حمراوي نت
2010-03-19, 10:37
أضع بين يدي اخواني درس ألقيته بمسجد التقوى ببلديتنا حول موضوع : " مراقبة الله تعالى " ، أسأل الله تعالى أن ينفعكم بها .
حديثنا في هذه الأمسية عن موضوع يحتاج إليه الكبير والصغير والرجل والمرأة لا سيمافي هذا الزمان الذي تكاثرت فيه الفتن وصار الإنسان يستطيع أن يصل إلى المنكر وهو في جوف بيته دون أن يشعر به أحد، وصار الإنسان أيضاً يستطيع أن يطوف في أنواع الضلالاتوالشبهات وينظر في العقائد الفاسدة والمواقع أو القنوات التي تبث الشبهات فتضلل الناس وتشكك الإنسان في عقيدته ودينه وهو في بيته بعد أن كان الناس لربما لا يستطيع الواحد منهم أن يصل إلى مطلوبه من ذلك إلا بألوان الاحتيال والصعوبات، ولربما تعجزه وتقعده الحيلة فلا يستطيع أن يحقق مطلوباً للنفس تشتهيه أو تهواه.
واليوم أيها الأحبة لا عاصم من أمر الله إلا من رحم، يجلس الرجل أو المرأة وهو في بيته يمكن أن يفعل ما يشاء، وأن ينظر إلى كل ما يريد، يمكن لهذا الإنسان أن يقارف كل ما لا يرضاه الله تبارك وتعالى دون أن يشعر بذلك أحد من الناس ، ولذلك في مثل هذه الأوقات لا بد من الحديث عن مراقبةالله عز وجل وأن نكرر هذا الحديث فيعظ به الإنسان نفسه حينما يتحدث ويعظ به إخوانه ؛ فإن هذه القلوب يحصل لها ما يحصل من أنواع الغفلة فالقلوب تصدأ كما يصدأ الحديد. يقول الحق تبارك و تعالى " كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون " والرين أو الران هنا الصدأ الذي تشكل على القلوب من كثرة الخطايا والذنوب المتراكمة ذنبا تلو الآخر دون الرجوع الى الله عزوجل بالاستغفار والندم والتوبة النصوح ، و كما جاء في حديث رسول الله e :
" إن القلوب تصدأ كما يصدأ الحديد و طلاء القلوب ذكر الله " فالقلوب تصدأ إذا الفت الذنوب والخطايا وانغمست في الشهوات الحرام كما يصدأ الحديداذا ألف الماء وانغمس فيه..
أما حقيقة المراقبة التي نتحدث عنها ؛ فهي من فعل رقب ، هو يدل على الانتصاب لمراعاة شيء ما ، ومن ذلك جاء اسم الله تعالى الرقيب وهو الحافظ الذي لا يغيب عنه شيء و المراقبة في معناها ما ذكره الحافظ ابن القيم رحمه الله بأنها" دوام علم العبد وتيقنهُ باطلاع الحق سبحانه وتعالى على ظاهره وباطنه، فاستدامتنا لهذا العلم هو المراقبة ؛ و إذا تيقن الإنسان أن الله ينظر إليه وأنه لا يخفى عليه شيء من أحواله هذا هو حال المراقبة؛ فهي : التعبد لله عز وجل باسمه الرقيب الحفيظ العليم السميع البصير الخبير الشهيد و ما إلى ذلك من الأسماء.
وفي حديث جبريل عليه السلام أنه سأل النبي -صلى الله عليه وسلم- عن الإحسان فقال: "أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك" رواه البخاري .
ومقام المراقبة أيها الأحبة جامع للمعرفة مع الخشية، فبحسبها يحصل مقام المراقبة إذا علم العبد أن الله تعالى يطلع عليه وخافه، فإن هذا الخوف مع علمه باطلاع الرب يقال له الخشية ، فإذا اجتمع هذا وهذا كان ذلك تحصيناً لهذا المقام و ارتقاء إلى هذه المرتبة، وبذلك يبتعد العبد عن فعل ما لا يليق.
