*مصطفى*
2010-03-14, 20:51
بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم
عمـــــــــــــر التحدي
على أرض الله المباركة, أرض قرابين الحرية , وقوافل الشهداء, ومن على قمة الجبل الشامخ يقبع دوار سيدي عامر بين أشجار الزيتون المبــــاركة التي شهدت ثورة أبطال أشاوس صنعوها بأرواحهم الطــــاهرة الزكية ودونها التاريخ في صفحته المشرقة.
وفي كل شبر من أرضنا قصة.
عمــــر, فتى عايش أواخر أيام الثورة في دوار سيدي عامر وفي كوخ متواضع بعد أن تغـيب الشمـــس ويشتد سواد الليل ويعم السكون يأوي اليه عمر و يـــنسل إلى فراشــــه, يســـتلقي على ظهره ممـددا لعله يســــتريح من نكــد يومــــه المتــعب فقد كان يرتــحل بين الدوار والمدينة مسافة طويلة يطويها بأقدامه النحيفة يحـمل بيده عــصا يحــث حمــاره عل السير والشوق إلى حديث عمــي صالح يأسره فقد كان يغتنم لحــظات طيبة معـه وهو يحدثه عن أحـوال المدينة وسكانها عن انتشار المـدارس وغزو الطلاب لها وعن الأساتذة عن العلم عن الطموح والمستقبل المشرق فلم يكن ذا شغـف بتجـارته الزهيدة التي كان يرتحل ويقصد دكان عمي صالح لأجلها وكان هذا الأخير ينير له الطريق بحـديثه وكذالك النفوس الطيبة عندما تصبغها صبغة الخير فتتحرك صوبه تلقائيا وهكذا نفخ عمي صالح في روع عمر.
يتقلب عمر في فراشـــه البسيط, حصـــيرة من الدوم آلفها مـــنذ أن احتضنته الخـالة يامنة, لا زالت رواية الخالة عالقة في مخــيلته المتعبة يوم أن هاجم المستعمر الدوار يقتحمون كل كوخ لعلهم يجدون ضالة مفقودة, انسلوا نحو كوخ عمر ودفعوا الباب بكل قوة وعنف فوقفت فاطمة أم عمر فزعة وقفزة خلفها سعاد البراءة ذات الحدية عشر و كان عمر مسترسلا في نوم عميق لم يتجاوز الرابعة من عمره لا يدري ما يجري حوله دنا ضابطهم القذر ورما يده نحو كتف فاطمة فأمسكت سعاد بيد ودفعت يدها كالسهم نحو عين الوحش وضغطت سبابتها بكل قوة تراجع الضابط إلى الخلف وأفرغ ما في جعبة السلاح من رصاصات على جسد البراءة سعاد وأمها الطاهرة فاطمة فصعدت روح الأم وابنتها إلى خالقها لتنعم مع الشهداء لقد اختارت الموت بشرف على أن تفترسها الذئاب فما أروع تلك النفس الطيبة.. خرج الضابط وقد فقأت عينه لتبقى له ذكره من أرض العزة والشهامة دخلت الخالة يامنة وما إن رأت الجثتين حتى أطلقت زغاريد مدوية اهتز لها الجبل
واندفعت النسوة ملبية النداء وانطلقت حناجرهن بزغاريد مدوية لم تكن تلك الأمسية من خريف سنة 1955 إلا حلقة قد شدت إلى حلقات أخرى وليس من باب الصدفة أن يفترس العدو تلك البراءة وأمها وفي صبيحة ذالك اليوم نصب عساكر المستعمر كمينا للمجاهدين وبدل أن يوقعوهم فيه وجدوا أنفسهم أمام أشاوس وأبطال لقنوهم درسا قاسيا وكبدوهم خسائر جسيمة في الأرواح وسقط عبد القادر شهيدا ليلتحق بقوافل الشهداء وانسحب المجاهدون بنعمة الله لقد عكر فرحت النصر فراق عبد القادر ولم يتسنى لهم حمل جثته لقد أخترق صفوف العدو كالأسد الضاري يزرع فيهم الموت مرددا ..