ابو إبراهيم
2008-01-15, 09:48
بسم الله الرجن الرجيم :هذا المقال هوالشطر الثاني من رسالة العلامة الشوكاني وهي عبارة عن مثال ضربه لتوضيح قاعدة الرجوع عند الخلاف التي جاءت في الشطر الاول من الرسالة والتي قدمناها قبل هذا المقال --اخوكم---- والى المقال:
: اعلم أنه قد اتفق الناس، سابقهم ولاحقهم، وأولهم وآخرهم من لدن الصحابة رضوان الله عنهم إلى هذا الوقت: أن رفع القبور والبناء عليها بدعة من البدع التي ثبت النهى عنها واشتد وعيد رسول الله لفاعلها، كما يأتي بيانه، ولم يخالف في ذلك أحد من المسلمين أجمعين، لكنه وقع للإمام يحي بن حمزة مقالة تدل على أنه يرى أنه لا بأس بالقباب والمشاهد على قبور الفضلاء، ولم يقل بذلك غيره، ولا روي عن أحد سواه، ومن ذكرها من المؤلفين في كتب الفقه من الزيدية فهو جرى على قوله واقتداء به. ولم نجد القول بذلك ممن عاصره، أو تقدم عصره عليه لا من أهل البيت ولا من غيرهم. وهكذا اقتصر صاحب البحر الذي هو مدرس كبار الزيدية، ومرجع مذهبهم ومكان البيان لخلافهم في ذات بينهم، وللخلاف بينهم وبين غيرهم، بل اشتمل على غالب أتوال المجتهدين وخلافاتهم في المسائل الفقهية، وصار هو المرجوع إليه في هذه الأعصار، وهذه الديار لمن أراد معرفة الخلاف في المسائل، وأقوال القائلين بإثباتها أو نفيها من المجتهدين: فإن صاحب هذا الكتاب الجليل لم ينسب هذه المقالة- أعنى جواز رفع القباب والمشاهد على قبور الفضلاء- إلا إلى الإمام يحيى وحده. فقد قال ما نصه:
مسألة الإمام يحيى: لا بأس بالقباب والمشاهد على قبور الفضلاء والملوك؟ لاستعمال المسلمين ولم ينكره. انتهى.
فقد عرفت من هذا أنه لم يقل بذلك إلا الإمام يحيى، وعرفت دليله الذي استدل به، وهو استعمال المسلمين مع عدم النكير، ثم ذكر صاحب البحر هذا الدليل الذي استدل به الإمام يحيى في الغيث واقتصر عليه، ولم يأت بغيره.
فإذا عرفت هذا تقرر لك أن هذا الخلاف واقع بين الإمام يحيى وبين سائر العلماء، من الصحابة والتابعين، ومن المتقدمين من أهل البيت والمتأخرين، ومن أهل المذاهب الأربعة وغيرهم. ومن جميع المجتهدين أولهم وآخرهم، ولا يعترض هذا بحكاية من حكى قول الإمام يحيى في مؤلفه، ممن جاء بعده من المؤلفين. فإن مجرد حكاية القول لا يدل على أن الحاكي يختاره ويذهب إليه، فإن وجدت قائلا من بعده من أهل العلم يقول بقوله هذا ويرجحه، فإن كان مجتهدا كان قائلا بما قاله الإمام يحيى ذاهبا إلى ما ذهب إليه بذلك الدليل الذي استدل به، وإن كان غير مجتهد فلا اعتبار بموافقته. لأنها إنما تعتبر أقوال المجتهدين لا أقوال المقلدين، فإذا أردت أن تعرف: هل الحق ما قاله الإمام يحيى، أو ما قاله غيره من أهل العلم. فالواجب عليك رد هذا الاختلاف إلى ما أمرنا الله بالرد إليه. وهو كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
فإن قلت: بين لي العمل في هذا الرد حتى تتم الفائدة، ويتضح الحق من غيره، والمصيب من المخطئ في هذه المسألة. قلت: افتح لما أقوله سمعا، واتخذ له فهما، وأرهف له ذهنا. وها أنا أوضح لك الكيفية المطلوبة. وأبين لك مالا يبقى عندك بعده ريب، ولا يصاحب ذهنك وفهمك عنده لبس، فأقول:
