المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : ماهي الخلفيات من وراء قبول فرنسا الخروج من إفريقيا على مضض؟ وهل هو خروج أبدي أم خروج تكتيكي مؤقت؟


الزمزوم
2024-11-30, 03:10
ماهي الخلفيات من وراء قبول فرنسا الخروج من إفريقيا على مضض؟ وهل هو خروج أبدي أم خروج تكتيكي مؤقت؟


بداية يجب التأكيد على فكرة أن الجميع يعرف طباع فرنسا الشرسة كاستعمار أو كامبريالية استغلالية للدول ومن الصعب قبول أنها بسهولة تسكت على انفراط عقد الذهب الإفريقي الذي هو سبب رفاهيتها والتخلي عنه بهذه السهولة.


كما أنه يجب الاعتراف أن في فرنسا تياران يميني يرفض الأجانب من المهاجرين.


ويساري يتعاطف مع الاجانب من المهاجرين.


فرنسا تعيش خطرين داخلي وجودي مصيري وهو زيادة المهاجرين فيها ونقص في زيادة مواليد فرنسا من البيض الأمر الذي يهدد حسب نخبتهم هوية فرنسا وإمكانية سيطرة المهاجرين عليها.


والخطر الخارجي فقدان فرنسا لمستعمراتها بسبب تاريخها الأسود في إفريقيا وبسبب منطق الهيمنة والنهب الذي مارسته على مدى قرون سواء في فترة احتلالها لتلك البلدان أو بعد استقلالها (أي تلك البلدان الإفريقية).


اليمين المتطرف يمجد الاستعمار ويحتقر مستعمرات فرنسا وهو متشدد في مسألة الحفاظ على هيمنتها على إفريقيا ومستعمراتها في بقية القارات والبحار والمحيطات.


اليسار رغم أنه من دعاة الاعتراف بجرائم فرنسا في مستعمراتها إلا أن ذلك أملاه الوضع الجديد في العالم وهو كراهية الشعوب الإفريقية والتي كانت مستعمرة من طرف فرنسا والنظر إليها كمجرم في حق أسلافها وكناهب لثروات بلدانها وهذا الأمر كان ليمر مرور الكرام لولا ظهور لاعبين جدد على الساحة ينافسون فرنسا في حدائقها الخلفية في إفريقيا وفي العالم، ولذلك اليسار والأحزاب المعتدلة في فرنسا تريد التقليل من هذه النظرة ضد بلدهم من خلال الاعتذار .. إسقاط أسماء شوارع فرنسية حملت أسماء قادة قادوا الاستعمار الفرنسي في إفريقيا حفاظاً على نفوذها هناك أمام وجود بدائل عسكرية واقتصادية جبارة للدول الإفريقية تلك في حال رحيل فرنسا كما أنها تقدم نموذج شراكة لا نموذج هيمنة كما تفعل فرنسا معهم مثل: الصين روسيا...


أمام هذه الوضعية المعقدة ماذا تفعل فرنسا؟ هل تحل المشكلة الداخلية مشكلة المهاجرين وتترك مستعمراتها لمنافسيها أم تترك هذه المشكلة (الهجرة) وتحل مشكلة بقائها في مستعمراتها وضمان تواصل هيمنتها على مستعمراتها السابقة ونهبها؟


مع أن لا وضع فرنسا الداخلي ولا الخارجي سواء السياسي أو الاقتصادي أو الجيو- سياسي يسمحان لها بحل المشكلتين معاً.


وهذا هو بيت القصيد فيبدو أن سكوت وقبول فرنسا التي عرفت بإجرامها وعنجهيتها وطغيانها وهي من أكبر الدول الاستعمارية الامبريالية الرحيل عسكرياً من بلدان إفريقيا وقبولها مواقف أنظمة الدول الإفريقية اتجاها في مالي والنيجر وبوركينافاسو والتي قامت بمراجعات اتفاقياتها معها أملاه الخطر الداخلي وحاجة فرنسا لحل المشكلة الداخلية أولاً، وتراجعها في هذا الصدد أي تنازلها على مستعمراتها السابقة هنا ليس أن فرنسا كفرت عن ذنبها أو تخلت عن فكرة استعمارها وهيمنتها على إفريقيا ولكن هو تراجع مؤقت فقط وتكتيك حتى تنجح في ترتيب البيت الداخلي وتجاوزه وبعد ذلك لكل حادث حديث.


في هذه الأثناء وفي الفترة القادمة ستكون الصين العملاق الصاعد وروسيا وإيران وتركيا وأمريكا والهند.. هم اللاعبون الجدد في تلك المنطقة ولا شك فقد أفل عصر أوروبا العجوز.