الله أكبر.. والقلب ينبض حبا لشهادة وقد أكرمه الله بها ومع آخر قطرة دم سقط البطل شهيدا ولما وضعت المعركة أوزارها وانكشف الأسد مستلقيا على ظهره معانق سلاحه وسياج الرهبة يحرسه فمن ذا الذي يقترب إليه, أشار الضابط إلى أحد الخونة بجنبه ممن خانوا الشعب والوطن وقد كانوا وسمة عار ونقطة سوداء في الثورة المباركة كانوا سكين الغدر الذي يطعن في الظهر نعم أنى له أن يتقدم وكيف يتقدم وقدماه تأبى أن تتحرك فنهره الضابط بسلاحه فتقدم بخطى ثقيلة وقف قرب البطل يرتعش وانحنى كأنه يتأمل من على شفى حفرة عميقة كيف والبطل كان نعم الجار وسيدا ذا كرم وشهامة لقد عرفه وأخبر العدو لينطلق نحوى دوار سيدي عامر يجر الهزيمة المرة فيفرغ جم غضبه في فاطمة وابنتها سعاد هكذا تتعانق أرواح الزوج والزوجة والبنت سعاد ويبقى عمر وحيد يتيم ويتربى في حجر الخالة يامنة فتنبته نباتا طيبا وتفيض عليه بحنانها وحبها ولما بلغ السابعة من عمره ألحقته بالكتاب وقد منى الله عليه بعد ستة سنوات أن حفظ القرءان كله علي يد الشيخ الجليل مختار والي جانب تحفيظه للقرآن زرع في نفسه القيم السامية والأخلاق الحميدة فكسب عمر علو الهمة والرفعة وطيبة النفس مم جعل أهل الدوار يحبونه ويبجلونه وفي صيف 1963 فقد سنده الوحيد في هذه الحيات الخالة يامنة وودعها إلى مثواها الأخير.
ينفلق فجر أخر من أيام عمر وكعادته مع أول صيحة الديك ينهض عمر يصلي ركعات ويهرع إلى حماره يفك عقاله و يجذب طرف الحبل فيتحرك خلفه يهرول بين الأحراش تارة منعرجا وتارة منحدرا على مسلك ضيق كضيق المعيشة في دوار سيدي عامر وقد كان عمر همزة وصل بين الدوار والمدينة التي تبعد عنه مسافة 40 كيلومتر , لم يكن يشعر بتلك المسافة فكان مشغول الذهن بحال الدوار المزري فجل أترابه ضائعون يقضون أيامهم تسكعا في الوديان والرعي , وقد زاد الأمر تعقيدا أن تولى مكان الشيخ مختار بعد وفاته بوعلام ولم يكن أهلا لذالك لما انطوت عليه سريرته من سوء وطبع على الجشع والطمع و كان الأهالي يخصون الشيخ مقاما رفيعا كالحاكم الذي لا يقطع أمر دونه ويستشار في الصغيرة والكبيرة وكانت كلمة سيدي الشيخ كافية لتداعب نفس معلولة بحب الجاه والتسلط كنفس بوعلام الذي فرض نفسه بقوة المال فقد كان له من أشجار الزيتون ما يعادل حصة الأهالي ناهيك عن قطيع الغنم الذي كان يستأجر له الرعاة ومن أسوء ما كان عليه من جهالة مقته للثورة وأبطالها الأشاوس والقدح والذم في العلماء الذين يصدعون بالحق ويدعون للصلاح فهو يرى فيهم الموت الزاحف والضربة القاضية لطموحه وغايته وان غاية ما يطمح له أن ينعم في دنياه ويلبي شهواته كما تعيش البهائم وكل عمل يفعله يتظاهر