تسجيل الدخول

مشاهدة النسخة كاملة : الشيخ محمد عبد الوهاب رحمه الله


بوعلام العاصمي
2010-03-02, 12:45
محمد بن عبد الوهاب" .. مُصلحًا ومُجدِدًا

بقلم محمد مسعد ياقوت **

رأيتُ أرباب الفُسولة يقولون عن فلان : هذا وهابي .. لأنه من أتباع هذا الشيخ ( محمد بن عبد الوهاب )
ورأيتهم يقولون على فلان : هذا متنور متحضر بل مصلح مجدد .. وذلك لأنه من أتباع " جان جاك روسو "، و" فولتير "، وطائفة من العلمانيين ...
فقلتُ في نفسي ـ متألمًا ـ : وي ! مَنْ المجدد المصلح ياقوم ؟ أفلا تعقلون ؟
فعمدتُ إلى قلمي لكتابة هذه الكلمات موضحًا الجانب التجديدي الإصلاحي في دعوة الشيخ ( محمد بن عبد الوهاب ) .
****
هذا الـمُسلم العَلَم له فضلٌ عظيم على ملايين المسلمين؛ ومع ذلك يجهل حقه الكثيرون ممن يتمرغون في أعتاب ما خلّف من فضل وعلم .
***
ليت شعري ! لو كان في أوربا مثلَه لغسلو قدميه وشربوا مرقتها !
***
ـ انطلقت دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب[1115 ـ 1206هـ ] ـ رحمه الله تعالى – من قلب الجزيرة العربية كحركة تجديدية إصلاحية، فكانت – بحق – إحدى أبرز الحركات الإسلامية الحديثة ، وبآثارها أضحى الشيخ محمد بن عبد الوهاب أحد أهم المجددين والمصلحين – إن لم يكن أهمهم بلا منازع في العصر الحديث - بل يكاد يجزم الكثيرون بأن الشيخ محمد بن عبد الوهاب هو أبرز رمز تجديدي ظهر بعد رحيل شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ عام 728هـ .

ـ إن الجانب التجديدي الذي أسهم فيه الشيخ ابن عبد الوهاب ـ رحمه الله ـ يتعلق بأشرف شيء جاء به الإسلام ، ألا وهو التوحيد .. إذ لما طال العهد بالجزيرة العربية ؛ تلطخ الناس بصنوف البدع والشركيات والخرفات إلى الدرجة التي وصلت فيها الجزيرة العربية إلى حال عهد الجاهلية الأولى قبل مبعث رسول الله – صلى الله عليه وسلم - . حيث انتشرت الخرافات والأوهام واعتقد الناس في الموتى، وتوجهوا إلى الأضرحة بالدعاء والنذور وغيرها من المظاهر الشركية .

ـ أخذ الشيخ على عاتقه تغيير ذلك الواقع الفاسد، حيث منهج المجددين دائمًا، فحارب كا ابتُدع في دين الله، خاصة فيما يتعلق في جانب العقيدة؛ كالطواف بالقبور .

زعيم النهضة الدينية الإصلاحية
ـ يقول الشيخ الدكتور وهبة الزحيلي ـ حفظه الله ـ إن " أجرأ أصوات الحق، وأكبر دعاة الإصلاح، والبناء والجهاد لإعادة تماسك الشخصية المسلمة وإعادتها لمنهج السلف الصالح: دعــوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب في القرن الثاني عشر الهجري، لتجديد الحياة المسلمة، بعد ما شابها في أوســاط العــامة من خلافات، وأوهــام، وبــدع، وانحرافـات، فكان ابن عبد الوهاب بحق، زعيم النهضة الدينية الإصلاحية المنتظر، الذي أظهر موازين العقيدة الشرعية الناصعة، وأبان حقيقة الوحدانية والوحدة والتوحيد الخالص لله عز وجل، وأن العبادة هي التوحيد، وحوّل الشراع رأساً على عقب، للعمل الكامل بالقرآن والسُنّة ... فكانت أعمـال ابن عبد الوهاب وثبـة جبـارة، وقفزة رائـعة لتصحيح خطأ الناس في العقيدة والعبادة، في وسط شوهت فيه مبادئ الإسلام ومناهجه" [انظر كتاب : مجدد الدين في القرن الثاني عشر ]

ومن ثم يمكنك القول بأن دعوة الشيخ ـ رحمه الله ـ قامت على مبدأ التنقية الشاملة والمتكاملة .. لعقائد الناس وأفكارهم وعبادتهم وسلوكياتهم ومعاملاتهم .. فهي دعوة إصلاحية اجتماعية من الدرجة الأولى تقوم على منهج الكتاب والسنة وفهم سلف الأمة..

جهاد واجتهاد ووسطية :
ويبين العلامة الأستاذ أنور الجندي – رحمه الله - أن أبرز معطيات هذه الدعوة المباركة تتمثل في عملين كبيرين :
أولهما: أنها فتحت باب الاجتهاد في الفروع بعد أن ظل مغلقاً منذ سقوط بغداد في سنة 656هـ .
وثانيها: ضرورة القيام بواجب الجهاد، وإحياء هذه الفريضة التي أصابها الوهن، فكانت الدّعوة ثورية عارمة على الاستبداد والضعف والانحلال الذي آل إليه العالم الإسلامي[أنور الجندي : العالم الإسلامي والاستعمار الثقافي ، ص:70].

ويؤكد محمد سعيد مرسي ذلك بقوله : " كان من أبرز أعمدة دعوته ( رضي الله عنه ): فتح باب الاجتهاد ، والتماس الحلول لمختلف قضايا المجتمع، من المصادر الأصلية رأساً ، وهي القرآن والسنة وإجماع المسلمين على حكم معين إلى آخر القرن الثالث الهجري ، كما دعا إلى عدم التقيد بمذهب من المذاهب الأربعة، وأعلن أن لكل قاض أن يأخذ من أي مذهب ، بما يرى ما هو أقرب إلى الكتاب والسنة ، ودعاة إلى استئناف دور العرب الأصيل في حمل لواء الدعوة الإسلامية " [عظماء الإسلام ، طنطا : دار البشير، ط 1، 1421هـ - 2001م، ص 436]

ومن هنا يتجلى عنصر الوسطية في دعوة الشيخ ـ رحمه الله ـ ، بعكس ما يشيعه المغرضون من أنها دعوة تشدد وقمع الرأي الآخر والمذهب الآخر .. بل هي كما يتبين للباحث ـ في تراث الشيخ ابن عبد الوهاب ـ أنها دعوة تدعو إلى فتح باب الاجتهاد لا غلقه ، دعوة تدعو إلى عدم التقيد بمذهب من المذاهب الأربعة ، ومن ثم عدم التعصب لأي منها ، ولقد برهن الشيخ عمليًا على وسطية دعوته لما أعلن أن لكل قاض أن يأخذ من أي مذهب من الآراء والاجتهادات ما هو أقرب إلى الكتاب والسنة .

إن من الظلم أن نتهم الدعوة الوهابية بأنها دعوة تشدد وتطرف لمجرد أن أتباعها على مذهب فقهي واحد هو مذهب الإمام أحمد بن حنبل – إمام أهل السنة - ، ولا سيما وقد أعلن مؤسس الدعوة وأعلن أنهم على معتقد سلف الأمة والأئمة الأربعة. ثم إن دعوة الشيخ لم تكن دعوة لتمكين مذهب فقهي على حساب مذهب فقهي آخر، أو لرفع راية الحنابلة وإسقاط رايات الشافعية والمالكية والأحناف، فمهمة الشيخ محمد بن عبد الوهاب كانت مهتمة بأمر عظيم الخطب جسيم التبعات يتعلق بالمعتقدات لا بالفقهيات، فالانحطاط الذي وصل إليه العرب في عهده يتعلق بمسألة الكفر والإيمان . ولم تكن المشكلات التي يواجهها الوهابيون في تبصير الناس بدينهم تتعلق بمسائل فقهية فرعية.
***
وأخيرًا ..نقول لتجار الفكر الغربي، ممن ينتسبون زورًا إلى العرب، الذين نرى جلودَهم بلون العرب، وقلوبهم أُشربت حبًا بالغرب، كما أُشرب بنو إسرائيل بالعجل، الثعالب في مسلاخ القطط .. الذين يعملون سماسرةً لمناهج الغزاة، ومندوبي مبيعات لمنتجات أوربا الفكرية التي أكل عليها الزمان وشرب – إنكم تنفثون سمومكم الفكرية - العلمانية والإلحادية والعولماتية – لتصدون بها عن سبيل الإسلام، كما ينفث الجعل ريحه الخبيث في حديقة غناء، ذات أزهار ودنان، فلن يضر الزهرة الريح المنتن . يا من تقتاتون على تجهيل الأمة، وتسطيح المسلمين ـ لقد ذرأ الله المصلحين الربانيين في كل مكان من حولكم، قد أحاطوا بكم، كما ذرأ النخل الصالح في كل أصقاع الأرض، يقشع الله بهم الظلم الكالح، والظلام الحالك، ويدفع به عن الإسلام شقوة الظالمين وعنوة الفاسدين.
"كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ " [المجادلة:21]
حالكم كما وصف الأعشى الكبير :
ألَسْتَ مُنْتَهِياً عَنْ نَحْتِ أثلَتِنَا ... وَلَسْتَ ضَائِرَهَا مَا أطّتِ الإبِلُ
كناطحٍ صخرةً يوماً ليَفْلِقَها ... فلم يَضِرْها وأَوْهَى قَرْنَه الوَعِلُ

موقع رسالة الإسلام

_____________________
** عضو الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، المشرف العام على موقع نبي الرحمة

هند تلمسان
2010-03-02, 16:47
ألَسْتَ مُنْتَهِياً عَنْ نَحْتِ أثلَتِنَا ... وَلَسْتَ ضَائِرَهَا مَا أطّتِ الإبِلُ
كناطحٍ صخرةً يوماً ليَفْلِقَها ... فلم يَضِرْها وأَوْهَى قَرْنَه الوَعِلُ
رحمة الله عليه
بارك الله فيك اخي بوعلام موضوع رائع

بوعلام العاصمي
2010-03-02, 17:18
وفيك بركة هند تلمسان شرفتي بمرورك

بوعلام العاصمي
2010-03-02, 17:26
نشأة الشيخ محمد بن عبد الوهاب

جميل حمداوي

نسبه :

ولد الشيخ محمد بن عبدالوهاب بن سليمان بن على بن محمد بن أحمد بن راشد بن بريد بن مشرف التميمي سنة 1115 هجري (1703م )

فأصله ينحدر إلى قبيلة تميم تلك القبيلة التى حافظت على موطنها في إقليم نجد واستقرت واستوطنت وتركت حياة البدو واشتغلت بأوجه النشاط الأخرى من زراعة وتجارة .

تعلمه :

ولد في عام 1115 هجرية على صاحبها أفضل الصلاة وأكمل التحية .

وتعلم على أبيه في بلدة العيينة وهذه البلدة هي مسقط رأسه رحمة الله عليه ، وهي قرية معلومة في اليمامة في نجد شمال غرب مدينة الرياض بينها وبين الرياض مسيرة سبعين كيلو مترا تقريبا ، أو ما يقارب ذلك من جهة الغرب . ولد فيها رحمة الله عليه ونشأ نشأة صالحة . وقرأ القرآن مبكرا .

واجتهد في الدراسة ، والتفقه على أبيه الشيخ عبد الوهاب بن سليمان - وكان فقيها كبيرا وعالما قديرا ، وكان قاضيا في بلدة العيينة - ثم بعد بلوغ الحلم حج وقصد بيت الله الحرام وأخذ عن بعض علماء الحرم الشريف .

ثم توجه إلى المدينة على ساكنها أفضل الصلاة والسلام ، فاجتمع بعلمائها ، وأقام فيها مدة ، وأخذ من عالمين كبيرين مشهورين في المدينة ذلك الوقت ، وهما : الشيخ عبد الله بن إبراهيم بن سيف النجدي ، أصله من المجمعة ، وهو والد الشيخ إبراهيم بن عبد الله صاحب العذب الفائض في علم الفرائض ، وأخذ أيضا عن الشيخ الكبير محمد حياة السندي بالمدينة . هذان العالمان ممن اشتهر أخذ الشيخ عنهما بالمدينة . ولعله أخذ عن غيرهما ممن لا نعرف .

ورحل الشيخ لطلب العلم إلى العراق فقصد البصرة واجتمع بعلمائها ، وأخذ عنهم ما شاء الله من العلم ، وأظهر الدعوة هناك إلى توحيد الله ودعا الناس إلى السنة ، وأظهر للناس أن الواجب على جميع المسلمين أن يأخذوا دينهم عن كتاب الله وسنة رسول الله عليه الصلاة والسلام ، وناقش وذاكر في ذلك ، وناظر هنالك من العلماء ، واشتهر من مشايخه ، هناك شخص يقال له الشيخ محمد المجموعي ، وقد ثار عليه بعض علماء السوء بالبصرة وحصل عليه وعلى شيخه المذكور بعض الأذى ، فخرج من أجل ذلك وكان من نيته أن يقصد الشام فلم يقدر على ذلك لعدم وجود النفقة الكافية ، فخرج من البصرة إلى الزبير وتوجه من الزبير إلى الإحساء واجتمع بعلمائها وذاكرهم في أشياء من أصول الدين ثم توجه إلى بلاد حريملاء وذلك ( والله أعلم ) في العقد الخامس من القرن الثاني عشر لأن أباه كان قاضيا في العيينة وصار بينه وبين أميرها نزاع فانتقل عنها إلى حريملاء سنة 1139 هجرية فقدم الشيخ محمد على أبيه في حريملاء بعد انتقاله إليها سنة 1139 هجرية ، فيكون قدومه حريملاء في عام 1140 هـ أو بعدها ، واستقر هناك ولم يزل مشتغلا بالعلم والتعليم والدعوة في حريملاء حتى مات والده في عام 1153 هجرية فحصل من بعض أهل حريملاء شر عليه ، وهم بعض السفلة بها أن يفتك به . وقيل : إن بعضهم تسور عليه الجدار فعلم بهم بعض الناس فهربوا .

استقراره في العيينة :

بعد هذه الحادثة خرج الشيخ للعيينة واستقر بها ، وأسباب غضب هؤلاء السفلة عليه أنه كان آمرا بالمعروف ناهيا عن المنكر ، وكان يحث الأمراء على تعزير المجرمين الذين يعتدون على الناس بالسلب والنهب والإيذاء ، ومن جملتهم هؤلاء السفلة الذين يقال لهم : العبيد هناك ، ولما عرفوا من الشيخ أنه ضدهم وأنه لا يرضى بأفعالهم ، وأنه يحرض الأمراء على عقوباتهم ، والحد من شرهم غضبوا وهموا أن يفتكوا به ، فصانه الله وحماه ، ثم انتقل إلى بلدة العيينة وأميرها إذ ذاك عثمان بن محمد بن معمر ، فنزل عليه ورحب به الأمير ، وقال : قم بالدعوة إلى الله ونحن معك وناصروك وأظهر له الخير ، والمحبة والموافقة على ما هو عليه ، فاشتغل الشيخ بالتعليم والإرشاد والدعوة إلى الله عز وجل ، وتوجيه الناس إلى الخير ، والمحبة في الله ، رجالهم ونسائهم ، واشتهر أمره في العيينة وعظم صيته وجاء إليها الناس من القرى المجاورة .

