matrixano02
2010-03-13, 12:49
إمبراطورية الفضائح والإخفاقات فشل سلطة أو غرق بلاد برمتها
هذا عنوان لمقال وجدته في الخبر الأسبوعي وأراه مهما لانه يلخّص بدقة ووضوح جريئين ما يحدث في الجزائر في الفترة الأخيرة في المجالين السياسي و الإقتصادي وهو مقسم لجزأين
الجزأ الأول
إنني لا أتذكر بأن جلالته قد طرد أو عاقب أياً كان بسبب الرشوة. فلنستفد إذن من الفساد ما دمنا ندرك كيف نثبت ولاءنا ر. كابيسينسكي النجاشي.
هناك حقيقة أصبحت ماثلة للعيان أضحت تتجلى بشكل متواتر وهي أن الجزائر لم تعد بلدا قابلا للحكم. إن عدم الانضباط وعدم احترام القوانين والسياسات ورفض النقد واحتقار المعارضة الدائم وتكرار الفضائح واستمرار الجدل، أمور لا يمكن أن تفضي إلى تطور الحكم وازدهاره، سيما إذا كانت الحكومة في عطالة مستديمة بسبب تركيز السلطات بين يديْ رجلٍ واحدٍ لا قدرة له على تطوير البلاد.
توجد الجزائر اليوم في وضعية كارثية لا تحتمل، فالاقتصاد تمزقت أوصاله والعدالة مسخرة في خدمة رجل المرحلة القوي والوضع الأمني يزداد تدهورا والإرهاب يعاود الانتشار والتربية الوطنية تتفسخ.
إنه من السهل التلاعب بالجاهل، خاصة في فترات البؤس والخوف. وإن تأسيس مجتمع جاهل يسوده البؤس والخوف لأمر يبدو متوافقا تماما ومرامي السلطة. والوضع هو كما يلي: ستة (06) ملايين فقير، أربعة )04( ملايين أمي، السجون مملوءة عن آخرها، وآلاف المواطنين الذين حصدهم الإرهاب وآلاف الحرّاقة.
لقد تحدث مالك بن نبي عن استعمار المجتمع حين يبقى مبعدا عن المعرفة ومتروكا في حالة من الخوف والرعب الدائمين، وتحديدا إذا بقي في حالة البؤس والحاجة الدائمة. اليوم يمكننا الحديث عن حالة تدجين المجتمع لقبول الاحتقار، الرشوة والحكم السيئ. باختصار كل ما يجعل المواطن يقبل بإنشاء دولة بلا حقوق وهذا بخلق * عن وعي أو بدونه * مناخ موات لتعبئة المجتمع وليس لانخراطه، أي جرجرته من مرحلة قابلية الاستعمار إلى الرضوخ.
حصيلة قاتمة وآفاق سلبية
لم تعد الجزائر تذكرُ اليوم رفقة الدول التي تتطور وإنما ضمن الدول الأكثـر تعارضا مع التاريخ. فبعد سنة واحدة من الانتخابات الرئاسية المشكك فيها، جاء ترتيب عالمي للتذكير بأن الديمقراطية ما تزال غير متوفرة في الجزائر. وما يؤكد هذا الوضع هو ذلك التقرير الذي أعدّته وحدة الاستخبارات الاقتصادية (The economist intelligence unit) فيما يتعلق بمؤشر الديمقراطية في العالم، والذي احتلت فيه بلادنا المرتبة 133 من مجموع 167 بلدا. لقد تمّ إعداد تقرير وحدة الاستخبارات الاقتصادية على أساس معايير محددة مثل التعددية، الانتخاب الحر وحق المواطنين في مقاضاة مسؤولي الحكومات أو أفراد الشرطة.
لقد قسّم التقرير الدول إلى أربعة أصناف: الأمم التي تعيش في كنف الديمقراطية التامة وهي 30 أمة، وتلك التي تعيش في ظل ديمقراطية منقوصة وعددها ,50 ومن تعيش ضمن نظام هجين (36) ومن تعيش في ظل نظام استبدادي وهي 36 دولة. لقد وضع محررو هذا التقرير الجزائر في الخانة المخصصة "للأنظمة الاستبدادية". ويأتي هذا التقييم الخاص بالجزائر ليؤكد التقارير الأخيرة التي قامت بها بعض المنظمات الدولية، بما في ذلك تلك الوثيقة الدبلوماسية للاتحاد الأوروبي والتي نشرت منذ أشهر، وفيها تمّت الإشارة بوضوح إلى الأمراض التي انتشرت في مجال العدالة وحرية التعبير ومكافحة الرشوة وكذا الحق في إنشاء الجمعيات (الأحزاب السياسية، المنظمات الدولية وغير الحكومية، النقابات والجمعيات).
سياسيا تُرَّتَبُ بلادُنا في المرتبة العاشرة (10) من حيث حسن انتخاب الرؤساء الذين هم في الخدمة لحدّ الآن. إنهم كهول وما زالوا في سدّة الحكم منذ عقود وبإمكانهم التباهي بأنهم وصلوا للحكم في بلدانهم عن طريق الاستفتاء. فالأول هو ثيودورو أوبيانغ نجوما امباسوغو، غينيا الاستوائية بـ1,97 بالمائة. الثاني هو نور سلطان نازارباياف، كازاخستان بـ91 بالمائة. الثالث عبد العزيز بوتفليقة، الجزائر 24,90 بالمائة. الرابع زين العابدين بن علي، تونس بـ62,89 بالمائة. الخامس غوربانغولي بيرديمحمدوف، تركمانستان بـ23,89 بالمائة. السادس حسني مبارك، مصر بـ6,88 بالمائة. السابع إسلوم كاريموف، أوزباكستان بـ1,88 بالمائة. الثامن عمر حسن البشير، السودان بـ5,86 بالمائة. التاسع روبرت موغابي، زيمبابوي بـ5,85 بالمائة. العاشر ألكسندر لوكاتشنكو، بيلوروسيا بـ6,82 بالمائة.
للأسف الشديد أن الحكم الاستبدادي تمكن من تحويل هذه الدول الجميلة جدا والغنية إلى دول بائسة، فاسدة ومنبوذة من شبابها...
ففي مجال الحرية، نجد الجزائر في المرتبة 141 ونجدها في الرواق الـ100 (من مجموع 179) من تصنيف الأمم المتحدة فيما يخص التنمية البشرية (التربية، الصحة، مستوى المعيشة...). أما التقرير الذي شرع في نشره منذ ,1995 فإن IPC يسمح بتسليط الضوء على مدى استشراء الفساد على المستوى العالمي وتداعياته الوخيمة على الاقتصاد وعلى معنويات المواطن، وفيه نجد أن الجزائر قد تقهقرت من 2,3 إلى 8,2 من عشرة ومن المرتبة 92 في 2008 إلى المرتبة 111 في .2009 إن جميع المحلّلين المختصين في تقييم خطر الرشوة ومعهم كافة خبراء مناخ الأعمال يعتبرون بأن أي نتيجة تكون أقل من 3 على 10 هي نتيجة تشير إلى مستوى مرتفع في استشراء الرشوة داخل هيئات الدولة ! وعلى الرغم من كافة هذه المؤشرات إلا أن التقهقر إلى أسفل الجحيم يبقى مستمرا.
وحسب مؤسسة التراث (HŽritage Fondation) فإن الترتيب المنشور بالتعاون مع الصحيفة المالية المحترمة عالميا، وول ستريت جورنال "Wall Street Journal" يؤكد أن الجزائر احتلت المرتبة 137 من مجموع 157 بلدا فيما يتعلق بمؤشر الحريات الاقتصادية وتثمين المعرفة والحكم الراشد. يبدو أن الجزائر شغوفة بجمع النقاط السلبية في مجال الإنجازات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية. فبعد الترتيب غير المشرف في الحريات والتنمية البشرية، يأتي الدور على مناخ الأعمال ليكون أفظع هو الآخر، حيث تجدر الإشارة بأن المنتدى العالمي الاقتصادي للتنافسية العامة قد أنجز تقريرا استند فيه على آراء إطارات بنكية من خلال تنقيط حُصِرَ بين 1 و7 لكافة البنوك العالمية. وبناء على هذا التنقيط احتل النظام البنكي الجزائري المرتبة 134 بنقطة 9,3 مصنفا خلف ليبيا (0,4) والليزوطو (1,4) وجمهورية الكيرزيغ بـ(1,4) وتيمور الشرقية (2,4). وما يعاب على البنوك الجزائرية هو نظامها التقليدي وخدماتها المتأخرة للغاية إزاء زبونها مقارنة بدول أخرى. وعلى الرغم من سمعة إطاراتها الطيبة ومهاراتهم التقنية إلا أن تسيير الحسابات والقروض يبقى محل شكوك كبيرة. هذا، وعلى الرغم من تحسن المؤشرات الاقتصادية الكبرى وتحسن مداخيل الجزائر، إلا أننا نسجل اختلالا في توزيع الثـروات في الجزائر. فحسب برنامج الأمم المتحدة للتنمية (PNUD) وكذا البنك العالمي، فإن نسبة الأفراد الذين يعيشون تحت خط الفقر والذين يتقاضون أقل من دولارين في اليوم تعدُّ بـ20 بالمائة من مجموع السكان، ما يمثل أكثـر من 5,6 مليون من الجزائريين، وهو الأمر الذي يخول لوزير التضامن تخيل جمهورية أفلاطونية لا وجود لها إلا في خزعبلات مسيلمة الكذاب.
