hassen sas
2010-04-28, 16:34
نحو تربية العقل
هناك محوران ينبغي التفكير فيهما بجدية وتبصّر لأنه بدونهما يستحيل الإنتصار على التخلّف بكل أشكاله المادية والذهنية والعملية. ففي تراثنا إلحاح على استخدام العقل وتنشيطه وفق مناهج محددة وعلمية، وهكذا، فإن كلا من العقل والمنهج ضروريان كل الضرورة لتحقيق الغايات والأهداف، فالفيلسوف الفارابي له رأي في هذا الموضوع حيث يقول مثلا في كتابه ''كتاب السياسة المدنية''. ''وإذا كان المقصود بوجود الإنسان أن يبلغ السعادة القصوى، فإنه يحتاج في بلوغها إلى أن يعلّم السعادة ويجعلها غايته ونصب عينيه، ثم أن يعمل تلك الأعمال'' ص.78 فالفارابي يتحدث هنا عن المنهج والخطة والعلم والعمل معا.
ويعني هذا أن العمل بدون علم منهج وغايات مسطرة لا طائل من ورائه. وبالنظر إلى ما تقدّم، فإن المهمة الأساسية لمنظوماتنا التعليمية لا تتمثل في مراكمة المعلومات في أذهان طلابنا وطالباتنا وقياس مستواهم بمعيار مدى قدرة هؤلاء على تذكر تلك المعلومات في الامتحانات وفي مسابقات التوظيف، وإنما تتمثل في تربية ما ندعوه بفعالياتهم وقدراتهم على توظيف المعلومات التي تعلموها في الحياة اليومية، العملية والأخلاقية والإجتماعية والسياسية معا. وهكذا، فإن مهمة المنظومة التعليمية ينبغي أن تنصبّ على تعليم المنهج العلمي الدقيق وما يتصل به من الخطوات والفرضيات التي تقود فعليا إلى الوصول إلى الحلول الناجعة للمشكلات أو الأزمات الطارئة.
فالغاية إذا من التعليم هي تربية العقل وتعليم المنهج وليس الزج بالمعلومات وبالنصوص في الذاكرة لحد جعلها مثقلة ومنهكة بها.
ولكي نقوم بتربية العقل، فإن المطلوب أولا نشر الثقافة العقلانية والأخلاقيات العقلانية، والسلوك العقلاني في المجتمع ككل دون التمييز بين الريف والمدينة. ولكي نتمكن من ذلك، فلا بد أولا وقبل كل شيء أن ندرس جديا مكونات وأنماط العقل أيضا، كما نعرف أن هناك العقل المحض الذي يتكفل بالتفكير والفهم وتنظيم العالم حولنا لنتعرف عليه وندركه. ولذا، فلا بد لمنظومتنا التعليمية من الابتدائي، فالتكميلي، فالثانوي حتى التعليم العالي من الاشتغال جديا وبقوة وإيمان على دراسة الجهاز العقلي وكيف يعمل وكيف يتمكن من تطوير فعاياته، كما أن هناك العقل العملي الذي يختص بالأخلاقيات والسلوك والسياسة كبناء حضاري وروحي، ثم هناك العقل الجمالي الذي ينبغي أن يجمع العقل المحض والعقل العملي في تركيبته ويتحول فيها التفكير والممارسة المعرفية والتقنية والزراعية وغيرها إلى معمار جمالي في منتهى الجمال والإنسجام المتناغم المولد للخير. ففي ميدان العقل العملي، وخاصة في مجال السياسة وممارسة الحكم، فلا بد من تربية جادة وفاعلة ومحكمة لكي نبني مجتمعات العدالة والديمقراطية. وبهذا الشأن أقوم بتلخيص العوامل المعوقة التي تحول دون النضج السياسي في مجتمعاتنا، كما حددها الدكتور نجيب محمود في كتابه المذكور آنفا. فالعامل الأول يتمثل في ''أن يكون السلطان السياسي هو في الوقت نفسه، وبسبب سلطانه السياسي، صاحب ''الرأي'' لا أن يكون صاحب رأي ص''27 إن هذا النوع من السلطان السياسي يتجاوز صلاحيته إلى التسلط وفرض الأمر الواقع، وكبت الرأي المخالف في الشؤون التي تهم البلاد والعباد. إن هذا هو العائق رقم واحد الذي يكرس الفردية ويبطل الإجماع والمشورة والتعاون وجعل المختلف مسموعا.
