حسين القسنطيني
2008-02-15, 16:33
وجدت هذا المقال لأحد المفكرين المسلمين فأحببت أن أنقله إلى حضراتكم حتى نحذر من أوجه التلاقي بين الكرامية و بين من يدعون اليوم انتسابهم للسلف الصالح بينما هم ينأون عنه و يضللون سلفنا رضوان الله عليهم:
منقول عن محمد احمد عبد القادر:
تعد فكرة التجسيم أهم فكرة ظهرت في مذهب الكرامية.
كما أنها السبب الرئيسي في وضع الكرامية في عداد فرق المجسمة.
وفي حقيقة الأمر يصعب في مجال الافكار تتبع فكرة معينة ومحاولة تأصيلها بدقة تامة بنسبتها الى فرد بعينه.
وللتغلب على تلك الصعوبة يمكن الخروج بالجذور من دائرة (التحديد) الى دائرة (الترجيح)
حيث يرجح أن تكون الجذور هي كذا أو كذا وذلك في ضوء مؤشرات ومعطيات ودلائل.
ويمكن أن نتقصى فكرة التجسيم في ضوء ذلك بردها الى عدة تيارات منها:
1_ تيارات دينية.
2_ تيارات فلسفية.
أما الجذور أو التيارات الدينية: فتتمثل في بعض الديانات السماوية أو غير السماوية.
فلقد شهدت اليهودية أول مظهر من مظاهر التجسيم، حيث لم يستطع بنو اسرائيل في أية فترة من فترات تاريخهم أن يستقروا على عبادة الله الواحد وكان اتجاههم الى التجسيم والتعدد واضحا في جميع مراحل تاريخهم.
ويلاحظ الباحثون في مجال اليهودية أن فكرة التوحيد لديهم ظهرت متأخرة، وأنهم عبدوا أولا آلهة متعددة مجسمة، ثم انتهوا الى عبادة أكبرها ونسبوا اليه صفات الالهة المتعددة. ولقد ظل بنو اسرائيل على هذا الاعتقاد حتى جاء موسى عليه السلام وخرج بهم من مصر ودعاهم الى عبادة الله الواحد، وعندما ذهب لميقات ربه وتركهم مع أخيه هارون ما لبثوا أن عادوا مرة أخرى الى عبادة الاصنام وعبدوا العجل وخروا له ساجدين وأخذوا يرقصون أمامه عراة. يقول تعالى:
(واتخذ قوم موسى من بعده من حليهم عجلا جسدا له خوار، ألم يروا أنه لا يكلمهم ولا يهديهم سبيلا، اتخذوه وكانوا ظالمين) (الاعراف/ 148)
ولقد ارتبطت اليهودية بما جاء في التوراة من أنه "خلق الله الانسان على صورته على صورة الله خلقه" حيث جعل ذلك تصورهم لله على نحو بشري، إذ خلعوا على الله صفات الانسان الجسمية والانفعالية: وفرغ الله في اليوم السادس من عمله الذي عمل فاستراح في اليوم السابع.
وقد امتلأت التوراة بكل ما استندوا اليه في دعواهم أن الله جسم وأنه ذو صورة انسانية، وبألفاظ توحي وتشعر بالتشبيه والتجسيم مثل الصورة والمشافهة والتكلم جهرا، والرؤية وطلوع الله في السحاب وكتابة التوراة بيده، والاستواء وخلق آدم على صورته وظهور نواجذه من كثر الضحك. ونلمح كذلك جذورا للكرامية من خلال المسيحية حيث يصف ابن كرام معبوده بأنه جوهر كما زعمت النصارى أن الله تعالى جوهر، وذلك عندما قال "ان الله أحدى الذات، أحدى الجوهر".
واذا كانت الكرامية قد تأثرت في آرائها التجسيمية بالكتب المقدسة المنزلة، فانها في الوقت ذاته تأثرت تأثرا قويا من خلال بعض الديانات الفارسية القديمة والتي عرفها المسلمون من خلال الغنوصية.
