السمروني
2007-12-11, 21:13
تاسعاً: تقديم شيء للضيف أثناء انتظار الطعام:
من أدب الضيافة استحباب المبادرة إلى إكرام الضيف بما يتيسر ريثما ينضج الطعام، فإذا جاءك ضيف فجأة، ولم تستعد لطبخ وليمة ولا ذبيحة ولا شيء فتفعل كما فعله هذا الصحابي, أولاً جاء لهم بعذق بسر وتمر ورطب يأكلون من هذا البسر والرطب والبلح لتسكين جوعتهم في البداية, ريثما يصنع لهم طعاماً. وبعضهم استدلوا به على تقديم الفاكهة على الخبز واللحم, وأن الله يقول أيضاً ((وفاكهة مما يتخيرون ولحم طير مما يشتهون))([8]) وأنه قدم الفاكهة على الطعام، لكن الصحيح أنه ليس في هذه الآية ما يدل على ذلك،([9]) فهذا كلام عن نعيم الجنة، ونعيم أهل الجنة يختلف بأنواعه عن نعيم أهل الدنيا، والفاكهة سواء وضعت قبل الطعام أو بعد الطعام فالكل يصح، والأفضل أن يكون على حسب ما تعود عليه الناس.
عاشراً: السؤال عن النعيم يوم القيامة:
سيسأل العبد يوم القيامة عن المباحات وهذه هي الطامة الكبرى؛ لأننا إذا كنا سنسأل عن المباحات فما بالك بغيرها؟! والنبي - صلى الله عليه وسلم- لما فسر الآية فسرها بهذا الشيء الواقعي الذي حصل ((ثم لتسألن يومئذ عن النعيم))([10]) فقال لهم: (ظل بارد وماءٌ بارد وفاكهة ولحم لتسألن يومئذٍ عن النعيم) فهذا هو الذي يسأل عنه يوم القيامة! مع أن هذا حصل للنبي - صلى الله عليه وسلم- الظل البارد والماء البارد والفاكهة واللحم - في وجبة واحدة وهي إحدى المرات النادرة في حياته!! ونحن نقول: الحمد لله، فكل يوم - تقريباً - عندنا الظل والماء البارد والفواكه واللحم، فإذا لم يوجد دجاج، فسمك وإذا ما وجد سمك فلحم فاللهم لك الحمد! ونسأ الله العفو والعافية – لا شك أن السؤال سيكون شاقاً علينا- تقول عائشة: ( إن كنا لننظر إلى الهلال، ثم الهلال، ثم الهلال، ثلاثة أهلة في شهرين وما أوقد في أبيات النبي - صلى الله عليه وسلم- نار)([11]) يعني ليس هناك شيء يطبخ، بل كانوا يأكلون التمر والماء.
الحادية عشرة: الجود من الموجود:
على الإنسان ألا يتكلف فوق طاقته، وعلى الضيف ألا يشق على المضيف، ولهذا قال النبي – صلى الله عليه وسلم -: (لا تذبحن ذات در) أي: ذات اللبن لا تذبحها، ولكن اتركها للبن؛ لتستفيد منها في الحلب، دع الحلوب لتستفيد منها واذبح غيرها، فيرشد الضيف إلى انتقاء ما لا يضر بمصلحته، أو ما لا يحرمه من الانتفاع به.
الثانية عشرة: المكافأة على المعروف:
فإن النبي - صلى الله عليه وسلم- لما طعم عنده سأله، قائلاً له: (هل لك خادم؟) قال: لا، قال: (فإذا أتانا سبي فأتني) ولما أتاه السبي كافأه بعبد على هذه الوجبة.
الثالثة عشرة: مشروعية الاستشارة:
على الإنسان أن يأخذ رأي الصلحاء والعقلاء في اختيار الأشياء؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم- لما أحضر الرأسان وأتاه أبو الهيثم قال - عليه الصلاة والسلام -: (اختر منهما) فقال: يا نبي الله! اختر لي أنت، أي أنت: أعلم بمصلحتي من نفسي فاختر لي.
الرابعة عشرة: المستشار مؤتمن([12]):
فالنبي - صلى الله عليه وسلم- قال في حقوق الأخوة: (وإذا استنصحك فانصح له)([13]) فهذا أمر يدل على الوجوب، فلا بد أن تبذل له الوسع في نصحه، فلا تختر له بدون تفكير وتأن، وإنما يجب أن تفكر وتجتهد وتبذل الوسع في الدلالة على الخير، وتخبره هل هذا أفضل له أم غيره؟! وهذه مسألة تحتاج إلى تحر ونظر وتفكير.
صفات المستشار المؤتمن:
أولاً: أن يعرف ظرف المستشير وحاله وقدرته.
ثانياً: أن يفكر وينظر في المسألة.
ثالثاً: يستشعر بأن القضية أمانة.
رابعاً: ألا يكتم رأياً فيه المصلحة لمن استشاره، بل يؤديها بكل نصح ووضوح، لا كما يفعل بعض الناس ويقول: سأشير عليه في أي شيء، قد لا يكون مفيداً أو فائدته بسيطة، وأسبقه إليه فهذا لا يجوز، فما دام قد استشارك وعرض عليك الأمر فلا بد من الوفاء. وبعض الناس من خيانتهم في الإشارة أنهم إذا جاء رجل يقول: عندي صفقة تجارية مع فلان كذا ومع فلان كذا، فيقول له: خذ هذه واترك تلك ويدله على الأقل!! ثم يذهب ويأخذ تلك ويسبقه.. فهذه خيانة، ومن خيانة المستشار أن يكتم المصلحة, ولا يفكر جيداً فيما يشير به.
الخامسة عشرة: بيان خطورة البطانة:
فهذه المرأة لما كانت بطانة صالحة لزوجها أشارت عليه بعتق العبد, والنبي – صلى الله عليه وسلم - لما قال: (إن الله لم يبعث نبياً ولا خليفة إلا وله بطانتان: بطانة تأمره بالمعروف وتنهاه عن المنكر، وبطانة لا تألوه خبالاً, ومن يوق بطانة السوء فقد وقي)([14]) وترجع خطورة البطانة للآتي:
أولاً: لأنهم يعرفون أسرار الإنسان.