بيه لوجه الله وما هو إلى قناع يخفي الوجه القبيح إذ كيف لمن يعرض عن الحقيقة ويدير لها ظهره أن يكون يبتغي وجه الله وكيف لمن يرى الجياع فلا يطعمهم وقد رزقه الله النعمة يبتغي وجه الله وكيف لمن يرى ذا الحاجة ولا يخدمه وهو قادر على الفعل يبتغي وجه الله هذه الجرثومة لا تظهر إلا في مستنقع آسن ولذا صدع الامام عبد الحميد بن باديس رحمه الله بدعوته وحمل لواء الإصلاح ومشعل النهضة ودأب في تطهير المجتمع من هذه الطفيليات التي نفخت في روع الشعب من أفكارها السوداء وجعلت الدين طقوس تقام بقرع الطبول وشطحات الاستهتار والذبح على القبور والاستغاثة بالأموات في ما كان العدو يلتهم الأرض شبرا شبرا ويمسخ هوية الشعب لقد أدرك هذا العدو من تجارب خاضها مع الرجال الصادقون أمثال الأمير عبد القادر والشيخ بوعمامة أن الشعب لا يتحرك إلا بالدين فجعل من الواقع مستنقع وزرع فيه جراثيم كبوعلام حتى يطيل من عمر بقائه وكان الفضل من الله أن أنعم على الشعب برجل ليس ككل الرجال عبد الحميد بن بديس رحمه الله فغير واقع الشعب ومهد له طريق الحرية وسبيل الخلاص فتحقق الاستقلال وظهر بوعلام بردائه القديم الوسخ ينشر الجهل ويرسخ معانات أهل الدوار لقد جعل من المسجد المتواضع منطلق لدعوته المنحرفة حديثه لناس أساطير الشعوذة والدجل وحكايات أهل القبور ومعجزاتهم مع الأحياء ولكم تمنى لو كان في المسجد ضريح فيتم له المغنم
ما كان عمر يدرك هذه الحقائق لولا أن حملته تلك الأقدام النحيفة على مسالك وعرة وهو الفتى ذا الخامسة عشر ربيع ينسل كل فجر من كوخه المتواضع يحث الخطى يطلب الحياة أبى أن يستسلم للقدر لم يثنيه جمال الريف ولا جداوله ولا أزهاره العبقة لقد أدرك أن هذه الحقائق باب ينفتح على ميدان ينزله الأبطال ليمتطي فيه جواد فيسابق الزمن لعله يظفر بمجد يمنحه الخلود لحاضات قليلة وان كان السير مجهد وينزل على المدينة وقد بدا نصف قرص الشمس في الأفق يرسل أشعته الدافئة التي ينتظرها عمر بشغف يترجل أمام دكان عمي صالح ويلقي التحية فيهب إليه الشيخ الذي أوهنته الأيام ويكفي أن عرفت أنه عايش فترة الاستعمار طفلا وشابا وكهلا وشيخا عايشها روحا وجسدا وفكرا هب يعانق الفتى.. مرحبا بك عمر كيف حالك ؟ وحال أهل الدوار؟ بصوت حاد يرد الفتى الحمد لله بخير.. ثم يقطع نفسه ويتبع لا زال الدوار كالأمس.. يطلب الشيخ من ابنه أن يأتيه بإبريق الشاي ويدعو عمر للجلوس بجنبه يربت على كتف عمر أتدري؟ حين أراك أرى شبابي فيشدني الحنين إلى أيام مضت وتركت ذكراها في حياتي بالأمس كنا تحتي وطأة الاستعمار الغاشم لم نكن نطمح إلا للاستقلال ولم نكن نرى عنه بديل بذلنا النفس والنفيس قمنا إليه سعيا حتى إذا تحقق بتنا نرى فيكم معشر الشباب مواصلة المسيرة فالاستقلال والتحرر هو انبعاث أمة حق لها أن تسير بين الأمم حاملة المشعل بما حاباها الله من فضل وبما خصها من أسباب لقد كانت انطلاقة ثورتنا المباركة عن تخطيط محكم وسبق ذالك دعوة رجال تشبعوا بروح الإسلام ونهلوا من بحر العلم فكانت دعوتهم كالشمس ترسل شعاعها فينير الدرب فقطع حديثه عمر لكن سيدي لماذا كل تلك السنين من عمر الاستعمار...؟ بني إن العدو المحتل في حقيقته شر باطل والصراع قائم بين الشر والخير بين الحق والباطل وان كان العدو المحتل قد مكث بيننا زمن طويل فمرده إلى الضعف والوهن ولا يعلو الباطل إلى في غفلة أهل الحق وهذا ما أطال من عمر المستعمر ناهيك عن ما قد زرعه في هذه السنين الطويلة وما قد هدمه فينا لقد عمد إلى العقول والقلوب الضعيفة فكانت هينة كالعجينة فشكلها كما شاء وهيئها لسنين أخرى طويلة ولا تلبث هذه الفئة أن تكون خليفة المستعمر
هز عمر رأسه كمن وجد مفتاح لباب موصد وأيقن عمي صالح أنها ساعة الافتراق فبادره ما حاجتك اليوم فرد عمر شموع وسكر حمل بضاعته على الحمار وودع عمي صالح انطلق نحو مسلك الدوار وقد على قرص الشمس وجدّ عمر في السير راجعا ببضاعته الزهيدة يبيعها لقومه لقد كان دائم السعي تراه مساءا يحمل فأسا يحتطب فيصنع منه فحما يبيعه فلم يكن ثمار الزيتون على قلته ومحدودية دخله يكفي عمر بل وجد في الفحم وسيلة أخرى لينشط تجارته البسيطة فهذه ميزة تفرد عمر بها في الدوار وقد رفعته في أعين قومه سوى بوعلام الذي كان يرى فيه مصدر قلق وإزعاج فلم يكن يرضى لهذا الفتى اليتيم البائس الفقير أن تراه الأعين وتذكره الألسن بالخير وكأنما أطلع إلى السموات العلى فقرأ في صفيحة الفتى فخبر اليقين
السلام عليكم
عمـــــــــــــر التحدي
على أرض الله المباركة, أرض قرابين الحرية , وقوافل الشهداء, ومن على قمة الجبل الشامخ يقبع دوار سيدي عامر بين أشجار الزيتون المبــــاركة التي شهدت ثورة أبطال أشاوس صنعوها بأرواحهم الطــــاهرة الزكية ودونها التاريخ في صفحته المشرقة.
وفي كل شبر من أرضنا قصة.
عمــــر, فتى عايش أواخر أيام الثورة في دوار سيدي عامر وفي كوخ متواضع بعد أن تغـيب الشمـــس ويشتد سواد الليل ويعم السكون يأوي اليه عمر و يـــنسل إلى فراشــــه, يســـتلقي على ظهره ممـددا لعله يســــتريح من نكــد يومــــه المتــعب فقد كان يرتــحل بين الدوار والمدينة مسافة طويلة يطويها بأقدامه النحيفة يحـمل بيده عــصا يحــث حمــاره عل السير والشوق إلى حديث عمــي صالح يأسره فقد كان يغتنم لحــظات طيبة معـه وهو يحدثه عن أحـوال المدينة وسكانها عن انتشار المـدارس وغزو الطلاب لها وعن الأساتذة عن العلم عن الطموح والمستقبل المشرق فلم يكن ذا شغـف بتجـارته الزهيدة التي كان يرتحل ويقصد دكان عمي صالح لأجلها وكان هذا الأخير ينير له الطريق بحـديثه وكذالك النفوس الطيبة عندما تصبغها صبغة الخير فتتحرك صوبه تلقائيا وهكذا نفخ عمي صالح في روع عمر.
