الشرع لسياسة الحقائق الأرضية الصغيرة ، عاملة على استمرار الفكرة الإنسانية فيها ، كي لا تتبدل النفس على تغير الحوادث وتبدلها ، ولكيلا تجهل الدنيا معاني الترقيع إذا أتت على هذا الدنيا معاني التمزيق.
ومن معجزات القرآن الكريم أنه يدخر في الألفاظ المعروفة في كل زمن حقائق غير معروفة لكل زمن ، فيجلبها لوقتها حين يضج الزمان العلمي في متاهته وحيرته ، فيشغب على التاريخ و أهله مستخفاً بالأديان ، ويذهب يتتبع الحقائق ، ويستعصي في فنون المعرفة ، ليستخلص من بين كفر وإيمان ديناً طبيعياً سائغاً ، يتناول الحياة أول ما يتناول فيضبطها بأسرار العلم ، ويوجهها بالعلم إلى غايتها الصحيحة ويضاعف قراءها بأساليبه الطبيعية ، ليحقق في إنسانية العالم هذه الشيئية المجهولة التي تتوهمها المذاهب الاجتماعية ولم يهتد إليها مذهب منها ولا قاربها ، فما برحت سعادة الاجتماع كالتجربة العلمية بيد أيدي علمائها : لم يحققوها ولم ييأسوا منها ، وبقيت تلك المذاهب كعقارب الساعة في دورتها : تبدأ من حيت تبدأ ، ثم لا تنتهي إلا إلى حيث تبدأ.
يضطرب الاشتراكيون في أوروبا وقد عجزوا عجز من يحاول تغيير الإنسان بزيادة ونقص في أعصابه ، ولا يزال مذهبهم في الدنيا مذهب كتب ورسائل ، ولو أنه تدبروا حكمة الصوم في الإسلام لرأوا هذا الشهر نظاماً عملياً من أقوى وأبدع الأنظمة الاشتراكية الصحيحة ، فهذا الصوم فقر إجباري تفرضه الشريعة على الناس فرضاً ليتساوى الجميع في بواطنهم ، سواء منهم من ملك المليون من الدنانير ومن ملك القرش الواحد ومن لم يملك شيئاً ، كما يتساوى الناس جميعاً من ذهاب كبريائهم الإنسانية بالصلاة التي يفرضها الإسلام على كل مسلم ، وفي ذهاب تفاوتهم الاجتماعي بالحج الذي يفرضه على من استطاع.
فقر إجباري يردا به إشعار النفس الإنسانية بطريقة عملية واضحة كل الوضوح ، إن الحياة الصحيحة وراء الحياة لا فيها ، و إنها إنما تكون على أتمها حين يتساوى الناس في الشعور لا حين يختلفون ، و حين يتعاطفون بإحساس الألم الواحد لا حين يتنازعون بإحساس الأهواء المتعددة .
و لو حققت رأيت الناس لا يختلفون في الإنسانية بعقولهم ، ولا بأنسابهم ولا بمراقبهم ، ولا بما ملكوا ، وإنما يختلفون ببطونهم و أحكام هذه البطون على العقل و العاطفة ، فمن البطن نكبة الإنسانية.
و من ههنا يتناوله الصوم بالتهذيب و التأديب و التدريب و يجعل الناس فيه سواء : ليس لجميعهم إلا شعور واحد و حس واحد و طبيعة واحدة ، و يحكم الأمر فيحول بين هذا البطن و بني المادة ، و يبالغ في إحكامه.
و بهذا يضع الإنسانية كلها في حالة نفسية واحدة تتلبس بها النفس في مشارق الأرض و مغاربها ، و يطلق في هذه الإنسانية كلها صوت الروح يعلم الرحمة و يدعو إليها ، فيشبع فيها بهذا الجوع فكرة معينة هي كل ما في مذهب الاشتراكية من الحق ، و هي تلك الفكرة التي يكون عنها مساواة الغني للفقير من طبيعته ، و اطمئنان الفقير إلى الغني بطبيعته ، و من هذين الاطمئنان و المساواة يكون هدوء الحياة بهدوء النفسين اللتين هما السلب و الإيجاب في هذا الاجتماع الإنساني ، و إذا أنت نزعت هذه الفكرة من الاشتراكية بقي هذا المذهب كله عبثاً من العبث في محاولة جعل التاريخ الإنساني تاريخاً لا طبيعة له.
