مشاهدة النسخة كاملة : العالم قبل النبوة للتثبــــت
العـــالـــم قبــــل النـــــبوة
* هل من حنفاء في بلاد العرب قبل البعثة النبوية؟ * عادات العرب في الجاهلية
* النصرانيَّة واليهوديَّة في بلاد العرب قبل البعثة * العالم قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم
* الحَيَاةُ الاقتصاديَّةُ عند العرب قبل البعثة النبوية * الحَالَةُ السِّيَاسِيَّةُ في بِلَادِ العَرَبِ قبل البعثة
* الحالة الدينية في بلاد العرب قبل الإسلام * الحالة الاجتماعية عند العرب قبل البعثة النبوية
* هل من حنفاء في بلاد العرب قبل البعثة النبوية؟
إن الجواب على هذا السؤال الملح هو-مع الأسف-أنه لم يكن في بلاد العرب في هذه الظروف حنفاء يؤمنون بالله وحده ويعبدونه بما شرع مخلصين له في ذلك، اللهم إلا ما كان من زيد بن عمرو بن نُفيل الذي قال فيه رسول الله-صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ-:" إنه يبعث يوم القيامة أمة وحده " . فقد كان ينكر أعمال أهل الجاهلية، ويُصرّح ببطلان دين قريش، ويقول لهم: والذي نفس زيد بن عمرو بيده ما أصبح منكم أحد على دين إبراهيم غيري. وقال محمد بن إسحاق: لقد حدثت أن سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل، وعمر بن الخطاب قالا لرسول الله-صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ-: أنستغفر لزيد بن عمرو بن نفيل؟ قال:" نعم، فإنه يبعث أمة وحده" . وقد مات زيد قبل بعثة النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ-. ومصداق هذا في حديث مسلم إذ قال رسول الله-صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ-:" إن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم عربهم وعجمهم إلا بقايا من أهل الكتاب" فهذا الحديث دليل واضح أنه ما بعث النبي الحبيب محمد -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ- وفي العرب رجل واحد على دين صحيح يعبد به الله –تعالى-. أما اليهود، والنصارى ففيهم بقايا يعبدون الله –تعالى- بدين صحيح من دين موسى وعيسى-عليها السلام- لكنهم قليل جداً لا يتم على أيديهم هداية الناس وإصلاحهم. وأما ورقة بن نوفل فقد دان بالنصرانية، ومات قبل بدء الدعوة الإسلامية كما أن عبيد الله بن جحش بن رئاب و إن أسلم في أول الأمر؛ لأنه حضر البعثة المحمدية إلا أنه ترك الإسلام وتنصر في الحبشة كما هاجر إليها مع من هاجر من المسلمين، وخلف زوجته أم حبيبه بنت أبي سفيان فتزوجها رسول الله-صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ- رحمة بها وأناب عنه في عقد نكاحها أصحم النجاشي ملك الحبشة -رحمه الله تعالى-. وأما عثمان بن الحويرث فقد قدم الشام وتنصر وكانت له منزلة عند قيصر ملك الروم النصراني. فهولاء الرجال الأربعة الذين كانوا قد أنكروا على قريش عبادة الأوثان، وكانوا يُصَرِّحوُن بأنهم على دين إبراهيم-عليه السلام- إلا أنهم في آخر الأمر ماتوا على غير الحنيفية إلا ما كان من زيد بن عمرو بن نُفيل وورقة بن نوفل. ويؤكد ذلك إذن النبي –صلى الله عليه وسلم- لولد زيد بن عمرو بن نفيل وعمر بن الخطاب بالاستغفار له، وأخبر أنه يبعث يوم القيامة أمة وحده.
نتائج وعبر:
1. بيان أن الناس عرباً وعجماً قد ضلوا سواء السبيل، واستوجبوا مقت الله–تعالى-لهم، اللهم إلى أفراداً قلائل من أهل الكتابين اليهود والنصارى فإنهم بقوا يعبدون الله –تعالى- بما شرع على ألسنة رسله حتى بُعِثَ النبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ- الخاتم الحبيب محمد -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ-، وهم قليل.
2. بيان أن العرب لم يبق منهم رجل واحد على دين الله الذي أرسل الله به إبراهيم والأنبياء من قبل ومن بعد يعبد الله –تعالى- بما شرع ويوحده في عبادته؛ لأن زيد بن عمرو بن نفيل وإن كان موحداً إلا أنه لم يكن له شرع يعبد الله –تعالى- به هذا من جهة ومن جهة أخرى فإنه قد مات قبل البعثة المحمدية.
3. حال الناس هذه في ضلالهم وعدم هدايتهم كانت مستوجبة للبعثة المحمدية متطلبة لها بل كانت حاجتها الملحة التي لا بد منها.
هذه هي حالة العالم قبل الإسلام، فلك أن تقارن بينها وبين ما هي عليه بعد الإسلام. فاللهم لك الحمد على نعمة الإسلام, وعلى نعمة القرآن, وعلى نعمة محمد نبي الإسلام، اللهم.
الحمد لك يا ربنا أن هديتنا للإسلام، والحمد لك يا ربنا أن جعلتنا من أمة محمد-صلى الله عليه وسلم-، والحمد لك يا ربنا أن هديتنا للقرآن.
فالحمد لك أولاً وآخراً وظاهراً وباطنا. وصلى الله وسلم على نبينا وحبيبنا وقائدنا ومعلمنا محمد عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
النصرانيَّة واليهوديَّة في بلاد العرب قبل البعثة
بمناسبة ذكر الدين الذي كان عليه العرب العدنانيون قبل الإسلام وهو الوثنيّة يحسن ذكر نبذة عن الديانتين النصرانية واليهودية في بلاد العرب جنوباً وشمالاً، لِيعْلم القارئ بكامل الحال التي كان عليها الناس في شبه الجزيرة العربية قبل الإسلام، وليعلم أنَّ الإسلام كان حاجة الناس في تلك البلاد كما هو حاجة كل الناس وفي كل ديارهم أمس واليوم وغداً، إذ لا كمالَ لإنسان ولا سعادة إلا به وعليه. يروي ابن إسحاق حديث وهب بن منبّه في دخول النصرانية إلى نجران جنوب مكة من بلاد اليمن فيقول: إن رجلاً يُقال له فيُمِيُون من أهل الشام، كان على دين المسيح-عليه السلام-، وكان صالحاً، ورزقه الله كرامات، فأحبه رجل من أهل البلاد، يُقال له صالح ولازمه. ولما عرف فيميون بالصلاح وظهور الكرامات خرج مع ذلك الرجل الذي أحبه فدخلا بلاد العرب فعدوا عليهما وباعوهما عبدين في مدينة نجران. وأهل نجران يومئذ على دين العرب وهو الوثنيّة، وكانت لهم نخلة يعبدونها فجعلوا لها عيداً سنوياً يأتونها فيه فيعلقون عليها أجمل الثياب، و حُلى النساء، واشترى فيميون أحد أشراف نجران، وكان فيميون إذا قام من الليل يتهجّد أشرق له البيت نوراً. فعجب سيده من هذه الكرامة، فسأله عن دينه، فأخبره بأنه على دين المسيح، وأعلمه أن ما عليه أهل نجران هو الباطل، كما أعلمه أن الله–تعالى- هو الإله الحق، وأن هذه النخلة لا تنفع ولا تضر، وأنه لو دعا الله–تعالى-عليها لأسقطها، وفعلاً دعا الله –تعالى- فعصفت بها عاصفة فاقتلعتها من جذورها. ولذلك آمن الرجل الشريف بدين المسيح، وتبعه آخرون، فكان هذا مبدأ دخول دين المسيح في نجران، ثم بمرور الزمان طرأ عليهم ما طرأ من البدع والتحريف لدين المسيح حتى أصبحت نصرانية ضالّة كما هي في سائر البلاد. ومما يذكر هنا أن عبد الله بن الثامر وكان على دين المسيح كان له أثرٌ كبيرٌ في نشر المسيحية في نجران بعد العبد الصالح فيميون. وكان من أمر ابن الثامر أنه لما انتشرت المسيحية بين الناس دعاه ملك البلاد وقال له: أفسدت عليّ أهل قريتي وخالفت ديني ودين آبائي لأُمثّلنّ بك وجعل يعرضه لكل ألوان التعذيب، والقتل ولم يقدر على قتله، فقال له ابن الثامر: إنك لا تقدر على قتلي حتى توحِّد الله –تعالى-، ففعل الملك وضرب ابن الثامر فقتله، ثم مات الملك على الفور إلى جنبه، وبذلك استجمع أهل نجران على الدين المسيحي، ثم أصابهم ما أصاب غيرهم من البدع والفساد، فكان هذا أصل النصرانية في نجران. ولما ملك ذو نواس الحميري، وكان قد دان باليهودية، ووجد أهل نجران على المسيحية فدعاهم إلى دينه فأبوا عليه، فحفر لهم الأخاديد، وأحرق عدداً كبيراً منهم بالنار ليرجعوا على دينهم، فلم يرجعوا وهم الذين ذكر –تعالى- في سورة البروج، وحدّث عنهم رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ-، ثم إن رجلاً يقال له: دوسٌ قد نجا من الحريق، وذهب إلى ملك الروم، فاستعداه على ذي نواس الذي قتل النصارى من أهل دينه، فكتب له كتاباً إلى ملك الحبشة حيث هو على دين النصارى، فأعطاه جيشاً قوامه سبعون ألفاً، غزا به ذا نواس، فهزموه، ودخلوا البلاد وحكموها بعد موت ذي نواس، وكان على رأس الجيش الحبشي أرباط وأبرهة فتنازعا الملك وغلب أبرهة أرياط وقتله. وأصبح أبرهة الحاكم العام في البلاد، وملك الحبشة يدعمه ويشد من أزره.
أما اليهودية: فإنها لم تدم طويلاً في بلاد اليمن، وسبب ذلك أن تُبّعاً ذا نواس لما دخل المدينة خرج معه حبران من أحبار اليهود وهما اللذان دعواه إلى اليهودية فقبِلَهَا ودان بها، وعذب نصارى نجران كما تقدم، وانتهى ملكه بموته على يد أرياط وأبرهة الحبشيين. إلا أن اليهودية كانت بشمال الجزيرة بفَدَك, وتيما, وخيبر, والمدينة, التي كانت تسمى يثرب، ودخول اليهود إلى الحجاز من أرض الجزيرة هو لسبب الضغط الذي أصابهم من ملوك الروم بعد بختنصر هذا من جهة، ومن جهة أخرى تطلعهم إلى النبي المُبشر به في التوراة والإنجيل، وأنه يخرج من جبال فاران، وأن مهاجرة يثرب ذات النخيل، والأرض السبخة، فنزلوا ديار الحجاز الشمالية رجاء أن يبعث نبي آخر الزمان فيؤمنوا به ويقاتلوا أعداءهم معه ويستردوا مُلكهم المسلوب منهم من عدة قرون. مع العلم أن اليهود كالنصارى قد فسد معتقدهم وضاعت شريعتهم تحت تأثير التأويل للنصوص وتحريفها وتغييرها وتبديلها لتوافق الأهواء والأطماع الخاصة والشهوات العارمة، فما أصبحت اليهودية ولا النصرانية تزكي النفوس، ولا تصلح القلوب، ولا تهذب الأخلاق بعد فسادها، فحاجة أهل الملتين إلى الإسلام كحاجة غيرهم من المجوس والوثنيين. وقد كان اليهود يستفتحون على مشركي العرب يقولون لهم: إن نبياً قد أظل زمانه، ويوم يظهر نؤمن به ونُقاتلكم معه، وقد نزل بقولهم هذا القرآن العظيم في سورة البقرة بقوله تعالى:{ وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُواْ فَلَمَّا جَاءهُم مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّه عَلَى الْكَافِرِينَ}(89) سورة البقرة.
نتائج وعبر:
1. لم تكن النصرانية ولا اليهودية في بلاد العرب ذات شأن يذكر؛ إذ الوثنية هي الغالبة.