المراقبة أيها الأحبة ؛ أساس الأعمال القلبية كلها، وهي عمودها ، وقد جمع النبي صلى الله عليه وسلم أعمال القلب وفروعها كلها في كلمة واحدة في الحديث المعروف عندما سئل عن الإحسان فقال " أن تعبد الله كأنك تراه " .
و مما ورد من النصوص في مراقبة الله تعالى للعباد من الآيات والأحاديث في هذا كثيرة ؛فمن القرآن قوله تعالى : " إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَىٰ عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَافِي السَّمَاءِ" و قوله "وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ ۚ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ" و قوله " يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَاتُخْفِي الصُّدُورُ"و قوله " وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ ۚ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ" .
و أما من السنة ما جاء في حديث معاذ رضي الله عنه أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم: "يا رسول الله؛ أوصني"، قال " اعبد الله كأنك تراه" وجاء في حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : (سبعةيظلهم الله في ظلّه يوم لا ظل إلا ظله: إمام عادل، وشاب نشأ في عبادة الله، ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه، ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه، ورجل قلبه معلق بالمساجد، ورجل تصدّق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه،ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال: إني أخاف الله رب العالمين ) أخرجه البخاري ومسلم . وإذا نظرت إلى هؤلاءالسبعة تجد أن الأمر المشترك والوصف الذي تحقق فيهم جميعاً هو المراقبة لله تباركوتعالى .
* الرجل الذي ذكر الله خالياً ففاضت عيناه ما الذي جعله يكون بهذه المثابة؟ هو مراقبة الله، الناس لا يرونه،
* الرجل الذي دعته امرأة ذات منصب وجمالفقال: إني أخاف الله، حصلت له المنعة مع وجود الدافع القوي فهي ذات منصب وذات جمال ونفسه تطلب هذه الشهوات ومع ذلك قال إني أخاف الله
* والرجل الذي تصدق بيمينه حتى لاتعلم شماله ما تنفق يمينه؛ هذا رجل قد راقب الله عز وجل وإلا فإن المال أيها الأحبةشيء محبب إلى النفوس ولا يسهل عليها أن تجود به إلا بطلب عوض مثله أو أعظم منه ، ولذلك فإن الكثيرين قد يصعب عليهم إخراج المال لله تبارك وتعالى، فكيف بهذا الذي أخفاه إلى هذا الحد حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه.
* الشاب الذي نشأ في طاعة الله عز وجل مع قوة النوازع وتوقد الغرائز الذي منعه من ذلك هو مراقبة الله تبارك وتعالى، وهكذا أيها الأحبة.
وجاء فيحديث أبي هريرة رضي الله عنه " يتعاقبون فيكم ملائكة بالليلوملائكة بالنهار فيجتمعون في صلاة الصبح وصلاة العصر ثم يعرج الذين باتوا فيكم فيسألهم الله وهو أعلم بهم ؛ كيف تركتم عبادي؟ فيقولون: تركناهم وهم يصلون وأتيناهم وهم يصلون" رواه البخاري ، فهل استحضرنا هذا المعنى، هل استحضره من يضيع صلاة الصبح ينام عنها ويضيع صلاة العصر حينما يأتي من عمله ثم بعد ذلك ينام .
المراقبة إخواني في الله تكون قبل العمل و أثناء العمل ، قبل أن تقدم على العمل ينبغي أن تسأل نفسك هل لك فيه نية ؟ ماذا تريد بهذا العمل الذي تقوم به؟، حينما تريد أن تتصدق بصدقة اسأل نفسك هل هذه الصدقة تريد بها وجه الله أو أنك تجمع خسارة في الدنيا وعذاباً في الآخرة إذا كان الإنسان ينفق من أجل أن يقال منفق، فإنه سيكون من أول من تسعر بهم النار يوم القيامة ، هذا الإنسان الذي يريد أن يطلب العلم هل يريد أن يطلب هذا العلم من أجل أن يقال عالم ، يسأل الإنسان حينما يريد أن يقدم على هذه الأعمال هل هذه الأعمال هي لله ؟
هل للنفس فيها هوى؟، هل للشيطان فيه نزغة ؟ فيتثبت ، فإن كان لله أمضاه، وإن كان لغيره صحح نيته وأخلص قصده وعمله .