ثانياً : لأن العادة - في الغالب - أنه يتأثر منهم، ويقتنع بإشارتهم, ويعمل برأيهم، فإذا كانوا بطانة خير كانت أعماله خيراً؛ لأن البطانة يشيرون عليه بالخير، وإذا كانوا أهل سوء فهو يتأثر بهم؛ لأنهم ندماؤه وجلساؤه وأهل ثقته وخاصته والمقربون إليه! فإن دلوه على شر فإنه سيفعل شراً - في الغالب- فمن وقي بطانة الشر فقد وقي.
السادسة عشرة: الشر محيط بنا!
فالإنسان لا يكاد يسلم من بطانة سوء: إما صديق سوء، أو قريب سوء، أو زوجة سوء، ولهذا قال - صلى الله عليه وسلم -: (إن الله لم يبعث نبياً ولا خليفة إلا وله بطانتان) وذلك لأن النفس أمارة بالسوء، فيجب على العبد مجانبة الشر مهما استطاع.
السابعة عشرة: اختيار الخليل الصالح:
فالسعيد من وقي بطانة السوء، وأنه يجب على الإنسان أن ينقي بطانته فينخلهم نخلاً، وينظر في هؤلاء المقربين إليه جلسائه، وأصدقائه ندمائه، وأصحاب سره وأهل ثقته, من منهم الصالح؟! فيحتفظ به ويضعه على رأسه , ومن منهم صاحب السوء؟! فهذا يتخلص منه ويستغني عنه ويبيعه؛ لأنه لا خير للإنسان في الاحتفاظ ببطانة السوء، ولا يكاد يوجد إنسان منا إلا ويختلط بأشخاص سيئين، وأشخاص طيبين، ولكن قد يكون عند الواحد وجود الطيبين أكثر, وعند واحد وجود السيئين أكثر، ولا يسلم أحد من التعرض لشخص سيئ، فينبغي تركه وهجره ومقاطعته والاستغناء عنه.([15])
الثامنة عشرة: أهل الشر يحكمون التخطيط للشر:
كثير من الناس غرضهم الإفساد، فهم لا يقصرون في إفساد العبد، بل يبذلون المحاولات الشديدة لإفساده؛ ولهذا قال - عليه الصلاة والسلام –: (وبطانة لا تألوه خبالاً) يعني أن هذه البطانة ليس تأثيرها عليه تأثيراً عشوائياً بمجرد وجودهم فقط، وإنما هم يخططون لإفساده، فهم يجتهدون ولا يتركون وسيلة لإفساده إلا سلكوها، ولذلك فإن هذه المسألة في غاية الخطورة؛ لأن هناك أناساً نذروا أنفسهم للشر، يندسون للإفساد، ويشتغلون ليلاً ونهاراً، كما قال –تعالى-: (( بل مكر الليل والنهار إذ تأمروننا أن نكفر بالله ونجعل له أنداداً)).([16])
التاسعة عشر: أن النفوس عند بعضها:
فبعض الصالحين قد تتوافق مشاعرهم وأحوالهم مع بعض، ومما يثير الانتباه: أن هؤلاء جاعوا معاً وخرجوا معاً بدون اتفاق، فكل واحد خرج من بيته ثم اتضح في النهاية أن سبب الخروج واحد عند الجميع، بدون سبق علم، ولهذا تجد الناس القريبين من بعض، كالأصدقاء والخلان أحياناً تتوافق مشاعرهم على شيء واحد.
العشرون: اختيار العمال والخدم الصالحين:
لأن النبي - صلى الله عليه وسلم- لما اختار لأبي الهيثم خادماً اختاره بناءً على كونه رآه يصلي، فهو رجل صالح. فلو عرض على الإنسان خادمة تصلي وأخرى لا تصلي، أو سائق يصلي وآخر لا يصلي, أو موظف يصلي وآخر لا يصلي، فيختار الذي يصلي؛ لأن - الغالب - أن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، نعم! قد يوجد كافر عنده أمانة، وآخر يصلي ولكنه خائن!! هذا لا شك موجود، ولكن المصلي أكثر أمانة من غيره، فعلى الأقل أن بينه وبين الله صلة: ((إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر))([17]), فإذن انتقاء المصلين في الأعمال يؤخذ من هذا الحديث، ولا يعني هذا أنك لا تنظر إلى الصفات الأخرى فلا يكفي أن يكون مصلياً فقط، فقد يكون غشيماً لا يفهم، ولكن حاول أن يجمع بين الأمانة والذكاء والقوة كما قال –تعالى-: ((إن خير من استأجرت القوي الأمين))([18])، والأمانة تدخل فيها الصلاة؛ لأن الصلاة أمانة و(القوي): أي الخبير القادر، فاتضح بهذا أن على الإنسان أن يعتمد المصلي كأساس له، ويبحث أيضاً عن الصفات الجيدة في المصلي.