2. الفترة التي كانت النصرانية في نجران سليمة في معتقداتها وشرائعها كانت قصيرة جداً، ولذا لم يُقدَّر لها أن تنتشر في بلاد العرب، ثم ما لبثت أن دخلها الفساد، فلم تكن صالحة للهداية والإصلاح.
3. اليهودية ما دخلت بلاد العرب إلا بعد فسادها، فلذا لن ينتفع بها أهلها في دار هجرتهم فضلاً عن العرب الذين نزحوا إليهم وسكنوا ديارهم.
4. نظراً لفساد الديانتين السماويتين اليهودية والنصرانية، وفساد المجوسية والوثنية بالأصالة، فإن حال الناس تتطلب ديناً سماوياً جديداً تكمل عليه الأرواح، وتزكو وتُهُذب به الأخلاق، وتحقق به الناسُ السعادةَ والكمالَ في الدنيا والآخرة.
يتبــــــــــع.......
الحَيَاةُ الاقتصاديَّةُ عند العرب قبل البعثة النبوية
ما كان للعرب صناعةٌ سوى ما كانت تغزل نساؤهم، وما كانُوا يحيكونه ويدبغونه في اليمن، والحيرة، ومشارف الشام، وتناثرت بقاعٌ متفرقة يشتغل أهلُها بالزِّراعة، أمَّا الرَّعي فكان مهنة منتشرة-على شقائها-لقلةِ الكلأ ونُدرةِ العشب، وانصرف العَرَبُ إلى التِّجارةِ، فكانت أكبرَ وسيلةٍ للتكسب والرِّزقِ، وشهدت أرضُ الجزيرة رحلاتهم الدَّائبةَ شمالاً وجنوبًا، صيفـًا وشتاءً، إلى الشام و اليمن، ترويجاً لتجارتهم المهمة، التي كانُوا يعتمدُون عليها، ويُقيمون لها الأسواقَ الشَّهيرةَ:كعكاظ، وذي المجاز، ومجنة، وغيرها, إلا أن تجارتهم هذه، وأسواقهم تلك،كانت تتهددها حروبُهم الدَّائمةُ، ومعاركهم الشرسة، وقبائل متناثرة في الصحراء، لا تعرف لها حرفةً سوى قطع طريق القوافل ونهبها؛ لذا فإنَّ تجارتهم الخافتة ما كادت تضيء إلا في الأشهر الحرم، وكان أهلُ الحجاز-العرب واليهود- يتعاطون الرِّبا، ويبالغون فيه مبالغة شديدة، ولا يعتبرونه غُبناً أو منقصة خُلُقٍ، إنما يرونه تجارةً محضةً، فقد سرتْ فيهم سريانَ الحياةِ الطبيعيةِ.
أمَّا الأحوالُ الاقتصاديةُ في شبه جزيرة العرب، فقد كانتِ البادية تعتمد على الاقتصاد الرعوي، فالقبائل العربية تستقر في الأماكن التي يتوفر فيها الماء وتصلح لرعي الإبل والأغنام والماعز. وعندما يشح الماء فإنها تضطر للانتقال مما يجعلها في حروب مع بعضها للحصول على المورد الأفضل. وتوجد في شبه جزيرة العرب واحات زراعية متناثرة يستقر فيها السكان لكنها عرضة لغزو البدو لها. ويقوم في المدن نشاط تجاري وزراعي وصناعي، وقد يغلب عليها نوع من هذه النشاطات، فمكة كان يغلب عليها النشاط التجاري؛ لأنها تقع بواد غير ذي زرع ، وتتحكم بطرق التجارة بين اليمن والشام حيث تمر القوافل محملة بالتوابل والبخور والعطور، وقد استفادت مكة من مكانة الكعبة الدينية عند العرب في حماية قوافلها التجارية وعقد"الإيلاف"مع القبائل التي تجتاز ديارها، واشتهرت برحلة الصيف إلى الشام ورحلة الشتاء إلى اليمن.أما المدينة-وكانت تعرف قبل الإسلام بيثرب-فكان يغلب عليها الاقتصاد الزراعي حيث اشتهرت ببساتين النخيل والأعناب والفواكه الأخرى والحبوب و الخضروات.أما الطائف فقد غلبت عليها الزراعة وخاصة بساتين الأعناب والفواكه و الخضروات، وكذلك الصيد حيث تتوافر فيها الحيوانات البرية كالبقر الوحشي والحمار الوحشي والغزلان والظباء والأرانب. وأما اليمامة فاشتهرت بزراعة القمح الذي كان يزيد عن حاجاتها فتصدر منه إلى الحجاز. وأما اليمن ففيها زراعة واسعة ومناطق رعوية طبيعية إضافة إلى قيامها بالنشاط التجاري الكبير بنقل التوابل والبخور والعطور, والأبنوس, والعاج, والحرير, من الهند, إلى بلاد العرب, والشام. وكانت السواحل الشرقية لشبه جزيرة العرب تربط تجارة الصين والهند بالهلال الخصيب (العراق وسوريا).وكانت شبه جزيرة العرب تستورد الدقيق والزيت والأقمشة من الشام، كما تستورد التمور والأُدم من العراق. وقد ساعدت أسواق العرب في الجاهلية على نشاط التبادل التجاري، واشتهرت منها أسواق عكاظ, ومجنَّة, وذي المجاز, ودومة الجندل, ونطاة-بخيبر-وبدر, وحباشة. واستعمل العرب الدينار البيزنطي والدرهم الفارسي في التبادل التجاري،كما استعملوا المكاييل والموازين ومقاييس الطول في عمليات البيع والشراء. أما الصناعة في شبه الجزيرة العربية، فقد اشتهرت اليمن بصناعة البرود اليمانية. وعُرفت المدينة بصياغة الحلي الذهبية والفضية ؛ وصناعة السيوف والرماح والقسي والنبال والدروع والحراب،كما قامت في المدن العربية حرف التجارة, والحدادة, والصياغة, والدباغة، والغزل, والنسيج، والخياطة، والصباغة. ولكن معظم الحرفيين كانوا من الموالي والعبيد ولم يكونوا عرباً. وقد شاع التعامل بالربا في مكة والطائف ويثرب ونجران، ومارسه اليهود وانتقل منهم إلى العرب، وكان على نوعين: ربا النسيئة؛ وهو زيادة المبلغ على المدين مقابل تأجيل الدفع. وربا الفضل وهو الزيادة التي تترتب على بيع العينات المتماثلة بسبب اختلاف جودتها. وكانَ الرِّبا يُؤخذ أضعافاً مضاعفة، وقد حَرَّمَهُ الإسلامُ بنوعيه،قال-تعالى-{وأحَلَّ اللهُ البيعَ وحرَّم الرِّبا }البقرة 275.وكان العرب يعرفون أنواعاً من المعاملات المالية كالقراض, والمضاربة, والرهن، وكان الغرر يحيط بكثير من عقود البيع والشراء كالمنابذة, والملامسة, والنجش, وبيع الحاضر للبادي. وكذلك كان الاحتكار يدخل في معاملاتهم التجارية، كما تفرض عليها المكوس الباطلة. وقد حرَّم الإسلامُ البيوعَ التي فيها غَرَرٌ أو ضَرَرٌ كَمَا حَرَّمَ الرِّبا والاحتكارَ؛ تحقيقاً للعدلِ بينَ النَّاسِ.فَعَاشَ النَّاسُ في خيرٍ ورَفَاهِيةٍ لما تمسكوا بهدي الإسلامِ في سياستِهم واقتصادِهم، وأصابهم الضَّنكُ والضِّيقُ لمَّا تنكبوا الصِّراطَ المستقيمَ.
نستنج مما سبق أن بلاد العرب بأقسامها الآنفة الذكر لم يكن فيها اقتصاد ذو قيمة تُذْكَرُ؛ فيغلب عليها أنها بَوَادٍ صحراويَّةٌ، إلا ما كان من بلاد اليمن فقد كانت بلاداً خِصْبةً في الجملةِ, ولاسيما أيام سد مأرب حيثُ ازدهرتِ الزِّراعةُ والفِلاحةُ عامة بصورةٍ تدعُو إلى العجب، وقد ذكرها في القرآن الكريم إذ قال-تعالى-:{ لقد كان لسبأٍ في مسكنهم آية ..... } سبأ، الآية:15. فلم يشكروا وأعرضوا عن طاعة الله ورسوله فسلبهم الله-تعالى-ما أعطاهم فخرب سدهم، وأحدبت أرضهم، ورحل عنها أكثرها فالتحق بعضهم بالعراق, وبعضهم بيثرب ومنهم الأوس والخزرج, وآخرون بالشمال والشام. ومع هذا فقد وجدت في اليمن صناعات فاخرة في وقتها كصناعة الكتان, والسلاح من سيوف وحراب ودروع وغيرها. هذا بالنسبة إلى أهل اليمن، أما القبائل العدنانية فكان جلها يعيش في الصحراء ينتجع الكلأ والعشب لماشيته ويعيش على ألبانها ولحومها إلا ما كان من قبائل قريش القاطنين بالحرم فإنهم يعيشون على رحلتي الشتاء إلى اليمن والصيف إلى الشام، وقد امتن الله تعالى ذلك عليهم في قوله : { لإيلاف قريش ... } فكانوا في رغد من العيش، على خلاف غيرهم ، فإنهم كانوا يعيشون على شظف العيش وضيقه، وما كان لقريش من سعة الرزق إنما كان لها من أجل حماها للحرم وتقديسها له، كما هو كرامة الله لأرحام وأصلاب ينتقل فيها رسول الله-صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ-.
نتائج واستنباطات من الكلام السابق:
1. بيان أن الاقتصاد في بلاد العرب بصورة عامة لا يُعتَبر شيئاً يُذْكَرُ إلى جانبِ غيرِهِ في البلادِ الأُخرى.
2. بيان أنَّ شمال بلاد اليمن كان ذا اقتصادٍ لا بأس به؛ لوجود خِصْبٍ وصناعةٍ.
3. خراب سد مأرب, وهجرة أهله من بلادهم كان نقمةً إلهيةً؛ سببها الكفرُ والإعراضُ عن طاعةِ اللهِ ورسولِهِ .
4. بيانُ إكرامِ اللهِ-تعالى-لقريشٍ بتحقيقِ أهمِّ هَدَفٍ للإنسان في هذه الحياةِ، وهو الأمنُ من الخوفِ، والإطعام من الجوع.
5. وجوبُ شكرِ اللهِ-تعالى-على نعمِهِ, إذ طلب ذلكَ من قُريشٍ بقولِهِ:{فليعبدوا رب هذا البيت ... } قريش:الآية:4, والعبادةُ هِيَ الشُّكْرُ, وأعظمُها إقامةُ الصَّلاةِ, فَمَنْ لم يُصَلِّ مَا شَكَرَ.
يتبـــــــــع.........
