khelifa8
2010-04-25, 17:06
الموضوع الاول« إن الثقافة في مفهومها الواسع هي سعة الاطلاع وما ينشأ عنها لدى الشخص من مهارات وفطنة في بعض الجوانب » . فهل تجد هذا المفهوم معبراً
عن حقيقة الثقافة ؟ باكالوريا 1998
الطريقة : ضبط التعريفات .
* ان الثقافة من الكلمات المتداولة والمستعملة بكثرة بين افراد النوع الانساني ، إنطلاقا من إعتباره كائنا مثقفاً . ولكن رغم هذا الشيوع ، فإن الناس يستعملونها بمفاهيم متعددة ومعانٍ مختلفة ، وهذا التعدد والالتباس يحتمل الغموض والابهام ؛ فماهو المفهوم الصحيح للثقافة والمعبرة عن حقيقيتها ؟
1- لإدراك مفهوم الثقافة ينبغي الاشارة – اولا – الى المفهوم العامي المتداول بين الناس ، إذ يعتقد الانسان العادي ان الثقافة تعني كثرة المعارف وشموليتها وتنوعها ، فالمثقف هو ذلك الفرد الواسع الاطلاع ، المتنوع المعارف ، القادر على الادلاء برأيه في مواضيع متعددة ، والذي يستطيع تجاوز مختلف المشكلات التي تـواجهه .. وعليه فالثقافة – بهـذا المعنى – تعني سعة الاطلاع .
ولكن الذي يتأمل هذا المفهوم ، يدرك بأنه مفهوم ذاتي يختلف بإختلاف ثقافة كل واحد من الناس ، وبالتالي يتحدد مفهوم الثقافة وفقا لثقافة كل فرد ، فيعتبر الفرد الواحد مثقفا عند هذا ، وغير مثقفٍ عند ذاك ، ومن ثـمّ تتعدد المفاهيم . وعليه فالمفهوم العامي الشائع للثقافة ناتج عن تصورات ذاتية ولا يعبر عن حقيقتها . مما يجدر بنا البحث عن مفهوم الثقافة الصحيح بغض النظر عن اختلاف تصورات الناس .
2- ومعلوم ان للثقافة مظاهر متعددة يتفق الناس على ادراكها ، ومن ثـمّ يمكن تصورها تصورا موضوعيا بعد الوقوف عليها ، فيمكن استخلاص مفهوم الثقافة من خلال السلوك الجماعي الذي يصدر عن افراد المجتمع الواحد ، من حيث انهم يتلقون من المجتمع نفس النماذج والانماط السلوكية والفكرية والمعرفية والعقائدية والعادات ... التي تتوارثها الاجيال ، ولعلّ هذا ما جعل عالم الاجتماع الانثروبولوجي الانجليزي "" إدوراد تايلور 1832 – 1917 " يقدم تعريفا علميا للثقافة فيقول : « الثقافة هي ذلك الكل المركب الذي يشمل المعرفة والمعتقدات والفنون والقانون والاخلاق والعادات ، وكل المقدسات والقدرات الاخرى التي يكتسبها الفرد من المجتمع بوصفه عضوا فيه » . وهذا يعني ان الثقافة منتوج اجتماعي بالدرجة الاولى ، فيطبع الافراد بطابع خاص . كما يمكن القول ان هذا التصور للثقافة يتمحور فيما ابدعه الانسان واضافه .
ومما لا شكّ فيه ، ان المفهوم العلمي أكثر دقة من المفهوم العامي الساذج المتداول بين عامة الناس ، ولكن ذلك لا يجعلنا نعتقد انه هو المفهوم الصحيح الذي يعبر عن حقيقة الثقافة ، لأنه مفهوم لا يعرف جوهر الثقافة كنشاط وفاعلية ، وانما يكتفي فقط بوصف مظاهرها الخارجية الموضوعية .
3- وهذا ما يجعلنا نبحث عن المفهوم الفلسفي للثقافة ، والذي لا يتمثل في مظاهرها من منجزات ، بقدر ماهي قدرة متجددة على انجاز مثل هذه المظاهر الموضوعية من قانون ، اخلاق ، معارف ... فالثقافة اذن فاعلية ذهنية وقدرة عقلية مصقولة بالتطلع المعرفي والتهذيب الاخلاقي ، الذي يشحذ كل طاقات الانسان ويوجهها نحو تحقيق قيم عليا . في مجتمع متميز بخصائص أصيلة نابعة من ابداعات ابنائه من جهة ، ومتفتح على ابداعات المجتمعات الاخرى مـن جهة ثانية . فالثقافة اذن بمعناها الحقيقي هي كل ما انتجه الانسان وابدعه من انماط سلوكية ونظم فكرية ، تتنتقل من جيل الى جيل بالتربية .
وهكذا يتضح ان تعريف الثقافة بأنها سعة الاطلاع ، وما ينشأ لديها عنها لدى الشخص من مهارات وفطنة في بعض الجوانب ، لا يعتبر مفهوما صحيحاً للثقافة ومعبراً عن حقيقتها . ومع هذا الاختلاف في تحديد مدلولها ، الا ان الثقافة تبقى تلعب دورا اساسيا في بناء الانسان والمجتمعات .
الموضوع الثاني:« اذا كانت الطبيعة ما وجده الانسان ، فإن الثقافة هي ما أوجده » ما رأيك ؟
الطريقة : مقارنة .
إن المقابلة بين الطبيعة من حيث هي استعدادات فطرية وجدها الانسان ، وبين الثقافة من حيث هي معطيات مكتسبة أوجدها ، تدفع الى الاعتقاد بأنهما منفصلان تماما ؛ فماهي حقيقة العلاقة بين ماهو طبيعي فطري وماهو ثقافي مكتسب ؟
1 إن الطبيعة والثقافة تمثل كليهما البيئة التي يستقر فيها الإنسان ، و المحيط الذي ينتمي إليه ، فلا يمكن إطلاقا تصور إنسان الا في وسط طبيعي وآخر ثقافي ، أما وجوده خارجهما فليس الا مسألة نظرية وليدة الخيال .
ومن جهة أخرى ، تمد الثقافة والطبيعة كلاهما الانسان بوسائل التكيف والقدرة على التلاؤم ؛ فالمنجزات الثقافية هي أدوات لإكمال ماهـو ناقص أو مقاومة ما يهدد بقاء الانسان ، والطبيعة تزوّد الانسان بوسائل تكيف نشوئية طبيعية كالقدرة العقلية وخاصتي التلذذ و التألم لإختبار المنافع و المضار . فالانسان إذن مدين للطبيعة بـوجوده ، وللثقافة والهيئة الاجتماعية ببقائه .
هذا ، وتؤثر كل من الطبيعة والثقافة على شخصية الانسان ، فالملاحظة البسيطة تكشف عن تنوع سلوكات الافراد وملامحهم الفيزيولوجية بل وقدراتهم العقلية ، وذلك لتباين الوسط الطبيعي الذي يحيط بهم واختلاف الثقافة التي ينتمون اليها . ومن جهة ثانية ، فالانسان يولد اصلا حاملا لاستعدادات فطرية ، لتتحكم الطبيعة الخارجية في تحديد ملامحه بعد ذلك ، فالمناخ والموقع الجغرافي والغذاء امور تتحكم في لونه وشكله وابعاد جسمه ، فتقوم الثقافة – بمختلف مظاهرها – بالتحكم في تلك الجوانب فتطبعها بطابع خاص .