ولقد كانت لبعض تلك العقائد كالمانوية والديصانية وغيرها أثر واضح في آراء الكرامية خاصة من خلال معاني النور والظلمة وما يترتب على ذلك من نواح حسية أو جسمية.
ولقد قال ابن كرام وبقية الكرامية من بعده ان الله في جهة الفوق، وأننا نرفع أيدينا بالدعاء الى السماء لان الله فيها، هكذا تثبت الكرامية الفوقية لله تعالى. وهذا نظير قول الثنوية ان النور في أعلى العلو الى ما لا نهاية. كذلك أخذوا عن بعض فرق الثنوية القول بحلول الحوادث في ذاته تعالى.
أما عن جذور الحشو والتجسيم في البيئة الاسلامية نفسها:
فلقد قيل ان عبد الله بن سبأ هو أول من أدخل لفظ (الجسم) في الفلسفة الاسلامية وأطلقه على الله تعالى.
يذكر الرازي أنه حكى عنه أنه قال لعلي بن أبي طالب: أنت الاله حقا، فنفاه علي الى المدائن. ولما مات علي رضي الله عنه قال ابن سبأ لم يمت علي، ولم يقتل ابن ملجم إلا شيطانا تصور في صورة علي، أما هو ففي السحاب والرعد صوته والبرق سوطه، وأنه ينزل بعد هذا الى الارض ويملؤها عدلا.
أما أول من أدخل فكرة التجسيم في الفلسفة الاسلامية بصورة واضحة فهو مقاتل بن سليمان (ت 150 ه) وأنه أخذ من اليهود والنصارى ما يوافقه لتدعيم تفسيره المائل الى التشبيه والتجسيم.
ويقال ان مقاتل بن سليمان كان من أوائل الذين فسروا المقام المحمود تفسيرا ماديا، فقال: ان الله على العرش بالمعنى المكاني المادي، وأنه استقر على العرش استقرارا محسوسا. ونقل عنه انه قال: ان الله جسم من الاجسام وأنه سبعة أشبار بشبر نفسه، وأنه على صورة الانسان من لحم ودم وشعر وعظم وله جوارح وأعضاء من يد ورجل ورأس وعينين، مصمت وهو مع هذا لا يشبه غيره ولا يشبهه غيره!!
أما اذا انتقلنا الى الجذور الفلسفية لنشأة التجسيم في الفكر الاسلامي عامة وعند الكرامية خاصة فنجد أن الفلسفة اليونانية كان لها أبلغ الاثر في تلك النشأة.
فلقد عرف المسلمون علوم اليونان من طب وفلك وكيمياء وفلسفة وقد تأثر أبو الهذيل العلاف وهشام ابن الحكم وغيرهم بتلك الفلسفة.
واذا كنا قد ذكرنا أن ابن كرام والكرامية من بعده تأثروا ببعض المجوس في القول بحلول الحوادث في ذات القديم الا أنه ربما يكون أفلاطون قد سبقهم الى ذلك القول حيث ذهب الى القول بمادة مطلقة أو هيولي مطلقة، قديمة، رخوة تحدث فيها الحوادث. وممن يتبنى القول بالاثر الافلاطوني على الكرامية في هذا الصدد كل من البغدادي قديما والدكتور انشار حديثا.
وهذا معناه تقبل القديم الأزلي _وهو هنا المادة غير المتعينة للحوادث أي الاعراض التي تطرأ عليها فتشكلها _ والفارق بين أفلاطون وابن كرام في هذا القول أن الأخير يقصد بالقديم الله في حين يقصد به أفلاطون المادة الرخوة.