وفي يوم من الأيام قال الشيخ للأمير عثمان : دعنا نهدم قبة زيد بن الخطاب رضي الله عنه فإنها أسست على غير هدى ، وأن الله جل وعلا لا يرضى بهذا العمل ، والرسول صلى الله عليه وسلم نهى عن البناء على القبور ، واتخاذ المساجد عليها ، وهذه القبة فتنت الناس وغيرت العقائد ، وحصل بها الشرك فيجب هدمها ، فقال الأمير عثمان لا مانع من ذلك ، فقال الشيخ : إني أخشى أن يثور لها أهل الجبيلة ، والجبيلة قرية هناك قريبة من القبر ، فخرج عثمان ومعه جيش يبلغون 600 مقاتل لهدم القبة ، ومعهم الشيخ رحمة الله عليه فلما قربوا من القبة خرج أهل الجبيلة لما سمعوا بذلك لينصروها ويحموها .

فلما رأوا الأمير عثمان ومن معه كفوا ورجعوا عن ذلك ، فباشر الشيخ هدمها لإزالتها فأزالها الله عز وجل على يديه رحمة الله عليه . فقال الشيخ للأمير عثمان بن معمر : لا بد من هدم هذه القبة على قبر زيد - وزيد بن الخطاب رضي الله عنه هو أخو عمر بن الخطاب أمير المؤمنين رضي الله تعالى عن الجميع ، وكان من جملة الشهداء في قتال مسيلمة الكذاب في عام 12 من الهجرة النبوية ، فكان ممن قتل هناك وبني على قبره قبة فيما يذكرون ، وقد يكون قبر غيره ، لكنه فيما يذكرون أنه قبره - فوافقه عثمان كما تقدم ، وهدمت القبة بحمد الله وزال أثرها إلى اليوم ولله الحمد والمنة ، أماتها جل وعلا لما هدمت عن نية صالحة ، وقصد مستقيم ونصر للحق ، وهناك قبور أخرى منها قبر يقال : إنه قبر ضرار بن الأوزر كانت عليه قبة هدمت أيضا ، وهناك مشاهد أخرى أزالها الله عز وجل ، وكانت هناك غيران وأشجار تعبد من دون الله جل وعلا فأزيلت وقضى عليها وحذر الناس عنها . والمقصود أن الشيخ استمر رحمة الله عليه على الدعوة قولا وعملا كما تقدم ، ثم إن الشيخ أتته امرأة واعترفت عنده بالزنا عدة مرات ، وسأل عن عقلها فقيل : إنها عاقلة ولا بأس بها ، فلما صممت على الاعتراف ، ولم ترجع عن اعترافها ، ولم تدع إكراها ولا شبهة وكانت محصنة ، أمر الشيخ رحمة الله عليه بأن ترجم فرجمت بأمره حالة كونه قاضيا بالعيينة ، فاشتهر أمره بعد ذلك بهدم القبة وبرجم المرأة وبالدعوة العظيمة إلى الله وهجرة المهاجرين إلى العيينة .

طرد الشيخ بن عبدالوهاب من العيينة :

وبلغ أمير الإحساء وتوابعها من بني خالد سليمان بن عريعر الخالدي أمر الشيخ وأنه يدعو إلى الله وأنه يهدم القباب ، وأنه يقيم الحدود فعظم على هذا البدوي أمر الشيخ ، لأن من عادة البادية إلا من هدى الله ، الإقدام على الظلم ، وسفك الدماء ، ونهب الأموال ، وانتهاك الحرمات ، فخاف أن هذا الشيخ يعظم أمره ويزيل سلطان الأمير البدوي ، فكتب إلى عثمان يتوعده ويأمره أن يقتل هذا المطوع الذي عنده في العيينة ، وقال : إن المطوع الذي عندكم بلغنا عنه كذا ، وكذا!! فإما أن تقتله ، وإما أن نقطع عنك خراجك الذي عندنا!! وكان عنده للأمير عثمان خراج من الذهب ، فعظم على عثمان أمر هذا الأمير ، وخاف إن عصاه أن يقطع عنه خراجه أو يحاربه ، فقال للشيخ : إن هذا الأمير كتب إلينا كذا وكذا ، وأنه لا يحسن منا أن نقتلك وأنا نخاف هذا الأمير ولا نستطيع محاربته ، فإذا رأيت أن تخرج عنا فعلت ، فقال له الشيخ : إن الذي أدعو إليه هو دين الله وتحقيق كلمة لا إله إلا الله ، وتحقيق شهادة أن محمدا رسول الله ، فمن تمسك بهذا الدين ونصره وصدق في ذلك نصره الله وأيده وولاه على بلاد أعدائه ، فإن صبرت واستقمت وقبلت هذا الخبر فأبشر فسينصرك الله ويحميك من هذا البدوي وغيره ، وسوف يوليك الله بلاده وعشيرته ، فقال : أيها الشيخ أنا لا نستطيع محاربته ، ولا صبر لنا على مخالفته.

دخول الشيخ محمد إلى الدرعية :

فخرج الشيخ عند ذلك وتحول من العيينة إلى بلاد الدرعية ، جاء إليها ماشيا فيما ذكروا حتى وصل إليها في آخر النهار ، وقد خرج من العيينة في أول النهار ماشيا على الأقدام لم يرحله عثمان ، فدخل على شخص من خيارها في أعلى البلد يقال له : محمد بن سويلم العريني فنزل عليه ، ويقال : إن هذا الرجل خاف من نزوله عليه وضاقت به الأرض بما رحبت ، وخاف من أمير الدرعية محمد بن سعود فطمأنه الشيخ وقال له : أبشر بخير ، وهذا الذي أدعو الناس إليه دين الله ، وسوف يظهره الله ، فبلغ محمد بن سعود خبر الشيخ محمد ، ويقال :

أخبره به زوجته جاء إليها بعض الصالحين وقال لها : أخبري محمدا بهذا الرجل ، وشجعيه على قبول دعوته وحرضيه على مؤازرته ومساعدته وكانت امرأة صالحة طيبة ، فلما دخل عليها محمد بن سعود أمير الدرعية وملحقاتها قالت له : أبشر بهذه الغنيمة العظيمة! هذه غنيمة ساقها الله إليك ، رجل داعية يدعو إلى دين الله ، ويدعو إلى كتاب الله ، يدعو إلى سنة رسول الله عليه الصلاة والسلام يا لها من غنيمة! بادر بقبوله وبادر بنصرته ، ولا تقف في ذلك أبدا ، فقبل الأمير مشورتها ، ثم تردد هل يذهب إليه أو يدعوه إليه؟! فأشير عليه ويقال : إن المرأة أيضا هي التي أشارت عليه مع جماعة من الصالحين وقالوا له : لا ينبغي أن تدعوه إليك ، بل ينبغي أن تقصده في منزله ، وأن تقصده أنت وأن تعظم العلم والداعي إلى الخير ، فأجاب إلى ذلك لما كتب الله له من السعادة والخير رحمة الله عليه وأكرم الله مثواه .

لقاء الشيخ بن عبدالوهاب ببن سعود والعد بينهم :

فذهب إلى الشيخ في بيت محمد بن سويلم ، وقصده وسلم عليه وتحدث معه ، وقال له يا شيخ محمد أبشر بالنصرة وأبشر بالأمن وأبشر بالمساعدة ، فقال له الشيخ : وأنت أبشر بالنصرة أيضا والتمكين والعاقبة الحميدة ، هذا دين الله من نصره نصره الله ، ومن أيده أيده الله وسوف تجد آثار ذلك سريعا ، فقال : يا شيخ سأبايعك على دين الله ورسوله وعلى الجهاد في سبيل الله ، ولكنني أخشى إذا أيدناك ونصرناك وأظهرك الله على

أعداء الإسلام ، أن تبتغي غير أرضنا ، وأن تنتقل عنا إلى أرض أخرى فقال : لا أبايعك على هذا . . . أبايعك على أن الدم بالدم والهدم بالهدم لا أخرج عن بلادك أبدا ، فبايعه على النصرة وعلى البقاء في البلد وأنه يبقى عند الأمير يساعده ، ويجاهد معه في سبيل الله حتى يظهر دين الله ، وتمت البيعة على ذلك .

أعمال الشيخ بالدرعية :

توافد الناس إلى الدرعية من كل مكان ، من العيينة ، وعرقة ، ومنفوحة ، والرياض وغير ذلك ، من البلدان المجاورة ، ولم تزل الدرعية موضع هجرة يهاجر إليها الناس من كل مكان ، وتسامع الناس بأخبار الشيخ ، ودروسه في الدرعية ودعوته إلى الله وإرشاده إليه ، فأتوا زرافات ووحدانا .

فأقام الشيخ بالدرعية معظما مؤيدا محبوبا منصورا ورتب الدروس في الدرعية في العقائد ، وفي القرآن الكريم ، وفي التفسير ، وفي الفقه ، وأصوله ، والحديث ، ومصطلحة ، والعلوم العربية ، والتاريخية ، وغير ذلك من العلوم النافعة ، وتوافد الناس عليه من كل مكان ، وتعلم الناس علمه في الدرعية الشباب وغيرهم ، ورتب للناس دروسا كثيرة للعامة ، والخاصة ، ونشر العلم في الدرعية واستمر على الدعوة .

بدأ بالجهاد وكاتب الناس إلى الدخول في هذا الميدان وإزالة الشرك الذي في بلادهم ، وبدأ بأهل نجد ، وكاتب أمراءها وعلماؤها . كاتب علماء الرياض وأميرها دهام بن دواس ، كاتب علماء الخرج وأمراءها ، وعلماء بلاد الجنوب والقصيم وحائل والوشم ، وسدير وغير ذلك ، ولم يزل يكاتبهم ويكاتب علماءهم وأمراءهم .

وهكذا علماء الإحساء وعلماء الحرمين الشريفين ، وهكذا علماء الخارج في مصر ، والشام ، والعراق ، والهند ، واليمن ، وغير ذلك ، ولم يزل يكاتب الناس ويقيم الحجج ويذكر الناس ما وقع فيه أكثر الخلق من الشرك والبدع ، وليس معنى هذا أنه ليس هناك أنصار للدين بل هناك أنصار والله جل وعلا قد ضمن لهذا الدين أن لا بد له من ناصر ولا تزال طائفة في هذه الأمة على الحق منصورة كما قال النبي عليه الصلاة والسلام ، فهناك أنصار للحق في أقطار كثيرة .

ولكن الحديث الآن عن نجد ، فكان فيها من الشر والفساد والشرك والخرافات ما لا يحصيه إلا الله عز وجل . مع أن فيها علماء فيهم خير ، ولكن لم يقدر لهم أن ينشطوا في الدعوة وأن يقوموا بها كما ينبغي ، وهناك أيضا في اليمن وغير اليمن دعاة إلى الحق وأنصار قد عرفوا هذا الشرك وهذه الخرافات ، ولكن لم يقدر الله لدعوتهم النجاح ما قدر لدعوة الشيخ محمد لأسباب كثيرة ،

منها : عدم تيسر الناصر المساعد لهم .

ومنها : عدم الصبر لكثير من الدعاة وتحمل الأذى في سبيل الله ،

ومنها : قلة علوم بعض الدعاة التي يستطيع بها أن يوجه الناس بالأساليب المناسبة ، والعبارات اللائقة ، والحكمة والموعظة الحسنة .

ومنها : أسباب أخرى غير هذه الأسباب ، وبسبب هذه المكاتبات الكثيرة والرسائل والجهاد اشتهر أمر الشيخ ، وظهر أمر الدعوة ، واتصلت رسائله بالعلماء في داخل الجزيرة ، وفي خارجها . وتأثر بدعوته جمع غفير من الناس في الهند وفي أندونيسيا ، وفي أفغانستان ، وفي أفريقيا وفي المغرب ، وهكذا في مصر ، والشام ، والعراق ، وكان هناك دعاة كثيرون عندهم معرفة بالحق والدعوة إليه فلما بلغتهم دعوة الشيخ زاد نشاطهم ، وزادت قوتهم واشتهروا بالدعوة ولم تزل دعوة الشيخ تشتهر وتظهر بين العالم الإسلامي وغيره ، ثم في هذا العصر الأخير طبعت كتبه ، ورسائله ، وكتب أبنائه ، وأحفاده ، وأنصاره ، وأعوانه من علماء المسلمين في الجزيرة وخارجها ، وكذلك طبعت الكتب في دعوته ، وترجمته ، وأحواله ، وأحوال أنصاره ، حتى اشتهرت بين الناس في غالب الأقطار والأمصار ، ومن المعلوم أن لكل نعمة حاسدا وأن لكل داعي أعداء كثيرين قال الله تعالى : وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ

فلما اشتهر الشيخ بالدعوة وكتب الكتابات الكثيرة ، وألف المؤلفات القيمة ، ونشرها في الناس ، وكاتبه العلماء ، ظهر جماعة كثيرون من حساده ، ومن مخالفيه ، وظهر أيضا أعداء آخرون ، وصار أعداؤه وخصومه قسمين :

قسم عادوه باسم العلم والدين ، وقسم : عادوه باسم السياسة ولكن تستروا بالعلم ، وتستروا باسم الدين ، واستغلوا عداوة من عاداه من العلماء الذين أظهروا عداوته وقالوا : إنه على غير الحق ، وإنه كيت وكيت .

والشيخ رحمة الله عليه مستمر في الدعوة يزيل الشبه ، ويوضح الدليل ، ويرشد الناس إلى الحقائق على ما هي علي من كتاب الله وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام ، وطورا . يقولون : إنه من الخوارج ، وتارة يقولون : يخرق الإجماع ، ويدعي الاجتهاد المطلق ولا يبالي بمن قبله من العلماء والفقهاء وتارة يرمونه بأشياء أخرى وما ذاك إلا من قلة العلم من طائفة منه وطائفة أخرى قلدت غيرها واعتمدت عليها ، وطائفة أخرى خافت على مراكزها فعادته سياسة وتستتر باسم الإسلام والدين واعتمدت على أقوال المخرفين والمضللين .

والخصوم في الحقيقة ثلاثة أقسام :

علماء مخرفون يرون الحق باطلا والباطل حقا ، ويعتقدون أن البناء على القبور ، واتخاذ المساجد عليها ،ودعاءها من دون الله والاستغاثة بها وما أشبه ذلك دين وهدى ، ويعتقدون أن من أنكر ذلك فقد أبغض الصالحين ، وأبغض الأولياء ، وهو عدو يجب جهاده .

وقسم آخر : من المنسوبين للعلم جهلوا حقيقة هذا الرجل ، ولم يعرفوا عنه الحق الذي دعا إليه بل قلدوا غيرهم وصدقوا ما قيل فيه من الخرافيين المضللين ، وظنوا أنهم على هدى فيما نسبوه إليه من بغض الأولياء والأنبياء ، ومن معاداتهم ، وإنكار كراماتهم ، فذموا الشيخ ، وعابوا ونفروا عنه .

وقسم آخر : خافوا على المناصب والمراتب فعادوه لئلا تمتد أيدي أنصار الدعوة الإسلامية إليهم فتنزلهم عن مراكزهم ، وتستولي على بلادهم ، واستمرت الحرب الكلامية . والمجادلات والمساجلات بين الشيخ وخصومه ، يكاتبهم ويكاتبونه ، ويجادلهم ويرد عليهم ، ويردون عليه ، وهكذا جرى بين أبنائه وأحفاده وأنصاره وبين خصوم الدعوة . حتى اجتمع من ذلك رسائل كثيرة ، وردود جمة ، وقد جمعت هذه الرسائل والفتاوى والردود فبلغت مجلدات ، وقد طبع أكثرها والحمد لله ، واستمر الشيخ في الدعوة والجهاد وساعده الأمير محمد بن سعود أمير الدرعية ، وجد الأسرة السعودية على ذلك ، ورفعت راية الجهاد وبدأ الجهاد من عام 1158 هـ .

