المعزلدين الله
2010-03-24, 03:50
ساسة 'اسرائيل' يحفرون قبر كيانهم
د. سعيد الشهابي
3/24/2010
http://www.alquds.co.uk/today/23qpt79.jpg
اذا كان ظهور 'اسرائيل' مرتبطا بشكل او آخر بصعود المارد الغربي بعد الحرب العالمية الثانية سياسيا واقتصاديا (خصوصا القسم الامريكي من ذلك الغرب) فان تلاشي حظوظها مرتبط، هو الآخر، بتداعي حظوظ ذلك المارد.
وبرغم ما حققه الكيان الاسرائيلي من تقدم خلال العقود الستة الماضية فانه لن يستطيع الصمود بدون الدعم الغربي خصوصا مع استمرار روح المقاومة في صفوف ابناء الوطن الفلسطيني والرفض العربي - الاسلامي لذلك الوجود. ويمكن القول ان كلا من الغرب و'اسرائيل' يعاني اليوم من تداع بنيوي وسياسي واقتصادي من شأنه ان يؤدي الى تصدع الجبهة التي أصرت على تركيز دعائم الاحتلال طوال الفترة السابقة، وهو تطور نوعي في التوازن الاستراتيجي الذي كان مائلا لصالح الكيان الاسرائيلي. فخلال العقود الماضية كانت المقولة الاساسية لتبرير الدعم الغربي للكيان الصهيوني انه يمثل خط الدفاع الاول عن المصالح الغربية في منطقة تعتبر غير صديقة للغرب. وبغض النظر عن صحتها من عدمه، فقد كان لغياب (او تغييب) وعي الشعوب الغربية بحقيقة ما يجري في فلسطين، وطبيعة الاطماع والسياسات الصهيونية، اثره في تمرير مثل تلك المقولات التي توارثتها الحكومات المتعاقبة في اغلب البلدان الغربية خصوصا في الولايات المتحدة الامريكية. ويمكن القول ان تلك المقولة بدأت تتصدع تدريجيا. وربما من السابق لاوانه التنبؤ بحجم التصدع وما اذا كان سيصل الى الجذور والاسس التي تشكلت عليها الاستراتيجية الغربية، ولكن ثمة مؤشرات تزداد وضوحا بان تغيرات كبيرة في السياسات والامزجة والعلاقات بدأت تفرض نفسها على الواقع السياسي في ما يخص العلاقة الاستراتيجية بين الغرب و'اسرائيل'.
لقد حل التشاؤم مكان التفاؤل في النفسية العربية والاسلامية في الشهور الاخيرة، بعد ان اتضح عجز الرئيس باراك اوباما عن اتخاذ قرارات مختلفة ازاء الكيان الاسرائيلي، ولكن الديناميكية السياسية في المنطقة، من شأنها ان تدفع واشنطن نحو سياسات مختلفة عما كانت عليه. وليس مستبعدا ان تؤدي هذه الديناميكية الى حدوث تغيرات استراتيجية في التحالف الغربي - الاسرائيلي. وتشير وقائع التاريخ منذ 1948 الى وجود حالات من الصعود والهبوط في العلاقات الامريكية - الاسرائيلية، نتيجة السياسات والتطورات الميدانية. فبينما كانت الولايات المتحدة الدولة الاولى التي اعترفت بقيام الكيان الاسرائيلي، فان واشنطن هي التي تدخلت بقوة في 1956 لانهاء آثار العدوان الثلاثي على مصر، وطالبت القوات البريطانية والفرنسية والاسرائيلية بالانسحاب من منطقة القناة على الفور. وكان التورط البريطاني في ذلك العدوان واحدا من اهم عوامل سقوط الامبراطورية البريطانية. واذا كانت واشنطن هي التي اقامت جسرا جويا لنقل الاسلحة والمعدات لـ 'اسرائيل' خلال حرب اكتوبر 1973، فانها هي التي اتخذت اجراء قويا في 1987 ضد احد مواطنيها، جوناثان بولارد، عندما تأكد انه كان يتجسس على بلاده لصالح الكيان الاسرائيلي. مشكلة الاسرائيليين شعورهم بالثقة المفرطة بالنفس الى حد الطغيان والاستبداد في الموقف. ولذلك يصعب على اية قوة غربية الاستمرار في تقديم الدعم غير المحدود زمانا ومكانا لهم. فقد كان الاعتداء الاسرائيلي في 1967 على الفرقاطة الامريكية 'ليبرتي' ومقتل اكثر من 90 من جنودها نقطة سوداء في العلاقات بينهما، دفع واشنطن للاصرار على قيام 'اسرائيل' بدفع تعويضات لضحايا العدوان. وثمة امثلة عديدة تشير