ماذا لو قلت لكم أن الدولة العميقة والنظام السياسي والنخب السياسية بكل أطيافها في فرنسا مُتفقٌ بعضه مع بعض وهو مع فكرة انسحاب فرنسا من إفريقيا عسكرياً وربما ثقافياً وسياسياً وتقليص الجانب الاقتصادي لها مع تلك البلدان الإفريقية من مستعمراتها في قادم الأيام بل ويشجع على هذه الخطوات، وهو الذي ظهر في سكوت وقبول فرنسا على مضض من طردها من ثلاث بلدان من دول الساحل الإفريقية، وهي فرنسا وما أدراكم ما فرنسا الاستعمار والجرائم والفظائع والمجازر والإبادة فهي الدولة التي بنت حضارتها ورفاهيتها وقوتها على امتصاص الدم الإفريقي وعلى أنقاض جماجم شعوب إفريقيا، هل يعقل أن فرنسا وصلت إلى هذا الضعف؟


لقد رأى العقل الاستراتيجي الفرنسي الخبيث أن تقليص العلاقات بين فرنسا والدول الإفريقية وبخاصة في مستعمراتها السابقة من طرف الأفارقة أنفسهم سواء الأنظمة الجديدة أو الشعوب الإفريقية التي دعت إلى طرد الوجود الفرنسي في إفريقيا يخدم أجندة القضاء على المهاجرين في فرنسا وهو بمثابة فرصة ذهبية لوقف الهجرة غير شرعية لها وهي من بين الأكبر الدول استقبالاً للمهاجرين الأجانب في أوروبا وبالتالي فنكوص العلاقات تلك سيوفر لفرنسا فرصة للتضييق على المهاجرين لها وإعادة مراجعة اتفاقيات الهجرة بينها وبين تلك الدول الإفريقية لصالح حل مشكلة الأولى أن خطر المهاجرين بالأعداد الكبيرة الذي يهدد الاختلال الديموغرافي لصالح المهاجرين على حساب السكان البيض لفرنسا.


ويبدو أن الكثير من قادة وأنظمة الدول الإفريقية من مستعمرات فرنسا السابقة مدرك لهذه الحقيقة ويعرفها جيداً وهو متواطئ مع تلك العملية التي تقوم بها فرنسا اليوم للقضاء أو لتقليل الهجرة الشرعية وغير شرعية إلى أقصى الحدود الممكنة وهم لا تتعدى نسبتهم 10 بالمئة من السكان، فهي بمثابة إبادة شبيهة بما يحصل في غزة لتقليل السكان هناك خوفاً من الكيان من خطر اختلال التوازن الديموغرافي في فلسطين المحتلة بما يخدم الفلسطينيين ويضر الصهاينة كما يقول قادة هذا الأخير، وفرنسا ابادتها هنا حقوقية وإنسانية فهي تضرب حق الإنسان في التنقل والاستقرار من خلال سعيها لمنع هذا الحق للإنسان غير الفرنسي وغير الأوروبي، وعلى فكرة ستعمم أوروبا بعد نجاح الفرنسيين في هذا الموضوع من خلال هذه السياسية وبخاصة كلما وصل حزب يميني إلى سلطة بلد من بلدان أوروبا أو شكل قوة ضاغطة على مستوى برلمانها إلا وعمل على تقفِّي خطوات فرنسا والفرنسيين في مشكلة الهجرة.


ورغم أن المهاجرين لا يشكلون سوى 10 بالمئة من تعداد السكان ورغم أن المكسيكيين وأمريكا الجنوبية المهاجرة إلى الولايات المتحدة مسيحية إلا أن هناك أهداف أخرى أكبر وأعمق ستتكشف في السنوات القادمة.


بقلم: الزمزوم -أستاذ الفلسفة السّياسية وفلسفة الاخلاق

الزمزوم
2024-12-04, 12:44
منذ ثورة 1789.. كلّ مجدها بنته على جماجم الشعوب المقهورة


هل آمنت فرنسا يومًا بقيم الحرية وحقوق الانسان؟


محمد مسلم / عبد السلام سكية

تقدم الثورة الفرنسية (1789) على أنها مهد قيم الحرية وحقوق الإنسان، وهو الزخم الذي نهلت منه فرنسا بعد ذلك، إلى درجة أن هناك من يصورها على أنها مهد قيم الديمقراطية الحديثة. ولكن هل يمكن تتبع هذه القيم منذ أزيد من قرنين في ممارسات الدولة الفرنسية؟ يمكن للمراقب النزيه أن يسقط عن فرنسا الرسمية هذه التسمية ببساطة، لأنه بعد نحو أربعة عقود فقط من الثورة الفرنسية، شن الجيش الفرنسي حربا على الجزائر استمرت 132 سنة، أزهق خلالها ما بين سبعة إلى عشرة ملايين جزائري، فهل قيم الديمقراطية والحرية تسمح باجتياح شعب وقتله وتشريده؟ المثير أن عقلية الساسة الفرنسيين لم تتخلص بعد من ممارسات الاستعمار الوحشية بعد أزيد من ستة عقود من خروجها مدحورة من مستعمراتها السابقة، فهي لا تتورع في ممارسة هواية الاضطهاد، ضد شعبها نفسه من غير الأصول الفرنسية (المهاجرون والمسلمون)، بالقوانين وبالاستهداف الإعلامي، بل إنها تؤكد مجددا عدم إيمانها بقيم التحرر، وتكرس وفاءها للممارسات الوحشية للاستعمار، بدعمها للأنظمة التي تمارس الاحتلال مثل النظام المغربي في الصحراء الغربية.