لم يعرف المستوى الاجتماعي لفئة كبيرة من الجزائريين تغييرا حقيقيا يذكر، ويعود ذلك إلى التوزيع غير العادل للثـروة ولمداخيل الجزائر. فحسب الهيئات الدولية، 8,2 بالمائة من مداخيل الجزائر توزع على 10 بالمائة من طبقة المعوزين المعدمين، بينما يستفيد 20 بالمائة من فئة الأغنياء من 6,42 بالمائة من الثـروة والمداخيل.
لقد صنف البنك العالمي الجزائر في المرتبة 125 من مجموع 178 بلدا تمت دراستها في مجال مناخ الأعمال. وحري هنا الإشارة إلى أن توافق هذه الترتيبات الأخيرة ليست ضربا من ضروب الحظ، لأن هناك فعلا علاقة جدلية جهنمية بين الظاهرتين: فمن جهة هناك مناخ أعمال ثقيل، غير صحي وغارق في براثن بيروقراطية أسطورية، ومن جهة أخرى هناك استشراء واسع للفساد ما أدى إلى تعفن جسد المجتمع ونخر أهم دواليب الإدارة.
والحق أن هذا الترتيب وهذه الإحصائيات إنما جاءا ليؤكدا صرخات الإنذار التي أطلقتها الطبقة السياسية منذ أكثـر من عشر سنوات في وجه سلطة لا تقبل القسمة وتتقهقر بشكل مروع. لقد عبّر الشباب عن مدى يأسهم وفقدانهم لأي معلم بالمظاهرات وأعلنوا عن عدم إيمانهم بالوعود الضخمة المقدمة لهم، وعبّروا بعد ذلك عن تذمرهم بالإرهاب ثم في طور أخير بالانتحار الجماعي من خلال ظاهرة الحراقة. إنه من المؤلم بما كان رؤية جثث هؤلاء الشباب تقذفها الأمواج إلى الشواطئ الأوروبية كحطام تافه. لكن المثير للسخرية وغير المقبول * في آن معا * في هذه الوضعية هو أن السلطة القائمة لم تجد ما تواجه به هؤلاء الشباب وما تقدمه لهم من معونة سوى * بعد إلقاء القبض عليهم * الزج بهم في السجون بتهمة محاولة الفرار من البلاد.
إننا على وشك الاعتقاد بأن هذا البلد لم يعد صالحا للعيش. فباحتياطي يفوق مائة مليار دولار من الصرف إلا أن البلاد تكاد * بعد ثلاثة مخططات إنعاش * لا تقوى على الإقلاع. لقد بقي الاقتصاد الوطني حبيس طبيعته الريعية التي لا يستفيد منها عموم المواطنين وإنما المتملقون والمخلصون لهذه السلطة. إن كافة البرامج لكافة الحكومات المتعاقبة منذ 1999 وعلى الرغم من امتلاكها وسائل ضخمة، إلا أنها لم تتمكن من تحقيق النتائج المرجوة، وعلى الرغم من ذلك تواصل إيهام الرئيس بأن نسبة البطالة لا تتعدى 10 بالمائة وأن الإرهاب قد تم القضاء عليه وأن أزمة السكن قد أضحت خلفنا وأن الإصلاحات قد أتت أكلها وأن الاكتفاء الذاتي الغذائي قد أصبح مضمونا وأن دبلوماسيتنا مثالية. باختصار، كل الأمور تسير على أحسن حال ممكنة وهذا ما تبرزه القناة الوحيدة لتلفزيون كوريا الشمالية. من سيحاكم هؤلاء المسؤولين الفاشلين الذين ما زالوا يعتقدون بأنهم نجحوا؟ الشعب ؟ ولكن بأية وسيلة ؟ ما دام الحوار ممنوعا وما دامت نتائج الانتخابات مزورة وما دام الحقل السياسي والإعلامي مغلقا أمام الرأي الآخر، بل ويصنف أي معارضة في خانة الخيانة الموالية لمصالح الأجانب. إن التخلف ليس قدرا محتوما ينزل من السماء، ولكنه دليل على الحكم غير الراشد المرتبط بالافتقار إلى الحرية والديمقراطية والعدالة.
جذور الفساد واعتلال الجزائر
بغرض إنعاش الاقتصاد وتنويع مواردنا الطاقوية، أعلن الرئيس خياراته التي فرضها على كافة وزراء الحكومات المتعاقبة، هؤلاء الأشخاص الذين أضحوا يعرفون باسم "رجالات الرئيس" وعلى رأسهم شكيب خليل وتمّار اللذان خاضا مسارا مهنيا عريضا في الأوساط المالية الدولية، حيث الكل يؤمن بالمعجزات، غير أن الخيبة أصبحت معهم أكثـر من ماثلة للعيان. فبالنسبة لوزير الطاقة شكيب خليل، الجميع يتذكر استماتته في الدفاع عن مسألة مراجعة قانون المحروقات تحت غطاء الفعالية القصوى والتحرير إرضاء للأمريكيين من جهة وإرضاء لنواياه السيئة لخصخصة سوناطراك. ومعلوم أن تاريخ سوناطراك مرتبط ارتباطا وثيقا بتاريخ البلاد حيث يعتبرها الخبراء بمثابة جواهر العائلة التي لا يمكن بيعها إلا في حالة الأزمة بينما كان سعر البترول قد بلغ في ,2005 أي خلال سنة مراجعة هذا القانون، مستويات خيالية. إننا نحمد الله على أن مرض الرئيس وممانعات بعض الوطنيين داخل السلطة وفي خارجها ممن قطعوا الطريق أمام تلك العملية المضادة للوطن.
وعلى الرغم من ذلك، فقد تمكن الأمريكيون في عهد ديك شيني وخلال عقد كامل من الزمن من أن يصبحوا أكبر المستفيدين من تسيير البترول الجزائري، حيث أنهم انتقلوا من تسيير 06 بالمائة من الإنتاج البترولي في 1999 إلى 51 بالمائة سنة 2009 وهذا بطبيعة الحال على حساب العلاقات مع أوروبا والرأي السديد والتنويع في مجال الزبائن.
وبعيدا عن قانون المحروقات، فإن شكيب خليل حين عودته للجزائر كان قد استورد معه في حقائبه بنده الشهير الذي أطلق عليه اسم "بند الطوارئ" (clause d'urgence) فاستخدمه بنجاح كبير وعلى نطاق واسع في جميع المناقصات. والحق أن هذا البند يشبه إلى حدّ كبير إجراءات الرشوة الشرعية، سيما وأن وزيرنا الليبرالي جدا قد شغل في آن واحد ولمدة أشهر متتالية منصبي وزير الطاقة ورئيس مدير عام شركة سوناطراك، الأمر الذي لم يحدث مع أي وزير آخر منذ الاستقلال إلى يومنا هذا، بل لم يحدث حتى في ظل شحّ الإطارات خلال سنوات السبعينات. فيما بعد، نصّب واختار شخصيا الرئيس المدير العام لنفس الشركة والذي أضحى اليوم متابعا قضائيا رفقة اثنين من أبنائه والعديد من الإطارات الذين يقبعون في السجن على خلفية الفضيحة التي انفجرت داخل دائرته الوزارية دون أن نرى أدنى ردّة فعل من رئيس الجمهورية أو الهيئة البرلمانية التي تحولت إلى مؤسسة أو غرفة للتسجيل ولتبرير المهمات القذرة. لقد شكل "بند الطوارئ" (clause d'urgence) هذا العمود الفقري لفساد عارم أصبح طيلة عقد من الزمن يمثل هيكلا لنهب البلاد، ما سمح للعصابة بتعطيل جميع الهيئات المدنية والعسكرية للبلد. لقد تحول استخدام شرط "بند الطوارئ" في إطار المشاريع الفرعونية الكبرى، خاصة لدى سوناطراك وسونلغاز وفي مجال الاتصالات والبناء، إلى فرصة ذهبية لخبراء تضخيم الفواتير.
الجزء الثاني
فحين سئل الوزير شكيب خليل عن الاستخدام الشائن والمستمر لهذا البند، لم يجد من إجابة سوى قوله بأن "وزارة الدفاع تستخدمه يوميا!"، وهذا ما يضعنا أمام رسالة واضحة مفادها: التهديد المباشر ضدّ أي شخص أو هيئة خبيثة !
وبسبب "بند الطوارئ" هذا تمكنت السلطة القائمة من "دمقرطة" الرشوة في الجزائر من حيث أنها أشركت جميع الأطراف في النهب، كل حسب مستواه، إلى درجة أننا لاحظنا أن الاختلاسات والرشوة ومن ثم الثـراء غير الشرعي أصبح مرتبطا بالمنصب المحصل عليه داخل دواليب السلطة، فكلٌ يستفيد من حصته النسبية وفقا لمسؤولياته وقدراته.