الى امكان تغير المزاج الامريكي تجاه الكيان الاسرائيلي. وهناك الآن ضغوط شبه رسمية على اهم واجهات الضغط الصهيونية في الولايات المتحدة لتسجيل نفسها رسميا كـ 'وكيل اجنبي اسرائيلي'، وهو تطور مهم سوف يزعج الاسرائيليين كثيرا. فقد وجه طلب بشكل رسمي لوزارة العدل الامريكية لتنظيم عمل 'لجنة الشؤون العامة الاسرائيلية الامريكية AIPAC'****ل اجنبي لـ 'اسرائيل' لاسباب عديدة اوضحتها مذكرة الطلب المشار اليه. ومن بين تلك الاسباب ان هذه المؤسسة قامت كبديل لـ 'المجلس الصهيوني الامريكي' الذي طلب منه في تشرين الثاني/نوفمبر 1962 تسجيل نفسه كذلك. وكان اثنان من موظفي تلك اللجنة قد ادينا بتوزيع وثائق سرية تم تسريبها من وزارة الدفاع الامريكية بهدف الضغط على الولايات المتحدة لضرب ايران. هذه المنظمة عقدت هذا الاسبوع مؤتمرها السنوي الذي تحدثت فيه وزيرة الخارجية الامريكية وقالت ان امريكا مستمرة في الصراحة مع 'اسرائيل' الى جانب التزام ادارة اوباما بحمايتها.
في الأوان الاخير ظهرت للمرة الاولى تساؤلات جدية خصوصا في اوساط القادة العسكريين الامريكيين حول مدى واقعية الفرضية القائلة بان 'اسرائيل' تحمي المصالح الغربية خصوصا الامريكية في الشرق الاوسط. هذه الفرضية هي الاساس القوي للاستراتيجية الغربية التي تتبنى الدعم المطلق للكيان الاسرائيلي، وضمان تفوقه العسكري على الدول العربية. ويعتبر التشكيك في مدى فائدة 'اسرائيل' لضمان المصالح الغربية، تطورا نوعيا من شأنه، فيما لو تم تدعيمه بعمل سياسي واعلامي عربي واسلامي، يمكن ان يحدث اختراقا نوعيا في تلك الاستراتيجية. ويمكن اعتبار نقطة التحول في التفكير الاستراتيجي الغربي منبثقة عن ظروف الحرب التي شنتها قوات التحالف ضد القوات العراقية التي اجتاحت الكويت في الفترة 1990 - 1991. فقد كان رد فعل الجماهير العربية الرافض لتلك الحرب عاملا جوهريا لمنع 'اسرائيل' من التدخل في تلك الحرب. وحتى عندما اطلقت القوات العراقية بعض الصواريخ ضد الكيان الاسرائيلي، طلب الامريكيون من الاسرائيليين عدم الرد، وقاموا بتنصيب شبكة متطورة من صواريخ 'باتريوت' في الاراضي المحتلة لاعتراض الصواريخ العراقية. منذ تلك اللحظة بدأ العد التنازلي لما كان هناك من 'أهمية' استراتيجية مزعومة للكيان الاسرائيلي كحام للمصالح الغربية في المنطقة، اذ اصبح في نظر الساسة الغربيين 'عبئا' عليهم وعلى سياساتهم، وكان التدخل الاسرائيلي سيفشل مشروع الحرب وما يتلوه من تسويات سياسية نظرا لحساسية العرب والمسلمين تجاه اي تدخل عسكري اسرائيلي. هذا التفكير تعمق تدريجيا مع التطورات اللاحقة. فكان صدور تقرير الامم المتحدة حول مجزرة 'قانا' التي ارتكبها الاسرائيليون خلال عدوانهم على لبنان في نيسان/ابريل 1996، محرجا للدول الغربية، وان كانت الولايات المتحدة قد استعملت حق النقض 'الفيتو' لمنع صدور قرار دولي عن مجلس الامن يدين تلك المجزرة. فلا شك ان ادارتي بيل كلينتون، وجورج بوش كانتا واقعتين تحت تأثير اللوبي الصهيوني الذي منع الساسة الامريكيين من مراجعة سياساتهم ومدى انسجامها فعلا مع المصالح القومية الامريكية. ولكن الديناميكية السياسية المرتبطة بالشرق الاوسط عامل مهم في احداث التغيرات التي تبدو مستحيلة احيانا. فالتداخلات السياسية تعقدت بدرجة جعلت المصالح الغربية معرضة لتهديدات اكبر بسبب التلازم الاستراتيجي الذي يصر عليه بعض الساسة بين الغرب و'اسرائيل'. واتضح الآن، بشكل واضح، ان الجنود الامريكيين يدفعون ثمنا باهظا لدعم حكوماتهم للكيان الاسرائيلي الذي لم يتردد في احراجها مرارا.