بدايت الجهاد بالسيف :

بدأ الجهاد بالسيف ، وبالكلام والبيان ، والحجة ، والبرهان ، ثم استمرت الدعوة مع الجهاد بالسيف ، ومعلوم أن الداعي إلى الله عز وجل إذا لم يكن لديه قوة تنصر الحق وتنفذه فسرعان ما تخبو دعوته وتنطفي شهرته ، ثم يقل أنصاره .

ومعلوم ما للسلاح والقوة من الأثر العظيم في نشر الدعوة ، وقمع المعارضين ونصر الحق ، وقمع الباطل ولقد صدق الله العظيم في قوله عز وجل وهو الصادق سبحانه في كل ما يقول : لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ فبين سبحانه وتعالى أنه أرسل الرسل بالبينات ، وهي الحجج والبراهين الساطعة التي يوضح الله بها الحق ، ويدفع بها الباطل ، وأنزل مع الرسل الكتاب الذي فيه البيان ، والهدى والإيضاح ، وأنزل معهم الميزان ، وهو العدل الذي ينصف به المظلوم من الظالم ، ويقام به الحق وينشر به الهدى ويعامل الناس على ضوئه بالحق والقسط ، وأنزل الحديد فيه بأس شديد ، فيه قوة وردع وزجر لمن خالف الحق ، فالحديد لمن لم تنفع فيه الحجة وتؤثر فيه البينة ، فهو الملزم بالحق ، وهو القامع للباطل ، ولقد أحسن من قال في مثل هذا :
وما هو إلا الوحي أوحد مرهف *** تزيل ظباه اخدعي كل مائل
فهذا دواء الداء من كل جاهل ** وهذا دواء الداء من كل عادل
فالعاقل ذو الفطرة السليمة ، ينتفع بالبينة ، ويقبل الحق بدليله ، أما الظالم التابع لهواه فلا يردعه إلا السيف ، فجد الشيخ رحمه الله في الدعوة والجهاد ، وساعده أنصاره من آل سعود ، طيب الله ثراهم على ذلك ، واستمروا في الجهاد والدعوة من عام 1158هـ إلى أن توفي الشيخ في عام 1206هـ فاستمر الجهاد والدعوة قريبا من خمسين عاما . جهاد ، ودعوة ، ونضال ، وجدال في الحق ، وإيضاح لما قاله الله ورسوله ، ودعوة إلى دين الله ، وإرشاد إلى ما شرعه رسول الله عليه الصلاة والسلام .

حتى التزم الناس بالطاعة ، ودخلوا في دين الله ، وهدموا ما عندهم من القباب ، وأزالوا ما لديهم من المساجد المبنية على القبور ، وحكموا الشريعة ، ودانوا بها ، وتركوا ما كانوا عليه من تحكيم سوالف الآباء والأجداد ، وقوانينهم ، ورجعوا إلى الحق .

وعمرت المساجد بالصلوات ، وحلقات العلم ، وأديت الزكوات ، وصام الناس رمضان ، كما شرع الله عز وجل ، وأمر بالمعروف ، ونهي عن المنكر ، وساد الأمن في الأمصار ، والقرى ، والطرق ، والبوادي ، ووقف البادية عند حدهم ، ودخلوا في دين الله وقبلوا الحق ، ونشر الشيخ فيهم الدعوة .

وأرسل الشيخ إليهم المرشدين ، والدعاة في الصحراء والبوادي ، كما أرسل المعلمين ، والمرشدين ، والقضاة إلى البلدان والقرى ، وعم هذا الخير العظيم والهدى المستبين نجدا كلها وانتشر فيها الحق ، وظهر فيها دين الله عز وجل .

عمل أبناء الشيخ بعده :

ثم بعد وفاة الشيخ رحمة الله عليه استمر أبناؤه ، وأحفاده ، وتلاميذه ، وأنصاره في الدعوة والجهاد ، وعلى رأس أبنائه الشيخ الإمام عبد الله بن محمد ، والشيخ حسين بن محمد ، والشيخ علي بن محمد ، والشيخ إبراهيم بن محمد ، ومن أحفاده الشيخ عبد الرحمن بن حسن ، والشيخ علي بن حسين ، والشيخ سليمان بن عبد الله بن محمد وجماعة آخرون ومن تلاميذه أيضا الشيخ حمد بن ناصر بن معمر ، وجمع غفير من علماء الدرعية ، وغيرهم استمروا في الدعوة والجهاد ونشر دين الله تعالى وكتابة الرسائل وتأليفات المؤلفات ، وجهاد أعداء الدين ، وليس بين هؤلاء الدعاة وخصومهم شيء إلا أن هؤلاء دعوا إلى توحيد الله وإخلاص العبادة لله عز وجل ، والاستقامة على ذلك ، وهدم المساجد والقباب التي على القبور ، ودعوا إلى تحكيم الشريعة والاستقامة عليها ودعوا إلى الأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر ، وإقامة الحدود الشرعية . هذه أسباب النزاع بينهم وبين الناس .

والخلاصة : أنهم أرشدوا الناس إلى توحيد الله ، وأمروهم بذلك وحذروا الناس من الشرك بالله ومن وسائله وذرائعه ، وألزموا الناس بالشريعة الإسلامية ، ومن أبى واستمر على الشرك بعد الدعوة والبيان ، والإيضاح والحجة ، جاهدوه في الله عز وجل وقصدوه في بلاده حتى يخضع للحق ، وينيب إليه ويلزموه به بالقوة والسيف ، حتى يخضع هو وأهل بلده إلى ذلك .

وكذلك حذروا الناس من البدع والخرافات ، التي ما أنزل الله بها من سلطان ، كالبناء على القبور ، واتخاذ القباب عليها والتحاكم إلى الطواغيت ، وسؤال السحرة والكهنة ، وتصديقهم وغير ذلك ، فأزال الله ذلك على يدي الشيخ وأنصاره رحمة الله عليهم جميعا . وعمرت المساجد بتدريس الكتاب العظيم والسنة المطهرة ، والتاريخ الإسلامي ، والعلوم العربية النافعة ، وصار الناس في مذاكرة ، وعلم ، وهدى ، ودعوة ، وإرشاد ، وآخرون منهم فيما يتعلق بدنياهم من الزراعة والصناعة وغير ذلك ، علم وعمل ، ودعوة وإرشاد ، ودنيا ودين ، فهو يتعلم ويذاكر ، ومع ذلك يعمل في حقله الزراعي ، أو في صناعته أو تجارته وغير ذلك . فتارة لدينه ، وتارة لدنياه دعاة إلى الله وموجهون

إلى سبيله ، ومع ذلك يشتغلون بأنواع الصناعة الرائجة في بلادهم ، ويحصلون من ذلك على ما يغنيهم عن خارج بلادهم ، وبعد فراغ الدعاة وآل سعود من نجد امتدت دعوتهم إلى الحرمين ، وجنوب الجزيرة.

دخول الحرمين :

كاتبوا علماء الحرمين سابقا ، ولاحقا فلما لم تجد الدعوة واستمر أهل الحرمين على ما هم عليه من تعظيم القباب ، واتخاذها على القبور ، ووجود الشرك عندها ، والسؤال لأربابها ، سار الإمام سعود بن عبد العزيز بن محمد بعد وفاة الشيخ بإحدى عشرة سنة توجه إلى الحجاز ، ونازل أهل الطائف ثم قصد أهل مكة وكان أهل الطائف قد توجه إليهم قبل سعود الأمير عثمان بن عبد الرحمن المضايفي ، ونازلهم بقوة أرسلها إليها الإمام سعود بن عبد العزيز بن محمد أمير الدرعية بقوة عظيمة من أهل نجد وغيرهم ، ساعدوه حتى استولى على الطائف ، وأخرج منها أمراء الشريف ، وأظهر فيه الدعوة إلى الله ، وأرشد إلى الحق ، ونهى فيها عن الشرك ، وعبادة ابن عباس ، وغيره مما كان يعبده هناك الجهال ، والسفهاء من أهل الطائف ، ثم توجه الأمير سعود عن أمر أبيه عبد العزيز إلى جهة الحجاز ، وجمعت الجيوش حول مكة .

فلما عرف شريفها أنه لا بد من التسليم أو الفرار فر إلى جدة . ودخل سعود ومن معه من المسلمين البلاد من غير قتال واستولوا على مكة في فجر 1 من شهر محرم من عام 1218هـ وأظهروا فيها الدعوة إلى دين الله ، وهدموا ما فيها

من القباب التي بنيت علي قبر خديجة وغيره ، فأزالوا القباب كلها ، وأظهروا فيها الدعوة إلى توحيد الله عز وجل ، وعينوا فيها العلماء والمدرسين ، والموجهين والمرشدين ، والقضاة الحاكمين بالشريعة

ثم بعد مدة وجيزة فتحت المدينة ، واستولى آل سعود على المدينة في عام 1220هـ بعد مكة بنحو سنتين ، واستمر الحرمان في ولاية آل سعود ، وعينوا فيها الموجهين والمرشدين ، وأظهروا في البلاد العدل وتحكيم الشريعة ، والإحسان إلى أهلها ولا سيما فقرائهم ومحاويجهم فأحسنوا إليهم بالأموال ، وواسوهم ، وعلموهم كتاب الله ، وأرشدوهم إلى الخير ، وعظموا العلماء ، وشجعوهم على التعليم ، والإرشاد ولم ينزل الحرمان الشريفان تحت ولاية آل سعود إلى عام 1226هـ ثم بدأت الجيوش المصرية والتركية تتوجه إلى الحجاز لقتال آل سعود وإخراجهم من الحرمين ، لأسباب كثيرة تقدم بعضها ، وهذه الأسباب كما تقدم هي أن أعداءهم ، وحسادهم ، والمخرفين الذين ليس لهم بصيرة ، وبعض السياسيين الذين أرادوا إخماد هذه الدعوة وخافوا منها أن تزيل مراكزهم ، وأن تقضي على أطماعهم ، كذبوا على الشيخ ، وأتباعه ، وأنصاره ، وقالوا إنهم يبغضون الرسول عليه الصلاة والسلام ، لأنهم يبغضون الأولياء ، وينكرون كراماتهم ، وقالوا

إنهم أيضا يقولون كيت وكيت مما يزعمون أنهم ينتقصون به الرسل عليهم الصلاة والسلام ، وصدق هذا بعض الجهال ، وبعض المغرضين ، وجعلوه سلما للنيل منهم والقتال لهم ، وتشجيع الأتراك والمصريين على حربهم ، فجرى ما جرى من الفتن والقتال - وصار القتال بين الجنود المصرية والتركية ومن معهم وبين آل سعود في نجد ، والحجاز ، سجالا مدة طويلة من عام 1226 هـ إلى عام 1233 هـ سبع سنين كلها قتال ونضال بين قوى الحق وقوى الباطل .

والخلاصة : أن هذا الإمام الذي هو الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمة الله عليه إنما قام لإظهار دين الله ، وإرشاد الناس إلى توحيد الله ، وإنكار ما أدخل الناس فيه من البدع والخرافات ، وقام أيضا لإلزام الناس بالحق ، وزجرهم عن الباطل ، وأمرهم بالمعروف ، ونهيهم عن المنكر .

هذه خلاصة دعوته رحمة الله تعالى عليه ، وهو في العقيدة على طريقة السلف الصالح يؤمن بالله وبأسمائه ، وصفاته ، ويؤمن بملائكته ، ورسله وكتبه ، وباليوم الآخر ، وبالقدر خيره وشره ، وهو على طريقة أئمة الإسلام في توحيد الله ، وإخلاص العبادة له جل وعلا . وفي الإيمان بأسماء الله وصفاته على الوجه اللائق بالله سبحانه ، لا يعطل صفات الله ، ولا يشبه الله بخلقه . وفي الإيمان بالبعث ، والنشور ، والجزاء والحساب ، والجنة والنار ، وغير ذلك .

خلاصة فكر الشيخ محمد بن عبدالوهاب :

يقول في الإيمان ما قاله السلف أنه قول وعمل يزيد وينقص . يزيد بالطاعة ، وينقص بالمعصية ، كل هذا من عقيدته رحمه الله ، فهو على طريقتهم وعلى عقيدتهم قولا وعملا ، لم يخرج عن طريقتهم البتة ، وليس له في ذلك مذهب خاص ، ولا طريقة خاصة ، بل هو على طريق السلف الصالح من الصحابة وأتباعهم بإحسان . رضي الله عن الجميع . وإنما أظهر ذلك في نجد ، وما حولها ودعا إلى ذلك ثم جاهد عليه من أباه ، وعانده ، وقاتلهم ، حتى ظهر دين الله وانتصر الحق ، وكذلك هو على ما عليه المسلمون من الدعوة إلى الله ، وإنكار الباطل ، والأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر ولكن الشيخ وأنصاره يدعون الناس إلى الحق ، ويلزمونهم به ، وينهونهم عن الباطل ، وينكرونه عليهم ، ويزجرونهم عنه حتى يتركوه .

وكذلك جد في إنكار البدع والخرافات حتى أزالها الله سبحانه بسبب دعوته . فالأسباب الثلاثة المتقدمة آنفا هي أسباب العداوة ، والنزل بينه وبين الناس . وهي :

أولا : إنكار الشرك والدعوة إلى التوحيد الخالص .

ثانيا : إنكار البدع ، والخرافات ، كالبناء على القبور واتخاذها مساجد ونحو ذلك كالموالد والطرق التي أحدثتها طوائف المتصوفة .

ثالثا : أنه يأمر الناس بالمعروف ، ويلزمهم به بالقوة فمن أبى المعروف الذي أوجبه الله عليه ، ألزم به وعزر عليه إذا تركه وينهى الناس عن المنكرات ، ويزجرهم عنها ، ويقيم حدودها ، ويلزم الناس الحق ، ويزجرهم عن الباطل ، وبذلك ظهر الحق ، وانتشر ، وكبت الباطل ، وانقمع ، وسار الناس في سيرة حسنة ، ومنهج قويم في أسواقهم ، وفي مساجدهم ، وفي سائر أحوالهم .

لا تعرف البدع بينهم ولا يوجد في بلادهم الشرك ، ولا تظهر المنكرات بينهم . بل من شاهد بلادهم وشاهد أحوالهم وما هم عليه ذكر حال السلف الصالح وما كانوا عليه زمن النبي عليه الصلاة والسلام ، وزمن أصحابه ، وزمن أتباعه بإحسان في القرون المفضلة رحمة الله عليهم .

فالقوم ساروا سيرتهم ، ونهجوا منهجهم ، وصبروا على ذلك ، وجدوا فيه ، وجاهدوا عليه ، فلما حصل بعض التغيير في آخر الزمان بعد وفاة الشيخ محمد بمدة طويلة ووفاة كثير من أبنائه رحمة الله عليهم وكثير من أنصاره حصل بعض التغيير جاء الابتلاء وجاء الامتحان بالدولة التركية ، والدولة المصرية ، مصداق قوله عز وجل : إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ

نسأل الله عز وجل أن يجعل ما أصابهم تكفيرا وتمحيصا من الذنوب ، رفعة وشهادة لمن قتل منهم رضي الله عنهم ورحمهم .

انتشار دعوة الشيخ محمد بن عبدالوهاب :

انتشرت دعوة الشيخ محمد بن عبدالوهاب خارج نجد عندما استولت الدولة السعودية على مكة المكرمة سنة 1219 هجري واصبح حجاج البلاد المسلمة يفدون إلى مكة المكرمة ويشاهدون علماء هذه الدعوة الحقا , ويسمعون خطبهم وإرشاداتهم , كما شاهدوا سيرة الدولة إن ذاك , وما هي علية من الاعتصام بكتاب الله والسنة , فتأثر بعض الحجاج بالدعوة وأخذوا ينشرون مبادئ الدعوة ويحاربون الخرافات والبدع في بلادهم .

