أبو تقي الدّين
2010-01-01, 23:05
عـاصفـة " السخـط "..
أوقفا شاحنـتيهما متجاورتين حذوى مقهى الطريق الصحراوي؛ الذي يخترق الصحراء الكبرى مثل ثعبان عنيد ؛ يشاكس الرمال ووهج القيظ والزوابع التي لا تكاد تنقطع حتى تنبعث مثل المارد من حيث لا يدري أحد...
" ما أشد غموض هذه الصحراء..وما أبسط أهلها ، نقيضان متضادان أو متتامان لا يعلم المرء حقيقة ذلك بالضبط ، تماما مثل الأبيض والأسود والظلمة والنور ، والمرأة والرجل ، والزهرة والشوك "
تعانقا عنـاق مـن لـم يـر صاحبـه منذ أعوام مديدة ، وسارا معا ويد كل منهما على كتف الآخر ، وارتفعت قهقهاتهما تكسر حدة صمت الصحراء وسكون الصيف بوطأته الثقيلة ودبقيته المقرفة.
اتجها نحو المقهى الصغير الذي لا تزيد مساحته على متـريـن فـي ثـلاثـة أمـتار، إلا أنه في الصيف تظلل جوانبه بعريش من أعواد القصب فيبدو أكبر من ذي قبل ، ويرش رمله الناعم بالماء حتى يخفف من أوار ريـح " الشهيلي " الذي يشتد في أواخر شهر جويلية وبدايات شهر أوت اللاهبة ، إنها مقدمات " السامة " بأيامها الأربعين والتي لا يخطىء عدها كبار السن يوما بيوم وليلة بليلة ، إلى أن تغدو في أواخرها شديدة الحر نهارا باردة ليلا ، فتنبسط السحنات وتشرئب قلوب أصحاب البساتين إلى عناق عراجين التمر؛ التي أتقنت صنع تبرجها هذه الريح اللاهبة وتلك ( السامة ) التي لا تخلف موعدها أبدا.
جلسا متقابلين تفصل بينهما طاولة خشبية متآكلة الحواف،وطلبا كوبين من الشاي الأخضر بسكر قليل، ثم
أخذا يتذكران مغامراتهما معا وما كان يلاقيانه من وعثـاء السفـر والـطريـق الطويـل ومفاجـآتـه الـكثيرة ، عطب الشاحنات ؛ نفاد الوقود؛رمال الزوابع التي تتكوم على أجزاء كبيرة من الطريق الصحراوي الوحيد
... الليالي المقمرة وسهرات الشاي وحكايات الجن والعفاريت والسحرة والكنوز الخفية.
وأكثـر مـا كان يـملح أحاديـثهـما ويـجعـل لـها نـكهة مثـيـرة ، حكايات الجنيات التي تعشق بعض السائقين فتخطفهم إلى عوالم مجهولة، يعود بعضهم منها ويذهب آخرون بغير رجعة ، ومن يعود يحكي عن أشياء مذهلة ومتعة خيالية لا يدرك كنهها، وشوق عارم إلى الأهل والأولاد الصغار، وقرار كثير منهم أن يهجر هذه المهنة اللعينة التي تؤدي أحيانا إلى الجنون.
جاء الحاج الطيب بكوبي الشاي فوق صينية صدئة؛تآكلت جوانبها ، ووضع الكوبين على الطاولة الخشبية
وهو يداعبهما:
- ألم تعثرا بعد على كنزكما المفقود..؟ أم أنكما ستتـزوجان جنيتين تحملانكما إلى الجنان الخضر والأنهار الجارية؟
لم يكن كلامه يخلو من سخرية تشوبها رغبة خفية في أن يكون كل ما يقوله ممكن الحدوث.
يردان عـليه بعبث ويمازحانه هنيهة إلى أن ينصرف عنهما إلى غيرهما من زبائن المقهى.. يسود بينهما صمت ثقيل ، يشغلانه بالتلذذ برشفات الشاي الأخضر " المركز" وتغرق أبصارهما في سراب الصحراء المذهل...
الشاي الأخضر "طقس" مـن طقوس أهل الجنوب الكثيرة ؛ التي لا تحلو الجلسات ولا يقام السمر الطويل إلى آخر ساعات الليل بدونه ، إنه مثل "القـات" عنـد سكان اليمـن و"النـارجيلة" في الـحـواري المصرية القديمـة.