قال الله سبحانه: (وما آتاكم الرسول فخذوه، وما نهاكم عنه فانتهوا! فهذه الآية فيها الإيجاب على العباد بالائتمار بما أمر به الرسول صلى الله عليه وسلم والأخذ به، والانتهاء عما نهى عنه صلى الله عليه وسلم وتركه. وقال سبحانه: (قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله)، ففي هذه الآية: تعليق محبة الله الواجبة على كل عبد من عباده باتباع رسوله صلى الله عليه وسلم، وأن ذلك هو المعيار الذي يعرف به محبة العبد لربه على الوجه المعتبر، وأنه السبب الذي يستحق به العبد أن يحبه الله، وقال الله سبحانه: (من يطع الرسول فقد أطاع الله) ففي هذه الآية: أن طاعة الرسول طاعة لله، وقال: (ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقا! فأوجب هذه السعادة لمن أطاع الله ورسوله، وهى أن يكون مع هؤلاء الذين هم أرفع العباد درجة عنده، وأعلاهم منزلة. وقال: (ومن يطع الله ورسوله يدخله جنات تجرى من تحتها الأنهار خالدين فيها لي ذلك الفوز العظيم. ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده يدخله نارا خالدا فيها وله عذاب مهين). وقال سبحانه: (ومن يطع الله ورسوله ويخشى الله ويتقه فأولئك هم الفائزون ! وقال سبحانه: (أطيعوا الله وأطيعوا الرسول) وأنزل الله على رسوله أن يقول: (أطيعوا الله وأطيعون ) والآيات الدالة عل هذا المعنى في الجملة أكثر من ثلاثين آية.
ويستفاد من جميع ما ذكره: أن ما أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم ونهى عنه كان الأخذ به واتباعه واجبا بأمر الله سبحانه. وكانت الطاعة لرسول الله في ذلك طاعة لله، وكان الأمر من رسول الله أمرا من الله.
وسنوضح لك ما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غير حديث من النهى عن رفع القبور والبناء عليها، ووجوب تسويتها، وهدم ما ارتفع منها، ولكنا هنا نبتدي بذكر أشياء في حكم التوطئة والتمهيد لذلك، ثم ننتهي إلى ذكر ما هو المطلوب، حتى يعلم من اطلع على هذا البحث أنه إذا وقع الرد فيما قاله الإمام يحيى وما قاله غيره في القباب والمشاهد إلى ما أمر الله بالرد إليه، وهو كتاب الله سبحانه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم كان في ذلك ما يشفي ويكفي، ويقنع ويغني ذكر بعضه، فضلا عن ذكر جميعه، وعند ذلك يتبين لكل من لهم فهم، ما في رفع القبور من الفتنة العظيمة لهذه الأمة، من المكيدة البالغة التي كادهم الشيطان بها. وقد كان بها من كان قبلهم من الأمم السابقة، كما حكى الله سبحانه وتعالى ذلك في كتابه العزيز.
وكان أول ذلك في قوم نوح، قال الله سبحانه: (قال نوح رب إنهم عصوني واتبعوا من لم يزده ماله وولده إلا خسارا، ومكروا مكرا كبارا، وقالوا لا تذرن آلهتكم، ولا تذرن ودا ولا سواعا ولا يغوث ويعوق ونسرا) " كانوا قوما صالحين من بني آدم، وكان لهم أتباع يقتدون بهم، فلما ماتوا قال أصحابهم الذين كانوا يقتدون بهم: لو صورناهم كان أشوق لنا إلى العبادة إذا ذكرناهم فصوروهم. فلما ماتوا وجاء آخرون دب إليهم إبليس، فقال: إنما كانوا يعبدونهم، وبهم يسقون المطر، فعبدوهم، ثم عبدتهم العرب بعد ذلك "، وقد حكى معنى هذا في صحيح البخاري عن ابن عباسي رضى الله عنهما، وقال قوم من السلف: " إن هؤلاء كانوا قوما صالحين من قوم نوح، فلما ماتوا عكفوا على قبورهم ثم صوروا تماثيلهم ثم طال عليهم الأمر فعبدوهم ".