مسائل في الضيافة:
هذا الحديث اشتمل على مسألة الضيافة وما يتعلق بها، فلعلنا نشير إشارة سريعة إلى بعض الأمور المتعلقة بالضيافة:
أولاً: إكرام الضيف المسافر: إن إكرام الضيف من آداب الإسلام، والنبي - صلى الله عليه وسلم- قال: ((من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه))([19]) وضيافة المسلم المسافر المحتاج واجبة على النازل به مجاناً يوماً وليلة، فإذا نزل مسافر على رجل في طريق المسافرين، وله مزارع وبيت فإنه يجب عليك أن يبذل له ضيافة يوماً وليلةً مجاناً، على قدر الكفاية، وهذا الحق يمكن أن يطالب به عند القاضي، بمعنى أن يذهب إلى قاضي البلد ويقول: نزلت عند فلان في طريق السفر وأبى أن يضيفني مع أنه قادر، والقاضي يرغمه شرعاً على إضافته، فالضيافة هنا واجبة، ويأخذ القاضي من صاحب المكان مالاً بقدر الضيافة، ولو بغير إذنه، ويعطيه للضيف. ويسن أن يكرمه يوماً وليلةً ثانية وثالثة، فالواجبة الأولى، والثانية والثالثة مستحبة، وبعد الثلاثة الأيام من حقه أن يسرحه، ولا يجوز الإثقال على الإنسان بأن يرقد عند الضيف أكثر من ثلاثة أيام؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم- قال: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه جائزته يوم وليلة، والضيافة ثلاثة أيام، فما بعد ذلك فهو صدقة، ولا يحل له أن يثوي عنده حتى يحرجه)([20])، أي لا يجوز للضيف أن يقيم عند صاحب البيت بعد ثلاثة أيام، من غير استدعاء من صاحب البيت، ومن الناس من يسكن مكة والمدينة، فيأتي إليهم ناس من الخارج، ويجلسون عندهم أسبوعاً أو عشرة أيام، أو شهراً، فهذا ضيف ثقيل دم، لأن هذا المكث حرام وفيه إحراج، إلا إذا كان الإنسان تطيب نفسه للضيف ويأنس به، ويرغب منه أن يجلس عنده، أما أن يأتي ويجلس ويضع عنده أولاده وأهله فهذا من سوء الأخلاق وسذاجة النفس ودناءتها، فلا يجوز له أن يفعل ذلك. وكذلك فإن الإنسان يكرم من نزل عليه حتى علف الدابة، وكل ما يحتاجه الضيف على حسب القدرة والطاقة.
ثانياً: الخروج مع الضيف إلى باب الدار: ينبغي للمضيف أن يخرج مع ضيفه إلى باب الدار، قال ابن عباس - رضي الله عنه -: [من السنة إذا دعوت أحداً إلى منزلك أن تخرج معه حتى يخرج]([21]) وهذا من مكارم الأخلاق.
ثالثاً: كذلك من السنة للضيف أن لا يقعد في صدر المجلس إلا إذا أذن صاحب البيت؛ لأن صاحب البيت أحق بصدر مجلسه، وصدر دابته من غيره.
رابعاً: صون العين عن عورات المنزل: إذا جلس الضيف في المجلس فلا يجلس في المكان الذي يرى فيه ما وراء الباب إذا انفتح، أو ما وراء الستار حتى لا يطلع على عورات صاحب البيت.
قصة لطيفة:
وقد حدثت قصة لطيفة بين أبي عبيد القاسم بن سلام - رحمه الله - والإمام أحمد.. وأبو عبيد من كبار أئمة اللغة، والإمام أحمد - رحمه الله - معروف من هو؟ قال أبو عبيد القاسم بن سلام : زرت الإمام أحمد، فلما دخلت قام فاعتنقني وأجلسني في صدر مجلسه، فقلت: أليس يقال: صاحب البيت أو المجلس أحق بصدر بيته أو مجلسه؟ قال: نعم يَقعُد ويُقعِد من يريد. أي إذا كان هذا حقه فآثر به آخر فإن له الحق أن يجلس، قال أبو عبيد: قلت في نفسي: خذ يا أبا عبيد فائدة! ثم قلت: لو كنت آتيك على قدر ما تستحق لأتيتك كل يوم، يعني: يا أحمد تستحق أن يأتيك الواحد كل يوم؛ لما يوجد عندك من الفائدة، وأنه يجب أن يقدرك، قال: لا تقل ذلك فإن لي إخواناً ما ألقاهم كل سنة إلا مرة، أنا أوثق في مودتهم ممن ألقى كل يوم، أي: يوجد ناس بيني وبينهم علاقات، ما ألقاهم في السنة إلا مرة، أعز عليّ من أناس أراهم كل يوم. فالمسألة ليست بكثرة الترداد، وإنما بالمنازل التي في القلوب، قال: قلت هذه أخرى يا أبا عبيد، فلما أردت القيام قام معي، قلت: لا تفعل يا أبا عبد الله! فقال: قال الشعبي: من تمام زيارة الزائر أن تمشي معه إلى باب الدار، وتأخذ بركابه، قلت: يا أبا عبدالله! من عن الشعبي؟ قال ابن أبي زائدة عن مجاهد عن الشعبي يعني السند الذي بينك وبين الشعبي كم؟ قال ابن أبي زائدة عن مجاهد عن الشعبي، قلت: (هذه ثالثة يا أبا عبيد). وهكذا كان السلف - رحمهم الله تعالى- يتعلمون ويذهب بعضهم إلى بعض من أجل أن يتعلموا الفوائد.
إبراهيم عليه السلام يعلم الناس الضيافة:
لقد ضرب إبراهيم الخليل -عليه السلام- المثل العظيم في إكرام الضيف؛ فإنه جاءه ضيوف من الملائكة كما قال –تعالى-: ((هل أتاك حديث ضيف إبراهيم المكرمين إذا دخلوا عليه فقالوا سلاماً قال سلام قوم منكرون فراغ إلى أهله فجاء بعجل سمين فقربه إليهم قال ألا تأكلون فأوجس منهم خيفة قالوا لا تخف وبشروه بغلام عليم))([22]).
آداب الضيافة كما في قصة إبراهيم مع ضيوفه:
هذه الآيات اشتملت على آداب الضيافة من قبل إبراهيم الخليل - عليه السلام - فتعالوا بنا ننهي هذا الموضوع باستعراض بعض الفوائد في الضيافة التي حصلت من إبراهيم الخليل - عليه السلام -:
أولاً: أنه قرب الطعام إليهم: ولم يأمرهم بالقيام إلى الطعام, وهذا واضح من قوله: ((فقربه إليهم)) حتى يكفيهم مؤنة الإتيان إلى الطعام، فمن التكريم أن تأتي بالطعام إلى الضيف، لكن مع كثرة الأطعمة التي نضعها اليوم يمكن أن الواحد يمكث نصف ساعة وهو ينقل الأطعمة إلى الضيف، ولذلك لو أنه جهز السفرة ثم قربهم إليها فلا بأس بذلك.