أنتم تعرفون حديث الثلاثة الذين تسعر فيهم النار يومالقيامة أول الناس: رجل عالم ، و رجل جواد، و رجل قارئ للقرآن أو مجاهد في سبيل الله، فهذا جاهد ليقال شجاع، وهذا قرأ ليقال قارئ، أو تعلم العلم ليقال عالم ،وهذا أنفق من أجل أن يقال جواد، فيدخلون النار قبل السراق، والزناة، وأصحاب الجرائم،فالمسألة ليست بالشيء السهل، قد يتصور كثير من الناس أن الذين يُتوعدون بالعقوبةأنهم على خطر وخوف ، هم أولئك الذين يقارفون ما يقارفون من ألوان الشهوات الظاهرة ؛ وما علم أن الشهوات الباطنة قد تكون أعظم وأشد من الشهوات الظاهرة .
الأمر الثاني هو مراقبة الله هو أثناء العمل: فالإنسان يحتاج إلى مراقبة لله عز وجل وهو يعمل ، ونحن نصلي نراقب الله عز وجل في صلاتنا في ركوعناوسجودنا وما نقوله فيها في صيامنا نراقب الله عز وجل لا نتكلم بكلام ينافي الصومولا نفعل فعلاً يخدشه و هكذا ، الذي يتكلم يلاحظ نفسه عند الكلام، والذي يعمل يلاحظ نفسه عند العمل ، والذي يكون حتى في أعماله المباحة يلاحظ ويراقب نفسه عند القيام بهذا العمل المباح. فالعبد أيها الأحبة إذا كان في طاعة يتفقد عمله هل جاء بأركانه وشروطه وواجباته وما أشبه ذلك.
وقد قيل: أسرع الأشياء عظة للقلب وانكساراً له ذكر اطلاع الله بالتعظيم له، والمقصود أيها الأحبة أن مراقبة الانسان لله تعالى توجب صيانة الظاهر والباطن، فصيانة الظاهر بحفظ الحركات الظاهرة، وصيانة الباطن تكون بحفظ الخواطر والإرادات والحركات الباطنة،
أحياناً الإنسان في داخل نفسه قد يكره حكم الله عز وجل وتنفر نفسه منه وقد يتمنى في نفسه لو أن الله أباح له ذلك الأمر المحرم، أو أن الله يسر له ذلك ولربما كان في قلبه اعتراض على أقدار الله عز وجل، لماذا أنا فقير؟، لماذا أعمل دائماً وأكدح ولا أخرج بكبير طائل وفلان وفلان بعمل يسير يصلون إلى الأموال الطائلة والتجارات الكبيرة ؟، هذا اعتراض على قدر الله عز وجل، فالله أعطى، أغنى وأقنى عن علم وبصيرة بالعباد لا يخفى عليه من شأنهم خافية .
قد يصاب الإنسان ببلية بمكروه بمرض، فيعترض على الله تبارك وتعالى في نفسه، فيقول: أنا دائماً مبتلى، لماذا يحصل لي هذا الحادث الشنيع؟، وبهذه الطريقة؟، وتحصل لي هذه الكارثة، يحصل لي هذا البلاء وأناس فجرة لا يرعوون من معصيةالله عز وجل يتقلبون بألوان العافية ونحن نتقلب في ألوان البلاء؟... هذا ما عرف الله عز وجل، ما عرف الله، لو عرف الله لعرف أن أهل البلاء هم أهل القرب من الله تبارك وتعالى، وأن الله إذا أحب قوماً ابتلاهم، وقد يعترض الإنسان على الله تبارك وتعالى فيما شرعه فيقول له اختيار مع الله وتقدم بين يدي الله ورسوله صلى الله عليه وسلم فيعارض النصوص برأيه وبعقله وهواه، ويرد الآيات والأحاديث بهذا العقل الفاسد ، ولربما حمل النصوص على المحامل الصعبة والتأويلات البعيدة من أجل أن يوافق هواه أومن أجل أن يوافق هوى الآخرين.
