عبدالله الأحد
2024-12-14, 14:16
إفراد العبادة لله أهم مقاصد العقيدة
مقصد العبودية لله سبحانه وتعالى أصل المقاصد العقدية بل مقصد مقاصد الدين فالعبودية لله تعالى مقصودة لذاتها والمقاصد العقدية الأخرى تابعة لها
العلاقة بين الإنسان وخالقه هي العبودية له سبحانه وهي أشرف العلاقات وأعلى المقاصد وأكملها ولذا نعت سبحانه وتعالى بها نبينا محمدًا كما في قصة الإسراء
العبودية لله سبحانه وتعالى هي مقصود بعثةِ الرسل عليهم السلام ولذا كرر المولى سبحانه وتعالى هذا الأمر كلما ورد ذكر رسول من الرسل في القرآن الكريم
العبودية لله تعالى أعظمُ مقاصد الدين وهي سمة شريفة ملازمة للمسلم في سكناته وحركاته وخلواته وراحته وعمله وفي كل حاله
العبودية لله -تعالى- أعظمُ مقاصد الدين، وهي سمة شريفة ملازمة للمسلم في سكناته وحركاته وخلواته وذهابه وإيابه وقيامه وقعوده ونومه وراحته وعمله وفي كل أحواله، فهو عبد لله -سبحانه وتعالى- في كل حين، وينبغي أن تهيمن العبودية على المسلم في كل شؤونه، ويستحضر هذه النية في قلبه على كل حال، فهو عند راحته ينوي التقوِّي للعبادة، وعند تمتُّعه بالمباح ينوي التوقّي مما ينافي العبودية من المنهيات، وعند طلبه للرزق ينوي الاستعانة على العبادة، وهذا الأمر أعلى مقاصد الدين وأشرفها وأهمّها، وهو ما دلَّت عليه النصوص من الكتاب والسنة، وهو ما كان عليه السلف -رضوان الله عليهم-، وفي هذه الورقة تجلية هذا المقصد العظيم. فاللهم أرنا الحقَّ حقًّا وازرقنا اتباعَه، وأرنا الباطل باطلا وارزقنا اجتنابه.
ومن ينقّب في آيات العقيدة في كتاب الله -تعالى- وأحاديثها في سنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - يجد نصوصهما تصرِّح بأن مقصد المقاصد العقدية هو إخلاص العبودية لله -سبحانه وتعالى-، والنصوص كثيرة، وقد فصَلَ -سبحانه وتعالى- القول في هذه القضية، فقال -تعالى-: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} (الذاريات: 56)، وقال -تعالى-: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} (النساء: 36)، بل لبالغ أهميتها احتوتها أول ألفاظ القرآن ودلّت عليها، فـفاتحةُ القرآن اشتملت على أنواع توحيد الله -سبحانه وتعالى-، وأولها إفراد الله -سبحانه وتعالى- بالعبودية، وذلك في قوله -تعالى-: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} (الفاتحة: 2-3)، فـ{الْحَمْدُ لِلَّهِ} دليل على توحيد الألوهية، و{رَبِّ الْعَالَمِينَ} دليل على توحيد الربوبية، و{الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} دليل على توحيد الأسماء والصفات.
أول أمرٍ في القرآن
وكذلك أول أمرٍ في القرآن أمرٌ بإفراد الله -سبحانه وتعالى- بالعبادة: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (البقرة:21)، وأول نهيٍ فيه نهيٌ عن الشرك: {فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (البقرة:22)، فمن هذه الغاية يبدأ دين الإسلام كما بدأ به النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - حين سأله جبريل -عليه السلام عن الإسلام-؛ فقال: «الإسلام أن تشهد ألا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله - صلى الله عليه وسلم »، وبنطقها يبدأ الإنسان إسلامه، وعلى أساسها ينشأ بنيانه، «بني الإسلام على خمس: شهادة ألا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله...» الحديث، وبالبدء به في الدعوة أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - معاذا حين أرسله فقال: «إنك تقدم على قوم أهل كتاب، فليكن أول ما تدعوهم إليه عبادة الله».