وكان لانتشار الدعوة في العالم الاسلامي عدة آثار من أهمها :

1- قيام يقظة فكرية إسلامية كان العالم الاسلامي والمسلمين في اشد الحاجة لها .

2- كانت الدعوة عاملا مهما من عوامل نمو الوعي الوطني في كثير من البلاد الإسلامية التى ابتليت بالاستعمار .

3- كان من أثر الدعوة السلفية في كثير من الدول الإسلامية تجميد وإضعاف كل الأفكار المعادية لهذه الدعوة المباركة .

4- تأييد شامل لهذه الدعوة الإصلاحية من العلماء المسلمين الغيورين على دينهم وعقيدتهم في البلاد الاسلامية , والمنبع الذي اعتمد عليه كثير من رجال الإصلاح المسلمين .

جميل حمداوي، صندوق البريد 5021 أولاد ميمون، الناظور، 62002، المغرب؛


الهوامش:
1- حياة الشيخ محمد بن عبدالوهاب وحقيقة دعوته , تأليف الأستاذ الدكتور سليمان بن عبدالرحمن الحقيل,الطبعةالأولى,1999م
2- محمد بن عبدالوهاب مصلح مظلوم ومفترى عليه , الأستاذ مسعود الندوي , ترجمة وتعليق عبدالعليم عبدالعظيم البستوي , مراجعة الدكتور محمد تقي الدين الهلالي , 1420 هجري
3- تاريخ العرب الحديث والمعاصر , دكتور عبدالرحيم عبدالحمن عبدالرحيم , الطبعة الخامسة 1990م
4- دراسات في تاريخ الخليج العربي الحديث والمعاصر , الدكتور بدر الدين عباس الخصوصي,الجزءالأول,الطبعةالثانية1984م
5- مذكرة تاريخ العرب الحديث , الدكتور فيصل المسلم .

بوعلام العاصمي
2010-03-02, 17:35
الإمَامُ مُحَمَّدُ بنُ عَبْدِالوَهَّابِ: إِمَامٌ فِي العَقِيْدَةِ وَالفِقْهِ وَالْحَدِيْثِ

أبو عمر أسامةُ العُتَيْبِي

الحمدُ للهِ، والصَّلاةُ والسَّلامُ عَلَى رَسُولِ اللهِ أمَّا بَعْدُ:

فَقَدِ اشْتُهِرَ عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ عِنَايَةُ شَيْخِ الإسْلامِ مُحَمَّدِ بنِ عَبْدِالوَهَّابِ بِالعَقِيدَةِ السَّلَفِيَّةِ، وَجِهَادُهُ فِي نَشْرِهَا وَالدَّعْوَةِ إِلَيْهَا.
وَظَنَّ بَعْضُ أَهْلِ السُّنَّةِ أَنَّهُ -رَحِمَهُ اللهُ- لَمْ يَكُنْ ذَا عِنَايَةٍ بِالْحَدِيثِ، وَمَعْرِفَةِ صَحِيْحِهِ مِنْ سَقِيمِهِ، وَهَذَا لَيْسَ صَحِيْحاً، بَلْ هُوَ إِمَامٌ فِي الْحَدِيْثِ، إِمَامٌ فِي الفِقْهِ، إِمَامٌ فِي التَّفْسِيْرِ.

وَفِي هَذَا البَحْثِ الْمُخْتَصَرِ أقْتَصِرُ عَلَى مَا ذَكَرْتُهُ فِي مُقَدِّمَةِ تَحْقِيقِي لِتَيْسِيْرِ العَزِيْزِ الْحَمِيْدِ، أَسْأَلُ اللهَ التَّوْفِيقَ وَالسَّدَادَ وَالْهُدَى وَالرَّشَادَ.

وَقَدْ قَسَّمْتُهُ إِلَى مَبْحَثَيْنِ:

المَبْحَثُ الأَوَّلُ:
تَرْجَمَةُ شَيْخِ الإسْلامِ مُحَمَّدِ بنِ عَبْدِالوَهَّابِ.

المَبْحَثُ الثَّانِي:
بَرَاعَتُهُ فِي عِلْمِ الْحَدِيْثِ، مَعَ دِرَاسَةٍ مُوْجَزَةٍ لِكِتَابِ التَّوْحِيْدِ.


الْمَبْحَثُ الأَوَّلُ
تَرْجَمَةُ شَيْخِ الإسْلامِ مُحَمَّدِ بنِ عَبْدِالوَهَّابِ (1)

اسْمُهُ وَنَسَبُهُ وَمَوْلِدُهُ:
هُوَ شَيْخُ الإسْلامِ، وَالعَلاَّمَةُ الْهُمَامُ، وَالْمُجَدِّدُ لِمَا انْدَرَسَ مِنْ مَعَالِمِ دِيْنِ الإِسْلامِ، الإمَامُ أبُو الحُسَيْنِ، مُحَمَّدُ بنُ عَبْدِالوَهَّابِ بنِ سُلَيْمَانَ بنِ عَلِيِّ بنِ مُحَمَّدِ بنِ أحْمَدَ بنِ رَاشِدٍ الوُهَيْبِيُّ، التَّمِيْمِيُّ.

وَنَسَبُهُ مَعْرُوفٌ إلَى قَبِيْلَةِ تَمِيْمٍ الشَّهِيْرَةِ، وَقَدْ رَوَى البخاريُّ ومُسْلِمٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ-رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّهُ قَالَ: «لا أَزَالُ أُحِبُّ بَنِى تَمِيْمٍ مِنْ ثَلاثٍ سَمِعْتُهُنَّ مِنْ رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عليهِ وَسَلَّم-؛ سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ-صَلَّى اللهُ عليهِ وَسَلَّم- يَقُولُ: ((هُمْ أَشَدُّ أُمَّتِي عَلَى الدَّجَّالِ)) قَالَ: وَجَاءَتْ صَدَقَاتُهُمْ فَقَالَ النَّبِيُّ-صَلَّى اللهُ عليهِ وَسَلَّم-: ((هَذِهِ صَدَقَاتُ قَوْمِنَا)) قَالَ: وَكَانَتْ سَبِيَّةٌ مِنْهُمْ عِنْدَ عَائِشَةَ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ: ((أَعْتِقِيْهَا فَإِنَّهَا مِنْ وَلَدِ إِسْمَاعِيْلَ))(2).

وُلِدَ-رَحِمَهُ اللهُ- سَنَةَ خَمْسَ عَشْرَةَ وَمِاْئَةٍ بَعْدَ الأَلْفِ 1115هـ فِي العُيَيْنَةَ وَهِيَ بَلْدَةٌ قَرِيْبَةٌ مِنْ مَدِينَةِ الرِّيَاضِ.

نَشْأَتُهُ وَطَلَبُهُ لِلْعِلْمِ وذِكْرُ شُيُوخِهِ:
نَشَأَ فِي حِجْرِ وَالِدِهِ الشَّيْخِ عَبْدِالوَهَّابِ، وَكَانَ فَقِيْهاً، قَاضِياً، فَتَعَلَّمَ مِنْ وَالِدِهِ بَعْضَ العُلُومِ الشَّرْعِيَّةِ.

حَفِظَ القُرْآنَ الكَرِيْمَ وَلَمَّا يَبْلُغِ العَاشِرَةَ مِنْ عُمُرِهِ، وَقَدَّمَهُ أَبُوهُ للصَّلاةِ بِالنَّاسِ جَمَاعَةً وَهُوَ فِي الثَّانِيَةِ عَشْرَةَ مِنْ عُمُرِهِ، وَتَزَوَّجَ فِي تِلْكَ السَّنَةِ، وَكَانَ مثابراً عَلَى طَلَبِ العِلْمِ، فَدَرَسَ عَلَى وَالِدِهِ فِي الفِقْهِ الْحَنْبَلِيِّ وَفِي التَّفْسِيْرِ وَالْحَدِيْثِ وَالعَقِيْدَةِ.

وَكَانَ الشَّيْخُ مُحَمَّدُ بنُ عَبْدِالوَهَّابِ-رَحِمَهُ اللهُ- شَغُوفاً بِكُتُبِ شَيْخِ الإسْلامِ ابنِ تَيْمِيَّةَ والإمَامِ ابنِ القَيِّمِ -رَحِمَهُمَا اللهُ- ثُمَّ حَمَلَهُ الشَّوْقُ إلَى حَجِّ بَيْتِ اللهِ الْحَرَامِ لأَدَاءِ فَرِيضَةِ الحجِّ، والنَّهْلِ مِنْ عُلُومِ عُلَمَاءِ الْحَرَمَيْنِ الشَّرِيْفَيْنِ، فَذَهَبَ فِي بِدَايَةِ رِحْلَتِهِ إلَى مَكَّةَ وَحَجَّ بَيْتَ اللهِ الْحَرَامَ وَالْتَقَى بِعُلَمَاءِ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ فَكَانَ مِمَّنْ لَقِيَهُمْ الشَّيْخُ عَبْدُاللهِ بنُ إِبْرَاهِيْم آلُ سَيْفٍ، وَالشَّيْخُ الْمُحَدِّثُ مُحَمَّدُ حَيَاة السِّنْدِيُّ، وَالْتَقَى بِغَيْرِهِمَا فِي الْحَرَمَيْنِ ثُمَّ رَجَعَ إلَى بَلَدِهِ ثُمَّ شَدَّ الرِّحَالَ لِطَلَبِ العِلْمِ فَرَحَلَ إلَى العِرَاقِ، وَكَانَ غَالِبُ اسْتِفَادَتِهِ فِي البَصْرَةِ حَيْثُ نَزَلَ عِنْدَ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْمَجْمُوعِيِّ، وَذَكَرَ حَفِيْدُهُ الشَّيْخُ عَبْدُالرَّحْمَنِ بنُ حَسَنٍ أَنَّ جَدَّهُ ألَّفَ كِتَابَ التَّوْحِيْدِ فِي البَصْرَةِ؛ جَمَعَهُ مِنْ كُتُبِ الْحَدِيْثِ الَّتِي فِي مَدَارِسِ البَصْرَةِ(3).

ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ أَرَادَ التَّوَجُّهَ إلَى الشَّامِ فَلَمْ يَسْتَطِعْ إِكْمَالَ رِحْلَتِهِ، فَرَجَعَ إلَى نَجْدٍ، وَفِي طِرِيقِ عَوْدَتِهِ إلَى نَجْدٍ مَرَّ بِالأَحْسَاءِ فَنَهَلَ مِنْ عُلُومِ عُلَمَائِهَا، ثُمَّ رَجَعَ إلَى نَجْدٍ.

دَعْوَتُهُ وَجِهَادُهُ فِي سَبِيْلِ اللهِ:
لَمَّا رَجَعَ مِنْ رِحْلَتِهِ فِي طلب العِلْمِ، وَانْتَقَلَ وَالِدُهُ وَأُسْرَتُهُ إلَى حُرَيْمِلاءَ وَهِيَ بَلْدَةٌ قَرِيْبَةٌ مِنْ مَدِيْنَةِ الرِّيَاضِ دُوْنَ الْمِاْئَةِ كِيْلٍ؛ أَخَذَ يَنْشُرُ عِلْمَهُ وَيُعَلِّمُ النَّاسَ مَا وَفَّقَهُ اللهُ إِلَيْهِ مِنْ عُلُومٍ أَخَذَهَا فِي الْحَرَمَيْنِ وَالعِرَاقِ وَالأَحْسَاءِ.

وَكَانَ -رَحِمَهُ اللهُ- ذَكِيًّا، فَطِناً، مُثَابِراً فِي طَلَبِ العِلْمِ، والدَّعْوَةِ إلَى اللهِ، جَرِيْئاً وَشُجَاعاً فِي قَوْلِ الْحَقِّ وَرَدِّ البَاطِلِ، وَقَدْ اسْتَفَادَ مِنْ بَعْضِ العُلَمَاءِ الَّذِيْنَ تَعَلَّمَ مِنْهُمْ مَحَبَّةَ العَقِيدَةِ وَعِظَمَ شَأْنِهَا، وَكَانَ الْحَاصِلَ عَلَى قَصَبِ السَّبْقِ فِي ذَلِكَ مِنْ شُيُوخِهِ: الشَّيْخُ مُحَمَّد حياة السِّنْدِيُّ وَالشَّيْخُ عَبْدُاللهِ بنُ إِبْرَاهِيْمَ آلُ سَيْفٍ حَيْثُ الْتَقَى بِهِمَا فِي الْمَدِيْنَةِ، وَوَجَّهَاهُ نَحْوَ العَقِيْدَةِ السَّلَفِيَّةِ.

فَكَانَ-رَحِمَهُ اللهُ- يُنْكِرُ البِدَعَ بِشِدَّةٍ، وَقَدْ ظَهَرَتْ جُرْأَتُهُ فِي إِنْكَارِ البِدَعِ لَمَّا دَخَلَ البَصْرَةَ لِطَلَبِ العِلْمِ، فَأَنْكَرَ مَظَاهِرَ الشِّركِ بِالقُبُورِ وَبِالْمَوتَى، وَعِبَادَةَ الأَشْجَارِ وَالأَحْجَارِ لأَنَّ البَصْرَةَ يَغْلُبُ عَلَيْهَا الرَّافِضَةُ فِي زَمَنِ الشَّيْخِ إلَى زَمَنِنَا هَذَا، فَأُوذِيَ مِنَ الرَّافِضَةِ وأَشْبَاهِهِمْ مِنْ عَبَدَةِ القُبُور، فَخَرَجَ مِنْهَا حَتَّى كَادَ يَهْلَكُ لَوْلا أَنَّ اللهَ -عَزَّ وَجَلَّ- يَسَّرَ لَهُ رَجُلاً مِنْ أَهْلِ الزُّبَيْرِ فَحَمَلَهُ وَسَقَاهُ وَأَطْعَمَهُ، ثُمَّ رَحَّلَهُ إلَى حَيْثُ يُرِيْدُ.

فَالشَّيْخُ -رَحِمَهُ اللهُ- كَانَ نَاصِحاً للهِ وَلِكِتَابِهِ وَلِرَسُولِهِ وَلأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِيْنَ وَعَامَّتِهِمْ، هَذِهِ البِدَايَةُ مِنْ شَيْخِ الإسْلامِ مُحَمَّدِ بنِ عَبْدِالوَهَّابِ فِي شَبَابِهِ لَقِيَتْ قَبُولاً مِنْ كَثِيْرٍ مِنَ النَّاسِ فِي بَادِئِ الأَمْرِ، وَمُعَارَضَةً مِنَ الأَكْثَرِيْنَ حَتَّى تَسَبَّبَتْ لَهُ هَذِهِ الْجُرْأَةُ وَهَذِهِ الشّجَاعَةُ وَهَذَا الْحِرْصُ عَلَى أَهْلِ بَلَدِهِ وَالّتِي انْتَقَلَ إليها وَهِيَ حُرَيْمِلاءُ، فَأُوذِيَ، فَأَمَرَهُ أَبُوهُ أنْ يُخَفِّفَ مِنْ نشَاطِهِ.