فالإنسان إذا راقب الله عز وجل تأدب معه الأدب اللائق فاستقام ظاهره واستقام باطنه ولم توجد في قلبه محبة تزاحم محبةَ الله عز وجلولافي قلبه شبهة تعارض حكمه و أمره وقد قيل: "من راقب الله في خواطره عصمه الله في حركاتجوارحه".
مراقبة الله تعالى في الخواطر أيها الأحبة سبب لحفظها في حركات الظواهر، فمن راقب الله في سره حفظه الله في حركاته في سره وعلانيته، إذا تحققت المراقبة في الناس أيها الأحبة فإن ذلك يكون زاجراً ورادعاً يحمل النفوس على مايجمل ويحسن ويليق ، الناس الذين يحترمون النظام الناس الذي يتركون الجريمةخوفاً من العقوبة ولكنهم إذا تمكنوا تحولت حالهم إلى شيء آخر، هؤلاء أين هم ممن يراقب الله عز وجل وهو يعلم أنه إذا أخذ هذا الطمع اليوم سيدفع الثمن غالياً من حسناته يوم القيامة ، ولذلك فإنك تجد هذا الإنسان لو كان بيديه كنوز الدنيا ما مد يده عليها،وآخر كلما لاح إليه شيء واستطاع أن يأخذه أخذه ولو من المسجد، لماذا أيها الأحبة؟،هذا راقب الله؛ وهذا لم يراقبه ، هذا يعلم أنه سيحاسب . ولذلك أقول أيها الأحبة، الأب قد يموت، قد يغيب، قد يعجز، قد يضعف، قد يشيب، ثم بعد ذلك قد يسرح أولاده في أودية الهلكة ويرتعون من هذه الشهوات، في هذه الشهوات، فنحتاج دائماً إلى أن نربي هذه المراقبة في نفوسهم من أجل أن نحافظ على إيمانهم وعلى حالهم مع الله عز وجل أن تكون على استقامة، ولا يخفى أيضاً أيها الأحبة ما بين الظاهر والباطن من الملازمة،استقامة الباطن إذا وجد الخوف من الله عز وجل واليقين بأن الله يرانا يستقيمالظاهر، فالظاهر أثر من آثار استقامة الباطن، كما أن استقامة الظاهر لا شك أنهاتؤثر في استقامة الباطن.
أيها الأحبة ،يقول أبوالدرداء -رضي الله عنه-: "إن العبد ليخلو بمعصية الله تعالى فيلقي الله بغضه في قلوب المؤمنين من حيث لا يشعر".
نحن أيها الأحبة نحتاج إلى توبة، الداعية يحتاج إلى توبة،والعالم يحتاج إلى توبة، وطالب العلم يحتاج إلى توبة، والإنسان الذي يقول عن نفسه أو يقول عنه الآخرون بأنه ملتزم ومتدين يحتاج إلى توبة .
فنسأل الله أيها الأحبة أن ينفعنا بما نسمع وأن لا يجعل ذلك حجة علينا، كما نسأله تبارك وتعالى أن لا يمقتنا، نسأله تبارك وتعالى أن يتجاوز عنا وأن يعفو عنا وأن يجعل مانقول عظة لنا وسبيلاً إلى صلاح قلوبنا وأحوالنا وأعمالنا
هذا ختام ماأردت أن أذكره في هذا المجلس، وأسأل تبارك وتعالى أن يعينني وإياكم على ذكره وشكره وحسن عبادته. أسأل الله الإخلاص في الظاهر والباطن.