الحالة الدينية في بلاد العرب قبل الإسلام
إنَّ مما لا شك فيه أنَّ هاجر أم إسماعيل كانت مسلمة، وأن والدها إسماعيل كان مسلماً كأبيه إبراهيم وأمه هاجر، وأن الله-تعالى-نبّأه وأرسله رسولاً إلى أهل بيته من زوجة وولد، وإلى أخواله وجيرانه من قبيلة جُرْهُم اليمانيَّة، وأن دين الله وهو الإسلام قد عَمَّهم وانتظم حياتهم زمناً طويلاً لا يُعُرف منتهاه. وكما هي سنة الله في الناس إذا انقطع الوحي عليهم، جهلوا وظلوا كالأرض إذا انقطع عنها الغيث-المطر-أمحلت وأجدبت، وتحولت خضرتُها ونضارتُها إلى فترة وظلام يجهل فيه الإنسان ذاته ويتنكر فيه لعقله. وأول ما بدأ الشركُ في العرب المستعربة من ولد إسماعيل أنهم كانوا إذا خرجوا من الحرم لطلب الرزق، أخذوا معهم حجارةً من الحرم، فإذا نزلوا منزلاً وضعوها عندهم، وطافوا بها طوافهم بالبيت، ودعوا الله عندها، وإذا رحلوا أخذوها معهم، وهكذا. وبموت من أحدث لهم هذا الحدث، ومع مرور الزمان، نشأ جيلٌ جاهلٌ ينظر إلى تلك الأوثان من الحجارة أنها آلهة يتقرب بها إلى الله–تعالى-رب البيت والحرم. فكان هذا مبدأ الوثنية في أولاد إسماعيل من العدنانيين. أما الأصنام والتماثيل فإن أول من أتى بها من الشام إلى الديار الحجازية عمرو بن لُحي الخُز اعيُّ، إذ سافر مرة من مكة إلى الشام فرأى أهلَ الشام يعبدون الأصنام، فسألهم قائلاً: ما هذه الأصنام التي أراكم تعبدون؟ قالوا: نعبدها نستمطرها فتمطرنا، ونستنصرها فتنصرنا. فقال لهم: أفلا تعطوني منها صنماً فأذهب به إلى بلاد العرب فيعبدوه؟ فأعطوه صنماً يقال له: هُبل، وهو الذي نصبوه حول الكعبة وبقي حولها إلى يوم الفتح الإسلامي حيث حُطَّم مع ثلاثمائة وستين صنماً، وأبعدت، فطُهِّر البيت الحرام، وطهرت مكة والحرم منها، والحمد لله رب العالمين. وكان عمرو بن لُحي محترماً في مكة عند أهلها، يشرع لهم فيقبلون شرعه، ويبتدع لهم فيُحَسِّنون بدعتَهُ، فكان أول من بدَّل دينَ إبراهيمَ وإسماعيلَ في الحجاز، ويشهد لهذا قولُ النبي-صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ- في حديثه الصَّحيح: "رأيت عمرو بن لُحي يجرُّ قُصْبَهُ في النار .. إنه كان أول من غَيَّر دين إسماعيل، فنصب الأوثان، وبحَّر البحيرة، وسيَّب السَّائبة، ووصل الوصيلة، وحمى الحامي .."
البخاري، الفتح، كتاب المناقب، باب قصة خُزاعة (6/633) رقم (3521) ذكره الحافظ ابن حجر في فتح الباري(6/549) الزيادة.
وبمقتضى بدعة عمرو بن لُحي في جَلْبِ الأصنام إلى الحجاز من الشام انتشرت الأصنامُ في بلاد العرب، وهذا بيانُ أسمائها ومواقعها، والقبائل التي كانت تعبدها، كما ذكر ذلك ابنُ إسحاق وغيرُه من المؤرِّخين:
1. سُواع: بِرُهَاط بساحل ينبع، تعبده قبيلةُ هذيل المضرية .
2. ود: بدُومة الجندل شمال المدينة قريباًً من الشام، تعبده كَلْبٌ القضاعيةُ.
3. يغوث: بجُرَش، يعبده أهلُ جرش، وهم بمخاليف اليمن جنوب مكة المكرمة.
4. يعوق: بأرض همدان من أرض اليمن، تعبده قبيلة خَيْوَان وهم بطن من همدان. وفيه يقول قائلهم:
يريش الله في الدنيا ويبري ولا يبرى يعوق ولا يريشُ
6. نسر: بأرض حمير من اليمن، تعبده قبيلة ذو الكلاع من حمير.
7. عميانس: بأرض خولان، تعبده قبيلة خولان اليمانية، وهم الذين قسموا له أنعامهم وحروشهم، ونزل فيهم قول الله –تعالى- من سورة الأنعام : {وَجَعَلُواْ لِلّهِ مِمِّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُواْ هَذَا لِلّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَآئِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَآئِهِمْ فَلاَ يَصِلُ إِلَى اللّهِ وَمَا كَانَ لِلّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَآئِهِمْ سَاء مَا يَحْكُمُونَ}(136) سورة الأنعام.
8. سعد: بأرض مِلكان بن كنانة المضرية، وتعبده قبيلة مِلْكَان، وفيه يقول شاعرُهم:
أتينا إلى سعدٍ ليجمع شملنــا فشتتنا سعــدٌ فـلا نحن مـن سعــدِ
وهـل سعـد إلاّ صخرة بتنوفة من الأرض لا تدعــو لِغَيٍّ ولا رُشدِ
وذلك أن هذا الشاعر أقبل بإبلٍ مُؤبَّلة ليقفها على سعد (الصنم) رجاء بركته، فلما رأته الإبلُ، وكان ملطخاً بدم القربان نفرت الإبلُ وشردت، فذهبت كُلَّ مذهب، فأخذ صاحبها حَجَراً وهو غضبان، وضرب سعداً (الصنم)، وقال له: لا بارك الله فيك نفّرت عليَّ إبلي. ثم طلب إبله وجمعها بعد تفرقها، ثم أنشد يقول:
أتينا إلى سعد ليجمع شملنا ... إلخ.
9. ذو الخَلَصَةِ: بِتَبالة جنوب مكة ببلاد اليمن، وكانت تعبده دوس وخثعم وبَجيلة. وهذا الصنم بعث إليه رسول الله-صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ-جرير بن عبد الله البجلي فهدمه، عندما نصر اللهُ دينه ورسوله والمؤمنين، فلله الحمد والمنة .
10. إساف ونائلة: وهما صنمان كانا بالكعبة، ثم وضعا على الصفا والمروة كانت تعبدهما قُريش من جُملة أصنامها. ويُروى أنَّ أصلهما كان رجلاً وامرأة من جُرهم فَجَرَا في داخل الكعبة، فمسخهما الله –تعالى-، فالرجل يدعى إسافاً والمرأة تُدعى نائلة. ولما جاء الإسلام تحرّج أناس في السعي بين الصفا والمروة لمكان إسافٍ ونائلة منهما، فرفع الله –تعالى- ذلك الحرج بقوله -عز وجل- من سورة البقرة : {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَآئِرِ اللّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ} (158) سورة البقرة, أي لا حَرَجَ عليه في السعي بينهما.
11. العُزَّى(1): وكانت بنخلة عن يمين الصاعد إلى العراق من مكة، وكان سدنتها وحجابها بني شيبان من سُليم خلفاء بني هاشم، وكانت تعبد وتقدّس تقديس البيت الحرام.
12. اللاّت: وكانت بالطائف، وكانت ثقيف تعبدها، ومنهم سدنتها وحُجَّابُها .
13. مناة: وكانت على ساحل البحر من ناحية المشلّل قُرب قديد، وتعبدها قبيلتا الأوس والخزرج، ومن دان بدينهم من أهل يثرب (المدينة)، ولما جاء الإسلام وانتصر التوحيد على الشرك بعث رسول الله-صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ-أبا سفيان أو على بن أبي طالب-رضي الله عنهما-فهدمهما.
14. فِلْس: بجبَلَيْ طي، وهما سَلْمَى وَأجَا من أرض طي شمال الحجاز قريباً من حائل المدينة المعروفة اليوم، كانت تعبده طي بأنواع من العبادات كالهدي إليه، والاستسقاء به، والائتمان بساحته، وبعث إليه النبي-صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ- علي بن أبي طالب فهدمه، وكان شبه إنسان لاصق بحبل أجا.
15. رئام: وهو بيت لحمير بصفاء من اليمن يعظمونه وينحرون عنده، وتكلمهم الشياطين عنده لفتنتهم.
16. رُضاء: وهو بيت أيضاً لبني ربيعة بن كعب بن زيد مناة بن تميم. ولما جاء الإسلام هدمها المُستوغر(2) بن ربيعة، وهو يقول:
ولقد شددت على رُضاء شدةً فتركتُها قفراً بقاعٍ أسحما
17. ذو الكعبات: وهو بيت لبكر وتغلب ابني وائل وإياد، وكان بسنداد، وهي منازل لإياد أسفل أسوار الكوفة، وفيه يقول أعشى بن قيس بن ثعلبة:
بين الخَوَرْنَقِ(3) والسّدير وبارق والبيت ذي الكعبات من سنداد
عمل العرب مع أصنامهم:
أكثر ما يعمله العرب مع أصنامهم؛ أنَّ أحدهم إذا أراد السفر توجّه إلى صنمه فتمسح به ثم سافر، وإذا عاد من سفره أول ما يبدأ به يتمسح بصنمه ثم يدخل على أهله.
نتائج وعبر:
إن لهذه المقطوعة من السيرة العطرة نتائج وعبراً نوجزها فيما يلي:
1. بيان منشأ الشرك في العرب المستعربة، وهو نقلهم الحجارة من الحرم للتبرك بها والطواف، ولذا وجب سد هذه الذريعة فلا ينقل شيء للتبرك به حتى إن عمر-رضي الله عنه- قطع شجرة بيعة الرضوان مخافة أن تُعبد بمرور الزمان، اللهم إلا ما كان من آثار النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ-كشعره أو ثوبه، أو سلاحه، ولم يبق من ذلك شيء لمرور الزمان الطويل.
2. طاعة عمرو بن لُحي وتعظيمه والغلو فيه؛ هو الذي جرأه على نقل الأصنام لهم وأمرهم بعبادتها، ولذا وجب التحذير من الغلو في المشايخ، وعدم قبول قولهم وطاعة أمرهم إلا ببرهان من كتاب أو سنة يدل على ذلك ويأمر به.
3. عبادة العرب لآلهة قوم نوح بعد مرور القرون الطويلة أَمْر عَجَبٌ، إلا أنه لا عجب مع خبث الشياطين ومكرهم ببني آدم لإغوائهم وإهلاكهم. إنهم كما زينوا لقوم نوح عبادتهم فعبدوهم زينوا كذلك للعرب عبادتهم فعبدوهم.
4. بناء الأضرحة والقباب على قبور الأولياء والصالحين تركة موروثة عن الجاهلية قبل الإسلام زيّنتها الشياطين وحملت الجهال على بنائها ثم عبادتها بأنواع العبادات كالنذر لها والاستغاثة بها وتقديم الشاة والبقرة لها، وإيقاد الشموع عليها، وتجميرها إلى غير ذلك من الحلف بها وتعظيمها وشد الرحال إليها؛ إذ تقدم أن العزى ورئام ورضاء وذا الكعبات كانت بيوتاً تعبد، ولها سدنة وحجابٌ كما هي الحال للأضرحة في أكثر بلاد المسلمين.
البدع الدينية في عهد الجاهلية:
إنه وإن كان كلُّ ما عليه عرب الجاهلية من دين هو بدع ابتدعوها بعد غياب العلم والعلماء، إلاّ أن هناك أموراً ظاهرة في الابتداع زائدة على أصل الدين الوثنيّ الذي هم عليه، ومن ذلك ما يلي:
1. البحيرة، والسائبة، والوصيلة، والحام؛ فالبحيرة الناقة تُشقُّ أُذنُها وتُترك فلا تُركب، ولا يُشرب لبنها إلا أن يسقوه ضيفاً من ضيوفهم، ولا شك أن لهذه البدعة سبباً ولا يبعد أن يكونوا فعلوه تقرباً لآلهتهم. كما أن السائبة وهي: الناقة تُسيَّب، أي تترك في نذر أو غيره لمجرد التقرّب، فلا يُركب ظهرها، ولا يُشرب لبنها، ولا يُؤكل لحمها. وأما الوصيلة: فالابتداع فيها ظاهر إذ هي: الشاة تُتئم بأن تلد عشر إناث في خمسة أبطن ليس بينهن ذكر، فيطلقون عليها الوصيلة، بمعنى الواصلة؛ إذ وصلت بين إناثها العشرة. ثم هي بعد ذلك إذا ولدت، فما تلده لذكورهم دون إناثهم إلا أن يولد ميتاً فإنهم يشركون فيه إناثهم فيأكلونه جميعاً. وهذا ما ذكره تعالى في قوله من سورة الأنعام: { وَقَالُواْ مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِّذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا وَإِن يَكُن مَّيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاء } سورة الأنعام(139). هذه الوصيلة. وأما الحامي: فهو الجمل إذا بلغ حداً معيناً من النتاج يحمون ظهره فلا يُركب ولا يُحمل عليه، ويتركونه للضراب فقط، ولا شك أن هذا يفعلونه تعبداً وتقرباً للآلهة.
