تسجيل الدخول

مشاهدة النسخة كاملة : ابن خلدون ومنهجه العلميّ في البحث


dmd39
2010-03-24, 11:24
ابن خلدون ومنهجه العلميّ في البحث مع بَعض المقارنة بالمؤرّخ الفرنسي الحَديث فرنان بروديل ـــ د.عبد الكريم اليافي

أريد أن أزيد القارئ الكريم معرفة بالمؤرخ العربي واضع علم الاجتماع أبي ولي الدين عبد الرحمن بن خلدون (732 ه‍ /1332م –808 /1406). فلا يكاد يوجد عربي مثقف لم يسمع بهذا العالم الكبير ولم يَعِ شيئاً من آرائه الاجتماعية وإنما أريد أن أذكّر أولاً بملامح بارزة من حياته، ثم أعرض رأيي في منهجه الذي سلكه في مقدمته المشهورة والطريقة التي اتبعها في بحوثه عرضاً يقربه من أحدث ما يراه فلاسفة العلم في الوقت الحاضر. وقد رأيت كثيراً من الباحثين يتساءلون في إشكالية هذه المنهج، مع أنه يتضح حين نقرنه بأساليب العلم الحديثة.‏
ابن خلدون رجل علم وعمل. هو من أسرة عربية حضرمية كانت هاجرت إلى الأندلس بعيد الفتح وتوطنت اشبيلية حتى قرب سقوط هذه المدينة في أيدي الإسبان. فجلت عنها أواسط القرن السابع الهجري في جملة الأسر التي جلت إلى تونس حيث حلّت وحيث ولد ابن خلدون. وكان بيت ابن خلدون نهاية في علو المكانة ونباهة العلم. وكان لأفراد هذه الأسرة شأن مرموق في وقعة الزلاقة المشهورة.‏
نشأ ابن خلدون نشأة كثير من أمثاله في العالم العربي فربّي تربية دينية وعلمية. درس العلوم الشرعية وعلوم اللغة العربية كما درس الفلسفة والمنطق والعلوم العقلية، فجمع بين المنقول والمعقول. وكان المغرب العربي على اتساعه يعج بالعلماء في كل ميدان، وكان كالأندلس منتجع طلاب العلم من أوربة زيادة على طلاب العلم من أرجاء المغرب نفسه. وربما يكفي مثل واحد على هذا الانتجاع. فمن المعلوم أن العالم الرياضي الإيطالي ليوناردو فيبو ناشي الذي عاش في القرن الثالث عشر الميلادي كان ابن تاجر من مدينة بيزا أتيح له وهو فتى أن يسافر مع أبيه أولاً إلى المغرب فدرس على علمائه الرياضيات التي كان يسميها العرب علم التعاليم، ثم إلى مصر وسورية واليونان وصقلية. ولما عاد إلى بيزا نشر كتاباً في الرياضيات ترجم فيه المعلومات الرياضية وجُمل العد المختلفة وآثر الطريقة العشرية واعتمد الأرقام العربية وهو الذي أدخلها إلى أوربة واستعمل الصفر أيضاً. وقد شاعت بعده سلسلة فيبو ناتشي في الرياضيات.‏
ومن أهم علماء الرياضيات في زمن ابن خلدون أبو العباس أحمد بن محمد ابن عثمان المعروف بابن البناء (لأن والده كان بناءً) والموصوف بالعددي (لبراعته في علم العدد) وأبو عبد الله محمد بن النجار ومحمد بن إبراهيم الآبلي. وهذانما شيوخ ابن خلدون. وقد هلك أبو ابن خلدون وبعض مشايخه في الوباء الأسود الذي اجتاح أوربة ووصل أثره إلى المغرب.‏
برز هذا الفتى الناشئ في مختلف الميادين العلمية وجرى على آثار العلماء المسلمين الموسوعيين. فقد كانوا ينظرون إلى الكون على أنه كلٌّ مشتبك العناصر والظواهر. فكل دراسة لهم في ميدان قد تفيدهم في دراسة ميدان آخر ما دامت الظواهر والعناصر متصلاً بعضها ببعض. ولا يعدم الكشف في جانب عوناً على إيضاح عناصر خفية في جانب آخر. يروى أنه قيل للإمام الشافعي: متى يكون الرجل عالماً؟ قال: إذا تحقق في علم فعلمه وتعرّض لسائر العلوم فنظر فيما فاته فعند ذلك يكون عالماً (1).‏