في الاسبوع الماضي، وقف الجنرال ديفيد بترايوس، امام لجنة القوات المسلحة بمجلس الشيوخ الامريكي ليقول: 'ان العداء بين اسرائيل وبعض جيرانها يطرح تحديات متميزة لقدرتنا على الدفاع عن مصالحنا في المنطقة' مضيفا: 'ان الغضب العربي حول المسألة الفلسطينية تحدد قوة شراكة الولايات المتحدة وعمقها مع حكومات المنطقة وشعوبها'. جاءت هذه الافادات في ضوء التوتر الذي شاب العلاقات بين واشنطن وتل ابيب حول بناء المستوطنات. فقد جاء الاعلان الاسرائيلي عن وجود خطة لبناء 1600 وحدة سكنية في القدس وعدد آخر في الضفة الغربية ليحرج نائب الرئيس الامريكي، جو بايدن، الذي كان في زيارة رسمية للكيان الاسرائيلي. بينما قال ديفي أكسيلرود، المستشار السياسي الرئيسي للرئيس اوباما بان الاعلان عن بناء المستوطنات يهدف لاجهاض المحادثات غير المباشرة مع الفلسطينيين'.هذا الشعور الرسمي الامريكي يقابله شعور ليس خاصا بالعرب والمسلمين بل هو مختزن لدى غيرهم كذلك بالاستغراب من استمرار الهيمنة الاسرائيلية على القرار الامريكي. ومن هؤلاء السيد كريستوفر مايور، السفير البريطاني في واشنطن، الذي قال في مقابلة تلفزيونية مؤخرا ان التأثير الاسرائيلي على الحكومات الامريكية اكبر كثيرا من اية دولة اخرى'. المشكلة ان الولايات المتحدة هي التي تقود المشروع السياسي الغربي تجاه العالم خصوصا الشرق الاوسط، ولذلك يجد الغربيون انفسهم في موقف صعب وهم يتلمسون طريقهم نحو حل القضية الفلسطينية. مع ذلك يمكن الادعاء بان الاسرائيليين انفسهم بدأوا يقلقون من اتجاهات الرأي العام الغربي تجاههم. ففي السنوات الاخيرة تراجعت حظوظهم في اوروبا، حيث تصاعد ما يسمى 'المشاعر المعادية للسامية' في اغلب بلدان اوروبا، خصوصا بعد حربي تموز/يوليو 2006 ضد لبنان والعدوان على غزة مطلع العام الماضي. فهناك شعور يتوسع باضطراد ضد السياسات الاستعمارية والعدوانية في دول العالم الثالث، لا سيما في الاوضاع الاقتصادية المتردية التي تعصف بالولايات المتحدة وبريطانيا بشكل خاص.