أشهر تعريفات العبودية
ومن أشهر تعريفات العبودية الاصطلاحية الشرعية وأدقها ما حرره شيخ الإسلام ابن تيمية (728هـ) -رحمه الله-؛ حيث عرَّف العبادة بأنها: «اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الباطنة والظاهرة»، ثم ضرب لها أمثلةً تدل على شمول هذا المقصد لحياة الإنسان وتنوّعه، فذكر الصلاة والزكاة وصدق الحديث وأداء الأمانة وبرّ الوالدين والدعاء والذكر وحبّ الله ورسوله وخشية الله والإنابة إليه.
أهمية مقصد العبودية
يعد مقصد العبودية لله -سبحانه وتعالى- أصلَ المقاصد العقدية، بل مقصد مقاصد الدين، فمقصد العبودية لله -تعالى- مقصود لنفسه، والمقاصد العقدية الأخرى تابعة لهذا المقصد وخادمة له، فمثلا: مقصد حفظ النفس: إنما يُقصد من أجل مقصد العبودية لله -تعالى-، ومقصد حفظ العرض: ينتج عنه حفظ النسل وبقاء الإنسان، وإنما المقصد النهائي من وجود الإنسان: هو العبودية لله -سبحانه وتعالى-، ومن فهم هذا وأدركه وأيقنَ به نعِم بالطمأنينة والسعادة في حياته الدنيا قبل الآخرة؛ ولذا فإن هذا هو أصل الدين.
وصية الله لنبيه - صلى الله عليه وسلم
ولأهمية هذا المقصد نجد المولى -سبحانه- كثيرا ما يوصي نبيه - صلى الله عليه وسلم - بالالتزام به، ويكرر أمره به، مع أنه أرفع الخلق درجةً عنده وأكثر البشرية عبادةً له! فانظر إلى خطاب الله -تعالى- لرسوله واقتَبِسْه بنور الإيمان؛ فقد قال الله -تعالى لأقرب عباده إليه وأرفعهم درجة لديه-: {إِنَّ لَكَ فِي النَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلًا (7) وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا} (المزمل: 7- 8)، وقال -تعالى-: {وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (25) وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا} (الإنسان: 25-26)، وقال -تعالى-: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى} (طه:130)، وقال -سبحانه-: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ (39) وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ} (ق: 39-40)، وقال -عزوجل-: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} (هود: 114).
أعلى المقاصد وأكملها
ولئن كان سبيل العلاقة بين الإنسان وخالقه هي العبودية له -سبحانه-، فلا شكّ أنها أشرف العلاقات وأعلى المقاصد وأكملها؛ ولذا نعت المولى -سبحانه وتعالى- نبينا محمدًا بهذه السمة كما في قصة الإسراء، فقال -تعالى-: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ} (الإسراء: 1)، ومثله في قصة المعراج فقال: {فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى} (النجم: 10)، وبمثله نعته أيضا في مواجهة أول تحدٍّ مع ألد أعدائه: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ} (البقرة: 23)، وحين امتنَّ عليه بإنزال القرآن الكريم نعته أيضا بالعبودية فقال: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} (الفرقان: 1)، وقال -تعالى-: {هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} (الحديد: 9).
بها وصف الله أولياءَه وأصفياءَه
وبمثلها وصف المولى -سبحانه- أولياءَه وأصفياءَه وأخبر عنهم، يقول الغزالي (505هـ) -رحمه الله-: «ثم انظر كيف وصف الفائزين من عباده وبماذا وصفهم، فقال -تعالى-: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} (الزمر: 9)، وقال -تعالى-: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا} (السجدة: 16)، وقال -عَزَّ وَجَلَّ-: {وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا} (الفرقان: 64)، وقال -عز وجل-: {كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالْأَسْحَار ِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ } (الذاريات: 17- 18)، وقال -عز وجل-: {فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ} (الروم: 17)، وقال -تعالى-: {وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} (الأنعام: 52)».