ويؤيد هذا ما ثبت في الصحيحين وغيرهما عن عائشة رضي الله عنها: " أن أم سلمة رضى الله عنها ذكرت لرسول الله صلى الله عليه وسلم كنيسة رأتها بأرض الحبشة، وذكرت له ما رأت فيها من الصور. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أولئك قوم إذا مات فيهم العبد الصالح أو الرجل الصالح بنوا على قبره مسجدا، وصوروا فيه تلك الصور، أولئك شرار الخلق عند الله "، وأخرج ابن جرير في تفسير قوله تعالى: (أفرأيتم اللات والعزى) قال: " كان يلت السويق للحاج، فمات فعكفوا على قبره ".
وفي صحيح مسلم عن جندب بن عبد الله البجلي رضى الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يموت يقول: " ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذوا قبور أنبيائهم مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، فإني أنهاكم عن ذلك ".
وفي الصحيحين من حديث عائشة رضى الله عنها قالت: " لما نزل برسول الله صلى الله عليه وسلم طفق يطرح خميصة على وجهه، فإذا اغتم كشفها، فقال- وهو كذلك- لعنة الله على اليهود والنصارى فقد اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد"- يحذر ما صنعوا.
وفي الصحيحين مثله أيضا من حديث ابن عباس رضي الله عنهما. وفيهما أيضا من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " قاتل الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد "، وفي الصحيحين من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه الذي لم يقم منه " لعن الله اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد. ولولا ذلك لأبرز قبره، غير أنه خشي أن يكون مسجدا ".
وأخرج الإمام أحمد في مسنده بإسناد جيد، من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إن من شرار الناس من تدركهم الساعة وهم أحياء، والذين يتخذون القبور مساجد "، وأخرج أحمد وأهل السنن من حديث ابن عباس رضى الله عنهما أنه صلى الله عليه وسلم قال: " لعن الله زائرات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج ". وفي صحيح مسلم وغيره عن أبى الهياج الأسدي قال: " قال لي علي بن أبي طالب رضى الله عنه: ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن لا أدع تمثالا إلا طمسته، ولا قبرا مشرفا إلا سويته". وفي صحيح مسلم أيضا عن ثمامة بن شفي نحو ذلك.
وفي هذا أعظم دلالة على أن تسوية كل قبر مشرف بحيث يرتفع زيادة على القدر المشروع؟ واجبة متحتمة. فمن إشراف القبور: أن يرفع سمكها أو يجعل عليها القباب أو المساجد. فإن ذلك من النهي عنه بلا شك ولا شبهة. ولهذا فإن النبي صلى الله عليه وسلم بعث لهدمها أمير المؤمنين عليا. ثم أمير المؤمنين بعث لهدمها أبا الهياج الأسدي في أيام خلافته.
وأخرج أحمد ومسلم وأبو داود والترمذي وصححه والنسائي وابن حبان من حديث جابر قال: " نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجصص القبر، وأن يبنى عليه، وأن يوطأ ".
وزاد هؤلاء المخرجون لهذا الحديث عن مسلم " وأن يكتب عليه". قال الحاكم: النهى عن الكتابة على شرط مسلم، وهي صحيحة غريبة.
وفي هذا التصريح بالنهى عن البناء على القبور، وهو يصدق على ما بني على جوانب حفرة القبر، كما يفعله كثير من الناس من رفع قبور الموتى ذراعا فما فوقه. لأنه لا يمكن أن يجعل نفس القبر مسجدا، فذلك مما يدل علي أن المراد بعض ما يقربه مما يتصل به، ويصدق على من بنى قريبا من جوانب القبر كذلك، كما في القباب والمساجد والمشاهد الكبيرة، على وجه يكون القبر في وسطها أو في جانب منها. فإن هذا بناء على القبر، لا يخفى ذلك على من له أدنى فهم، كما يقال: بنى السلطان على مدينة كذا، أو علي قرية كذا سورا. وكما يقال: بنى فلان في المكان الفلاني مسجدا، مع أن سمك البناء لم يباشر إلا جوانب المدينة أو القرية أو المكان. ولا فرق بين أن تكون تلك الجوانب التي وقع وضع البناء عليها قريبة من الوسط، كما في المدينة الصغيرة والقرية الصغيرة والمكان الضيق، أو بعيدة في الوسط كما في المدينة الكبيرة والقرية الكبيرة والمكان الواسع، ومن زعم أن في لغة العرب ما يمنع من هذا الإطلاق فهو جاهل لا يعرف لغة العرب، ولا يفهم لسانها ولا يدري بما استعملته في كلامها.
