المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : المقامة الفقهية


الأستـ كريم ــاذ
2010-03-25, 12:50
حدثني عبادة، وكان متكئا على وسادة، قال: "دخلت المسجد العتيق ذات يوم، وقد طار من جفناي النوم، فوجدت حلقة شيخنا عثمان بن زعفان، وهو وسطها يقول: (كلُّ من عليها فـان)، فهرولت إليه بسكينة ووقار (1)، ولما رآني الرهط (2) اندهش وحار، فاستأذنت، ومن محراب القبلة استقدمت.
وبينا نحن جلوس، سأل أحدُهم مفتينا عن الفلوس، فقال له: ما منفعة المال، مع ستة من العيال؟ فقال عثمان: إن كانت فتاة واحدة بينهم فلا جدوى، وإن كانوا كلهم ذكور فأنت لهم قدوة. فسكت الناس برهة، فالتفت الإمام إلى قومٍ من خلفه، وقال: يا عباد الله ويا خلقه، أسألكم التفقه في الدين ودنياكم، وفي الزين وبنياكم (3)؟؟ فسأله ساذجٌ هابق، في الهذر والسفسطة لنا سابق: يا فقيه الأمة، سأسألك عن الحمّـى؛ ما الضار فيها والمنفع؟ وهل لها دواء سارّ ومنجع؟ فرد عثمان: الحمى فيء من نار جهنم (4) وسعير، يبتلى بها الإنس والجانُّ والبعير، لا نفع فيها، وضرها سفيها، لا ترحم المغبون الفقير، وتلزمه الشهيق والزفير، وترفع حرارته، وتنزع قرارته (5)، دواؤها بزاف (6) في البلاد، جعله رب العزة للعباد، هو الماء، قاهر ذاك الداء.
ثم قال بعد ذلك: يا جماعة الخير لنؤدي صلاة العصر، وندعو بالخير لشعب الجزائر ولشغب مصر، فنهض القوم ذاكرين، حامدين وشاكرين، صلوا ركعات العصر الأربع، وكان الإمام بيننا أروع.
وعادوا إلى المجلس، غنيُّهم والمفلس، فبادر أحدنا: يا سيدنا الشيخ الإمام، يا من علمني العزم والإقدام، ألست القائل لنا يوماً إنه من حسن الخاتمة، أن يموت أحدكم في الليالي القاتمة، أو يقبض وهو صائم، أو غريق عائم، أو متهيِّء للسجود، أو ذو كرم وجود، أو طائف بالبيت العتيق (7)، أو ميْتٌ في الحريق، أو قُبض ليلة القدر، أو قُتل غيلة بالغدر، أو مات يوم الجمعة أو ليلتها؟ قال الإمام: إي والله، بلى، قال السائل: مات أخي بالغدر في فرنسا يوم الجمعة: لن يتعذب في قبره، وسيتنعم في قصره، قال عثمان: إذن سيعذب يوم السبت.. فضحكنا خفيفا، وكان الإمام ظريفا.
وأطرق جميعنا، حتى سألني صديقي سعيد بن الشريد على عجل: يا عبادة ألا تسأل إمامنا المُجلّ؟ فإنه لا ينال العلم من فيه كبْر أو خجل.. فقلت: لست بذاك أو الآخر، وسؤالي لشيخنا عن الزكاة –مفهوما ومبهوما- فيمن تجوز؟ ومن بها سيفوز؟ قال الإمام: الزكاة فرض عين على كل مسلم للدين موافق، وهي لثقيلة على كل منافق، أما فيمن تجوز: فهي للمحتاجين، وللفقراء المساكين، وللأقربين، ولأهل العلم والدين، فقلت: يا إمام لقد كثُر هذه الأيام المساكين، وعابري السبيل، حتى أني علمت أنه يوجد في سعيدة، طلاّبة (8) من البليدة... فقاطعني عثمان: يا عبادة ذا التاج، ليس كل سائل محتاج، فهناك من اتخذها حرفة لن تبور، لما كثر الشبرق الخبور. عندئذ سألته: فما قولك إن سألتني، وإن لم أعطها أكلتني؟؟ قال: هنا لا يطبق قوله تعالى: "وأما السائل فلا تنهر"، فقلت: يا إمام ألست من آل البيت؟ قال: أجل، وهذا ليس بجديد، والله على ذاك شهيد. فقلت: يا معشر الناس، اسمعوا وعوا (9)، إن الإمام عثمان لا يحل له أخذ الصدقات فهي من "أوساخ الناس" (10)، فرأينا الإمام قد غضِب ومسه الوسواس (11)، وقال: يا قوم إنما أخذي صدقاتكم حتى أطهركم وأزكيكم بها (12)، فضحك القوم وانهالوا عليه بالعطايا، وجادوا إليه بالهدايا؛ فأنشد:
(ونافس ببذل المال في طلب العُلى
بهـمة محمـود الخلائق ماجـد.
وكن واثقا بالله فــي كل حادث
يصنك مدى الأيام من شر حاسد.
وبالله فـاستعصم، ولا ترجُ غيرَه
ولا تك في النعماء عنه بجاحد (13)".

الأستـ كريم ــاذ
2010-03-25, 12:51
1- السكينة والوقار: الهـدوء والطمأنينة والرزانة.
2- الرهط: جمع لا واحد له، يختص بالرجال دون النساء، ورهط الرجل قومه أو حاشيته المقربون، قال تعالى: "وإنا لنراك فينا ضعيفا ولولا رهطك لرجمناك".
3- بنياكم أي بنيانكم، وعمرانكم.
4- "الحمى فيء من نار جهنم، فأبردوها بالماء" حديث صحيح رواه الشيخان.
5- القرارة: بتاء التأنيث، تعنى الهيبة أو المكانة العالية.
6- بزّاف: لفظ دارج عند العوام تعني كثير ووافر.
7- البيت العتيق: الكعبة المشرفة.
8- طلاّبة: كلمة فصيحة من حيث اللغة، إذ تعني المرأة المكثارة في الطلب، أما المعنى الدارج لهذه الكلمة هـو السائل الملحاح.
9- اسمعوا وعوا: أفعال أمر، الأولى من الاستماع، والثانية من الوعي أي الفهم، وهي مقتبسة من خطبة قس بن ساعدة الإيّادي في سوق عُكاظ.
10- حديث شريف رواه البخاري، "الصدقات من أوساخ الناس، لا تحل لنا" يقصد رسول الله –صلى الله عليه وآله وسلم- أن الصدقات لا تحل له وأهله.
11- الوسواس: هو كيد الشيطان.
12- إشارة واضحة للآية: "خذ من أموالهم صدقة تزكيهم وتطهرهم بها".
13- الأبيات للإمام علي بن أبي طالب، كرّم الله وجهه.