الرجاء منكم الردود ، و اعلام المشرف عن الأخطاء الموجودة في الآيات والأحاديث لتصحيحها .
حديثنا في هذه الأمسية عن موضوع يحتاج إليه الكبير والصغير والرجل والمرأة لا سيمافي هذا الزمان الذي تكاثرت فيه الفتن وصار الإنسان يستطيع أن يصل إلى المنكر وهو في جوف بيته دون أن يشعر به أحد، وصار الإنسان أيضاً يستطيع أن يطوف في أنواع الضلالاتوالشبهات وينظر في العقائد الفاسدة والمواقع أو القنوات التي تبث الشبهات فتضلل الناس وتشكك الإنسان في عقيدته ودينه وهو في بيته بعد أن كان الناس لربما لا يستطيع الواحد منهم أن يصل إلى مطلوبه من ذلك إلا بألوان الاحتيال والصعوبات، ولربما تعجزه وتقعده الحيلة فلا يستطيع أن يحقق مطلوباً للنفس تشتهيه أو تهواه.
واليوم أيها الأحبة لا عاصم من أمر الله إلا من رحم، يجلس الرجل أو المرأة وهو في بيته يمكن أن يفعل ما يشاء، وأن ينظر إلى كل ما يريد، يمكن لهذا الإنسان أن يقارف كل ما لا يرضاه الله تبارك وتعالى دون أن يشعر بذلك أحد من الناس ، ولذلك في مثل هذه الأوقات لا بد من الحديث عن مراقبةالله عز وجل وأن نكرر هذا الحديث فيعظ به الإنسان نفسه حينما يتحدث ويعظ به إخوانه ؛ فإن هذه القلوب يحصل لها ما يحصل من أنواع الغفلة فالقلوب تصدأ كما يصدأ الحديد. يقول الحق تبارك و تعالى " كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون " والرين أو الران هنا الصدأ الذي تشكل على القلوب من كثرة الخطايا والذنوب المتراكمة ذنبا تلو الآخر دون الرجوع الى الله عزوجل بالاستغفار والندم والتوبة النصوح ، و كما جاء في حديث رسول الله e :
" إن القلوب تصدأ كما يصدأ الحديد و طلاء القلوب ذكر الله " فالقلوب تصدأ إذا الفت الذنوب والخطايا وانغمست في الشهوات الحرام كما يصدأ الحديداذا ألف الماء وانغمس فيه..
أما حقيقة المراقبة التي نتحدث عنها ؛ فهي من فعل رقب ، هو يدل على الانتصاب لمراعاة شيء ما ، ومن ذلك جاء اسم الله تعالى الرقيب وهو الحافظ الذي لا يغيب عنه شيء و المراقبة في معناها ما ذكره الحافظ ابن القيم رحمه الله بأنها" دوام علم العبد وتيقنهُ باطلاع الحق سبحانه وتعالى على ظاهره وباطنه، فاستدامتنا لهذا العلم هو المراقبة ؛ و إذا تيقن الإنسان أن الله ينظر إليه وأنه لا يخفى عليه شيء من أحواله هذا هو حال المراقبة؛ فهي : التعبد لله عز وجل باسمه الرقيب الحفيظ العليم السميع البصير الخبير الشهيد و ما إلى ذلك من الأسماء.
وفي حديث جبريل عليه السلام أنه سأل النبي -صلى الله عليه وسلم- عن الإحسان فقال: "أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك" رواه البخاري .
ومقام المراقبة أيها الأحبة جامع للمعرفة مع الخشية، فبحسبها يحصل مقام المراقبة إذا علم العبد أن الله تعالى يطلع عليه وخافه، فإن هذا الخوف مع علمه باطلاع الرب يقال له الخشية ، فإذا اجتمع هذا وهذا كان ذلك تحصيناً لهذا المقام و ارتقاء إلى هذه المرتبة، وبذلك يبتعد العبد عن فعل ما لا يليق.