يتقلب عمر في فراشـــه البسيط, حصـــيرة من الدوم آلفها مـــنذ أن احتضنته الخـالة يامنة, لا زالت رواية الخالة عالقة في مخــيلته المتعبة يوم أن هاجم المستعمر الدوار يقتحمون كل كوخ لعلهم يجدون ضالة مفقودة, انسلوا نحو كوخ عمر ودفعوا الباب بكل قوة وعنف فوقفت فاطمة أم عمر فزعة وقفزة خلفها سعاد البراءة ذات الحدية عشر و كان عمر مسترسلا في نوم عميق لم يتجاوز الرابعة من عمره لا يدري ما يجري حوله دنا ضابطهم القذر ورما يده نحو كتف فاطمة فأمسكت سعاد بيد ودفعت يدها كالسهم نحو عين الوحش وضغطت سبابتها بكل قوة تراجع الضابط إلى الخلف وأفرغ ما في جعبة السلاح من رصاصات على جسد البراءة سعاد وأمها الطاهرة فاطمة فصعدت روح الأم وابنتها إلى خالقها لتنعم مع الشهداء لقد اختارت الموت بشرف على أن تفترسها الذئاب فما أروع تلك النفس الطيبة.. خرج الضابط وقد فقأت عينه لتبقى له ذكره من أرض العزة والشهامة دخلت الخالة يامنة وما إن رأت الجثتين حتى أطلقت زغاريد مدوية اهتز لها الجبل
واندفعت النسوة ملبية النداء وانطلقت حناجرهن بزغاريد مدوية لم تكن تلك الأمسية من خريف سنة 1955 إلا حلقة قد شدت إلى حلقات أخرى وليس من باب الصدفة أن يفترس العدو تلك البراءة وأمها وفي صبيحة ذالك اليوم نصب عساكر المستعمر كمينا للمجاهدين وبدل أن يوقعوهم فيه وجدوا أنفسهم أمام أشاوس وأبطال لقنوهم درسا قاسيا وكبدوهم خسائر جسيمة في الأرواح وسقط عبد القادر شهيدا ليلتحق بقوافل الشهداء وانسحب المجاهدون بنعمة الله لقد عكر فرحت النصر فراق عبد القادر ولم يتسنى لهم حمل جثته لقد أخترق صفوف العدو كالأسد الضاري يزرع فيهم الموت مرددا ..الله أكبر.. والقلب ينبض حبا لشهادة وقد أكرمه الله بها ومع آخر قطرة دم سقط البطل شهيدا ولما وضعت المعركة أوزارها وانكشف الأسد مستلقيا على ظهره معانق سلاحه وسياج الرهبة يحرسه فمن ذا الذي يقترب إليه, أشار الضابط إلى أحد الخونة بجنبه ممن خانوا الشعب والوطن وقد كانوا وسمة عار ونقطة سوداء في الثورة المباركة كانوا سكين الغدر الذي يطعن في الظهر نعم أنى له أن يتقدم وكيف يتقدم وقدماه تأبى أن تتحرك فنهره الضابط بسلاحه فتقدم بخطى ثقيلة وقف قرب البطل يرتعش وانحنى كأنه يتأمل من على شفى حفرة عميقة كيف والبطل كان نعم الجار وسيدا ذا كرم وشهامة لقد عرفه وأخبر العدو لينطلق نحوى دوار سيدي عامر يجر الهزيمة المرة فيفرغ جم غضبه في فاطمة وابنتها سعاد هكذا تتعانق أرواح الزوج والزوجة والبنت سعاد ويبقى عمر وحيد يتيم ويتربى في حجر الخالة يامنة فتنبته نباتا طيبا وتفيض عليه بحنانها وحبها ولما بلغ السابعة من عمره ألحقته بالكتاب وقد منى الله عليه بعد ستة سنوات أن حفظ القرءان كله علي يد الشيخ الجليل مختار والي جانب تحفيظه للقرآن زرع في نفسه القيم السامية والأخلاق الحميدة فكسب عمر علو الهمة والرفعة وطيبة النفس مم جعل أهل الدوار يحبونه ويبجلونه وفي صيف 1963 فقد سنده الوحيد في هذه الحيات الخالة يامنة وودعها إلى مثواها الأخير.