ثانياً:السرعة في الإتيان بالطعام: من أين أخذناه؟ من حرف الفاء ((فجاء بعجل سمين)) وليس: ثم جاء، فإن الفاء تدل على الترتيب والتعقيب، أي المباشرة والسرعة.
ثالثاً: إحضار الطعام بدون إعلامهم لئلا يحرجوا، وبعض الناس يقول: هل تريدون غداءً؟ لو كان صادقاً لأتى بالغداء قبل أن يخبرهم، وأما إبراهيم الخليل فإن الله قال عنه في الآية: ((فراغ إلى أهله)) وراغَ: ذهب خفية لئلا يحرجهم، فما أحسوا به لما ذهب، بل انسل خفية وأتاهم بالطعام.
رابعاً: اختيار أحسن الطعام: ((فجاء بعجل سمين))، وفي الآية الأخرى ((فجاء بعجل حنيذ)) والحنيذ ما هو؟ إنه المشوي على الحجارة المحماة، وهو ألذ الطعام وأصحه، فالمشوي على الحجارة المحماة من أحسن اللحم فاسأل به خبيراً، والمقصود أنك إذا سألت الذين يشوون على الحجارة لقالوا إن ذلك اللحم لذيذ جداً، ويقال أن طعام الكبراء من هذا النوع؛ لأن فيه صحة ولذة، ونضجاً على الحجارة.
خامساً: أسلوب العرض الجميل: فلما قربه إليهم ولم يمدوا أيديهم قال: ((ألا تأكلون)) أسلوب عالٍٍ في غاية اللطف!.
سادساً: حسن الاستقبال: من أين يؤخذ؟ يؤخذ من أن إبراهيم كان بابه مفتوحاً ((إذ دخلوا عليه)) والكريم دائماً بابه مفتوح.
سابعاً: أنهم لما قالوا له: ((سلاماً قال سلام)). فسلاماً هذه جملة فعلية، وسلامٌ جملة اسمية، لأنَّ سلاماً مفعول مطلق لفعل محذوف تقديره فسلموا سلاماً، وسلام مبتدأ، أو خبر ((سلام قوم منكرون)) فهي جملة اسمية، والجملة الاسمية تفيد استقرار المعنى وثباته أكثر مما تفيده الجملة الفعلية، ولهذا قال –تعالى-: ((وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها))([23]).
ثامناً: قوله: ((منكرون)) أي الضيوف الذين لا أعرفهم، فهو يرحب بمن يعرف وبمن لا يعرف، هذا من كرمه - عليه السلام – فهو يكرم الجميع وجاء بعجل حنيذ لناس لا يعرفهم.
تاسعاً: الإنسان يراقب أحوال الضيف حتى يعينه على المقصود، قال –تعالى-: ((فلما رأى أيديهم لاتصل إليه نكرهم وأوجس منهم خيفة))،([24]) وفي الآية الأخرى ((ألا تأكلون)) فالإنسان يراعي أحوال الضيف، وماذا يريد وما ينقصه، وبعض الناس يضعون السفرة ويمشون، ولا يدرون ماذا يحتاج الضيوف! فتفقد أحوال الضيوف على المائدة من إكرامهم.
عاشراً: المبالغة في الإكرام: فهو ذبح لهم عجلاً, ولم يذبح لهم ثوراً ,أو جاموساً, كبيراً قد قسي لحمه واشتد عظمه، فالعجل الذي هو صغار البقر لحمه طري.
الحادي عشر: من إكرام الضيف أن يتكلم معه ويحدثه، ليحصل الاستئناس، ولذلك رخص النبي - صلى الله عليه وسلم- في السمر للمصلي والمسافر، والذي عنده ضيف فلا بأس أن يسمر معه في الليل، وإلا فإن الأصل أن بعد العشاء نوم.([25])
والله أعلم, وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
الخلاصة التعريفية:
الحمد لله وكفى، وصلاة وسلام على عباده الذين اصطفى، ومنهم محمداً صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً، أما بعد:
فلقد حدثت في التاريخ قصة عجيبة من أحوال النبي - صلى الله عليه وسلم – مع أصحابه وهي تبين لنا مدى تعامل الرسول مع أصحابه بكل تواضع.. تلك الروح الطاهرة والنفس المصطفاة على كثير ممن خلق الله، إنه تعامل عجيب بكل المقاييس – قائد من قادات الأمم، وسيد ولد آدم تبلغ به الأمور أن يعاني ما يعاني أصحابه من الجوع والعطش، والبلاء!! بل وأشد منهم تعباً وجوعاً وعطشاً.. وهذه القصة تبين لنا أيضاً آداباً نأخذها لنصلح بها وضعنا، وما وصلت إليه الأمة من التردي المشين في جانب الأخلاق.. تلك الأخلاق العليا التي رسمها لنا أولئك لن تتكرر في هذه الحياة إلا أن يشاء الله، ومن الأخلاق والآداب آداب الضيف والمستضيف، وآداب الضيافة ككل، وهناك فوائد أخرى في القصة منها: معرفة زهد الرسول -صلى الله عليه وسلم- والإقتداء به، وضرورة إكرام العظماء والعلماء، وحكم الكلام مع المرأة الأجنبية، والشورى ومشروعيتها، وبيان خطورة البطانة وغيرها. ومن خلال ذكر آداب الضيافة ومسائلها يجدر بهذا المقام أن تذكر فيه آداب أخرى نأخذها من معلم الناس الضيافة وهو أبو الأنبياء: إبراهيم الخليل -عليه السلام- في قصته المشهورة مع الملائكة، وكيف احتوت تلك الآيات القصار على معاني جليلة. نسأل الله أن يرحمنا وأن يلحقنا بعباده الصالحين، وأن يتوفانا مسلمين مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً.