فلَمَّا تُوُفِّيَ وَالِدُهُ -رَحِمَهُ اللهُ- وَاصَلَ الدَّعْوَةَ وَبَدَأَ يُنَاصِحُ النَّاسَ وَيُعَلِّمُهُمْ، وَيُنْكِرُ عَلَى الْمُفْسِدِيْنَ فِي الأَرْضِ مِنَ الفُسَّاقِ وَأَهْلِ البِدَعِ حَتَّى اجْتَمَعَ بَعْضُ الْمُفْسِدِينَ فِي حُرَيْمِلاءَ عَلَى قَتْلِهِ وَتَسَوَّرُوا بَيْتَهُ، فَفَطِنَ لَهُ بَعْضُ النَّاسِ، وَنَهَرُوا هَذَا الْمُتَسَلِّقَ الَّذِي أَرَادَ الفَتكَ بِالشَّيخِ، وَنُصِحَ الشَّيْخُ بِالْخُرُوجِ مِنْ حُرَيْمِلاءَ، فَخَرَجَ مِنْهَا إلَى العُيَيْنَةِ، وَهَذَا كَانَ سَنَةَ خَمْسٍ وَخَمْسِيْنَ وَمِاْئَةٍ بَعْدَ الأَلْفِ 1155هـ تَقْرِيباً.

فَالْتَقَى بِأَمِيْرِ العُيَيْنَةِ عُثْمَانَ بنِ مُعَمَّرٍ فَدَعَاهُ لِتَطْبِيقِ الشَّرِيْعَةِ، وَالدَّعْوَةِ إلَى التَّوْحِيْدِ، وَوَعَدَهُ بِالنَّصْرِ وَالتَّمْكِيْنِ، كَمَا ذَكَرَ اللهُ-عَزَّ وَجَلَّ- ذَلِكَ فِي كِتَابِهِ، فَقَبِلَ ابنُ مُعَمَّرٍ نُصْرَةَ الشَّيْخِ مُحَمَّدِ بنِ عَبْدِالوَهَّابِ، فَبَدَأَ الشَّيْخُ بِمُؤَازَرَةٍ مِنِ ابنِ مُعَمَّرٍ بِهَدْمِ الأَشْجَارِ الْمُعَظَّمَةِ عِنْدَهُمْ وَهَدْمِ القِبَابِ وَالقُبُورِ وَإِنْكَارِ الْمُنْكَرَاتِ وَإِقَامَةِ الْحُدُودِ.

وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّ امْرَأَةً زَنَتْ فَجَاءَتْ وَاعْتَرَفَتْ عِنْدَ الشَّيْخِ مُحَمَّدِ بنِ عَبْدِالوَهَّابِ الَّذِي كَانَ بِمَثَابَةِ الْمُشِيْرِ وَالوَزِيْرِ وَالْمُعَلِّمِ وَالْمُفْتِي لابنِ مُعَمِّرٍ فَأقَامَ عَلَيْهَا الْحَدَّ كَمَا فَعَلَ النَّبِيُّ-صَلَّى اللهُ عليهِ وَسَلَّم- بِالغَامِدِيَّةِ، فَلَمَّا انْتَشَرَ هَذَا الْخَبَرُ بَيْنَ أَهْلِ نَجْدٍ وَوَصَلَ هَذَا الأَمْرُ إلَى حَاكِمِ الأَحْسَاءِ سُلَيْمَانَ بنِ مُحَمَّدِ بنِ عُرَيْعِرٍ وَهُوَ مِنْ بَنِي خَالِدٍ فَكَتَبَ إلَى ابنِ مُعَمَّرٍ أَميْرِ العُيَيْنَةِ يَأْمُرُهُ بِقَتْلِ الشَّيْخِ مُحَمَّدِ بنِ عَبْدِالوَهَّابِ، فَبلَّغَ أَمِيْرُ العُيَيْنَةَ الشَّيْخَ مُحَمَّدَ بنَ عَبْدِالوَهَّابِ، وَخَافَ مِنْ حَاكِمِ الأَحْسَاءِ لأَنَّهُ كَانَ يُعْطِيهِ عَطِيَّةً سَنَوِيَّةً فَخَشِيَ إِنْ عَصَى حَاكِمَ الأَحْسَاءِ أَنْ يَنْقَطِعَ عَنْهُ الْمَالُ، وَخَشِيَ أَنْ يَغْزُوَهُ، وَخَذَلَ الشَّيْخَ، فَطَلَبَ مِنْهُ أَنْ يَرْحَلَ وَأَوْعَزَ إِلَى فَارِسِيٍّ يَمْشِي خَلْفَ الشَّيْخِ مُحَمَّدِ بنِ عَبْدِالوَهَّابِ أَنْ يَقْتُلَهُ إِذَا خَرَجَ.

فلَمّا خَرَجَ حَمَى اللهُ الشَّيْخَ مُحَمَّدَ بنَ عَبْدِالوَهَّابِ، وَلَمْ يَسْتَطِعْ هَذَا الفَارِسِيُّ أَنْ يَقْتُلَهُ، فَوَصَلَ شَيْخُ الإسْلامِ مُحَمَّدُ بنُ عَبْدِالوَهَّابِ إلَى الدِّرْعِيَّةِ وَكَانَ الإمَامُ مُحَمَّدُ بنُ سُعُودٍ أَمِيْرَ الدِّرْعِيَّةِ، فَنَزَلَ شَيْخُ الإسْلامِ مُحَمَّدُ بنُ عَبْدِالوَهَّابِ عِنْدَ أَحَدِ طُلاَّبِهِ وَهُوَ عَلِيُّ بنُ عَبْدِالرَّحْمَنِ بنِ سُوَيلِمٍ فَنَزَلَ عِنْدَهُ فَأَكْرَمَهُ وَصَارَ النَّاسُ يَتَوَافَدُونَ عَلَى الشَّيْخِ فِي مَنْزِلِ ابنِ سُوَيلِمٍ.

وَجَاءَ الأَمِيْرُ مُحَمَّدُ بنُ سُعُودٍ إلَى بَيتِ ابنِ سُوَيلِمٍ وَسَلَّمَ عَلَى الشَّيْخِ وَاسْتَفْهَمَهُ عَنْ دَعْوَتِهِ فَبَيَّنَ لَهُ دَعْوَةَ التَّوْحِيْدِ، وَذَكَّرَهُ بِاللهِ، وَرَجَى أَنْ يَكُونَ إِمَاماً لِلْمُسْلِمِيْنَ فَيَجْمَعُ اللهُ لَهُ الدِّيْنَ وَالدُّنْيَا، وَلِذُرِّيَّتِهِ إِنِ اسْتَمْسَكَ بِهَذِهِ العَقِيدَةِ السَّلَفِيَّةِ، فَشَرَحَ اللهُ صَدْرَ الإمَامِ مُحَمَّدِ بنِ سُعُودٍ لِهَذِهِ الدَّعْوَةِ الْمَبَارَكَةِ فَاقْتَنَعَ بِنُصْرَتِهَا وَتَعَاهَدَا عَلَى نُصْرَةِ التَّوْحِيْدِ وَالدَّعْوَةِ إِلَيْهِ.

فَتَأَسَّسَتْ نَوَاةُ الدَّوْلَةِ السُّعُودِيَّةِ الأُوْلَى فِي ذَلِكَ اليَوْمِ مِنْ عام 1158هـ، الَّذِي اتَّفَقَ فِيْهِ السَّيْفُ وَالقَلَمُ؛ سَيفُ الإمَامِ مُحَمَّدِ بنِ سُعُودٍ-رَحِمَهُ اللهُ-، وَلِسَانُ وَقَلَمُ الشَّيْخِ مُحَمَّدِ بنِ عَبْدِالوَهَّابِ-رَحِمَهُ اللهُ- فَبَدَؤُوا بِالدَّعْوَةِ إلَى التَّوْحِيْدِ، وَإِرْسَالِ الرَّسَائِلِ لِلنَّاسِ أَجْمَعِيْنَ فِي تِلْكَ القُرَى وَالْمُدُنِ الْمُحِيطَةِ بِبَلْدَةِ الدِّرْعِيَّةِ، فَانْتَشَرَتْ هَذِهِ الرَّسَائِلُ وَعَلِمَهَا مَنْ عَلِمَهَا.

وتَتَلْمَذَ عَلَى يَدِ الشَّيْخِ عَدَدٌ كَبِيْرٌ مِنَ الأَفَاضِلِ وَذَوِي الْمَنَازِلِ الرَّفِيْعَةِ وَمِنْ غَيْرِهِمْ مِنْهُم: الإمَامُ الْمُجَاهِدُ مُحَمَّدُ بنُ سُعُودٍ، والإمَامُ الْمُجَاهِدُ عَبْدُالعَزِيْزِ بنُ مُحَمَّدِ بنِ سُعُودٍ، وَابنُهُ الإمَامُ الْمُجَاهِدُ سُعُودُ بنُ عَبْدِالعَزِيْزِ، وَأَبْنَاءُ الشَّيْخِ مُحَمَّدِ بنِ عَبْدِالوَهَّابِ: الشَّيْخُ حُسَيْنٌ، وَالشَّيْخُ عَلِيٌّ، وَالشَّيْخُ إِبْرَاهِيْمُ، وَالشَّيْخُ عَبْدُاللهِ وَالِدُ الشَّيْخِ سُلَيْمَانَ.

وَكَذَلِكَ حَفِيْدُهُ الشَّيْخُ عَبْدُالرَّحْمَنِ بنُ حَسَنٍ، وَالشَّيْخُ حُسَيْنُ بنُ غَنَّامٍ، وَالشَّيْخُ حَمَدُ بنُ نَاصِرِ بنِ مُعَمَّرٍ وَغَيْرُهُمْ-رَحِمَهُمُ اللهُ-.

فَبَدَأَ أَهْلُ البَاطِلِ يَجْمَعُونَ أَصْحَابَهُمْ لِحَرْبِ هَذِهِ الدَّعْوَةِ فَبَدَأَتِ الْحُرُوبُ وَالْمَعَارِكُ وَكَانَ الَّذِي بَدَأَ هُمْ أَهْلُ البَاطِلِ، فَمَنْ حَارَبَ دَعْوَةَ التَّوْحِيْدِ وَتَرَكَهَا وَحَاوَلَ قَتْلَ أَهْلِهَا قُتِلَ لأَنَّهُ مُرْتَدٌّ حَيْثُ لَمْ يَقْبَلِ التَّوْحِيْدَ وَرَضِيَ بِالشِّرْكِ كَعِبَادَةِ الأَشْجَارِ وَالأَصْنَامِ الَّتِي كَانَتْ مُنْتَشِرَةً فِي نَجْدٍ،بَلِ كَانُوا يَعْبُدُونَ بَعْضَ الْمَغَارَاتِ، وَتَذْهَبُ إِلَيْهَا الْمَرْأَةُ العَقِيمُ حَتَّى تَحْمِلَ!

فَانْتَشَرَتِ الدَّعْوَةُ وَنَصَرَهَا اللهُ.

وَمَات الإمَامُ مُحَمَّدُ بنُ سُعُودٍ وَقَدِ التَأَمَتْ نَجْدٌ كُلُّهَا تَحْتَ إِمْرَتِهِ ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ ابنُهُ عَبْدُالعَزِيزِ حَمَلَ الدَّعْوَةَ وَنَشَرَهَا، ثُمَّ كَذَلِكَ ابنُهُ سُعُودٌ، وَفِي عَهْدِ سُعُودٍ بَلَغَتِ الدَّعْوَةُ وَبَلَغَتِ الدَّوْلَةُ السُّعُودِيَّةُ الأُوْلَى أَوْجَ قُوَّتِهَا وَدَخَلَ ضِمْنَ هَذِهِ الدَّوْلَةِ الْحَرَمَانِ الشَّرِيفَانِ وَجُزْءٌ مِنْ بِلادِ اليَمَنِ وَالْمَنْطِقَةِ الشَّرْقِيَّةِ أيْ أنَّ مُعْظَمَ الْجَزِيرَةِ العَرَبِيَّةِ، حَتَّى قَرُبَ مِنْ دِمَشْقَ.

وَسَأَتَحَدَّثُ عَنْ جَانِبٍ مِنَ الْجَوَانِبِ العِلْمِيَّةِ عِنْدَ الشَّيْخِ فِي الْمَبْحَثِ الثَّانِي مِنْ هَذَا الفَصْلِ.

وَفَاتُهُ:
تُوُفِّيَ الشَّيْخُ-رَحِمَهُ اللهُ- آواخِرَ سَنَةِ 1206هـ وَعُمُرُهُ 91 سَنَةً، بَعْدَمَا رَأَى مَا يَسُرُّهُ مِنِ انْتِشَارِ التَّوْحِيْدِ وَنَبْذِ الْخُرَافَةِ والشِّرْكِ، وَكَثْرَةِ الطُّلاَّبِ، وَالعُلَمَاءِ الَّذِيْنَ نَهَلُوا مِنْهُ، وَأَصْلَحَ اللهُ قُلُوبَهُمْ وَأَصْلَحَ أَعْمَالَهُمْ، فَانْتَشَرَتْ هَذِهِ الدَّعْوَةُ فِي جَمِيعِ بِلادِ العَالَمِ وَلَقِيَتِ القَبُولَ وَالثَّنَاءَ مِنْ أَهْلِ الصَّلاحِ وَالصِّدْقِ والإخْلاصِ.

رَحِمَهُ اللهُ وَأَسْكَنَهُ فَسِيْحَ جَنَّاتِهِ.

مُؤَلَّفاتُهُ:
ألَّفَ شَيْخُ الإسْلامِ مُحَمَّدُ بنُ عَبْدِ الوَهَّابِ مُؤَلَّفَاتٍ كَثِيْرَةٍ فِي التَّوْحِيْدِ، والفِقْهِ، والتَّفْسِيْرِ، وَالْحَدِيْثِ، والسِّيْرَةِ، والوَعْظِ والتَّذْكِيْرِ.

وَقَدْ جُمِعَتْ مُؤَلَّفَاتُهُ-رَحِمَهُ اللهُ-مِنْ قِبَلِ جَامِعَةِ الإمَامِ مُحَمَّدِ بنِ سُعُودٍ في عِدَّةِ مُجَلَّدَاتٍ، مع العِلْمِ أَنَّ جُمْلَةً وَافِرَةً مِنْ مؤَلَّفَاتِ الشَّيْخ -رَحِمَهُ اللهُ- مَوْجُودَةٌ فِي الدُّرَرِ السَّنِيَّةِ.

وَمِنْ كُتُبِهِ النَّافِعَةِ: كِتَابُ التَّوْحِيْدِ، وَالأُصُولُ الثَّلاثَةُ، وَكَشْفُ الشُّبُهَاتِ، وَمَسَائِلُ الْجَاهِلِيَّةِ، وَمُخْتَصَرُ سِيْرَةِ ابنِ هِشَامٍ، وَمُخْتَصَرُ زَادِ الْمَعَادِ، وَمِنْهَا الأُصُولُ السِّتَّةُ، وَ«مَجْمُوعُ الْحَدِيْثِ عَلَى أَبْوَابِ الفِقْهِ»، وَغَيْرُهَا كَثِيْرٌ جِدًّا.


الْمَبْحَثُ الثَّانِي
بَرَاعَتُهُ فِي عِلْمِ الْحَدِيْثِ، مَعَ دِرَاسَةٍ مُوجَزَةٍ لِكِتَابِ التَّوْحِيْدِ

لَقَدَ بَرَعَ شَيْخُ الإسْلامِ مُحَمَّدُ بنُ عَبْدِالوَهَّابِ فِي العُلُومِ الشَّرْعِيَّةِ حَتَّى بَزَّ أَقْرَانَهُ، وَفَاقَ مُعَاصِرِيهِ فِي عِلْمِ الْمُعْتَقَدِ وَالفِقْهِ وَالْحَدِيْثِ وَالتَّفْسِيْرِ.

وَلَقَدَ كَانَ-رَحِمَهُ اللهُ- مُجَدِّداً فِي بَيَانِ الْمُعْتَقَدِ، وَفِي عِلْمِ الْحَدِيْثِ، والفِقْهِ وَالتَّفْسِيْرِ، جَارِياً عَلَى طَرِيْقَةِ السَّلَفِ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ.