يقول شعبان لصاحبه ورنة الحزن ترجف شفتيه المتشققتين:
- مسكين أخموخ لم يكن يعتقد يوما أن ستهزمه الصحراء،هذه الأم العقوق،إنه يعرفها شبرا شبرا ،وقطعها
الآف الـمرات وفي مختـلف الاتجاهات، وفي آخر مرة لقيته فيها قال لي كلاما غريبا ؛ شغلني أياما وليالي طويلة..فلم أدرك كنهه حتى وقع ما وقع في ذلك اليوم المشؤوم،عندما أخرجناه من داخل الـشاحنة متفسخا
.. لم نتعرف عليه إلا بعدما فتشنا جيوبه وعثرنا على بطاقة ههويته.
إنها كبوة الجواد النجيب..كانت الشاحنة غائصة إلى المنتصف تقربا في رمال شيطانية لا يستقر لها قرار،
صمت لحظة ليعدل من صوته المتهدج ،ويتحكم في رعشات الشفاه ..ثم أضاف:
- كل ما أخشاه هو مصير مشابه لمصير آخموخ..
أرسل" الأشقر" ضحكة مصطنعة وربت على كتفه وهو يمازحه :
- أنت لن تموت أبدا.. إنك مثل القط بسبع " أرواح ".
ولم ينتبها للسماء التي بدأت تحمر رويدا رويدا حتى غدت مثل برتقالة نضجت أكبر مما ينبغي.
قال شاب من رواد المقهى:
- يبدو أنها ستمطر هذه الليلة..
رد عليه شيخ هرم يفترش حصيرا مهترئا وهو يفتل دخينة "عرعار".
- ما زلت غرا يا فـتى.. هذه عاصـفة " السخط " .. إذا احـمـرت الـسماء ، وهوى فيض من دقيق التراب يقول الحكماء والمجربون من كبار السن أن حدثا مرعبا قد وقع.. أو أنه سيقع وأن الله غاضب من البشر.. اللهم لطفك يا لطيف.. اللهم لا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا.
سخر بعضهم من كلام هذا الشيخ..وأيده آخرون وبقيت فئة قليلة من حديثي السن على الحياد وقد ارتسمت على وجوههم علامات استفهام شتى..
جعل الشيخ يبل الدخينة بطرف لسانه ليحكم لفهـا .. ولمـا اسـتوت بـين أصـابـعـه وضعها عـلى زاوية فمه اليسرى
وضغــط على الوقادة، انبعث لهب أزرق متوهج ؛ زاده التهاب العرعار في طرف الدخينة توهجا.. سحب الدخينة من بين شفتيه ورمقـها بعيـنيه الذابلتيـن وهـو يقـلبها بيـن أصابـعه ، ثم نفث دفعة كثيفة من الدخان سرعان ما تبددت من حوله.
أعقبها ببصقة على الأرض ثم نهض يجرجر قدميه وهو يتمتم:
- يا ستار يا لطيف ... يا ستار يا لطيف.
بقي الصديـقان يـتجاذبـان أطراف الـحديـث حتى مالت الشمس إلى المغيب، وبدا الجو أكثر قتامة وحزنا ، نهض "الأشقر" مودعا صاحبه ثم قال له مداعبا:
- ماذا لو شغلت محرك الشاحنة وزحفت بها نـحوك لأدهـسك وأريحك من كل العذابات التي تنغص عليك عيشك.
أجابه شعبان في مرارة ويأس:
- تفعل خيرا.. لقد مللت الحياة وملتني..
- الآ تخاف ..؟
- لا..
الآ يرعبك الموت..؟
- أبدا..
- ألن تتزحزح من مكانك إذا رأيت الشاحنة تزحف نحوك ؟
- كلا.
كان رواد المقهى يسترقون السمع لـهذا الحوار الطريف ، ولم يعيروا الأمر أهمية كبرى فلقد اعتادوا على مثل ذلك من هذين الصديقين.
اتجه "الأشقر"نحو شاحنته دون أن يضيف كلمة أخرى..شغل المحرك فصدر عنه شخير مزعج، تجمعت
سحب الغبار الأحمر مثل جيش زاحف يحكم حصاره للمكان .
انطلقت الشاحنة ببطء مقتربة من الطاولة التي جلس إليها شعبان ثم ازدادت سرعتها فجأة .
توقع رواد المقهى أن تعوي المكابح في آخر لحظة لتوقف الشاحنة على بضعة أشبار من الطاولة...
وضغط السائـق عـلى الـمكابـح فـعلا في اللحظة المناسـبة لكنه وجد الفراغ... جحظت عيناه ؛ صرخ ملء أشداقه وهو يرى الطاولة الخشبية القديمة وصاحبه شعبان يمران تحت الشاحنة في مثل كابوس رهيب ...
" يا الله... يا للأقدار".
وهطلت أمطار عاصفة من التراب الأحمر الخانق...إنها عاصفة "السخط" اللهم لطفك يا الله..
