المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : البحر موعدنا رحلة في شعر الشاعر ...


mecrosys
2010-03-02, 00:02
البحر موعدنا رحلة في شعر الشاعر "محمد إبراهيم أبو سنة

صحيفة 26سبتمبر

رحلة طويلة تلك التي اجتازها الشاعر محمد إبراهيم أبوسنة في صحبة الشعر على مدى سبعة عشر عاماً منذ أن صدر ديوانه الأول «قلبي وغازلة الثوب الأزرق» حتى ديوانه الأخير «البحر موعدنا».. ومن يخض مثل هذه الرحلة الطويلة في مسالك الشعر والفن لابد أن يتفتح فكره ووجدانه من خلال التجارب والمعاناة وتحول الرحلة وتقلبات أحوالها، ويظل مع ذلك محتفظاً بشي جوهري لا يتغير، يعكس فطرته الأولى وموهبته التي تبقى تربة دائمة تنمو فيها بذور المعارف والتجارب.. وفي ديوان الشاعر الأخير يتمثل عنصر الثبات والتغير في بعض جوانب من إحساس الشاعر بالكون والحياة والناس وفي بعض مظاهر من التعبير الفني في بناء القصيدة واستخدام اللغة ورسم الصورة.. إما إحساس الشاعر بالحياة والناس فما زال كعهدنا به في دواوينه السابقة يقوم على الشعور بالفقد والغربة والحيرة أمام مايشهد من قيم لاترضى تطلعه إلى الخير والصدق والإخلاص والجمال، فهو موزع بين الرضا بالواقع وكأنه طبيعة النفس البشرية وسنة الحياة.. وبين التسليم والرغبة في السخط يتخلل شعر الشاعر حزن هادئ عميق يضبط إيقاع شعره فلا تعلو نبرته، ويضبط تعبيره فلا يجنح إلى المجاهرة والخطابة وإن انتهى أحياناً إلى شي من الرأي المباشر داخل هذا النغم الخافت الحزين.. وذلك شي يحمد للشاعر في زمن اختلط فيه الفن بالإعلام والسياسة والمحافل التي تملى على الشاعر- برغمه في كثير من الأحيان- نبرة عالية وانماطاً تعبيرية معروفة بقدرتها على إحساس كسب إعجاب الجماهير.

د. عبدالقادر القط

ويدرك الشاعر حقيقة تلك القطيعة بينه وبين الحياة والناس، ويصرح بها في كثير من مقاطع قصائده، لكنه يوشي هذا التصريح بغلالة من الذكريات أو الأمنيات فلا تبعد عن طبيعة شعره العامة في هدوء الإيقاع وكبت انطلاق الشعور:
ولا يخف القلب إلاّ لصوت السكون
الذي يبعث الآن بين ضباب الأشعة
وجه الأحبة
فوق مرايا النسيم المرواغ
وهذي المسافات يقطعها الضوء ولاظل
ويكثر فيها الأنين
ويغدو العذاب طريق المسافر
تغدو القطيعة دار الإقامة
والحزن مرقده.. والحياة الجنون
والشاعر يعي هذا الكبت الذي يسيطر به على مشاعره في أشد المواقف قدرة على إثارة الشعراء ودفعهم إلى النبرة العالية والانفعال العنيف، وهو يحاول في مثل تلك المواقف أن يهرب عامداً من ضوء التصريح والمواجهة إلى حماية الظلال، فإن فكر في الضوء كان ذلك حلم يقظة يرسم خلاله ما يبتغيه من الغد.. وهو مع هذا ضوء سديمي تتشكل فيه النجوم وتولد البحار:
فها أنتِ تنتخبين لزينة بيتكِ غيري
فأمضي تنازعني الريح والليل سرى
وأكتم وجد المحببين.. أهرب بين حصار الظلال
وأمضى إلى مقلتيك لأرسم ما أبتغيه من الغد
أرسم شكل المسافات في الضوء..