ثم أن من خصائص العلم العربي اقترانه بالعمل. ومن بلاغة اللغة العربية أن العلم والعمل يتألف كلاهما من حروف واحدة. العلم يستدعي العمل والعمل يزيد في العلم. ومن أقوالهم: "العلم يهتف بالعمل فإن أجابه أقام وإلا ارتحل." (2).‏
وهكذا نجد ابن خلدون لم يكد يناهز العشرين من عمره حتى اجتذبته الحياة الاجتماعية والسياسية. وكان المغرب يموج بالأحداث السياسية والصروف الاقتصادية. فلم تكد تنتهي دولة الموحدين حتى قامت فيه إمارات ودويلات متنافسة من أبرزها بنو حفص في تونس وبنو عبد الواد في تلمسان وبنو مرين في فاس. وقد اتصل ابن خلدون بهم جميعاً، وشغل عندهم مناصب عالية. رفعته أمواج السياسة حتى جعلته حاجباً أي وزيراً ثم خفضته حين اتهم بالتآمر على السلطان أبي عنان فسجن نحو واحد وعشرين شهراً.‏
برم ابن خلدون بتلك التقلبات والصروف السياسية في المغرب فرحل إلى غرناطة بالأندلس، ورحب به بنو الأحمر وتلقاه صديقه لسان الدين بن الخطيب، ووفد سفيراً إلى ملك قشتالة باشبيلية مقر أجداد ابن خلدون يفاوضه في مهادنة الغرناطيين ونجح في وفادته. ثم وقعت بينه وبين صديقه لسان الدين وحشة فرجع إلى المغرب ثم قام برحلة أخرى إلى الأندلس. وتجمعت في صدره خبرة واسعة نظرية وعملية إلى جانب علمه ولا سيما بالتاريخ وشؤون الدول والمجتمعات فآثر الاعتزال ولجأ إلى أصدقائه في قلعة ابن سلامة من أعمال بجاية وهي الآن في الجمهورية الجزائرية مفكراً ومتأملاً وأكب على كتابه مقدمته المشهورة التي هي الجزء الأول من "كتاب العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبرير ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر" وأنهاها في نحو خمسة أشهر وذلك في سنة 779ه‍= 1377م. وتدل كتابتها جملة واحدة على أن عناصرها كانت مكتملة في فكره. ثم جعل ينقحها في الحين تلو الحين، ويتم كتابة تاريخه.‏
بيد أن تناحر الدويلات والإمارات على الرئاسة وعلى كسب المنافع المادية والإشراف على طرق القوافل ومراكزها وكانت تعبر الصحراء الإفريقية وتيسر التجارة بين الشرق والغرب والجنوب والشمال وتحمل التوابل والحرير تارة والذهب تارة أخرى كل ذلك جعله يستشرف نحو آفاق جديدة بعدما تكاملت نظراته وبحوثه، ويستحب الهجرة إلى مصر إذ كانت أكثر البلاد العربية ازدهاراً. وقد سبقته شهرة مقدمته إليها. فاستقبل استقبالاً جيداً واتخذها مقاماً صالحاً بين علمائها ومدارسها وحدائقها، واتصل بالسلطان الظاهر برقوق أول ملوك المماليك الجراكسة وقام بتدريس الفقه المالكي في بعض مدارسها وولي في الحين بعد الحين قضاء المالكية. وأرسل إلى أسرته لتلحق به فغرقت في الطريق البحري. ولم يبرح مصر خلا حجة حجها إلى الحجاز غب غرق أهل بيته وزيارة قصيرة لبيت المقدس حتى هجوم تيمورلنك على بلاد الشام، إذ ذهب ملك مصر فرج بن برقوق لمحاربته واستصحب معه فئة من العلماء فيهم ابن خلدون العالم والسياسي والاجتماعي. ولكن الملك لم يلبث أن انكفأ مسرعاً إلى مصر لما بلغه نبأ مؤامرة تحاك عليه. فحاول بعض العلماء بدمشق تلافي الأمر ومفاوضة تيمور على الصلح فلم يتم لهم مرادهم. وكان منهم ابن خلدون الذي وصف في كتابه وهو تاريخ سيرته "التعريف بابن خلدون ورحلته غرباً وشرقاً" كيف تدلى من السور بالقرب من المدرسة العادلية لمفاوضة تيمور. فعرف هذا مكانته في العلم فأكرمه وأقام عنده نحو خمسة وثلاثين يوماً وعرض تيمور عليه مرافقته ولكن ابن خلدون اعتذر بلباقة، وآثر الرجوع إلى مقره بمصر.
.../...يتبع‏