غاية المطالب
إذًا عبادة الله هي «أشرف المقاصد، والوصول إليها غاية المطالب، بل هي خلاصة الدعوة النبوية والرسالة الإلهية»، ثم إن الإنسان هو صاحب الحاجة في هذه العلاقة؛ فهو محتاج إلى خالقه الذي خلقَه وأنعم عليه وربّاه وأحاطه بالنعم من كل جانب، وهو من موجبات إخلاص العبادة له، كما أن من موجبات إخلاص العبادة أنه -سبحانه- له الكمال والجلال المطلق في ذاته وصفاته. يقول ابن القيم (751هـ) -رحمه الله-: «ولمَّا كانت عبادته -تعالى- تابعةً لمحبته وإجلاله، وكانت المحبَّة نوعين: محبة تنشأ عن الإنعام والإحسان فتوجب شكرًا وعبوديَّة بحسب كمالها ونقصانها، ومحبة تنشأ عن جمال المحبوب وكمالِه فتوجب عبوديَّة وطاعة أكمل من الأولى، كان الباعث على الطاعة والعبودية لا يخرج عن هذين النوعين»؛ ولذا كان لهذا المقصد هذه المنزلة السامقة، فكلما كانت حاجة الإنسان أشدَّ، كان أكبر أهمية وأشرف وأعلى من غيره منزلة وأكثر بيانا ودلائلَ، والعبودية بالنسبة للإنسان أهمّ الحاجات وأعلاها وأشرفها، ولذا نعت المولى نبيه - صلى الله عليه وسلم - بها في أشرف الأماكن.
المنجيةُ للعبد يوم القيامة
ثم إن العبودية لله -تعالى- هي المنجيةُ للعبد يوم القيامة، وهي سبب دخول الجنة، كما يقول الغزالي -رحمه الله-: «من أراد أن يدخل الجنة بغير حساب فليستغرق أوقاته في الطاعة، ومن أراد أن تترجح كفة حسناته وتثقل موازين خيراته فليستوعب في الطاعة أكثر أوقاته، فإن خلط عملًا صالحًا وآخر سيئًا فأمره خطر، ولكن الرجاء غير منقطع، والعفو من كرم الله منتظر، فعسى الله -تعالى- أن يغفر له بجوده وكرمه».
حاجة الإنسان إلى العبودية لله -تعالى
وما أحسنَ ما قال ابن تيمية -رحمه الله- في بيان عظم حاجة الإنسان إلى العبودية لله -تعالى- حين قال: «الله خلق الخلق لعبادته الجامعة لمعرفته والإنابة إليه، ومحبته والإخلاص له، فبذكره تطمئن قلوبهم، وبرؤيته في الآخرة تَقَرُّ عُيونهم ولا شيء يعطيهم في الآخرة أحب إليهم من النظر إليه، ولا شيء يعطيهم في الدنيا أعظم من الإيمان به».
مقصود بعثةِ الرسل -عليهم السلام
أضف إلى كل ذلك أن هذا المقصد -وهو العبودية لله سبحانه وتعالى- هو مقصود بعثةِ الرسل -عليهم السلام-؛ ولذا كرر المولى -سبحانه وتعالى- هذا الأمر كلما ورد ذكر رسول من الرسل قائلا: {فَأَرْسَلْنَا فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ} (المؤمنون: 32)، بل نص -سبحانه وتعالى- مبيِّنا أنه مقصد الرسالات كلها، قال -تعالى-: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} (النحل: 36)، ولئن كان القرآنُ الكريم -بإعجازه وآياته ودلائله وألفاظه ومعانيه العظيمة- أنزله الله من فوق سبع سماوات، وجعله المعجزة الخالدة، فإن المقصد من هذا الكتاب هو العبودية لله -سبحانه وتعالى.
أهم مقاصد العقيدة
أهم مقاصد العقيدة هو إفراد الله -سبحانه وتعالى- بالعبادة، بل هو مقصد مقاصد الدين كله، ومن جلالة هذا المقصد أن أرسل الله من أجله الرسل، وأنزل من أجله الكتب، فلا تخلو أمّة من البشر إلا وقد بلَّغهم الله -تعالى- البلاغ المبين، {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} (النحل: 36).
اعداد: مركز سلف للبحوث والدراسات
مقصد العبودية لله سبحانه وتعالى أصل المقاصد العقدية بل مقصد مقاصد الدين فالعبودية لله تعالى مقصودة لذاتها والمقاصد العقدية الأخرى تابعة لها
العلاقة بين الإنسان وخالقه هي العبودية له سبحانه وهي أشرف العلاقات وأعلى المقاصد وأكملها ولذا نعت سبحانه وتعالى بها نبينا محمدًا كما في قصة الإسراء
العبودية لله سبحانه وتعالى هي مقصود بعثةِ الرسل عليهم السلام ولذا كرر المولى سبحانه وتعالى هذا الأمر كلما ورد ذكر رسول من الرسل في القرآن الكريم
العبودية لله تعالى أعظمُ مقاصد الدين وهي سمة شريفة ملازمة للمسلم في سكناته وحركاته وخلواته وراحته وعمله وفي كل حاله
العبودية لله -تعالى- أعظمُ مقاصد الدين، وهي سمة شريفة ملازمة للمسلم في سكناته وحركاته وخلواته وذهابه وإيابه وقيامه وقعوده ونومه وراحته وعمله وفي كل أحواله، فهو عبد لله -سبحانه وتعالى- في كل حين، وينبغي أن تهيمن العبودية على المسلم في كل شؤونه، ويستحضر هذه النية في قلبه على كل حال، فهو عند راحته ينوي التقوِّي للعبادة، وعند تمتُّعه بالمباح ينوي التوقّي مما ينافي العبودية من المنهيات، وعند طلبه للرزق ينوي الاستعانة على العبادة، وهذا الأمر أعلى مقاصد الدين وأشرفها وأهمّها، وهو ما دلَّت عليه النصوص من الكتاب والسنة، وهو ما كان عليه السلف -رضوان الله عليهم-، وفي هذه الورقة تجلية هذا المقصد العظيم. فاللهم أرنا الحقَّ حقًّا وازرقنا اتباعَه، وأرنا الباطل باطلا وارزقنا اجتنابه.
ومن ينقّب في آيات العقيدة في كتاب الله -تعالى- وأحاديثها في سنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - يجد نصوصهما تصرِّح بأن مقصد المقاصد العقدية هو إخلاص العبودية لله -سبحانه وتعالى-، والنصوص كثيرة، وقد فصَلَ -سبحانه وتعالى- القول في هذه القضية، فقال -تعالى-: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} (الذاريات: 56)، وقال -تعالى-: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} (النساء: 36)، بل لبالغ أهميتها احتوتها أول ألفاظ القرآن ودلّت عليها، فـفاتحةُ القرآن اشتملت على أنواع توحيد الله -سبحانه وتعالى-، وأولها إفراد الله -سبحانه وتعالى- بالعبودية، وذلك في قوله -تعالى-: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} (الفاتحة: 2-3)، فـ{الْحَمْدُ لِلَّهِ} دليل على توحيد الألوهية، و{رَبِّ الْعَالَمِينَ} دليل على توحيد الربوبية، و{الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} دليل على توحيد الأسماء والصفات.
أول أمرٍ في القرآن
وكذلك أول أمرٍ في القرآن أمرٌ بإفراد الله -سبحانه وتعالى- بالعبادة: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (البقرة:21)، وأول نهيٍ فيه نهيٌ عن الشرك: {فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (البقرة:22)، فمن هذه الغاية يبدأ دين الإسلام كما بدأ به النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - حين سأله جبريل -عليه السلام عن الإسلام-؛ فقال: «الإسلام أن تشهد ألا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله - صلى الله عليه وسلم »، وبنطقها يبدأ الإنسان إسلامه، وعلى أساسها ينشأ بنيانه، «بني الإسلام على خمس: شهادة ألا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله...» الحديث، وبالبدء به في الدعوة أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - معاذا حين أرسله فقال: «إنك تقدم على قوم أهل كتاب، فليكن أول ما تدعوهم إليه عبادة الله».
أشهر تعريفات العبودية
ومن أشهر تعريفات العبودية الاصطلاحية الشرعية وأدقها ما حرره شيخ الإسلام ابن تيمية (728هـ) -رحمه الله-؛ حيث عرَّف العبادة بأنها: «اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الباطنة والظاهرة»، ثم ضرب لها أمثلةً تدل على شمول هذا المقصد لحياة الإنسان وتنوّعه، فذكر الصلاة والزكاة وصدق الحديث وأداء الأمانة وبرّ الوالدين والدعاء والذكر وحبّ الله ورسوله وخشية الله والإنابة إليه.
أهمية مقصد العبودية
يعد مقصد العبودية لله -سبحانه وتعالى- أصلَ المقاصد العقدية، بل مقصد مقاصد الدين، فمقصد العبودية لله -تعالى- مقصود لنفسه، والمقاصد العقدية الأخرى تابعة لهذا المقصد وخادمة له، فمثلا: مقصد حفظ النفس: إنما يُقصد من أجل مقصد العبودية لله -تعالى-، ومقصد حفظ العرض: ينتج عنه حفظ النسل وبقاء الإنسان، وإنما المقصد النهائي من وجود الإنسان: هو العبودية لله -سبحانه وتعالى-، ومن فهم هذا وأدركه وأيقنَ به نعِم بالطمأنينة والسعادة في حياته الدنيا قبل الآخرة؛ ولذا فإن هذا هو أصل الدين.
وصية الله لنبيه - صلى الله عليه وسلم
ولأهمية هذا المقصد نجد المولى -سبحانه- كثيرا ما يوصي نبيه - صلى الله عليه وسلم - بالالتزام به، ويكرر أمره به، مع أنه أرفع الخلق درجةً عنده وأكثر البشرية عبادةً له! فانظر إلى خطاب الله -تعالى- لرسوله واقتَبِسْه بنور الإيمان؛ فقد قال الله -تعالى لأقرب عباده إليه وأرفعهم درجة لديه-: {إِنَّ لَكَ فِي النَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلًا (7) وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا} (المزمل: 7- 8)، وقال -تعالى-: {وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (25) وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا} (الإنسان: 25-26)، وقال -تعالى-: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى} (طه:130)، وقال -سبحانه-: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ (39) وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ} (ق: 39-40)، وقال -عزوجل-: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} (هود: 114).
أعلى المقاصد وأكملها
ولئن كان سبيل العلاقة بين الإنسان وخالقه هي العبودية له -سبحانه-، فلا شكّ أنها أشرف العلاقات وأعلى المقاصد وأكملها؛ ولذا نعت المولى -سبحانه وتعالى- نبينا محمدًا بهذه السمة كما في قصة الإسراء، فقال -تعالى-: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ} (الإسراء: 1)، ومثله في قصة المعراج فقال: {فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى} (النجم: 10)، وبمثله نعته أيضا في مواجهة أول تحدٍّ مع ألد أعدائه: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ} (البقرة: 23)، وحين امتنَّ عليه بإنزال القرآن الكريم نعته أيضا بالعبودية فقال: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} (الفرقان: 1)، وقال -تعالى-: {هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} (الحديد: 9).
بها وصف الله أولياءَه وأصفياءَه
وبمثلها وصف المولى -سبحانه- أولياءَه وأصفياءَه وأخبر عنهم، يقول الغزالي (505هـ) -رحمه الله-: «ثم انظر كيف وصف الفائزين من عباده وبماذا وصفهم، فقال -تعالى-: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} (الزمر: 9)، وقال -تعالى-: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا} (السجدة: 16)، وقال -عَزَّ وَجَلَّ-: {وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا} (الفرقان: 64)، وقال -عز وجل-: {كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالْأَسْحَار ِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ } (الذاريات: 17- 18)، وقال -عز وجل-: {فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ} (الروم: 17)، وقال -تعالى-: {وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} (الأنعام: 52)».
غاية المطالب
إذًا عبادة الله هي «أشرف المقاصد، والوصول إليها غاية المطالب، بل هي خلاصة الدعوة النبوية والرسالة الإلهية»، ثم إن الإنسان هو صاحب الحاجة في هذه العلاقة؛ فهو محتاج إلى خالقه الذي خلقَه وأنعم عليه وربّاه وأحاطه بالنعم من كل جانب، وهو من موجبات إخلاص العبادة له، كما أن من موجبات إخلاص العبادة أنه -سبحانه- له الكمال والجلال المطلق في ذاته وصفاته. يقول ابن القيم (751هـ) -رحمه الله-: «ولمَّا كانت عبادته -تعالى- تابعةً لمحبته وإجلاله، وكانت المحبَّة نوعين: محبة تنشأ عن الإنعام والإحسان فتوجب شكرًا وعبوديَّة بحسب كمالها ونقصانها، ومحبة تنشأ عن جمال المحبوب وكمالِه فتوجب عبوديَّة وطاعة أكمل من الأولى، كان الباعث على الطاعة والعبودية لا يخرج عن هذين النوعين»؛ ولذا كان لهذا المقصد هذه المنزلة السامقة، فكلما كانت حاجة الإنسان أشدَّ، كان أكبر أهمية وأشرف وأعلى من غيره منزلة وأكثر بيانا ودلائلَ، والعبودية بالنسبة للإنسان أهمّ الحاجات وأعلاها وأشرفها، ولذا نعت المولى نبيه - صلى الله عليه وسلم - بها في أشرف الأماكن.
المنجيةُ للعبد يوم القيامة
ثم إن العبودية لله -تعالى- هي المنجيةُ للعبد يوم القيامة، وهي سبب دخول الجنة، كما يقول الغزالي -رحمه الله-: «من أراد أن يدخل الجنة بغير حساب فليستغرق أوقاته في الطاعة، ومن أراد أن تترجح كفة حسناته وتثقل موازين خيراته فليستوعب في الطاعة أكثر أوقاته، فإن خلط عملًا صالحًا وآخر سيئًا فأمره خطر، ولكن الرجاء غير منقطع، والعفو من كرم الله منتظر، فعسى الله -تعالى- أن يغفر له بجوده وكرمه».
حاجة الإنسان إلى العبودية لله -تعالى
وما أحسنَ ما قال ابن تيمية -رحمه الله- في بيان عظم حاجة الإنسان إلى العبودية لله -تعالى- حين قال: «الله خلق الخلق لعبادته الجامعة لمعرفته والإنابة إليه، ومحبته والإخلاص له، فبذكره تطمئن قلوبهم، وبرؤيته في الآخرة تَقَرُّ عُيونهم ولا شيء يعطيهم في الآخرة أحب إليهم من النظر إليه، ولا شيء يعطيهم في الدنيا أعظم من الإيمان به».
مقصود بعثةِ الرسل -عليهم السلام
أضف إلى كل ذلك أن هذا المقصد -وهو العبودية لله سبحانه وتعالى- هو مقصود بعثةِ الرسل -عليهم السلام-؛ ولذا كرر المولى -سبحانه وتعالى- هذا الأمر كلما ورد ذكر رسول من الرسل قائلا: {فَأَرْسَلْنَا فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ} (المؤمنون: 32)، بل نص -سبحانه وتعالى- مبيِّنا أنه مقصد الرسالات كلها، قال -تعالى-: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} (النحل: 36)، ولئن كان القرآنُ الكريم -بإعجازه وآياته ودلائله وألفاظه ومعانيه العظيمة- أنزله الله من فوق سبع سماوات، وجعله المعجزة الخالدة، فإن المقصد من هذا الكتاب هو العبودية لله -سبحانه وتعالى.
أهم مقاصد العقيدة
أهم مقاصد العقيدة هو إفراد الله -سبحانه وتعالى- بالعبادة، بل هو مقصد مقاصد الدين كله، ومن جلالة هذا المقصد أن أرسل الله من أجله الرسل، وأنزل من أجله الكتب، فلا تخلو أمّة من البشر إلا وقد بلَّغهم الله -تعالى- البلاغ المبين، {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} (النحل: 36).
اعداد: مركز سلف للبحوث والدراسات