واذا كنا قد ذكرنا أيضا أن قول ابن كرام ان الله "أحدى الذات، أحدى الجوهر" يرتد بجذوره القريبة الى اطلاق النصارى لفظ الجوهر على الله تعالى، انه يمكن أن يرتد بجذوره البعيدة الى الفلسفة اليونانية خاصة أرسطو الذي أفاض في الحديث عن الجوهر يقول أرسطو ان الجوهر هو ما لا يحل في موضوع، أي الذي يوجد فيه غيره، ولا يوجد هو في غيره. فكأن الجوهر اذن عند أرسطو هو ما يكون موضوعا للاعراض أو الاشياء الاخرى بوجه عام، أو اذا جاز لنا أن نستعير مصطلحا اسلاميا، ان الجوهر عند أرسطو هو محل للحوادث وهو غير حادث. وهذا هو بعينه وصف الاله عند ابن كرام، اذ أن الله عنده محل للحوادث وان لم يكن هو حادثا. غير أن أرسطو كان يرى أن هناك جواهر كثيرة في حين يقول ابن كرام بجوهر واحد هو الله تعالى ولا شيء سواه يوصف بأنه جوهر. ويعني ابن كرام بالجوهر أيضا القائم بالذات، وقوله ان الله أحدى الجوهر معناه: أن ذاته هي جوهر وجوهره هو ذاته، وهذه الذات حاملة للاعراض التي هي الحوادث، وهو عنده أيضا جسم بمعنى أنه قائم بذاته. فمصطلح الجسم والجوهر عند ابن كرام اذن يعنيان شيئا واحدا هو القيام بالذات.
ونلاحظ بداية أن للكرامية فهما خاصا لمصطلح (الجسم)
اذ أن الجسم عندهم هو "القائم بالذات، المستغنى في وجوده عن غيره. (نلاحظ هنا مدى الصلة بينه وبين معنى الجوهر).
والله عند الكرامية جسم لا كالاجسام كما يقال نفس لا كالأنفس وعالم لا كالعلماء، وشيء لا كالأشياء. ولهم على صدق قولهم أدلة عقلية وأخرى نقلية، سواء أدى هذا القول في بعض الاحيان الى أنه تعالى لا كالأجسام أو أدى الى أنه مثلها.
ويذهب الكراميون الى أن الله تعالى لما كان جسما. فانه يكون من ثم في مكان، وهذا المكان هو العرش، وهو عليه استقرارا، وأنه بجهة فوق ذاتها. أما ممارسته للعرش فهي من الصفحة العليا ثم يستبدل أصحاب محمد بن كرام من بعده بلفظ المماسة لفظ الملاقاة منه للعرش.
ويبدو أن ألفاظ المماسة والانتقال والتحول والنزول قد أزعجت الكثيرين من الكرامية بعد مؤسسها، فحاولوا التخلص من كل هذه التصورات:
فذهب البعض منهم الى أنه على بعض أجزاء العرش.
وذهب البعض الاخر الى أن العرش امتلأ به وجاء تلميذه محمد بن الهيصم التي تنتمي اليه الفرقة الهيصمية محاولا تخليص المذهب من كثير من تصورات المعلم الأول للكرامية، فذهب الى أن بين الله والعرش بعدا لا يتناهى.
وقال أيضا ان الله سبحانه ذات موجود منفردة بنفسها عن سائر الموجودات، لا تحل في شيء حلول الاعراض، ولا تمازج شيئا ممازجة الاجسام، بل هو مباين للمخلوقين.
وبعد أن قرر الكرامية مباينة الله تعالى للمخلوقين بينونة أزلية وأثبتوا الفوقية، اختلفوا فيما بينهم بصدد مسألة (النهاية)،
حيث ذهب البعض منهم الى اثبات النهاية لله (جل شأنه) من ست جهات، ومنهم من أثبت النهاية من جهة (تحت)، والبعض منهم أنكرها وقال هو عظيم.
ثم اختلف هؤلاء حول مفهوم (العظم)، فذهب البعض الى ان معنى عظمته "أنه مع وحدته على جميع أجزاء العرش، والعرش تحته، وهو فوق كله، على الوجه الذي هو فوق جزء منه"
وذهب البعض الاخر الى أن معنى عظمته أنه يلاقي _مع وحدته _ من جهة واحدة أكثر من واحد، وهو يلاقي جميع أجزاء العرش، وهذا معنى العلي العظيم. كذلك اختلفوا حول حقيقة الاستقرار وحقيقة العرش، وأيهما أكبر الله أم العرش!.