dmd39
2010-03-25, 00:16
ومن الطريف أن الطاغية سمع أن ابن خلدون جاء على بغلة فارهة ففكر أن يستامها منه. وهذا يدل على أهمية المطايا أياً كان نوعها في الحروب وعلى اتجاه تفكير تيمور نحو ذلك. وقد يكون مسلياً أن ننقل حوار الاستيام هذا هنا.‏
كتب ابن خلدون: "ولما قرب سفره واعتزم على الرحيل عن الشام دخلت عليه ذات يوم. فلما قضينا المعتاد التفت إليّ وقال: عندك بغلة هنا؟ قلت: نعم.‏
قال: حسنة؟ قلت: نعم. قال: قال: وتبيعها؟ فأنا أشتريها منك. فقلت: أيدك الله! مثلي لا يبيع من مثلك إنما أنا أخدمك بها وبأمثالها ولو كانت لي. فقال: إنما أردت أن أكافئك عنها بالإحسان. فقلت: وهل بقي إحسان وراء ما أحسنت به؟‏
اصطنعتني، وأحللتني من مجلسك محل خواصك وقابلتني من الكرامة والخير بما أرجو الله أن يقابلك بمثله. وسكت وسكتُّ، وحُمِلَت البغلة، وأنا معه في المجلس إليه، ولم أرها بعد" (3).‏
وقد وصل ابن خلدون في إيابه إلى مصر سنة 803ه‍ ولكن تيمورلنك أرسل ثمن البغلة مع رسول كان قد أرسله سلطان مصر إلى الطاغية إجابة إلى الصلح.‏
ولكن ابن خلدون المتمرس بالسياسة خشي أن يقبل المال وأن يصل الخبر إلى السلطان فتظن به الظنون فلم يقبله إلا بعدما أخبر السلطان بذلك فأجازه ولكن المبلغ كان ناقصاً واعتذر حامله عن نقصه بأنه أعطيه كذلك. وحمد ابن خلدون الله على الخلاص. ومع كل ذلك فقد كتب ابن خلدون إلى ملك المغرب بقصة وفادته على تيمور إيضاحاً لموقفه منه‏
وهكذا يمكن توزيع حياة ابن خلدون على ثلاثة أطوار.‏
1-طور نشوء وتكوّن وثقافة وتأليف قضاه في تونس مدته 24 سنة.‏
2-طور نضال اجتماعي وسياسي وتأليف تنقل فيه بين تونس والجزائر والمغرب الأقصى والأندلس مدته 26 سنة.‏
3-طور أخير أقام فيه بالقاهرة ولكنه زار الحجاز والشام مدته 24 سنة شغل فيه بالتدريس والقضاء وتنقيح كتابة العبر.‏
وجملة الأطوار الثلاثة أربعة وسبعون عاماً.‏
وقد مر على تأليفه لمقدمته الشهيرة نحو ستمائة وخمس عشرة سنة. وبهذه المناسبة يجدر بي أن أبيِّن أن اللغة العربية ببيانها العلمي والأدبي قد تطورت تطوراً كبيراً على خلاف المظنون مع محافظتها على هويتها وأصالتها. بيد أن ألفاظاً كثيرة فقدت جملة من مواكب إيحاءاتها، فليست تقع في الذهن ولا في القلب مواقعها إذ ذاك في التأثير والإفادة في ميدان المعرفة. ولهذا ربما تفيد قراءة المقدمة أحياناً في ترجماتها الأجنبية للشعور بجدة التعابير التي اشتملت عليها زيادة على ضرورة قراءتها بالعربية أصلاً. نجد في المقدمة مثلاً لفظي التأنس والتوحش ونحن نقول اليوم بالتقريب التقدم والتأخر. كذلك ما يلحق بالمجتمع الإنساني من الأحوال والعوارض الذاتية واحدة بعد أخرى يريد المؤلف به شؤون التطور الذاتي وقوانينه وعلاقاته الذاتية. ثم اختلاف أحوالهم حسب حرفهم ومستويات معيشتهم. ولفظ التغلبات يريد به الحروب ونتائجها أحياناً وهكذا... ولهذا نرى إنعام النظر في نصوص مقدمته لدى قراءتها وتأملها على ضوء التعابير الحديثة دون تبرم بجفاف التعبير العلمي الواضح المبين الذي يلتزمه المؤلف في زمنه.‏
جرى العلماء العرب على غرار أرسطو فقرروا أن العلم ناشئ عن العجب وأن العجب يدعو إلى بيان السبب. ومن المعروف أن الفلاسفة وعلى رأسهم أرسطو تناولوا منذ القديم فكرة السبب وحاولوا إيضاحها. وقد صنف أرسطو الأسباب في أربعة أصناف. ولا بأس أن نذكر بهذه الأصناف.‏
1-سبب مادي وهو المادة المصنوع منها الشيء.‏
2-سبب شكلي أو صوري وهو الشكل الذي للشيء.‏
3-سبب فاعل وهو أصل الحركة والسكون الذي يهب للشيء شكله أو صورته.‏
4-سبب غائي أو لمائي أي الغاية التي صنع لها الشيء أو الهدف من الشيء.‏
وتعاقب الفلاسفة في تأمل فكرة السبب وتعريفها. ومن أشهرهم في هذا الشأن ستوارت ميل الذي عرف السبب بأنه "المتقدم الدائم اللاشرطي".‏
ومعنى ذلك أن السبب هو المتقدم وأن السبب هو التالي المتأخر. فالسبب أو العلة متقدم بالزمان على المسبب أو المعلول. ثم إن المتقدم لا يكون سبباً أو علة إذا كان تقدمه دائماً. ثم لا يكفي أن يكون المتقدم دائم التقدم بل يجب أن يكون تقدمه غير تابع لشرط آخر. فتتابع الليل والنهار مثلاً تتابع دائم ناشئ عن سبب آخر وهو دوران الأرض. فالليل ليس سبب النهار ولا النهار سبب الليل.‏
إن العلماء والفلاسفة حين يصلون إلى تعريفٍ ما للسبب يجرون عليه. حتى إذا وجدوا ظاهرة يخرج حدوثها عن حدود هذا التعريف اضطروا إلى تعديله أو توسعته. فلقد كانوا يعوّلون منذ حين على تعريف ستوارت ميل السالف.‏
ولكنهم عدلوه في العصر الحاضر واعتمدوا فكرة الاقتران أو التابع كما نقول في سورية أو الدالة كم يقال في مصر.‏