ألم تكشف محاكمة الخليفة استدعاء شخصيات عاملة دون أن يُقلقها ذلك. وهل تمّ البحث والتحقيق في كافة الاختلاسات وحالات الفساد المؤكدة ؟
لقد حان الوقت * من أجل وضع حدّ لهذه الفوضى * باعتبار الموارد الطبيعية "ملكية عامة" وأن القرارات الخاصة باستثمارها يجب أن تكون "شفافة وخاضعة لرقابة جمهور عليم". إن إقرار قانون يحمي الموارد الطبيعية ومتوافق مع المادة 17 من الدستور أصبح أكثـر من مستعجل. لقد أضحى أغلبية المواطنين يرون أن استثمار الموارد الطبيعية لم يعد مفيدا للبلاد بل أضحى مفيدا للأجانب ولفئة معينة من النخبة المقربة من السلطة. لقد بات مناخ الشك هذا يؤثـر على "هدوء المجتمع". فعلى سبيل المثال، استطاعت الجزائر أن تحصل من خلال عائدات النفط على أكثـر من 600 مليار دولار خلال السنوات العشر المنصرمة، إلا أن أحدا لا يعرف تفاصيل هذه العائدات المقسمة بين الغاز والبترول والغاز المكثف. بهذا الشكل وباغتنام فرصة الريع البترولي فهمت العصابة سير النظام معتبرة نفسها قادرة على شراء كل شيء: المشاريع، الرجال السياسيين والضمائر الوطنية والدولية.
أما وزير الخصخصة، السيد تمّار فالتاريخ والشعب سيحاكمانه على تسييره الكارثي للمؤسسات وتدميره المقصود للاقتصاد الوطني من خلال الخصخصة الوهمية لجواهر الاقتصاد الوطني، من خلال برامج استراتيجية الإنعاش الاقتصادي الفاشلة والتي نجحت في خلق البؤس والرشوة والبيروقراطية. لقد اعترف الرئيس في أحد خطاباته بعد عشر سنوات، وقد فعل ذلك من أجل أن يشعرنا بأنه انتبه إلى أن السيد تمّار لم يحقق شيئا يذكر وأنه قد "تخلّص" من أجود المشاريع وأنه أضعفَ الاقتصاد الوطني. الجميع يتذكر أولى قرارات تمّار مباشرة بعد تنصيبه على رأس وزارة الخصخصة: إطلاق عديد المناقصات من أجل خصخصة مئات المؤسسات، وهذا أسلوب خطير ينبئ عن قلة الاحترافية بل ويمكن القول عنه أيضا بأنه قلّة وطنية وهروبٌ إلى الأمام واستخفاف في تسيير استراتيجية الاقتصاد الوطني.
لقد أثبت تمّار ومستشاريه بتصرفهم ذاك بأنهم لا يفقهون شيئا في حاجيات البلاد في مجالات الاستثمار والتكوين والمحافظة على النسيج الصناعي. لقد كان شعار المرحلة السائد: "كل شيء يجب أن يخضع لقانون السوق" و"الدولة لا يجب أن تهتم بالاقتصاد" و"الاعتماد على المستثمرين الأجانب هو الذي يحدث التطوير". ففي بلد يحتاج فيه كل شيء للصياغة من جديد، اختار تمّار الاعتماد على الآخرين وراح يشجّع الاستيراد والخصخصة تحت مسمى "بند الطوارئ". وبذلك ضيّع على الجزائر فرصة الولوج إلى قطاعات خلاقة للقيمة المضافة ومناصب الشغل مثلما هو الأمر في قطاع الاتصالات وتكنولوجيا الإعلام ومع هندسة البرمجيات والميكانيكا والبتروكيمياء والبيوتكنولوجيا، باعتبار توفر اليد العاملة والتكوين الجزائريَيْنِ فيها. لقد آثـر تأجيل الأولويات الوطنية لصالح حلول تقترحها مكاتب استشارات دُفِعَتْ أتعابها باهظة همُّها الأساسي هو الخصخصة ولا شيء آخر.
وبهذه الوسيلة تمَّ القضاء على أدنى إمكانية لإصلاح المؤسسات المتعثرة وفي ذات الوقت تمّ إيقاف تطور تلك التي كانت تسيَّرُ بشكلٍ جيد أو كانت لديها إمكانيات النمو مثل شركة صيدال وبي سي أر وإيني وشركة السيارات الصناعية.
لقد نجت مصانع الإسمنت من هذه العملية البشعة، إلا أن مركب الحجّار ومحاجر الحديد * للأسف الشديد * لم تسلم منها فكان مصيرها البيع المتسرع، في مرحلة بات فيها الفولاذ مادة استراتيجية شأنه شأن البترول والغاز.
واليوم وبعد سبعة أعوام من الإنتاج، بقي الحجار منحصرا في عتبة 2,1 مليون طن من الفولاذ، أي متساويا مع ما تنتجه شركة سيدار مع خفض للعمال يفوق النصف وصل إلى 6000 عامل أو أقل، مع العلم بأن المواد المعدنية قد تضاعف سعرها ثلاث مرات منذ عملية البيع تلك. كان باستطاعة مركب الحجار أن يضاعف إنتاجه وأن يخلق مناصب شغل وأن يتحكم في التكنولوجيات الحديثة، لو أنه استفاد من استثمار بعض ملايين الدولارات. وكان يمكن إحراز نتائج جيدة للبلد في كافة المستويات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية. لماذا لا يتم الاستثمار في إنتاج المواد الصيدلانية التي تستورد من الخارج وفي المواد الحديدية وغير الحديدية، في الإسمنت والتكنولوجيات الجديدة الأخرى؟
إننا نشهد اليوم بأننا قد تأخرنا أكثـر مما ينبغي، فالمرض قد استشرى عميقا وما تلك الملاحقات القضائية في حق الإطارات إلا لذر الرماد في العيون، ما لم يحدث تغيير جذري في طرق وأساليب الحكم، خاصة فيما يتعلق بالرقابة الشعبية عبر مختلف الهيئات المنتخبة ديمقراطيا وعدالة مستقلة حقيقة. لقد أصبحت الجزائر في مأزق استراتيجي حقيقي، سيما لو ينهار سعر برميل البترول الذي سينجرّ عنه لا محالة في الأجل المتوسط خطر انشطار الوحدة الوطنية ومستقبل البلاد والشعب المدجن سلفا بقابلية الاستعمار.
ومهما يكن، فإنه لحسن حظ الجزائر أن هناك عددا لا بأس به من الوطنيين الشرفاء بين صفوف الشعب والعسكريين والسياسيين والموظفين الذين أسهموا في تأخير وتعطيل بعض عمليات الخصخصة والإصلاحات الخائنة. فمن بين هؤلاء من يرفض أن تنهار البلاد. ولحسن الحظ أيضا أن الأزمة الاقتصادية العالمية ووطأة البطالة قد دفعتا ببعض زعماء العالم إلى تغيير لهجة الخطاب الليبرالي بغرض المحافظة على اقتصادياتهم من خلال إقرار إجراءات تنظيمية صارمة، ما أوقف الخصخصة الهوجاء وإلا كانت العواقب ستؤول إلى الأفظع...
إن الفشل الذريع لحصيلة عشرة أعوام من الحكم المطلق والذي أقر به الرئيس شخصيا ومرارا كان آخرها اعترافه أمام رؤساء المجالس البلدية في سنة 2008 بمسؤوليته السياسية والاقتصادية والاجتماعية، ما أدى حينها إلى ابتهاج الجميع بالنقد الذاتي الذي وجهه الرئيس لنفسه ولبرنامجه الاقتصادي واعترافه بالفشل. إن الوضع لا يحتاج لشروحات مستفيضة، فالجزائريون يعيشون يوميا على وقع الإضرابات المتكررة المقموعة وعلى إيقاع ضياع مناصب الشغل والانتحارات والمظاهرات في مختلف ربوع الوطن، وهم يعيشون كذلك على وقع أخبار الحراقة والإرهاب والفساد والاختلاسات والكوارث السياسية والجرائم الاقتصادية والغثيان الاجتماعي واختفاء الجزائر من الساحة الدولية.
لقد كانت حصيلة العشر سنوات مؤسفة للغاية: فالوضعية الاجتماعية ازدادت توترا ومعها تضاعفت الفضائح وانْتُهِكَتْ الحريات واختلّت المساواة وتم الدوس على التضامن والقضاء كلية على الديمقراطية والسلم والأمن. فكل ما كان يمنّى به هذا الشعب أضحى في خبر كان، إلى درجة أننا تلقينا صفعة مريعة من الأمريكيين والفرنسيين الذين أدرجونا على نفس القائمة إلى جانب أفغانستان والصومال.
إننا نشهد ارتدادا في القيم، فاللص أصبح من الشُطَّارِ في مجتمعنا ويكاد يتبوأ مرتبة الأبطال إذا كان صاحب ثـروة. أما ابن الحلال فتجرفه التيارات... باختصار شديد إن الجزائر تتجه نحو المجهول.