------------------ يتبع ----------------
: اعلم أنه قد اتفق الناس، سابقهم ولاحقهم، وأولهم وآخرهم من لدن الصحابة رضوان الله عنهم إلى هذا الوقت: أن رفع القبور والبناء عليها بدعة من البدع التي ثبت النهى عنها واشتد وعيد رسول الله لفاعلها، كما يأتي بيانه، ولم يخالف في ذلك أحد من المسلمين أجمعين، لكنه وقع للإمام يحي بن حمزة مقالة تدل على أنه يرى أنه لا بأس بالقباب والمشاهد على قبور الفضلاء، ولم يقل بذلك غيره، ولا روي عن أحد سواه، ومن ذكرها من المؤلفين في كتب الفقه من الزيدية فهو جرى على قوله واقتداء به. ولم نجد القول بذلك ممن عاصره، أو تقدم عصره عليه لا من أهل البيت ولا من غيرهم. وهكذا اقتصر صاحب البحر الذي هو مدرس كبار الزيدية، ومرجع مذهبهم ومكان البيان لخلافهم في ذات بينهم، وللخلاف بينهم وبين غيرهم، بل اشتمل على غالب أتوال المجتهدين وخلافاتهم في المسائل الفقهية، وصار هو المرجوع إليه في هذه الأعصار، وهذه الديار لمن أراد معرفة الخلاف في المسائل، وأقوال القائلين بإثباتها أو نفيها من المجتهدين: فإن صاحب هذا الكتاب الجليل لم ينسب هذه المقالة- أعنى جواز رفع القباب والمشاهد على قبور الفضلاء- إلا إلى الإمام يحيى وحده. فقد قال ما نصه:
مسألة الإمام يحيى: لا بأس بالقباب والمشاهد على قبور الفضلاء والملوك؟ لاستعمال المسلمين ولم ينكره. انتهى.
فقد عرفت من هذا أنه لم يقل بذلك إلا الإمام يحيى، وعرفت دليله الذي استدل به، وهو استعمال المسلمين مع عدم النكير، ثم ذكر صاحب البحر هذا الدليل الذي استدل به الإمام يحيى في الغيث واقتصر عليه، ولم يأت بغيره.
فإذا عرفت هذا تقرر لك أن هذا الخلاف واقع بين الإمام يحيى وبين سائر العلماء، من الصحابة والتابعين، ومن المتقدمين من أهل البيت والمتأخرين، ومن أهل المذاهب الأربعة وغيرهم. ومن جميع المجتهدين أولهم وآخرهم، ولا يعترض هذا بحكاية من حكى قول الإمام يحيى في مؤلفه، ممن جاء بعده من المؤلفين. فإن مجرد حكاية القول لا يدل على أن الحاكي يختاره ويذهب إليه، فإن وجدت قائلا من بعده من أهل العلم يقول بقوله هذا ويرجحه، فإن كان مجتهدا كان قائلا بما قاله الإمام يحيى ذاهبا إلى ما ذهب إليه بذلك الدليل الذي استدل به، وإن كان غير مجتهد فلا اعتبار بموافقته. لأنها إنما تعتبر أقوال المجتهدين لا أقوال المقلدين، فإذا أردت أن تعرف: هل الحق ما قاله الإمام يحيى، أو ما قاله غيره من أهل العلم. فالواجب عليك رد هذا الاختلاف إلى ما أمرنا الله بالرد إليه. وهو كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
فإن قلت: بين لي العمل في هذا الرد حتى تتم الفائدة، ويتضح الحق من غيره، والمصيب من المخطئ في هذه المسألة. قلت: افتح لما أقوله سمعا، واتخذ له فهما، وأرهف له ذهنا. وها أنا أوضح لك الكيفية المطلوبة. وأبين لك مالا يبقى عندك بعده ريب، ولا يصاحب ذهنك وفهمك عنده لبس، فأقول:
قال الله سبحانه: (وما آتاكم الرسول فخذوه، وما نهاكم عنه فانتهوا! فهذه الآية فيها الإيجاب على العباد بالائتمار بما أمر به الرسول صلى الله عليه وسلم والأخذ به، والانتهاء عما نهى عنه صلى الله عليه وسلم وتركه. وقال سبحانه: (قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله)، ففي هذه الآية: تعليق محبة الله الواجبة على كل عبد من عباده باتباع رسوله صلى الله عليه وسلم، وأن ذلك هو المعيار الذي يعرف به محبة العبد لربه على الوجه المعتبر، وأنه السبب الذي يستحق به العبد أن يحبه الله، وقال الله سبحانه: (من يطع الرسول فقد أطاع الله) ففي هذه الآية: أن طاعة الرسول طاعة لله، وقال: (ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقا! فأوجب هذه السعادة لمن أطاع الله ورسوله، وهى أن يكون مع هؤلاء الذين هم أرفع العباد درجة عنده، وأعلاهم منزلة. وقال: (ومن يطع الله ورسوله يدخله جنات تجرى من تحتها الأنهار خالدين فيها لي ذلك الفوز العظيم. ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده يدخله نارا خالدا فيها وله عذاب مهين). وقال سبحانه: (ومن يطع الله ورسوله ويخشى الله ويتقه فأولئك هم الفائزون ! وقال سبحانه: (أطيعوا الله وأطيعوا الرسول) وأنزل الله على رسوله أن يقول: (أطيعوا الله وأطيعون ) والآيات الدالة عل هذا المعنى في الجملة أكثر من ثلاثين آية.
ويستفاد من جميع ما ذكره: أن ما أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم ونهى عنه كان الأخذ به واتباعه واجبا بأمر الله سبحانه. وكانت الطاعة لرسول الله في ذلك طاعة لله، وكان الأمر من رسول الله أمرا من الله.
وسنوضح لك ما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غير حديث من النهى عن رفع القبور والبناء عليها، ووجوب تسويتها، وهدم ما ارتفع منها، ولكنا هنا نبتدي بذكر أشياء في حكم التوطئة والتمهيد لذلك، ثم ننتهي إلى ذكر ما هو المطلوب، حتى يعلم من اطلع على هذا البحث أنه إذا وقع الرد فيما قاله الإمام يحيى وما قاله غيره في القباب والمشاهد إلى ما أمر الله بالرد إليه، وهو كتاب الله سبحانه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم كان في ذلك ما يشفي ويكفي، ويقنع ويغني ذكر بعضه، فضلا عن ذكر جميعه، وعند ذلك يتبين لكل من لهم فهم، ما في رفع القبور من الفتنة العظيمة لهذه الأمة، من المكيدة البالغة التي كادهم الشيطان بها. وقد كان بها من كان قبلهم من الأمم السابقة، كما حكى الله سبحانه وتعالى ذلك في كتابه العزيز.
وكان أول ذلك في قوم نوح، قال الله سبحانه: (قال نوح رب إنهم عصوني واتبعوا من لم يزده ماله وولده إلا خسارا، ومكروا مكرا كبارا، وقالوا لا تذرن آلهتكم، ولا تذرن ودا ولا سواعا ولا يغوث ويعوق ونسرا) " كانوا قوما صالحين من بني آدم، وكان لهم أتباع يقتدون بهم، فلما ماتوا قال أصحابهم الذين كانوا يقتدون بهم: لو صورناهم كان أشوق لنا إلى العبادة إذا ذكرناهم فصوروهم. فلما ماتوا وجاء آخرون دب إليهم إبليس، فقال: إنما كانوا يعبدونهم، وبهم يسقون المطر، فعبدوهم، ثم عبدتهم العرب بعد ذلك "، وقد حكى معنى هذا في صحيح البخاري عن ابن عباسي رضى الله عنهما، وقال قوم من السلف: " إن هؤلاء كانوا قوما صالحين من قوم نوح، فلما ماتوا عكفوا على قبورهم ثم صوروا تماثيلهم ثم طال عليهم الأمر فعبدوهم ".
ويؤيد هذا ما ثبت في الصحيحين وغيرهما عن عائشة رضي الله عنها: " أن أم سلمة رضى الله عنها ذكرت لرسول الله صلى الله عليه وسلم كنيسة رأتها بأرض الحبشة، وذكرت له ما رأت فيها من الصور. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أولئك قوم إذا مات فيهم العبد الصالح أو الرجل الصالح بنوا على قبره مسجدا، وصوروا فيه تلك الصور، أولئك شرار الخلق عند الله "، وأخرج ابن جرير في تفسير قوله تعالى: (أفرأيتم اللات والعزى) قال: " كان يلت السويق للحاج، فمات فعكفوا على قبره ".