من أدب الضيافة استحباب المبادرة إلى إكرام الضيف بما يتيسر ريثما ينضج الطعام، فإذا جاءك ضيف فجأة، ولم تستعد لطبخ وليمة ولا ذبيحة ولا شيء فتفعل كما فعله هذا الصحابي, أولاً جاء لهم بعذق بسر وتمر ورطب يأكلون من هذا البسر والرطب والبلح لتسكين جوعتهم في البداية, ريثما يصنع لهم طعاماً. وبعضهم استدلوا به على تقديم الفاكهة على الخبز واللحم, وأن الله يقول أيضاً ((وفاكهة مما يتخيرون ولحم طير مما يشتهون))([8]) وأنه قدم الفاكهة على الطعام، لكن الصحيح أنه ليس في هذه الآية ما يدل على ذلك،([9]) فهذا كلام عن نعيم الجنة، ونعيم أهل الجنة يختلف بأنواعه عن نعيم أهل الدنيا، والفاكهة سواء وضعت قبل الطعام أو بعد الطعام فالكل يصح، والأفضل أن يكون على حسب ما تعود عليه الناس.
عاشراً: السؤال عن النعيم يوم القيامة:
سيسأل العبد يوم القيامة عن المباحات وهذه هي الطامة الكبرى؛ لأننا إذا كنا سنسأل عن المباحات فما بالك بغيرها؟! والنبي - صلى الله عليه وسلم- لما فسر الآية فسرها بهذا الشيء الواقعي الذي حصل ((ثم لتسألن يومئذ عن النعيم))([10]) فقال لهم: (ظل بارد وماءٌ بارد وفاكهة ولحم لتسألن يومئذٍ عن النعيم) فهذا هو الذي يسأل عنه يوم القيامة! مع أن هذا حصل للنبي - صلى الله عليه وسلم- الظل البارد والماء البارد والفاكهة واللحم - في وجبة واحدة وهي إحدى المرات النادرة في حياته!! ونحن نقول: الحمد لله، فكل يوم - تقريباً - عندنا الظل والماء البارد والفواكه واللحم، فإذا لم يوجد دجاج، فسمك وإذا ما وجد سمك فلحم فاللهم لك الحمد! ونسأ الله العفو والعافية – لا شك أن السؤال سيكون شاقاً علينا- تقول عائشة: ( إن كنا لننظر إلى الهلال، ثم الهلال، ثم الهلال، ثلاثة أهلة في شهرين وما أوقد في أبيات النبي - صلى الله عليه وسلم- نار)([11]) يعني ليس هناك شيء يطبخ، بل كانوا يأكلون التمر والماء.
الحادية عشرة: الجود من الموجود:
على الإنسان ألا يتكلف فوق طاقته، وعلى الضيف ألا يشق على المضيف، ولهذا قال النبي – صلى الله عليه وسلم -: (لا تذبحن ذات در) أي: ذات اللبن لا تذبحها، ولكن اتركها للبن؛ لتستفيد منها في الحلب، دع الحلوب لتستفيد منها واذبح غيرها، فيرشد الضيف إلى انتقاء ما لا يضر بمصلحته، أو ما لا يحرمه من الانتفاع به.
الثانية عشرة: المكافأة على المعروف:
فإن النبي - صلى الله عليه وسلم- لما طعم عنده سأله، قائلاً له: (هل لك خادم؟) قال: لا، قال: (فإذا أتانا سبي فأتني) ولما أتاه السبي كافأه بعبد على هذه الوجبة.
الثالثة عشرة: مشروعية الاستشارة:
على الإنسان أن يأخذ رأي الصلحاء والعقلاء في اختيار الأشياء؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم- لما أحضر الرأسان وأتاه أبو الهيثم قال - عليه الصلاة والسلام -: (اختر منهما) فقال: يا نبي الله! اختر لي أنت، أي أنت: أعلم بمصلحتي من نفسي فاختر لي.
الرابعة عشرة: المستشار مؤتمن([12]):
فالنبي - صلى الله عليه وسلم- قال في حقوق الأخوة: (وإذا استنصحك فانصح له)([13]) فهذا أمر يدل على الوجوب، فلا بد أن تبذل له الوسع في نصحه، فلا تختر له بدون تفكير وتأن، وإنما يجب أن تفكر وتجتهد وتبذل الوسع في الدلالة على الخير، وتخبره هل هذا أفضل له أم غيره؟! وهذه مسألة تحتاج إلى تحر ونظر وتفكير.
صفات المستشار المؤتمن:
أولاً: أن يعرف ظرف المستشير وحاله وقدرته.
ثانياً: أن يفكر وينظر في المسألة.
ثالثاً: يستشعر بأن القضية أمانة.
رابعاً: ألا يكتم رأياً فيه المصلحة لمن استشاره، بل يؤديها بكل نصح ووضوح، لا كما يفعل بعض الناس ويقول: سأشير عليه في أي شيء، قد لا يكون مفيداً أو فائدته بسيطة، وأسبقه إليه فهذا لا يجوز، فما دام قد استشارك وعرض عليك الأمر فلا بد من الوفاء. وبعض الناس من خيانتهم في الإشارة أنهم إذا جاء رجل يقول: عندي صفقة تجارية مع فلان كذا ومع فلان كذا، فيقول له: خذ هذه واترك تلك ويدله على الأقل!! ثم يذهب ويأخذ تلك ويسبقه.. فهذه خيانة، ومن خيانة المستشار أن يكتم المصلحة, ولا يفكر جيداً فيما يشير به.
الخامسة عشرة: بيان خطورة البطانة:
فهذه المرأة لما كانت بطانة صالحة لزوجها أشارت عليه بعتق العبد, والنبي – صلى الله عليه وسلم - لما قال: (إن الله لم يبعث نبياً ولا خليفة إلا وله بطانتان: بطانة تأمره بالمعروف وتنهاه عن المنكر، وبطانة لا تألوه خبالاً, ومن يوق بطانة السوء فقد وقي)([14]) وترجع خطورة البطانة للآتي:
أولاً: لأنهم يعرفون أسرار الإنسان.