2- ولكن اذا كانت الثقافة بالمفهوم العلمي تشمل كل ما اكتسبه الانسان من البيئة الاجتماعية ، فإنها بذلك مخالفة تمام الاختلاف لما هو طبيعي ، سواء تعلق الامر بالطبيعة الخارجية التي لم تمتد يد الانسان إليها ، أو الطبيعة الانسانية التي تمثل ما يحمله الوليد البشري معه منذ الولادة . وعليه فالطبيعة تمثل كل ما يتقبله الانسان ويخضع له دون اختيار منه ، فلا مجال لإرادته في تغيير طبعه او تعديل آليات الهضم او الابصار ، بينما مظاهر الثقافة تمثل مجال الابداع والتطوير والتغير ، فما من ثقافة تظل جامدة ساكنة ، وما من مجتمع الا ويتطلع افراده الى ابداع اساليب جديدة تسمح باشباع حاجياتهم وتحقيق التكيف مع المواقف الجديدة .
ليس ذلك فحسب ، بل ان ماهو طبيعي عام وشامل ، وذلك واضح في تتابع ظواهر الطبيعة في شكل علل ومعلولات ، وترابطها ترابطا سببيا تؤدي فيه نفس العلة الى نفس النتيجة دائما ، والامر ذاته في الطبيعة البشرية ، فمهما تمايز الافراد واختلفوا فهناك وحدة تختفي وراء هذا الاختلاف الظاهر ، لأن الحاجة الى الاكل والنوم والهواء وآليات الهضم والتنفس .. واحدة . وفي المقابل ، تتصف الثقافة بالتنوع في الزمان والمكان ، فاذا كان الانسان اينما وجد يطلب الاكل والنوم ، فان الوسائل الثقافية المتبعة في تلبية تلك الحاجات تختلف مـن مجتمع لأخر ، بل وتتباين داخل المجتمع الواحد من جيل الى جيل ، ومثل ذلك يقال على اللباس والمسكن واللغة والعادات وغيرها من مظاهر الثقافة المتعددة .
3- ورغم ذلك ، الا ان الوسط الطبيعي يتحكم في التنوع الثقافي ذاته ، فاذا كان شكل البناء ومادته ونوع اللباس والغذاء عند الاسكيمو يختلف عما هو عليه الحـال في المناطق الاستوائية ، فان المناخ والموقع الجغرافي – كعـوامل طبيعية – هي التي تفرض ذلك الاختلاف . وهو امر يتعدى مظاهر الثقافة المادية الى المعنوية منها ، فحتى القوانين والتشريعات تعكس – في كل ثقافة – تحكم العامل الطبيعي ، كالاختلاف بين المجتمعات في تحديد سن البلوغ لتحكم المناخ ودرجة الحرارة في نضج الفرد .
وبالاضافة الى ذلك ، فالطبيعة تمثل الارضية التي تقوم عليها الحياة الثقافية والمادة الخام لإبداع مظاهرها ، فلولا القدرات العقلية – وهي في الاصل استعدادات طبيعية – التي يمتاز بها الانسان عن غيره لما كانت له ثقافة ، ولإجل ذلك لا يصنع ضعاف العقول ثقافة . كما لا يمكن ان ننكر ان بعض المهارات الثقافية كالرقص والتزحلق والرياضة ليست الا تنظيما لحركات المشي الطبيعية ، ولو انعدمت هذه زالت تلك .
هذا ، والاستعدادات الطبيعية لا تنمو ولا تتطور الا حينما يعيش الفرد في وسط مجتمع ويتفاعل مع ثقافته ، فما يحمله الفرد من ذكاء وقدرات وطباع يبقى مجرد بذرة لا تؤدي الى ابداع ولا تكوّن شخصية حقيقية بمعزل عن الهيئة الاجتماعية ، وهو امر يجد تأكيدا له في حالة الفتاة " كمالا " التي اكتشفت عام 1920 بغابات الهند ، ولم يكن في احوالها ما يدل على مظاهر السلوك البشري ، لأنها في عزلتها عن المجتمع فقدت كل ماهو ثقافي من مشي على قدمين ولغة وتفكير وسلوك مهّذب .
وهكذا يتضح ان الاختلاف بين ماهو ثقافي وماهو طبيعي لا يبرر اطلاقا القول بانفصالهما التام ، إذ الواقع ان في الانسان يتشابك ماهو فطري بما هو مكتسب ، الى درجة يتعذر معها وضع خط فاصل بينهما ، وعليه يجوز القول ان العلاقة بين الطبيعة والثقافة هي علاقة تداخل ، حيث لاوجود لطبيعة خالصة ، وكذلك لا وجود لثقافة غير متداخلة مع الطبيعة .
الموضوع الثالث:الى أي مدى يتحكم الطبع في تحديد خصائص الشخصية ؟ استقصاء
* تعتبر الشخصية من المواضيع النفسية التي إهتم بدراستها علماء النفس والفلاسفة قديما وحديثاً ، فتناولوا بالبحث الكثير من جوانبها ، بدءاً من تحديد مفهومها وبيان عوامل تكوينها ومقوماتها الاساسية ، فأعتُبر الطبع واحداً من أبرز هذه المقومات تأثيرا في بنائها ؛ فكيف تؤثر الخصائص الطبعية في رسم معالم الشخصية ؟ وماهي حدود هذا التأثير ؟
1- من عوامل تكوين الشخصية العامل الفطري ، والذي يمثل الطبع أهم جانب فيه . والطبع هو مجموع الاستعدادات الفطرية التي تكوّن الهيكل الذهني لفرد ما ، فهو تلك الصفات الثابتة والموروثة . ويتميز هذا الطبع بكونه ثابت لا يمكن تغييره او ازالته ، وهو يخرج عن نطاق كل ماهو مكتسب ، مما يعني ان الطبع لا يمثل الفرد كله ، بل هو حصيلة صفات وراثية تولد معه ، وهو دائم حيث أن للفرد الطبع ذاته من الميلاد الى الوفاة ، لكن يمكن تهذيبه عن طريق التربية .
وبالتالي فعلاقة الطبع بالشخصية هي علاقة سببية عضوية ، فالطبع سبب والشخصية نتيجة له ، مما يوضح مدى تأثيره في بناء خصائص الشخصية .
2- ويبرز أثر الطبع في رسـم ملامح الشخصية في تأثيره في الحياة الانفعالية للفرد ، من حيث قوة الانفعالات اوضعفها ، ثباتها او تذبذبها ، تناسبها او عدم تناسبها مع مثيراتها ، ودرجة تأثر الفرد بالمواقف التي تثير الانفعال : هل هو تأثر سطحي أم عميق ؟ فيقال بسبب ذلك فلان حاد المزاج سريع الاثارة ، او بليد بطيئ الاستثارة ..
كما يؤثر الطبع في الحياة الفعالية للفرد ، ويتجلى ذلك في تأثير الغدد بكل انواعها على السلوك والوظائف التكيفية ، فتبدو الغدة الدرقية أهم هذه الغدد إذ يتوقف تكامل الشخصية – الى حد كبير – على حسن أداء هذه الغدة لوظيفتها ؛ حيث يترتب على نقصان إفرازها الكسل والخمول وكثرة النسيان وضعف القدرة على التركيز ، كما يفقد الفرد القدرة على الحسم في المشكلات التي تواجهه ، كما لها تأثير على السلوك فيصبح الشخص شديد الحساسية ( مثل الحساسية للبرد على مستوى اليدين والقدمين ) ، وإذا نقص افرازها الى حداً أكبر فقد يؤدي ذلك الى التبلد والغباء ، اما اذا زاد إفرازها فان ذلك قد يؤدي الى الجنون . وهناك غدد أخرى تفرز هرمونات مختلفة ، لكل منها تأثير على أحد جوانب الشخصية أو السلوك بشكل عام مثل الغدة النخامية والصنوبرية والتناسلية .