لنضرب مثلاً بسيطاً لبيان تصور الدالة أو التابع:‏
نقول مثلاً ع= جيب س.‏
في هذه العلاقة س متغير مستقل وع متغير تابع. وللاختصار نسميه تابعاً كما نسميه دالة لأنه يدلنا على تغير س.‏
ولكن يمكن أن نكتب: س= قوس جيبها ع.‏
وهكذا ينعكس الأمر: ع هنا المتغير المستقل وس هي المتغير التابع.‏
هذا هو معنى التابع الرياضي أو الدالة الرياضية أو الاقتران الرياضي. مثل هذا الاقتران موجود في الطبيعة.‏
لنأخذ كتلة معينة من الغاز يعرف حجمها وضغطها في درجة حرارة ثابتة.‏
يعطينا قانون بويل ماريوت هذه العلاقة الاقترانية:‏
ح × ض= ثا.‏
أي جداء حجم تلك الكتلة في ضغطها في درجة حرارة ثابتة ثابت.‏
نستطيع أن نكتب: ح= ثا/ ض‏
أي أن الضغط متغير مستقل والحجم متغير تابع. وبعبارة أخرى كل تغير في ضغط هذه الكتلة الغازية يستدعي تغيراً في حجمها، أي أن تغير الضغط سبب تغير الحجم.‏
ويمكن أيضاً أن نكتب: ض= ثا/ ح‏
ويكون هنا الضغط تابعاً للحجم أي أن تغير الحجم هو سبب تغير الضغط.‏
فالسبب انقلب مسبباً أو نتيجة والعلة معلولاً على خلاف ما قرره ستوارت ميل. وهكذا نفهم السببية على أنها تابعية أو داليّة أو اقتران. وما أحكم اللغة العربية حين جعلت من معاني السبب الحبل الذي قد يربط بين شيئين وجعلت منها الصلة والذريعة أي ما يتوصل به إلى غيره!.‏
فالظاهرة قد تسبق فتكون علة أو سبباً يترتب عليها نشوء ظاهرة أخرى هي المعلول أو النتيجة. وقد يتأخر السبب أو العلة فيصبح نتيجة ومسبباً وتصبح العلة معلولاً كما ظهر في كتابتنا علاقة بويل ماريوت على شكلين مختلفين. هذا إذا جرى تفاوت الحجم والضغط في درجة حرارة ثابتة. أما إذا تغيرت درجة الحرارة فثمة علاقة أخرى بسيطة تجمع المتغيرات الثلاثة وهي الحجم والضغط والحرارة. ولا حاجة للإفاضة في هذا الشأن لأن المراد هنا مجرد إيضاح فكرة السببية في فلسفة العلوم الحديثة أو الابستمولوجية وهي الاقتران والتأثير المتبادل.‏
إن ابن خلدون قد أدرك هذا الاقتران أو التفاعل بين الظواهر على شكل تابعية أو داليّة. فقد حلل المجتمع إلى متغيرات متعددة وبين تأثير بعضها على بعض ومدى هذا التأثير وعواقبه. وعرض ذلك كله في مقدمته المشهورة و هكذا نجد تلك المتغيرات في كتابه اللامع المبتكر تموج وتتفاعل تفاعلاً في الحوادث والأحوال التاريخية التي وعاها المؤلف في سياق التاريخ وفي الظواهر الاجتماعية التي شاهدها في عصره. فلقد بسط شؤون ذلك في المقدمة من متغير جغرافي ومتغير ديني ومتغير سياسي ومتغير اقتصادي ومتغير ديمغرافي ومتغير علمي ومتغير عملي أو صناعي وهلم جرا وتبيّن فعل كل متغير وأثره ونتائج هذا الأثر.‏
لنعرب عن ذلك الآن بتعبير رياضي فنقول:‏
أننا نسمي تلك المتغيرات المتفاوتة بحروف كما في الجبر على هذا الشكل.‏
(ا، ب، ح‍، د...).‏
نأخذ المتغير ا فندرس تغيره تبعاً لبقية المتغيرات:‏
(ا، ب، ح‍، د...).‏
ثم نأخذ ب فنكتب:‏
ب= تا (ا، ح‍، د...).‏
وهكذا‏
.../يتبـــــــــع