شكل النجوم التي سوف تأتي
وشكل البحار التي سوف تولد..
..وأمضي إلى شفتيك اللتين تبوحان لي بالمسرة
ومن هذا الحزن المشوب بالسخط المكبوت يتولد صراع نفسي دائم يحاور الشاعر فيه قلبه ونفسه ويحاسبها على موقفها المتخاذل، أو يحاسبانه أحياناً بالسؤال والجواب، وأحياناً بمجرد الخطاب والتقدير، وكأن الشاعر بهذا الحوار والتساؤل الداخلي يفر من مواجهة القضية مواجهة صريحة في عالمه الخارجي ويحبسها في إطار من الصراع الذاتي:
قلت أحاور قلبي
ما معنى الجنة ياقلبي؟
قال: تجول في نفسك حتى تصل إلى الإنسان
وتجول في الإنسان إلى أن تصل إلى وطنك
وتجول في وطنك حتى تصل إلى الله..
قلت: ومامعني النار؟
قال: ومامعنى النار
قال: خواء الأشياء من المعنى
أن تصبح شيئاً كالأشياء.. يشرى ويباع
أن تتصارع إلى مالا يدخلك إلى ذاتك
أن تسكنك الأشياء الباردة الإيقاع
ويستحيل النيل في حديث الشاعر إليه إلى قلب يحاوره ويستحثه على التمرد على هذا النحو الداخلي الذي يختلط فيه اليقين بالظن:
ما الذي في ضميرك للأرض؟
قارة أنت للحلم والظن
ياقلبنا الأملس المنيع المراوغ
<<<
لست سطحاً من الموج..
يا أيها النيل جاهر بعشقك
أن الشواطئ لا تستحم بمائك..
إلاّ إذا أخرجتك عن الطور هذي الصبابات
إلاّ إذا جاوز العشق حد التعقل
وانداح في زمن للجنون
ويعي الشاعر حقيقة موقفه في مواجهته للحياة والناس في حوار مع مجهول
لعله قلبه مرة أخرى:
قال لي:
أن روحك ضائعة، أنت
لا تستطيع الدخول إلى النار في لحظة الحلم..
لا تستطيع الحوار مع الرعد..
لا تستطيع السكوت ولا النطق...
تبقى هنالك في جنة الوهم
تسقى الأساطير ماء الغمام الذي لا يجئ!
وفي قصيدة وحيدة سمى بها الشاعر الديوان «البحر موعدنا» يخرة الشاعر بهذا الصراع الداخلي المكبوت إلى المجاهرة والمواجهة وهي قصيدة- لهذا- تبدو في فنها أيضاً مخالفة لسائر قصائد الديوان:
والشاعر في هذا الديوان يلتزم جانب الاقتصاد في العبارة والتركيز في الصورة، ويخالف ما كان معهوداً في كثير من قصائده من انسياق وراء تداعي الألفاظ أو المشاعر أو إغراء موسيقى القافية والإيقاع وقصائده هنا لا تطول كثيراً ويحكم بناءها وصورها شيء من «التصميم» السابق لا يأذن- في الأغلب- إلا لما يدخل في صميم ذلك البناء ومن نماذج هذا « التصميم» ما يبدو في قصائد "أسئلة الأشجار" و" النهر وملائكة الأحزان" و"أصوات" و" تحولات قلب" ولمثل هذا البناء الفني نظائر في دواوينه السابقة، كقصيدته "لأنك تجهل مملكة الليل" في ديوانه «تأملات في المدن الحجرية» وقصيدته «أعرف أنك تكتملين الآن» من ديوانه «زجراس المساء».