البديل:
لقد درس ميخائيل جونستون، وهو بروفيسور في العلوم السياسية ومدير سابق لقسم العلوم الاجتماعية بجامعة كولغايت بولاية نيويورك، ظاهرة الفساد السياسي والإداري منذ ,1975 وهو بالإضافة إلى ذلك كان شريكا هاما في تأسيس جريدة الفساد والإصلاح. آخر كتاب له جاء حاملا عنوان "مؤشرات الفساد: الثـروة، السلطة والديمقراطية * صحافة جامعة كامبردج، .''2005 أما المؤلف الذي يشتغل عليه حاليا فعنوانه "استراتيجيات الإصلاح" وفيه يقترح نظرة شاملة لكيفية مراقبة الفساد ضمن الأطر الاجتماعية المتنوعة ويشرح هذه التلازمية على النحو التالي:
"ترتبط الديمقراطية والتنمية والفساد ارتباطا وثيقا فيما بينها. ففي بعض الدول، تتلازم الثـروة والديمقراطية مع مستويات الفساد سواء كان ضعيفا أو معتدلا حيث يتعزز الكل بشكل متبادل. ففي مكان آخر، يشكل الفقر والهيئات غير الديمقراطية والمستويات العليا للرشوة فسيفساء الوضع، ومن الأكيد أن ارتفاع مستويات الرشوة والفساد يمثل بشكل مباشر وغير مباشر خطرا محدقا بالديمقراطية. فمن جهة تضعفُ الرشوة الهيئات السياسية وتثني مشاركة المواطنين ومن جهة ثانية تعطل وتمسخ التطور الاقتصادي وهو عنصر ضروري لصيانة الديمقراطية. فإذا كانت الدمقرطة لا تمثل في حدّ ذاتها وعدا بالتطور الاقتصادي إلا أنها تستطيع في حال إرساء التنافس السياسي المصيري أن تساهم في مكافحة الرشوة. ولكي تكون فعالة واعتبارها استراتيجية مضادة للفساد فإنه يتوجب إدخال الدمقرطة في التطور الاقتصادي القوي وفي إطار أساليب مكافحة الفساد المؤسساتي".
إن عودة مظاهر الدولة الشمولية القمعية وإغلاق المجال السياسي والإعلامي ووضع العدالة تحت الرقابة التامة للسلطة التنفيذية، هي أهم أسباب بقاء الجزائر ضمن الدول المتخلفة في كافة المستويات، بما في ذلك المجال الاقتصادي والأمني والدبلوماسي داخل المجموعة الدولية. كيف يمكن لبلد كالجزائر يملك مساحة تفوق المليوني كيلومتر مربع وتتوفر على إمكانات بشرية رائعة حيث 70 بالمائة منها لا يتعدى سنهم 30 سنة ولها تاريخ عريق وتحتوي موارد طبيعية هائلة أن تغرق * بعد نصف قرن من استقلالها * في غياهب اليأس المطلق وأن يعيش ما يقارب نصف سكانها تحت خط الفقر، وفي ذات اللحظة تبرز فئة من الأثـرياء الجدد ممن أفرزتهم دوائر السلطة ؟
لقد نجحت السلطة الجزائرية خلال السنوات الأخيرة في إحراز مفخرتين تاريخيتين هما:
* ازدياد الأثـرياء فحشا وغنى وانجراف الفقراء إلى أفظع مستويات العوز والحاجة. فهناك موجة مهولة من الأغنياء الجدد الذين يتميزون بالغطرسة والوقاحة أضحوا يمثلون * حسب تعابير رسالة أرسلها السيد ج. دانيال إلى الرئيس التونسي * استفزازا يوميا لملايين العمال والبطالين الذين لم يتمكنوا من توفير المعيشة اللائقة لأبنائهم.
* إن الشباب الذين يمثلون أكثـر من 70 بالمائة من الشعب والذين استشهد آباؤهم وأجدادهم من أجل استقلال البلاد وكرامة مواطنيها، لا يحلمون اليوم إلا بمغادرة هذه الأرض ولو تطلب ذلك دفع حياتهم ثمنا لذلك.
فبدلا من جعل البترول محركا للتنمية الوطنية وعاملا إيجابيا لخلق الثـروات وفرص العمل المستدامة، تمكنت السلطة من خلال استغلال النفط لتحوله إلى مصدر رئيسي للشرور في هذا البلد الذي نخرته الرشوة على نطاق واسع خلال هذه السنوات. نحن لسنا بحاجة إلى مهندسين ولا إلى تقنيين أو علماء اجتماع. لا حاجة لنا للتكوين المهني ... فنحن باختصار شديد في غنى عن ذكاء الناس الذين يفكرون من أجل ازدهار الوطن. وفي المقابل نحن بحاجة لأشخاص لا روح ولا ضمير لهم، هؤلاء المفتقرين للثقافة والمحولين للريع البترولي إلى مشاريع وهمية ليصبحوا بعدها أثرياء جددا. لقد تحول النفط إلى ثقافة ريعية حقيقية وإلى حسابات أنانية همُّها تحصيل المال السهل وتوزيعه دون أدنى استراتيجية تطويرية أو انشغال بمستقبل الشعب.
وبغرض فهم التطلعات المستعجلة للشعب ومن أجل تطويق المفاهيم الأساسية لراحة المواطنين، فإنه يبدو من المستعجل اليوم أكثـر من أي وقت مضى التكفل بالقطاعات الاستراتيجية والشروع في إصلاحات بحجم تطلعات المواطن وفي مستوى خطورة الوضع وهذا بـ :
* ضمان متطلبات العيش المادية مثل الشغل والقدرة الشرائية،
* الحق في التربية الجيدة لكافة أبناء الجزائر،
* توفير الرعاية الصحية النوعية وجعلها في متناول جميع المواطنين،
* فتح الحقل السياسي والإعلامي بغرض ضمان مشاركة واسعة للمواطنين مع ضمان عدالة مستقلة لخدمة المواطن.
وعلى الرغم من الملايير المبذولة إلا أن مسألة أخرى فشلت الطبقة السياسية عموما والسلطة تحديدا في تحقيقها، بينما نجحت الرياضة في إذكائها ونعني بها إمكانية التغيير التي أفرزتها هذه الرياضة. أما في حال إنكار هذا الأمر مرة أخرى واحتقاره، فإن نهر هذا الشعور الهادر سيجرف لا محالة كل شيء في مجراه، كما عهدنا ذلك دائما في عهد الحقرة التي تجرعنا حنظلها.
لقد فهم أصحاب القرار في بلادنا، حين سخّروا كل أجهزة الدولة حول الفريق الوطني ومناصريه. فهل سيهندسون ذلك النهر لتوجيه شبابنا نحو مستقبل أفضل ؟ وهل سينجح هؤلاء المهندسون في إقامة الجسور الضرورية لتوفير الحق في التربية والصحة والعدالة والشغل بصورة عادلة ومنصفة... فهذه هي السواقي التي تتشكل بها الواحة. هل سيستمعون أخيرا للشعب ولشبيبته ويقبلون بإشراكهم حقيقة في تسيير شؤون بلادهم والمضي في دفع هؤلاء الشباب كقوة إبداعية تساهم في البناء والرخاء، عوض التفرج عليهم وهم يغادرون البلاد كحراقة لتستغلهم فيما بعد أيادي الإجرام كلقمة سائغة وتستخدمهم في الإرهاب أو في أي أمر آخر.
تقع مسؤولية ابتكار هذا الجيل على السلطة القائمة حاليا بشكل عام وعلى الرئيس تحديدا، فهذا جيل متحول نشأ وترعرع وسط الفضائح والثـراء اللاشرعي والربح السريع للملايير. بالنسبة له، تحصيل المال هو الهدف وسبيل تحصيله لا يكون إلا بالطرق الأقل عدلا، أي بالسرقة ومن خلال المخدرات والإرهاب والدعارة والجريمة، بل ويمكنه الوصول لحدّ الخيانة والخيانة العظمى لأن النجاح حسبه يكون أولا وأخيرا بتحصل المال وليس عن طريق الجهد أو الدراسة. لم تعد القيم الأخلاقية والديمقراطية مثل التربية وحقوق الإنسان والصدق والجهد والعدالة والحريات والديمقراطية تهم هذا الشباب، فهذه أمور لا قيمة لها عنده.
ألا يمكن استغلال تلك التعبئة الجماعية التي أحدثتها مقابلة في كرة القدم ليصبح النجاح واقعا معيشيا دائما ؟ ولكن هذه المرة من أجل أن تنتقل العدوى إلى مجالات الصحة ومستويات العيش وتوفير العمل لفئة الشباب ومكافحة الفساد والبيروقراطية... أن تكون خاصة موجهة من أجل فهمٍ صحيحٍ وحقيقيٍ لهذا الشعب الرائع وبغرض ردم الفجوة التي فصلت دائما الحكام والمحكومين ومثّلت مصدر سوء الفهم والصراع.. ؟
صا حب المقال:
حيدر بن دريهم
*برلماني سابق @yahoo.fr57hadbendri
المصدر:الجزء 1:http://elkhabar-hebdo.com/site/news-action-show-id-800.htm
الجزء 2:http://elkhabar-hebdo.com/site/news-action-show-id-817.htm
هذا عنوان لمقال وجدته في الخبر الأسبوعي وأراه مهما لانه يلخّص بدقة ووضوح جريئين ما يحدث في الجزائر في الفترة الأخيرة في المجالين السياسي و الإقتصادي وهو مقسم لجزأين
الجزأ الأول
إنني لا أتذكر بأن جلالته قد طرد أو عاقب أياً كان بسبب الرشوة. فلنستفد إذن من الفساد ما دمنا ندرك كيف نثبت ولاءنا ر. كابيسينسكي النجاشي.