ينفلق فجر أخر من أيام عمر وكعادته مع أول صيحة الديك ينهض عمر يصلي ركعات ويهرع إلى حماره يفك عقاله و يجذب طرف الحبل فيتحرك خلفه يهرول بين الأحراش تارة منعرجا وتارة منحدرا على مسلك ضيق كضيق المعيشة في دوار سيدي عامر وقد كان عمر همزة وصل بين الدوار والمدينة التي تبعد عنه مسافة 40 كيلومتر , لم يكن يشعر بتلك المسافة فكان مشغول الذهن بحال الدوار المزري فجل أترابه ضائعون يقضون أيامهم تسكعا في الوديان والرعي , وقد زاد الأمر تعقيدا أن تولى مكان الشيخ مختار بعد وفاته بوعلام ولم يكن أهلا لذالك لما انطوت عليه سريرته من سوء وطبع على الجشع والطمع و كان الأهالي يخصون الشيخ مقاما رفيعا كالحاكم الذي لا يقطع أمر دونه ويستشار في الصغيرة والكبيرة وكانت كلمة سيدي الشيخ كافية لتداعب نفس معلولة بحب الجاه والتسلط كنفس بوعلام الذي فرض نفسه بقوة المال فقد كان له من أشجار الزيتون ما يعادل حصة الأهالي ناهيك عن قطيع الغنم الذي كان يستأجر له الرعاة ومن أسوء ما كان عليه من جهالة مقته للثورة وأبطالها الأشاوس والقدح والذم في العلماء الذين يصدعون بالحق ويدعون للصلاح فهو يرى فيهم الموت الزاحف والضربة القاضية لطموحه وغايته وان غاية ما يطمح له أن ينعم في دنياه ويلبي شهواته كما تعيش البهائم وكل عمل يفعله يتظاهر بيه لوجه الله وما هو إلى قناع يخفي الوجه القبيح إذ كيف لمن يعرض عن الحقيقة ويدير لها ظهره أن يكون يبتغي وجه الله وكيف لمن يرى الجياع فلا يطعمهم وقد رزقه الله النعمة يبتغي وجه الله وكيف لمن يرى ذا الحاجة ولا يخدمه وهو قادر على الفعل يبتغي وجه الله هذه الجرثومة لا تظهر إلا في مستنقع آسن ولذا صدع الامام عبد الحميد بن باديس رحمه الله بدعوته وحمل لواء الإصلاح ومشعل النهضة ودأب في تطهير المجتمع من هذه الطفيليات التي نفخت في روع الشعب من أفكارها السوداء وجعلت الدين طقوس تقام بقرع الطبول وشطحات الاستهتار والذبح على القبور والاستغاثة بالأموات في ما كان العدو يلتهم الأرض شبرا شبرا ويمسخ هوية الشعب لقد أدرك هذا العدو من تجارب خاضها مع الرجال الصادقون أمثال الأمير عبد القادر والشيخ بوعمامة أن الشعب لا يتحرك إلا بالدين فجعل من الواقع مستنقع وزرع فيه جراثيم كبوعلام حتى يطيل من عمر بقائه وكان الفضل من الله أن أنعم على الشعب برجل ليس ككل الرجال عبد الحميد بن بديس رحمه الله فغير واقع الشعب ومهد له طريق الحرية وسبيل الخلاص فتحقق الاستقلال وظهر بوعلام بردائه القديم الوسخ ينشر الجهل ويرسخ معانات أهل الدوار لقد جعل من المسجد المتواضع منطلق لدعوته المنحرفة حديثه لناس أساطير الشعوذة والدجل وحكايات أهل القبور ومعجزاتهم مع الأحياء ولكم تمنى لو كان في المسجد ضريح فيتم له المغنم