والحركة النفسية التي يخلقها هذا الحوار الداخلي بين الشاعر ونفسه وبينه وبين الأشياء تعصمه مما يقع فيه أحياناً في دواوينه السابقة من «امتداد» الصورة الواحدة أطول مما ينبغى وإيرادها هي نفسها بأكثر من وجه في بناء ممتد ولكنه غير مركب، فقد كانت القوافي والسطور القصيرة الموقعة تقوم عنده في بعض الأحيان مقام التركيب وخلق علاقات جديدة بين أجزاء الصورة الشعرية فتظل عناصرها منفصل، تتكامل ولكنها لا تتفاعل وتتوحد، برغم مافي عباراتها من جمال، كقوله مثلاً في «مرثية القلب الميت» من ديوانه «حديقة الشتاء»:
كنت تفتش في قلب الصخر، عن فصل خامس
لاتذبل فيه الأشجار لاتبطى فيه الأنهار
عن ليل لا تسقط منه الأقمار
عن قلب واحد يؤمن أن الحب يدوم
دون قناع كاذب..
عن طرق أخرى تسلكها الأحلام
كنت برئياً.. لاتدري أن الأيام
لا تترك من يصعد، تمتلئ يداه بضوء النجم
لاتترك نهراً يجرى لمصبه
لا تترك حباً يختبئ سعيداً في مقلة عاشق
أو قوله من الديوان نفسه:
.. فليدخل الإعصار
إلى المخادع التي تضج بالأشواق
وليقرع الخطر، ناقوسه في ساعة العناق
وليخفق العلم، في القلب لحظة الفراق
والتعرفوا أيها العشاق
بأن أجمل العيون، تهيأت للاحتراق
وقوله في «قلبي وغازله الثوب الأزرق»:
أن نجلس في شرفتنا.. نتذكر خدعتنا
في حب مات
في طفل ما أنجبناه
في عمر يورق أحلاماً ما عشناه
في وجه قابلناه وتاه
في لحن ما غننياه
في سر كنا نتمنى لوقلناه
في ندم عما نحن أضعناه
عمما نحن جنيناه
في قوله آه!
ولعلنا نلاحظ أن هذه الوجوه المتعددة لمظاهر «الخدعة» لا تضيف -من الناحية الفنية- جديداً إلى الإحساس لكنها «تمد» الصورة دون أن تنميها أو تركبها فكل جزء من أجزاء الصورة كان يمكن أن يكون صورة مركبة في ذاته لو لم يعتمد الشاعر على تتابع العبارات ذات الإيحاء الواحد والإيقاع والقوافى.
حقاً أن الشاعر في ديوانه الجديد ما زالت تغريه «البدائل» وتعداد الأجزاء المتشابهة الإيحاء، لكنه هنا لا يمر بكل جزء مروراً سريعاً دون أن يربطه بسابقه من خلال معنى أو شعور يضيف عمقاً للجزء من ناحية ويربطة بأجزاء الصورة جميعها من ناحية أخرى، ومثل هذا « التلبث» والتأني أمام الجزء الواحد يوحى إلى الشاعر بكثير من المجازات اليسيرة القادرة بيسرها على التعبير عن هذا الحزن الشفيف الذي يشيع في قصائد الديوان فهو حين يتمنى في قصيدته «تحولات قلب» لو كان قلبه صخراً أو طيراً لا يكتفى بالعبارة القصيرة الداله على الأمنية بل يفصل القول في غاية الأمنية ويربط بين هاتين الأمنيتين، ثم يعود من خلالهما فيرتد إلى ذلك الحوار الداخلي- الذي أشرنا إليه- بينه وبين قلبه:
آه لوكنت من الصخر لمالت
فوق أطرافك أسنان الخناجر
آن لوكنت من الطير لما حط الجناح
فوق شوك الغابة الممتد في ليل الخريف
لصعدت الآن للريح إلى حيث السماء
تنشر الضوء على البحر.
إلى حيث النجوم هائمات في السديم
وجعلت الغيم قصيرآً لمقامك
أيها القلب الكليم
هذه الوحشة والليل وأنات العواصف
وجبال من حطام الزهر والأوراق والأغصان
نهر من هشيم السنوات.. وبحيرات دموع
كلها تقبل في ظل المساء.. حين يسود الرماد
ثم تنسل إلى داخلك المطمور في عمق الثلوج..