من قواعد النفس أن الرحمة تنشأ عن الألم ، و هذا بعض السر الاجتماعي العظيم في الصوم ، إذ يبالغ أشد المبالغة ، و يدقق كل التدقيق في منع الغذاء و شبه الغذاء عن البطن و حواشيه مدة آخرها آخر الطاقة ، فهذه طريقة عملية لتربية الرحمة في النفس ، و لا طريقة غيرها إلا النكبات و الكوارث ، فهما طريقتان كما ترى مبصرة و عمياء ، و خاصة و عامة ، و على نظام و على فجأة.
و متى تحققت رحمة الجائع الغني للجائع الفقير أصبح للكلمة الإنسانية الداخلية سلطانها النافذ ، و حكم الوازع النفسي على المادة ، فيسمع الغني في ضميره صوت الفقير يقول : " أعطني " ثم لا يسمع منه طلباً من الرجاء ، بل طلباً من الأمر لا مفر من تلبيته و الاستجابة لمعانيه ، كما يواسي المبتلى من كان في مثل بلائه.
أية معجزة إصلاحية أعجب من هذه المعجزة الإسلامية التي تقضي أن يحذف من الإنسانية كلها تاريخ البطن ثلاثين يوماً في كل سنة ، ليحل في محله تاريخ النفس و أنا مستيقن أن هناك نسبة رياضية هي الحكمة في جعل هذا لصوم شهراً كاملاً من كل اثني عشرا شهراً ، و إن هذه النسبة متحققة في أعمال النفس للجسم ، و أعمال الجسم للنفس ، كأنه الشهر الصحي الذي يفرضه الطب في كل سنة للراحة و الاستجمام و تغيير المعيشة لإحداث الترميم العصبي في الجسم ، و لعل ذلك آت من العلاقة بين دورة الدم في الجسم الإنساني و بين القمر منذ يكون هلالاً إلى أن يدخل في المحاق ، إذا تنتفخ العروق و تربو في النصف الأول من الشهر كأنها في مد من نور القمر ما دام هذا النور إلى زيادة ، ثم يراجعها الجزر في النصف الثاني حتى كأن الدم إضاءة و ظلاماً ، و إذا ثبت أن القمر أثراً في الأمراض العصبية و في مد الدم و جزره فهذا من أعجب الحكمة في أن يكون الصوم شهراً قمرياً دون غيره.
و في ترائي الهلال و وجوب الصوم لرؤيته معنى دقيق آخر ، و هو مع إثبات رؤية الهلال و إعلانها - إثبات الإرادة و إعلانها ، كأنما انبعث أول الشعاع السماوي في التنبه الإنساني العام لفروض الرحمة و الإنسانية و البر.
و هنا حكمة كبيرة من حكم الصوم ، و هو عمله في تربية الإرادة و تقويتها بهذا الأسلوب العملي الذي يدرب الصائم على أن يمتنع باختياره من شهواته و لذة حيوانيته و يبقيه مصراً على الامتناع ، متهيئاً له بعزيمته ، صابراً عليه بأخلاق الصبر ، مزاولاً في كل ذلك أفضل طريقة نفسية لاكتساب الفكرة الثابتة ترسخ لا تتغير و لا تتحول ، و لا تعدو عليها عوادي العزيزة.
و إدراك هذه القوة من الإرادة العلمية منزلية اجتماعية سامية ، هي في الإنسانية فوق منزلة الذكاء و العلم ، ففي هذين تعرض الفكرة مارة مرورها و لكنها في الإدارة تعرض لتستقر و تتحقق ، فانظر في أي قانون من القوانين و في أية أمة من الأمم تجد ثلاثين يوماً من كل سنة قد فرضت فرضاً لتربية إرادة الشعب و مزاولته فكرة نفسية واحدة بخصائصها و ملابساتها حتى تستقر و ترسخ و تعود جزءاً من عمل الإنسان ، لا خيالاً يمر برأسه مراً .