2. بدعة الوقوف في الحج بمزدلفة دون عرفة، وهذه البدعة ابتدعها أشراف مكة، وهم الذين يعرفون بالحُمْس أما سائر العرب فإنهم يقفون بعرفات، ولا يسمح لهم أن يقفوا بمزدلفة.
3. بدعة عدم الطواف في ثياب عُصِي فيها الله -عز وجل-، فلا يُحلّون لأحد من غير الحمس أن يطوف في ثوب قديم، فإن لم يجد من الحُمس ثوباً يطوف فيه طاف عُرياناً؛ حتى إن المرأة تطوف عارية وتضع شيئاً تستر به فرجها، ويؤكد هذا قول إحداهن:
اليوم يبدو بعضه أو كله وما بدا منه فلا أحلـه
وفي إبطال هاتين البدعتين أنزل الله–تعالى- قوله: {ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} (199) سورة البقرة. وقوله تعالى: {يَا بَنِي آدَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} (31) سورة الأعراف.
4. بدعة الاستقسام بالأزلام، وهي عبارة عن ثلاثة قداح كتب على أحدها أمرني ربّي، والثاني نهاني، والثالث تُترك غُفْلاً لا يكتب عليه شيء، فإذا أراد أحدهم أن يتزوج، أو يطلق، أو يسافر، أو يتاجر، يذهب إلى صاحب الأزلام (القداح) فيقدم له شيئاً من المال، ويجيل القداح في خريطة، فإذا خرج أمرني أمضى ما عزم عليه، وإذا خرج نهاني ربي توقف، وترك العمل الذي استقسم من أجله، وإن خرج القدح الغُفْل أعاد العمليّة بإجالة القدح مرّة أخرى، وقد حرم الله –تعالى- هذه البدعة، بقوله من سورة المائدة: {وَأَن تَسْتَقْسِمُواْ بِالأَزْلاَمِ} (3) سورة المائدة. وسُمّي هذا العمل استقساماً؛ لأنهم يطلبون به معرفة ما قسم لهم.
5. بدعة النسيء، وهي تأخير حرمة شهر المحرم إلى صفر من أجل استحلال القتال في الشهر الحرام، وأصحاب هذه البدعة يقال لهم: النَّساة، ويفاخرون بهذه البدعة، حتى قال قائلهم:
ألسنا الناسئين على معد شهور الحِل تجعلها حراماً
ولما جاء الإسلام حرم هذه البدعة فقال تعالى: {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُواْ يُحِلِّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِّيُوَاطِؤُواْ عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللّهُ فَيُحِلُّواْ مَا حَرَّمَ اللّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ}(37) سورة التوبة.
التوبة(37).
نتائج وعبر:
إن لهذه المقطوعة في السيرة العطرة نتائج وعبراً نجملها فيما يأتي:
1. إذا غاب نور العلم بموت العلماء نجمت البدع، واستبدل الناس الهدى بالضلال.
2. ضعف الإنسان الفطري هو الذي يحمله على طلب ما يجلب له النفع ويدفع عنه الضُّر، فإن اهتدى إلى الطريق الصحيح الذي يحصل به على ما يرغب وينجو به مما يرهب فذاك، و إلا سلك مسالك الغواية والضلال من الظلم والشرك والابتداع.
3. مع طول العهد من فقد العدنانيين للعلم الصحيح بالله–تعالى-ودينه، فقد بقيت لهم بقايا صالحة كالحج والعمرة، وتعظيم البيت واحترام الحرم والأشهر الحرم، والتقرب إلى الله–تعالى-بالهدي وإطعام الحاج، وسقايته، ودفع الظلم عنه. كانت هذه نتائج، وأما العبر فهي:
1. إن المسلمين الذين فقدوا العلم الصحيح في ديارهم ابتدعوا بدعاً شبيهةً ببدع أهل الجاهلية، فقد نذروا لأصحاب الأضرحة والقباب وساقوا لهم الشاة والعجل، وحلفوا بأسمائهم وكسوا توابيتهم(4) بأفخر أنواع الكسوة.
2. بدعة خط الرّمل للتعرف على المغيبات عند جُهّال المسلمين كبدعة الاستقسام بالأزلام عند أهل الجاهلية المشركين.
3. احتيال بعض المشايخ على تحليل بعض المحرمات لمنافع خاصة لهم أو لغيرهم، هو مسلك النسأة في تأخير الشهر الحرام لاستحلاله، وهكذا فكلُ فُتيا يُراد بها استحلال ما حرَّم الله بالتأويلات البعيدة فهي إتباع لأهل الجاهلية، واستنان بسنتهم الجاهلية - والعياذ بالله تعالى-.
يتبــــــــع.......
عادات العرب في الجاهلية
من العادات السيئة عند العرب في الجاهلية
1. القمار والمعروف بالميسر، وهذه عادة سكان المدن في الجزيرة كمكة, والطائف, وصنعاء, وهجر, ويثرب, ودومة الجندل وغيرها, وقد حرمه الإسلام بآية سورة المائدة فقال تعالى : { يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه } المائدة: الآية:90
2. شرب الخمر والاجتماع عليها والمباهاة بتعتيقها وغلاء ثمنها، وكان هذا عادة أهل المدن من أغنياء، وكبراء وأدباء شعراء، ولما كانت هذه العادة متأصلة فيهم متمكنة من نفوسهم حرمها الله-تعالى-عليهم بالتدريج شيئاً فشيئاً وذلك من-رحمة الله تعالى- بعباده فله الحمد وله المنة.
3. نكاح الاستبضاع وهو أن تحيض امرأة الرجل منهم فتطهر فيطلب لها أشراف الرجال وخيارهم نسباً وأدباً ليطؤوها من أجل أن تنجب ولداً يرث صفات الكمال التي يحملها أولئك الواطئون لها.
4. وأد البنات وهي أن يدفن الرجل ابنته بعد ولادتها حية في التراب خوف العار. وجاء في القرآن الكريم التنديد بهذا العمل وتقبيحه وذلك بذكر توبيخ فاعله يوم القيامة . قال تعالى من سورة التكوير : { وإذا الموءودة سئلت بأي ذنب قتلت }؟ التكوير،الآية:9
5. قتل الأولاد مطلقاً ذكوراً أو إناثاً، وذلك في عند وجود فقر وحالة مجاعة ، أو لمجرد توقع فقر شديد عند ما تلوح في الأفق آثاره لوجود مَحْل وقحط بانقطاع المطر أو قِلّته. فحرم الإسلام هذه العادة السيئة القبيحة بقوله تعالى : {وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم إنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْءًا كَبِيرًا} {(31) سورة الإسراء}. والإملاق شدة الفقر وعِظمه.
6. تبرّجُ النساء بخروج المرأة كاشفة عن محاسنها مارّة بالرجال الأجانب متغنَّجة في مشيتها متكسِّرة كأنها تعرض نفسها وتُغري بها غيرها.
7. اتخاذ الحرائر من النساء الأخدان من الرجال وذلك بالاتصال بهم وتبادل الحب معهم في السر وهم أجانب عنهن، فحرم الإسلام هذه العادة بقوله تعالى : {وَلاَ مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ} (5) سورة المائدة.
8. العصبية القبلية وهي مبدأ : "انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً" فجاء الإسلام فأمر بنصرة المسلم قريباً كان أو بعيداً، إذ الأخوة المعتبرة هنا هي أخوة الإسلام. ونصرته إذا كان مظلوماً بدفع الظلم عنه، ونصرته إذا كان ظالماً بمنعه من الظلم وحجزه عنه ، قال رسول الله-صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ- في رواية البخاري : ( انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً)، فقيل يا رسول الله أنصره إذا كان مظلوماً: فكيف أنصره إذا كان ظالماً ؟ قال : ( تحجزه عن الظلم) البخاري، الفتح، رقم(6552)،كتاب الإكراه...
9. شن الغارات والحروب عل بعضهم بعضاً للسلب والنهب فالقبيلة القوية تغير على الضعيفة ليسلُبها مالها ؛ إذ لم يكن لهم حكم ولا شرع يرجعون إليه في أغلب الأوقات وفي أكثر البلاد. ومن أشهر حروبهم حرب داحس والغبراء التي وقعت بين عَبْس من جهة, وذبيان وفزارة من جهة أخرى. وحرب البسوس حتى قيل: أشأم من حرب البسوس التي دامت كذا سنة وكانت بين بكر وتغلب. وحرب بُعاث التي وقعت بين الأوس والخزرج بالمدينة النبوية قبيل الإسلام. وحرب الفِجار التي دارت بين قيس عيلان من جهة وبين كنانة وقريش من جهة مقابلة، وسميت حرب الفِجار لأنها وقعت في الأشهر الحرم. هذه معظم العادات السيئة التي كانت في المجتمع العربي قبل الإسلام وهي كما مرَّت تحيل المجتمع إلى مجتمع ساقط هابط لا سعادة فيه ولا هناء إلا أنه إزاء ذلك كانت فيه كمالات نوردها تحت عنوان :
من العادات الحسنة عند العرب في الجاهلية :
1. الصدق والمراد به صدق الحديث وهو خلق كريم عُرف به العرب في الجاهلية قبل الإسلام فزاده الإسلام تقريراً وتمتيناً.
2. قِرى الضيف وهو إطعامه، وهو من الكرم الذي يحمد صاحبه عليه ، ويحمد له ويثنى به عليه فجاء الإسلام بتقريره وتأكيده إذ قال رسول الله-صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ-:(من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه ). البخاري، الفتح،رقم(5672) كتاب الأدب، باب من كان يؤمن بالله واليوم الآخر .
3. الوفاء بالعهود وعدم نكثها ومهما كلفت من ثمن وهو خلق سام شريف وجاء الإسلام بتقريره وتأكيده قال تعالى :{وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاء والضَّرَّاء وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ}(177) سورة البقرة. في بيان صفات المؤمنين من سورة البقرة .
4. احترام الجوار وتقرير مبدأ الحماية لمن طلبها، وعدم خفره مهما كانت الأحوال، وفي الحديث : ( أجَرْنا منْ أجَرتْ يا أم هانئ). أحمد(6/423). وأجار المسلمون أبا العاص بن الربيع وهو مشرك حتى دخل المدينة واسترد ودائعه وأمواله وعاد إلى مكة ثم أسلم بعد.
5. الصبر والتحمل. حتى قالوا : (( تجوع الحُرَّة ولا تأكل بثديها )) وجاء الإسلام فزاد هذا الخلق قوة ومتانة وفي القرآن : {اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ}(200) سورة آل عمران.وفي الحديث : (من صبر ظفر).
6. الشجاعة والنجدة والأنفه وعدم قبول الذل والمهانة وهي خصال امتاز بها العرب نساءً ورجالاً، وفي أشعارهم وأقاصيصهم شواهد ذلك.
7. احترام الحرم والأشهر الحرم ، ولو كانوا ذوي سوابق في الشر.
8. تحريمهم نكاح الأمهات والبنات.
9. اغتسالهم من الجنابة.
10. المداومة على المضمضة والاستنشاق.
11. السواك والاستنجاء، وتقليم الأظافر، ونتف الإبط.
12. الختان للأطفال. والخفاف للبنات.
13. قطعهم يد السارق اليمنى.
14. الحج والعمرة.
فهذه جملة من العادات الحسنة الحميدة التي عُرف بها العرب في الجاهلية قبل الإسلام. وإنها وإن لم تكن عامة في كل فرد فإنها الطابع العام على غالبيتهم ولولا إرادة الاختصار، وثقة القارئ فيما أقدمه له لذكرت شواهد ذلك من كلامهم ووقائعهم نظماً ونثراً، وحسبنا من ذلك أن أبا سفيان بن حرب لما حضر عند هرقل ملك الروم بالشام وسأله عن النبي-صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ-لم يكتمه شيئاً مم سأله عنه، مع العلم بأنه مازال مشركاً وفي حرب مع الإسلام والمسلمين.