ثانياً : لأن العادة - في الغالب - أنه يتأثر منهم، ويقتنع بإشارتهم, ويعمل برأيهم، فإذا كانوا بطانة خير كانت أعماله خيراً؛ لأن البطانة يشيرون عليه بالخير، وإذا كانوا أهل سوء فهو يتأثر بهم؛ لأنهم ندماؤه وجلساؤه وأهل ثقته وخاصته والمقربون إليه! فإن دلوه على شر فإنه سيفعل شراً - في الغالب- فمن وقي بطانة الشر فقد وقي.
السادسة عشرة: الشر محيط بنا!
فالإنسان لا يكاد يسلم من بطانة سوء: إما صديق سوء، أو قريب سوء، أو زوجة سوء، ولهذا قال - صلى الله عليه وسلم -: (إن الله لم يبعث نبياً ولا خليفة إلا وله بطانتان) وذلك لأن النفس أمارة بالسوء، فيجب على العبد مجانبة الشر مهما استطاع.
السابعة عشرة: اختيار الخليل الصالح:
فالسعيد من وقي بطانة السوء، وأنه يجب على الإنسان أن ينقي بطانته فينخلهم نخلاً، وينظر في هؤلاء المقربين إليه جلسائه، وأصدقائه ندمائه، وأصحاب سره وأهل ثقته, من منهم الصالح؟! فيحتفظ به ويضعه على رأسه , ومن منهم صاحب السوء؟! فهذا يتخلص منه ويستغني عنه ويبيعه؛ لأنه لا خير للإنسان في الاحتفاظ ببطانة السوء، ولا يكاد يوجد إنسان منا إلا ويختلط بأشخاص سيئين، وأشخاص طيبين، ولكن قد يكون عند الواحد وجود الطيبين أكثر, وعند واحد وجود السيئين أكثر، ولا يسلم أحد من التعرض لشخص سيئ، فينبغي تركه وهجره ومقاطعته والاستغناء عنه.([15])
الثامنة عشرة: أهل الشر يحكمون التخطيط للشر:
كثير من الناس غرضهم الإفساد، فهم لا يقصرون في إفساد العبد، بل يبذلون المحاولات الشديدة لإفساده؛ ولهذا قال - عليه الصلاة والسلام –: (وبطانة لا تألوه خبالاً) يعني أن هذه البطانة ليس تأثيرها عليه تأثيراً عشوائياً بمجرد وجودهم فقط، وإنما هم يخططون لإفساده، فهم يجتهدون ولا يتركون وسيلة لإفساده إلا سلكوها، ولذلك فإن هذه المسألة في غاية الخطورة؛ لأن هناك أناساً نذروا أنفسهم للشر، يندسون للإفساد، ويشتغلون ليلاً ونهاراً، كما قال –تعالى-: (( بل مكر الليل والنهار إذ تأمروننا أن نكفر بالله ونجعل له أنداداً)).([16])
التاسعة عشر: أن النفوس عند بعضها:
فبعض الصالحين قد تتوافق مشاعرهم وأحوالهم مع بعض، ومما يثير الانتباه: أن هؤلاء جاعوا معاً وخرجوا معاً بدون اتفاق، فكل واحد خرج من بيته ثم اتضح في النهاية أن سبب الخروج واحد عند الجميع، بدون سبق علم، ولهذا تجد الناس القريبين من بعض، كالأصدقاء والخلان أحياناً تتوافق مشاعرهم على شيء واحد.
العشرون: اختيار العمال والخدم الصالحين:
لأن النبي - صلى الله عليه وسلم- لما اختار لأبي الهيثم خادماً اختاره بناءً على كونه رآه يصلي، فهو رجل صالح. فلو عرض على الإنسان خادمة تصلي وأخرى لا تصلي، أو سائق يصلي وآخر لا يصلي, أو موظف يصلي وآخر لا يصلي، فيختار الذي يصلي؛ لأن - الغالب - أن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، نعم! قد يوجد كافر عنده أمانة، وآخر يصلي ولكنه خائن!! هذا لا شك موجود، ولكن المصلي أكثر أمانة من غيره، فعلى الأقل أن بينه وبين الله صلة: ((إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر))([17]), فإذن انتقاء المصلين في الأعمال يؤخذ من هذا الحديث، ولا يعني هذا أنك لا تنظر إلى الصفات الأخرى فلا يكفي أن يكون مصلياً فقط، فقد يكون غشيماً لا يفهم، ولكن حاول أن يجمع بين الأمانة والذكاء والقوة كما قال –تعالى-: ((إن خير من استأجرت القوي الأمين))([18])، والأمانة تدخل فيها الصلاة؛ لأن الصلاة أمانة و(القوي): أي الخبير القادر، فاتضح بهذا أن على الإنسان أن يعتمد المصلي كأساس له، ويبحث أيضاً عن الصفات الجيدة في المصلي.