أما العامل الثاني السلبي فهو ''أن يكون للسلف كل هذا الضغط علينا، فنميل إلى الدوران فيما قالوه، وما أعادوه ألف ألف مرة ص.''27
إن هذا الضغط السلفي الطاغي يتحول إلى عقبة تسلب الأجيال الجديدة حق التفكير والعمل الحرّين وبدون قيود ما يدعى بالتراث الذي يصبح سجنا ونموذجا مطلقا ونهائيا يلغي الإجتهاد والإبداع معا. وبخصوص العامل الثالث الذي يراه الدكتور زكي نجيب محمود قوة سلبية، فيتمثل في الحكم على أساس القرابة والعشائرية، وليس على أساس الكفاءة وإشراك المواطنين بغض النظر عن أصولهم ونسبهم وموقعهم. ويمكن تلخيص ما ذكر من العوامل 1) في الإستحواذ على السلطة والإنفراد بالرأي من طرف شخص أو أقلية على حساب الجماعة، وعلى حساب الحق في المواطنة. 2) وفي تسلط الأسلاف على الخلف بشكل يجرّد الأجيال الجديدة من الحق في ممارسة التفكير والعمل الحرين. 3) الاستسلام للغيبيات والشعوذة والسحر بما يتناقض مع قوانين الطبيعة والعلم والمعقولية والنقد كعملية بناء للمعرفة، وللأخلاقيات بما في ذلك السياسة.
إن تجنب العوامل المعوقة المذكورة والعمل بالعقل والمعرفة والنقد لتصفيتها كلية من الثقافة الوطنية ومن المعاملات ومن الوجدان، هو السبيل إلى الإنتقال إلى طور الأداء الفاعل والمبدع دون ريب. ومن هنا نرى بأن قراءة تراثنا السياسي أو التربوي أو الأخلاقي أو تراثنا في علاقتنا بالعمل والزمن ينبغي أن تتم بمنهج جديد وبعقلانية نقدية. ففي البداية لابد من تحقيق أمر أساسي وهو وضع المسافة بيننا وبين هذا التراث لكي تتم رؤيته بوضوح وكما هو في مبادئه وتفاصيله. ولكي تنجز هذه المسافة لا بد من الجهاد النفسي الكبير وتجريد قيم التراث من العواطف التي تغطي حقائقه المادية والمعنوية وتحول دون النظر إليه بمعزل عنها. فالشخص الغاضب مثلا لا يستطيع أن يدرك أسباب غضبه في الوقت الذي يكون منفعلا بغضبه إنه ينبغي عليه أن يتجرد منه ويفصل نفسه عن غضبه، ومن ثم يتمكّن من تأمل مسبباته بكل صفاء لفهمها، ثم يلي ذلك علاج المشكلات التي فجرته بدلا من البقاء متوترا وأسيرا للانفعالات. فالثقافات والسياسات العقلانية هي التي تقيم بينها وبين الأزمات المسافات لتنظر إليها كظاهرة، أما تلك التي تتحرك وتنفعل داخل فوران الأزمات، فإنها تعقّدها وتطمس إمكانيات الحل والرؤية السليمة والصحيحة.