أما عن استدلال الكرامية بأدلة عقلية وأخرى نقلية على ما يذهبون اليه، فتعتمد أدلتهم العقلية على ما يلي:
1_ ان العالم موجود والبارى تعالى موجود، وكل موجودين فلابد وأن يكون أحدهما ساريا في الاخر أو مباينا له بالجهة. وكون البارى تعالى ساريا في العالم محال فبقي أن يكون مباينا له بالجهة، ولما كان ذي جهة متميزا، وكان كل متميز جسما، فالله اذن جسم.
2_ اننا لم نشاهد عالما، قادرا، حيا إلا وهو جسم، وإثبات شيء على خلاف المشاهدة لا يقبله عقل، ولا يقر به قلب، فوجب القول بأنه تعالى جسم لما ثبت كونه عالما، قادرا حيا.
3_ ان العالم يجب أن يكون عالما بهذه الجسمانيات. والعالم بها يجب أن تحصل في ذاته صورها، والله تعالى عالم بالجسمانيات، فيلزم من ذلك أن يكون جسما لان الشبيه يدرك الشبيه.
4_ ان الله تعالى تجوز رؤيته، والرؤية تقتضي مواجهة المرئي او شيئا في حكم المقابل، والمرئي يقتضي سقوط الشعاع على الجسم حتى يرى. وذلك يقتضي كونه تعالى مخصوصا بجهة وما يختص بجهة فهو جسم، فيلزم عن ذلك أن يكون الله جسما.
أما أدلتهم النقلية فهي الايات التي توحي من قريب أو بعيد بالتجسيم والتي ورد فيها ذكر الاستواء والعرش والجهة والتحيز والمكان، بالاضافة الى الاحاديث الشريفة التي أجروها على ظاهرها _حسب تصوراتهم _ لكي يستدلوا بها على جسمية الله وتحيزه وربما كان لهم ما أرادوا من أحاديث غير صحيحة أو موضوعة أو مما دخلتها الاسرائيليات.
فمن آيات الفوقية قوله تعالى: (يخافون ربهم من فوقهم) (النحل/ 50) .
وآيات العلو كما في قوله تعالى: (وهو العلي العظيم) (البقرة/255) ، وقوله تعالى (سبح اسم ربك الأعلى) (الاعلى/1).
أما آيات العروج فذلك مثل قوله تعالى: (اليه يصعد الكلم الطيب) (فاطر/10)، وقوله تعالى: (تعرج الملائكة والروح اليه) (المعارج/4).
كذلك استشهد الكرامية بالايات الدالة على أنه تعالى في السماء كقوله تعالى: (أم أمنتم من في السماء) (الملك/ 17).
أما الآيات المتضمنة الرفع كقوله تعالى: (وما قتلوه يقينا بل رفعه الله اليه) (النساء/158).
وتمسك الكرامية بأيات النزول والانزال (انزال الكتب المقدسة والملائكة المقربين) كما اتخذوا من آيات العندية دليلا على التحيز والجهة، وذلك كما في قوله تعالى (أنا أنزلناه في ليلة القدر) (القدر/1). وقوله تعالى: (رب ابن لي عندك بيتا في الجنة) (التحريم/11).
أما قوله تعالى: (ثم دنا فتدلى فكان قاب قوسين أو أدنى) (النجم/8). فان الكرامية يتخذون من خلالها دليلا عقليا ودليلا سمعيا. فان المعنى هنا _على ما يذهبون _ يفيد الدنو بالجهة،
ولما كان الدنو من جهة الله تعالى لقوله بعد ذلك (فأوحى الى عبده ما أوحى). فانه دليل على أنه تعالى في جهة، وهذه الجهة هي جهة الفوق، والا لما اضطر الى الدنو لكي يوصي ما يريد. ومن كانت هذه جهته (فوق) كان متحيزا، ومن كان متحيزا كان جسما.