وثمة شعور آخر بان الكيان الاسرائيلي نفسه يعيش ازمات على اصعدة شتى: الموقف ازاء الفلسطينيين ومشروع الدولتين الذي تلاشت حظوظ نجاحه تدريجيا لاسباب شتى من بينها التعنت الاسرائيلي، صعود التطرف اليميني الى الحكم، الشعور بالاحباط الذي انتشر في نفوس الكثيرين بعد الاداء العسكري الضعيف في الحربين الاخيرتين، حالة الصراع الداخلي بين مكونات الكيان الصهيوني، سياسيا وثقافيا، وشعور اليهود الشرقيين بوجود حالة تمييز واسعة ضدهم. يضاف الى ذلك توسع دائرة السخط السياسي في الاوساط الكنسية كردة فعل لسياسات الحكومة الحالية التي تستهدف المقدسات الاسلامية والمسيحية بشكل منهجي. وبرغم محاولات التصالح مع الفاتيكان حول قضايا التاريخ والانتماء الديني، لا تبدو آثار ذلك التصالح واضحة، بل ربما استبدل التصالح بالمزيد من الازمات وتوتر العلاقات. وتعمقت حالة الاحباط بعد الفشل الذريع الذي صاحب الجريمة التي اقترفها الاسرائيليون باغتيال الفلسطيني محمود المبحوح في دبي. صحيح ان الضحية المستهدف لم يفلت من الجريمة، ولكن تبعاتها خطيرة، حتى يكاد الفتق يستعصي على الراقع. فقد توترت العلاقات مع عدد من الدول الغربية خصوصا بريطانيا والمانيا وفرنسا وكندا، بسبب استعمال جوازات سفر هذه الدول في تنفيذ الجريمة التي شجبتها الامم المتحدة واثارت حفيظة المسؤولين في دولة الامارات العربية. وثمة تساؤلات داخل الكيان الاسرائيلي: هل الثمن السياسي الذي دفعته 'اسرائيل' يعادل النتيجة؟ ألم يكن بالامكان تحقيق الاغتيال بثمن أقل؟ فها هي بريطانيا تطرد دبلوماسيا اسرائيليا بعد ان مارس 'عملية استنساخ' للجوازات البريطانية التي استعملت في جريمة الاغتيال، فما النجاح الذي حققه الصهاينة؟ وكان بالامكان تنفيذ عملية الاغتيال بطرق أقل تعقيدا وبأثمان سياسية أوطأ تكلفة. وبالمقاييس المعتادة لا يمكن اعتبار عملية الاغتيال ناجحة، الا اذا استطاع منفذوها اخفاء آثارهم تماما.
لقد تمادى الاسرائيليون في استفزازاتهم ليس للفلسطينيين فحسب، بل لاصدقائهم كذلك. فبينما كان نتنياهو في طريقه لمقابلة الرئيس الامريكي في واشنطن، كان عمدة القدس، نير بركات، يعلن عن مشروع استيطاني جديد تحت اسم' حدائق الملك' في حي سلوان بالقدس الشرقية، على انقاض 80 منزلا فلسطينيا يزمع هدمها. انه تحد كبير لادارة اوباما، ومؤشر لمدى استعداد واشنطن لاتخاذ سياسات جديدة تحتوي الغطرسة الصهيونية المتصاعدة. فليس المقصود منها تسجيل موقف سياسي تفاوضي، بل فرض امر واقع يفرض نفسه على الآخرين، سواء الفلسطينيين ام الامريكيين. انها محاولة اخرى لتخفيف آثار الهزيمة النفسية للمستوطن الاسرائيلي التي تعمق مشاعر الاحباط واليأس في مجتمع ما يزال يبجث عن هوية وشرعية. بعض المحللين الغربيين يعزو ذلك للشعور المفرط بالعظمة والقوة بعيدا عن ادوات التقييم الواقعية والموضوعية. البعض الآخر يعتقد ان اعادة قراءة التجربة السياسية الواسعة من شأنه ان يوفر على المعنيين جهودا كبيرة تضيع في غير طائل. وستظل 'اسرائيل' تعاني من ازمتي الانتماء والهوية، وغير قادرة على تثببيت حدود كيانها السياسي، الامر الذي يحمل في ذاته استمرار الازمة وتصاعد العنف، والصراع ضد قيم الانسانية. الامر المؤكد ان 'اسرائيل' اليوم ليست كما كانت عليه في السابق، وان ضحايا العدوان اصبحوا اكثر من ان تحصيهم الارقام او تصمت على الجرائم بحقهم ضمائر الاحرار. الصهاينة يشعرون انفسهم في سباق مع الزمن لتثبيت امر واقع يستعصي على التغيير، ويتجاهلون ان الزمن قد تجاوزهم، وربما بلغت حركته نقطة اللاعودة ضد مشروعهم الاستيطاني التوسعي. اما واشنطن فهي في وضع لا تحسد عليه، بين ان تحمي مصالحها وجنودها بمفاصلة مع الكيان الاسرائيلي، او تستنهض التاريخ الحديث لتسير على خطى الرؤساء الذين كانوا متصهينين اكثر من الصهاينة. انه صراع ليس للحفاظ على مصالح 'اسرائيل' بل حماية المصالح الامريكية التي تدفع فواتير الاجرام الصهيوني الذي لا يتوقف. لقد فشل الساسة المدنيون في واشنطن، بينما أدرك العسكريون ان جنودهم يدفعون تلك الفواتير في افغانستان والعراق وفي البؤر الساخنة الاخرى، وبدأوا يرسمون خطوطا حمراء بين مصالحهم القومية والمصالح الاسرائيلية، وهو ما لم يدركه ساسة البيت الابيض بعد.