http://www.elkhabar.com/images/btns/extra/mail.gif (http://javascript%3Cb%3E%3C/b%3E:openWindow%28%27/mail/?ida=204935%27%29) http://www.elkhabar.com/images/btns/extra/printer.gif (http://javascript%3Cb%3E%3C/b%3E:openWindow%28%27/imprime/?ida=204935&date_insert=20100427%27%29)
هناك محوران ينبغي التفكير فيهما بجدية وتبصّر لأنه بدونهما يستحيل الإنتصار على التخلّف بكل أشكاله المادية والذهنية والعملية. ففي تراثنا إلحاح على استخدام العقل وتنشيطه وفق مناهج محددة وعلمية، وهكذا، فإن كلا من العقل والمنهج ضروريان كل الضرورة لتحقيق الغايات والأهداف، فالفيلسوف الفارابي له رأي في هذا الموضوع حيث يقول مثلا في كتابه ''كتاب السياسة المدنية''. ''وإذا كان المقصود بوجود الإنسان أن يبلغ السعادة القصوى، فإنه يحتاج في بلوغها إلى أن يعلّم السعادة ويجعلها غايته ونصب عينيه، ثم أن يعمل تلك الأعمال'' ص.78 فالفارابي يتحدث هنا عن المنهج والخطة والعلم والعمل معا.
ويعني هذا أن العمل بدون علم منهج وغايات مسطرة لا طائل من ورائه. وبالنظر إلى ما تقدّم، فإن المهمة الأساسية لمنظوماتنا التعليمية لا تتمثل في مراكمة المعلومات في أذهان طلابنا وطالباتنا وقياس مستواهم بمعيار مدى قدرة هؤلاء على تذكر تلك المعلومات في الامتحانات وفي مسابقات التوظيف، وإنما تتمثل في تربية ما ندعوه بفعالياتهم وقدراتهم على توظيف المعلومات التي تعلموها في الحياة اليومية، العملية والأخلاقية والإجتماعية والسياسية معا. وهكذا، فإن مهمة المنظومة التعليمية ينبغي أن تنصبّ على تعليم المنهج العلمي الدقيق وما يتصل به من الخطوات والفرضيات التي تقود فعليا إلى الوصول إلى الحلول الناجعة للمشكلات أو الأزمات الطارئة.
فالغاية إذا من التعليم هي تربية العقل وتعليم المنهج وليس الزج بالمعلومات وبالنصوص في الذاكرة لحد جعلها مثقلة ومنهكة بها.
ولكي نقوم بتربية العقل، فإن المطلوب أولا نشر الثقافة العقلانية والأخلاقيات العقلانية، والسلوك العقلاني في المجتمع ككل دون التمييز بين الريف والمدينة. ولكي نتمكن من ذلك، فلا بد أولا وقبل كل شيء أن ندرس جديا مكونات وأنماط العقل أيضا، كما نعرف أن هناك العقل المحض الذي يتكفل بالتفكير والفهم وتنظيم العالم حولنا لنتعرف عليه وندركه. ولذا، فلا بد لمنظومتنا التعليمية من الابتدائي، فالتكميلي، فالثانوي حتى التعليم العالي من الاشتغال جديا وبقوة وإيمان على دراسة الجهاز العقلي وكيف يعمل وكيف يتمكن من تطوير فعاياته، كما أن هناك العقل العملي الذي يختص بالأخلاقيات والسلوك والسياسة كبناء حضاري وروحي، ثم هناك العقل الجمالي الذي ينبغي أن يجمع العقل المحض والعقل العملي في تركيبته ويتحول فيها التفكير والممارسة المعرفية والتقنية والزراعية وغيرها إلى معمار جمالي في منتهى الجمال والإنسجام المتناغم المولد للخير. ففي ميدان العقل العملي، وخاصة في مجال السياسة وممارسة الحكم، فلا بد من تربية جادة وفاعلة ومحكمة لكي نبني مجتمعات العدالة والديمقراطية. وبهذا الشأن أقوم بتلخيص العوامل المعوقة التي تحول دون النضج السياسي في مجتمعاتنا، كما حددها الدكتور نجيب محمود في كتابه المذكور آنفا. فالعامل الأول يتمثل في ''أن يكون السلطان السياسي هو في الوقت نفسه، وبسبب سلطانه السياسي، صاحب ''الرأي'' لا أن يكون صاحب رأي ص''27 إن هذا النوع من السلطان السياسي يتجاوز صلاحيته إلى التسلط وفرض الأمر الواقع، وكبت الرأي المخالف في الشؤون التي تهم البلاد والعباد. إن هذا هو العائق رقم واحد الذي يكرس الفردية ويبطل الإجماع والمشورة والتعاون وجعل المختلف مسموعا.