منقول عن محمد احمد عبد القادر:
تعد فكرة التجسيم أهم فكرة ظهرت في مذهب الكرامية.
كما أنها السبب الرئيسي في وضع الكرامية في عداد فرق المجسمة.
وفي حقيقة الأمر يصعب في مجال الافكار تتبع فكرة معينة ومحاولة تأصيلها بدقة تامة بنسبتها الى فرد بعينه.
وللتغلب على تلك الصعوبة يمكن الخروج بالجذور من دائرة (التحديد) الى دائرة (الترجيح)
حيث يرجح أن تكون الجذور هي كذا أو كذا وذلك في ضوء مؤشرات ومعطيات ودلائل.
ويمكن أن نتقصى فكرة التجسيم في ضوء ذلك بردها الى عدة تيارات منها:
1_ تيارات دينية.
2_ تيارات فلسفية.
أما الجذور أو التيارات الدينية: فتتمثل في بعض الديانات السماوية أو غير السماوية.
فلقد شهدت اليهودية أول مظهر من مظاهر التجسيم، حيث لم يستطع بنو اسرائيل في أية فترة من فترات تاريخهم أن يستقروا على عبادة الله الواحد وكان اتجاههم الى التجسيم والتعدد واضحا في جميع مراحل تاريخهم.
ويلاحظ الباحثون في مجال اليهودية أن فكرة التوحيد لديهم ظهرت متأخرة، وأنهم عبدوا أولا آلهة متعددة مجسمة، ثم انتهوا الى عبادة أكبرها ونسبوا اليه صفات الالهة المتعددة. ولقد ظل بنو اسرائيل على هذا الاعتقاد حتى جاء موسى عليه السلام وخرج بهم من مصر ودعاهم الى عبادة الله الواحد، وعندما ذهب لميقات ربه وتركهم مع أخيه هارون ما لبثوا أن عادوا مرة أخرى الى عبادة الاصنام وعبدوا العجل وخروا له ساجدين وأخذوا يرقصون أمامه عراة. يقول تعالى:
(واتخذ قوم موسى من بعده من حليهم عجلا جسدا له خوار، ألم يروا أنه لا يكلمهم ولا يهديهم سبيلا، اتخذوه وكانوا ظالمين) (الاعراف/ 148)
ولقد ارتبطت اليهودية بما جاء في التوراة من أنه "خلق الله الانسان على صورته على صورة الله خلقه" حيث جعل ذلك تصورهم لله على نحو بشري، إذ خلعوا على الله صفات الانسان الجسمية والانفعالية: وفرغ الله في اليوم السادس من عمله الذي عمل فاستراح في اليوم السابع.
وقد امتلأت التوراة بكل ما استندوا اليه في دعواهم أن الله جسم وأنه ذو صورة انسانية، وبألفاظ توحي وتشعر بالتشبيه والتجسيم مثل الصورة والمشافهة والتكلم جهرا، والرؤية وطلوع الله في السحاب وكتابة التوراة بيده، والاستواء وخلق آدم على صورته وظهور نواجذه من كثر الضحك. ونلمح كذلك جذورا للكرامية من خلال المسيحية حيث يصف ابن كرام معبوده بأنه جوهر كما زعمت النصارى أن الله تعالى جوهر، وذلك عندما قال "ان الله أحدى الذات، أحدى الجوهر".
واذا كانت الكرامية قد تأثرت في آرائها التجسيمية بالكتب المقدسة المنزلة، فانها في الوقت ذاته تأثرت تأثرا قويا من خلال بعض الديانات الفارسية القديمة والتي عرفها المسلمون من خلال الغنوصية.
ولقد كانت لبعض تلك العقائد كالمانوية والديصانية وغيرها أثر واضح في آراء الكرامية خاصة من خلال معاني النور والظلمة وما يترتب على ذلك من نواح حسية أو جسمية.