' كاتب وصحافي بحريني يقيم في لندن
د. سعيد الشهابي
3/24/2010
http://www.alquds.co.uk/today/23qpt79.jpg
اذا كان ظهور 'اسرائيل' مرتبطا بشكل او آخر بصعود المارد الغربي بعد الحرب العالمية الثانية سياسيا واقتصاديا (خصوصا القسم الامريكي من ذلك الغرب) فان تلاشي حظوظها مرتبط، هو الآخر، بتداعي حظوظ ذلك المارد.
وبرغم ما حققه الكيان الاسرائيلي من تقدم خلال العقود الستة الماضية فانه لن يستطيع الصمود بدون الدعم الغربي خصوصا مع استمرار روح المقاومة في صفوف ابناء الوطن الفلسطيني والرفض العربي - الاسلامي لذلك الوجود. ويمكن القول ان كلا من الغرب و'اسرائيل' يعاني اليوم من تداع بنيوي وسياسي واقتصادي من شأنه ان يؤدي الى تصدع الجبهة التي أصرت على تركيز دعائم الاحتلال طوال الفترة السابقة، وهو تطور نوعي في التوازن الاستراتيجي الذي كان مائلا لصالح الكيان الاسرائيلي. فخلال العقود الماضية كانت المقولة الاساسية لتبرير الدعم الغربي للكيان الصهيوني انه يمثل خط الدفاع الاول عن المصالح الغربية في منطقة تعتبر غير صديقة للغرب. وبغض النظر عن صحتها من عدمه، فقد كان لغياب (او تغييب) وعي الشعوب الغربية بحقيقة ما يجري في فلسطين، وطبيعة الاطماع والسياسات الصهيونية، اثره في تمرير مثل تلك المقولات التي توارثتها الحكومات المتعاقبة في اغلب البلدان الغربية خصوصا في الولايات المتحدة الامريكية. ويمكن القول ان تلك المقولة بدأت تتصدع تدريجيا. وربما من السابق لاوانه التنبؤ بحجم التصدع وما اذا كان سيصل الى الجذور والاسس التي تشكلت عليها الاستراتيجية الغربية، ولكن ثمة مؤشرات تزداد وضوحا بان تغيرات كبيرة في السياسات والامزجة والعلاقات بدأت تفرض نفسها على الواقع السياسي في ما يخص العلاقة الاستراتيجية بين الغرب و'اسرائيل'.
لقد حل التشاؤم مكان التفاؤل في النفسية العربية والاسلامية في الشهور الاخيرة، بعد ان اتضح عجز الرئيس باراك اوباما عن اتخاذ قرارات مختلفة ازاء الكيان الاسرائيلي، ولكن الديناميكية السياسية في المنطقة، من شأنها ان تدفع واشنطن نحو سياسات مختلفة عما كانت عليه. وليس مستبعدا ان تؤدي هذه الديناميكية الى حدوث تغيرات استراتيجية في التحالف الغربي - الاسرائيلي. وتشير وقائع التاريخ منذ 1948 الى وجود حالات من الصعود والهبوط في العلاقات الامريكية - الاسرائيلية، نتيجة السياسات والتطورات الميدانية. فبينما كانت الولايات المتحدة الدولة الاولى التي اعترفت بقيام الكيان الاسرائيلي، فان واشنطن هي التي تدخلت بقوة في 1956 لانهاء آثار العدوان الثلاثي على مصر، وطالبت القوات البريطانية والفرنسية والاسرائيلية بالانسحاب من منطقة القناة على الفور. وكان التورط البريطاني في ذلك العدوان واحدا من اهم عوامل سقوط الامبراطورية البريطانية. واذا كانت واشنطن هي التي اقامت جسرا جويا لنقل الاسلحة والمعدات لـ 'اسرائيل' خلال حرب اكتوبر 1973، فانها هي التي اتخذت اجراء قويا في 1987 ضد احد مواطنيها، جوناثان بولارد، عندما تأكد انه كان يتجسس على بلاده لصالح الكيان الاسرائيلي. مشكلة الاسرائيليين شعورهم بالثقة المفرطة بالنفس الى حد الطغيان والاستبداد في الموقف. ولذلك يصعب على اية قوة غربية الاستمرار في تقديم الدعم غير المحدود زمانا ومكانا لهم. فقد كان الاعتداء الاسرائيلي في 1967 على الفرقاطة الامريكية 'ليبرتي' ومقتل اكثر من 90 من جنودها نقطة سوداء في العلاقات بينهما، دفع واشنطن للاصرار على قيام 'اسرائيل' بدفع تعويضات لضحايا العدوان. وثمة امثلة عديدة تشير الى امكان تغير