dmd39
2010-03-25, 00:18
كل متغير في الحياة الاجتماعية يؤثر ويتأثر ببقية المتغيرات التي تحتويها الحياة. ومن المعلوم أن هذه المتغيرات ليست متساوية في الأهمية والمكانة. بل بعضها أهم في بعض العصور من بعض. ولذلك يتناول المؤلف بعضها بشرح أوفي من بعضها الآخر وهو يدرك تمام الإدراك أن هذا النحو من التحليل سكوني أو تشريحي وأنه لا بد من التنبيه إلى الحركة الدائمة في الحياة الاجتماعية وإلى التطور وإلى تبدل تلك المتغيرات في سياق الزمان من حال إلى حال أي أن :‏
(ا، ب، ح‍، د...) تصبح بعد حين:‏
(اَ، بَ، حَ‍، دَ...) ثم:‏

(اً، بً، حً‍، دً...)‏

وهكذا الأمر. فالجانب التشريحي السكوني يلزم أن يضاف إليه الجانب التطوري (أو الدينامي بالتعبير الحديث)‏

وهو يكتب ملحاً على أهمية هذه الصيرورة الدائمة:‏
"وذلك أن أحوال العالم والأمم وعوائدهم ونحلهم لا تدوم على وتيرة واحدة ومنهاج مستقر؛ إنما هو اختلاف على الأيام والأزمنة وانتقال من حال إلى حال. وكما يكون ذلك في الأشخاص والأوقات والأمصار فكذلك يقع في الآفاق والأقطار والأزمنة والدول" (4). وهو يعلل ذلك تعليلاً يكاد يكون جدلياً إذ يعتمد على تضارب العادات وتفاوتها وتركيب المتضارب المتفاوت فيقول:‏
"والسبب الشائع في تبدل الأحوال والعوائد أن عوائد كل جيل تابعة لعوائد سلطانه كم يقال في الأمثال الحكمية: الناس على دين الملك. وأهل الملك والسلطان إذا استولوا على الدولة والأمر فلا بد من أن يفزعوا إلى عوائد من قبلهم ويأخذوا الكثير منها ولا يغفلوا عوائد جيلهم مع ذلك. فيقع في عوائد الدولة بعض المخالفة لعوائد الجيل الأول. فإذا جاءت دولة أخرى من بعدهم ومزجت من عوائدهم وعوائدها خالفت أيضاً بعض الشيء، وكانت للأولى أشد مخالفة. ثم لا يزال التدريج في المخالفة حتى ينتهي إلى المباينة بالجملة. فما دامت الأمم والأجيال تتعاقب في الملك والسلطان لا تزال المخالفة في العوائد والأحوال واقعة.‏
والقياس والمحاكاة للإنسان طبيعة معروفة"*.‏
هذا ما وجدناه أساسياً في طريقة ابن خلدون العلمية. ومن المعلوم أن المؤلف لم يجر على هذا الشكل من الإيضاح والتعبير الرياضي. ولكنا إذا تقصينا المتغيرات الاجتماعية المتفاوتة التي أوردها وتبينا اقتران بعضها ببعض وآثار بعضها في بعض تبينا عبقرية ابن خلدون وعمق نظراته ونفوذها واتساعها على غرار ما أوضحناه وعرفنا عندئذ سَبْقَه في هذا التحليل لكثيرين ممن أتوا بعده من العلماء جملة فاقتصروا في بحوثهم على متغير واحد من المتغيرات الاجتماعية أو على بعض المتغيرات دون هذا الشمول والنفوذ والموضوعية.‏
لقد كان ابن خلدون واعياً لاتساع الظواهر الاجتماعية واشتمالها على عديد من المتغيرات ولتشابكها ودخول بعضها في بعض. فهو لا يكاد يترك نوعاً من أنواعها إلا عرض له بالبحث والتفهم. وربما يكون من المفيد أن نلخص ما استطعنا هذه الأنواع التي جاءت في المقدمة.‏
لقد قسم مقدمته أي الجزء الأول من كتابه على ستة أبواب وقسم الباب إلى عدد من الفصول. وحاول أن يخصص كل باب من الأبواب بطائفة من الظواهر الاجتماعية ومتغيراتها. ولكنه في بعض الأحيان بسبب منهجه الذي أوضحناه لا بد من أن يتعقب المتغير ويتبين اشتباكه مع المتغيرات الأخرى وتأثير كل متغير في غيره تأثيراً متبادلاً. وهكذا تتداخل الفصول والأبواب بعضها مع بعض. ولكن المؤلف يضع لكل فصل عنواناً واضحاً وجلياً.‏

وهو في مقدمته كما سلف يبحث قضايا الدين والبيئة الجغرافية ومراحل العمران ونظم الحكم وشؤون السياسة والظواهر الاقتصادية وما يتعلق بها من صناعات والأمور الديمغرافية والعلوم وأصنافها والتعليم وطرقه والتربية وأصولها والأمور النفسية والقضاء والأخلاق وتذوق الفن في الصناعات واللغة والأدب والشعر وما يتفرع عنها وما ينضوي في كل نوع من الأنواع التي أثبتناها. وقد عني في جميع ما عالجه من تلك المجموعات بأن ينظر إليها من كلا الجانبين التوازني أو السكوني أو التشريحي والتطوري أي الدينامي كما أوضحنا آنفاً.‏

إن عرضه هذا يبدو متفاوتاً في الإسهاب والإيجاز لأنه يتعلق بطبيعة الموضوع وأهميته. ولا شك في أن المتغيرات السياسية والاقتصادية ونظم الحكم والشؤون العلمية والتربوية أبرز في كتابه من غيرها لمكانتها في الحياة الاجتماعية.‏



وبسبب هذه الاستفاضة في أنواع المتغيرات الاجتماعية وتداخلها لا نستطيع أن نعرض لجملة ما جاء في هذه المقدمة البليغة التي هي من أبرز معالم الفكر الاجتماعي. ولكن مع ذلك لا بد من عرض متغير اجتماعي أو ظاهرة اجتماعية‏

من تلك المتغيرات والظواهر وبيان مهارة ابن خلدون في معالجتها وسَبْقه إلى إيضاحها واشتباكها مع غيرها ونفوذه العميق إلى طبيعتها وتفهم كنهها.‏

لقد عالج الأستاذ ايف لاكوست معالجة طيبة في كتابه عن ابن خلدون جوانب عدة على حد بنية المجتمع المغربي العربي وعلاقة هذه البنية بالعصبية القبلية على حد تعبير ابن خلدون وبأثرها في إنشاء الدولة إذ ذاك وبالطرق التجارية التي كانت تسلك أواسط إفريقية إلى شماليها وكذلك أوضح تبادل السلع التجارية ولا سيما الذهب بين الجنوب والشمال والشرق والغرب وهذه أمور مهمة كما عالج أموراً أخرى ذات شأن.‏