نتائج وعبر :
إن لهذه المقطوعة من السيرة العطرة نتائج وعبر لعلنا نبرزها للقارئ في النقاط التالية :
1. إن الصفات الذميمة كالحميدة لا تخلص كاملة لأية أمة من الأمم مهما كان رُقيها أو انحطاطها، وإنما العبرة بالحال الغالبة فقط. فمتى غلبت الصفات الحميدة كان المجتمع راقياً صالحاً، ومتى غلبت الصفات الذميمة كان المجتمع هابطاً فاسداً.
2. لما جاء دين الله-عَزَّ وجَلَّ-الذي لا يقبل ديناً سواه أقر العادات الحسنة ورغََّب فيها وواعد عليها بحسن المثوبة حتى أصبحت ديناً يتقرب بها إلى الله-عزوجل-. وأبطل العادات السيئة الذميمة، ونفَّر منها، وتوعّد عليها بالعذاب، ووضع لبعضها حدوداً رادعة، فاقتلع جذورها وطهر المجتمع العربي منها؛ إذ لا مقام لها بين أمة الإجابة والقيادة.
3. الخلال الحميدة صفات, يساعد على تأصلها في الإنسان وتثبيتها فيه الإيمانُ والعلمُ ومجاهدة النفس ومقاومة الشيطان والهوى.
4. ضعف الإيمان وقلة العلم في الأمة الإسلامية اليوم وقبل اليوم أَصَّلَ فيها كثيراً من عادات الجاهلية الأولى، وذلك كالتبرج، وارتكاب الفواحش, وعدم احترام الحرم، وشرب المسكرات ولعب الميسر, وإجهاض الحُبالى, واستعمال الحبوب لمنع النسل خشية الفقر، وما إلى ذلك من الأفعال القبيحة التي كانت في الجاهلية وحرمها الإسلام وسبب عودتها ضعفُ الإيمانِ والجهلُ واتباعُ الأهواء والجريُ وراء الشَّهواتِ, والعياذُ بالله.
يتبــــــــــــــــع...............
العالم قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم
لقد اجتمعت كلمة المؤرخين عامة على أن العالم الإنساني قاطبة ، والعالم العربي بصورة خاصة كان يعيش في دياجير ظلام الظلم والجهل ، وظلمات الطغيان والاستبداد ، تتنازعه الإمبراطوريتان الفارسية شرقاً ، والرومانية غَرْباً . ويؤكد هذه الحقيقة قول الحبيب-صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ-:(إن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم, عربهم وعجمهم جميعاً إلا بقايا من أهل الكتاب). فالأحوال متردية ساقطة هابطة في العالم الإنساني بأسره،لا سيما في العالم العربي حيث الفساد في كل جوانب الحياة السياسية منها كالاقتصادية ، والاجتماعية كالدينية الكل سواء .وهذه نظرة خاطفة نلقيها على العالم عامة قبل البعثة الشريفة,وعلى ديار العرب خاصة،وكلمة عابرة نقولها على تلك الأوضاع المتدهورة المتهالكة ،ليُعرَفَ مدى الحاجة إلى فجرِ النُّبوةِ المحمديِّةِ لتبديد تلك الظُلَمْ المتراكمة، وإبعاد تلك الويلات الملازمة للحياة الخاصة والعامة في ربوع ديار العروبة قاطبة ؛ إذ لا فرق بين يَمَنِهَا وشامها، ولا بين حجازها ونجدها.ولِتَعْظُمَ عند دي الوعي العاقل مِنَّةُ أنوارِ الفجرِ المحمديِّ التي غمرتِ الجزيرةَ والكونَ هِدَايةً ونُوراً .
العالمُ قبلَ البعثةِ
قد يألف المرء النعمة،وقد تأنس عيناه النور؛ لكنه لن يعرف حمدًا حتى يدرك سلب النعمة وفوات النور، والناظر في دين الإسلام لن يعرف فضله, حتى يبصر كيف تهاوى الإنسان في القرنين السادس والسابع في أودية الظلم،وكيف تردى في درب الشيطان، حين فقد عقله، وخفت في الصدر نور قلبه، وجعل على عينيه غشاوة كفر تحجب عنه الإيمان. ذلك ما وصل إليه الأمر في الحضارات السابقة المختلفة،وما وصل إليه الحال في أمم العرب قبل البعثة.
الحضارات السابقة :
ما أشقى الإنسان حين يبتعد عن منهج ربه، يزعم أنه يعلي من شأن عقله، ويحرر إرادته، فإذا عقله يرتع في أودية الضلال، ويُحشى بالأساطير والخرافات، وإذا هو مكبَّل بقيود أطماعه وشهواته، وشرائعه العقيمة التي سنها لنفسه، ثم أنت تتلفت في دياره التي خلف، وآثاره التي ترك، تبحث عن حضارته، فلا تجد إلا أحجارًا منحوتة، ورسومًا منقوشة، وأعمدة شاهقة، وأبنية سامقة، فإذا فتشت عن الإنسان وجدته حائرًا ضائعًا ليس في قلبه إلا الجزع، وما في عقله إلا الخواء، فأين الحضارة إذن؟! ذلكم ما آل إليه أمر العالم قبل البعثة. الفرس في المشرق، والروم في المغرب، ثم إذا أنت توغلت في آسيا صادفتك أممها الوسطى،ثم الهند, والصين في أقصى شرقها، فإذا أنت عرجت إلى أوروبا لم تجد ما يُبهج فؤادك، وقد تتساءل عن حملة رسالة موسى- عليه الصلاة و السلام-،فلا تجد أمامك إلا اليهود وهم في أشقى حالٍ، وقد تأخذك قدماك إلى الحبشة في إفريقيا، أو إلى مصر أقدم الحضارات، فلا تجد في هذا القرن الميلادي السادس إلا ما يُدمي قلبك ويُدمِع عينيك، لكن لعلها كانت ظلمة الليل البهيم التي تنبئ عن فجرٍ يشرق بعدها!.
الفُرْسُ
كان الفرس يعبدون الله ويسجدون له، ثم أضحوا يُمجِّدُون الشمسَ والقمرَ وأجرامَ السَّماءِ، ثم جاءهم "زرادشت" فدعاهم إلى التوحيد بزعمه، وأمرهم بالاتجاه إلى الشمس والنار في الصلاة، وظل من بعده يُشرعون لهم حتى انقرضت كل عقيدة وديانة غير عبادة النار، واقتصرت عبادتهم تلك على طقوس يُؤدونها في المعابد، ثم إذا خرجوا منها تقاذفتهم أمواج الباطل ورياح الضلال في كل سبيل، وأمام فساد الفرس ظهرت دعوة "ماني" في القرن الثالث الميلادي-بمنافسة النور والظلمة-فحرم الشهوات بالكلية؛ لأنها من الظلام، ودعا باستعجال الفناء انتصارًا للنور، وهو ما أجابه إليه ملكهم حين قتله!!وظل أتباعه بفارس إلى حين الفتح الإسلامي، وظهرت من بعده دعوة "مزدك" بأن المال والنساء مشاع مباح كالكلأ والنار والماء! وما زالت دعوته تلك تظهر حتى صار الرجل لا يعرف ولدَهُ، والولد لا يعرف أباه، والمرء يُغلب على بيته بمن يُشاركه ماله ونساءه في كُلِّ وقتٍ وفي كل حين، أما بالنسبة للنظام الاجتماعي فقد عرف الفرس نظام التميزَ الطبقيَّ في أقسى صوره، وكان مركز المرء يحدد بنسبه، فلا يستطيع أن يتجاوزه، أو يغير حرفته التي خُلِقَ لها-بزعمهم الباطل-. وفيما يخص النظام المالي، فقد كان نظامًا جائرًا مضطربًا، يعتمدُ على الجباية والضرائب الباهظة، التي أثقلت كاهل الناس، حتى أهملوا أشغالهم ففشت فيهم البطالة وكثرت بينهم الجناية، وكان الفرس يُقدِّسُون أكاسرتهم، ويعتقدون في ملوكهم الألوهية، وأن لهم حقـًا لا ينازع فيه في التاج والإمارة، وكثرت كنوز ملوكهم في الوقت الذي عانت فيه شعوبهم من شظف العيش. وروي عن "خسرو الثاني" أنه كان في خزانته ثمانمائة مليون مثقال ذهب في العام الثالث لجلوسِهِ على العرش، أما "كسرى أبرويز" فكانت له اثنتا عشرة ألف امرأة، وخمسون ألف جواد وما لا يُحصَى من أدوات الترف والقصور. والعجيب أنَّ الفرسَ مع ذلك كانوا يُمَجِّدون قوميتهم، ويعتقدون أنها اختصت دون سواها بالشرف, في الوقت الذي كانوا ينظرون فيه إلى الأمم من حولهم نظرة ازدراء وامتهان.
الرُّومُ
كان المجتمع الروميُّ يخضع لنظام طبقيٍّ جائر لا يتطلع فيه المرء لمن فوقه, ولا يحق له أن يُغيِّر مهنته وحرفته التي يرثها من أبيه، وقد تعاظمت الضرائبُ والإتاوات على أهل البلاد، حتى مقت الناسُ حكوماتهم، وحدثت لذلك ثورات عظيمة واضطرا بات، حتى إن ثلاثين ألفًا من البشر قد هلكوا في اضطراب عام اثنين وثلاثين وخمسمائة من الميلاد وحده، وقد انحطت الدولة وتردت للهاوية من كثرة ما انتشر فيها من الرشوة والخيانة، وما ضاع فيها من العدل والحق، فضاعت التجارة، وأهملت الزراعة، وتناقص العمران في البلدان. أما أهل الرياسة والشرف فقد استحوذت عليهم حياةُ الترف والبذخ، وطغى عليهم بحرُ المدنية المصطنعة والحياة المزورة، وارتفع مستوى الحياة وتعقَّدت الحياةُ تعقدًا عظيماً. وكان الواحد منهم ينفق على جزء من لباسه ما يُطعم قريةً بأكملها. أما عن علاقة المملكة بما يخضع لها من بلدان، فكان المبدأ تقديس الوطن والشعب الرومي، وغيرهما له الاستعباد، أو الفقر والاضطهاد، وكان من أنكرِ ما فعلتْهُ هذه الدَّولةُ تحريفُها للمسيحيةِ، وتحويلها إلى سفسطةٍ عقيمةٍ، وحروبٍ أليمةٍ.
تحريف المسيحية
أغارت وثنية روما على المسيحية فجعلتها مَسْخاً مُشوَّهاً، فلا هي وثنية وقحة، ولا هي توحيد سليم، جمعت أشتاتًا من هنا وهناك طمس "بولس" نورها، وقضى "قُسطنطين" على بقاياها، فعادت تجمع أخلاطًا من عقائد اليونان، والروم، والمصريين القدماء، ومع ذلك تفرق أتباعها شيعًا وأحزابًا، يحارب بعضُهم بعضًا، حاملين بين جوانحهم كُلَّ عداوةٍ وكل بغضاء، ولعل أشد مظاهر هذا الخلاف ما كان بين "المنوفيسيين" في مصر، و"المكانيين" في الشام وروما، فبينما اعتقد الفريق الأولُ بالطبيعة الواحدة للسيد المسيح، إذ أصرَّ الفريقُ الثاني على ازدواجِها!! وقد حدثت في الحروبِ بينهما أهوالٌ عجيبةٌ، حتى جاء هرقلُ-والذي حكم من سنة عشر وستمائة إلى سنة إحدى وأربعين وستمائة من الميلاد (610م-641)-,وأراد أن يجمعَهم على وحدانية إرادة الله وقضائه، في مذهبه "المنوتيلى"، فاجتمعوا على الأولى, واختلفوا في الثانية، فتجددت بينهم الحروبُ, وذكت نارُها المشئومةُ.