هناك حقيقة أصبحت ماثلة للعيان أضحت تتجلى بشكل متواتر وهي أن الجزائر لم تعد بلدا قابلا للحكم. إن عدم الانضباط وعدم احترام القوانين والسياسات ورفض النقد واحتقار المعارضة الدائم وتكرار الفضائح واستمرار الجدل، أمور لا يمكن أن تفضي إلى تطور الحكم وازدهاره، سيما إذا كانت الحكومة في عطالة مستديمة بسبب تركيز السلطات بين يديْ رجلٍ واحدٍ لا قدرة له على تطوير البلاد.
توجد الجزائر اليوم في وضعية كارثية لا تحتمل، فالاقتصاد تمزقت أوصاله والعدالة مسخرة في خدمة رجل المرحلة القوي والوضع الأمني يزداد تدهورا والإرهاب يعاود الانتشار والتربية الوطنية تتفسخ.
إنه من السهل التلاعب بالجاهل، خاصة في فترات البؤس والخوف. وإن تأسيس مجتمع جاهل يسوده البؤس والخوف لأمر يبدو متوافقا تماما ومرامي السلطة. والوضع هو كما يلي: ستة (06) ملايين فقير، أربعة )04( ملايين أمي، السجون مملوءة عن آخرها، وآلاف المواطنين الذين حصدهم الإرهاب وآلاف الحرّاقة.
لقد تحدث مالك بن نبي عن استعمار المجتمع حين يبقى مبعدا عن المعرفة ومتروكا في حالة من الخوف والرعب الدائمين، وتحديدا إذا بقي في حالة البؤس والحاجة الدائمة. اليوم يمكننا الحديث عن حالة تدجين المجتمع لقبول الاحتقار، الرشوة والحكم السيئ. باختصار كل ما يجعل المواطن يقبل بإنشاء دولة بلا حقوق وهذا بخلق * عن وعي أو بدونه * مناخ موات لتعبئة المجتمع وليس لانخراطه، أي جرجرته من مرحلة قابلية الاستعمار إلى الرضوخ.
حصيلة قاتمة وآفاق سلبية
لم تعد الجزائر تذكرُ اليوم رفقة الدول التي تتطور وإنما ضمن الدول الأكثـر تعارضا مع التاريخ. فبعد سنة واحدة من الانتخابات الرئاسية المشكك فيها، جاء ترتيب عالمي للتذكير بأن الديمقراطية ما تزال غير متوفرة في الجزائر. وما يؤكد هذا الوضع هو ذلك التقرير الذي أعدّته وحدة الاستخبارات الاقتصادية (The economist intelligence unit) فيما يتعلق بمؤشر الديمقراطية في العالم، والذي احتلت فيه بلادنا المرتبة 133 من مجموع 167 بلدا. لقد تمّ إعداد تقرير وحدة الاستخبارات الاقتصادية على أساس معايير محددة مثل التعددية، الانتخاب الحر وحق المواطنين في مقاضاة مسؤولي الحكومات أو أفراد الشرطة.
لقد قسّم التقرير الدول إلى أربعة أصناف: الأمم التي تعيش في كنف الديمقراطية التامة وهي 30 أمة، وتلك التي تعيش في ظل ديمقراطية منقوصة وعددها ,50 ومن تعيش ضمن نظام هجين (36) ومن تعيش في ظل نظام استبدادي وهي 36 دولة. لقد وضع محررو هذا التقرير الجزائر في الخانة المخصصة "للأنظمة الاستبدادية". ويأتي هذا التقييم الخاص بالجزائر ليؤكد التقارير الأخيرة التي قامت بها بعض المنظمات الدولية، بما في ذلك تلك الوثيقة الدبلوماسية للاتحاد الأوروبي والتي نشرت منذ أشهر، وفيها تمّت الإشارة بوضوح إلى الأمراض التي انتشرت في مجال العدالة وحرية التعبير ومكافحة الرشوة وكذا الحق في إنشاء الجمعيات (الأحزاب السياسية، المنظمات الدولية وغير الحكومية، النقابات والجمعيات).
سياسيا تُرَّتَبُ بلادُنا في المرتبة العاشرة (10) من حيث حسن انتخاب الرؤساء الذين هم في الخدمة لحدّ الآن. إنهم كهول وما زالوا في سدّة الحكم منذ عقود وبإمكانهم التباهي بأنهم وصلوا للحكم في بلدانهم عن طريق الاستفتاء. فالأول هو ثيودورو أوبيانغ نجوما امباسوغو، غينيا الاستوائية بـ1,97 بالمائة. الثاني هو نور سلطان نازارباياف، كازاخستان بـ91 بالمائة. الثالث عبد العزيز بوتفليقة، الجزائر 24,90 بالمائة. الرابع زين العابدين بن علي، تونس بـ62,89 بالمائة. الخامس غوربانغولي بيرديمحمدوف، تركمانستان بـ23,89 بالمائة. السادس حسني مبارك، مصر بـ6,88 بالمائة. السابع إسلوم كاريموف، أوزباكستان بـ1,88 بالمائة. الثامن عمر حسن البشير، السودان بـ5,86 بالمائة. التاسع روبرت موغابي، زيمبابوي بـ5,85 بالمائة. العاشر ألكسندر لوكاتشنكو، بيلوروسيا بـ6,82 بالمائة.
للأسف الشديد أن الحكم الاستبدادي تمكن من تحويل هذه الدول الجميلة جدا والغنية إلى دول بائسة، فاسدة ومنبوذة من شبابها...
ففي مجال الحرية، نجد الجزائر في المرتبة 141 ونجدها في الرواق الـ100 (من مجموع 179) من تصنيف الأمم المتحدة فيما يخص التنمية البشرية (التربية، الصحة، مستوى المعيشة...). أما التقرير الذي شرع في نشره منذ ,1995 فإن IPC يسمح بتسليط الضوء على مدى استشراء الفساد على المستوى العالمي وتداعياته الوخيمة على الاقتصاد وعلى معنويات المواطن، وفيه نجد أن الجزائر قد تقهقرت من 2,3 إلى 8,2 من عشرة ومن المرتبة 92 في 2008 إلى المرتبة 111 في .2009 إن جميع المحلّلين المختصين في تقييم خطر الرشوة ومعهم كافة خبراء مناخ الأعمال يعتبرون بأن أي نتيجة تكون أقل من 3 على 10 هي نتيجة تشير إلى مستوى مرتفع في استشراء الرشوة داخل هيئات الدولة ! وعلى الرغم من كافة هذه المؤشرات إلا أن التقهقر إلى أسفل الجحيم يبقى مستمرا.
وحسب مؤسسة التراث (HŽritage Fondation) فإن الترتيب المنشور بالتعاون مع الصحيفة المالية المحترمة عالميا، وول ستريت جورنال "Wall Street Journal" يؤكد أن الجزائر احتلت المرتبة 137 من مجموع 157 بلدا فيما يتعلق بمؤشر الحريات الاقتصادية وتثمين المعرفة والحكم الراشد. يبدو أن الجزائر شغوفة بجمع النقاط السلبية في مجال الإنجازات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية. فبعد الترتيب غير المشرف في الحريات والتنمية البشرية، يأتي الدور على مناخ الأعمال ليكون أفظع هو الآخر، حيث تجدر الإشارة بأن المنتدى العالمي الاقتصادي للتنافسية العامة قد أنجز تقريرا استند فيه على آراء إطارات بنكية من خلال تنقيط حُصِرَ بين 1 و7 لكافة البنوك العالمية. وبناء على هذا التنقيط احتل النظام البنكي الجزائري المرتبة 134 بنقطة 9,3 مصنفا خلف ليبيا (0,4) والليزوطو (1,4) وجمهورية الكيرزيغ بـ(1,4) وتيمور الشرقية (2,4). وما يعاب على البنوك الجزائرية هو نظامها التقليدي وخدماتها المتأخرة للغاية إزاء زبونها مقارنة بدول أخرى. وعلى الرغم من سمعة إطاراتها الطيبة ومهاراتهم التقنية إلا أن تسيير الحسابات والقروض يبقى محل شكوك كبيرة. هذا، وعلى الرغم من تحسن المؤشرات الاقتصادية الكبرى وتحسن مداخيل الجزائر، إلا أننا نسجل اختلالا في توزيع الثـروات في الجزائر. فحسب برنامج الأمم المتحدة للتنمية (PNUD) وكذا البنك العالمي، فإن نسبة الأفراد الذين يعيشون تحت خط الفقر والذين يتقاضون أقل من دولارين في اليوم تعدُّ بـ20 بالمائة من مجموع السكان، ما يمثل أكثـر من 5,6 مليون من الجزائريين، وهو الأمر الذي يخول لوزير التضامن تخيل جمهورية أفلاطونية لا وجود لها إلا في خزعبلات مسيلمة الكذاب.