ما كان عمر يدرك هذه الحقائق لولا أن حملته تلك الأقدام النحيفة على مسالك وعرة وهو الفتى ذا الخامسة عشر ربيع ينسل كل فجر من كوخه المتواضع يحث الخطى يطلب الحياة أبى أن يستسلم للقدر لم يثنيه جمال الريف ولا جداوله ولا أزهاره العبقة لقد أدرك أن هذه الحقائق باب ينفتح على ميدان ينزله الأبطال ليمتطي فيه جواد فيسابق الزمن لعله يظفر بمجد يمنحه الخلود لحاضات قليلة وان كان السير مجهد وينزل على المدينة وقد بدا نصف قرص الشمس في الأفق يرسل أشعته الدافئة التي ينتظرها عمر بشغف يترجل أمام دكان عمي صالح ويلقي التحية فيهب إليه الشيخ الذي أوهنته الأيام ويكفي أن عرفت أنه عايش فترة الاستعمار طفلا وشابا وكهلا وشيخا عايشها روحا وجسدا وفكرا هب يعانق الفتى.. مرحبا بك عمر كيف حالك ؟ وحال أهل الدوار؟ بصوت حاد يرد الفتى الحمد لله بخير.. ثم يقطع نفسه ويتبع لا زال الدوار كالأمس.. يطلب الشيخ من ابنه أن يأتيه بإبريق الشاي ويدعو عمر للجلوس بجنبه يربت على كتف عمر أتدري؟ حين أراك أرى شبابي فيشدني الحنين إلى أيام مضت وتركت ذكراها في حياتي بالأمس كنا تحتي وطأة الاستعمار الغاشم لم نكن نطمح إلا للاستقلال ولم نكن نرى عنه بديل بذلنا النفس والنفيس قمنا إليه سعيا حتى إذا تحقق بتنا نرى فيكم معشر الشباب مواصلة المسيرة فالاستقلال والتحرر هو انبعاث أمة حق لها أن تسير بين الأمم حاملة المشعل بما حاباها الله من فضل وبما خصها من أسباب لقد كانت انطلاقة ثورتنا المباركة عن تخطيط محكم وسبق ذالك دعوة رجال تشبعوا بروح الإسلام ونهلوا من بحر العلم فكانت دعوتهم كالشمس ترسل شعاعها فينير الدرب فقطع حديثه عمر لكن سيدي لماذا كل تلك السنين من عمر الاستعمار...؟ بني إن العدو المحتل في حقيقته شر باطل والصراع قائم بين الشر والخير بين الحق والباطل وان كان العدو المحتل قد مكث بيننا زمن طويل فمرده إلى الضعف والوهن ولا يعلو الباطل إلى في غفلة أهل الحق وهذا ما أطال من عمر المستعمر ناهيك عن ما قد زرعه في هذه السنين الطويلة وما قد هدمه فينا لقد عمد إلى العقول والقلوب الضعيفة فكانت هينة كالعجينة فشكلها كما شاء وهيئها لسنين أخرى طويلة ولا تلبث هذه الفئة أن تكون خليفة المستعمر
هز عمر رأسه كمن وجد مفتاح لباب موصد وأيقن عمي صالح أنها ساعة الافتراق فبادره ما حاجتك اليوم فرد عمر شموع وسكر حمل بضاعته على الحمار وودع عمي صالح انطلق نحو مسلك الدوار وقد على قرص الشمس وجدّ عمر في السير راجعا ببضاعته الزهيدة يبيعها لقومه لقد كان دائم السعي تراه مساءا يحمل فأسا يحتطب فيصنع منه فحما يبيعه فلم يكن ثمار الزيتون على قلته ومحدودية دخله يكفي عمر بل وجد في الفحم وسيلة أخرى لينشط تجارته البسيطة فهذه ميزة تفرد عمر بها في الدوار وقد رفعته في أعين قومه سوى بوعلام الذي كان يرى فيه مصدر قلق وإزعاج فلم يكن يرضى لهذا الفتى اليتيم البائس الفقير أن تراه الأعين وتذكره الألسن بالخير وكأنما أطلع إلى السموات العلى فقرأ في صفيحة الفتى فخبر اليقين