أُمم آسيا الوسطى
لم يُعرَفْ عن هذه الأمم حضارةٌ تُذكَرُ، أو نظامٌ يُشَارُ إليه، وإنما كانت بوذية فاسدة، ووثنية همجية، لا تملك ثروةً علميةً، أو نظامـاً سياسياً راقياً، ومن أمثلة هذه الأمم:
الهند
يقول الرحالة الصيني "هوئن سوئنج"واصفاً الاحتفالَ العظيمَ الذي أقامه الملك "هرش"حاكم الهند من سنة ست وستمائة إلى سنة سبع وأربعين وستمائة من الميلاد(606م/647م): أقام الملك احتفالاً عظيمًا في (قنوج)اشترك فيه عددٌ كبيرٌ جداً من علماء الديانات السائدة في الهند، وقد نصب الملك تمثالاً ذهبيًا لبوذا على منارة تعلو خمسين ذراعاً، وقد خرج بتمثال آخر أصغر لبوذا في موكب حافل قام بجنبه الملك "هرش" بمظلة، وقام الملك الحليف "كامروب" يذبُّ عنه الذباب. ويكفيك هذا الوصف لهذين الملكين, وهما يظلان إلههما من الشمس, ويدفعان عنه شَرَّ الذباب؛ لتعلم ما آلت إليه عقولُ هؤلاء القوم في دينهم. لقد بلغت الوثنية أوجها في القرن السادس الميلادي, حيث تعددت الآلهة من أشخاص تاريخية، وجبال، ومعادن، وأنهار, وآلات للحرب، وآلات للكتابة، وآلات التناسل، وحيوانات أعظمها البقرة، والأجرام الفلكية، وغير ذلك إلى أن بلغت ثلاثين وثلاثمائة مليون. واستعرت في أركان الهند وجنباتها الشهوةُ الجنسيةُ الجامحةُ حتى عبدَ الهنودُ آلةَ التناسلِ لإلههم الأكبر "مهاديو" فصوروها صورة بشعة، واجتمعوا للاحتفال بها رجالاً ونساءً، شيوخاً وشباباً وأطفالاً!!، وعادت دور العبادة مكاناً يُمارس فيه الكهنة والفساق فجورَهم وخلاعتَهم، فضلاً عن سائر الأماكن في البلاد. ولم يُعرَفْ في تاريخ الأمم نظام طبقي أعتى وأقسى منه في الهند، وسن لذلك قانون يُدعى "منوشاستر",قَسَّمَ النَّاسَ بمقتضاه إلى طبقات أربع، يتمتع أعلاها بكل المزايا، ولا يبقى لأدناها إلا الذل والاستعباد، وتردت أوضاع المرأة في هذا المجتمع حتى إن الرجل كان يخسر زوجته في القمار، ولا يبقى للمرأة بعد وفاة زوجها إلا أن تصبح أمة في بيت زوجها المتوفى تخدمهم دون حق في متاع أو زواج أو تحرق نفسها خلفه هربـًا من عبوسة الدنيا وذلِّ الحياة.
الصين
عجيب أمر ذلك الإنسان حين يفقد عقله، وتتقاذفه أمواجُ الأيام، حتى يجد نفسه على شاطئ فكرة يعتقدها، ويؤمن بها، ويخلص لها، دون أن يدري كيف وصل إليها، أو كيف وصلت إليه!! هكذا كان حال أهل الصين، حين تخبطوا بين ديانة " لاوتسو" المغرقة في النظريات، وديانة "كونفوشيوس" التي عُنيت بالعمليات، فكانت تعاليمَ تدار بها شئون الدنيا والأمور السياسية والمادية والإدارية، دون اعتقاد في وجود إله، ثم الديانة "البوذية"، والتي بدأت كحِكم بسيطة وبليغة، ثم ما لبثت أنْ شابتها الخرافة، وخالطتها الوثنية الحمقاء بتماثيلها، وضاعت بين أركانها فكرة الإله!! حتى إن مؤرخي هذه الديانة لا يزالون في شكِّ من وجوده بها، وحيرة من قيام دين على أساس رقيق من الآداب، التي ليس فيها الإيمان بالله.
أوروبا
السائر في دروب تاريخ أوربا الشمالية الغربية، لا يعرف لقدميه موطئًا أو سبيلاً، ذلك لأنه يتجول في ديار خيَّمت عليها سحائبُ الظلام، واكتنفتها حروب ومعارك لا تُوصف إلا بالوحشية والضراوة. وبالاختصار، كانت أوربا في هذه الحقبة بمعزل عن الحضارة، لا تعرف عن العالم، ولا يعرف العالم المتمدن عنها إلا قليلاً.
اليهود
بين آسيا وإفريقيا وأوروبا انتشر اليهود، وعلى ما كان في أيديهم من مادة في الدين، وقرب لفهم مصطلحاته ومعانيه، إلا أن ذلك لم يثمر حضارة تذكر، أو نظامًا يُشار إليه. قضى عليهم أن يتحكم فيهم غيرُهم، وأن يكونوا عُرْضةً للاضطهاد والنفي والبلاء، وفشت بين أممهم أخلاقُ الخُنُوعِ عند الضَّعفِ، والبطش عند الغلبة، والقسوة والأثرة، وأكل المال بغير الحق، والجشع وتعاطي الربا، والنفاق، والصد عن سبيل الله.وبهذا الانحطاط النفسيِّ، والفساد الاجتماعيِّ، عُزِلُوا عن إمامةِ الأممِ، وقيادةِ العالمِ. ورغم أنَّ أقربَ ديانةٍ لهم في الأرض كانت المسيحية- فكلاهما من مشكاة واحدة خرجت- إلا أن العداء بين اليهود والنصارى لم يكن ليهدأ, إلا ليعاود الاستعار من جديد.
العداء بين اليهود والنصارى
الناظر في تاريخ العداء بين اليهود والنصارى، يجزم بلا ريبةٍ، ويقسم بلا شك، أن مثل هذه القسوة وتلك الضراوة في العداء والاعتداء لم تُعرَفْ أو تحدث على الأرض في مملكةٍ من ممالكِ الحيواناتِ، لقد كانوا يُوقعون ببعضهم البعض، ويتحينون الفُرص، ويهدمون في ساعةٍ ما وقع تحت أيديهم من معابد، ويقتلون ما وصلت إليه سيوفُهم من أرواحٍ، فكيف يكون لإحداهما إذن حَقٌّ في قيادةِ البشريةِ؛ لتحقيقِ رسالةِ الحقِّ والعدلِ والسَّلامِ؟!.
في إفريقيا: الحبشة
كانت الحبشة على المذهب "المنوفيسى" المصري للنصرانية، والعجيبُ أنها على تنصرها كانت تعبد أوثاناً كثيرة، استعارت بعضها من الهمجية، فخلطت هذا بذاك.ولم تكن أمةٌ ذات روح في الدين، أو طموح في الدنيا، حتى إنه لم يكن لها استقلال بأمورها الدينية, إنما هي تابعة لكرسي الإسكندرية.
مصر
على عراقة حضارتها, وكثرة خيراتها، إلا أن مصر قد طُحِنت في عهد الرومان بين استبدادٍ سياسيٍّ، واستغلال اقتصاديٍّ، واضطهاد دينيٍّ. ففي مجال السياسة لم يكن لها من أمرِها شيءٌ، ومجال الاقتصاد لم تعرف عنها روما سوى أنها شاةٌ حلوبٌ تستنزفُ مواردَها، وتمتصُّ دَمَهَا, وكانت ضرائبُهم الباهظة على كُلِّ شيء، حتى على النُّفوسِ، وكان فَلَّاحُو مصر يكدحُون لرفاهيةِ وترف الحفـنةِ الباغيةِ في روما، والعجيبُ أنَّ الحرب الشرسة التي قامت بين المصريين والرُّومان، لم يكن القصد منها التحرر السياسي، أو البحث عن العدل الاقتصادي، إنما كانت نارًا تذكِّيها الخلافاتُ الدينيةُ، والمجادلات العقيمة. كان الناس لا يأبهون إلا بخلافِ العقيدةِ، يُخاطِرون في سبيلِها بحياتِهم، ويتعرَّضُون من أجلها في عشر سنين لما ذاقته أوروبا في عهد التفتيش لعقودٍ عديدةٍ، وقع خلال هذه الحرب ما تقشعر منه الجلودُ من تعذيبٍ وإغراقٍ، وإحراقٍ بالمشاعل، وتفنن في الإبادة والتعذيب، حتى إنهم كانوا يصفون المصريين في أكياس الرمل ثم يلقون بهم في اليم. وبالجملة لم تعرف مصرُ النصرانيةُ في عهد روما المسيحيةِ إلا أشدَّ الشَّقاءِ، وأقسى العذابِ.
يتبـــــــــع.........
الحَالَةُ السِّيَاسِيَّةُ في بِلَادِ العَرَبِ قبل البعثة
إن مُجمل القول في الحالة السياسية في بلاد العرب هو أن بلاد العرب-وهي شبه جزيرة لوقوعها بين ثلاثة أبحر؛ الأحمر غرباً، والهندي جنوباً، والخليج شرقاً-من المناطق السياسية ذات الأثر على الحياة الاجتماعية. ففي اليمن حيث ملوك حمير من التبابعة وغيرهم. والحيرة شرقاً إلى العراق حيث المناذرة، والشمال حيث الغساسنة. أما الوسط وهو نجد والحجاز وتهامة فإنه دائرة المجد، وموضع طلوع الفجر، فأرض حماها مولاها من شطوة الجبابرة، وسياسة المتاجرة، فلم تصل إليها يدُ الأحباش، ولا يدُ الفوارس، ولا يد الروم ولا الرومان؛ لأنها مشرق الأنوار، ومكمن الأسرار، وعما قريب يطلع نجمُها ويعلو كعبها، وتسود الدنيا وما فيها. فالبلاد اليمانية: تداولتها ملوك حِمْيَرْ من التبابعة, كما حكمها في فترات ملوك الأحباش مباشرة أحياناً، وبواسطة أبنائها أحياناً أخرى، وقد عظم ملك اليمانيين أحياناً حتى غزوا الشرق ووصلت طلائع جنودهم إلى بلاد فارس متجاوزة أرض العراق إلى أعماق الشرق. وآخر ملوكهم ذو نواس وهو صاحب الأخدود وكان يهوديَّ العقيدة، فكان آخر ملوك حمير ببلاد اليمن. كما أن آخر ملوك التبابعة باليمن كان أبا كرب تبّان بن أسعد الذي غزا المدينة ودخل مكة وكسا الكعبة المشرفة وعاد إلى اليمن، وهلك بها. وأما المناذرة بالحيرة فإن ملوكهم وآخرهم النعمان بن المنذر كانوا تابعين في الغالب لملوك إيران. وكذلك الحال بالنسبة إلى الغساسنة بأرض الشام فإنهم تابعون في الغالب لملوك الروم. مع العلم بأن ملوك الحيرة كملوك الشام أصلهم يمنيُّون نزحوا من اليمن بعد خراب سد مأرب، بواسطة سيل العرم، والأوس والخزرج بالمدينة النبوية, وطيئ بجبل طيئ شمالاً الكل من مهاجري اليمن بعد خراب سدهم الذي كان مصدر غناهم وثروتهم، إذ أرسل الله تعالى عليهم سيل العرم عقوبة لهم بعدما ظلموا. قال تعالى :{ لَقَدْ كَاَنَ لِسَبَأٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَتَانِ عَنْ يَمِنِنْ وَشِمَاَلٍ } إلى قوله-تعالى-:{ فَأَعْرَضُوا} أي عن طاعة الله وطاعة رسوله { فَأرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمْ }. وأما العدنانيون وهم سكان مكة وما حولها من ديار تهامة والحجاز فمجمل القول في الحالة السياسية عندهم: أن قبيلة جرهم التي استوطنت مكة مع هاجر أم إسماعيل وعاشت زمناً في ظِل حكم إسماعيل وأحفاده إلى أن استولت على الحكم بمكة وانتزعته من يد أبناء إسماعيل-عليه السلام- وبقي الحكم في جرهم إلى أن جارت وظلمت واستحلت المحرَّم في مكة فسلَّط الله-تعالى-عليها كما هي سنته في الظالمين المعرضين عن طاعة الله وطاعة رسوله- بني بكر من كنانة، وغبشان خزاعة, فأجلوهم عن مكة وهم يبكون فالتحقوا باليمن ديارهم الأولى والأبيات التالية ترسم صورة صادقة لجرهمم بمكة, وحزنها عند جلائها عنها:
وقائــلةٍ والجمـعُ سَكْــبٌ مبــادِرٌ وقد شَرِقَتْ بالدَّمعِ منها المحاجِرُ
كأنْ لم يكنْ بينَ الحَجُونِ إلى الصَّفَا أنيسٌ ولم يَسْمـُرْ بمـكَّة سَـامـِرُ
فقلتُ لـها والقلــب منــي كـأنـما يُلجْلِـجهُ بـين الجناحـينِ طـائـرُ
بلى ، نحن كُنَّـا أهلـها فـأزالـــنا صُرُوفُ الليالي والجدودُ العـواثـرُ
وكٌنَّا ولاة البيـت مـن بعـد نـابتٍ يطوفُ بذاك البيتِ والخيرُ ظاهرُ
ونحن وَلينا البيت من بعد نـابت بعـزٍّ فما يحظى لديـنا المـكاثـرُ
ملكـنا فعـززنـا فأعظـم بمـلكـنا فلـيس َ لِحَيّ غيـرنـا ثـَمّ فاخرُ
إلـــى أن قــــــال :
وصرنا أحاديثاً وكنا بغبطةٍ بذلك عَفَّتنا السنـــونُ الغوابرُ
فسحَّت دموعُ العينِ تبكي لِبَلْدَةٍ بها حَرَمٌ أمْنٌ وفيها المشــاعِرُ
وتبكي لبيتٍ ليس يُؤذي حمامةً يظــلُّ بـه آمـناً وفيه العصافرُ
وفيه وحوشٌ لا تُرامُ أنيسةٌ إذا خرجتْ منه فليست تُغــادَرُ
زعيم القبيلة
كان سكان الجزيرة العربية ينقسمون إلى بدو، وحضر، وكان النظام السائد بينهم هو النظام القبلي، حتى في الممالك المتحضرة التي نشأت بالجزيرة، كمملكة اليمن في الجنوب ومملكة الحيرة في الشمال الشرقي، ومملكة الغساسنة في الشمال الغربي، فلم تنصهر الجماعة فيها في شعب واحد، وإنما ظلت القبائل وحدات متماسكة والقبيلة العربية مجموعة من الناس، تربط بينها وحدة الدم } النسب{ ووحدة الجماعة، وفي ظل هذه الرابطة نشأ قانون عرفي ينظم العلاقات بين الفرد والجماعة، على أساس من التضامن بينهما في الحقوق والواجبات، وهذا القانون العرفي كانت تتمسك به القبيلة في نظامها السياسي والاجتماعي. وزعيم القبيلة ترشحه للقيادة منزلته القبلية وصفاته، وخصائصه من شجاعته ومروءة وكرم ونحوها، ولرئيس القبيلة حقوق أدبية ومادية، فالأدبية أهمها احترامه وتبجيله، والاستجابة لأمره، والنزول على حكمه وقضائه، وأما المادية فقد كانت له في كل غنيمة تغنمها } المرباع { وهو ربع الغنيمة، و} الصفايا{ وهو ما يصطفيه لنفسه من الغنيمة قبل القسمة، و}النشيطة { وهي ما أصيب من مال العدو قبل اللقاء، و} الفضول{ وهو ما لا يقبل القسمة من مال الغنيمة، وقد أجمل الشاعر العربي ذلك بقــــــولــــــه :
لك المِرباعُ فينا، والصَّفايا وحُكمُك ، والنَّشِيطةُ ، والفضولُ
ومقابل هذه الحقوق واجبات ومسئوليات، فهو في السلم جواد كريم ، وفي الحرب يتقدم الصفوف، ويعقد الصلح ، والمعاهدات. والنظام القبلي تسود فيه الحرية، فقد نشأ العربي في جو طليق، وفي بيئة طليقة، ومن ثم كانت الحرية من أخص خصائص العرب، ويعشقونها ويأبون الضيم والذل وكل فرد في القبيلة ينتصر لها، ويشيد بمفاخرها، وأيامها ، وينتصر لكل أفرادها محقاً أو مبطلاً ، حتى صار من مبادئهم : } انصر أخاك ظالماً، أو مظلوماً { وكان شاعرهم يقــــــول :
لا يسألون أخاهُم حينَ يَندبهمْ في النائباتِ على ما قالَ بُرهاناً
والفرد في القبيلة تبع للجماعة، وقد بلغ من اعتزازهم برأي الجماعة أنه قد تذوب شخصيته في شخصيتها،
قال دُريدُ بن الصَّمـــــــة :
وهل أنا إلاَّ من غُزيَّة إن غوَت غويتُ وإنْ ترشُد غُزيَّة أرشُدِ
وكانت كل قبيلة من القبائل العربية لها شخصيتها السياسية وهي بهذه الشخصية كانت تعقد الأحلاف مع القبائل الأخرى، وبهذه الشخصية أيضاً كان تشن الحرب عليها، ولعل من أشهر الأحلاف التي عقدت بين القبائل العربية، حلف الفضول، } حلف المطيبين{ وكانت الحروب بين القبائل على قدم وساق، ومن أشهر هذه الحروب حرب الفجار، وكان – عدا هذه الحروب الكبرى – تقع إغارات فردية بين القبائل تكون أسبابها شخصية أحياناً، أو طلب العيش أحياناً أخرى، إذ كان رزق بعض القبائل في كثيرٍ من الأحيان في حد سيوفها، ولذلك ما كانت القبيلة تأمن أن تنقض عليها قبيلة أخرى في ساعة ليلى أو نهار لتسلب أنعامها ومؤنها، وتدع ديارها خاوية كأن لم تسكن بالأمس.
مِنْ زُعَمَاءِ الجَزِيْرَةِ المشهورينَ
قُصَي بن كِلَاب
بعد مرور زمن طويل ومكة يحكمها بنو بكر وغبشان خزاعة أي من يوم انتزعوا الحكم من يد جرهم تغلبت غبشان خزاعة على بني بكر واستقلوا بالولاية وتداولوها زمناً، وكان آخر من وليها منهم حُليل بن حُبْشِيّة بن سلول الخزاعي، فخطب ابنته حُبّى قصي بن كلاب فزوّجه إياها فولدت له عبد الدار، وعبد مناف, وعبد العزّى، وعبداً وكبروا وكثر مالهم وعظم شرفهم، ومات حُليُل فرأى قُصي أنه وبنيه أولى بولاية الكعبة فكلم رجالاً من قريش وبنى كنانة طالباً نصرتهم فأعانوه على إخراج خزاعة وبني بكر انتهى بصلح وتحكيم عمرو بن عوف الكناني، كانت نهاية ولاية قصي على مكة والكعبة فجمع قصي قومه من قريش من منازلهم إلى مكة وملكوه فكان أول أمير من قريش في مكة المكرمة، وكانت له الحجابة والسقاية وجمع قصي قبائل قريش في مكة والحرم ، وبذلك سُمّي مُجمعاً ، وفيه يقـــول الشاعـــــــر :
قصي لعمري كان يدعى مجمعا به جمع الله القبائل من فهر
حقائق وعبر :
من استعراضنا للحالة السياسية في بلاد العرب نستخلص الحقائق التالية :
1. إن البلاد اليمانية اعتورتها حكومات متعددة أعظمها حكومات التبابعة من قبيلة حمير .
2. إن كلاً من الأحباش والفوارس قد استعمروا اليمن بواسطة اليمنيين الذين يستنجدونهم في ظروف معينة.
3. شرق الجزيرة من الحيرة إلى العراق لم يكن في الحقيقة إلا ولايات تابعة للحكم الفارسي طيلة الدهر حتى جاء الإسلام، وأن ملوك المناذرة لم يكونوا مستقلين في الغالب، وإنما هم تابعون سياسياً للحكم الفارسي المجوسي .
4. شمال الجزيرة كشرقها لم يكن فيه في الغالب حكم عربي خالص، وإنما كان تابعاً لحكم الروم والغساسنة فيه كالمناذرة في الشرق سواء بسواء.
5. وسط الجزيرة حيث الحرم وما جاوره من ديار العرب العدنانيين كان مستقلاً لم يحكمه الروم ولا فارس ولا الأحباش كرامة الله تعالى لحرمه وحرم حبيبه محمد-صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ-وسكانهما وجيرانهما.
وفي هذه المقطوعة من العبر ما يلي :
1. إن الظلم لا يدوم وإن طال زمانه سنة الله ولن تجد لسنة الله تبديلاً
2. حماية الله لبلده وحرمه بإهلاك وإبعاد كل من يظلم فيهما ويستبيح المحرم فيهما.
3. من فضائل قريش الرفادة والسقاية؛ إذ الرفادة هي جمع المال من أفراد القبائل القرشية سنوياً وإنفاقه في إطعام الحجاج كل عام والسقاية كذلك وهي: إحضار الماء محلّى أحياناً بالزبيب وسقي الحُجّاج أيام حجهم من كل عام .
يتبــــــــــع..........
الحالة الاجتماعية عند العرب قبل البعثة النبوية
مجتمع تفكّكت أوصاله، وانحلَّت أواصره، وتحطّمت جدرانه، هو مجتمع لم يبق له من صفة المجتمعات إلا الاسم فحسب. هكذا كان الحال في مجتمع العرب الجاهلي حين أصابته الأدواء الاجتماعية، فلم تتركه إلا وقد أصبح حطامـًا، انتشر فيهم الزنا وفشا فيهم، حتى ما كانوا يستترون منه، إنما يعلقون على دوره الأعلام ويغشونها، وكانوا يئدون بناتهم خشية العار، ويقتلون أبناءهم خشية الفقر، يعاقرون الخمر، ويحتفون بها، حتى شغلت كثيرًا من أشعارهم، ويتبارون في مجالسهم الميسر، حتى يعدون عدم المشاركة فيها عارًا، وانحدرت أوضاع المرأة عندهم إلى قاع سحيق، وشاع فيهم الرق كقانون من قوانين الحياة، وأصاب بنيانهم التفكك الاجتماعي حتى تناثرت أشلاؤه، ثم أنت إذا عدوت تفتش عن مؤسساتهم الاجتماعية، في التعليم، والقضاء، والطب، وغيرها، لم تجد شيئًا يذكر، أو وجدت هياكل على عروشها، إذا ولجت فيها لم تظفر إلا بالخواء.
المرأة :
باستثناء بعض أوساط الأشراف الذين احتفظوا للمرأة بمكانتها بينهم، لم يكن للمرأة في أرض العرب حق يعترف به، أو قوة تستند إليها. إذا ولدت سبق النور إلى بصرها وجه أبيها وقد علاه الحزن، وكساه الهم العميق، وقد يقضى عليها دون ذنب أو جريرة ألا تستمر في الحياة أكثر من دقائق أو ساعات توأد بعدها، ويهال على وجهها البريء التراب، فإن فرت من خطر الوأد لم يبق لها إلا حياة هي أقرب للموت منها للحياة، فكانت التي لم توأد مرة تمتد بها الحياة لتوأد في كل يوم ألف مرة !! إن أراد وليها أن ينكحها فلا رأى لها أو نظر، وإن أراد زوجها أن يعلقها فيطلقها ثم يعيدها ثم يطلقها فيعيدها دون نهاية لذلك الوضع المهين، لم يبق لها إلا أن تستسلم وتنتظر، ثم إذا مات عنها زوجها ورثها مع متاعه ابنه أو أخوه، أو حبسها أهله لتكون في خدمتهم وطاعتهم، فإن أرادت أن تتاجر وتشارك الرجال أسواقهم، طفف معها في المكيال، وأصابها الظلم غير مستتر!، ثم هي مع هذا كله لا يحق لها طعام الرجال وشرابهم، إنما يتركون لها ما خلفته الموائد، وعافه النظر، فكأن المرأة في هذه الأرض ليست إلا وسيلة متعة لرجال ليس لها عندهم إلا الظلم والقسوة والبطر.