أليست هذه هي إتاحة الفرصة العملية التي جعلوها أساساً في تكوين الإرادة ، و هل تبلغ الإرادة – فيما تبلغ – أعلى من منزلتها حين تجعل شهوات المرء مذعنة لفكره ، منقادة لوازع النفس فيه ، مصرفة بالحس الديني المسيطر على النفس و مشاعرها ؟
أما و الله لو عم هذا الصوم الإسلام أهل الأرض جميعاً لآل معناه أن يكون إجماعاً من الإنسانية كلها على إعلان الثورة شهراً كاملاً في السنة لتطهير العالم من رذائله و فساده ، و محق الأثرة و البخل فيه ، و طرح للمسألة النفسية ليتدارسها أهل الأرض دراسة عملية مدة الشهر بطوله ، فيهبط كل رجل و كل امرأة إلى أعماق نفسه و مكامنها ، ليختبر في مصنع فكرة معنى الحاجة و معنى الفقر ، و ليفهم في طبيعة جسمه - لا في الكتب - معاني الصبر و الثبات و الإرادة ، و ليبلغ من ذلك و ذلك درجات الإنسانية و المواساة و الإحسان. و يحقق بهذه و تلك معاني الإخاء و الحرية و المساواة .
شهر هو في أيام قلبية في الزمن ، متى أشرفت على الدنيا قال الزمن لأهله : هذه أيام من أنفسكم لا من أيامي ، و من طبيعتكم لا من طبيعتي ، فيقبل العالم كله على حاله نفسيه بالغة السمو ، و يتعهد فيها النفس برياضتها على معالي الأمور و مكارم الأخلاق ، و يفهم الحياة على وجه آخر غير وجهها الكالح ، و يراها كأنما أجيعت من طعامها اليومي كما جاه هو ، و كأنما ألزمت معاني التقوى كما ألزمها هو ، و ما أجمل و أبدع أن تظهر الحياة في العالم كله – و لو يوماً وحداً - حاملة في يدها السبحة ! فكيف بها على ذلك شهراً من كل سنة ؟
إنها – و الله - طريقة عملية لرسوخ فكرة الخير و الحق في النفس ، و تطهر المجتمع من خسائس العقل المادي ، و رد هذه الطبيعة الحيوانية المحكومة في ظاهرها بالقوانين و المحررة من القوانين في باطنها - إلى قانون من باطنها نفسه - يطهر مشاعرها ، و يسمو بإحساسها ، و يصرفها إلى معاني إنسانيتها ، و يهذب من زياداتها و يحذف كثيراً من فضولها ، حتى يرجع بها إلى نحو من براءة الطفولة ، فيجعلها صافية مشرقة بما يجتذب إليها من معاني الخير و الصفاء و الإشراق ، إذ كان من عمل الفكرة الثابتة في النفس أن تدعو إليها ما يلائمها و يتصل طبيعتها من الفكر الأخرى ، و النفس في هذا الشهر محتسبة في فكرة الخير وحدها ، فهي تنبي بناءها من ذلك ما استطاعت .
هذا على الحقيقة ليس شهراً ، بل ، هو فصل نفساني كفصول الطبيعة في دورانها ، و هو – و الله - أشبه بفصل الشتاء في حلوله على الدنيا بالجو الذي من طبيعته السحب و الغيث ، و من عمله إمداد الحياة بوسائل لها ما بعدها إلى آخر السنة ، و من رياضته أن يكسبها الصلابة و الانكماش و الخفة ، و من غايته إعداد الطبيعية للتفتح عن جمال باطنها في الربيع الذي يتلوه.
و عجيب جداً أن هذا الشهر الذي يدخر فيه الجسم من قواه المعنوية فيودعها مصرف روحانيته ، ليجد منها عند الشدائد مدد الصبر و الثبات و العزم و الجد و الخشونة عجيب جداً أن هذا الشهر الاقتصادي هو من أيام السنة هو كفائدة 8.33% فكأن في أعصاب المؤمن حساب قوته و ربحه فله في كل سنة زيادة 8.33% من قوته المعنوية الروحانية .
و سحر العظائم في هذه الدنيا إنما يكون في الأمة التي تعرف كيف تدخر هذه القوة و توفرها ، ليستمدها عند الحاجة ، و ذلك هو سر أسلافنا الأولين الذين كنوا يجدون على الفقر في دمائهم و أعصابهم ما تجد الجيوش العظمة اليوم في مخازن الأسلحة و العتاد و الذخيرة.
كل ما ذكرته في هذا البحث من فلسفة الصوم فإنما استخرجته من هذه الآية الكريمة : { يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون }.
و قد فهمها العلماء جميعاً على أنها معنى (التقوى) أما أنا فأولتها من (الاتقاء) فبالصوم يتقي المرء على نفسه أن يكون كالحيوان الذي شريعته معدته ، و ألا يعامل الدنيا إلا بمواد هذه الشريعة ، و يتقي المجتمع على إنسانيته و طبيعته مثل ذلك ، فلا يكون إنسان مع إنسان كحمار مع إنسان : يبيعه القوة كلها بالقليل من العلف.
و الصوم يتقي هذا و هذا ما بين يديه و ما خلفه ، فإن ما بين يديه هو الحاضر من طباعه و أخلاقه ، و ما خلفه هو الجيل الذي سيرث من هذه الطباع و الأخلاق فيعمل بنفسه في الحاضر ، و يعمل بالحاضر في الآتي .
و كل ما شرحناه فهو اتقاء ضرر لجلب منفعة ، و اتقاء رذيلة لجلب فضيلة و بهذا التأويل تتجه الآية الكريمة جهة فلسفية عالية ، لا يأتي البيان و لا العلم و لا الفلسفة بأوجز و لا أكل من الفظها ، و يتوجه للصيام على يتهذب العالم إلا إذا كان له مع القوانين النافذة هذا القانون العام الذي اسمه الصوم ، و معناه : (قانون البطن).
ألا ما أعظمك يا شهر رمضان ! لو عرفك العالم حق معرفتك لسماك (مدرسة الثلاثين يوماً)
مقـال أعجبني فنقلته لكم
السلام عليكم و رحمة الله و بركاته
مـدرسة الثـلاثين يـوماً
الأستاذ مصطفى صادق الرافعي
قال الأستاذ :
لم أقرأ لأحد قولاً شافياً في فلسفة الصوم وحكمته ، أما منفعته للجسم ، وأنه نوع من الطب له ، وباب من السياسة في تدبيره ، فقد فرغ الأطباء من تحقيق القول في ذلك ، وكأن أيام هذا الشهر المبارك إن هي إلا ثلاثون حبة تؤخذ كل في كل سنة مرة ، لتقوية المعدة وتصفية والدم وحياطة أنسجة للجسم.
ولكننا الآن لسنا بصدد من هذا وإنما نستوحي تلك الحقيقة الإسلامية الكبرى التي شرعت هذا الشرع لسياسة الحقائق الأرضية الصغيرة ، عاملة على استمرار الفكرة الإنسانية فيها ، كي لا تتبدل النفس على تغير الحوادث وتبدلها ، ولكيلا تجهل الدنيا معاني الترقيع إذا أتت على هذا الدنيا معاني التمزيق.
ومن معجزات القرآن الكريم أنه يدخر في الألفاظ المعروفة في كل زمن حقائق غير معروفة لكل زمن ، فيجلبها لوقتها حين يضج الزمان العلمي في متاهته وحيرته ، فيشغب على التاريخ و أهله مستخفاً بالأديان ، ويذهب يتتبع الحقائق ، ويستعصي في فنون المعرفة ، ليستخلص من بين كفر وإيمان ديناً طبيعياً سائغاً ، يتناول الحياة أول ما يتناول فيضبطها بأسرار العلم ، ويوجهها بالعلم إلى غايتها الصحيحة ويضاعف قراءها بأساليبه الطبيعية ، ليحقق في إنسانية العالم هذه الشيئية المجهولة التي تتوهمها المذاهب الاجتماعية ولم يهتد إليها مذهب منها ولا قاربها ، فما برحت سعادة الاجتماع كالتجربة العلمية بيد أيدي علمائها : لم يحققوها ولم ييأسوا منها ، وبقيت تلك المذاهب كعقارب الساعة في دورتها : تبدأ من حيت تبدأ ، ثم لا تنتهي إلا إلى حيث تبدأ.
يضطرب الاشتراكيون في أوروبا وقد عجزوا عجز من يحاول تغيير الإنسان بزيادة ونقص في أعصابه ، ولا يزال مذهبهم في الدنيا مذهب كتب ورسائل ، ولو أنه تدبروا حكمة الصوم في الإسلام لرأوا هذا الشهر نظاماً عملياً من أقوى وأبدع الأنظمة الاشتراكية الصحيحة ، فهذا الصوم فقر إجباري تفرضه الشريعة على الناس فرضاً ليتساوى الجميع في بواطنهم ، سواء منهم من ملك المليون من الدنانير ومن ملك القرش الواحد ومن لم يملك شيئاً ، كما يتساوى الناس جميعاً من ذهاب كبريائهم الإنسانية بالصلاة التي يفرضها الإسلام على كل مسلم ، وفي ذهاب تفاوتهم الاجتماعي بالحج الذي يفرضه على من استطاع.
فقر إجباري يردا به إشعار النفس الإنسانية بطريقة عملية واضحة كل الوضوح ، إن الحياة الصحيحة وراء الحياة لا فيها ، و إنها إنما تكون على أتمها حين يتساوى الناس في الشعور لا حين يختلفون ، و حين يتعاطفون بإحساس الألم الواحد لا حين يتنازعون بإحساس الأهواء المتعددة .
و لو حققت رأيت الناس لا يختلفون في الإنسانية بعقولهم ، ولا بأنسابهم ولا بمراقبهم ، ولا بما ملكوا ، وإنما يختلفون ببطونهم و أحكام هذه البطون على العقل و العاطفة ، فمن البطن نكبة الإنسانية.
و من ههنا يتناوله الصوم بالتهذيب و التأديب و التدريب و يجعل الناس فيه سواء : ليس لجميعهم إلا شعور واحد و حس واحد و طبيعة واحدة ، و يحكم الأمر فيحول بين هذا البطن و بني المادة ، و يبالغ في إحكامه.
و بهذا يضع الإنسانية كلها في حالة نفسية واحدة تتلبس بها النفس في مشارق الأرض و مغاربها ، و يطلق في هذه الإنسانية كلها صوت الروح يعلم الرحمة و يدعو إليها ، فيشبع فيها بهذا الجوع فكرة معينة هي كل ما في مذهب الاشتراكية من الحق ، و هي تلك الفكرة التي يكون عنها مساواة الغني للفقير من طبيعته ، و اطمئنان الفقير إلى الغني بطبيعته ، و من هذين الاطمئنان و المساواة يكون هدوء الحياة بهدوء النفسين اللتين هما السلب و الإيجاب في هذا الاجتماع الإنساني ، و إذا أنت نزعت هذه الفكرة من الاشتراكية بقي هذا المذهب كله عبثاً من العبث في محاولة جعل التاريخ الإنساني تاريخاً لا طبيعة له.
من قواعد النفس أن الرحمة تنشأ عن الألم ، و هذا بعض السر الاجتماعي العظيم في الصوم ، إذ يبالغ أشد المبالغة ، و يدقق كل التدقيق في منع الغذاء و شبه الغذاء عن البطن و حواشيه مدة آخرها آخر الطاقة ، فهذه طريقة عملية لتربية الرحمة في النفس ، و لا طريقة غيرها إلا النكبات و الكوارث ، فهما طريقتان كما ترى مبصرة و عمياء ، و خاصة و عامة ، و على نظام و على فجأة.
و متى تحققت رحمة الجائع الغني للجائع الفقير أصبح للكلمة الإنسانية الداخلية سلطانها النافذ ، و حكم الوازع النفسي على المادة ، فيسمع الغني في ضميره صوت الفقير يقول : " أعطني " ثم لا يسمع منه طلباً من الرجاء ، بل طلباً من الأمر لا مفر من تلبيته و الاستجابة لمعانيه ، كما يواسي المبتلى من كان في مثل بلائه.
أية معجزة إصلاحية أعجب من هذه المعجزة الإسلامية التي تقضي أن يحذف من الإنسانية كلها تاريخ البطن ثلاثين يوماً في كل سنة ، ليحل في محله تاريخ النفس و أنا مستيقن أن هناك نسبة رياضية هي الحكمة في جعل هذا لصوم شهراً كاملاً من كل اثني عشرا شهراً ، و إن هذه النسبة متحققة في أعمال النفس للجسم ، و أعمال الجسم للنفس ، كأنه الشهر الصحي الذي يفرضه الطب في كل سنة للراحة و الاستجمام و تغيير المعيشة لإحداث الترميم العصبي في الجسم ، و لعل ذلك آت من العلاقة بين دورة الدم في الجسم الإنساني و بين القمر منذ يكون هلالاً إلى أن يدخل في المحاق ، إذا تنتفخ العروق و تربو في النصف الأول من الشهر كأنها في مد من نور القمر ما دام هذا النور إلى زيادة ، ثم يراجعها الجزر في النصف الثاني حتى كأن الدم إضاءة و ظلاماً ، و إذا ثبت أن القمر أثراً في الأمراض العصبية و في مد الدم و جزره فهذا من أعجب الحكمة في أن يكون الصوم شهراً قمرياً دون غيره.
و في ترائي الهلال و وجوب الصوم لرؤيته معنى دقيق آخر ، و هو مع إثبات رؤية الهلال و إعلانها - إثبات الإرادة و إعلانها ، كأنما انبعث أول الشعاع السماوي في التنبه الإنساني العام لفروض الرحمة و الإنسانية و البر.
و هنا حكمة كبيرة من حكم الصوم ، و هو عمله في تربية الإرادة و تقويتها بهذا الأسلوب العملي الذي يدرب الصائم على أن يمتنع باختياره من شهواته و لذة حيوانيته و يبقيه مصراً على الامتناع ، متهيئاً له بعزيمته ، صابراً عليه بأخلاق الصبر ، مزاولاً في كل ذلك أفضل طريقة نفسية لاكتساب الفكرة الثابتة ترسخ لا تتغير و لا تتحول ، و لا تعدو عليها عوادي العزيزة.
و إدراك هذه القوة من الإرادة العلمية منزلية اجتماعية سامية ، هي في الإنسانية فوق منزلة الذكاء و العلم ، ففي هذين تعرض الفكرة مارة مرورها و لكنها في الإدارة تعرض لتستقر و تتحقق ، فانظر في أي قانون من القوانين و في أية أمة من الأمم تجد ثلاثين يوماً من كل سنة قد فرضت فرضاً لتربية إرادة الشعب و مزاولته فكرة نفسية واحدة بخصائصها و ملابساتها حتى تستقر و ترسخ و تعود جزءاً من عمل الإنسان ، لا خيالاً يمر برأسه مراً .
أليست هذه هي إتاحة الفرصة العملية التي جعلوها أساساً في تكوين الإرادة ، و هل تبلغ الإرادة – فيما تبلغ – أعلى من منزلتها حين تجعل شهوات المرء مذعنة لفكره ، منقادة لوازع النفس فيه ، مصرفة بالحس الديني المسيطر على النفس و مشاعرها ؟
أما و الله لو عم هذا الصوم الإسلام أهل الأرض جميعاً لآل معناه أن يكون إجماعاً من الإنسانية كلها على إعلان الثورة شهراً كاملاً في السنة لتطهير العالم من رذائله و فساده ، و محق الأثرة و البخل فيه ، و طرح للمسألة النفسية ليتدارسها أهل الأرض دراسة عملية مدة الشهر بطوله ، فيهبط كل رجل و كل امرأة إلى أعماق نفسه و مكامنها ، ليختبر في مصنع فكرة معنى الحاجة و معنى الفقر ، و ليفهم في طبيعة جسمه - لا في الكتب - معاني الصبر و الثبات و الإرادة ، و ليبلغ من ذلك و ذلك درجات الإنسانية و المواساة و الإحسان. و يحقق بهذه و تلك معاني الإخاء و الحرية و المساواة .
شهر هو في أيام قلبية في الزمن ، متى أشرفت على الدنيا قال الزمن لأهله : هذه أيام من أنفسكم لا من أيامي ، و من طبيعتكم لا من طبيعتي ، فيقبل العالم كله على حاله نفسيه بالغة السمو ، و يتعهد فيها النفس برياضتها على معالي الأمور و مكارم الأخلاق ، و يفهم الحياة على وجه آخر غير وجهها الكالح ، و يراها كأنما أجيعت من طعامها اليومي كما جاه هو ، و كأنما ألزمت معاني التقوى كما ألزمها هو ، و ما أجمل و أبدع أن تظهر الحياة في العالم كله – و لو يوماً وحداً - حاملة في يدها السبحة ! فكيف بها على ذلك شهراً من كل سنة ؟
إنها – و الله - طريقة عملية لرسوخ فكرة الخير و الحق في النفس ، و تطهر المجتمع من خسائس العقل المادي ، و رد هذه الطبيعة الحيوانية المحكومة في ظاهرها بالقوانين و المحررة من القوانين في باطنها - إلى قانون من باطنها نفسه - يطهر مشاعرها ، و يسمو بإحساسها ، و يصرفها إلى معاني إنسانيتها ، و يهذب من زياداتها و يحذف كثيراً من فضولها ، حتى يرجع بها إلى نحو من براءة الطفولة ، فيجعلها صافية مشرقة بما يجتذب إليها من معاني الخير و الصفاء و الإشراق ، إذ كان من عمل الفكرة الثابتة في النفس أن تدعو إليها ما يلائمها و يتصل طبيعتها من الفكر الأخرى ، و النفس في هذا الشهر محتسبة في فكرة الخير وحدها ، فهي تنبي بناءها من ذلك ما استطاعت .
هذا على الحقيقة ليس شهراً ، بل ، هو فصل نفساني كفصول الطبيعة في دورانها ، و هو – و الله - أشبه بفصل الشتاء في حلوله على الدنيا بالجو الذي من طبيعته السحب و الغيث ، و من عمله إمداد الحياة بوسائل لها ما بعدها إلى آخر السنة ، و من رياضته أن يكسبها الصلابة و الانكماش و الخفة ، و من غايته إعداد الطبيعية للتفتح عن جمال باطنها في الربيع الذي يتلوه.
و عجيب جداً أن هذا الشهر الذي يدخر فيه الجسم من قواه المعنوية فيودعها مصرف روحانيته ، ليجد منها عند الشدائد مدد الصبر و الثبات و العزم و الجد و الخشونة عجيب جداً أن هذا الشهر الاقتصادي هو من أيام السنة هو كفائدة 8.33% فكأن في أعصاب المؤمن حساب قوته و ربحه فله في كل سنة زيادة 8.33% من قوته المعنوية الروحانية .
و سحر العظائم في هذه الدنيا إنما يكون في الأمة التي تعرف كيف تدخر هذه القوة و توفرها ، ليستمدها عند الحاجة ، و ذلك هو سر أسلافنا الأولين الذين كنوا يجدون على الفقر في دمائهم و أعصابهم ما تجد الجيوش العظمة اليوم في مخازن الأسلحة و العتاد و الذخيرة.
كل ما ذكرته في هذا البحث من فلسفة الصوم فإنما استخرجته من هذه الآية الكريمة : { يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون }.
و قد فهمها العلماء جميعاً على أنها معنى (التقوى) أما أنا فأولتها من (الاتقاء) فبالصوم يتقي المرء على نفسه أن يكون كالحيوان الذي شريعته معدته ، و ألا يعامل الدنيا إلا بمواد هذه الشريعة ، و يتقي المجتمع على إنسانيته و طبيعته مثل ذلك ، فلا يكون إنسان مع إنسان كحمار مع إنسان : يبيعه القوة كلها بالقليل من العلف.
و الصوم يتقي هذا و هذا ما بين يديه و ما خلفه ، فإن ما بين يديه هو الحاضر من طباعه و أخلاقه ، و ما خلفه هو الجيل الذي سيرث من هذه الطباع و الأخلاق فيعمل بنفسه في الحاضر ، و يعمل بالحاضر في الآتي .
و كل ما شرحناه فهو اتقاء ضرر لجلب منفعة ، و اتقاء رذيلة لجلب فضيلة و بهذا التأويل تتجه الآية الكريمة جهة فلسفية عالية ، لا يأتي البيان و لا العلم و لا الفلسفة بأوجز و لا أكل من الفظها ، و يتوجه للصيام على يتهذب العالم إلا إذا كان له مع القوانين النافذة هذا القانون العام الذي اسمه الصوم ، و معناه : (قانون البطن).
ألا ما أعظمك يا شهر رمضان ! لو عرفك العالم حق معرفتك لسماك (مدرسة الثلاثين يوماً)
مقـال أعجبني فنقلته لكم