نحن نعالج هنا ظاهرة خاصة بدت أهميتها في العصر الحديث وهي ظاهرة السكان أو المتغير الديمغرافي لإيضاح طريقة ابن خلدون في المعالجة ولإبراز جوانب مهمة في هذا المتغير وأثره المتبادل مع غيره. وذلك أن الديمغرافية تدخل في أعمق اختصاصاتنا.‏
عدد السكان متغير مستقل. يزداد فيرتبط به إذ ذاك جملة عوامل. فهذه متغيرات توابع. من هذه التوابع كثرة الأعمال وتنوعها وسعة الرزق ونفاق الأسواق ورفاهية الناس وازدهار التجارة وتقدم الصناعة وحصول الابتكار فيها.‏

يعقد ابن خلدون فصلاً "في أن تفاضل الأمصار والمدن في كثرة الرفه لأهلها ونفاق الأسواق إنما هو في تفاضل عمرانها في الكثرة والقلة". وينبغي أن نفهم من لفظ العمران هنا كثرة السكان. ولا بد من إيراد شطر طويل من هذا الفصل.‏
يقول المؤلف ببساطة ويسر: "والسبب في ذلك أنه قد عرف وثبت أن الواحد من البشر غير مستقل بتحصيل حاجاته في معاشه، وأنهم متعاونون جميعاً في عمرانهم على ذلك والحاجة التي تحصل بتعاون طائفة منهم تسد ضرورة الأكثر منهم عدداً أضعافاً. فالقوت من الحنطة مثلاًُ لا يستقل الواحد بتحصيل حصته منه.‏
وإذا انتدب لتحصيله الستة أو العشرة من حداد ونجار للآلات وقائم على البقر وإثارة الأرض وحصاد السنبل وسائر مؤن الفلح وتوزعوا على تلك الأعمال واجتمعوا وحصل بعملهم ذلك مقدار من القوت فإنه حينئذ قوت لأضعافهم مرات.‏
فالأعمال بعد الاجتماع زائدة على حاجات العاملين وضروراتهم. فأهل مدينة أو مصر إذا وزعت أعمالهم كلها على مقدار ضروراتهم وحاجاتهم اكتفي فيها بالأقل من تلك الأعمال، وبقيت الأعمال كلها زائدة على الضرورات، فتصر ف في حالات الترف وعوائده وما يحتاج إليه غيرهم من أهل الأمصار ويستجلبونه منهم بأعواضه وقيمه، فيكون لهم بذلك حظ من الغنى. وقد تبين... أن المكاسب إنما هي قيم الأعمال. فإذا كثرت الأعمال كثرت قيمها بينهم، فكثرت مكاسبهم ضرورة، ودعتهم أحوال الرفه والغنى إلى الترف وحاجاته من التأنق في المساكن والملابس واستجادة الآنية والماعون واتخاذ الخدم والمراكب. وهذه كلها تُستدعى بقيمها ويختار المهرة في صناعتها والقيام عليها. فتنفق أسواق الأعمال والصنائع ويكثر دخل المصر وخرجه، ويحصل اليسار لمنتحلي ذلك من قِبَل أعمالهم. ومتى زاد العمران زادت الأعمال ثانية، ثم زاد الترف تابعاً للكسب وزادت عوائده وحاجاته، واستنبطت الصنائع لتحصيلها فزادت قيمها، وتضاعف الكسب في المدينة لذلك ثانية ونفقت سوق الأعمال بها أكثر من الأول، وكذا في الزيادة الثانية والثالثة، لأن الأعمال