هذا ، ويؤثر الطبع في ردود افعال الفرد ، فقد يكـون للفرد رد فعل سريع ولا يملك القدرة على تأجيله ( ترجيع قريب او اولي ) ، او العكس ، قد يكون رد فعل بطئ ويستطيع تأجيله ( ترجيع بعيد او ثانوي ) .
وأخيرا يوثر الطبع في ثبات الهوية الفردية ، فيشعر الفرد بأنه هو هو ، رغم ما يحلق الجانب النفسي والجسمي والاجتماعي من تغير وتبدل طيلة مراحل الحياة . كما ان تصنيف الشخصية الى نمـاذج مختلفة منذ القديم إرتكز على هذه الصفات الثابتة .
3- ومن خلال ذلك ، يظهر ان للطبع دور بارز في تحيد معالم الشخصية باعتباره معطى فطري وراثي ، فالفرد لا يستطيع ان يكوّن شخصيته الا في حدود هذه الصفات الثابتة ، ولعل ذلك ما جعل " لوسيين " يشبه الطبع بالالة الراقنة والشخصية بالرسالة المكتوبة ، ولن تستطيع ان تكتب نصاً عربياً اذا كانت حروف الالة الراقنة لاتينية .
الا ان ذلك لا يعني ان تأثيره مطلق او ان الشخصية هي الطبع فقط ، بحيث لا يمكن تجاهل أثر البيئة الطبيعية والاجتماعية في تكوين شخصية الفرد ، فلقد ثبت – بما لا مجال فيه للشك – ان الانسان إبن بيئته ، وذلك واضح في تأثير البيئة الطبيعة في بناء شخصية الافراد في جوانب كثيرة ، ثم تتدخل البيئة الاجتماعية فتطبع تلك الجوانب بطابع خاص .
* وهكذا يتضح ، أن تأثير الطبع في الشخصية أمر طبيعي لا يمكن إنكاره ، الا انه تأثيره نسبي يختلف من فرد الى آخر ، ولا يمكنه ان يشكل الشخصية بكاملها بمعزل عن البيئة الطبيعية والاجتماعية ، ورغم ان تأثيره نسبي الا ان ذلك لا ينفي كون الطبع مقوما اساسيا من مقومات الشخصية .
الموضوع الرابع:هل لمناهج البحث عند مفكري الاسلام قيمة عليمة ؟ استقصاء
* لقد اصطدم منطق " أرسطو " القائم على عقلانيته والمعبر عن تصوره الميتافيزيقي ، بوضع فكري جديد في الحضارة الاسلامية ، فالوضع المعرفي مختلف ، وظهرت علوم جديدة لم يُسبق اليها المسلمون كالحديث والفقه. وقد تبين لمفكري الاسلام أن منطق " ارسطو " لا يصلح لأبحاثهم لمخالفته روح الاسلام لغة وعقيدة ، فسطروا لأنفسهم مناهج إتبعوها في مباحثهم ، والتساؤل هنا : ماهي القيمة المعرفية لمناهج البحث عند مفكري الاسلام ؟
1- إن مناهج البحث عند مفكري الاسلام تختلف اختلافا بيّناً عن منطق " ارسطو " ، فإذا كان هذا الاخير يعتمد على الاستنتاج الصوري ، الذي ينتقل فيه الفكر من مقدمات كلية الى نتائج جزئية دون مراعاة تطابقها مع الواقع ، و دون الكشف عن معارف جديدة ، فإن منهج علماء الحديث يَعْمَدٌ الى استقراء حال الرواة وتطبيق الجرح والتعديل ، للنظر في مدى تحقق شروط الرواية فيهم ، واللجوء الى المقارنة بين الاحاديث من حيث السند .
وهو المنهج ذاته – تقريبا – الذي اعتمده مؤرخو الاسلام ، حيث الاعتماد على جمع الاخبار ومقارنتها ، والاستناد الى مآخذ متعددة وعلوم مساعدة ، بغية التحقق من صدق الخبر التاريخي أو كذبه ، والنظر الى مطابقته للواقعة الاجتماعية من عدمها .
اما علماء الاصول فعمدوا الى وضع علم اصول الفقه ، من حيث هو مجموع القواعد الكلية التي يتم بواسطتها استنباط الاحكام الشرعية من الكتاب والسنة ، وعلى هديها تلحق الفروع بالاصول والجزئيات بالكليات المنصوص عليها في الأدلة التفصيلية .
بينما في علوم الطبيعة ، فلقد تحقق علماء الاسلام ان الاسلوب النظري لا يؤدي الى نتيجة او تقدم في فهم الظواهر الطبيعية ، فكان شعارهم في بحوثهم المنج التجريبي ، وهو منهج قائم على ملاحظة الظاهرة في الطبيعة ، ثم استنتاج فرضيات للتفسير ، ثم امتحان تلك الفرضيات عن طريق التجريب .
2- وبالفعل ، تلك هي مناهج البحث عند مفكري الاسلام التي لم يدعُ اليها فحسب ، وانما طبقوها في ابحاثهم المختلفة ، ويتجلى ذلك بوضوح في صحيحي " بخاري " و " مسلم " وما وضعاه من شروط لقبول الحديث ، ومثلما يظهر في دعوة " الشافعي " الى استنباط الاحكام الشرعية وفق قواعد اصول الفقه ، والا فــ« من ترك تلك القواعد الى منطق " ارسطو " لم يدرك غرض الفقه » ، وذلك لأن القياس الارسطي يعطي الاولوية للعقل الذي لا يجوز تحكيمه في الامور الشرعية ، بل هو تابع للشرع ، فيلحق الجزئيات بالكليات على سبيل الاستقراء . والامر ذاته لمنهج البحث في التاريخ ، الذي تتضمن فصوله مقدمة " ابن خلدون " . اما عند التجريبين فنجد إلحاحاً في الدعوة الى تطبيق المنهج التجريبي ، سواء من طرف " جابر بن حيان " في الكيمياء الذي يرى انه « من كان دربا – أي مجربا – كان عالما حقا » ، أو " الرازي " و " ابن سينا " في الطب ، أو " ابن الهيثم " في البصريات . ولم يكن الامر مجرد دعوة نظرية ؛ فلقد اجرى بن حيان الكثير من العمليات الكميائية المخبرية كالتكليس والتقطير والترشيح .. وحضّر عددا من المواد الكيميائية لازلت – الى اليوم – تحتفظ باسمها العربي في معظم اللغات الاوربية .
