امبراطور البحر1
2010-01-23, 15:40
سمعت أكثر من حالة عن بعض الشباب والشابات في كلياتنا, وجامعتنا العلمية؛ كالطب والهندسة وغيرها تركوا دراستهم وزهدوا فيها! والسبب عندهم أنها: علوم دنيوية, لا تنفع في الآخرة, وأنها وبال عليهم, وأنهم لو صرفوا أعنة الدراسة إلى العلوم الشرعية؛ لكان أجدى وأولى مما أضاعوا العمر فيه!.
وكأن هؤلاء الإخوة بنوا قناعاتهم على تصور مؤداه أن العلوم الدنيوية أو التقنية تتعارض مع الشرع في دراستها, وأنها تتقاطع مع الالتزام والقرب من الله عز وجل, أو أنها -على أقل تقدير- ليست مطلوبة شرعًا، ولا يلحق الأمة بتركها إثم ولا ملامة.
لقد دعا الإسلام إلى طلب العلم عامة؛ بل في بعض الآثار عند ابن ماجه, وغيره عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "طَلَبُ الْعِلْمِ فَرِيضَةٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ".
وفضّل الإسلام العالم على الجاهل ( قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ)[الزمر:9].
وفي القرآن ما يقارب سبعمائة وخمسين آية؛ تحث وتدعو إلى إعمال الفكر في هذا الكون, وما فيه من مخلوقات مسخرة للإنسان؛ هذا الكون الذي هو ميدان العلوم الطبيعية:
(إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ)[البقرة:164] .
(إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ)[آل عمران:190] .
(وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِلْعَالِمِينَ)[الروم:22].
(وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ)[الأنعام:97].
وأول ما نزل على محمد -صلى الله عليه وسلم- (اقْرَأ)، ولهذا قال العلماء: العلم أول واجب على المكلفين، وأوله العلم بالله ودينه وآياته, ولكن يدخل كل علم نافع من باب أن أول خطوة في أي ميدان هي العلم به, فكيف طاب لأمة (اقْرَأ) أن تضل في مهامه الجهل وأوديته، وأن تقعد عن المسابقة والسجال حين تقدمت أمم الأرض كلها في مضمار العلوم دون أن يكون لها تراث يحثها أو دين يحرضها؟!
وأي جسر يمكن أن يقام بين نصوص الشرع المطهر وبين الواقع الفاسد المليء بالجهالات والمفاهيم الخاطئة في حياة الأمة وعقولها؟!
والعلوم قسمان: علم دين, وعلم دنيا.
فعلوم الدنيا: هي العلوم التي يحصلها الإنسان؛ بممارسته البشرية وعمله فيما حوله من مخلوقات كونية, وتأمله ونظره وتفكيره في النواميس والسنن والقوانين الجارية.
ودراسة هذه العلوم الدنيوية والتقنية من الأهمية بمكان؛ لرقي الأمم والمجتمعات، فأمتنا بحاجة ماسّة لذلك، ولا يخفى على ذي بصيرة ما نعانيه من ضعف وتردٍ في هذه الناحية, وقد اعتنى الإسلام بهذا اللون وذكره الله –تعالى- في أكثر من موضع في القرآن.
( هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا )[هود:61].
أي: جعلكم ساكنيها, مدة أعماركم, وجعلكم عمّارها.
وكيف يعمر الإنسان الأرض وهو لا يعرف ما يصلح حياته, وما يفسدها؟!
وفي آية أخرى:
(فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ)[الجمعة:10], أي بالتجارة والتثمير والاقتصاد.
وقال: (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ)[الملك:15], وفي هذا إيماء للزرع واستغلال الأرض والسعي في الرزق والسير في الفجاج وتسهيل الاتصال. وفي المسند بسند صحيح مرفوعًا: "إِنْ قَامَتِ السَّاعَةُ وَبِيَدِ أَحَدِكُمْ فَسِيلَةٌ فَإِنِ اسْتَطَاعَ أَنْ لاَ يَقُومَ حَتَّى يَغْرِسَهَا فَلْيَفْعَلْ".
وفي مجال الطب مثلاً: عَنْ جَابِرٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ قَالَ: "لِكُلِّ دَاءٍ دَوَاءٌ فَإِذَا أُصِيبَ دَوَاءُ الدَّاءِ بَرَأَ بِإِذْنِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ". [رواه مسلم]
وفي البخاري عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - عَنِ النَّبِي -صلى الله عليه وسلم- قَالَ:"مَا أَنْزَلَ اللَّهُ دَاءً إِلاَّ أَنْزَلَ لَهُ شِفَاءً".
وفي المسند جَاءَ أَعْرَابِيٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم – فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ النَّاسِ خَيْرٌ؟
قَالَ: "أَحْسَنُهُمْ خُلُقاً".
ثُمَّ قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنَتَدَاوَى؟
قَالَ: "تَدَاوَوْا؛ فَإِنَّ اللَّهَ لَمْ يُنَزِّلْ دَاءً إِلاَّ أَنْزَلَ لَهُ شِفَاءً, عَلِمَهُ مَنْ عَلِمَهُ, وَجَهِلَهُ مَنْ جَهِلَهُ".
فسمى علم الطب علمًا وتركه جهلاً, وحفز العقول والنفوس إلى اكتشاف العلاجات واستعمالها... ببيان أنها موجودة وهذا حفز للبحث عنها.
فأمة هذا دينها وهذه نصوصها كيف يطيب لها أن تظل في عماية الجهالة بينما تقفز للصدارة أمم لا تراث لها ولا نص يحفزها؟
إن هذا لشيء عجاب!
وإذا كانت العلوم الدنيوية المدنية في أصلها تدخل في فروض الكفايات؛ إلا أنها تدخل في الواجب اليوم؛ وفي هذا العصر الذي يشهد صراعًا تقنيًّا لا مثيل له, ويشهد عجزًا إسلاميًّا مثيرًا للاستغراب.
فأمم الغرب تصل الليل بالنهار في تطوير علومها وآلياتها والاستفادة منها؛ للهيمنة على من حولها وما حولها.
ونحن نعيش حالة من التبعية يرثى لها! خاصة في العلوم الدنيوية؛ كالطب, والهندسة, والصناعة وغيرها... ومن أغرب صور تبعيتنا مثلاً: نظرية (دارون) في النشوء والارتقاء, والتي عفا عليها الزمن, ومع ذلك ما زالت تدرس في كثير من بلدان المسلمين على أنها من الحقائق العلمية! ولا سبيل لاستدراك ذلك إلا بالاعتصام بالله -عز وجل- أولاً, ثم بالتقدم في مثل هذه العلوم, والتبحر في مسالكها, والإبداع فيها.
فعصرنا عصر قوة, والقوي هو الذي يسن القانون ويمشي عليه, ويُلزم به غيره!
ولا يمكن لهذه الأمة أن يُقتَدى بها إلا إذا كانت قوية متقدمة؛ فكثيرًا ما يحجم الناس عن هذا الدين؛ لما يرونه من تردي حالة أبنائه, وتخلفهم الاقتصادي, والتقني، والعلمي, وانهماكهم في ألوان من السخف والباطل وما ينتجه فراغ العقل والروح!
ولقد قرر الأئمة كالشاطبي وغيره, وحكى بعض الأصوليين الإجماع عليه أن الإسلام جاء للمحافظة على الضرورات الخمس: الدين، والنفس، والعرض، والمال، والعقل.
وهذه الضرورات لا تتم المحافظة عليها إلا بامتلاك ناصية العلم المادي البشري الصحيح، وحسن توظيفه لحراسة الدين، وسعادة الدنيا.
فالطب مثلاً هو سبيل حفظ البدن من الأمراض, ولذلك قدر علماء السلف مهنة الطب حق قدرها!
فنسب إلى الشافعي قوله: "إنما العلم علمان: علم الدين، وعلم الدنيا؛ فالعلم الذي للدين هو الفقه، والعلم الذي للدنيا هو الطب".
وفي رواية ثانية عنه؛ قال: "لا أعلم بعد الحلال والحرام أنبل من الطب، إلاَّ أنّ أهل الكتاب قد غلبونا عليه".
وفي رواية ثالثة عنه أنه كان يتلهف على ما ضيع المسلمون من الطب ويقول: "ضيعوا ثلث العلم ووكلوه إلى اليهود والنصارى" [آداب الشافعي ومناقبه للرازي].
ولا يخفى على دارس وجود المنهج التجريبي في العلوم الدنيوية, وهو قائم على الدراسات المقارنة والملاحظات الدقيقة الطويلة, وهذا داخل في التفكر في الخلق (وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ)[آل عمران:191].
فإذا أحسنت النية في مثل هذه العلوم؛ عادت بالأثر الإيجابي الفعّال في تقوية الإيمان بالله, وتعزيز الأدلة الشرعية الدامغة على وجود خالقنا العظيم -عز وجل-, وكذلك إيضاح وبيان المعاني القرآنية العلمية وبيان إعجازها العلمي مما له أثر كبير في دعوة غير المسلمين, أو تثبيت إيمان المؤمنين, وقد يفلح المتخصص في الاقتصاد في دعم النظام الإسلام اللاربوي بما لا يقدر عليه الفقيه, والشريعة أصلاً إنما جاءت لحماية الحياة من الانحراف وتشجيع الإنتاج والانجاز والعمل حتى عد من الطاعات والصالحات وضروب الإحسان.
إن الأخذ بالأسباب هو من عقيدتنا قال تعالى: (وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً (84) فَأَتْبَعَ سَبَباً)[الكهف:84-85].
فعدم الأخذ بالأسباب قدح في الشرع, ومن تأمل هدي النبي -صلى الله عليه وسلم- ألفاه آخذًا بالأسباب؛ من بداية هجرته إلى قبيل موته -صلى الله عليه وسلم-.
والتقدم في علوم الدنيا والتقنية وغيرها هو من أخذ الأسباب, والرقي بالأمة.
وكثير من صور تخلفنا وانهزامنا إنما هو نابع من تأخرنا في المجال العلمي, وقلة الوعي العام, وعدم إدراك العلاقة الصحيحة بين الأسباب والنتائج.
وقد حفل تاريخ المسلمين بألوان من الإبداع العلمي والإنجاز الحضاري الذي ورث منتج الأمم السابقة ورعاه وطوره وحاول إحكام الهدف الأخلاقي من ورائه, وشكل العلم الإسلامي حلقة بالغة الأهمية في مسيرة الحضارة الإنسانية التراكمية, وعرف المسلمون أسماء كثيرة لامعة في مجال العلوم المادية, كانت محل حفاوة الأمة جميعًا وحتى مؤرخو الغرب يدينون بذلك.
يقول (كونستان جيورجيو): " لا يمكن أن نجد دينًا يحتل العلم والمعرفة فيه محلاًّ بارزًا كما كان الأمـر في الإســلام".
ويقول المؤرخ الإنجليزي (ويلز): "كل دين لا يسير مع المدنية في كل أطوارها؛ فاضرب به عرض الحائط، وإن الدين الحق الذي وجدته يسير مع المدنية أينما سارت؛ هو الإسلام … ومن أراد الدليل فليقرأ القرآن وما فيه من نظرات ومناهج علمية، وقوانين اجتماعية، فهو كتاب دين وعلم واجتماع وخلق وتاريخ، وإذا طُلبَ مني أن أحدّد معنى الإسلام فإني أحدده بهذه العبارة (الإسلام هو المدنيّة)".
ويقول العلامة (جورج سارتون): "المسلمون عباقرة الشرق، لهم مأثرة عظمى على الإنسانية، تتمثل في أنهم تولّوا كتابة أعظم الدراسات قيمة، وأكثرها أصالة وعمقًا، مستخدمين اللغة العربية التي كانت بلا مراء لغة العلم للجنس البشري".
وتقول الدكتورة (لويجي رينالدي): "لما شعرنا بالحاجة إلى دفع الجهل الذي كان يثقل كاهلنا؛ تقدمنا إلى العرب ومددنا إليهم أيدينا؛ لأنهم كانوا الأساتذة الوحيدين في العالم".
ويقول (روم رولان): "تفرد العلم الإسلامي بأنه لم ينفصل عن الدين قط؛ والواقع أن الدين كان ملهمه وقوته الدافعة الرئيسة؛ ففي الإسلام ظهر العلم لإقامة الدليل على الألوهية".
ويقول (غوستاف لوبون): "إن حضارة العرب المسلمين قد أدخلت الأمم الأوربية الوحشية في عالم الإنسانية، فلقد كان العرب أساتذتنا … وإن جامعات الغرب لم تعرف لها موردًا علميًّا سوى مؤلفات العرب، فهم الذين مدّنوا أوربا مادة وعقلاً وأخلاقًًا، والتاريخ لا يعرف أمة أنتجت ما أنتجوه …".
لكننا نجد خللاً وتقصيرًا في العناية في توجيه المسلمين إلى أن القرآن يُعنى بهذا الجانب من العلوم التي فيها تسخير ما في الكون لخدمة الإنسان الذي من حكمة وجوده على الأرض أن يعمرها.
وكما أسلفت أن حالة الضعف والتأخر العلمي؛ جعلت المسلمين تبعًا لغيرهم في هذا المضمار؛ بل أصبحنا في كثير منها عالة عليهم في بعثاتنا العلمية, وفي معلوماتنا وأدوات بحثنا.
كما أننا في كثير من النواحي نجد انفكاكًا في الروابط والتعاون بين المبدعين في العلوم الطبيعية وبين علماء الشريعة؛ مما صنع هوة سحيقة بين الميدانين؛ وكأن هذا لا علاقة له بذاك!.
والواقع أن العلاقة بين العلوم التقنية والطبيعية وبين علوم الشريعة هي علاقة ترابط وتكامل؛ فمعطيات العلم الحديث تتناغم مع ما جاء في القرآن من توجيه نحو إعمار الأرض واستغلالها بكافة نواحيها.
ويجدر أن نقول: إن التخلف العلمي والتقني الذي نعيشه مع التقدم الهائل عند الغرب له أثر سلبي عميق على نفوسنا وعزائمنا -خاصة شبابنا-؛ حيث الشعور بالانهزامية, والاندحار الذاتي أمامهم, وأننا لا نستطيع أن نقدم شيئاً, مما يولد حالة من الانهيار الأخلاقي والقيمي, وترسيم الغرب على أنهم هم المثال الذي يجب أن يُحتذى ويقتدى به في كل شيء؛ حتى في الأخلاقيات المتردية التي يعاني هو منها!
فحقيق بشبابنا أن يتنبهوا إلى هذه الحقائق، وأن يدركوا مدى الخطر المحدق بالأمة وكيفية النهوض بها.
إن أمر الشريعة يحتم علينا فتح باب المجاهدة الصادقة في الحياة والبناء والتعمير والتنمية بدافع من طاعتنا لربنا أولاً, وبإدراك صحيح صادق لمصلحتنا الدينية والدنيوية, ثانيًا.
ولتحقيق الامتناع عن الذوبان والانهيار أمام تحديات الحضارة في عصر العولمة.
وكأن هؤلاء الإخوة بنوا قناعاتهم على تصور مؤداه أن العلوم الدنيوية أو التقنية تتعارض مع الشرع في دراستها, وأنها تتقاطع مع الالتزام والقرب من الله عز وجل, أو أنها -على أقل تقدير- ليست مطلوبة شرعًا، ولا يلحق الأمة بتركها إثم ولا ملامة.
لقد دعا الإسلام إلى طلب العلم عامة؛ بل في بعض الآثار عند ابن ماجه, وغيره عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "طَلَبُ الْعِلْمِ فَرِيضَةٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ".
وفضّل الإسلام العالم على الجاهل ( قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ)[الزمر:9].
وفي القرآن ما يقارب سبعمائة وخمسين آية؛ تحث وتدعو إلى إعمال الفكر في هذا الكون, وما فيه من مخلوقات مسخرة للإنسان؛ هذا الكون الذي هو ميدان العلوم الطبيعية:
(إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ)[البقرة:164] .
(إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ)[آل عمران:190] .
(وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِلْعَالِمِينَ)[الروم:22].
(وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ)[الأنعام:97].
وأول ما نزل على محمد -صلى الله عليه وسلم- (اقْرَأ)، ولهذا قال العلماء: العلم أول واجب على المكلفين، وأوله العلم بالله ودينه وآياته, ولكن يدخل كل علم نافع من باب أن أول خطوة في أي ميدان هي العلم به, فكيف طاب لأمة (اقْرَأ) أن تضل في مهامه الجهل وأوديته، وأن تقعد عن المسابقة والسجال حين تقدمت أمم الأرض كلها في مضمار العلوم دون أن يكون لها تراث يحثها أو دين يحرضها؟!
وأي جسر يمكن أن يقام بين نصوص الشرع المطهر وبين الواقع الفاسد المليء بالجهالات والمفاهيم الخاطئة في حياة الأمة وعقولها؟!
والعلوم قسمان: علم دين, وعلم دنيا.
فعلوم الدنيا: هي العلوم التي يحصلها الإنسان؛ بممارسته البشرية وعمله فيما حوله من مخلوقات كونية, وتأمله ونظره وتفكيره في النواميس والسنن والقوانين الجارية.
ودراسة هذه العلوم الدنيوية والتقنية من الأهمية بمكان؛ لرقي الأمم والمجتمعات، فأمتنا بحاجة ماسّة لذلك، ولا يخفى على ذي بصيرة ما نعانيه من ضعف وتردٍ في هذه الناحية, وقد اعتنى الإسلام بهذا اللون وذكره الله –تعالى- في أكثر من موضع في القرآن.
( هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا )[هود:61].
أي: جعلكم ساكنيها, مدة أعماركم, وجعلكم عمّارها.
وكيف يعمر الإنسان الأرض وهو لا يعرف ما يصلح حياته, وما يفسدها؟!
وفي آية أخرى:
(فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ)[الجمعة:10], أي بالتجارة والتثمير والاقتصاد.
وقال: (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ)[الملك:15], وفي هذا إيماء للزرع واستغلال الأرض والسعي في الرزق والسير في الفجاج وتسهيل الاتصال. وفي المسند بسند صحيح مرفوعًا: "إِنْ قَامَتِ السَّاعَةُ وَبِيَدِ أَحَدِكُمْ فَسِيلَةٌ فَإِنِ اسْتَطَاعَ أَنْ لاَ يَقُومَ حَتَّى يَغْرِسَهَا فَلْيَفْعَلْ".
وفي مجال الطب مثلاً: عَنْ جَابِرٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ قَالَ: "لِكُلِّ دَاءٍ دَوَاءٌ فَإِذَا أُصِيبَ دَوَاءُ الدَّاءِ بَرَأَ بِإِذْنِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ". [رواه مسلم]
وفي البخاري عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - عَنِ النَّبِي -صلى الله عليه وسلم- قَالَ:"مَا أَنْزَلَ اللَّهُ دَاءً إِلاَّ أَنْزَلَ لَهُ شِفَاءً".
وفي المسند جَاءَ أَعْرَابِيٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم – فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ النَّاسِ خَيْرٌ؟
قَالَ: "أَحْسَنُهُمْ خُلُقاً".
ثُمَّ قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنَتَدَاوَى؟
قَالَ: "تَدَاوَوْا؛ فَإِنَّ اللَّهَ لَمْ يُنَزِّلْ دَاءً إِلاَّ أَنْزَلَ لَهُ شِفَاءً, عَلِمَهُ مَنْ عَلِمَهُ, وَجَهِلَهُ مَنْ جَهِلَهُ".
فسمى علم الطب علمًا وتركه جهلاً, وحفز العقول والنفوس إلى اكتشاف العلاجات واستعمالها... ببيان أنها موجودة وهذا حفز للبحث عنها.
فأمة هذا دينها وهذه نصوصها كيف يطيب لها أن تظل في عماية الجهالة بينما تقفز للصدارة أمم لا تراث لها ولا نص يحفزها؟
إن هذا لشيء عجاب!
وإذا كانت العلوم الدنيوية المدنية في أصلها تدخل في فروض الكفايات؛ إلا أنها تدخل في الواجب اليوم؛ وفي هذا العصر الذي يشهد صراعًا تقنيًّا لا مثيل له, ويشهد عجزًا إسلاميًّا مثيرًا للاستغراب.
فأمم الغرب تصل الليل بالنهار في تطوير علومها وآلياتها والاستفادة منها؛ للهيمنة على من حولها وما حولها.
ونحن نعيش حالة من التبعية يرثى لها! خاصة في العلوم الدنيوية؛ كالطب, والهندسة, والصناعة وغيرها... ومن أغرب صور تبعيتنا مثلاً: نظرية (دارون) في النشوء والارتقاء, والتي عفا عليها الزمن, ومع ذلك ما زالت تدرس في كثير من بلدان المسلمين على أنها من الحقائق العلمية! ولا سبيل لاستدراك ذلك إلا بالاعتصام بالله -عز وجل- أولاً, ثم بالتقدم في مثل هذه العلوم, والتبحر في مسالكها, والإبداع فيها.
فعصرنا عصر قوة, والقوي هو الذي يسن القانون ويمشي عليه, ويُلزم به غيره!
ولا يمكن لهذه الأمة أن يُقتَدى بها إلا إذا كانت قوية متقدمة؛ فكثيرًا ما يحجم الناس عن هذا الدين؛ لما يرونه من تردي حالة أبنائه, وتخلفهم الاقتصادي, والتقني، والعلمي, وانهماكهم في ألوان من السخف والباطل وما ينتجه فراغ العقل والروح!
ولقد قرر الأئمة كالشاطبي وغيره, وحكى بعض الأصوليين الإجماع عليه أن الإسلام جاء للمحافظة على الضرورات الخمس: الدين، والنفس، والعرض، والمال، والعقل.
وهذه الضرورات لا تتم المحافظة عليها إلا بامتلاك ناصية العلم المادي البشري الصحيح، وحسن توظيفه لحراسة الدين، وسعادة الدنيا.
فالطب مثلاً هو سبيل حفظ البدن من الأمراض, ولذلك قدر علماء السلف مهنة الطب حق قدرها!
فنسب إلى الشافعي قوله: "إنما العلم علمان: علم الدين، وعلم الدنيا؛ فالعلم الذي للدين هو الفقه، والعلم الذي للدنيا هو الطب".
وفي رواية ثانية عنه؛ قال: "لا أعلم بعد الحلال والحرام أنبل من الطب، إلاَّ أنّ أهل الكتاب قد غلبونا عليه".
وفي رواية ثالثة عنه أنه كان يتلهف على ما ضيع المسلمون من الطب ويقول: "ضيعوا ثلث العلم ووكلوه إلى اليهود والنصارى" [آداب الشافعي ومناقبه للرازي].
ولا يخفى على دارس وجود المنهج التجريبي في العلوم الدنيوية, وهو قائم على الدراسات المقارنة والملاحظات الدقيقة الطويلة, وهذا داخل في التفكر في الخلق (وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ)[آل عمران:191].
فإذا أحسنت النية في مثل هذه العلوم؛ عادت بالأثر الإيجابي الفعّال في تقوية الإيمان بالله, وتعزيز الأدلة الشرعية الدامغة على وجود خالقنا العظيم -عز وجل-, وكذلك إيضاح وبيان المعاني القرآنية العلمية وبيان إعجازها العلمي مما له أثر كبير في دعوة غير المسلمين, أو تثبيت إيمان المؤمنين, وقد يفلح المتخصص في الاقتصاد في دعم النظام الإسلام اللاربوي بما لا يقدر عليه الفقيه, والشريعة أصلاً إنما جاءت لحماية الحياة من الانحراف وتشجيع الإنتاج والانجاز والعمل حتى عد من الطاعات والصالحات وضروب الإحسان.
إن الأخذ بالأسباب هو من عقيدتنا قال تعالى: (وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً (84) فَأَتْبَعَ سَبَباً)[الكهف:84-85].
فعدم الأخذ بالأسباب قدح في الشرع, ومن تأمل هدي النبي -صلى الله عليه وسلم- ألفاه آخذًا بالأسباب؛ من بداية هجرته إلى قبيل موته -صلى الله عليه وسلم-.
والتقدم في علوم الدنيا والتقنية وغيرها هو من أخذ الأسباب, والرقي بالأمة.
وكثير من صور تخلفنا وانهزامنا إنما هو نابع من تأخرنا في المجال العلمي, وقلة الوعي العام, وعدم إدراك العلاقة الصحيحة بين الأسباب والنتائج.
وقد حفل تاريخ المسلمين بألوان من الإبداع العلمي والإنجاز الحضاري الذي ورث منتج الأمم السابقة ورعاه وطوره وحاول إحكام الهدف الأخلاقي من ورائه, وشكل العلم الإسلامي حلقة بالغة الأهمية في مسيرة الحضارة الإنسانية التراكمية, وعرف المسلمون أسماء كثيرة لامعة في مجال العلوم المادية, كانت محل حفاوة الأمة جميعًا وحتى مؤرخو الغرب يدينون بذلك.
يقول (كونستان جيورجيو): " لا يمكن أن نجد دينًا يحتل العلم والمعرفة فيه محلاًّ بارزًا كما كان الأمـر في الإســلام".