مسائل في الضيافة:
هذا الحديث اشتمل على مسألة الضيافة وما يتعلق بها، فلعلنا نشير إشارة سريعة إلى بعض الأمور المتعلقة بالضيافة:
أولاً: إكرام الضيف المسافر: إن إكرام الضيف من آداب الإسلام، والنبي - صلى الله عليه وسلم- قال: ((من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه))([19]) وضيافة المسلم المسافر المحتاج واجبة على النازل به مجاناً يوماً وليلة، فإذا نزل مسافر على رجل في طريق المسافرين، وله مزارع وبيت فإنه يجب عليك أن يبذل له ضيافة يوماً وليلةً مجاناً، على قدر الكفاية، وهذا الحق يمكن أن يطالب به عند القاضي، بمعنى أن يذهب إلى قاضي البلد ويقول: نزلت عند فلان في طريق السفر وأبى أن يضيفني مع أنه قادر، والقاضي يرغمه شرعاً على إضافته، فالضيافة هنا واجبة، ويأخذ القاضي من صاحب المكان مالاً بقدر الضيافة، ولو بغير إذنه، ويعطيه للضيف. ويسن أن يكرمه يوماً وليلةً ثانية وثالثة، فالواجبة الأولى، والثانية والثالثة مستحبة، وبعد الثلاثة الأيام من حقه أن يسرحه، ولا يجوز الإثقال على الإنسان بأن يرقد عند الضيف أكثر من ثلاثة أيام؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم- قال: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه جائزته يوم وليلة، والضيافة ثلاثة أيام، فما بعد ذلك فهو صدقة، ولا يحل له أن يثوي عنده حتى يحرجه)([20])، أي لا يجوز للضيف أن يقيم عند صاحب البيت بعد ثلاثة أيام، من غير استدعاء من صاحب البيت، ومن الناس من يسكن مكة والمدينة، فيأتي إليهم ناس من الخارج، ويجلسون عندهم أسبوعاً أو عشرة أيام، أو شهراً، فهذا ضيف ثقيل دم، لأن هذا المكث حرام وفيه إحراج، إلا إذا كان الإنسان تطيب نفسه للضيف ويأنس به، ويرغب منه أن يجلس عنده، أما أن يأتي ويجلس ويضع عنده أولاده وأهله فهذا من سوء الأخلاق وسذاجة النفس ودناءتها، فلا يجوز له أن يفعل ذلك. وكذلك فإن الإنسان يكرم من نزل عليه حتى علف الدابة، وكل ما يحتاجه الضيف على حسب القدرة والطاقة.
ثانياً: الخروج مع الضيف إلى باب الدار: ينبغي للمضيف أن يخرج مع ضيفه إلى باب الدار، قال ابن عباس - رضي الله عنه -: [من السنة إذا دعوت أحداً إلى منزلك أن تخرج معه حتى يخرج]([21]) وهذا من مكارم الأخلاق.
ثالثاً: كذلك من السنة للضيف أن لا يقعد في صدر المجلس إلا إذا أذن صاحب البيت؛ لأن صاحب البيت أحق بصدر مجلسه، وصدر دابته من غيره.
رابعاً: صون العين عن عورات المنزل: إذا جلس الضيف في المجلس فلا يجلس في المكان الذي يرى فيه ما وراء الباب إذا انفتح، أو ما وراء الستار حتى لا يطلع على عورات صاحب البيت.
قصة لطيفة:
وقد حدثت قصة لطيفة بين أبي عبيد القاسم بن سلام - رحمه الله - والإمام أحمد.. وأبو عبيد من كبار أئمة اللغة، والإمام أحمد - رحمه الله - معروف من هو؟ قال أبو عبيد القاسم بن سلام : زرت الإمام أحمد، فلما دخلت قام فاعتنقني وأجلسني في صدر مجلسه، فقلت: أليس يقال: صاحب البيت أو المجلس أحق بصدر بيته أو مجلسه؟ قال: نعم يَقعُد ويُقعِد من يريد. أي إذا كان هذا حقه فآثر به آخر فإن له الحق أن يجلس، قال أبو عبيد: قلت في نفسي: خذ يا أبا عبيد فائدة! ثم قلت: لو كنت آتيك على قدر ما تستحق لأتيتك كل يوم، يعني: يا أحمد تستحق أن يأتيك الواحد كل يوم؛ لما يوجد عندك من الفائدة، وأنه يجب أن يقدرك، قال: لا تقل ذلك فإن لي إخواناً ما ألقاهم كل سنة إلا مرة، أنا أوثق في مودتهم ممن ألقى كل يوم، أي: يوجد ناس بيني وبينهم علاقات، ما ألقاهم في السنة إلا مرة، أعز عليّ من أناس أراهم كل يوم. فالمسألة ليست بكثرة الترداد، وإنما بالمنازل التي في القلوب، قال: قلت هذه أخرى يا أبا عبيد، فلما أردت القيام قام معي، قلت: لا تفعل يا أبا عبد الله! فقال: قال الشعبي: من تمام زيارة الزائر أن تمشي معه إلى باب الدار، وتأخذ بركابه، قلت: يا أبا عبدالله! من عن الشعبي؟ قال ابن أبي زائدة عن مجاهد عن الشعبي يعني السند الذي بينك وبين الشعبي كم؟ قال ابن أبي زائدة عن مجاهد عن الشعبي، قلت: (هذه ثالثة يا أبا عبيد). وهكذا كان السلف - رحمهم الله تعالى- يتعلمون ويذهب بعضهم إلى بعض من أجل أن يتعلموا الفوائد.
إبراهيم عليه السلام يعلم الناس الضيافة:
لقد ضرب إبراهيم الخليل -عليه السلام- المثل العظيم في إكرام الضيف؛ فإنه جاءه ضيوف من الملائكة كما قال –تعالى-: ((هل أتاك حديث ضيف إبراهيم المكرمين إذا دخلوا عليه فقالوا سلاماً قال سلام قوم منكرون فراغ إلى أهله فجاء بعجل سمين فقربه إليهم قال ألا تأكلون فأوجس منهم خيفة قالوا لا تخف وبشروه بغلام عليم))([22]).
آداب الضيافة كما في قصة إبراهيم مع ضيوفه:
هذه الآيات اشتملت على آداب الضيافة من قبل إبراهيم الخليل - عليه السلام - فتعالوا بنا ننهي هذا الموضوع باستعراض بعض الفوائد في الضيافة التي حصلت من إبراهيم الخليل - عليه السلام -:
أولاً: أنه قرب الطعام إليهم: ولم يأمرهم بالقيام إلى الطعام, وهذا واضح من قوله: ((فقربه إليهم)) حتى يكفيهم مؤنة الإتيان إلى الطعام، فمن التكريم أن تأتي بالطعام إلى الضيف، لكن مع كثرة الأطعمة التي نضعها اليوم يمكن أن الواحد يمكث نصف ساعة وهو ينقل الأطعمة إلى الضيف، ولذلك لو أنه جهز السفرة ثم قربهم إليها فلا بأس بذلك.