لم يعرف المستوى الاجتماعي لفئة كبيرة من الجزائريين تغييرا حقيقيا يذكر، ويعود ذلك إلى التوزيع غير العادل للثـروة ولمداخيل الجزائر. فحسب الهيئات الدولية، 8,2 بالمائة من مداخيل الجزائر توزع على 10 بالمائة من طبقة المعوزين المعدمين، بينما يستفيد 20 بالمائة من فئة الأغنياء من 6,42 بالمائة من الثـروة والمداخيل.
لقد صنف البنك العالمي الجزائر في المرتبة 125 من مجموع 178 بلدا تمت دراستها في مجال مناخ الأعمال. وحري هنا الإشارة إلى أن توافق هذه الترتيبات الأخيرة ليست ضربا من ضروب الحظ، لأن هناك فعلا علاقة جدلية جهنمية بين الظاهرتين: فمن جهة هناك مناخ أعمال ثقيل، غير صحي وغارق في براثن بيروقراطية أسطورية، ومن جهة أخرى هناك استشراء واسع للفساد ما أدى إلى تعفن جسد المجتمع ونخر أهم دواليب الإدارة.
والحق أن هذا الترتيب وهذه الإحصائيات إنما جاءا ليؤكدا صرخات الإنذار التي أطلقتها الطبقة السياسية منذ أكثـر من عشر سنوات في وجه سلطة لا تقبل القسمة وتتقهقر بشكل مروع. لقد عبّر الشباب عن مدى يأسهم وفقدانهم لأي معلم بالمظاهرات وأعلنوا عن عدم إيمانهم بالوعود الضخمة المقدمة لهم، وعبّروا بعد ذلك عن تذمرهم بالإرهاب ثم في طور أخير بالانتحار الجماعي من خلال ظاهرة الحراقة. إنه من المؤلم بما كان رؤية جثث هؤلاء الشباب تقذفها الأمواج إلى الشواطئ الأوروبية كحطام تافه. لكن المثير للسخرية وغير المقبول * في آن معا * في هذه الوضعية هو أن السلطة القائمة لم تجد ما تواجه به هؤلاء الشباب وما تقدمه لهم من معونة سوى * بعد إلقاء القبض عليهم * الزج بهم في السجون بتهمة محاولة الفرار من البلاد.
إننا على وشك الاعتقاد بأن هذا البلد لم يعد صالحا للعيش. فباحتياطي يفوق مائة مليار دولار من الصرف إلا أن البلاد تكاد * بعد ثلاثة مخططات إنعاش * لا تقوى على الإقلاع. لقد بقي الاقتصاد الوطني حبيس طبيعته الريعية التي لا يستفيد منها عموم المواطنين وإنما المتملقون والمخلصون لهذه السلطة. إن كافة البرامج لكافة الحكومات المتعاقبة منذ 1999 وعلى الرغم من امتلاكها وسائل ضخمة، إلا أنها لم تتمكن من تحقيق النتائج المرجوة، وعلى الرغم من ذلك تواصل إيهام الرئيس بأن نسبة البطالة لا تتعدى 10 بالمائة وأن الإرهاب قد تم القضاء عليه وأن أزمة السكن قد أضحت خلفنا وأن الإصلاحات قد أتت أكلها وأن الاكتفاء الذاتي الغذائي قد أصبح مضمونا وأن دبلوماسيتنا مثالية. باختصار، كل الأمور تسير على أحسن حال ممكنة وهذا ما تبرزه القناة الوحيدة لتلفزيون كوريا الشمالية. من سيحاكم هؤلاء المسؤولين الفاشلين الذين ما زالوا يعتقدون بأنهم نجحوا؟ الشعب ؟ ولكن بأية وسيلة ؟ ما دام الحوار ممنوعا وما دامت نتائج الانتخابات مزورة وما دام الحقل السياسي والإعلامي مغلقا أمام الرأي الآخر، بل ويصنف أي معارضة في خانة الخيانة الموالية لمصالح الأجانب. إن التخلف ليس قدرا محتوما ينزل من السماء، ولكنه دليل على الحكم غير الراشد المرتبط بالافتقار إلى الحرية والديمقراطية والعدالة.
جذور الفساد واعتلال الجزائر
بغرض إنعاش الاقتصاد وتنويع مواردنا الطاقوية، أعلن الرئيس خياراته التي فرضها على كافة وزراء الحكومات المتعاقبة، هؤلاء الأشخاص الذين أضحوا يعرفون باسم "رجالات الرئيس" وعلى رأسهم شكيب خليل وتمّار اللذان خاضا مسارا مهنيا عريضا في الأوساط المالية الدولية، حيث الكل يؤمن بالمعجزات، غير أن الخيبة أصبحت معهم أكثـر من ماثلة للعيان. فبالنسبة لوزير الطاقة شكيب خليل، الجميع يتذكر استماتته في الدفاع عن مسألة مراجعة قانون المحروقات تحت غطاء الفعالية القصوى والتحرير إرضاء للأمريكيين من جهة وإرضاء لنواياه السيئة لخصخصة سوناطراك. ومعلوم أن تاريخ سوناطراك مرتبط ارتباطا وثيقا بتاريخ البلاد حيث يعتبرها الخبراء بمثابة جواهر العائلة التي لا يمكن بيعها إلا في حالة الأزمة بينما كان سعر البترول قد بلغ في ,2005 أي خلال سنة مراجعة هذا القانون، مستويات خيالية. إننا نحمد الله على أن مرض الرئيس وممانعات بعض الوطنيين داخل السلطة وفي خارجها ممن قطعوا الطريق أمام تلك العملية المضادة للوطن.
وعلى الرغم من ذلك، فقد تمكن الأمريكيون في عهد ديك شيني وخلال عقد كامل من الزمن من أن يصبحوا أكبر المستفيدين من تسيير البترول الجزائري، حيث أنهم انتقلوا من تسيير 06 بالمائة من الإنتاج البترولي في 1999 إلى 51 بالمائة سنة 2009 وهذا بطبيعة الحال على حساب العلاقات مع أوروبا والرأي السديد والتنويع في مجال الزبائن.
وبعيدا عن قانون المحروقات، فإن شكيب خليل حين عودته للجزائر كان قد استورد معه في حقائبه بنده الشهير الذي أطلق عليه اسم "بند الطوارئ" (clause d'urgence) فاستخدمه بنجاح كبير وعلى نطاق واسع في جميع المناقصات. والحق أن هذا البند يشبه إلى حدّ كبير إجراءات الرشوة الشرعية، سيما وأن وزيرنا الليبرالي جدا قد شغل في آن واحد ولمدة أشهر متتالية منصبي وزير الطاقة ورئيس مدير عام شركة سوناطراك، الأمر الذي لم يحدث مع أي وزير آخر منذ الاستقلال إلى يومنا هذا، بل لم يحدث حتى في ظل شحّ الإطارات خلال سنوات السبعينات. فيما بعد، نصّب واختار شخصيا الرئيس المدير العام لنفس الشركة والذي أضحى اليوم متابعا قضائيا رفقة اثنين من أبنائه والعديد من الإطارات الذين يقبعون في السجن على خلفية الفضيحة التي انفجرت داخل دائرته الوزارية دون أن نرى أدنى ردّة فعل من رئيس الجمهورية أو الهيئة البرلمانية التي تحولت إلى مؤسسة أو غرفة للتسجيل ولتبرير المهمات القذرة. لقد شكل "بند الطوارئ" (clause d'urgence) هذا العمود الفقري لفساد عارم أصبح طيلة عقد من الزمن يمثل هيكلا لنهب البلاد، ما سمح للعصابة بتعطيل جميع الهيئات المدنية والعسكرية للبلد. لقد تحول استخدام شرط "بند الطوارئ" في إطار المشاريع الفرعونية الكبرى، خاصة لدى سوناطراك وسونلغاز وفي مجال الاتصالات والبناء، إلى فرصة ذهبية لخبراء تضخيم الفواتير.
الجزء الثاني
فحين سئل الوزير شكيب خليل عن الاستخدام الشائن والمستمر لهذا البند، لم يجد من إجابة سوى قوله بأن "وزارة الدفاع تستخدمه يوميا!"، وهذا ما يضعنا أمام رسالة واضحة مفادها: التهديد المباشر ضدّ أي شخص أو هيئة خبيثة !
وبسبب "بند الطوارئ" هذا تمكنت السلطة القائمة من "دمقرطة" الرشوة في الجزائر من حيث أنها أشركت جميع الأطراف في النهب، كل حسب مستواه، إلى درجة أننا لاحظنا أن الاختلاسات والرشوة ومن ثم الثـراء غير الشرعي أصبح مرتبطا بالمنصب المحصل عليه داخل دواليب السلطة، فكلٌ يستفيد من حصته النسبية وفقا لمسؤولياته وقدراته.