الزائدة كلها تختص بالترف والغنى بخلاف الأعمال الأصلية التي تختص بالمعاش. فالمصر إذا فضل بعمران واحد ففضله بزيادة كسب ورفه وبعوائد من الترف لا توجد في الآخر. فما كان عمرانه من الأمصار أكثر وأوفر كان حال أهله في الترف أبلغ من حال المصر الذي دونه على وتيرة واحدة في الأصناف: القاضي مع القاضي والتاجر مع التاجر والصانع مع الصانع والسوقي مع السوقي والأمير مع الأمير والشرطي مع الشرطي" (5).‏
ويترتب على هذا تكافؤ الدخل والخرج في حال كل بلد. يقول المؤلف: "وأما حال الدخل والخرج فمتكافئ في جميع الأمصار. ومتى عظم الدخل عظم الخرج.‏
وبالعكس. ومتى عظم الدخل والخرج اتسعت أحوال الساكن ووسع المصر. كل شيء يبلغك من مثل هذا فلا تنكره واعتبره بكثرة العمران وما يكون عنه من كثرة المكاسب التي يسهل بسببها البذل والإيثار على مبتغيه" (6).‏
لقد ذكرنا قسماً طويلاً من هذا الفصل لأهميته في الديمغرافية الاقتصادية إذ يوضح العلاقة التي تربط السكان وأعمالهم ومكاسبهم بالاقتصاد في المصر الواحد.‏
والأقطار على مثال الأمصار في التقدم والتأخر بسبب اتساع العمران أو ضيقه، وازدياد السكان أو تخلخلهم. فهو يعقد فصلاً آخر "في أن الأقطار في اختلاف أحوالها بالرفه والفقر مثل الأمصار" فيكتب: "إن ما توافر عمرانه من الأقطار وتعددت الأمم في جهاته وكثر ساكنه اتسعت أحوال أهله وكثرت أموالهم وأمصارهم وعظمت دولهم وممالكهم. والسبب في ذلك ما ذكرناه من كثرة الأعمال وما يأتي ذكره من أنها سبب للثروة بما يفضل عنها بعد الوفاء بالضروريات في حاجات الساكن من الفضلة البالغة على مقدار العمران وكثرته فيعود على الناس كسباً يتأثلونه." (7) ويورد أمثلة على ذلك لعهده فيقول: "واعتبر ذلك بأقطار المشرق مثل مصر والشام وعراق العجم والهند والصين وناحية الشمال كلها وأقطارها وراء البحر الرومي (البحر المتوسط) كما كثر عمرانها كيف كثر المال فيهم وعظمت دولتهم وتعددت مدنهم وحواضرهم وعظمت متاجرهم وأحوالهم... واعتبر حال هذا الرفه من العمران في قطر إفريقية وبرقة (تونس وليبيا) لما خف ساكنها وتناقص عمرانها كيف تلاشت أحوال أهلها وانتهوا إلى الفقر والخصاصة وضعفت جباياتها فقلّت أموال دولها." (8)‏
ولا يغيب عن بال ابن خلدون تفاوت أسعار المدن في الضروري والكمالي بتفاوت اتساعها. "فإذا استبحر المصر وكثر ساكنه رخصت أسعار الضروري من القوت وما في معناه، وغلت أسعار الكمالي من الأُدْم والفواكه وما يتبعها. وإذا قل ساكن المصر وضعف عمرانه كان الأمر بالعكس" (9).‏