وَقَدْ أَطْنَبَ العُلَمَاءُ-رَحِمَهُم اللهُ- فِي الثَّنَاءِ عَلَيْهِ، وَذِكْرِ فَضَائِلِهِ، وَمَا تَمَيَّزَ بِهِ، وَلَكِنِّي أَحْبَبْتُ أَنْ أُرَكِّزَ عَلَى جَانِبٍ هَامٍّ مَا زَالَ خَفِيًّا عَلَى كَثِيْرٍ مِنْ طَلَبَةِ العِلْمِ أَلا وَهُوَ أَنَّ شَيْخَ الإسْلامِ مُحَمَّدَ بنَ عَبْدِالوَهَّابِ مِنْ كِبَارِ الْمُحَدِّثِيْنَ الْمُحَقِّقِيْنَ فِي عِلْمِ الْحَدِيْثِ وَالرِّجَالِ، وَمَعْرِفَةِ صَحِيْحِهِ مِنْ سَقِيْمِهِ.

وَهَذَا الأَمْرُ بَيِّنٌ مِنْ كَلامِ العُلَمَاءِ الَّذِيْنَ تَرْجَمُوا لَهُ، وَمِنْ خِلالِ النَّظَرِ فِي مَسِيْرَتِهِ العِلْمِيَّةِ، وكُتُبِهِ وَمُؤَلَّفَاتِهِ-رَحِمَهُ اللهُ-.

أَمَّا مِنْ كَلامِ العُلَمَاءِ:
فقَالَ ابنُ بِشْرٍ-رَحِمَهُ اللهُ- : «وَكَانَ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- فِي صِغَرِهِ كَثِيْرَ الْمُطَالَعَةِ فِي التَّفْسِيْرِ وَالْحَدِيْثِ وَكَلامِ العُلَمَاءِ فِي أَصْلِ الإسْلامِ، فَشَرَحَ اللهُ صَدْرَهُ فِي مَعْرِفَةِ التَّوْحِيْدِ وَتَحْقِيقِهِ وَمَعْرِفَةِ نَوَاقِضِهِ الْمُضِلَّةِ عَنْ طَرِيْقِهِ»(4).

وَقَالَ الشَّيْخُ عَبْدُالرَّحْمَنِ بنُ قَاسِمٍ -رَحِمَهُ اللهُ-: «أَمَدَّهُ اللهُ بِكَثْرَةِ الكُتُبِ، وَسُرْعَةِ الْحِفْظِ، وَقُوَّةِ الإدْرَاكِ، وَعَدَمِ النِّسْيَانِ، سَمِعَ الْحَدِيْثَ وَأَكْثَرَ فِي طَلَبِهِ، وَكَتَبَ وَنَظَرَ فِي الرِّجَالِ وَالطَّبَقَاتِ، وَحَصَّلَ مَا لَمْ يُحَصِّلْ غَيْرُهُ، بَرَعَ فِي تَفْسِيْرِ القُرْآنِ، وَغَاصَ فِي دَقَائِقِ مَعَانِيهِ، وَاسْتَنْبَطَ مِنْهُ أَشْيَاءَ لَمْ يُسْبَقْ إِلَيْهَا، وَبَرَعَ فِي الْحَدِيْثِ وَحِفْظِهِ، فَقَلَّ مَنْ يَحْفَظُ مِثْلُهُ، مَعَ سُرْعَةِ اسْتِحْضَارِهِ لَهُ وَقْتَ إِقَامَةِ الدَّلِيلِ، وَفَاَقَ النَّاسَ فِي مَعْرِفَةِ الفِقْهِ وَاخْتِلافِ الْمَذَاهِبِ وَفَتَاوَى الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِيْنَ؛ بِحَيْثُ إِنَّهُ إِذَا أَفْتَى؛ لَمْ يَلْتَزِمْ بِمَذْهَبٍ، بَلْ بِمَا يَقُومُ دَلِيْلُهُ عِنْدَهُ، تَمَسَّكَ بِأُصُولِ الكِتَابِ والسُّنَّةِ، وَتَأَيَّدَ بِإِجْمَاعِ سَلَفِ الأُمَّةِ»(5).

وَأَمَّا مِنْ خِلالِ مَسِيْرَتِهِ العِلْمِيَّةِ:
فَقَدْ أَخَذَ شَيْخُ الإسْلامِ مُحَمَّدُ بنُ عَبْدِالوَهَّابِ عِلْمَ الْحَدِيْثِ عَنْ أَئِمَّةٍ أَجِلاَّءَ مِنْهُمُ الشَّيْخُ العَلاَّمَةُ الفَقِيْهُ عَبْدُالله بنُ إِبْرَاهِيْمَ السَّيْفُ حَيْثُ أَجَازَهُ بِثَبَتِ الشَّيْخِ عَبْدِالبَاقِي بنِ أَبِي الْمَوَاهِبِ الْحَنْبَلِيِّ.

وَأَخَذَ عَنِ الْمُحَدِّثِ الكَبِيْرِ، وَالعَلاَّمَةِ السَّلَفِيِّ النِّحْرِيرِ مُحَمَّدُ حَيَاةٍ السِّنْدِيِّ الْمَدَنِيِّ(6)، وَأَجَازَهُ بِمَرْوِيَّاتِهِ، وَكَذَلِكَ أَخَذَ عَنِ الشَّيْخِ العَلاَّمَةِ الْمُحَدِّثِ إِسْمَاعِيْلَ العَجْلُونِيِّ صَاحِبِ كِتَابِ «كَشْفِ الْخَفَا وَمُزِيلِ الالْتِبَاسِ عَمَّا اشْتُهِرَ مِنَ الأحَادِيْثِ عَلَى أَلْسِنَةِ النَّاسِ» وَكَذَلِكَ أَخَذَ عَنْ غَيْرِهِمْ مِنَ الْمُحَدِّثِيْنَ بِالبَصْرَةِ وَغَيْرِهَا.

فَهُوَ قَدِ اسْتَقَى عِلْمَ الْحَدِيْثِ مِنْ مَشَايِخِ الْمُحَدِّثِيْنَ فِي عَصْرِهِ، فَلا عَجَبَ أَنْ أَصْبَحَ مِنْ كِبَارِ الْمُحَدِّثِيْنَ فِي القَرْنِ الثَّانِي عَشَرَ.

وَأَمَّا مِنَ النَّاحِيَةِ العَمَلِيَّةِ:
فَقَدْ تَتَبَّعْتُ كُتُبَ شَيْخِ الإسْلامِ مُحَمَّدِ بنِ عَبْدِالوَهَّابِ-رَحِمَهُ اللهُ- فَلَمْ أَرَهُ صَحَّحَ حَدِيثاً أَوْ حَسَّنَهُ إلا وَيَكُونُ قَولُهُ مَبْنِيًّا عَلَى حُجَّةٍ وَبُرْهَانٍ، وَسَلَفٍ مِمَّنْ سَبَقَهُ مِنْ أَهْلِ العِلْمِ.

وَلَمْ أَجِدْ حَدِيْثاً اتَّفَقَ العُلَمَاءُ عَلَى ضَعْفِهِ أَوْ كَانَ ظَاهِرَ الضَّعْفِ لا نِزَاعَ فِيْهِ: صَحَّحَهُ الشَّيْخُ أَوْ حَسَّنَهُ، بَلْ هُوَ يَسْلُكُ مَسْلَكَ الْمُحَقِّقِيْنَ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيْثِ.

وَكَذَلِكَ لَمْ أَرَهُ احْتَجَّ بِحَدِيْثٍ مَوْضُوعٍ أَوْ لا أَصْلَ لَهُ أَوْ شَدِيْدَ الضَّعْفِ، بَلْ يَحْتَجُّ بِالأَحَادِيثِ الصَّحِيْحَةِ وَالْحَسَنَةِ، وَقَدْ يَسْتَأْنِسُ -أحْيَاناً- بِالْحَدِيثِ الضَّعِيْفِ الَّذِي لَمْ يَشْتَدَّ ضَعْفُهُ.

وَعَمَلُهُ هَذَا عَلَيْهِ الْمُحَقِّقُونَ مِنْ أَهْلِ العِلْمِ قَاطِبَةً، وَهُمْ دَرَجَاتٌ فِي ذَلِكَ، فَلا تَجِدُ عَالِماً إِلاَّ وَقَدْ صَحَّحَ حَدِيثاً قَدْ يَرَاهُ غَيْرُهُ ضَعِيفاً، أَوْ ضَعَّفَ حَدِيثاً قَدْ يَرَاهُ غَيْرُهُ صَحِيْحاً.

والاجْتِهَادُ فِي الْحُكْمِ عَلَى الْحَدِيْثِ كَالاجْتِهَادِ فِي الْحُكْمِ فِي مَسَائِلِ الفِقْهِ سَوَاءً بِسَواءٍ. وَالْمُهِمُّ فِي ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ مَبْنِيًّا عَلَى أَدِلَّةٍ وَبَرَاهِيْنَ أَصِيلَةٍ، وَأَنْ يَكُونَ الْمَرْجِعُ هُوَ القَوَاعِدُ الَّتِي اتَّفَقَ عَلَيْهَا أَهْلُ الْحَدِيْثِ الْمُتَخَصِّصُونَ فِيْهِ.

وَكَذَلِكَ الاسْتِئْنَاسُ بِالْحَدِيثِ الضَّعِيفِ الَّذِي قَامَتِ الأَدِلَّةُ عَلَى صِحَّةِ مَعْنَاهُ أَمْرٌ جَرَى عَلَيْهِ عَمَلُ السَّلَفِ مَعَ تَنْبِيْهِهِمْ عَلَى ضَعْفِهِ أَوْ ذِكْرِ سَنَدِهِ إِبْرَاءً لِلذِّمَّةِ.

وَمِنْ خِلالِ النَّظَرِ فِي كُتُبِهِ وَمُؤَلَّفَاتِهِ-رَحِمَهُ اللهُ- يَتَبَيَّنُ دِقَّةُ شَيْخِ الإسْلامِ مُحَمَّدِ بنِ عَبْدِالوَهَّابِ مِنَ النَّاحِيَةِ الْحَدِيْثِيَّةِ، وَطُولُ بَاعِهِ فِيْهِ.

وَسَأَضْرِبُ عَلَى ذَلِكَ مِثَالَيْنِ أَحَدَهُمَا إِجْمَالِيًّا والآخَرَ تَفْصِيلِيًّا:
أَمَّا الْمِثَالُ الإِجْمَالِيُّ: فَهُوَ «مَجْمُوعُ الْحَدِيْثِ عَلَى أَبْوَابِ الفِقْهِ» وَالَّذِي جَمَعَ فِيْهِ شَيْخُ الإسْلامِ مُحَمَّدُ بنُ عَبْدِالوَهَّابِ أَحَادِيْثَ الفِقْهِ مُبَوَّبَةً، وَحَلاَّهُ بِالآثَارِ السَّلَفِيَّةِ، فَكَانَ كِتَاباً جَامِعاً لَمْ يُنْسَجْ عَلَى مِنْوَالِهِ فِيْمَا أَعْلَمُ.

فَقَدْ اسْتَوْعَبَ فِيْهِ -رَحِمَهُ اللهُ- أَبْوَابَ الفِقْهِ، وَذَكَرَ فِيْهِ مَا يَرْبُوا عَلَى أَرْبَعَةِ آلافٍ وَخَمْسِمِاْئَةِ حَدِيْثٍ وَأَثَرٍ ( 4545 حَدِيثاً وَأَثَراً ).

وَقَدْ عَمِلْتُ مُقَارَنَةً بَيْنَ كِتَابِ الشَّيْخِ مُحَمَّدِ بنِ عَبْدِالوَهَّابِ وَبَيْنَ كِتَابِ «الْمُنْتَقَى» لِلْمَجْدِ ابنِ تَيْمِيَّةَ، وَكِتَابِ «الْمُحَرَّرِ فِي الْحَدِيْثِ» للعَلاَّمَةِ ابنِ عَبْدِالْهَادِي، وَكِتَابِ «بُلُوغِ الْمَرَامِ» لِلِحَافِظِ ابنِ حَجَرٍ؛ فَوَجَدْتُ الفَارِقَ العَجِيبَ بَيْنَ كِتَابِ شَيْخِ الإسْلامِ مُحَمَّدِ بنِ عَبْدِالوَهَّابِ وَبَيْنَ الكُتُبِ الأُخْرَى مَعَ عَظِيمِ فَائِدَتِهَا، وَمنْزِلَةِ مُؤَلِّفِيْهَا-رَحِمَهُمُ اللهُ-

فَفِي كِتَابِ الْجَنَائِزِ-مَثَلاً- مِنَ الْمُنْتَقَى: ( 170 ) حَدِيْثاً، وَفِي الْمُحَرَّرِ: ( 61 ) حَدِيْثاً، وَفِي البُلُوغِ: ( 62 ) حَدِيْثاً، أَمَّا فِي كِتَابِ الشَّيْخِ مُحَمَّدِ بنِ عَبْدِالوَهَّابِ فَقريباً مِنْ: ( 278 ) حَدِيْثاً وَأَثَراً، مَعَ دِقَّتِهِ وَحُكْمِهِ عَلَى الأحَادِيْثِ كَثِيْراً، فَرَأَيْتُ أَنَّهُ فَاقَهَا كَمًّا وَكَيْفاً فِيمَا ظَهَرَ لِي وَاللهُ أَعْلَى وَأَعْلَمُ.

وَقَدْ رَاجَعْتُ عَدَداً كَثِيْراً مِنَ الأحَادِيْثِ الَّتِي حَكَمَ عَلَيْهَا شَيْخُ الإسْلامِ مُحَمَّدُ بنُ عَبْدِالوَهَّابِ فِي مَجْمُوعِهِ الْحَدِيْثِيِّ فَوَجَدْتُهُ مُوَافِقاً لِلأَئِمَّةِ أَوْ لِبَعْضِهِمْ مَعَ دِقَّةِ عِبَارَتِهِ-رَحِمَهُ اللهُ-.

وَهَذَا الْمَجْمُوعُ حَرِيٌّ بِأَنْ يُقَرَّرَ عَلَى طُلاَّبِ العِلْمِ فِي الْجَامِعَاتِ الشَّرْعِيَّةِ، وَيَنْبَغِي الاعْتِنَاءُ بِهِ شَرْحاً وَتَوْضِيْحاً.

وَأَمَّا الْمِثَالُ التَّفْصِيْلِيُّ:

فَمَا يَتَعَلَّقُ بِكِتَابِ التَّوْحِيْدِ مِنَ الأحَادِيْثِ والآثَارِ، وَسَأُفَصِّلُ فِيْمَا يَتَعَلَّقُ بِالأَحَادِيثِ الْمَرْفُوعَةِ بَعْدَ دِرَاسَةٍ مُوْجَزَةٍ لِلكِتَابِ:


دِرَاسَةٌ مُخْتَصَرَةٌ لِـ«كِتَابِ التَّوْحِيْدِ»

مَوْضُوعُ الكِتَابِ:
إِنَّ كِتَابَ التَّوْحِيْدِ مَوْضُوعٌ «فِي بَيَانِ مَا بَعَثَ اللهُ بِهِ رُسُلَهُ: مِنْ تَوْحِيدِ العِبَادَةِ، وَبيَانِهِ بِالأَدِلَّةِ مِنَ الكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَذِكْرِ مَا يُنَافِيهِ مِنَ الشِّركِ الأكْبَرِ أَوْ يُنَافِي كَمَالَهُ الوَاجِبَ؛ مِنَ الشِّرْكِ الأصْغَرِ وَنَحْوِهِ، وَمَا يُقَرِّبُ مِنْ ذَلِكَ أَوْ يُوصِلُ إِلَيْهِ»(7).