أوقفا شاحنـتيهما متجاورتين حذوى مقهى الطريق الصحراوي؛ الذي يخترق الصحراء الكبرى مثل ثعبان عنيد ؛ يشاكس الرمال ووهج القيظ والزوابع التي لا تكاد تنقطع حتى تنبعث مثل المارد من حيث لا يدري أحد...
" ما أشد غموض هذه الصحراء..وما أبسط أهلها ، نقيضان متضادان أو متتامان لا يعلم المرء حقيقة ذلك بالضبط ، تماما مثل الأبيض والأسود والظلمة والنور ، والمرأة والرجل ، والزهرة والشوك "
تعانقا عنـاق مـن لـم يـر صاحبـه منذ أعوام مديدة ، وسارا معا ويد كل منهما على كتف الآخر ، وارتفعت قهقهاتهما تكسر حدة صمت الصحراء وسكون الصيف بوطأته الثقيلة ودبقيته المقرفة.
اتجها نحو المقهى الصغير الذي لا تزيد مساحته على متـريـن فـي ثـلاثـة أمـتار، إلا أنه في الصيف تظلل جوانبه بعريش من أعواد القصب فيبدو أكبر من ذي قبل ، ويرش رمله الناعم بالماء حتى يخفف من أوار ريـح " الشهيلي " الذي يشتد في أواخر شهر جويلية وبدايات شهر أوت اللاهبة ، إنها مقدمات " السامة " بأيامها الأربعين والتي لا يخطىء عدها كبار السن يوما بيوم وليلة بليلة ، إلى أن تغدو في أواخرها شديدة الحر نهارا باردة ليلا ، فتنبسط السحنات وتشرئب قلوب أصحاب البساتين إلى عناق عراجين التمر؛ التي أتقنت صنع تبرجها هذه الريح اللاهبة وتلك ( السامة ) التي لا تخلف موعدها أبدا.
جلسا متقابلين تفصل بينهما طاولة خشبية متآكلة الحواف،وطلبا كوبين من الشاي الأخضر بسكر قليل، ثم
أخذا يتذكران مغامراتهما معا وما كان يلاقيانه من وعثـاء السفـر والـطريـق الطويـل ومفاجـآتـه الـكثيرة ، عطب الشاحنات ؛ نفاد الوقود؛رمال الزوابع التي تتكوم على أجزاء كبيرة من الطريق الصحراوي الوحيد
... الليالي المقمرة وسهرات الشاي وحكايات الجن والعفاريت والسحرة والكنوز الخفية.
وأكثـر مـا كان يـملح أحاديـثهـما ويـجعـل لـها نـكهة مثـيـرة ، حكايات الجنيات التي تعشق بعض السائقين فتخطفهم إلى عوالم مجهولة، يعود بعضهم منها ويذهب آخرون بغير رجعة ، ومن يعود يحكي عن أشياء مذهلة ومتعة خيالية لا يدرك كنهها، وشوق عارم إلى الأهل والأولاد الصغار، وقرار كثير منهم أن يهجر هذه المهنة اللعينة التي تؤدي أحيانا إلى الجنون.
جاء الحاج الطيب بكوبي الشاي فوق صينية صدئة؛تآكلت جوانبها ، ووضع الكوبين على الطاولة الخشبية
وهو يداعبهما:
- ألم تعثرا بعد على كنزكما المفقود..؟ أم أنكما ستتـزوجان جنيتين تحملانكما إلى الجنان الخضر والأنهار الجارية؟
لم يكن كلامه يخلو من سخرية تشوبها رغبة خفية في أن يكون كل ما يقوله ممكن الحدوث.
يردان عـليه بعبث ويمازحانه هنيهة إلى أن ينصرف عنهما إلى غيرهما من زبائن المقهى.. يسود بينهما صمت ثقيل ، يشغلانه بالتلذذ برشفات الشاي الأخضر " المركز" وتغرق أبصارهما في سراب الصحراء المذهل...
الشاي الأخضر "طقس" مـن طقوس أهل الجنوب الكثيرة ؛ التي لا تحلو الجلسات ولا يقام السمر الطويل إلى آخر ساعات الليل بدونه ، إنه مثل "القـات" عنـد سكان اليمـن و"النـارجيلة" في الـحـواري المصرية القديمـة.
يقول شعبان لصاحبه ورنة الحزن ترجف شفتيه المتشققتين:
- مسكين أخموخ لم يكن يعتقد يوما أن ستهزمه الصحراء،هذه الأم العقوق،إنه يعرفها شبرا شبرا ،وقطعها
الآف الـمرات وفي مختـلف الاتجاهات، وفي آخر مرة لقيته فيها قال لي كلاما غريبا ؛ شغلني أياما وليالي طويلة..فلم أدرك كنهه حتى وقع ما وقع في ذلك اليوم المشؤوم،عندما أخرجناه من داخل الـشاحنة متفسخا
.. لم نتعرف عليه إلا بعدما فتشنا جيوبه وعثرنا على بطاقة ههويته.
إنها كبوة الجواد النجيب..كانت الشاحنة غائصة إلى المنتصف تقربا في رمال شيطانية لا يستقر لها قرار،
صمت لحظة ليعدل من صوته المتهدج ،ويتحكم في رعشات الشفاه ..ثم أضاف:
- كل ما أخشاه هو مصير مشابه لمصير آخموخ..
أرسل" الأشقر" ضحكة مصطنعة وربت على كتفه وهو يمازحه :
- أنت لن تموت أبدا.. إنك مثل القط بسبع " أرواح ".
ولم ينتبها للسماء التي بدأت تحمر رويدا رويدا حتى غدت مثل برتقالة نضجت أكبر مما ينبغي.
قال شاب من رواد المقهى:
- يبدو أنها ستمطر هذه الليلة..
رد عليه شيخ هرم يفترش حصيرا مهترئا وهو يفتل دخينة "عرعار".
- ما زلت غرا يا فـتى.. هذه عاصـفة " السخط " .. إذا احـمـرت الـسماء ، وهوى فيض من دقيق التراب يقول الحكماء والمجربون من كبار السن أن حدثا مرعبا قد وقع.. أو أنه سيقع وأن الله غاضب من البشر.. اللهم لطفك يا لطيف.. اللهم لا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا.
سخر بعضهم من كلام هذا الشيخ..وأيده آخرون وبقيت فئة قليلة من حديثي السن على الحياد وقد ارتسمت على وجوههم علامات استفهام شتى..
جعل الشيخ يبل الدخينة بطرف لسانه ليحكم لفهـا .. ولمـا اسـتوت بـين أصـابـعـه وضعها عـلى زاوية فمه اليسرى
وضغــط على الوقادة، انبعث لهب أزرق متوهج ؛ زاده التهاب العرعار في طرف الدخينة توهجا.. سحب الدخينة من بين شفتيه ورمقـها بعيـنيه الذابلتيـن وهـو يقـلبها بيـن أصابـعه ، ثم نفث دفعة كثيفة من الدخان سرعان ما تبددت من حوله.
أعقبها ببصقة على الأرض ثم نهض يجرجر قدميه وهو يتمتم:
- يا ستار يا لطيف ... يا ستار يا لطيف.
بقي الصديـقان يـتجاذبـان أطراف الـحديـث حتى مالت الشمس إلى المغيب، وبدا الجو أكثر قتامة وحزنا ، نهض "الأشقر" مودعا صاحبه ثم قال له مداعبا:
- ماذا لو شغلت محرك الشاحنة وزحفت بها نـحوك لأدهـسك وأريحك من كل العذابات التي تنغص عليك عيشك.
أجابه شعبان في مرارة ويأس:
- تفعل خيرا.. لقد مللت الحياة وملتني..
- الآ تخاف ..؟
- لا..
الآ يرعبك الموت..؟
- أبدا..
- ألن تتزحزح من مكانك إذا رأيت الشاحنة تزحف نحوك ؟
- كلا.
كان رواد المقهى يسترقون السمع لـهذا الحوار الطريف ، ولم يعيروا الأمر أهمية كبرى فلقد اعتادوا على مثل ذلك من هذين الصديقين.
اتجه "الأشقر"نحو شاحنته دون أن يضيف كلمة أخرى..شغل المحرك فصدر عنه شخير مزعج، تجمعت
سحب الغبار الأحمر مثل جيش زاحف يحكم حصاره للمكان .
انطلقت الشاحنة ببطء مقتربة من الطاولة التي جلس إليها شعبان ثم ازدادت سرعتها فجأة .
توقع رواد المقهى أن تعوي المكابح في آخر لحظة لتوقف الشاحنة على بضعة أشبار من الطاولة...
وضغط السائـق عـلى الـمكابـح فـعلا في اللحظة المناسـبة لكنه وجد الفراغ... جحظت عيناه ؛ صرخ ملء أشداقه وهو يرى الطاولة الخشبية القديمة وصاحبه شعبان يمران تحت الشاحنة في مثل كابوس رهيب ...
" يا الله... يا للأقدار".
وهطلت أمطار عاصفة من التراب الأحمر الخانق...إنها عاصفة "السخط" اللهم لطفك يا الله..