وتعليل ذلك أن الدواعي تتوافر على اتخاذ الضروري في الأمصار الواسعة وعلى تأمينه للحاجة الملحة إليه، فيفضل وفرمنه وترخص أسعاره، على حين أن الكمالي فيها يشتد الطلب عليه فيقصر الموجود منه عن الحاجات قصوراً بالغاً ويكثر المستامون له وهو قليل في ذاته نسبياً فيقع فيه الغلاء.‏
وعلى خلاف ذلك "الأمصار الصغيرة والقليلة الساكن. فأقواتهم قليلة لقلة العمل فيها. وما يتوقعونه لصغر مصرهم من عدم القوت فيتمسكون بما يحصل منه في أيديهم ويحتكرونه، فيغزّ وجوده لديهم ويغلو ثمنه على مستامه. وأما مرافقهم فلا تدعو إليها أيضاً حاجة لقلة الساكن وضَعْفِ الأحوال، فلا تنفق لديهم سوقه فيختصّ بالرخص في سعره." (10)‏
وهذا الوصف صحيح في اقتصاد السوق الحرة وفي الوقت الذي كان كل مصر يسعى نسبياً نحو اكتفائه الذاتي. ومن المناسب أن نوضح هنا ما يراه ابن خلدون من وراء ذلك في "حقيقة الرزق والكسب". وهذا ما يقربه من نظرية ماركس في العمل والقيمة. فهو يرى أن الكسب هو قيمة الأعمال البشرية وأن "ما يفيده الإنسان ويقتنيه من المتمولات إن كان من الصنائع فالمفاد المقتنى منه قيمة عمله، وهو القصد بالقنية، إذ ليس هنالك إلا العمل." وعلى هذا فإن "المفادات والمكتسبات كلَّها أو أكثرها إنما هي قيم الأعمال الإنسانية." (11)‏

ولا يغفل ابن خلدون دخول الضرائب في قيمة السلع فيقول: "وقد يدخل أيضاً في قيمة الأقوات ما يفرض عليها من المكوس والمغارم للسلطان في الأسواق وأبواب المصر وللجباة في منافع يفرضونها على البياعات لأنفسهم." (12).‏

.../يتبع

halimhard
2010-03-30, 02:11
بارك الله فيك

بارك الله فيك

بارك الله فيك

بارك الله فيك

بارك الله فيك

بارك الله فيك

dmd39
2010-04-03, 23:15
شكراااااااا
وفيك بارك