مَنْهَجُهُ فِي تَأْلِيفِ الكِتَابِ:
إِنَّ مَنْهَجَ شَيْخِ الإسْلامِ مُحَمَّدِ بنِ عَبْدِالوَهَّابِ-رَحِمَهُ اللهُ- فِي كِتَابِ التَّوْحِيْدِ هُوَ: أَنْ يُتَرْجِمَ لِلْبَابِ بِتَرْجَمَةٍ مَبْنِيَّةٍ عَلَى كِتَابِ اللهِ، وَمَا صَحَّ عَنْ رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عليهِ وَسَلَّم-، أَوْ بِمَا أَجْمَعَ عَلَيْهِ السَّلَفُ الصَّالِحُ-رَحِمَهُمُ اللهُ-.

ثُمَّ يَذْكُرُ مِنْ كِتَابِ اللهِ مَا يَدُلُّ عَلَى تَبْوِيْبِهِ، ثُمَّ يَذْكُرُ مِنْ السُّنَّةِ مَا يَدُلُّ عَلَى مَا بَوَّبَ لَهُ، وَكَذَلِكَ يَذْكُرُ بَعْضَ الآثارِ فِي تَوضِيحِ مَعْنَى آيَةٍ أَوْ حَدِيْثٍ، أَوْ يَكُونُ للأثَرِ عَلاقَةٌ مُبَاشِرَةٌ بِتَرْجَمَةِ البَابِ.

ثُمَّ بَعْدَ ذِكْرِ الأَدِلَّةِ مِنَ الكِتَابِ وَالسُّنَّةِ والآثَارِ السَّلَفِيَّةِ يَذْكُرُ الفَوَائِدَ الْمُسْتَنْبَطَةَ مِنْ أَدِلَّةِ البَابِ عَنْ طَرِيْقِ مَسَائِلَ.

فَكَمَا أَنَّ فِقْهَ الإمَامِ البُخَارِيِّ فِي تَبْوِيْبِهِ، فَإِنَّ فِقْهَ شَيْخِ الإسْلامِ مُحَمَّدِ بنِ عَبْدِالوَهَّابِ فِي تَبْوِيبِهِ وَمَسَائِلِهِ.

مَنْهَجُهُ فِي تَخْرِيجِ الأَحَادِيْثِ والآثَارِ:
وَبِالنِّسْبَةِ للأَحَادِيثِ وَالآثَارِ فَإِنَّهُ يَعْزُوهَا إِلَى مَنْ خَرَّجَهَا إِمَّا قَبْلَ ذِكْرِ الْحَدِيْثِ، وَإِمَّا بَعْدَ ذِكْرِهِ لَهُ وَهَذَا هُوَ الغَالِبُ.

وَيُبَيِّنُ دَرَجَةَ الْحَدِيْثِ غَالِباً إِمَّا بِعَزْوِهِ لِكِتَابٍ اشْتَرَطَ الصِّحَّةَ كَصَحِيْحِ البُخَارِيِّ ومُسْلِمٍ وابنِ حِبَّانَ، وَمُسْتَدْرَكِ الْحَاكِمِ، وَالْمُخْتَارَةِ للضِّيَاءِ الْمَقْدِسِيِّ، وَإِمَّا بِذِكْرِ حُكْمِ مَنْ أَخْرَجَهُ كَتَصْحِيحِ التِّرْمِذِيِّ أَوْ تَحْسِينِهِ، أَوْ تَصْحِيْحِ غَيْرِهِ للحَدِيْثِ كالنَّوَوَيِّ، وَالذَّهَبِيِّ، وَإِمَّا بِعَزْوِهِ لأَبِي دَاوُدَ سَاكِتاً عَلَيْهِ ولَيْسَ فِي إسْنَادِهِ مَا يُرَدُّ بِهِ الْحَدِيْثُ مِمَّا يَعْنِي أَنَّهُ صَالِحٍ للاحْتِجَاجِ عِنْدَهُ كَمَا عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ-رَحِمَهُ اللهُ-.

وَإِمَّا أَنْ يَحْكُمَ عَلَيْهِ بِنَفْسِهِ مُعْمِلاً قَوَاعِدَ أَهْلِ الْحَدِيْثِ فِي الْحُكْمِ عَلَى الأحَادِيْثِ، وَقَدْ يَكُونُ حُكْمُهُ مُقْتَبَساً مِنْ كَلامِ غَيْرِهِ كَالْمُنْذِرِيِّ أَوْ شَيْخِ الإسْلامِ ابنِ تَيْمِيَّةَ أَوْ ابنِ القَيِّمِ. وَأَحْيَاناً يَذْكُرُ الإسْنَادَ مُشِيْراً إلَى أَنَّهُ قَدْ يَكُونُ فِيْهِ نَظَرٌ مَعَ صِحَّةِ مَعْنَاهُ بِأَدِلَّةٍ أُخْرَى، مَعَ احْتِمَالِ صِحَّتِهِ لِذَاتِهِ.

فَلَمْ يَبْنِ تَبْوِيْباً عَلَى حَدِيْثٍ أَوْ أَثَرٍ ضَعِيْفٍ مُطْلَقاً، بَلْ بَنَاهُ عَلَى مَا هُوَ ثَابِتٌ صَحِيْحٌ، وَقَدْ يَذْكُرُ بَعْضَ الأحَادِيْثِ أَوِ الآثَارِ الَّتِي فِي سَنَدِهَا خِلافٌ بَيْنَ أَهْلِ العِلْمِ مِنْ بَابِ الاسْتِئْنَاسِ لا مِنْ بَابِ الاحْتِجَاجِ، وَهَذَا لا يَتَجَاوَزَ عَدَدَ الأَصَابِعِ كَمَا سَيَأتِي بَيَانُهُ.

ما يَتَعَلَّقُ بِأَحَادِيثِ كِتَابِ التَّوْحِيْدِ:
ذَكَرَ شَيْخُ الإسْلامِ مُحَمَّدُ بنُ عَبْدِالوَهَّابِ فِي كِتَابِ التَّوْحِيْدِ سِتَّةً وَسِتِّيْنَ بَاباً اشْتَمَلَتْ عَلَى آيَاتٍ كَثِيْرَةٍ مِنْ كِتَابِ اللهِ، وَعَلَى ( 124 ) حَدِيْثاً، وَذَكَرَ مِنْهَا حَدِيْثَيْنِ فِي مَوْضِعَيْنِ فَيُصْبِحُ الْمَجْمُوعُ بِالْمُكَرَّرِ( 126 ) حَدِيْثاً.

خَرَّجَ البُخَارِيُّ ومُسْلِمٌ أَوْ أَحَدُهُمَا ( 61 ) حَدِيْثاً أيْ: قُرَابَةَ النِّصْفِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ أحَادِيْثَ الصَّحِيْحَيْنِ مِمَّا تَلَقَّتْهُ الأُمَّةُ بِالقَبُولِ، وَأَجْمَعَتْ عَلَى صِحَّتِهَا.

و( 55 ) حَدِيثاً مِنْ غَيْرِ الصَّحِيْحَيْنِ وَهِيَ صَحِيْحَةٌ أَوْ حَسَنَةٌ، وَقَدْ بَيَّنْتُ بُرْهَانَ ذَلِكَ أَثْنَاءَ تَخْرِيْجِي لِلأَحَادِيْثِ.

بَقِيَتْ ثَمَانِيَةُ أَحَادِيْثَ فِيْهَا نِزَاعٌ قَوِيٌّ(8) بَيْنَ العُلَمَاءِ أَذْكُرُهَا بِاخْتِصَارٍ:

أَوَّلاً: ذَكَرَ فِي البَابِ الأَوَّلِ حَدِيْثَ أَبِي سَعِيْدٍ الْخُدْرِيِّ-رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- مَرْفُوعاً: ((قَالَ مُوسَى: يَا رَبِّ، عَلِّمْنِي شَيْئاً أذْكُرُكَ، وَأدْعُوكَ بِهِ..)) الْحَدِيْثَ.

وَهَذَا الْحَدِيْثُ صَحَّحَهُ جَمَاعَةٌ مِنْ الأَئِمَّة مِنْهُم : الْحَاكِمُ، وَوَافَقَهُ الذَّهَبِيُّ. والْحَافِظُ ابنُ حَجَرٍ. وَلَهُ شَوَاهِدُ صَحِيْحَةٌ.

ثَانِياً: قَالَ شَيْخُ الإسْلامِ مُحَمَّدُ بنُ عَبْدِالوَهَّابِ فِي البَابِ( 13 ) : «وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ بِإِسنَادِهِ، أَنَّهُ كَانَ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عليهِ وَسَلَّم- مُنَافِقٌ يُؤذِي الْمُؤمِنِيْنَ، فَقَالَ بَعضُهُم: قُومُوا بِنَا نَسْتَغِيثُ بِرَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عليهِ وَسَلَّم- مِن هَذَا الْمُنَافِقِ، فَقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عليهِ وَسَلَّم-: ((إِنَّهُ لاَ يُستَغَاثُ بِي، وَإِنَّمَا يُستَغَاثُ بِاللهِ))»

فَهَذَا الْحَدِيْثُ أَشَارَ الْهَيْثَمِيُّ إلَى حُسْنِهِ بِقَوْلِهِ: «رِجَالُهُ رِجَالُ الصَّحِيْحِ غَيْرُ ابنِ لَهِيْعَةَ وَهُوَ حَسَنُ الْحَدِيْثِ» وَمَعْلُومٌ خِلافُ العُلَمَاءِ فِي ابنِ لَهِيْعَةَ وَأَنَّ مِنْهُمْ مَنْ يُوَثِّقُهُ مُطْلَقاً، فَهِيَ مَسْأَلَةٌ خِلافِيَّةٌ.

وَمَعَ ذَلِكَ فَشِيْخُ الإسْلامِ مُحَمَّدُ بنُ عَبْدِالوَهَّابِ لَمْ يُوْرِدْهُ عُمْدَةً فِي البَابِ، لأَنَّهُ احْتَجَّ عَلَى «بَاب منَ الشِّرْكِ أنْ يَسْتَغِيثَ بِغَيْرِ اللهِ أَوْ يَدْعُو غَيْرَهُ» بِأَرْبَعِ آيَاتٍ مِنْ كِتَابِ اللهِ، ثُمَّ ذَكَرَ حَدِيْثَ الطَّبَرَانِيِّ، وَذَكَرَ فِي البَابِ (18) مَسْأَلَةً لا يَتَعَلَّقُ مِنْهَا بِالْحَدِيْثِ إِلا الْمَسْأَلَةُ الأَخِيْرَةُ وَهُي: «الثَّامِنَةَ عَشْرَةَ: حِمَايَةُ الْمُصْطَفَى -صَلَّى اللهُ عليهِ وَسَلَّم- حِمَى التَّوحِيْدِ وَالتَأَدُّبُ مَعَ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-»

ثَالِثاً : ذَكَرَ فِي البَابِ(27) حَدِيثَ الفَضْلِ بنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- : ((إِنَّمَا الطِّيَرَةُ مَا أَمْضَاكَ أَوْ رَدَّكَ))

فَهَذَا الْحَدِيْثُ لَمْ يُصَحِّحْهُ أَوْ يُحَسِّنْهُ وَإِنَّمَا أَوْرَدَهُ لِصِحَّةِ مَعْنَاهُ مَعَ قُرْبِ إِسْنَادِهِ، فَيْسْتَأْنَسُ بِهِ. وَقَدْ رَوَاهُ أحْمَدُ مِنْ رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بنِ عَبْدِاللهِ بنِ عُلاثَةَ وَهُوَ مُخْتَلَفٌ فِيْهِ، فَمَعَ أَنَّهُ ضُعِّفَ إِلا أَنَّ ابنَ مَعِيْنٍ وَثَّقَهُ، وَقَالَ ابنُ عَدِيٍّ: حَسَنُ الْحَدِيْثِ، وَأَرْجُو أَنَّهُ لا بَأْسَ بِهِ، وَوَثَّقَهُ ابنُ سَعْدٍ، وَكَذَا الْخَطِيْبُ، وَدَافَعَ عَنْهُ. وَفِيْهِ انْقِطَاعٌ بَيْنَ ابنِ عُلاثَةَ وَبَيْنَ الفَضْلِ-رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-.

وَقَدْ نَبَّهَ شَيْخُ الإسْلامِ مُحَمَّدُ بنُ عَبْدِالوَهَّابِ عَلَى ذَلِكَ، فَنَقَلَ الشَّيْخُ سُلَيْمَانُ -رَحِمَهُ اللهُ- مِنْ خَطِّهِ: «فِيْهِ رَجُلٌ مُخْتَلَفٌ فِيْهِ، وَفِيْهِ انْقِطَاعٌ»

وَالْحَدِيْثُ الْمَذْكُورُ مَعْنَاهُ صَحِيْحٌ، دَلَّتْ عَلَى ذَلِكَ الأَدِلَّةُ الصَّحِيْحَةُ الثَّابِتَةُ.

رَابِعاً: ذَكَرَ فِي البَابِ(31) حَدِيْثَ أَبِي سَعِيدٍ-رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- مَرفُوعَاً: ((إِنَّ مِنْ ضَعفِ اليَقِينِ: أَن تُرضِيَ النَّاسَ بِسُخطِ اللهِ..)) الْحَدِيْثَ.

وَهَذَا الْحَدِيْثُ لَمْ يُحَسِّنْهُ شَيْخُ الإسْلامِ مُحَمَّدُ بنُ عَبْدِالوَهَّابِ، وَلَمْ يُصَحِّحْهُ وَإِنَّمَا أَوْرَدَهُ بَعْدَ ذِكْرِ آيَتَيْنِ، وَأَتْبَعَهُ بِحَدِيثِ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- مَرْفُوعاً: ((مَنِ الْتَمَسَ رِضَا اللهِ بِسَخَطِ النَّاسِ؛ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، وَأَرْضَى عَنهُ النَّاسَ..)) وَهُوَ حَدِيْث صَحِيْحٌ.

وَمَعَنَاهُ صَحِيْحٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَرُوِيَ عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ مِنَ السَّلَفِ.

خَامِساً: ذَكَرَ فِي البَابِ( 55 ) حَدِيْثَ جَابِرٍ -رَضِيَ اللهُ عنهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله -صَلَّى اللهُ عليهِ وَسَلَّم-: (( لاَ يُسأَلُ بِوَجهِ اللهِ إلاَّ الْجَنَّةَ )) رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ .

فَهَذَا الْحَدِيْثُ سكت عَنْهُ أبُو دَاوُدَ، وَذَكَرَهُ البَغَوِيُّ فِي الأَحَادِيْثِ الْحِسَانِ مِنَ الْمَصَابِيحِ( 2/ 61 ) ، وَذَكَرَهُ النَّوَوِيُّ فِي رِيَاضِ الصَّالِحِيْنَ( ص / 390 )، وَصَحَّحَهُ الضِّيَاءُ الْمَقْدِسِيُّ، وَرَمَزَ السُّيُوطِيُّ لِصِحَّتِهِ.

وَمَدَارُهُ عَلَى سُلَيْمَانَ بنِ مُعَاذٍ وَهُوَ مُخْتَلَفٌ فِيْهِ، وَقَدْ وَثَّقَهُ الإمَامُ أحْمَدُ، وَقَالَ مَرَّةً: لا أَرَى بِهِ بَأْساً. وَقَدْ احْتَجَّ بِهِ مُسْلِمٌ فِي صَحِيْحِهِ، وَمَنْ خَرَّجَ لَهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيْحِهِ فَقَدْ جَاوَزَ القَنْطَرَةَ.