ويقول المؤرخ الإنجليزي (ويلز): "كل دين لا يسير مع المدنية في كل أطوارها؛ فاضرب به عرض الحائط، وإن الدين الحق الذي وجدته يسير مع المدنية أينما سارت؛ هو الإسلام … ومن أراد الدليل فليقرأ القرآن وما فيه من نظرات ومناهج علمية، وقوانين اجتماعية، فهو كتاب دين وعلم واجتماع وخلق وتاريخ، وإذا طُلبَ مني أن أحدّد معنى الإسلام فإني أحدده بهذه العبارة (الإسلام هو المدنيّة)".
ويقول العلامة (جورج سارتون): "المسلمون عباقرة الشرق، لهم مأثرة عظمى على الإنسانية، تتمثل في أنهم تولّوا كتابة أعظم الدراسات قيمة، وأكثرها أصالة وعمقًا، مستخدمين اللغة العربية التي كانت بلا مراء لغة العلم للجنس البشري".
وتقول الدكتورة (لويجي رينالدي): "لما شعرنا بالحاجة إلى دفع الجهل الذي كان يثقل كاهلنا؛ تقدمنا إلى العرب ومددنا إليهم أيدينا؛ لأنهم كانوا الأساتذة الوحيدين في العالم".
ويقول (روم رولان): "تفرد العلم الإسلامي بأنه لم ينفصل عن الدين قط؛ والواقع أن الدين كان ملهمه وقوته الدافعة الرئيسة؛ ففي الإسلام ظهر العلم لإقامة الدليل على الألوهية".
ويقول (غوستاف لوبون): "إن حضارة العرب المسلمين قد أدخلت الأمم الأوربية الوحشية في عالم الإنسانية، فلقد كان العرب أساتذتنا … وإن جامعات الغرب لم تعرف لها موردًا علميًّا سوى مؤلفات العرب، فهم الذين مدّنوا أوربا مادة وعقلاً وأخلاقًًا، والتاريخ لا يعرف أمة أنتجت ما أنتجوه …".
لكننا نجد خللاً وتقصيرًا في العناية في توجيه المسلمين إلى أن القرآن يُعنى بهذا الجانب من العلوم التي فيها تسخير ما في الكون لخدمة الإنسان الذي من حكمة وجوده على الأرض أن يعمرها.
وكما أسلفت أن حالة الضعف والتأخر العلمي؛ جعلت المسلمين تبعًا لغيرهم في هذا المضمار؛ بل أصبحنا في كثير منها عالة عليهم في بعثاتنا العلمية, وفي معلوماتنا وأدوات بحثنا.
كما أننا في كثير من النواحي نجد انفكاكًا في الروابط والتعاون بين المبدعين في العلوم الطبيعية وبين علماء الشريعة؛ مما صنع هوة سحيقة بين الميدانين؛ وكأن هذا لا علاقة له بذاك!.
والواقع أن العلاقة بين العلوم التقنية والطبيعية وبين علوم الشريعة هي علاقة ترابط وتكامل؛ فمعطيات العلم الحديث تتناغم مع ما جاء في القرآن من توجيه نحو إعمار الأرض واستغلالها بكافة نواحيها.
ويجدر أن نقول: إن التخلف العلمي والتقني الذي نعيشه مع التقدم الهائل عند الغرب له أثر سلبي عميق على نفوسنا وعزائمنا -خاصة شبابنا-؛ حيث الشعور بالانهزامية, والاندحار الذاتي أمامهم, وأننا لا نستطيع أن نقدم شيئاً, مما يولد حالة من الانهيار الأخلاقي والقيمي, وترسيم الغرب على أنهم هم المثال الذي يجب أن يُحتذى ويقتدى به في كل شيء؛ حتى في الأخلاقيات المتردية التي يعاني هو منها!
فحقيق بشبابنا أن يتنبهوا إلى هذه الحقائق، وأن يدركوا مدى الخطر المحدق بالأمة وكيفية النهوض بها.
إن أمر الشريعة يحتم علينا فتح باب المجاهدة الصادقة في الحياة والبناء والتعمير والتنمية بدافع من طاعتنا لربنا أولاً, وبإدراك صحيح صادق لمصلحتنا الدينية والدنيوية, ثانيًا.
ولتحقيق الامتناع عن الذوبان والانهيار أمام تحديات الحضارة في عصر العولمة.