الرِّق :
قبل بزوغ شمس الحق-رسالة محمد-صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ- على الدنيا كان الرق واقعًا يسري بين الناس دون دهشة أو إنكار، في الدولة الرومانية وغيرها، بين اليهود الذين نظموا أساليب الاسترقاق وفقًا لتعاليم التوراة بزعمهم الباطل، وبين النصارى الذين يطالعون رسالة "بولس" إلى أهل أفسس فيقرؤون فيها: أيها العبيد أطيعوا سادتكم حسب الجسد بخوف ورعدة!! في بساطة قلوبكم للمسيح، ولا بخدمة العين كمن يرضي الناس، بل كعبيد المسيح،وهكذا كان شأن العرب، يسترقون الأحرار بحد السيوف في المعارك، أو بالخطب والحيلة والغدر في أحوال أخرى. ما كان أحد يتحدث عن الرقيق إلا باعتبارهم متاعًا يحق لسيده فيه التصرف كما يحلو له، حتى إن أراد أن يزهق روحه لم يلمه في ذلك لائم، أو يعتب عليه عاقل، تكره الإماء على ممارسة البغاء؛ ليحصل سادتها الأجور، ويساق العبيد إلى العمل الشاق كما تساق البهائم والشاء، والأعجب من هذا كله ألا يسمع بين الرقيق صوت لمعارض أو ممانع!! كيف وهم يعلمون أنها قوانين الحياة وطبيعتها!.
التفكُّك الاجتماعي :
لئن كانت صحراء الجزيرة العربية قد باعدت بين قبائل العرب وبطونها، فإن نظام العرب الاجتماعي كان أشد فرقة، وأكثر تشتتًا. لم يكن العربي يعرف سوى قبيلته، وما كانت تحركه سوى عصبيته الشديدة لها، يسالم من سالمت، ويحارب من حاربت، شعاره في ذلك المثل العربي القائل: انصر أخاك ظالمًا أو مظلومًا. هان دم العربي على العربي، ودفعتهم طبيعتهم البدوية لحروب ضروس، ومعارك شرسة، امتد بعضها عقودًا عدة، وما حركها وأشعل نارها سوى الأسباب التافهة، والعقول السمجة، ألوفًا من الأرواح أزهقتها حرب داحس والغبراء، وما أشعلها سوى رهان بين فرسين، وأربعون عامـًا من القتال بين بكر وتغلب، وما بدأها سوى قتل كليب لناقة البسوس. وما اكتفوا بتفرقهم القبلي فحسب، بل قسمهم ترفع بعض البيوت على بعض، حتى كان التفاوت الطبقي من مسلمات المجتمع العربي، والعجيب أن يقنن ذلك في شعائر الحج، فيسبق ناس آخرين في الإفاضة والإجازة، ولا يشاركونهم الوقوف بعرفة لعلو منزلتهم، وسمو شرفهم بزعمهم الأحمق!.
كانت في العرب أوساط متنوعة تختلف أحوال بعضها عن بعض، فكانت علاقة الرجل مع أهله في الأشراف على درجة كبيرة من الرقي والتقدم، وكان لها من حرية الإرادة ونفاذ القول القسط الأوفر، وكانت محترمة مصونة تُسَلُّ دونها السيوف، وتراق الدماء، وكان الرجل إذا أراد أن يمتدح بما له في نظر العرب المقام السامي من الكرم والشجاعة لم يكن يخاطب في معظم أوقاته إلا المرأة، وربما كانت المرأة إذا شاءت جمعت القبائل للسلام، وإن شاءت أشعلت بينهم نار الحرب والقتال، ومع هذا كله فقد كان الرجل يعتبر بلا نزاع رئيس الأسرة وصاحب الكلمة فيها، وكان ارتباط الرجل بالمرأة بعقد الزواج تحت إشراف أوليائها، ولم يكن من حقها أن تفتات عليهم.بينما هذه حال الأشراف، كان هناك في الأوساط الأخرى أنواع من الاختلاط بين الرجل والمرأة، لا نستطيع أن نعبر عنه إلا بالدعارة والمجون والسفاح والفاحشة. روى البخاري وغيره عن عائشة-رضي الله عنه. إن النكاح في الجاهلية كان على أربعة أنحاء: فنكاح منها نكاح الناس اليوم؛ يخطب الرجل إلى الرجل وليته أو ابنته فيصدقها ثم ينكحها، ونكاح آخر:كان الرجل يقول لامرأته إذا طهرت من طمثها: أرسلي إلى فلان فاستبضعي منه،ويعتزلها زوجها ولا يمسها أبدًا حتى يتبين حملها من ذلك الرجل الذي تستبضع منه، فإذا تبين حملها أصابها زوجها إذا أحب، وإنما يفعل ذلك رغبة في نَجَابة الـولد، فكان هـذا النكاح يسمى نكاح الاستبضاع، ونكاح آخر: يجتمع الرهط دون العشرة، فيدخلون على المرأة كلهم يصيبها، فإذا حملت، ووضعت ومرت ليال بعد أن تضع حملها أرسلت إليهم، فلم يستطع رجل منهم أن يمتنع حتى يجتمعوا عندها، فتقول لهم: قد عرفتم الذي كان من أمركم، وقد ولدت، فهو ابنك يا فلان، فتسمي من أحبت منهم باسمه، فيلحق به ولدها. لا يستطيع أن يمتنع منه الرجل، ونكاح رابع:يجتمع الناس الكثير فيدخلون على المرأة لا تمتنع ممن جاءها، وهن البغايا، كن ينصبن على أبوابهن رايات تكون علمًا، فمن أرادهن دخل عليهن، فإذا حملت إحداهن ووضعت حملها جمعوا لها، ودعوا لهم القافة، ثم ألحقوا ولدها بالذي يرون، فالتاطته به، ودعى ابنه، لا يمتنع من ذلك، فلما بعث الله محمدًا-صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ-بالحق هدم نكاح أهل الجاهلية كله إلا نكاح الإسلام اليوم. وكانت عندهم اجتماعات بين الرجل والمرأة تعقدها شفار السيوف، وأسنة الرماح، فكان المتغلب في حروب القبائل يسبي نساء المقهور فيستحلها، ولكن الأولاد الذين تكون هذه أمهم يلحقهم العار مدة حياتهم. وكان من المعروف في أهل الجاهلية أنهم كانوا يعددون بين الزوجات من غير حد معروف ينتهي إليه، حتى حددها القرآن في أربع. وكانوا يجمعون بين الأختين، وكانوا يتزوجون بزوجة آبائهم إذا طلقوها أو ماتوا عنها حتى نهى عنهما القرآن { وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ آبَاؤُكُم مِّنَ النِّسَاء إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاء سَبِيلاً حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالاَتُكُمْ وَبَنَاتُ الأَخِ وَبَنَاتُ الأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللاَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُم مِّنَ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَآئِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُم مِّن نِّسَآئِكُمُ اللاَّتِي دَخَلْتُم بِهِنَّ فَإِن لَّمْ تَكُونُواْ دَخَلْتُم بِهِنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلاَئِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلاَبِكُمْ وَأَن تَجْمَعُواْ بَيْنَ الأُخْتَيْنِ إَلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللّهَ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا} سورة النساء: 22، 23 وكان الطلاق والرجعة بيد الرجال، ولم يكن لهما حد معين حتى حددهما الإسلام. وكانت فاحشة الزنا سائدة في جميع الأوساط، لا نستطيع أن نخص منها وسطًا دون وسط، أو صنفًا دون صنف إلا أفرادًا من الرجال والنساء ممن كان تعاظم نفوسهم يأبى الوقوع في هذه الرذيلة، وكانت الحرائر أحسن حالًا من الإماء، والطامة الكبرى هي الإماء، ويبدو أن الأغلبية الساحقة من أهل الجاهلية لم تكن تحس بعار في الانتساب إلى هذه الفاحشة، روى أبو داود عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قام رجل فقال: يا رسول الله، إن فلانًا ابني عاهر بأمه في الجاهلية، فقال رسول الله-صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ- : (لا دعوة في الإسلام، ذهب أمر الجاهلية، الولد للفراش وللعاهر الحَجَر) الدراية في تخريج أحاديث الهداية(2/73) أما قوله الولد للفراش وللعاهر الحجر، فقد رواه مسلم ، والبخاري،والترمذي، وابن حبان، وغيرهم. وقصة اختصام سعد بن أبي وقاص وعبد بن زَمْعَة في ابن أمة زمعة ـ وهو عبد الرحمن بن زمعة ـ معروفة. وكانت علاقة الرجل مع أولاده على أنواع شتى، فمنهم من يقول:
إنمــا أولادنــا بيننــا **** أكبادنا تمشى على الأرض
ومنهم من كان يئد البنات خشية العار والإنفاق، ويقتل الأولاد خشية الفقر والإملاق: {قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلاَدَكُم مِّنْ إمْلاَقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلاَ تَقْرَبُواْ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ } الأنعام: 151. ولكن لا يمكن لنا أن نعد هذا من الأخلاق المنتشرة السائدة، فقد كانوا أشد الناس احتياجًا إلى البنين ليتقوا بهم العدو..
أما معاملة الرجل مع أخيه وأبناء عمه وعشيرته فقد كانت موطدة قوية، فقد كانوا يحيون للعصبية القبلية ويموتون لها، وكانت روح الاجتماع سائدة بين القبيلة الواحدة تزيدها العصبية، وكان أساس النظام الاجتماعي هو العصبية الجنسية والرحم، وكانوا يسيرون على المثل السائر: (انصر أخاك ظالمًا أو مظلومًا) على المعنى الحقيقي من غير التعديل الذي جاء به الإسلام؛ من أن نصر الظالم كفه عن ظلمه، إلا أن التنافس في الشرف والسؤدد كثيرًا ما كان يفضي إلى الحروب بين القبائل التي كان يجمعها أب واحد، كما نرى ذلك بين الأوس والخزرج، وعَبْس وذُبْيان، وبَكْر وتَغْلِب وغيرها.
أما العلاقة بين القبائل المختلفة فقد كانت مفككة الأوصال تمامًا،وكانت قواهم متفانية في الحروب، إلا أن الرهبة والوجل من بعض التقاليد والعادات المشتركة بين الدين والخرافة ربما كان يخفف من حدتها وصرامتها. وأحيانًا كانت الموالاة والحلف والتبعية تفضي إلى اجتماع القبائل المتغايرة. وكانت الأشهر الحرم رحمة وعونًا لهم على حياتهم وحصول معايشهم. فقد كانوا يأمنون فيها تمام الأمن؛ لشدة التزامهم بحرمتها، يقول أبو رجاء العُطاردي: "إذا دخل شهر رجب قلنا: مُنَصِّلُ الأسِنَّة؛ فلا ندع رمحًا فيه حديدة ولا سهمًا فيه حديدة إلا نزعناه، وألقيناه شهر رجب. وكذلك في بقية الأشهر الحرم.
وقصارى الكلام أن الحالة الاجتماعية كانت في الحضيض من الضعف والعماية، فالجهل ضارب أطنابه، والخرافات لها جولة وصولة، والناس يعيشون كالأنعام، والمرأة تباع وتشترى وتعامل كالجمادات أحياناً، والعلاقة بين الأمة واهية مبتوتة، وما كان من الحكومات فجُلُّ همتها ملء الخزائن من رعيتها أو جر الحروب على مناوئيها.
يظهر من هذا العرض أن عادات العرب الاجتماعية كان فيها السيئ الرديء, وفيها الجيد المفيد.
انتهــى بعــون الله
شكرا أخي عز الدين على هذه الدراسة الوصفية الشاملة والتي استوفت معظم الجوانب التي ينبغي الوقوف عندها، لكن أرجو منك أن تزودني ببعض المراجع التي اعتمدت عليها في دراستك، لأنه عندي فصل في رسالتي يتحدث عن عادات القبائل العربية قبل البعثة المحمدية، وأرغب باثرائه بما تفضلت أنت بذكره - بعد اذنك طبعا-
مشكورا جدا جداا على المجهود
وشكرا مسبقا
زهرة القدس
2007-12-07, 17:26
موضوع رائع جدا
شكرا جزيلا لك أخي
جزاك الله خيرا
شكــرا لكم على الردود والتشجيع
vBulletin® v3.8.10 Release Candidate 2, Copyright ©2000-2025, TranZ by Almuhajir