سَادِساً: ذَكَرَ فِي البَابِ(64) حَدِيْثَ جُبَيْرِ بنِ مُطعِمٍ -رَضِيَ اللهُ عنهُ- قَالَ: «جَاءَ أَعْرَابِيٌّ إِلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عليهِ وَسَلَّم-، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ! نُهِكَتِ الأَنْفُسُ، وَجَاعَ الْعِيَالُ، وَهَلَكَتِ الأَمْوَالُ؛ فَاسْتَسْقِ لَنَا رَبَّكَ، فَإِنَّا نَسْتَشْفِعُ بِاللهِ عَلَيْكَ، وَبِكَ عَلَى اللهِ».

فَقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عليهِ وَسَلَّم-: ((سُبحَانَ اللهِ! سُبحَانَ اللهِ!)).. الْحَدِيْثَ.

فَهَذَا الْحَدِيْثُ قَدْ صَحَّحَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الأَئِمَّةِ؛ قَالَ ابنُ مَنْدَهْ: «وَهُوَ إسْنَادٌ صَحِيْحٌ مُتَّصِلٌ مِنْ رَسْمِ أَبِي عِيْسَى والنَّسَائِيِّ»، وَقَوَّاهُ شَيْخُ الإسْلاَمِ فِي مَجْمُوعِ الفَتَاوَى( 16 / 435 )، وَحَسَّنَهُ ابنُ القَيِّمِ فِي حَاشِيَتِهِ عَلَى مُخْتَصَرِ سُنَنِ أبِي دَاوُدَ لِلْمُنْذِرِيِّ( 13 / 12 ) وَدَلَّلَ عَلَى ذَلِكَ، وَرَدَّ عَلَى قَوْلِ الْمُضَعِّفِيْنَ. وَكَفَى بِهَؤُلاءِ الأَئِمَّةِ قُدْوَةً وَسَلَفاً.

سَابِعاً: قَالَ فِي البَابِ الأَخِيْرِ(66): «وَقَالَ ابنُ جُرَيرٍ: حَدَّثَنِي يُونُسُ، أَخبَرَنَا ابنُ وَهبٍ قَالَ: قَالَ ابنُ زَيدٍ: حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عليهِ وَسَلَّم-: ((مَا السَّمَاوَاتُ السَّبعُ فِي الكُرسِيِّ إِلاَّ كَدَرَاهِمَ سَبْعَةٍ أُلقِيَتْ فِي تُرْسٍ))(9).

قَالَ: وَقَالَ أَبُو ذَرٍّ-رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: سَمِعتُ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عليهِ وَسَلَّم- يَقُولُ: ((مَا الكُرسِيُّ فِي العَرْشِ إِلاَّ كَحَلَقَةٍ مِن حَدِيدٍ أُلقِيَتْ بَيْنَ ظَهْرَي فَلاَةٍ مِنَ الأَرْضِ))(10) ».

فَهُنَا قَدْ أَوْرَدَ الشَّيْخُ الإسْنَادَ، وَكَذَلِكَ لِحَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ شَوَاهِدُ يَصِحُّ بِهَا، أَمَّا مُرْسَلُ زَيْدِ بنِ أَسْلَمَ فَلَمْ أَجِدْ مَا يَشْهَدُ لَهُ، بَلْ مَا يُغْنِي عَنْهُ.

ثَامِناً: ذَكَرَ فِي البَابِ الأخِيْرِ-أَيْضاً- حَدِيْثَ الأَوْعَالِ وَهُوَ حَدِيْثٌ مَشْهُورٌ عِنْدَ سَلَفِ الأُمَّةِ، وَقَوَّاهُ غَيْرُ وَاحِدٍ:

قَالَ التِّرْمِذِيُّ: «حَسَنٌ غَرِيْبٌ»، وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ، وَصَحَّحَهُ الْجَوْرَقَانِيُّ فِي كِتَابِهِ « الأبَاطِيلِ والمنَاكِيْرِ والصِّحَاحِ وَالمشَاهِيْرِ »، وَالضِّيَاءُ فِي الأحَادِيْثِ الْمُخْتَارَةِ، وَقَالَ أبُو بَكْرٍ ابنُ العَرَبِيِّ: « حَسَنٌ صَحِيْحٌ »، وَقَالَ الذَّهَبِيُّ فِي كِتَابِ العَرْشِ ( رقم 24 ) : « إِسْنَادٌ حَسَنٌ وَفَوْقَ الْحَسَنِ ».

وَقَوَّاهُ شَيْخُ الإسْلاَمِ ابنُ تَيْمِيَّةَ، وَابنُ القَيِّمِ فِي حَاشِيَتِهِ عَلَى مُخْتَصَرِ سُنَنِ أبِي دَاوُدَ، وَقَالَ فِي الصَّواعِقِ الْمُرْسَلةِ: «إِسْنَادٌ جَيِّدٌ» .

وَقَالَ الشَّيْخ عَبْدُالرَّحْمَنِ بنُ حَسَنٍ فِي قُرَّةِ عُيُونِ الْمُوَحِّدِينَ ( ص / 213 ) : «وَهَذَا الْحَدِيْثُ لَهُ شَوَاهِدُ فِي الصَّحِيْحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا مَعَ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ صَرِيحُ القُرْآنِ، فَلا عِبْرَةَ بِقَوْلِ مَنْ ضَعَّفَهُ» .

فَظَهَرَ بِمَا سَبَقَ أَنَّ شَيْخَ الإسْلامِ مُحَمَّدَ بنَ عَبْدِالوَهَّابِ لَمْ يُصَحِّحْ أَوْ يُحَسِّنْ حَدِيْثاً ضَعِيْفاً ( 11 ) ، وَمَا ذَكَرَهُ مِنْ بَعْضِ الأَحَادِيْثِ الَّتِي ضَعَّفَهَا بَعْضُ العُلَمَاءِ فَهُوَ لاخْتِلافِ اجْتِهَادِهِمْ فِي الْحُكْمِ عَلَى الْحَدِيْثِ، وَكَذَلِكَ قَدْ يُوْرِدُ بَعْضَ مَا تُكِلِّمَ فِيْهِ اسْتِئْنَاساً مَعَ صِحَّةِ مَعْنَاهُ بِالدَّلائِلِ القَطْعِيَّةِ.

فلا يَجُوزُ لأَحَدٍ بِحَالٍ أَنْ يَظُنَّ أَنَّ شَيْخَ الإسْلامِ مُحَمَّدَ بنَ عَبْدِالوَهَّابِ تَسَاهَلَ فِي إِيْرَادِهَا، أَوْ خَالَفَ أَهْلَ الْحَدِيْثِ، بَلْ هُوَ سَائِرٌ عَلَى نَهْجِهِمْ وَطَرِيْقَتِهِمْ، بَلْ هُوَ مِنْ كِبَارِ أَهْل الْحَدِيْثِ وَمُحَقِّقِيْهِمْ-رَحِمَهُ اللهُ-.

وَهَذَا الإمَامُ التِّرْمِذِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ والنَّسَائِيُّ عَلَى جَلالَتِهِمْ، وَتَمَكُّنِهِمْ فِي عِلْمِ الرِّجَالِ قَدْ صَحَّحُوا بَعْضَ الأحَادِيْثِ الَّتِي خَالَفَهُمْ فِيْهَا غَيْرُهُمْ، وَكَذَلِكَ النَّوَوِيُّ فِي رِيَاضِ الصَّالِحِيْنَ وَالَّذِي اشْتَرَطَ فِيْهِ الصِّحَّةَ قَدْ خَالَفَهُ غَيْرُهُ فِي تَصْحِيْحِ بَعْضِ تِلْكَ الأحَادِيْثِ، وَكِتَابُهُ الأَرْبَعِيْنَ نَجِدُ مِنَ العُلَمَاءِ مَنْ ضَعَّفَ مِنْ أَحَادِيْثِهِ مَا تَزِيْدُ نِسْبَتُهُ عَمَّا انْتُقِدَ عَلَى شَيْخِ الإسْلامِ مُحَمَّدِ بنِ عَبْدِالوَهَّابِ.

وَكَذَلِكَ شَيْخُ الإسْلام ابنُ تَيْمِيَّةَ والإمَامُ ابنُ القَيِّمِ وَالذَّهَبِيُّ والحَافِظُ ابنُ حَجَرٍ قَدْ صَحَّحُوا أَحَادِيْثَ خَالَفَهُمْ فِيْهَا غَيْرُهُمْ وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ قَادِحاً فِي عِلْمِهِمْ أَوْ عِلْمِ مَنْ خَالَفَهُمْ مِنْ أَهْلِ العِلْمِ وَالسُّنَّةِ، وَلَمْ يَتَّهِمْهُمْ أَحَدٌ بِعَدَمِ الْمَعْرِفَةِ فِي الْحَدِيْثِ أَوْ التَّسَاهُلِ أَوْ يَطْعَنْ عَلَيْهِم بِذَلِكَ.

فَالْخُلاصَةُ أَنَّ شَيْخَ الإسْلامِ مُحَمَّدَ بنَ عَبْدِالوَهَّابِ -رَحِمَهُ اللهُ- مِنْ أَئِمَّةِ أَهْلِ الْحَدِيْثِ، وَكِبَارِ الْمُحَدِّثِيْنَ وَالْمُحَقِّقِيْنَ، وَكِتَابُهُ التَّوْحِيْدُ مِنْ أَصَحِّ الكُتُبِ الْمُصَنَّفَةِ فِي العَقَائِدِ.
وَاللهُ أَعْلَمُ. وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّم عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ

كتَبَهُ: أبو عمر أسامةُ العُتَيْبِي


----------------------------
الهوامش
(1) كَتَبَ شَيْخُنَا الشَّيْخُ صَالِحُ بنُ عَبْدِاللهِ العُبُود تَرْجَمَةً حافِلَةً لِشَيْخِ الإسْلامِ مُحَمَّدِ بنِ عَبْدِالوَهَّابِ ضِمْنَ كِتَابِهِ البَدِيْعِ «عَقِيْدَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدِ بنِ عَبْدِالوَهَّابِ السَّلَفِيَّةِ وَأَثَرِهَا فِي العَالَمِ الإسْلامِيِّ» فَيُرْجَعُ إلَى ذَلِكَ الكِتَابِ فَإِنَّهُ مُهِمٌّ غَايَةً.
(2) رَوَاهُ البُخَارِيُّ فِي صَحِيْحِهِ(رقم2405)، ومُسْلِمٌ فِي صَحِيْحِهِ(رقم2525).
(3) انْظُرِ: الدُّرَرَ السَّنِيَّةَ(9/215)
(4) عُنْوَانُ الْمَجْدِ فِي تَارِيْخِ نَجْدٍ لِلعَلاَّمَةِ عُثْمَانَ بنِ بِشْرٍ النَّجْدِيِّ(1/ 6).
(5) الدُّرَرُ السَّنِيَّةُ(12/ 8)
(6) قَالَ ابنُ بِشْرٍ فِي عُنْوَانِ الْمَجْدِ(1/25-26): «كَانَ لَهُ اليَدُ الطُّولَى فِي مَعْرِفَةِ الْحَدِيْثِ وَأَهْلِهِ وَمَحَبَّتِهِ، وَصَنَّفَ مُصَنَّفاً سَمَّاهُ :"تُحْفَةَ الأَنَامِ فِي العَمَلِ بِحَدِيثِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ أَفْضَلُ الصَّلاةِ والسَّلامِ"، وَلَهُ مُصَنَّفَاتٌ غَيْرُهَا، رَأَيْتُ لَهُ مُصَنَّفاً عَجِيباً؛ شَرْحاً عَلَى الأَرْبَعِيْنَ النَّوَوِيَّةِ، سَمَّاهُ: "تُحْفَةَ المُحِبِّيْنَ فِي شَرْحِ الأَرْبَعِيْنَ"».
(7) مِنْ كَلامِ الشَّيْخِ عَبْدِالرَّحْمَنِ بنِ حَسَنٍ فِي مُقَدِّمَةِ كِتَابِهِ:«فَتْحِ الْمَجِيْدِ».
(8) هُنَاكَ أحَادِيْثُ أُخْرَى تَنَازَعَ فِيْهَا العُلَمَاءُ لَمْ أَذْكُرْهَا لأَنَّهُ ظَهَرَ لِي ضَعْفُ حُجَّةِ مَنْ يُضَعِّفُهَا.
(9) رَوَاهُ ابنُ جَرِيْرٍ(3/10)، وَأَبُو الشَّيْخِ فِي العَظَمَةِ(رقم220) وَعَبْدُالرَّحْمَنِ بنُ زَيْدِ بنِ أَسْلَمَ: وَاهٍ، وَأَبُوهُ تَابِعِيٌّ ثِقَةٌ، فَهُوَ مُرْسَلٌ وَاهِي الإسْنَادِ.
(10) رَوَاهُ ابنُ جَرِيْرٍ فِي تَفْسِيْرِهِ(3/10)، وَأَبُو الشَّيْخِ فِي العَظَمَةِ(2/587) وفي إِسْنَادِهِ: عَبْدُالرَّحْمَنِ بنُ زَيْدِ بنِ أَسْلَمَ وَهُوَ وَاهٍ، ولَكِن لَهُ طُرُقٌ أُخْرَى تُغْنِي عَنْهُ فَهُوَ صَحِيْحٌ.
(11) انْتَقَدَ بَعْضُ العُلَمَاءِ إِيْرَادَ شَيْخِ الإسْلامِ مُحَمَّدِ بنِ عَبْدِالوَهَّابِ لِقِصَّةِ الغَرَانِيقِ فِي مُخْتَصَرِهِ لِلسِّيْرَةِ، وَهَذَا فِي حَقِيْقَتِهِ انْتِقَادٌ غَيْرُ صَحِيْحٍ، فَقِصَّةُ الغَرَانِيقِ ثَابِتَةٌ، أَجْمَعَ الْمُفَسِّرُونَ عَلَى ثُبُوتِهَا، وَتَلَقَّتْهَا الأُمَّةُ بِالقَبُولِ، وَقَدْ صَحَّحَهَا جَمَاعَةٌ مِنْ الأَئِمَّةِ مِنْهُمُ: الضِّيَاءُ الْمَقْدِسِيُّ فِي الْمُخْتَارَةِ(10/234)، وَالْحَافِظُ ابنُ حَجَرٍ فِي تَخْرِيجِ أحَادِيْثِ الكَشَّافِ(4/114)، وَالسُّيُوطِيُّ، وَالشَّيْخُ سُلَيْمَانُ وَغَيْرُهُمْ، وَفَسَّرَهَا-أيْ قَولَهُ تَعَالَى: {ألْقَىالشَّيْطَانُ فِي أمْنِيَّتِهِ} بِهَا جَمَاعَةٌ مِنْ الأَئِمَّةِ كَابنِ جَرِيْرٍ(17/186)، والنَّحَّاسِ فِي مَعَانِي القُرْآنِ(4/426)، وَالبَغَوِيِّ(3/293-294)، والوَاحِدِيِّ فِي تَفْسِيْرِهِ(2/737)، وَأَبِي اللَّيثِ السَّمَرْقَنْدِيِّ(2/ 465)، وابنِ أَبِي زَمَنِيْنَ(3/186)، والسَّمْعَانِيِّ(3/448)، وابنِ جُزَيٍّ فِي التَّسْهِيْلِ(3/44)، وَشَيْخِ الإسْلامِ ابنِ تَيْمِيَّةَ فِي مَجْمُوعِ الفَتَاوَى(2/282)، وَقَالَ فِي مِنْهَاجِ السُّنَّةِ(2/ 409):«عَلَى الْمَشْهُورِ عِنْدَ السَّلَفِ والْخَلَفِ» وَالسَّعْدِيِّ(ص/ 542) وَغَيْرِهِمْ كَثِيْرٍ جِدًّا.