المراقبة أيها الأحبة ؛ أساس الأعمال القلبية كلها، وهي عمودها ، وقد جمع النبي صلى الله عليه وسلم أعمال القلب وفروعها كلها في كلمة واحدة في الحديث المعروف عندما سئل عن الإحسان فقال " أن تعبد الله كأنك تراه " .
و مما ورد من النصوص في مراقبة الله تعالى للعباد من الآيات والأحاديث في هذا كثيرة ؛فمن القرآن قوله تعالى : " إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَىٰ عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَافِي السَّمَاءِ" و قوله "وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ ۚ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ" و قوله " يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَاتُخْفِي الصُّدُورُ"و قوله " وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ ۚ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ" .
و أما من السنة ما جاء في حديث معاذ رضي الله عنه أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم: "يا رسول الله؛ أوصني"، قال " اعبد الله كأنك تراه" وجاء في حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : (سبعةيظلهم الله في ظلّه يوم لا ظل إلا ظله: إمام عادل، وشاب نشأ في عبادة الله، ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه، ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه، ورجل قلبه معلق بالمساجد، ورجل تصدّق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه،ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال: إني أخاف الله رب العالمين ) أخرجه البخاري ومسلم . وإذا نظرت إلى هؤلاءالسبعة تجد أن الأمر المشترك والوصف الذي تحقق فيهم جميعاً هو المراقبة لله تباركوتعالى .
* الرجل الذي ذكر الله خالياً ففاضت عيناه ما الذي جعله يكون بهذه المثابة؟ هو مراقبة الله، الناس لا يرونه،
* الرجل الذي دعته امرأة ذات منصب وجمالفقال: إني أخاف الله، حصلت له المنعة مع وجود الدافع القوي فهي ذات منصب وذات جمال ونفسه تطلب هذه الشهوات ومع ذلك قال إني أخاف الله
* والرجل الذي تصدق بيمينه حتى لاتعلم شماله ما تنفق يمينه؛ هذا رجل قد راقب الله عز وجل وإلا فإن المال أيها الأحبةشيء محبب إلى النفوس ولا يسهل عليها أن تجود به إلا بطلب عوض مثله أو أعظم منه ، ولذلك فإن الكثيرين قد يصعب عليهم إخراج المال لله تبارك وتعالى، فكيف بهذا الذي أخفاه إلى هذا الحد حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه.
* الشاب الذي نشأ في طاعة الله عز وجل مع قوة النوازع وتوقد الغرائز الذي منعه من ذلك هو مراقبة الله تبارك وتعالى، وهكذا أيها الأحبة.
وجاء فيحديث أبي هريرة رضي الله عنه " يتعاقبون فيكم ملائكة بالليلوملائكة بالنهار فيجتمعون في صلاة الصبح وصلاة العصر ثم يعرج الذين باتوا فيكم فيسألهم الله وهو أعلم بهم ؛ كيف تركتم عبادي؟ فيقولون: تركناهم وهم يصلون وأتيناهم وهم يصلون" رواه البخاري ، فهل استحضرنا هذا المعنى، هل استحضره من يضيع صلاة الصبح ينام عنها ويضيع صلاة العصر حينما يأتي من عمله ثم بعد ذلك ينام .
المراقبة إخواني في الله تكون قبل العمل و أثناء العمل ، قبل أن تقدم على العمل ينبغي أن تسأل نفسك هل لك فيه نية ؟ ماذا تريد بهذا العمل الذي تقوم به؟، حينما تريد أن تتصدق بصدقة اسأل نفسك هل هذه الصدقة تريد بها وجه الله أو أنك تجمع خسارة في الدنيا وعذاباً في الآخرة إذا كان الإنسان ينفق من أجل أن يقال منفق، فإنه سيكون من أول من تسعر بهم النار يوم القيامة ، هذا الإنسان الذي يريد أن يطلب العلم هل يريد أن يطلب هذا العلم من أجل أن يقال عالم ، يسأل الإنسان حينما يريد أن يقدم على هذه الأعمال هل هذه الأعمال هي لله ؟
هل للنفس فيها هوى؟، هل للشيطان فيه نزغة ؟ فيتثبت ، فإن كان لله أمضاه، وإن كان لغيره صحح نيته وأخلص قصده وعمله .