ولقد قال ابن كرام وبقية الكرامية من بعده ان الله في جهة الفوق، وأننا نرفع أيدينا بالدعاء الى السماء لان الله فيها، هكذا تثبت الكرامية الفوقية لله تعالى. وهذا نظير قول الثنوية ان النور في أعلى العلو الى ما لا نهاية. كذلك أخذوا عن بعض فرق الثنوية القول بحلول الحوادث في ذاته تعالى.
أما عن جذور الحشو والتجسيم في البيئة الاسلامية نفسها:
فلقد قيل ان عبد الله بن سبأ هو أول من أدخل لفظ (الجسم) في الفلسفة الاسلامية وأطلقه على الله تعالى.
يذكر الرازي أنه حكى عنه أنه قال لعلي بن أبي طالب: أنت الاله حقا، فنفاه علي الى المدائن. ولما مات علي رضي الله عنه قال ابن سبأ لم يمت علي، ولم يقتل ابن ملجم إلا شيطانا تصور في صورة علي، أما هو ففي السحاب والرعد صوته والبرق سوطه، وأنه ينزل بعد هذا الى الارض ويملؤها عدلا.
أما أول من أدخل فكرة التجسيم في الفلسفة الاسلامية بصورة واضحة فهو مقاتل بن سليمان (ت 150 ه) وأنه أخذ من اليهود والنصارى ما يوافقه لتدعيم تفسيره المائل الى التشبيه والتجسيم.
ويقال ان مقاتل بن سليمان كان من أوائل الذين فسروا المقام المحمود تفسيرا ماديا، فقال: ان الله على العرش بالمعنى المكاني المادي، وأنه استقر على العرش استقرارا محسوسا. ونقل عنه انه قال: ان الله جسم من الاجسام وأنه سبعة أشبار بشبر نفسه، وأنه على صورة الانسان من لحم ودم وشعر وعظم وله جوارح وأعضاء من يد ورجل ورأس وعينين، مصمت وهو مع هذا لا يشبه غيره ولا يشبهه غيره!!
أما اذا انتقلنا الى الجذور الفلسفية لنشأة التجسيم في الفكر الاسلامي عامة وعند الكرامية خاصة فنجد أن الفلسفة اليونانية كان لها أبلغ الاثر في تلك النشأة.
فلقد عرف المسلمون علوم اليونان من طب وفلك وكيمياء وفلسفة وقد تأثر أبو الهذيل العلاف وهشام ابن الحكم وغيرهم بتلك الفلسفة.
واذا كنا قد ذكرنا أن ابن كرام والكرامية من بعده تأثروا ببعض المجوس في القول بحلول الحوادث في ذات القديم الا أنه ربما يكون أفلاطون قد سبقهم الى ذلك القول حيث ذهب الى القول بمادة مطلقة أو هيولي مطلقة، قديمة، رخوة تحدث فيها الحوادث. وممن يتبنى القول بالاثر الافلاطوني على الكرامية في هذا الصدد كل من البغدادي قديما والدكتور انشار حديثا.
وهذا معناه تقبل القديم الأزلي _وهو هنا المادة غير المتعينة للحوادث أي الاعراض التي تطرأ عليها فتشكلها _ والفارق بين أفلاطون وابن كرام في هذا القول أن الأخير يقصد بالقديم الله في حين يقصد به أفلاطون المادة الرخوة.