أما العامل الثاني السلبي فهو ''أن يكون للسلف كل هذا الضغط علينا، فنميل إلى الدوران فيما قالوه، وما أعادوه ألف ألف مرة ص.''27
إن هذا الضغط السلفي الطاغي يتحول إلى عقبة تسلب الأجيال الجديدة حق التفكير والعمل الحرّين وبدون قيود ما يدعى بالتراث الذي يصبح سجنا ونموذجا مطلقا ونهائيا يلغي الإجتهاد والإبداع معا. وبخصوص العامل الثالث الذي يراه الدكتور زكي نجيب محمود قوة سلبية، فيتمثل في الحكم على أساس القرابة والعشائرية، وليس على أساس الكفاءة وإشراك المواطنين بغض النظر عن أصولهم ونسبهم وموقعهم. ويمكن تلخيص ما ذكر من العوامل 1) في الإستحواذ على السلطة والإنفراد بالرأي من طرف شخص أو أقلية على حساب الجماعة، وعلى حساب الحق في المواطنة. 2) وفي تسلط الأسلاف على الخلف بشكل يجرّد الأجيال الجديدة من الحق في ممارسة التفكير والعمل الحرين. 3) الاستسلام للغيبيات والشعوذة والسحر بما يتناقض مع قوانين الطبيعة والعلم والمعقولية والنقد كعملية بناء للمعرفة، وللأخلاقيات بما في ذلك السياسة.
إن تجنب العوامل المعوقة المذكورة والعمل بالعقل والمعرفة والنقد لتصفيتها كلية من الثقافة الوطنية ومن المعاملات ومن الوجدان، هو السبيل إلى الإنتقال إلى طور الأداء الفاعل والمبدع دون ريب. ومن هنا نرى بأن قراءة تراثنا السياسي أو التربوي أو الأخلاقي أو تراثنا في علاقتنا بالعمل والزمن ينبغي أن تتم بمنهج جديد وبعقلانية نقدية. ففي البداية لابد من تحقيق أمر أساسي وهو وضع المسافة بيننا وبين هذا التراث لكي تتم رؤيته بوضوح وكما هو في مبادئه وتفاصيله. ولكي تنجز هذه المسافة لا بد من الجهاد النفسي الكبير وتجريد قيم التراث من العواطف التي تغطي حقائقه المادية والمعنوية وتحول دون النظر إليه بمعزل عنها. فالشخص الغاضب مثلا لا يستطيع أن يدرك أسباب غضبه في الوقت الذي يكون منفعلا بغضبه إنه ينبغي عليه أن يتجرد منه ويفصل نفسه عن غضبه، ومن ثم يتمكّن من تأمل مسبباته بكل صفاء لفهمها، ثم يلي ذلك علاج المشكلات التي فجرته بدلا من البقاء متوترا وأسيرا للانفعالات. فالثقافات والسياسات العقلانية هي التي تقيم بينها وبين الأزمات المسافات لتنظر إليها كظاهرة، أما تلك التي تتحرك وتنفعل داخل فوران الأزمات، فإنها تعقّدها وتطمس إمكانيات الحل والرؤية السليمة والصحيحة.
http://www.elkhabar.com/images/btns/extra/mail.gif (http://javascript%3Cb%3E%3C/b%3E:openWindow%28%27/mail/?ida=204935%27%29) http://www.elkhabar.com/images/btns/extra/printer.gif (http://javascript%3Cb%3E%3C/b%3E:openWindow%28%27/imprime/?ida=204935&date_insert=20100427%27%29)