أنتم تعرفون حديث الثلاثة الذين تسعر فيهم النار يومالقيامة أول الناس: رجل عالم ، و رجل جواد، و رجل قارئ للقرآن أو مجاهد في سبيل الله، فهذا جاهد ليقال شجاع، وهذا قرأ ليقال قارئ، أو تعلم العلم ليقال عالم ،وهذا أنفق من أجل أن يقال جواد، فيدخلون النار قبل السراق، والزناة، وأصحاب الجرائم،فالمسألة ليست بالشيء السهل، قد يتصور كثير من الناس أن الذين يُتوعدون بالعقوبةأنهم على خطر وخوف ، هم أولئك الذين يقارفون ما يقارفون من ألوان الشهوات الظاهرة ؛ وما علم أن الشهوات الباطنة قد تكون أعظم وأشد من الشهوات الظاهرة .
الأمر الثاني هو مراقبة الله هو أثناء العمل: فالإنسان يحتاج إلى مراقبة لله عز وجل وهو يعمل ، ونحن نصلي نراقب الله عز وجل في صلاتنا في ركوعناوسجودنا وما نقوله فيها في صيامنا نراقب الله عز وجل لا نتكلم بكلام ينافي الصومولا نفعل فعلاً يخدشه و هكذا ، الذي يتكلم يلاحظ نفسه عند الكلام، والذي يعمل يلاحظ نفسه عند العمل ، والذي يكون حتى في أعماله المباحة يلاحظ ويراقب نفسه عند القيام بهذا العمل المباح. فالعبد أيها الأحبة إذا كان في طاعة يتفقد عمله هل جاء بأركانه وشروطه وواجباته وما أشبه ذلك.
وقد قيل: أسرع الأشياء عظة للقلب وانكساراً له ذكر اطلاع الله بالتعظيم له، والمقصود أيها الأحبة أن مراقبة الانسان لله تعالى توجب صيانة الظاهر والباطن، فصيانة الظاهر بحفظ الحركات الظاهرة، وصيانة الباطن تكون بحفظ الخواطر والإرادات والحركات الباطنة،
أحياناً الإنسان في داخل نفسه قد يكره حكم الله عز وجل وتنفر نفسه منه وقد يتمنى في نفسه لو أن الله أباح له ذلك الأمر المحرم، أو أن الله يسر له ذلك ولربما كان في قلبه اعتراض على أقدار الله عز وجل، لماذا أنا فقير؟، لماذا أعمل دائماً وأكدح ولا أخرج بكبير طائل وفلان وفلان بعمل يسير يصلون إلى الأموال الطائلة والتجارات الكبيرة ؟، هذا اعتراض على قدر الله عز وجل، فالله أعطى، أغنى وأقنى عن علم وبصيرة بالعباد لا يخفى عليه من شأنهم خافية .
قد يصاب الإنسان ببلية بمكروه بمرض، فيعترض على الله تبارك وتعالى في نفسه، فيقول: أنا دائماً مبتلى، لماذا يحصل لي هذا الحادث الشنيع؟، وبهذه الطريقة؟، وتحصل لي هذه الكارثة، يحصل لي هذا البلاء وأناس فجرة لا يرعوون من معصيةالله عز وجل يتقلبون بألوان العافية ونحن نتقلب في ألوان البلاء؟... هذا ما عرف الله عز وجل، ما عرف الله، لو عرف الله لعرف أن أهل البلاء هم أهل القرب من الله تبارك وتعالى، وأن الله إذا أحب قوماً ابتلاهم، وقد يعترض الإنسان على الله تبارك وتعالى فيما شرعه فيقول له اختيار مع الله وتقدم بين يدي الله ورسوله صلى الله عليه وسلم فيعارض النصوص برأيه وبعقله وهواه، ويرد الآيات والأحاديث بهذا العقل الفاسد ، ولربما حمل النصوص على المحامل الصعبة والتأويلات البعيدة من أجل أن يوافق هواه أومن أجل أن يوافق هوى الآخرين.
فالإنسان إذا راقب الله عز وجل تأدب معه الأدب اللائق فاستقام ظاهره واستقام باطنه ولم توجد في قلبه محبة تزاحم محبةَ الله عز وجلولافي قلبه شبهة تعارض حكمه و أمره وقد قيل: "من راقب الله في خواطره عصمه الله في حركاتجوارحه".
مراقبة الله تعالى في الخواطر أيها الأحبة سبب لحفظها في حركات الظواهر، فمن راقب الله في سره حفظه الله في حركاته في سره وعلانيته، إذا تحققت المراقبة في الناس أيها الأحبة فإن ذلك يكون زاجراً ورادعاً يحمل النفوس على مايجمل ويحسن ويليق ، الناس الذين يحترمون النظام الناس الذي يتركون الجريمةخوفاً من العقوبة ولكنهم إذا تمكنوا تحولت حالهم إلى شيء آخر، هؤلاء أين هم ممن يراقب الله عز وجل وهو يعلم أنه إذا أخذ هذا الطمع اليوم سيدفع الثمن غالياً من حسناته يوم القيامة ، ولذلك فإنك تجد هذا الإنسان لو كان بيديه كنوز الدنيا ما مد يده عليها،وآخر كلما لاح إليه شيء واستطاع أن يأخذه أخذه ولو من المسجد، لماذا أيها الأحبة؟،هذا راقب الله؛ وهذا لم يراقبه ، هذا يعلم أنه سيحاسب . ولذلك أقول أيها الأحبة، الأب قد يموت، قد يغيب، قد يعجز، قد يضعف، قد يشيب، ثم بعد ذلك قد يسرح أولاده في أودية الهلكة ويرتعون من هذه الشهوات، في هذه الشهوات، فنحتاج دائماً إلى أن نربي هذه المراقبة في نفوسهم من أجل أن نحافظ على إيمانهم وعلى حالهم مع الله عز وجل أن تكون على استقامة، ولا يخفى أيضاً أيها الأحبة ما بين الظاهر والباطن من الملازمة،استقامة الباطن إذا وجد الخوف من الله عز وجل واليقين بأن الله يرانا يستقيمالظاهر، فالظاهر أثر من آثار استقامة الباطن، كما أن استقامة الظاهر لا شك أنهاتؤثر في استقامة الباطن.
أيها الأحبة ،يقول أبوالدرداء -رضي الله عنه-: "إن العبد ليخلو بمعصية الله تعالى فيلقي الله بغضه في قلوب المؤمنين من حيث لا يشعر".
نحن أيها الأحبة نحتاج إلى توبة، الداعية يحتاج إلى توبة،والعالم يحتاج إلى توبة، وطالب العلم يحتاج إلى توبة، والإنسان الذي يقول عن نفسه أو يقول عنه الآخرون بأنه ملتزم ومتدين يحتاج إلى توبة .
فنسأل الله أيها الأحبة أن ينفعنا بما نسمع وأن لا يجعل ذلك حجة علينا، كما نسأله تبارك وتعالى أن لا يمقتنا، نسأله تبارك وتعالى أن يتجاوز عنا وأن يعفو عنا وأن يجعل مانقول عظة لنا وسبيلاً إلى صلاح قلوبنا وأحوالنا وأعمالنا
هذا ختام ماأردت أن أذكره في هذا المجلس، وأسأل تبارك وتعالى أن يعينني وإياكم على ذكره وشكره وحسن عبادته. أسأل الله الإخلاص في الظاهر والباطن.
الرجاء منكم الردود ، و اعلام المشرف عن الأخطاء الموجودة في الآيات والأحاديث لتصحيحها .