كلها تنسل في الصمت إلى مجرى العروق
وإلى قاعك في قلب الحريق
علها توقظ نجماً في سحيق السنوات
كان حياً ثم مات
صرت قبراً للدموع
أيها القلب الذي كان غطائي في الشتاء
وغصوني في الربيع، ونجومي في المساء
وقد نلاحظ مع امتداد أجزاء الصورة أن السطور تكاد تكون خالية من القوافي، إلاّ حين يشتد انفعال الشاعر في نهايتها ويصبح الإيقاع ضرورة فنية للتعبير.
ولأن الشاعر لا يقتحم في تجربته الشعرية عالم الواقع بتفصيلاته ومشاهده بل يتخذ منه موقفاً نفسياً داخلياً عاماً، نراه يعبر عن رؤيته لهذا الواقع من خلال طائفة من الألفاظ يستخدمها رموزاً لرفضه أو امنياته أو ذكرياته أو احلام يقظته،، وهي رموز ليست جديدة على هذه الأنماط ويفلح الشاعر أحياناً في أن يضعها في عبارة شعرية متكاملة تجعل من الرمز مفتاحاً للصورة الشعرية أو يأتي بها أحيناً مجرد لفظة ذات معنى وإيحاء مفرد خاص وهو يجىء بهذه موجبة تدل على الحضور في حال الرضا أول على سبيل الاسترجاع في إطار الذكريات، أو احلام الييقظة في حال التطلع والأمنيات وقد يجيء بعضها مفرداً أو يجمع بعضها إلى بعض أو يحشدها الشاعر أحياناً في مقطع شعري واحد.. وينفي الشاعر هذه الألفاظحين يعبرعن الشعور بالفقد وتحول العلاقات أو إدانه الحاضر أو اليأس من المستقبل، ومن بين هذه الألفاظ توحى بالخير والثمار كالمواسم والفصول والمطر والغيم والأنهار ومنها ما يوحى بالتسامي والسعادة والجمال كالأقمار والنجوم..والشاعر في استخدامه لتلك الرموز- كعادته- لا يحاول أن يكون منها صوراً مركبة أو مجازات بعيدة بل يكتفي- كما ذكرنا- بأن تتكامل مع غيرها من عناصر التعبير الشعري وتظل متسقة في إيحائها وإيقاعها بانفعاله المكبوت وأنغامه الهادئة وهو أسلوب فني استخدمه الشاعر في هذا الديوان وفي دواوينه الخمسة السابقة ففي قصيدة «هشيم الأشجار» من ديوانه «الصراخ في الآبار القديمة» يحشد الألفاظ الموحية بالخير والثمر إلى جانب الألفاظ الموحية بالتسامي والمحبة والجمال فيقول:
رحلت نحو السهل الأخضر
أشجار الحكمة
مثقلة بالفاكهة وأعشاش الطير
تروى للنهر.. سر الألفة بين العشاق وباقات الزهر
تحنو فوق الناس البسطاء.. ترخى افرعها للأطفال
تحرسها الشمس وترعاها الأنهار
تغتسل ذوائبها في السحب المغتربة.
لكن شجيرة..حلمت أن تصبح عرشاً فوق البحر
كانت تحمل ألف جناح من أجنحة الطاووس
ومرايا تتضاحك فيها الألوان
تحلم أن تسكنها الأنجم
تنسج فيها الموسيقى مهداً للأحلام
يبني القمر عليها برجاً من فضة
مروحة خضراء على جسد الصيف
مدفأة شتاء حمراء!