وفي صحيح مسلم عن جندب بن عبد الله البجلي رضى الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يموت يقول: " ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذوا قبور أنبيائهم مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، فإني أنهاكم عن ذلك ".
وفي الصحيحين من حديث عائشة رضى الله عنها قالت: " لما نزل برسول الله صلى الله عليه وسلم طفق يطرح خميصة على وجهه، فإذا اغتم كشفها، فقال- وهو كذلك- لعنة الله على اليهود والنصارى فقد اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد"- يحذر ما صنعوا.
وفي الصحيحين مثله أيضا من حديث ابن عباس رضي الله عنهما. وفيهما أيضا من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " قاتل الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد "، وفي الصحيحين من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه الذي لم يقم منه " لعن الله اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد. ولولا ذلك لأبرز قبره، غير أنه خشي أن يكون مسجدا ".
وأخرج الإمام أحمد في مسنده بإسناد جيد، من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إن من شرار الناس من تدركهم الساعة وهم أحياء، والذين يتخذون القبور مساجد "، وأخرج أحمد وأهل السنن من حديث ابن عباس رضى الله عنهما أنه صلى الله عليه وسلم قال: " لعن الله زائرات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج ". وفي صحيح مسلم وغيره عن أبى الهياج الأسدي قال: " قال لي علي بن أبي طالب رضى الله عنه: ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن لا أدع تمثالا إلا طمسته، ولا قبرا مشرفا إلا سويته". وفي صحيح مسلم أيضا عن ثمامة بن شفي نحو ذلك.
وفي هذا أعظم دلالة على أن تسوية كل قبر مشرف بحيث يرتفع زيادة على القدر المشروع؟ واجبة متحتمة. فمن إشراف القبور: أن يرفع سمكها أو يجعل عليها القباب أو المساجد. فإن ذلك من النهي عنه بلا شك ولا شبهة. ولهذا فإن النبي صلى الله عليه وسلم بعث لهدمها أمير المؤمنين عليا. ثم أمير المؤمنين بعث لهدمها أبا الهياج الأسدي في أيام خلافته.
وأخرج أحمد ومسلم وأبو داود والترمذي وصححه والنسائي وابن حبان من حديث جابر قال: " نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجصص القبر، وأن يبنى عليه، وأن يوطأ ".
وزاد هؤلاء المخرجون لهذا الحديث عن مسلم " وأن يكتب عليه". قال الحاكم: النهى عن الكتابة على شرط مسلم، وهي صحيحة غريبة.
وفي هذا التصريح بالنهى عن البناء على القبور، وهو يصدق على ما بني على جوانب حفرة القبر، كما يفعله كثير من الناس من رفع قبور الموتى ذراعا فما فوقه. لأنه لا يمكن أن يجعل نفس القبر مسجدا، فذلك مما يدل علي أن المراد بعض ما يقربه مما يتصل به، ويصدق على من بنى قريبا من جوانب القبر كذلك، كما في القباب والمساجد والمشاهد الكبيرة، على وجه يكون القبر في وسطها أو في جانب منها. فإن هذا بناء على القبر، لا يخفى ذلك على من له أدنى فهم، كما يقال: بنى السلطان على مدينة كذا، أو علي قرية كذا سورا. وكما يقال: بنى فلان في المكان الفلاني مسجدا، مع أن سمك البناء لم يباشر إلا جوانب المدينة أو القرية أو المكان. ولا فرق بين أن تكون تلك الجوانب التي وقع وضع البناء عليها قريبة من الوسط، كما في المدينة الصغيرة والقرية الصغيرة والمكان الضيق، أو بعيدة في الوسط كما في المدينة الكبيرة والقرية الكبيرة والمكان الواسع، ومن زعم أن في لغة العرب ما يمنع من هذا الإطلاق فهو جاهل لا يعرف لغة العرب، ولا يفهم لسانها ولا يدري بما استعملته في كلامها.
------------------ يتبع ----------------