المزاج الامريكي تجاه الكيان الاسرائيلي. وهناك الآن ضغوط شبه رسمية على اهم واجهات الضغط الصهيونية في الولايات المتحدة لتسجيل نفسها رسميا كـ 'وكيل اجنبي اسرائيلي'، وهو تطور مهم سوف يزعج الاسرائيليين كثيرا. فقد وجه طلب بشكل رسمي لوزارة العدل الامريكية لتنظيم عمل 'لجنة الشؤون العامة الاسرائيلية الامريكية AIPAC'****ل اجنبي لـ 'اسرائيل' لاسباب عديدة اوضحتها مذكرة الطلب المشار اليه. ومن بين تلك الاسباب ان هذه المؤسسة قامت كبديل لـ 'المجلس الصهيوني الامريكي' الذي طلب منه في تشرين الثاني/نوفمبر 1962 تسجيل نفسه كذلك. وكان اثنان من موظفي تلك اللجنة قد ادينا بتوزيع وثائق سرية تم تسريبها من وزارة الدفاع الامريكية بهدف الضغط على الولايات المتحدة لضرب ايران. هذه المنظمة عقدت هذا الاسبوع مؤتمرها السنوي الذي تحدثت فيه وزيرة الخارجية الامريكية وقالت ان امريكا مستمرة في الصراحة مع 'اسرائيل' الى جانب التزام ادارة اوباما بحمايتها.
في الأوان الاخير ظهرت للمرة الاولى تساؤلات جدية خصوصا في اوساط القادة العسكريين الامريكيين حول مدى واقعية الفرضية القائلة بان 'اسرائيل' تحمي المصالح الغربية خصوصا الامريكية في الشرق الاوسط. هذه الفرضية هي الاساس القوي للاستراتيجية الغربية التي تتبنى الدعم المطلق للكيان الاسرائيلي، وضمان تفوقه العسكري على الدول العربية. ويعتبر التشكيك في مدى فائدة 'اسرائيل' لضمان المصالح الغربية، تطورا نوعيا من شأنه، فيما لو تم تدعيمه بعمل سياسي واعلامي عربي واسلامي، يمكن ان يحدث اختراقا نوعيا في تلك الاستراتيجية. ويمكن اعتبار نقطة التحول في التفكير الاستراتيجي الغربي منبثقة عن ظروف الحرب التي شنتها قوات التحالف ضد القوات العراقية التي اجتاحت الكويت في الفترة 1990 - 1991. فقد كان رد فعل الجماهير العربية الرافض لتلك الحرب عاملا جوهريا لمنع 'اسرائيل' من التدخل في تلك الحرب. وحتى عندما اطلقت القوات العراقية بعض الصواريخ ضد الكيان الاسرائيلي، طلب الامريكيون من الاسرائيليين عدم الرد، وقاموا بتنصيب شبكة متطورة من صواريخ 'باتريوت' في الاراضي المحتلة لاعتراض الصواريخ العراقية. منذ تلك اللحظة بدأ العد التنازلي لما كان هناك من 'أهمية' استراتيجية مزعومة للكيان الاسرائيلي كحام للمصالح الغربية في المنطقة، اذ اصبح في نظر الساسة الغربيين 'عبئا' عليهم وعلى سياساتهم، وكان التدخل الاسرائيلي سيفشل مشروع الحرب وما يتلوه من تسويات سياسية نظرا لحساسية العرب والمسلمين تجاه اي تدخل عسكري اسرائيلي. هذا التفكير تعمق تدريجيا مع التطورات اللاحقة. فكان صدور تقرير الامم المتحدة حول مجزرة 'قانا' التي ارتكبها الاسرائيليون خلال عدوانهم على لبنان في نيسان/ابريل 1996، محرجا للدول الغربية، وان كانت الولايات المتحدة قد استعملت حق النقض 'الفيتو' لمنع صدور قرار دولي عن مجلس الامن يدين تلك المجزرة. فلا شك ان ادارتي بيل كلينتون، وجورج بوش كانتا واقعتين تحت تأثير اللوبي الصهيوني الذي منع الساسة الامريكيين من مراجعة سياساتهم ومدى انسجامها فعلا مع المصالح القومية الامريكية. ولكن الديناميكية السياسية المرتبطة بالشرق الاوسط عامل مهم في احداث التغيرات التي تبدو مستحيلة احيانا. فالتداخلات السياسية تعقدت بدرجة جعلت المصالح الغربية معرضة لتهديدات اكبر بسبب التلازم الاستراتيجي الذي يصر عليه بعض الساسة بين الغرب و'اسرائيل'. واتضح الآن، بشكل واضح، ان الجنود الامريكيين يدفعون ثمنا باهظا لدعم حكوماتهم للكيان الاسرائيلي الذي لم يتردد في احراجها مرارا.