3- وهكذا ، فإن لمناهج البحث التي ابدعها مفكرو الاسلام قيمة كبرى ، فبواسطة المحدثين تـمّ حفظ الحديث وتنقيته مما لحقه من تزييف وتحريف ، وتحقق بذلك صيانة المصدر الثاني من مصادر التشريع في الاسلام . وهي الغاية ذاتها اتي حققها علم اصول الفقه ، الذي يحاول علماء اوربا مماثلته تحت اسم " اصول القوانين " . اما منهج المؤرخين فهو ذته المنهج الاستردادي عند علماء اوربا ، وبواسطته اثبت " ابن خلدون " امكانية دراسة احدى ابعاد الظاهرة الانسانية – وهي الظاهرة التاريخية – دراة علمية . وبواسطة منهج علماء الطبيعة انتقلت العلوم من مجرد اراء ساذجة الى علوم متقدمة ، الامر الذي جعل " روس بول " يقول : « إن ابن الهيثم اقام البرهان على نظريات في علم الفيزياء .. مما ادى الى تقدم هذا العلم واصبح على ماهو عليه الآن » ، ويقول بول كراوس : « إن جابر بن حيان نظّم الكمياء وبناها على اسس علمية دقيقة . »
* وهكذا يتضح ، أن لمناهج البحث عند مفكري الاسلام قيمة علمية كبرى ، فمن جهة تجاوزا فيها منطق ارسطو الصوري ، ومن جهة ثانية سبقوا بها علماء المنهج التجريبي المحدثين في اوربا امثال " ف . بيكون " و " د . هيوم " و " ج . س. مل " . يقول " فلورين كاجوري " : « كان علماء العرب المسلمين هم اول من دافع عن المنهج التجريبي .. وهم اول من ادرك فائدته واهميته بالنسبة للعلوم الطبيعية » . ويقول المستشرق الالماني " آلبرت ديتريش " : « كان المسلمون سباقين الى التجربة ، إذ وضعوا اسسها ، ثم تلقتها اوربا عنهم وبلغت بها الى المقام التي هي عليه الآن . »
الموضوع الخامس:هل يمكن تفسير الظواهر الحية تفسيرا غائيا ؟ الطريقة : جدلية
طرح المشكلة : إن موضوع البيولوجيا هو الظواهر الحية ، التي تقوم بمجموعة من الوظائف تؤديها مجموعة من الاعضاء . وماهو ملاحظ ذلك التوافق الموجود بين تركيب العضو والوظيفة التي يقوم بها ، وهو ما جعل البعض يعتقد ان وظيفة العضو الحي هي الغاية التي جاء من أجلها ، مما يفترض الاخذ بالتفسير الغائي في البيولوجيا ، لكن هل التفسير الغائي كافٍ لفهم الظواهر الحية ؟ وهل هو تفسير مشروع من وجهة نظر الروح العلمية ؟
محاولة حل المشكلة :
1-أ- الاطروحة : يرى البعض ، انه لا يمكن فهم وتفسير الظواهر البيولوجية وتركيب الاعضاء الحية الا بمعرفة الغايات التي جاءت من أجلها ، حيث ان كل عضو وكل جهاز انما جاء من أجل غاية معينة هي الوظيفة التي يؤديها . مما يعني التسليم بأن الوظيفة اسبق من العضو ؛ فالعين خلقت للابصار والاذن للسمع ، والجهاز التنفسي خلق من اجل مد الجسم بطاقة الاحتراق ، والجهاز الهضمي من اجل تحويل المادة الغذائية الى احماض امينية .. وكل ذلك من اجل غاية اعظم هي المحافظة على توازن الجسم الحي .
1-ب- الحجة : وما يثبت ذلك ، ما تبدو عليه الاعضاء من تركيب محكم ينجسم مع الوظائف التي تقوم بها ، واذا اختل العضو تعطلت الوظيفة ولا يمكن لعضو آخر أن يقوم بها ، كما يتجلى في اختصاص بعض الاعضاء ببعض الوظائف وعمل هذه الاعضاء ، بحيث يتحقق من عملها انتظام داخلي في العضوية كلها .
1-جـ- النقد : لكن التفسير بالغايات هو في حقيقة جواب عن السؤال (( لماذ ؟)) وهو سؤال فلسفي ، مما يعني ان التفسير الغائي يقحم اعتبارات فلسفية ميتافيزيقية لا علاقة للعلم بها ، وهذا يتناقض مع الروح العلمية التي تتطلب التفسير الوضعي الذي يفسر الظاهرة بظاهرة اخرى معلومة ، ويتناقض ثانيا مع هدف العلم الذي ينطلق من المعلوم لكشف المجهول وليس العكس .
2-أ- نقيض الاطروحة : وبخلاف ذلك ، يرى انصار الالية ان التفسير الغائي ليس مشروعا من الناحية العلمية ، حيث لا يمكن فهم الظواهر الحية الا اذا فسرناه بما هو معلوم ، أي بردها الى قوانين الفيزياء والكمياء ، واعتبار الظاهرة الحية ظاهرة جامدة تعمل بصورة آلية وتخضع لمبدا الحتمية .
وهذا يعني ان العضو اسبق من الوظيفة ، فالطائر يطير لأن له جناحان والانسان يبصر لأن له عينان .. وان التوافق بين العضو والوظيفة تــمّ " صدفة " ، فالعضو مر بمراحل من التطور ولم صادف الوظيفة التي يقوم بها توقف عن التطور .
2-ب- الحجة : وما يؤكد ذلك ، أنه من الناحية الكميائية أن المادة الحية تعتمد على نفس العناصر التي تتكون منها المادة الجامدة ، فالاكسجين يدخل في تركيب الجسم بنسبة 70% والكربون بنسبة 18% والهيدروجين بنسبة 10% وكذا الازوت والكالسيوم والفسفور بنسب متفاوتة .. ومادام الامر كذلك يمكن تفسيرها بنفس القوانين التي نفسر بها المادة الجامدة .
ثم ان عمليتي التنفس والهضم ليسا الا تفاعلين كيميائيين لا يختفلفان عن التفاعلات الكيميائية التي تحدث داخل المختبر.
ومن الناحية الفيزيائية ، يمكن تطبيق قوانين الفيزياء على الظواهر الحية ، من ذلك مثلا قوانين الميكانيك بالنسبة الى القلب ، فهذا الاخير لا يختلف في عمله اثناء الدورة الدموية الصغرى والكبرى عن محرك السيارة .
كما ينطبق مبدا الحتمية على الظواهر الحية بنفس الصورة الصارمة التي ينطبق بها على المادة الجامدة ، من ذلك مثلا انتظام الحرارة في الجسم الذي يتم آليا مهما اختلفت الظروف المناخية ، فعندما تنخفض الحرارة في المحيط الخارجي يفرز الجسم شحنة من مادة الادرينالين في الدم فتنشط عملية التأكسد وترتفع حرارة العضوية ، ويحدث العكس بصفة آلية عندما ترتفع حرارة المحيط الخارجي . كما نجد الارتباط الآلي بين مختلف الوظائف ، ففي الهضم مثلا نجد سلسلة من الوظائف تبدا بوظيفة الاسنان ثم وظيفة اللعاب ثم وظيفة الانريمات او خمائر الهضم الى ان تتحول المادة الغذائية الى سائل .
2-جـ- النقد : في الحقيقة ليس صحيحا ان المادة الحية مماثلة للمادة الجامدة من حيث التركيب كما يزعم الآليون ، فمن بين 92 عنصرا تتكون منها المادة الحية تختلف عن المادة الجامدة في 14 عنصرا ، ولو كانتا متماثلتان لأمكن تطبيق المنهج التجريبي على الظواهر الحية بنفس السهولة التي تم تطبيقه على المادة الجامدة ، لكن ذلك تصادفته صعوبات وعوائق تكشف عن الطبيعة المعقدة للمادة الحية .
كما نجد في موقف الاليين تناقضا ، ففي الوقت الذي يدعون فيه الى استبعاد التفسير الغائي باعتباره يتناقض مع روح العلم ، نجدهم يفسرون التوافق بين تركيب العضو ووظيفته بـ " الصدفة " ، والتفسير بالصدفة لا يقبله العلم ويرفضه العقل ، لأن الصدفة – كما قال بوانكاري – مقياس جهلنا .
3- التركيب : ان التفسير الغائي تفرضه طبيعة الكائن الحي ، ذلك لأن الظواهر الحية يسود اجزائها نوع من التكامل يظهر في صورة فكرة موجهة او غاية محددة ، وهي في ذات الوقت يمكن ان تنطبق عليها قوانين الفيزياء والكمياء على غرار المادة الجامدة ، لذلك فالتفسير الغائي والالي كيهما ضروريان لفهم النشاط الحيوي .
حل المشكلة : وهكذا يتضح ، أن التفسير الغائي مشروعا متى بقي الباحث في اطار الظواهر الملاحَظَة ، ولم يتجاوز الى طلب اسبابها الميتافيزيقية .
عن حقيقة الثقافة ؟ باكالوريا 1998
الطريقة : ضبط التعريفات .
* ان الثقافة من الكلمات المتداولة والمستعملة بكثرة بين افراد النوع الانساني ، إنطلاقا من إعتباره كائنا مثقفاً . ولكن رغم هذا الشيوع ، فإن الناس يستعملونها بمفاهيم متعددة ومعانٍ مختلفة ، وهذا التعدد والالتباس يحتمل الغموض والابهام ؛ فماهو المفهوم الصحيح للثقافة والمعبرة عن حقيقيتها ؟
1- لإدراك مفهوم الثقافة ينبغي الاشارة – اولا – الى المفهوم العامي المتداول بين الناس ، إذ يعتقد الانسان العادي ان الثقافة تعني كثرة المعارف وشموليتها وتنوعها ، فالمثقف هو ذلك الفرد الواسع الاطلاع ، المتنوع المعارف ، القادر على الادلاء برأيه في مواضيع متعددة ، والذي يستطيع تجاوز مختلف المشكلات التي تـواجهه .. وعليه فالثقافة – بهـذا المعنى – تعني سعة الاطلاع .
ولكن الذي يتأمل هذا المفهوم ، يدرك بأنه مفهوم ذاتي يختلف بإختلاف ثقافة كل واحد من الناس ، وبالتالي يتحدد مفهوم الثقافة وفقا لثقافة كل فرد ، فيعتبر الفرد الواحد مثقفا عند هذا ، وغير مثقفٍ عند ذاك ، ومن ثـمّ تتعدد المفاهيم . وعليه فالمفهوم العامي الشائع للثقافة ناتج عن تصورات ذاتية ولا يعبر عن حقيقتها . مما يجدر بنا البحث عن مفهوم الثقافة الصحيح بغض النظر عن اختلاف تصورات الناس .
2- ومعلوم ان للثقافة مظاهر متعددة يتفق الناس على ادراكها ، ومن ثـمّ يمكن تصورها تصورا موضوعيا بعد الوقوف عليها ، فيمكن استخلاص مفهوم الثقافة من خلال السلوك الجماعي الذي يصدر عن افراد المجتمع الواحد ، من حيث انهم يتلقون من المجتمع نفس النماذج والانماط السلوكية والفكرية والمعرفية والعقائدية والعادات ... التي تتوارثها الاجيال ، ولعلّ هذا ما جعل عالم الاجتماع الانثروبولوجي الانجليزي "" إدوراد تايلور 1832 – 1917 " يقدم تعريفا علميا للثقافة فيقول : « الثقافة هي ذلك الكل المركب الذي يشمل المعرفة والمعتقدات والفنون والقانون والاخلاق والعادات ، وكل المقدسات والقدرات الاخرى التي يكتسبها الفرد من المجتمع بوصفه عضوا فيه » . وهذا يعني ان الثقافة منتوج اجتماعي بالدرجة الاولى ، فيطبع الافراد بطابع خاص . كما يمكن القول ان هذا التصور للثقافة يتمحور فيما ابدعه الانسان واضافه .
ومما لا شكّ فيه ، ان المفهوم العلمي أكثر دقة من المفهوم العامي الساذج المتداول بين عامة الناس ، ولكن ذلك لا يجعلنا نعتقد انه هو المفهوم الصحيح الذي يعبر عن حقيقة الثقافة ، لأنه مفهوم لا يعرف جوهر الثقافة كنشاط وفاعلية ، وانما يكتفي فقط بوصف مظاهرها الخارجية الموضوعية .
3- وهذا ما يجعلنا نبحث عن المفهوم الفلسفي للثقافة ، والذي لا يتمثل في مظاهرها من منجزات ، بقدر ماهي قدرة متجددة على انجاز مثل هذه المظاهر الموضوعية من قانون ، اخلاق ، معارف ... فالثقافة اذن فاعلية ذهنية وقدرة عقلية مصقولة بالتطلع المعرفي والتهذيب الاخلاقي ، الذي يشحذ كل طاقات الانسان ويوجهها نحو تحقيق قيم عليا . في مجتمع متميز بخصائص أصيلة نابعة من ابداعات ابنائه من جهة ، ومتفتح على ابداعات المجتمعات الاخرى مـن جهة ثانية . فالثقافة اذن بمعناها الحقيقي هي كل ما انتجه الانسان وابدعه من انماط سلوكية ونظم فكرية ، تتنتقل من جيل الى جيل بالتربية .
وهكذا يتضح ان تعريف الثقافة بأنها سعة الاطلاع ، وما ينشأ لديها عنها لدى الشخص من مهارات وفطنة في بعض الجوانب ، لا يعتبر مفهوما صحيحاً للثقافة ومعبراً عن حقيقتها . ومع هذا الاختلاف في تحديد مدلولها ، الا ان الثقافة تبقى تلعب دورا اساسيا في بناء الانسان والمجتمعات .
الموضوع الثاني:« اذا كانت الطبيعة ما وجده الانسان ، فإن الثقافة هي ما أوجده » ما رأيك ؟
الطريقة : مقارنة .
إن المقابلة بين الطبيعة من حيث هي استعدادات فطرية وجدها الانسان ، وبين الثقافة من حيث هي معطيات مكتسبة أوجدها ، تدفع الى الاعتقاد بأنهما منفصلان تماما ؛ فماهي حقيقة العلاقة بين ماهو طبيعي فطري وماهو ثقافي مكتسب ؟
1 إن الطبيعة والثقافة تمثل كليهما البيئة التي يستقر فيها الإنسان ، و المحيط الذي ينتمي إليه ، فلا يمكن إطلاقا تصور إنسان الا في وسط طبيعي وآخر ثقافي ، أما وجوده خارجهما فليس الا مسألة نظرية وليدة الخيال .
ومن جهة أخرى ، تمد الثقافة والطبيعة كلاهما الانسان بوسائل التكيف والقدرة على التلاؤم ؛ فالمنجزات الثقافية هي أدوات لإكمال ماهـو ناقص أو مقاومة ما يهدد بقاء الانسان ، والطبيعة تزوّد الانسان بوسائل تكيف نشوئية طبيعية كالقدرة العقلية وخاصتي التلذذ و التألم لإختبار المنافع و المضار . فالانسان إذن مدين للطبيعة بـوجوده ، وللثقافة والهيئة الاجتماعية ببقائه .
هذا ، وتؤثر كل من الطبيعة والثقافة على شخصية الانسان ، فالملاحظة البسيطة تكشف عن تنوع سلوكات الافراد وملامحهم الفيزيولوجية بل وقدراتهم العقلية ، وذلك لتباين الوسط الطبيعي الذي يحيط بهم واختلاف الثقافة التي ينتمون اليها . ومن جهة ثانية ، فالانسان يولد اصلا حاملا لاستعدادات فطرية ، لتتحكم الطبيعة الخارجية في تحديد ملامحه بعد ذلك ، فالمناخ والموقع الجغرافي والغذاء امور تتحكم في لونه وشكله وابعاد جسمه ، فتقوم الثقافة – بمختلف مظاهرها – بالتحكم في تلك الجوانب فتطبعها بطابع خاص .
2- ولكن اذا كانت الثقافة بالمفهوم العلمي تشمل كل ما اكتسبه الانسان من البيئة الاجتماعية ، فإنها بذلك مخالفة تمام الاختلاف لما هو طبيعي ، سواء تعلق الامر بالطبيعة الخارجية التي لم تمتد يد الانسان إليها ، أو الطبيعة الانسانية التي تمثل ما يحمله الوليد البشري معه منذ الولادة . وعليه فالطبيعة تمثل كل ما يتقبله الانسان ويخضع له دون اختيار منه ، فلا مجال لإرادته في تغيير طبعه او تعديل آليات الهضم او الابصار ، بينما مظاهر الثقافة تمثل مجال الابداع والتطوير والتغير ، فما من ثقافة تظل جامدة ساكنة ، وما من مجتمع الا ويتطلع افراده الى ابداع اساليب جديدة تسمح باشباع حاجياتهم وتحقيق التكيف مع المواقف الجديدة .
ليس ذلك فحسب ، بل ان ماهو طبيعي عام وشامل ، وذلك واضح في تتابع ظواهر الطبيعة في شكل علل ومعلولات ، وترابطها ترابطا سببيا تؤدي فيه نفس العلة الى نفس النتيجة دائما ، والامر ذاته في الطبيعة البشرية ، فمهما تمايز الافراد واختلفوا فهناك وحدة تختفي وراء هذا الاختلاف الظاهر ، لأن الحاجة الى الاكل والنوم والهواء وآليات الهضم والتنفس .. واحدة . وفي المقابل ، تتصف الثقافة بالتنوع في الزمان والمكان ، فاذا كان الانسان اينما وجد يطلب الاكل والنوم ، فان الوسائل الثقافية المتبعة في تلبية تلك الحاجات تختلف مـن مجتمع لأخر ، بل وتتباين داخل المجتمع الواحد من جيل الى جيل ، ومثل ذلك يقال على اللباس والمسكن واللغة والعادات وغيرها من مظاهر الثقافة المتعددة .
3- ورغم ذلك ، الا ان الوسط الطبيعي يتحكم في التنوع الثقافي ذاته ، فاذا كان شكل البناء ومادته ونوع اللباس والغذاء عند الاسكيمو يختلف عما هو عليه الحـال في المناطق الاستوائية ، فان المناخ والموقع الجغرافي – كعـوامل طبيعية – هي التي تفرض ذلك الاختلاف . وهو امر يتعدى مظاهر الثقافة المادية الى المعنوية منها ، فحتى القوانين والتشريعات تعكس – في كل ثقافة – تحكم العامل الطبيعي ، كالاختلاف بين المجتمعات في تحديد سن البلوغ لتحكم المناخ ودرجة الحرارة في نضج الفرد .
وبالاضافة الى ذلك ، فالطبيعة تمثل الارضية التي تقوم عليها الحياة الثقافية والمادة الخام لإبداع مظاهرها ، فلولا القدرات العقلية – وهي في الاصل استعدادات طبيعية – التي يمتاز بها الانسان عن غيره لما كانت له ثقافة ، ولإجل ذلك لا يصنع ضعاف العقول ثقافة . كما لا يمكن ان ننكر ان بعض المهارات الثقافية كالرقص والتزحلق والرياضة ليست الا تنظيما لحركات المشي الطبيعية ، ولو انعدمت هذه زالت تلك .
هذا ، والاستعدادات الطبيعية لا تنمو ولا تتطور الا حينما يعيش الفرد في وسط مجتمع ويتفاعل مع ثقافته ، فما يحمله الفرد من ذكاء وقدرات وطباع يبقى مجرد بذرة لا تؤدي الى ابداع ولا تكوّن شخصية حقيقية بمعزل عن الهيئة الاجتماعية ، وهو امر يجد تأكيدا له في حالة الفتاة " كمالا " التي اكتشفت عام 1920 بغابات الهند ، ولم يكن في احوالها ما يدل على مظاهر السلوك البشري ، لأنها في عزلتها عن المجتمع فقدت كل ماهو ثقافي من مشي على قدمين ولغة وتفكير وسلوك مهّذب .
وهكذا يتضح ان الاختلاف بين ماهو ثقافي وماهو طبيعي لا يبرر اطلاقا القول بانفصالهما التام ، إذ الواقع ان في الانسان يتشابك ماهو فطري بما هو مكتسب ، الى درجة يتعذر معها وضع خط فاصل بينهما ، وعليه يجوز القول ان العلاقة بين الطبيعة والثقافة هي علاقة تداخل ، حيث لاوجود لطبيعة خالصة ، وكذلك لا وجود لثقافة غير متداخلة مع الطبيعة .
الموضوع الثالث:الى أي مدى يتحكم الطبع في تحديد خصائص الشخصية ؟ استقصاء
* تعتبر الشخصية من المواضيع النفسية التي إهتم بدراستها علماء النفس والفلاسفة قديما وحديثاً ، فتناولوا بالبحث الكثير من جوانبها ، بدءاً من تحديد مفهومها وبيان عوامل تكوينها ومقوماتها الاساسية ، فأعتُبر الطبع واحداً من أبرز هذه المقومات تأثيرا في بنائها ؛ فكيف تؤثر الخصائص الطبعية في رسم معالم الشخصية ؟ وماهي حدود هذا التأثير ؟
1- من عوامل تكوين الشخصية العامل الفطري ، والذي يمثل الطبع أهم جانب فيه . والطبع هو مجموع الاستعدادات الفطرية التي تكوّن الهيكل الذهني لفرد ما ، فهو تلك الصفات الثابتة والموروثة . ويتميز هذا الطبع بكونه ثابت لا يمكن تغييره او ازالته ، وهو يخرج عن نطاق كل ماهو مكتسب ، مما يعني ان الطبع لا يمثل الفرد كله ، بل هو حصيلة صفات وراثية تولد معه ، وهو دائم حيث أن للفرد الطبع ذاته من الميلاد الى الوفاة ، لكن يمكن تهذيبه عن طريق التربية .
وبالتالي فعلاقة الطبع بالشخصية هي علاقة سببية عضوية ، فالطبع سبب والشخصية نتيجة له ، مما يوضح مدى تأثيره في بناء خصائص الشخصية .
2- ويبرز أثر الطبع في رسـم ملامح الشخصية في تأثيره في الحياة الانفعالية للفرد ، من حيث قوة الانفعالات اوضعفها ، ثباتها او تذبذبها ، تناسبها او عدم تناسبها مع مثيراتها ، ودرجة تأثر الفرد بالمواقف التي تثير الانفعال : هل هو تأثر سطحي أم عميق ؟ فيقال بسبب ذلك فلان حاد المزاج سريع الاثارة ، او بليد بطيئ الاستثارة ..
كما يؤثر الطبع في الحياة الفعالية للفرد ، ويتجلى ذلك في تأثير الغدد بكل انواعها على السلوك والوظائف التكيفية ، فتبدو الغدة الدرقية أهم هذه الغدد إذ يتوقف تكامل الشخصية – الى حد كبير – على حسن أداء هذه الغدة لوظيفتها ؛ حيث يترتب على نقصان إفرازها الكسل والخمول وكثرة النسيان وضعف القدرة على التركيز ، كما يفقد الفرد القدرة على الحسم في المشكلات التي تواجهه ، كما لها تأثير على السلوك فيصبح الشخص شديد الحساسية ( مثل الحساسية للبرد على مستوى اليدين والقدمين ) ، وإذا نقص افرازها الى حداً أكبر فقد يؤدي ذلك الى التبلد والغباء ، اما اذا زاد إفرازها فان ذلك قد يؤدي الى الجنون . وهناك غدد أخرى تفرز هرمونات مختلفة ، لكل منها تأثير على أحد جوانب الشخصية أو السلوك بشكل عام مثل الغدة النخامية والصنوبرية والتناسلية .
هذا ، ويؤثر الطبع في ردود افعال الفرد ، فقد يكـون للفرد رد فعل سريع ولا يملك القدرة على تأجيله ( ترجيع قريب او اولي ) ، او العكس ، قد يكون رد فعل بطئ ويستطيع تأجيله ( ترجيع بعيد او ثانوي ) .
وأخيرا يوثر الطبع في ثبات الهوية الفردية ، فيشعر الفرد بأنه هو هو ، رغم ما يحلق الجانب النفسي والجسمي والاجتماعي من تغير وتبدل طيلة مراحل الحياة . كما ان تصنيف الشخصية الى نمـاذج مختلفة منذ القديم إرتكز على هذه الصفات الثابتة .
3- ومن خلال ذلك ، يظهر ان للطبع دور بارز في تحيد معالم الشخصية باعتباره معطى فطري وراثي ، فالفرد لا يستطيع ان يكوّن شخصيته الا في حدود هذه الصفات الثابتة ، ولعل ذلك ما جعل " لوسيين " يشبه الطبع بالالة الراقنة والشخصية بالرسالة المكتوبة ، ولن تستطيع ان تكتب نصاً عربياً اذا كانت حروف الالة الراقنة لاتينية .
الا ان ذلك لا يعني ان تأثيره مطلق او ان الشخصية هي الطبع فقط ، بحيث لا يمكن تجاهل أثر البيئة الطبيعية والاجتماعية في تكوين شخصية الفرد ، فلقد ثبت – بما لا مجال فيه للشك – ان الانسان إبن بيئته ، وذلك واضح في تأثير البيئة الطبيعة في بناء شخصية الافراد في جوانب كثيرة ، ثم تتدخل البيئة الاجتماعية فتطبع تلك الجوانب بطابع خاص .
* وهكذا يتضح ، أن تأثير الطبع في الشخصية أمر طبيعي لا يمكن إنكاره ، الا انه تأثيره نسبي يختلف من فرد الى آخر ، ولا يمكنه ان يشكل الشخصية بكاملها بمعزل عن البيئة الطبيعية والاجتماعية ، ورغم ان تأثيره نسبي الا ان ذلك لا ينفي كون الطبع مقوما اساسيا من مقومات الشخصية .
الموضوع الرابع:هل لمناهج البحث عند مفكري الاسلام قيمة عليمة ؟ استقصاء
* لقد اصطدم منطق " أرسطو " القائم على عقلانيته والمعبر عن تصوره الميتافيزيقي ، بوضع فكري جديد في الحضارة الاسلامية ، فالوضع المعرفي مختلف ، وظهرت علوم جديدة لم يُسبق اليها المسلمون كالحديث والفقه. وقد تبين لمفكري الاسلام أن منطق " ارسطو " لا يصلح لأبحاثهم لمخالفته روح الاسلام لغة وعقيدة ، فسطروا لأنفسهم مناهج إتبعوها في مباحثهم ، والتساؤل هنا : ماهي القيمة المعرفية لمناهج البحث عند مفكري الاسلام ؟
1- إن مناهج البحث عند مفكري الاسلام تختلف اختلافا بيّناً عن منطق " ارسطو " ، فإذا كان هذا الاخير يعتمد على الاستنتاج الصوري ، الذي ينتقل فيه الفكر من مقدمات كلية الى نتائج جزئية دون مراعاة تطابقها مع الواقع ، و دون الكشف عن معارف جديدة ، فإن منهج علماء الحديث يَعْمَدٌ الى استقراء حال الرواة وتطبيق الجرح والتعديل ، للنظر في مدى تحقق شروط الرواية فيهم ، واللجوء الى المقارنة بين الاحاديث من حيث السند .
وهو المنهج ذاته – تقريبا – الذي اعتمده مؤرخو الاسلام ، حيث الاعتماد على جمع الاخبار ومقارنتها ، والاستناد الى مآخذ متعددة وعلوم مساعدة ، بغية التحقق من صدق الخبر التاريخي أو كذبه ، والنظر الى مطابقته للواقعة الاجتماعية من عدمها .
اما علماء الاصول فعمدوا الى وضع علم اصول الفقه ، من حيث هو مجموع القواعد الكلية التي يتم بواسطتها استنباط الاحكام الشرعية من الكتاب والسنة ، وعلى هديها تلحق الفروع بالاصول والجزئيات بالكليات المنصوص عليها في الأدلة التفصيلية .
بينما في علوم الطبيعة ، فلقد تحقق علماء الاسلام ان الاسلوب النظري لا يؤدي الى نتيجة او تقدم في فهم الظواهر الطبيعية ، فكان شعارهم في بحوثهم المنج التجريبي ، وهو منهج قائم على ملاحظة الظاهرة في الطبيعة ، ثم استنتاج فرضيات للتفسير ، ثم امتحان تلك الفرضيات عن طريق التجريب .
2- وبالفعل ، تلك هي مناهج البحث عند مفكري الاسلام التي لم يدعُ اليها فحسب ، وانما طبقوها في ابحاثهم المختلفة ، ويتجلى ذلك بوضوح في صحيحي " بخاري " و " مسلم " وما وضعاه من شروط لقبول الحديث ، ومثلما يظهر في دعوة " الشافعي " الى استنباط الاحكام الشرعية وفق قواعد اصول الفقه ، والا فــ« من ترك تلك القواعد الى منطق " ارسطو " لم يدرك غرض الفقه » ، وذلك لأن القياس الارسطي يعطي الاولوية للعقل الذي لا يجوز تحكيمه في الامور الشرعية ، بل هو تابع للشرع ، فيلحق الجزئيات بالكليات على سبيل الاستقراء . والامر ذاته لمنهج البحث في التاريخ ، الذي تتضمن فصوله مقدمة " ابن خلدون " . اما عند التجريبين فنجد إلحاحاً في الدعوة الى تطبيق المنهج التجريبي ، سواء من طرف " جابر بن حيان " في الكيمياء الذي يرى انه « من كان دربا – أي مجربا – كان عالما حقا » ، أو " الرازي " و " ابن سينا " في الطب ، أو " ابن الهيثم " في البصريات . ولم يكن الامر مجرد دعوة نظرية ؛ فلقد اجرى بن حيان الكثير من العمليات الكميائية المخبرية كالتكليس والتقطير والترشيح .. وحضّر عددا من المواد الكيميائية لازلت – الى اليوم – تحتفظ باسمها العربي في معظم اللغات الاوربية .
3- وهكذا ، فإن لمناهج البحث التي ابدعها مفكرو الاسلام قيمة كبرى ، فبواسطة المحدثين تـمّ حفظ الحديث وتنقيته مما لحقه من تزييف وتحريف ، وتحقق بذلك صيانة المصدر الثاني من مصادر التشريع في الاسلام . وهي الغاية ذاتها اتي حققها علم اصول الفقه ، الذي يحاول علماء اوربا مماثلته تحت اسم " اصول القوانين " . اما منهج المؤرخين فهو ذته المنهج الاستردادي عند علماء اوربا ، وبواسطته اثبت " ابن خلدون " امكانية دراسة احدى ابعاد الظاهرة الانسانية – وهي الظاهرة التاريخية – دراة علمية . وبواسطة منهج علماء الطبيعة انتقلت العلوم من مجرد اراء ساذجة الى علوم متقدمة ، الامر الذي جعل " روس بول " يقول : « إن ابن الهيثم اقام البرهان على نظريات في علم الفيزياء .. مما ادى الى تقدم هذا العلم واصبح على ماهو عليه الآن » ، ويقول بول كراوس : « إن جابر بن حيان نظّم الكمياء وبناها على اسس علمية دقيقة . »
* وهكذا يتضح ، أن لمناهج البحث عند مفكري الاسلام قيمة علمية كبرى ، فمن جهة تجاوزا فيها منطق ارسطو الصوري ، ومن جهة ثانية سبقوا بها علماء المنهج التجريبي المحدثين في اوربا امثال " ف . بيكون " و " د . هيوم " و " ج . س. مل " . يقول " فلورين كاجوري " : « كان علماء العرب المسلمين هم اول من دافع عن المنهج التجريبي .. وهم اول من ادرك فائدته واهميته بالنسبة للعلوم الطبيعية » . ويقول المستشرق الالماني " آلبرت ديتريش " : « كان المسلمون سباقين الى التجربة ، إذ وضعوا اسسها ، ثم تلقتها اوربا عنهم وبلغت بها الى المقام التي هي عليه الآن . »
الموضوع الخامس:هل يمكن تفسير الظواهر الحية تفسيرا غائيا ؟ الطريقة : جدلية
طرح المشكلة : إن موضوع البيولوجيا هو الظواهر الحية ، التي تقوم بمجموعة من الوظائف تؤديها مجموعة من الاعضاء . وماهو ملاحظ ذلك التوافق الموجود بين تركيب العضو والوظيفة التي يقوم بها ، وهو ما جعل البعض يعتقد ان وظيفة العضو الحي هي الغاية التي جاء من أجلها ، مما يفترض الاخذ بالتفسير الغائي في البيولوجيا ، لكن هل التفسير الغائي كافٍ لفهم الظواهر الحية ؟ وهل هو تفسير مشروع من وجهة نظر الروح العلمية ؟
محاولة حل المشكلة :
1-أ- الاطروحة : يرى البعض ، انه لا يمكن فهم وتفسير الظواهر البيولوجية وتركيب الاعضاء الحية الا بمعرفة الغايات التي جاءت من أجلها ، حيث ان كل عضو وكل جهاز انما جاء من أجل غاية معينة هي الوظيفة التي يؤديها . مما يعني التسليم بأن الوظيفة اسبق من العضو ؛ فالعين خلقت للابصار والاذن للسمع ، والجهاز التنفسي خلق من اجل مد الجسم بطاقة الاحتراق ، والجهاز الهضمي من اجل تحويل المادة الغذائية الى احماض امينية .. وكل ذلك من اجل غاية اعظم هي المحافظة على توازن الجسم الحي .
1-ب- الحجة : وما يثبت ذلك ، ما تبدو عليه الاعضاء من تركيب محكم ينجسم مع الوظائف التي تقوم بها ، واذا اختل العضو تعطلت الوظيفة ولا يمكن لعضو آخر أن يقوم بها ، كما يتجلى في اختصاص بعض الاعضاء ببعض الوظائف وعمل هذه الاعضاء ، بحيث يتحقق من عملها انتظام داخلي في العضوية كلها .
1-جـ- النقد : لكن التفسير بالغايات هو في حقيقة جواب عن السؤال (( لماذ ؟)) وهو سؤال فلسفي ، مما يعني ان التفسير الغائي يقحم اعتبارات فلسفية ميتافيزيقية لا علاقة للعلم بها ، وهذا يتناقض مع الروح العلمية التي تتطلب التفسير الوضعي الذي يفسر الظاهرة بظاهرة اخرى معلومة ، ويتناقض ثانيا مع هدف العلم الذي ينطلق من المعلوم لكشف المجهول وليس العكس .
2-أ- نقيض الاطروحة : وبخلاف ذلك ، يرى انصار الالية ان التفسير الغائي ليس مشروعا من الناحية العلمية ، حيث لا يمكن فهم الظواهر الحية الا اذا فسرناه بما هو معلوم ، أي بردها الى قوانين الفيزياء والكمياء ، واعتبار الظاهرة الحية ظاهرة جامدة تعمل بصورة آلية وتخضع لمبدا الحتمية .
وهذا يعني ان العضو اسبق من الوظيفة ، فالطائر يطير لأن له جناحان والانسان يبصر لأن له عينان .. وان التوافق بين العضو والوظيفة تــمّ " صدفة " ، فالعضو مر بمراحل من التطور ولم صادف الوظيفة التي يقوم بها توقف عن التطور .
2-ب- الحجة : وما يؤكد ذلك ، أنه من الناحية الكميائية أن المادة الحية تعتمد على نفس العناصر التي تتكون منها المادة الجامدة ، فالاكسجين يدخل في تركيب الجسم بنسبة 70% والكربون بنسبة 18% والهيدروجين بنسبة 10% وكذا الازوت والكالسيوم والفسفور بنسب متفاوتة .. ومادام الامر كذلك يمكن تفسيرها بنفس القوانين التي نفسر بها المادة الجامدة .
ثم ان عمليتي التنفس والهضم ليسا الا تفاعلين كيميائيين لا يختفلفان عن التفاعلات الكيميائية التي تحدث داخل المختبر.
ومن الناحية الفيزيائية ، يمكن تطبيق قوانين الفيزياء على الظواهر الحية ، من ذلك مثلا قوانين الميكانيك بالنسبة الى القلب ، فهذا الاخير لا يختلف في عمله اثناء الدورة الدموية الصغرى والكبرى عن محرك السيارة .
كما ينطبق مبدا الحتمية على الظواهر الحية بنفس الصورة الصارمة التي ينطبق بها على المادة الجامدة ، من ذلك مثلا انتظام الحرارة في الجسم الذي يتم آليا مهما اختلفت الظروف المناخية ، فعندما تنخفض الحرارة في المحيط الخارجي يفرز الجسم شحنة من مادة الادرينالين في الدم فتنشط عملية التأكسد وترتفع حرارة العضوية ، ويحدث العكس بصفة آلية عندما ترتفع حرارة المحيط الخارجي . كما نجد الارتباط الآلي بين مختلف الوظائف ، ففي الهضم مثلا نجد سلسلة من الوظائف تبدا بوظيفة الاسنان ثم وظيفة اللعاب ثم وظيفة الانريمات او خمائر الهضم الى ان تتحول المادة الغذائية الى سائل .
2-جـ- النقد : في الحقيقة ليس صحيحا ان المادة الحية مماثلة للمادة الجامدة من حيث التركيب كما يزعم الآليون ، فمن بين 92 عنصرا تتكون منها المادة الحية تختلف عن المادة الجامدة في 14 عنصرا ، ولو كانتا متماثلتان لأمكن تطبيق المنهج التجريبي على الظواهر الحية بنفس السهولة التي تم تطبيقه على المادة الجامدة ، لكن ذلك تصادفته صعوبات وعوائق تكشف عن الطبيعة المعقدة للمادة الحية .
كما نجد في موقف الاليين تناقضا ، ففي الوقت الذي يدعون فيه الى استبعاد التفسير الغائي باعتباره يتناقض مع روح العلم ، نجدهم يفسرون التوافق بين تركيب العضو ووظيفته بـ " الصدفة " ، والتفسير بالصدفة لا يقبله العلم ويرفضه العقل ، لأن الصدفة – كما قال بوانكاري – مقياس جهلنا .
3- التركيب : ان التفسير الغائي تفرضه طبيعة الكائن الحي ، ذلك لأن الظواهر الحية يسود اجزائها نوع من التكامل يظهر في صورة فكرة موجهة او غاية محددة ، وهي في ذات الوقت يمكن ان تنطبق عليها قوانين الفيزياء والكمياء على غرار المادة الجامدة ، لذلك فالتفسير الغائي والالي كيهما ضروريان لفهم النشاط الحيوي .
حل المشكلة : وهكذا يتضح ، أن التفسير الغائي مشروعا متى بقي الباحث في اطار الظواهر الملاحَظَة ، ولم يتجاوز الى طلب اسبابها الميتافيزيقية .