ثانياً:السرعة في الإتيان بالطعام: من أين أخذناه؟ من حرف الفاء ((فجاء بعجل سمين)) وليس: ثم جاء، فإن الفاء تدل على الترتيب والتعقيب، أي المباشرة والسرعة.
ثالثاً: إحضار الطعام بدون إعلامهم لئلا يحرجوا، وبعض الناس يقول: هل تريدون غداءً؟ لو كان صادقاً لأتى بالغداء قبل أن يخبرهم، وأما إبراهيم الخليل فإن الله قال عنه في الآية: ((فراغ إلى أهله)) وراغَ: ذهب خفية لئلا يحرجهم، فما أحسوا به لما ذهب، بل انسل خفية وأتاهم بالطعام.
رابعاً: اختيار أحسن الطعام: ((فجاء بعجل سمين))، وفي الآية الأخرى ((فجاء بعجل حنيذ)) والحنيذ ما هو؟ إنه المشوي على الحجارة المحماة، وهو ألذ الطعام وأصحه، فالمشوي على الحجارة المحماة من أحسن اللحم فاسأل به خبيراً، والمقصود أنك إذا سألت الذين يشوون على الحجارة لقالوا إن ذلك اللحم لذيذ جداً، ويقال أن طعام الكبراء من هذا النوع؛ لأن فيه صحة ولذة، ونضجاً على الحجارة.
خامساً: أسلوب العرض الجميل: فلما قربه إليهم ولم يمدوا أيديهم قال: ((ألا تأكلون)) أسلوب عالٍٍ في غاية اللطف!.
سادساً: حسن الاستقبال: من أين يؤخذ؟ يؤخذ من أن إبراهيم كان بابه مفتوحاً ((إذ دخلوا عليه)) والكريم دائماً بابه مفتوح.
سابعاً: أنهم لما قالوا له: ((سلاماً قال سلام)). فسلاماً هذه جملة فعلية، وسلامٌ جملة اسمية، لأنَّ سلاماً مفعول مطلق لفعل محذوف تقديره فسلموا سلاماً، وسلام مبتدأ، أو خبر ((سلام قوم منكرون)) فهي جملة اسمية، والجملة الاسمية تفيد استقرار المعنى وثباته أكثر مما تفيده الجملة الفعلية، ولهذا قال –تعالى-: ((وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها))([23]).
ثامناً: قوله: ((منكرون)) أي الضيوف الذين لا أعرفهم، فهو يرحب بمن يعرف وبمن لا يعرف، هذا من كرمه - عليه السلام – فهو يكرم الجميع وجاء بعجل حنيذ لناس لا يعرفهم.
تاسعاً: الإنسان يراقب أحوال الضيف حتى يعينه على المقصود، قال –تعالى-: ((فلما رأى أيديهم لاتصل إليه نكرهم وأوجس منهم خيفة))،([24]) وفي الآية الأخرى ((ألا تأكلون)) فالإنسان يراعي أحوال الضيف، وماذا يريد وما ينقصه، وبعض الناس يضعون السفرة ويمشون، ولا يدرون ماذا يحتاج الضيوف! فتفقد أحوال الضيوف على المائدة من إكرامهم.
عاشراً: المبالغة في الإكرام: فهو ذبح لهم عجلاً, ولم يذبح لهم ثوراً ,أو جاموساً, كبيراً قد قسي لحمه واشتد عظمه، فالعجل الذي هو صغار البقر لحمه طري.
الحادي عشر: من إكرام الضيف أن يتكلم معه ويحدثه، ليحصل الاستئناس، ولذلك رخص النبي - صلى الله عليه وسلم- في السمر للمصلي والمسافر، والذي عنده ضيف فلا بأس أن يسمر معه في الليل، وإلا فإن الأصل أن بعد العشاء نوم.([25])
والله أعلم, وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
الخلاصة التعريفية:
الحمد لله وكفى، وصلاة وسلام على عباده الذين اصطفى، ومنهم محمداً صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً، أما بعد:
فلقد حدثت في التاريخ قصة عجيبة من أحوال النبي - صلى الله عليه وسلم – مع أصحابه وهي تبين لنا مدى تعامل الرسول مع أصحابه بكل تواضع.. تلك الروح الطاهرة والنفس المصطفاة على كثير ممن خلق الله، إنه تعامل عجيب بكل المقاييس – قائد من قادات الأمم، وسيد ولد آدم تبلغ به الأمور أن يعاني ما يعاني أصحابه من الجوع والعطش، والبلاء!! بل وأشد منهم تعباً وجوعاً وعطشاً.. وهذه القصة تبين لنا أيضاً آداباً نأخذها لنصلح بها وضعنا، وما وصلت إليه الأمة من التردي المشين في جانب الأخلاق.. تلك الأخلاق العليا التي رسمها لنا أولئك لن تتكرر في هذه الحياة إلا أن يشاء الله، ومن الأخلاق والآداب آداب الضيف والمستضيف، وآداب الضيافة ككل، وهناك فوائد أخرى في القصة منها: معرفة زهد الرسول -صلى الله عليه وسلم- والإقتداء به، وضرورة إكرام العظماء والعلماء، وحكم الكلام مع المرأة الأجنبية، والشورى ومشروعيتها، وبيان خطورة البطانة وغيرها. ومن خلال ذكر آداب الضيافة ومسائلها يجدر بهذا المقام أن تذكر فيه آداب أخرى نأخذها من معلم الناس الضيافة وهو أبو الأنبياء: إبراهيم الخليل -عليه السلام- في قصته المشهورة مع الملائكة، وكيف احتوت تلك الآيات القصار على معاني جليلة. نسأل الله أن يرحمنا وأن يلحقنا بعباده الصالحين، وأن يتوفانا مسلمين مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً.