بن حمادي
2010-01-03, 13:25
إنها بشائر ليلة ماطرة نظر إلى السماء ليتأكد .. وأومأ موافقا ... وهو كذلك . لكن لا بأس.. فلقد أصلح صديقي الخفي المجهول النافذة المكسورة، وأحضر بطانية صوف جديدة... ( علامة أسى جارفة تمر بمحياه وتعلو تقاسيم وجهه المتجعد... تنتهي بزفرة خفيفة غير ذات معنى لمتنهد متحسر. وكأن لسان حاله يقول: ليتني أراه لأشكـــره ).
ينسحب المساء الغاضب المكفهر بسرعة كبيرة... ومضات البرق منذرة بقدوم العاصفة ... بدأ الجو يبرد رويدا رويدا يهرول المراهق راجعا إلى غرفته الباردة.. يفكر في قضاء ليلة أخرى مرعبة .. يتحسس بحذر مواقع الألم ... إن الأمور اليوم هادئة وعلى غير العادة . خبرته بالأوجاع جعلته يدرك لحظات الأسى والمعاناة قبل وقوعها. جعلته الآلام يحفظ الجو قبل عواصفها ... وبالمقارنة جدلا - فالآلام- هي اليوم لن تأتي ... انطلقت أسارير وجهه فرحا كمن أشاع كذبة وصدقها.. لديه اليوم بعض أعواد الحطب ،لقد جمعها بعناية من الحقول القريبة وكأنه يجمع باقة فل من حقول الياسمين.. كان يخطط لكل عود أوانه من الليلة ، بل كان يقدر زمن احتراقه وتمنى لو يجد طريقة ليحتسب كمية الدفء المنبعثة منه ،وكمية الرماد المترسبة .
وصل أخيرا إلى المنزل .. قبل أن تهب العاصفة ... توضأ ... صلى ... تعشى – عذرا- تناول قدر قبضتين من مسحوق التمر.. قش..قش.. قم ..قم... شتف.. وأتبعها بجرعة ماء طويلة من فم القنينة الخضراء، وأعاد ربط كيس التمر بعناية ... تسمرت اللقمة في فمه وتوقف عن كل حركة. وكأنه أصيب فجأة بالشلل ... ينظر إلى الخيط الذي يربط به فوهة الكيس ... إنه خيط قماش عادي ... سألته.... ( الطيف المجهول)
- هيه يا صاح إلى أين تنظر ؟!. (وأعلم أنه لا يسمعني).
ينتبه... ثم ما يلبث أن يعود إلى حالته متفحصا الخيط من جديد اعتقدت أنه يتوجس نوبة ألم قادمة.. فأساءتني هذه الفكرة حقا فأنا أدرك معنى نوبة الألم عنده وكنت منيت نفسي بأمسية هادئة وسألته بحزن وإنكار ..
- هل تحس بوجع ؟ هل تعاودك الآلام ؟ (... وتمنيت لو ينكر!.)
انطلقت أسارير وجهه عن ابتسامة هي والله نادرة على وجهه وكأنها لرضيع في مهده .. أقسم أنها أشعرتني بالدفء ... وبسطت الجو الخانق فأحالته إلى نور من أنوار الله... ومن يدرك حالته ووضعه يدرك وقع هذه البسمة على من يراها وكيف بي وأنا الطيف الذي ل يُرى.
ظهرت نواجذه قائلا :
- الخيط .
- (هذا الخيط !!)
نعم . . إنه من ثوب أمي .. عباءة قديمة جدا ... أذكرها يوم أن كانت نفساء بأخي الأصغر .. نعم إنه جزء من أمي .. أذكر بعناية تلك العباءة.. بأزهارها الحمراء والصفراء الكبيرة .. كانت يومها محط نظر كل العائلة ... أذكرها تماما ..متنقلة من غرفة لأخرى متأبطة الرضيع بيد والأخرى تحرك مرقا على النار...وكنت هناك ولا ريب .. أمسك بيدي هذه طرف فستانها من خلفا ... ألاحقها من غرفة لأخرى.. تمسك أخي الصغير بيد والأخرى تنشر الغسيل على الحبل في الصباح... الشمس مستلقية في باحة الدار وهي رافلة في ذاك الفستان تتعصب بمنديل أبيض مزركش بأزهار حمراء.. تربطه بمؤخرة رأسها... تحمل أخي الجديد في يد والأخرى تعلق الأغطية على عود علق في زاوية الغرفة..... إني أذكرها بوضوح... جالسة القرفصاء في الشمس قرب نعيجاتها الثلاث المربوطة في الشمس أسند رأسي إلى حجرها وأخي يبكي ... فترضعه ... وهي تغني أغنية جميلة حفرت كلماتها في ذاكرتي.. لم أنسها حتى وأنا في ساعات الاحتضار الطويلة... نعم كانت هناك ... تحتضن أخي الوليد ويداها تعالج طبق تمر يابس تنقى نواته كلمات أحببتها رغم جهلي لمعانيها كانت تقول:
- تمو غلالة تاويزا تقلي تقلـي . تقلي تؤرجحني بركبتها لعلي أنام... نعم تلك العباءة الخالدة ... هذا جزء منها. وقبل أن يتم كلامه هوى على الأرض كرضيع حالم.
ذلك الحلم الغريب . بطعم الصبا وحماس الطفولة وبأس الحال، كنت أهوى التواجد وحدي, وفي أوقات غريبة وفي نفس الأمكنة.. الحقول القريبة ،أين أجد الراحة في خلوات لذيذة يصفو خيالي وتنكشف الحياة عارية لناظريا، أين يمكنني أن أغدو صبيا ... لا يحفل بشيء سوى سويعات أنس أقضيها أقضيها رفقة تغاريد الطيور وخرير السواقي ، وروائح النباتات المختلفة. وقد يشطح بي الزمان وأستلقي على ما بقي من الكثيب المترهل . الذي غير الزمان شموخه وأحاله إلى تلة رمل متسخة بعد أن كان عرقا كبيرا يرى من بعيد... ولربما أغمضت عيناي .. وأتصورني طفلا أطارد الطيور المهاجرة بقوس في وسطه دودة ... وقد يحالفني الحظ وأصطاد من الطيور خمسة ... أهديهم كلهم لأمي فهي تحب مذاق الطيور التي اصطادها قائلة : إن مذاق الطيور الصغيرة لا يماثله أي طعم... وصدفة أجدني الآن أحاول تذكر ذاك الطعم .... لله ما أشهى الطيور الصغير .. وقد أفتح عيناي وأرى تلك البحيرة الجميلة أين كنت هناك أطارد الضفادع ... وقد أنزلق ... وتتسخ ملابسي ... فأنزعها كلها ... عفوا... وأغسلها على حافة الساقية في عجلة وأرمي بها للرمال لتجف وأثناء ذلك أدفن جسدي النحيل في الرمل الناعم. .. وقد أجتال على شجيرات جارنا .. نعم ذلك العجوز الحاد الطباع... الغاضب طيلة الوقت، وأقطف ثمار الرمان من شجيراته الكثيرة.
( يترك الطيف الخفي صديقه المراهق نائما في مهده ويغادر الغرفة قبل طلوع الشمس لأن الأطياف تخاف النهار .
لقد اشتد البرد في هذه المدينة وأصبح لا يطاق قضاء الليل فيها، الويل كل الويل لمن لا نار تضرم عند أقدامه... وأشتد مع البرد وقع المرض على المراهق .. فهو لم يعد يستطيع مغادرة غرفته الباردة ... ولم يعد في وسعي الاعتناء به، يجب أن يدرك أحد من بني جنسه – البشر- أن هناك أحد منهم يحتضر في كل ليلة مرتين.. ويجب أن يعلم جيرانه بمعاناته .. فلقد مللت أن آتي كل صباح لأجده ما يزال حيا.... فالموت رحمة به .. صدقا لقد أصابني هذا المخلوق بالعجز وحول كياني ... فإلى متى سأبقى هنا ... عليا الارتحال.... فالأطياف تفضل فصول الدفء والحرارة وفي فصل الشتاء ننام.
إنه الصبح أخيرا ... تتناثر قطرات المطر من أغصان الشجيرة ببطء بعد عاصفة الأمس العنيفة، فتشكلت بركة ماء صافية خلف الجدار الخلفي، آوت إليها ثلاث كلاب ضالة لتشرب أو تعبث.
بن حمادي عبد الرحمان
ينسحب المساء الغاضب المكفهر بسرعة كبيرة... ومضات البرق منذرة بقدوم العاصفة ... بدأ الجو يبرد رويدا رويدا يهرول المراهق راجعا إلى غرفته الباردة.. يفكر في قضاء ليلة أخرى مرعبة .. يتحسس بحذر مواقع الألم ... إن الأمور اليوم هادئة وعلى غير العادة . خبرته بالأوجاع جعلته يدرك لحظات الأسى والمعاناة قبل وقوعها. جعلته الآلام يحفظ الجو قبل عواصفها ... وبالمقارنة جدلا - فالآلام- هي اليوم لن تأتي ... انطلقت أسارير وجهه فرحا كمن أشاع كذبة وصدقها.. لديه اليوم بعض أعواد الحطب ،لقد جمعها بعناية من الحقول القريبة وكأنه يجمع باقة فل من حقول الياسمين.. كان يخطط لكل عود أوانه من الليلة ، بل كان يقدر زمن احتراقه وتمنى لو يجد طريقة ليحتسب كمية الدفء المنبعثة منه ،وكمية الرماد المترسبة .
وصل أخيرا إلى المنزل .. قبل أن تهب العاصفة ... توضأ ... صلى ... تعشى – عذرا- تناول قدر قبضتين من مسحوق التمر.. قش..قش.. قم ..قم... شتف.. وأتبعها بجرعة ماء طويلة من فم القنينة الخضراء، وأعاد ربط كيس التمر بعناية ... تسمرت اللقمة في فمه وتوقف عن كل حركة. وكأنه أصيب فجأة بالشلل ... ينظر إلى الخيط الذي يربط به فوهة الكيس ... إنه خيط قماش عادي ... سألته.... ( الطيف المجهول)
- هيه يا صاح إلى أين تنظر ؟!. (وأعلم أنه لا يسمعني).
ينتبه... ثم ما يلبث أن يعود إلى حالته متفحصا الخيط من جديد اعتقدت أنه يتوجس نوبة ألم قادمة.. فأساءتني هذه الفكرة حقا فأنا أدرك معنى نوبة الألم عنده وكنت منيت نفسي بأمسية هادئة وسألته بحزن وإنكار ..
- هل تحس بوجع ؟ هل تعاودك الآلام ؟ (... وتمنيت لو ينكر!.)
انطلقت أسارير وجهه عن ابتسامة هي والله نادرة على وجهه وكأنها لرضيع في مهده .. أقسم أنها أشعرتني بالدفء ... وبسطت الجو الخانق فأحالته إلى نور من أنوار الله... ومن يدرك حالته ووضعه يدرك وقع هذه البسمة على من يراها وكيف بي وأنا الطيف الذي ل يُرى.
ظهرت نواجذه قائلا :
- الخيط .
- (هذا الخيط !!)
نعم . . إنه من ثوب أمي .. عباءة قديمة جدا ... أذكرها يوم أن كانت نفساء بأخي الأصغر .. نعم إنه جزء من أمي .. أذكر بعناية تلك العباءة.. بأزهارها الحمراء والصفراء الكبيرة .. كانت يومها محط نظر كل العائلة ... أذكرها تماما ..متنقلة من غرفة لأخرى متأبطة الرضيع بيد والأخرى تحرك مرقا على النار...وكنت هناك ولا ريب .. أمسك بيدي هذه طرف فستانها من خلفا ... ألاحقها من غرفة لأخرى.. تمسك أخي الصغير بيد والأخرى تنشر الغسيل على الحبل في الصباح... الشمس مستلقية في باحة الدار وهي رافلة في ذاك الفستان تتعصب بمنديل أبيض مزركش بأزهار حمراء.. تربطه بمؤخرة رأسها... تحمل أخي الجديد في يد والأخرى تعلق الأغطية على عود علق في زاوية الغرفة..... إني أذكرها بوضوح... جالسة القرفصاء في الشمس قرب نعيجاتها الثلاث المربوطة في الشمس أسند رأسي إلى حجرها وأخي يبكي ... فترضعه ... وهي تغني أغنية جميلة حفرت كلماتها في ذاكرتي.. لم أنسها حتى وأنا في ساعات الاحتضار الطويلة... نعم كانت هناك ... تحتضن أخي الوليد ويداها تعالج طبق تمر يابس تنقى نواته كلمات أحببتها رغم جهلي لمعانيها كانت تقول:
- تمو غلالة تاويزا تقلي تقلـي . تقلي تؤرجحني بركبتها لعلي أنام... نعم تلك العباءة الخالدة ... هذا جزء منها. وقبل أن يتم كلامه هوى على الأرض كرضيع حالم.