وفي ديوانه الجديد «البحر موعدنا» يقول متسائلاً راسماً صورة عالمه الجديد الجميل من خلال إيحاءآت المطر والغيم والفصول والربيع والنجوم:
ترى هل أفك الحصار.. أعود من النفي
يطلع فوق التلال النهار؟
سؤال من النار يحرق جلدى
فأنبش في الرمل.. أنبش في الصخر
أنبش هذى الغصون وهذا المطر
إلى أن تلوح العلامة
فأعرف سر الطريق وسر القيامة
ويأتي من الغيب بسيف النبوءة
فتمشى القناديل عبر كتاب الزمان
وتجرى الدماء القديمة.. بهذي العروق الجديدة
ويمطر قلب العصور سحاباً من الذكريات السعيدة
فتورق بني الضلوع فصول الندم
وتصحو النجوم
وتدخل قلبي رياح الربيع
والحق أن هذه الرموز تكاد تطالع القارئ في كل قصيدة من قصائد الشاعر في ديوانه الجديد ودواوينه الخمسة السابقة سواء كانت منقية أو منفية قائمة في اللحظة الحاضرة أو غائبة في ذكريات الماضي مأمولة في أحلام المستقبل ففى الديوان الجديد يقول الشاعر عن الفصول والعطاء والنجوم راصداً كعادته تحول لحظات حياته:
رأيت المسافات تحملني
من نهار الربيع إلى الليل
تحت جناح الشتاء الطويل
ومات زماني الجميل
وما عاد لي أن أقول.. الذي لم أقله
وكانت أمامي النجوم مزغردة
وكانت أمامي الفصول
-شفتاك طالعتان في نهر الربيع
موجاً من الورد المرفوف في صفاء الذاكرة
يهب البراري الأخضرار.. غرب النهار
في أفق عينيك المسافة
بين قلبي والنجوم
وعن الفصول والنجوم والعطاء يقول في "أجراس المساء" :
عيناك ترحلان في تاريخي الطويل
سحابتان ترقصان في الجبال
وموعدان للشروق
وعازفان يبذران في ترابي النجوم
فتثمر السنين.. فواكه الفرح
وفي «تأملات في المدن الحجرية»:
يقولون أنك ترسم خارطة للزمان
ولون الحقول
يزخرف هذي الصحاري
ويغمرها بالثمار
ويجمع بين النجوم والأقمار والعطاء:
زمن يبدأ عن الفجر
بستان نجوم تسكنه الطير
تبتسمين فينهمر الورد
يتهلل سرب من اقمار
فوق حدائق عينك الصافيتين!
وفي «الصراخ في الآبار القديمة»:
عيناك شراعان على نهر الحب
وسريرك نهر وحديقة
وحمام أزغب يهلو فوق العشب
تبحر نحو شواطئنا الأقمار
تتفتح في خيمة هذا الصمت
آلاف الأنجم والاحلام
ويجئ الشاعر بهذه الصور الرامزة منفية فيقول في «تأملات في المدن الحجرية»:
ونهاجر في صحراء الصيف
في بادية الأوراق الصفراء
ينشرها فوق مدار العام خريف مترهل
وفي «حديقة الشتاء»:
بقيت في الحلق ثمار الحنظل
يافصل الأيام الأخضر
أسلم معزفك المشؤوم
فلقد جاء الحزن.. ليتم لنا لحن الليلة!
وفي حال اليأس أو الحزن تتهشم الأقمار وتفيض الأنهار ويخبو ضوء النجوم في كثير من صور الشاعر كقوله في ديوانه «تأملات في المدن الحجرية» :
على شفاهنا تهشم القمر
شهران والحديث دامع يطوف بالقرى
عن عاشق أتى مع السماء
يسائل الضفاف عن حبيبة بيضاء
عن عود قمح كان يعشق الغناء
وفي «أجراس المساء» :
كانت مثل البشر الفانين تجوع وتأكل
تصحو عند الفجر وتذبل
حين يغيب القمر الأعزل
- يغرق ظلك يا بدرية
بين ضفائر أشجا الصفصاف
تنتحب الريح الغربية
عند سقوط القمر المرتعد الأطراف
وفي «الصراخ في الآبار القديمة» :
صليت لو أتى القمر!
لو يغزل ابتهاجه على وسادتي
لكنه مضى مخلفاً صراخه على نوافذ الجيران
-وحاول القمر
أن يستعيد ذكرياته مع الفرح
ألح في انتظار نجمة مضت ولم تعد
فمال للنخيل يستميله ويرتعد!