في الاسبوع الماضي، وقف الجنرال ديفيد بترايوس، امام لجنة القوات المسلحة بمجلس الشيوخ الامريكي ليقول: 'ان العداء بين اسرائيل وبعض جيرانها يطرح تحديات متميزة لقدرتنا على الدفاع عن مصالحنا في المنطقة' مضيفا: 'ان الغضب العربي حول المسألة الفلسطينية تحدد قوة شراكة الولايات المتحدة وعمقها مع حكومات المنطقة وشعوبها'. جاءت هذه الافادات في ضوء التوتر الذي شاب العلاقات بين واشنطن وتل ابيب حول بناء المستوطنات. فقد جاء الاعلان الاسرائيلي عن وجود خطة لبناء 1600 وحدة سكنية في القدس وعدد آخر في الضفة الغربية ليحرج نائب الرئيس الامريكي، جو بايدن، الذي كان في زيارة رسمية للكيان الاسرائيلي. بينما قال ديفي أكسيلرود، المستشار السياسي الرئيسي للرئيس اوباما بان الاعلان عن بناء المستوطنات يهدف لاجهاض المحادثات غير المباشرة مع الفلسطينيين'.هذا الشعور الرسمي الامريكي يقابله شعور ليس خاصا بالعرب والمسلمين بل هو مختزن لدى غيرهم كذلك بالاستغراب من استمرار الهيمنة الاسرائيلية على القرار الامريكي. ومن هؤلاء السيد كريستوفر مايور، السفير البريطاني في واشنطن، الذي قال في مقابلة تلفزيونية مؤخرا ان التأثير الاسرائيلي على الحكومات الامريكية اكبر كثيرا من اية دولة اخرى'. المشكلة ان الولايات المتحدة هي التي تقود المشروع السياسي الغربي تجاه العالم خصوصا الشرق الاوسط، ولذلك يجد الغربيون انفسهم في موقف صعب وهم يتلمسون طريقهم نحو حل القضية الفلسطينية. مع ذلك يمكن الادعاء بان الاسرائيليين انفسهم بدأوا يقلقون من اتجاهات الرأي العام الغربي تجاههم. ففي السنوات الاخيرة تراجعت حظوظهم في اوروبا، حيث تصاعد ما يسمى 'المشاعر المعادية للسامية' في اغلب بلدان اوروبا، خصوصا بعد حربي تموز/يوليو 2006 ضد لبنان والعدوان على غزة مطلع العام الماضي. فهناك شعور يتوسع باضطراد ضد السياسات الاستعمارية والعدوانية في دول العالم الثالث، لا سيما في الاوضاع الاقتصادية المتردية التي تعصف بالولايات المتحدة وبريطانيا بشكل خاص.