ذلك الحلم الغريب . بطعم الصبا وحماس الطفولة وبأس الحال، كنت أهوى التواجد وحدي, وفي أوقات غريبة وفي نفس الأمكنة.. الحقول القريبة ،أين أجد الراحة في خلوات لذيذة يصفو خيالي وتنكشف الحياة عارية لناظريا، أين يمكنني أن أغدو صبيا ... لا يحفل بشيء سوى سويعات أنس أقضيها أقضيها رفقة تغاريد الطيور وخرير السواقي ، وروائح النباتات المختلفة. وقد يشطح بي الزمان وأستلقي على ما بقي من الكثيب المترهل . الذي غير الزمان شموخه وأحاله إلى تلة رمل متسخة بعد أن كان عرقا كبيرا يرى من بعيد... ولربما أغمضت عيناي .. وأتصورني طفلا أطارد الطيور المهاجرة بقوس في وسطه دودة ... وقد يحالفني الحظ وأصطاد من الطيور خمسة ... أهديهم كلهم لأمي فهي تحب مذاق الطيور التي اصطادها قائلة : إن مذاق الطيور الصغيرة لا يماثله أي طعم... وصدفة أجدني الآن أحاول تذكر ذاك الطعم .... لله ما أشهى الطيور الصغير .. وقد أفتح عيناي وأرى تلك البحيرة الجميلة أين كنت هناك أطارد الضفادع ... وقد أنزلق ... وتتسخ ملابسي ... فأنزعها كلها ... عفوا... وأغسلها على حافة الساقية في عجلة وأرمي بها للرمال لتجف وأثناء ذلك أدفن جسدي النحيل في الرمل الناعم. .. وقد أجتال على شجيرات جارنا .. نعم ذلك العجوز الحاد الطباع... الغاضب طيلة الوقت، وأقطف ثمار الرمان من شجيراته الكثيرة.
( يترك الطيف الخفي صديقه المراهق نائما في مهده ويغادر الغرفة قبل طلوع الشمس لأن الأطياف تخاف النهار .
لقد اشتد البرد في هذه المدينة وأصبح لا يطاق قضاء الليل فيها، الويل كل الويل لمن لا نار تضرم عند أقدامه... وأشتد مع البرد وقع المرض على المراهق .. فهو لم يعد يستطيع مغادرة غرفته الباردة ... ولم يعد في وسعي الاعتناء به، يجب أن يدرك أحد من بني جنسه – البشر- أن هناك أحد منهم يحتضر في كل ليلة مرتين.. ويجب أن يعلم جيرانه بمعاناته .. فلقد مللت أن آتي كل صباح لأجده ما يزال حيا.... فالموت رحمة به .. صدقا لقد أصابني هذا المخلوق بالعجز وحول كياني ... فإلى متى سأبقى هنا ... عليا الارتحال.... فالأطياف تفضل فصول الدفء والحرارة وفي فصل الشتاء ننام.
إنه الصبح أخيرا ... تتناثر قطرات المطر من أغصان الشجيرة ببطء بعد عاصفة الأمس العنيفة، فتشكلت بركة ماء صافية خلف الجدار الخلفي، آوت إليها ثلاث كلاب ضالة لتشرب أو تعبث.
بن حمادي عبد الرحمان