ألم تكشف محاكمة الخليفة استدعاء شخصيات عاملة دون أن يُقلقها ذلك. وهل تمّ البحث والتحقيق في كافة الاختلاسات وحالات الفساد المؤكدة ؟
لقد حان الوقت * من أجل وضع حدّ لهذه الفوضى * باعتبار الموارد الطبيعية "ملكية عامة" وأن القرارات الخاصة باستثمارها يجب أن تكون "شفافة وخاضعة لرقابة جمهور عليم". إن إقرار قانون يحمي الموارد الطبيعية ومتوافق مع المادة 17 من الدستور أصبح أكثـر من مستعجل. لقد أضحى أغلبية المواطنين يرون أن استثمار الموارد الطبيعية لم يعد مفيدا للبلاد بل أضحى مفيدا للأجانب ولفئة معينة من النخبة المقربة من السلطة. لقد بات مناخ الشك هذا يؤثـر على "هدوء المجتمع". فعلى سبيل المثال، استطاعت الجزائر أن تحصل من خلال عائدات النفط على أكثـر من 600 مليار دولار خلال السنوات العشر المنصرمة، إلا أن أحدا لا يعرف تفاصيل هذه العائدات المقسمة بين الغاز والبترول والغاز المكثف. بهذا الشكل وباغتنام فرصة الريع البترولي فهمت العصابة سير النظام معتبرة نفسها قادرة على شراء كل شيء: المشاريع، الرجال السياسيين والضمائر الوطنية والدولية.
أما وزير الخصخصة، السيد تمّار فالتاريخ والشعب سيحاكمانه على تسييره الكارثي للمؤسسات وتدميره المقصود للاقتصاد الوطني من خلال الخصخصة الوهمية لجواهر الاقتصاد الوطني، من خلال برامج استراتيجية الإنعاش الاقتصادي الفاشلة والتي نجحت في خلق البؤس والرشوة والبيروقراطية. لقد اعترف الرئيس في أحد خطاباته بعد عشر سنوات، وقد فعل ذلك من أجل أن يشعرنا بأنه انتبه إلى أن السيد تمّار لم يحقق شيئا يذكر وأنه قد "تخلّص" من أجود المشاريع وأنه أضعفَ الاقتصاد الوطني. الجميع يتذكر أولى قرارات تمّار مباشرة بعد تنصيبه على رأس وزارة الخصخصة: إطلاق عديد المناقصات من أجل خصخصة مئات المؤسسات، وهذا أسلوب خطير ينبئ عن قلة الاحترافية بل ويمكن القول عنه أيضا بأنه قلّة وطنية وهروبٌ إلى الأمام واستخفاف في تسيير استراتيجية الاقتصاد الوطني.
لقد أثبت تمّار ومستشاريه بتصرفهم ذاك بأنهم لا يفقهون شيئا في حاجيات البلاد في مجالات الاستثمار والتكوين والمحافظة على النسيج الصناعي. لقد كان شعار المرحلة السائد: "كل شيء يجب أن يخضع لقانون السوق" و"الدولة لا يجب أن تهتم بالاقتصاد" و"الاعتماد على المستثمرين الأجانب هو الذي يحدث التطوير". ففي بلد يحتاج فيه كل شيء للصياغة من جديد، اختار تمّار الاعتماد على الآخرين وراح يشجّع الاستيراد والخصخصة تحت مسمى "بند الطوارئ". وبذلك ضيّع على الجزائر فرصة الولوج إلى قطاعات خلاقة للقيمة المضافة ومناصب الشغل مثلما هو الأمر في قطاع الاتصالات وتكنولوجيا الإعلام ومع هندسة البرمجيات والميكانيكا والبتروكيمياء والبيوتكنولوجيا، باعتبار توفر اليد العاملة والتكوين الجزائريَيْنِ فيها. لقد آثـر تأجيل الأولويات الوطنية لصالح حلول تقترحها مكاتب استشارات دُفِعَتْ أتعابها باهظة همُّها الأساسي هو الخصخصة ولا شيء آخر.
وبهذه الوسيلة تمَّ القضاء على أدنى إمكانية لإصلاح المؤسسات المتعثرة وفي ذات الوقت تمّ إيقاف تطور تلك التي كانت تسيَّرُ بشكلٍ جيد أو كانت لديها إمكانيات النمو مثل شركة صيدال وبي سي أر وإيني وشركة السيارات الصناعية.
لقد نجت مصانع الإسمنت من هذه العملية البشعة، إلا أن مركب الحجّار ومحاجر الحديد * للأسف الشديد * لم تسلم منها فكان مصيرها البيع المتسرع، في مرحلة بات فيها الفولاذ مادة استراتيجية شأنه شأن البترول والغاز.
واليوم وبعد سبعة أعوام من الإنتاج، بقي الحجار منحصرا في عتبة 2,1 مليون طن من الفولاذ، أي متساويا مع ما تنتجه شركة سيدار مع خفض للعمال يفوق النصف وصل إلى 6000 عامل أو أقل، مع العلم بأن المواد المعدنية قد تضاعف سعرها ثلاث مرات منذ عملية البيع تلك. كان باستطاعة مركب الحجار أن يضاعف إنتاجه وأن يخلق مناصب شغل وأن يتحكم في التكنولوجيات الحديثة، لو أنه استفاد من استثمار بعض ملايين الدولارات. وكان يمكن إحراز نتائج جيدة للبلد في كافة المستويات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية. لماذا لا يتم الاستثمار في إنتاج المواد الصيدلانية التي تستورد من الخارج وفي المواد الحديدية وغير الحديدية، في الإسمنت والتكنولوجيات الجديدة الأخرى؟
إننا نشهد اليوم بأننا قد تأخرنا أكثـر مما ينبغي، فالمرض قد استشرى عميقا وما تلك الملاحقات القضائية في حق الإطارات إلا لذر الرماد في العيون، ما لم يحدث تغيير جذري في طرق وأساليب الحكم، خاصة فيما يتعلق بالرقابة الشعبية عبر مختلف الهيئات المنتخبة ديمقراطيا وعدالة مستقلة حقيقة. لقد أصبحت الجزائر في مأزق استراتيجي حقيقي، سيما لو ينهار سعر برميل البترول الذي سينجرّ عنه لا محالة في الأجل المتوسط خطر انشطار الوحدة الوطنية ومستقبل البلاد والشعب المدجن سلفا بقابلية الاستعمار.
ومهما يكن، فإنه لحسن حظ الجزائر أن هناك عددا لا بأس به من الوطنيين الشرفاء بين صفوف الشعب والعسكريين والسياسيين والموظفين الذين أسهموا في تأخير وتعطيل بعض عمليات الخصخصة والإصلاحات الخائنة. فمن بين هؤلاء من يرفض أن تنهار البلاد. ولحسن الحظ أيضا أن الأزمة الاقتصادية العالمية ووطأة البطالة قد دفعتا ببعض زعماء العالم إلى تغيير لهجة الخطاب الليبرالي بغرض المحافظة على اقتصادياتهم من خلال إقرار إجراءات تنظيمية صارمة، ما أوقف الخصخصة الهوجاء وإلا كانت العواقب ستؤول إلى الأفظع...
إن الفشل الذريع لحصيلة عشرة أعوام من الحكم المطلق والذي أقر به الرئيس شخصيا ومرارا كان آخرها اعترافه أمام رؤساء المجالس البلدية في سنة 2008 بمسؤوليته السياسية والاقتصادية والاجتماعية، ما أدى حينها إلى ابتهاج الجميع بالنقد الذاتي الذي وجهه الرئيس لنفسه ولبرنامجه الاقتصادي واعترافه بالفشل. إن الوضع لا يحتاج لشروحات مستفيضة، فالجزائريون يعيشون يوميا على وقع الإضرابات المتكررة المقموعة وعلى إيقاع ضياع مناصب الشغل والانتحارات والمظاهرات في مختلف ربوع الوطن، وهم يعيشون كذلك على وقع أخبار الحراقة والإرهاب والفساد والاختلاسات والكوارث السياسية والجرائم الاقتصادية والغثيان الاجتماعي واختفاء الجزائر من الساحة الدولية.
لقد كانت حصيلة العشر سنوات مؤسفة للغاية: فالوضعية الاجتماعية ازدادت توترا ومعها تضاعفت الفضائح وانْتُهِكَتْ الحريات واختلّت المساواة وتم الدوس على التضامن والقضاء كلية على الديمقراطية والسلم والأمن. فكل ما كان يمنّى به هذا الشعب أضحى في خبر كان، إلى درجة أننا تلقينا صفعة مريعة من الأمريكيين والفرنسيين الذين أدرجونا على نفس القائمة إلى جانب أفغانستان والصومال.
إننا نشهد ارتدادا في القيم، فاللص أصبح من الشُطَّارِ في مجتمعنا ويكاد يتبوأ مرتبة الأبطال إذا كان صاحب ثـروة. أما ابن الحلال فتجرفه التيارات... باختصار شديد إن الجزائر تتجه نحو المجهول.