وثمة شعور آخر بان الكيان الاسرائيلي نفسه يعيش ازمات على اصعدة شتى: الموقف ازاء الفلسطينيين ومشروع الدولتين الذي تلاشت حظوظ نجاحه تدريجيا لاسباب شتى من بينها التعنت الاسرائيلي، صعود التطرف اليميني الى الحكم، الشعور بالاحباط الذي انتشر في نفوس الكثيرين بعد الاداء العسكري الضعيف في الحربين الاخيرتين، حالة الصراع الداخلي بين مكونات الكيان الصهيوني، سياسيا وثقافيا، وشعور اليهود الشرقيين بوجود حالة تمييز واسعة ضدهم. يضاف الى ذلك توسع دائرة السخط السياسي في الاوساط الكنسية كردة فعل لسياسات الحكومة الحالية التي تستهدف المقدسات الاسلامية والمسيحية بشكل منهجي. وبرغم محاولات التصالح مع الفاتيكان حول قضايا التاريخ والانتماء الديني، لا تبدو آثار ذلك التصالح واضحة، بل ربما استبدل التصالح بالمزيد من الازمات وتوتر العلاقات. وتعمقت حالة الاحباط بعد الفشل الذريع الذي صاحب الجريمة التي اقترفها الاسرائيليون باغتيال الفلسطيني محمود المبحوح في دبي. صحيح ان الضحية المستهدف لم يفلت من الجريمة، ولكن تبعاتها خطيرة، حتى يكاد الفتق يستعصي على الراقع. فقد توترت العلاقات مع عدد من الدول الغربية خصوصا بريطانيا والمانيا وفرنسا وكندا، بسبب استعمال جوازات سفر هذه الدول في تنفيذ الجريمة التي شجبتها الامم المتحدة واثارت حفيظة المسؤولين في دولة الامارات العربية. وثمة تساؤلات داخل الكيان الاسرائيلي: هل الثمن السياسي الذي دفعته 'اسرائيل' يعادل النتيجة؟ ألم يكن بالامكان تحقيق الاغتيال بثمن أقل؟ فها هي بريطانيا تطرد دبلوماسيا اسرائيليا بعد ان مارس 'عملية استنساخ' للجوازات البريطانية التي استعملت في جريمة الاغتيال، فما النجاح الذي حققه الصهاينة؟ وكان بالامكان تنفيذ عملية الاغتيال بطرق أقل تعقيدا وبأثمان سياسية أوطأ تكلفة. وبالمقاييس المعتادة لا يمكن اعتبار عملية الاغتيال ناجحة، الا اذا استطاع منفذوها اخفاء آثارهم تماما.
لقد تمادى الاسرائيليون في استفزازاتهم ليس للفلسطينيين فحسب، بل لاصدقائهم كذلك. فبينما كان نتنياهو في طريقه لمقابلة الرئيس الامريكي في واشنطن، كان عمدة القدس، نير بركات، يعلن عن مشروع استيطاني جديد تحت اسم' حدائق الملك' في حي سلوان بالقدس الشرقية، على انقاض 80 منزلا فلسطينيا يزمع هدمها. انه تحد كبير لادارة اوباما، ومؤشر لمدى استعداد واشنطن لاتخاذ سياسات جديدة تحتوي الغطرسة الصهيونية المتصاعدة. فليس المقصود منها تسجيل موقف سياسي تفاوضي، بل فرض امر واقع يفرض نفسه على الآخرين، سواء الفلسطينيين ام الامريكيين. انها محاولة اخرى لتخفيف آثار الهزيمة النفسية للمستوطن الاسرائيلي التي تعمق مشاعر الاحباط واليأس في مجتمع ما يزال يبجث عن هوية وشرعية. بعض المحللين الغربيين يعزو ذلك للشعور المفرط بالعظمة والقوة بعيدا عن ادوات التقييم الواقعية والموضوعية. البعض الآخر يعتقد ان اعادة قراءة التجربة السياسية الواسعة من شأنه ان يوفر على المعنيين جهودا كبيرة تضيع في غير طائل. وستظل 'اسرائيل' تعاني من ازمتي الانتماء والهوية، وغير قادرة على تثببيت حدود كيانها السياسي، الامر الذي يحمل في ذاته استمرار الازمة وتصاعد العنف، والصراع ضد قيم الانسانية. الامر المؤكد ان 'اسرائيل' اليوم ليست كما كانت عليه في السابق، وان ضحايا العدوان اصبحوا اكثر من ان تحصيهم الارقام او تصمت على الجرائم بحقهم ضمائر الاحرار. الصهاينة يشعرون انفسهم في سباق مع الزمن لتثبيت امر واقع يستعصي على التغيير، ويتجاهلون ان الزمن قد تجاوزهم، وربما بلغت حركته نقطة اللاعودة ضد مشروعهم الاستيطاني التوسعي. اما واشنطن فهي في وضع لا تحسد عليه، بين ان تحمي مصالحها وجنودها بمفاصلة مع الكيان الاسرائيلي، او تستنهض التاريخ الحديث لتسير على خطى الرؤساء الذين كانوا متصهينين اكثر من الصهاينة. انه صراع ليس للحفاظ على مصالح 'اسرائيل' بل حماية المصالح الامريكية التي تدفع فواتير الاجرام الصهيوني الذي لا يتوقف. لقد فشل الساسة المدنيون في واشنطن، بينما أدرك العسكريون ان جنودهم يدفعون تلك الفواتير في افغانستان والعراق وفي البؤر الساخنة الاخرى، وبدأوا يرسمون خطوطا حمراء بين مصالحهم القومية والمصالح الاسرائيلية، وهو ما لم يدركه ساسة البيت الابيض بعد.
' كاتب وصحافي بحريني يقيم في لندن