واذا كنا قد ذكرنا أيضا أن قول ابن كرام ان الله "أحدى الذات، أحدى الجوهر" يرتد بجذوره القريبة الى اطلاق النصارى لفظ الجوهر على الله تعالى، انه يمكن أن يرتد بجذوره البعيدة الى الفلسفة اليونانية خاصة أرسطو الذي أفاض في الحديث عن الجوهر يقول أرسطو ان الجوهر هو ما لا يحل في موضوع، أي الذي يوجد فيه غيره، ولا يوجد هو في غيره. فكأن الجوهر اذن عند أرسطو هو ما يكون موضوعا للاعراض أو الاشياء الاخرى بوجه عام، أو اذا جاز لنا أن نستعير مصطلحا اسلاميا، ان الجوهر عند أرسطو هو محل للحوادث وهو غير حادث. وهذا هو بعينه وصف الاله عند ابن كرام، اذ أن الله عنده محل للحوادث وان لم يكن هو حادثا. غير أن أرسطو كان يرى أن هناك جواهر كثيرة في حين يقول ابن كرام بجوهر واحد هو الله تعالى ولا شيء سواه يوصف بأنه جوهر. ويعني ابن كرام بالجوهر أيضا القائم بالذات، وقوله ان الله أحدى الجوهر معناه: أن ذاته هي جوهر وجوهره هو ذاته، وهذه الذات حاملة للاعراض التي هي الحوادث، وهو عنده أيضا جسم بمعنى أنه قائم بذاته. فمصطلح الجسم والجوهر عند ابن كرام اذن يعنيان شيئا واحدا هو القيام بالذات.
ونلاحظ بداية أن للكرامية فهما خاصا لمصطلح (الجسم)
اذ أن الجسم عندهم هو "القائم بالذات، المستغنى في وجوده عن غيره. (نلاحظ هنا مدى الصلة بينه وبين معنى الجوهر).
والله عند الكرامية جسم لا كالاجسام كما يقال نفس لا كالأنفس وعالم لا كالعلماء، وشيء لا كالأشياء. ولهم على صدق قولهم أدلة عقلية وأخرى نقلية، سواء أدى هذا القول في بعض الاحيان الى أنه تعالى لا كالأجسام أو أدى الى أنه مثلها.
ويذهب الكراميون الى أن الله تعالى لما كان جسما. فانه يكون من ثم في مكان، وهذا المكان هو العرش، وهو عليه استقرارا، وأنه بجهة فوق ذاتها. أما ممارسته للعرش فهي من الصفحة العليا ثم يستبدل أصحاب محمد بن كرام من بعده بلفظ المماسة لفظ الملاقاة منه للعرش.
ويبدو أن ألفاظ المماسة والانتقال والتحول والنزول قد أزعجت الكثيرين من الكرامية بعد مؤسسها، فحاولوا التخلص من كل هذه التصورات:
فذهب البعض منهم الى أنه على بعض أجزاء العرش.
وذهب البعض الاخر الى أن العرش امتلأ به وجاء تلميذه محمد بن الهيصم التي تنتمي اليه الفرقة الهيصمية محاولا تخليص المذهب من كثير من تصورات المعلم الأول للكرامية، فذهب الى أن بين الله والعرش بعدا لا يتناهى.
وقال أيضا ان الله سبحانه ذات موجود منفردة بنفسها عن سائر الموجودات، لا تحل في شيء حلول الاعراض، ولا تمازج شيئا ممازجة الاجسام، بل هو مباين للمخلوقين.
وبعد أن قرر الكرامية مباينة الله تعالى للمخلوقين بينونة أزلية وأثبتوا الفوقية، اختلفوا فيما بينهم بصدد مسألة (النهاية)،
حيث ذهب البعض منهم الى اثبات النهاية لله (جل شأنه) من ست جهات، ومنهم من أثبت النهاية من جهة (تحت)، والبعض منهم أنكرها وقال هو عظيم.
ثم اختلف هؤلاء حول مفهوم (العظم)، فذهب البعض الى ان معنى عظمته "أنه مع وحدته على جميع أجزاء العرش، والعرش تحته، وهو فوق كله، على الوجه الذي هو فوق جزء منه"
وذهب البعض الاخر الى أن معنى عظمته أنه يلاقي _مع وحدته _ من جهة واحدة أكثر من واحد، وهو يلاقي جميع أجزاء العرش، وهذا معنى العلي العظيم. كذلك اختلفوا حول حقيقة الاستقرار وحقيقة العرش، وأيهما أكبر الله أم العرش!.