وفي «تأملات في المدن الحجرية» :
ماذا يحترق بقلبي؟
يامدن القسوة والوهم!
تذبل أشجاري .. تتخبر أنهاري
يسقط قمري في الظلمة!
- ونهر تخاذل وارتاع من رحلة فوق حدد الصخور
فظل يناور حتى يعود غديراً صغيراً
فمجرى حقيراً.. فمات
فأصبح ملء الزجاجة!
وفي «البحر موعدنا» يخاطب قلبه:
أيها القبر الذي ضم المطر
وبقايا النجم الأولي من العمر القصير
صرت قبراً مثل الآلف القبور!
ويقول مرة أخري:
مطر بلا شجر.. وأشجار بلا مطر تموت
سحب تفر من السماء إلى الكهوف
شجر يموت وعالم يهوى.. وآماد اصفرار..
فمتى يجىء إلى مدائننا المطر؟
كي تنسج الغابات معطفها على جسد النهار
ورداً وأجنحة .. وطيراً واخضرار.
والنجمة والنجوم من أكثر الألفاظ دوراناً في شعر الشاعر، فحيناً تدعوه نجمة إلى الصعود وحيناً يخبئ هو للأطفال نجوماً ومرة تعلن له أغاني الوداع موت النجوم وأخرى يرى من يحب نجمة وحيدة في ليله الحزين وتارة تغمره النجوم بالضياء والسلام، وأخرى يفقد الطريق إلى النجوم والمدن الضاحكة أو يزين مخدعة بوردة وغيمة ونجم.. ويطول الاستشهاد بالدارس إذا إزاد أن يستقصى مثل تلك الألفاط المحورية التي يستغني بها الشاعر عن تركيب الصورة أو الاقتراب من تفصيلات عالممه الخارجي.
ولأن الشاعر يستخدم هذه الألفاظ للتعبير عن صورة العالم الخارجي في عالمه الباطني يضطر في كثير من الأحيان أن يزيد من دلالاتها وقدرتها على الإيحآء ببعض المشاعر النفسية الخاصة فيصفها هي في ذاتها أيضاً ضرب من الرمز والألوان وسيلة الشاعر الأولى إلى هذه الغاية، وقد يكون اللون مرتبطاً في الحس البصري بالموصوف وقد يجئ بعيداً عن وجوده المادي ليخلع عليه وجوداً عاطفياً أو نفسياً خاصاً، وللشاعر ولع واضح بالأزرق والأخضر والأسود، واللونان الأولان رقيقان هادئان يواكبان حالات الحزن الشفيق أو السعادة العميقة أو لحظات الذكرى الآسية أو الاستشراف الحالم للمستقبل وطبيعي أن يكون النجم من أكثر الألفاظ قدرة على استدعاء اللون الأزرق بطبيعة إحساس البصر به من ناحية، ولما يوحى به من تلك المشاعر من ناحية أخرى.. لكن الشاعر إلى جانب ذلك ينشر الزرقة على كثير من صوره سواء كانت زرقاء في الواقع أو فيما تحمل من دلالات شعورية وليس غريباً مع هذا الولع بالزرقة- أن يكون عنوان ديوانه الأول «قلبي وغازلة الثوب الأزرق».
يقول من ديوان« تأملات في المدن الحجرية»:
- تأتين من الغيب الأزرق.. من غابات الأحلام
موسم فرح للأرض العطشى
- فلتبتسمي حتى يهطل مطر طفولتي الخرساء
في نهر طفولتك الأزرق
عاصفة تتسكع في أرصفة التاريخ
تتهادى تنشن أجنحة زرقاء
فوق البحر.. وتقترب من المدن الحجرية
تلمس أوتار القلب وتغزو كل هضاب الروح
ونلحظ في النموذجين الأولين اتصالهما بتلك الرموز الموحية التي أشرنا إليها من موسم وعطاء ونهر ومطر