البديل:
لقد درس ميخائيل جونستون، وهو بروفيسور في العلوم السياسية ومدير سابق لقسم العلوم الاجتماعية بجامعة كولغايت بولاية نيويورك، ظاهرة الفساد السياسي والإداري منذ ,1975 وهو بالإضافة إلى ذلك كان شريكا هاما في تأسيس جريدة الفساد والإصلاح. آخر كتاب له جاء حاملا عنوان "مؤشرات الفساد: الثـروة، السلطة والديمقراطية * صحافة جامعة كامبردج، .''2005 أما المؤلف الذي يشتغل عليه حاليا فعنوانه "استراتيجيات الإصلاح" وفيه يقترح نظرة شاملة لكيفية مراقبة الفساد ضمن الأطر الاجتماعية المتنوعة ويشرح هذه التلازمية على النحو التالي:
"ترتبط الديمقراطية والتنمية والفساد ارتباطا وثيقا فيما بينها. ففي بعض الدول، تتلازم الثـروة والديمقراطية مع مستويات الفساد سواء كان ضعيفا أو معتدلا حيث يتعزز الكل بشكل متبادل. ففي مكان آخر، يشكل الفقر والهيئات غير الديمقراطية والمستويات العليا للرشوة فسيفساء الوضع، ومن الأكيد أن ارتفاع مستويات الرشوة والفساد يمثل بشكل مباشر وغير مباشر خطرا محدقا بالديمقراطية. فمن جهة تضعفُ الرشوة الهيئات السياسية وتثني مشاركة المواطنين ومن جهة ثانية تعطل وتمسخ التطور الاقتصادي وهو عنصر ضروري لصيانة الديمقراطية. فإذا كانت الدمقرطة لا تمثل في حدّ ذاتها وعدا بالتطور الاقتصادي إلا أنها تستطيع في حال إرساء التنافس السياسي المصيري أن تساهم في مكافحة الرشوة. ولكي تكون فعالة واعتبارها استراتيجية مضادة للفساد فإنه يتوجب إدخال الدمقرطة في التطور الاقتصادي القوي وفي إطار أساليب مكافحة الفساد المؤسساتي".
إن عودة مظاهر الدولة الشمولية القمعية وإغلاق المجال السياسي والإعلامي ووضع العدالة تحت الرقابة التامة للسلطة التنفيذية، هي أهم أسباب بقاء الجزائر ضمن الدول المتخلفة في كافة المستويات، بما في ذلك المجال الاقتصادي والأمني والدبلوماسي داخل المجموعة الدولية. كيف يمكن لبلد كالجزائر يملك مساحة تفوق المليوني كيلومتر مربع وتتوفر على إمكانات بشرية رائعة حيث 70 بالمائة منها لا يتعدى سنهم 30 سنة ولها تاريخ عريق وتحتوي موارد طبيعية هائلة أن تغرق * بعد نصف قرن من استقلالها * في غياهب اليأس المطلق وأن يعيش ما يقارب نصف سكانها تحت خط الفقر، وفي ذات اللحظة تبرز فئة من الأثـرياء الجدد ممن أفرزتهم دوائر السلطة ؟
لقد نجحت السلطة الجزائرية خلال السنوات الأخيرة في إحراز مفخرتين تاريخيتين هما:
* ازدياد الأثـرياء فحشا وغنى وانجراف الفقراء إلى أفظع مستويات العوز والحاجة. فهناك موجة مهولة من الأغنياء الجدد الذين يتميزون بالغطرسة والوقاحة أضحوا يمثلون * حسب تعابير رسالة أرسلها السيد ج. دانيال إلى الرئيس التونسي * استفزازا يوميا لملايين العمال والبطالين الذين لم يتمكنوا من توفير المعيشة اللائقة لأبنائهم.
* إن الشباب الذين يمثلون أكثـر من 70 بالمائة من الشعب والذين استشهد آباؤهم وأجدادهم من أجل استقلال البلاد وكرامة مواطنيها، لا يحلمون اليوم إلا بمغادرة هذه الأرض ولو تطلب ذلك دفع حياتهم ثمنا لذلك.
فبدلا من جعل البترول محركا للتنمية الوطنية وعاملا إيجابيا لخلق الثـروات وفرص العمل المستدامة، تمكنت السلطة من خلال استغلال النفط لتحوله إلى مصدر رئيسي للشرور في هذا البلد الذي نخرته الرشوة على نطاق واسع خلال هذه السنوات. نحن لسنا بحاجة إلى مهندسين ولا إلى تقنيين أو علماء اجتماع. لا حاجة لنا للتكوين المهني ... فنحن باختصار شديد في غنى عن ذكاء الناس الذين يفكرون من أجل ازدهار الوطن. وفي المقابل نحن بحاجة لأشخاص لا روح ولا ضمير لهم، هؤلاء المفتقرين للثقافة والمحولين للريع البترولي إلى مشاريع وهمية ليصبحوا بعدها أثرياء جددا. لقد تحول النفط إلى ثقافة ريعية حقيقية وإلى حسابات أنانية همُّها تحصيل المال السهل وتوزيعه دون أدنى استراتيجية تطويرية أو انشغال بمستقبل الشعب.
وبغرض فهم التطلعات المستعجلة للشعب ومن أجل تطويق المفاهيم الأساسية لراحة المواطنين، فإنه يبدو من المستعجل اليوم أكثـر من أي وقت مضى التكفل بالقطاعات الاستراتيجية والشروع في إصلاحات بحجم تطلعات المواطن وفي مستوى خطورة الوضع وهذا بـ :
* ضمان متطلبات العيش المادية مثل الشغل والقدرة الشرائية،
* الحق في التربية الجيدة لكافة أبناء الجزائر،
* توفير الرعاية الصحية النوعية وجعلها في متناول جميع المواطنين،
* فتح الحقل السياسي والإعلامي بغرض ضمان مشاركة واسعة للمواطنين مع ضمان عدالة مستقلة لخدمة المواطن.
وعلى الرغم من الملايير المبذولة إلا أن مسألة أخرى فشلت الطبقة السياسية عموما والسلطة تحديدا في تحقيقها، بينما نجحت الرياضة في إذكائها ونعني بها إمكانية التغيير التي أفرزتها هذه الرياضة. أما في حال إنكار هذا الأمر مرة أخرى واحتقاره، فإن نهر هذا الشعور الهادر سيجرف لا محالة كل شيء في مجراه، كما عهدنا ذلك دائما في عهد الحقرة التي تجرعنا حنظلها.
لقد فهم أصحاب القرار في بلادنا، حين سخّروا كل أجهزة الدولة حول الفريق الوطني ومناصريه. فهل سيهندسون ذلك النهر لتوجيه شبابنا نحو مستقبل أفضل ؟ وهل سينجح هؤلاء المهندسون في إقامة الجسور الضرورية لتوفير الحق في التربية والصحة والعدالة والشغل بصورة عادلة ومنصفة... فهذه هي السواقي التي تتشكل بها الواحة. هل سيستمعون أخيرا للشعب ولشبيبته ويقبلون بإشراكهم حقيقة في تسيير شؤون بلادهم والمضي في دفع هؤلاء الشباب كقوة إبداعية تساهم في البناء والرخاء، عوض التفرج عليهم وهم يغادرون البلاد كحراقة لتستغلهم فيما بعد أيادي الإجرام كلقمة سائغة وتستخدمهم في الإرهاب أو في أي أمر آخر.
تقع مسؤولية ابتكار هذا الجيل على السلطة القائمة حاليا بشكل عام وعلى الرئيس تحديدا، فهذا جيل متحول نشأ وترعرع وسط الفضائح والثـراء اللاشرعي والربح السريع للملايير. بالنسبة له، تحصيل المال هو الهدف وسبيل تحصيله لا يكون إلا بالطرق الأقل عدلا، أي بالسرقة ومن خلال المخدرات والإرهاب والدعارة والجريمة، بل ويمكنه الوصول لحدّ الخيانة والخيانة العظمى لأن النجاح حسبه يكون أولا وأخيرا بتحصل المال وليس عن طريق الجهد أو الدراسة. لم تعد القيم الأخلاقية والديمقراطية مثل التربية وحقوق الإنسان والصدق والجهد والعدالة والحريات والديمقراطية تهم هذا الشباب، فهذه أمور لا قيمة لها عنده.
ألا يمكن استغلال تلك التعبئة الجماعية التي أحدثتها مقابلة في كرة القدم ليصبح النجاح واقعا معيشيا دائما ؟ ولكن هذه المرة من أجل أن تنتقل العدوى إلى مجالات الصحة ومستويات العيش وتوفير العمل لفئة الشباب ومكافحة الفساد والبيروقراطية... أن تكون خاصة موجهة من أجل فهمٍ صحيحٍ وحقيقيٍ لهذا الشعب الرائع وبغرض ردم الفجوة التي فصلت دائما الحكام والمحكومين ومثّلت مصدر سوء الفهم والصراع.. ؟
صا حب المقال:
حيدر بن دريهم
*برلماني سابق @yahoo.fr57hadbendri
المصدر:الجزء 1:http://elkhabar-hebdo.com/site/news-action-show-id-800.htm
الجزء 2:http://elkhabar-hebdo.com/site/news-action-show-id-817.htm