أما عن استدلال الكرامية بأدلة عقلية وأخرى نقلية على ما يذهبون اليه، فتعتمد أدلتهم العقلية على ما يلي:
1_ ان العالم موجود والبارى تعالى موجود، وكل موجودين فلابد وأن يكون أحدهما ساريا في الاخر أو مباينا له بالجهة. وكون البارى تعالى ساريا في العالم محال فبقي أن يكون مباينا له بالجهة، ولما كان ذي جهة متميزا، وكان كل متميز جسما، فالله اذن جسم.
2_ اننا لم نشاهد عالما، قادرا، حيا إلا وهو جسم، وإثبات شيء على خلاف المشاهدة لا يقبله عقل، ولا يقر به قلب، فوجب القول بأنه تعالى جسم لما ثبت كونه عالما، قادرا حيا.
3_ ان العالم يجب أن يكون عالما بهذه الجسمانيات. والعالم بها يجب أن تحصل في ذاته صورها، والله تعالى عالم بالجسمانيات، فيلزم من ذلك أن يكون جسما لان الشبيه يدرك الشبيه.
4_ ان الله تعالى تجوز رؤيته، والرؤية تقتضي مواجهة المرئي او شيئا في حكم المقابل، والمرئي يقتضي سقوط الشعاع على الجسم حتى يرى. وذلك يقتضي كونه تعالى مخصوصا بجهة وما يختص بجهة فهو جسم، فيلزم عن ذلك أن يكون الله جسما.
أما أدلتهم النقلية فهي الايات التي توحي من قريب أو بعيد بالتجسيم والتي ورد فيها ذكر الاستواء والعرش والجهة والتحيز والمكان، بالاضافة الى الاحاديث الشريفة التي أجروها على ظاهرها _حسب تصوراتهم _ لكي يستدلوا بها على جسمية الله وتحيزه وربما كان لهم ما أرادوا من أحاديث غير صحيحة أو موضوعة أو مما دخلتها الاسرائيليات.
فمن آيات الفوقية قوله تعالى: (يخافون ربهم من فوقهم) (النحل/ 50) .
وآيات العلو كما في قوله تعالى: (وهو العلي العظيم) (البقرة/255) ، وقوله تعالى (سبح اسم ربك الأعلى) (الاعلى/1).
أما آيات العروج فذلك مثل قوله تعالى: (اليه يصعد الكلم الطيب) (فاطر/10)، وقوله تعالى: (تعرج الملائكة والروح اليه) (المعارج/4).
كذلك استشهد الكرامية بالايات الدالة على أنه تعالى في السماء كقوله تعالى: (أم أمنتم من في السماء) (الملك/ 17).
أما الآيات المتضمنة الرفع كقوله تعالى: (وما قتلوه يقينا بل رفعه الله اليه) (النساء/158).
وتمسك الكرامية بأيات النزول والانزال (انزال الكتب المقدسة والملائكة المقربين) كما اتخذوا من آيات العندية دليلا على التحيز والجهة، وذلك كما في قوله تعالى (أنا أنزلناه في ليلة القدر) (القدر/1). وقوله تعالى: (رب ابن لي عندك بيتا في الجنة) (التحريم/11).
أما قوله تعالى: (ثم دنا فتدلى فكان قاب قوسين أو أدنى) (النجم/8). فان الكرامية يتخذون من خلالها دليلا عقليا ودليلا سمعيا. فان المعنى هنا _على ما يذهبون _ يفيد الدنو بالجهة،
ولما كان الدنو من جهة الله تعالى لقوله بعد ذلك (فأوحى الى عبده ما أوحى). فانه دليل على أنه تعالى في جهة، وهذه الجهة هي جهة الفوق، والا لما اضطر الى الدنو لكي يوصي ما يريد. ومن كانت هذه جهته (فوق) كان متحيزا، ومن كان متحيزا كان جسما.