سقوط شعارات الإنسانية الزائفة يكشف عنها قناع التسلطيّة


فرنسا تحارب الشعوب المضطهدة وتناصر الجلاد




لم تعد فرنسا في نظر الكثير من المراقبين، تلك الدولة التي حاولت دائما تقديم نفسها مدافعة عن قيم وحقوق الإنسان الخالدة، والتي اتخذت منها شعارا لصورتها في الخارج، بل تحولت إلى كيان لا يختلف كثيرا عن بقية الديكتاتوريات التي تعيش على تناقضات سياسية ومجتمعية، باتت تهدد سمعتها.


ومع مرور الزمن، انكشفت الصورة الحقيقية لفرنسا، التي لم تعد، كما لم تكن يوما، واحة للديمقراطية وحقوق الإنسان وحرية التعبير والتسامح، كما يروج عنها، فما تعيشه الجاليات المهاجرة والمسلمة على وجه التحديد في بلاد فولتير، هو الجحيم بعينه ولاسيما على صعيد الهوية والعرق.


أن تحمل الجنسية الفرنسية اليوم، لا يعني بالضرورة أنك فرنسي كبقية الفرنسيين. يمكن أن يحصل ذلك في حالة واحدة، هو أن تكون فرنسي العرق والديانة. أن تكون غير ذلك، فأنت فرنسي من الدرجة الثانية، أو بالأحرى بالوثائق فقط. وما تعرضت له الجاليات المسلمة إلا أبرز مثال، وهو ما يعد امتداد للممارسات الاستعمارية البغيضة، والتي تتجسد في الدفاع عن رئيس وزراء الكيان الصهيوني المجرم، بنيامين نتنياهو، واحتجاز سجناء سياسيين من كاليدونيا الجديدة، طالبوا بحقهم في الاستقلال.


باسم اللائكية حرمت فرنسا الرسمية أبناءها الفرنسيين من التمتع بحقوقهم الشخصية. وفرضت عليهم الحرية التي تريدها. فاللباس حرية شخصية، ومع ذلك لا يمكن للمرأة المسلمة أن تلبس حجابها أو تضع غطاء على رأسها، بل وصل الأمر حد منع الفرنسيين من لبس ثوب تقليدي لمجتمعات أخرى حتى ولو كان ليس ذي خلفية دينية، وهكذا حصل مع “العباءة”، والبقية معروف للجميع.


وعلى الرغم من أن الدين الإسلامي معترف به في فرنسا، فنحو أزيد من سدس سكانها يدينون بالإسلام، ومع ذلك لم تتوقف عن استهدافه ومحاولة تشويهه تارة بسن قوانين باسم محاربة ما أسموها “الانعزالية”، وتارة أخرى بداعي محاربة التشدد والتطرف، بل والأكثر من ذلك أنها تبحث عن منافذ لصياغة إسلام على مقاس ما يريده الساسة في باريس، والسعي إلى تلقين الأئمة قيم ومفاهيم لا تتماشى وأبسط أبجديات تعاليم الإسلام.


وحتى على المستوى السياسي، تستمر فرنسا الرسمية في الوفاء لممارساتها القديمة، والمتمثلة في محاربة قيم الحرية والتحرر، والعمل من أجل تكريس منطق الهيمنة والخضوع والعبودية، فبينما تحاول مد الدروس للآخرين، تفشل هي في تكريس ما تدعو إليه. فالسيطرة على الشعوب المغلوبة على أمرها مستمر في مختلف قارات العالم، في إفريقيا وفي أقاصي المحيط الهادي وفي الكارايب، وفي مناطق أخرى.


والمثير في الأمر، أن فرنسا الرسمية تشجع على الاضطهاد وتحتضن الدول التي تمارس مثل هذه الأفعال في زمن ما بعد اندحار الاستعمار، كما هو الحال في الصحراء الغربية، حيث تعتبر باريس أكبر داعم للاحتلال المغربي الغاشم للصحراء الغربية، في موقف يتنافى وتطلعات غالبية الشعب الفرنسي، لأن ماكرون الذي خسر حزبه “رونيسونس”، آخر انتخابات تشريعية، اتخذ موقفا بشأن الصحراء الغربية، ترفضه الأغلبية (الجبهة الوطنية الجديدة) الفائزة في الانتخابات ذاتها.


وينفي هذا المعطى المتعلق بالتعاطي مع القضية الاستعمارية، أي صدقية لرغبة الرئيس الفرنسي ماكرون في إيجاد حل لملف الذاكرة مع الجزائر، إذ من غير المبرر أن تدعم باريس سياسة الاحتلال في الصحراء الغربية وتدافع عن الممارسات التوسعية للنظام العلوي في الرباط، ثم تلعب على وتر محاولة استرضاء الجزائر بحل المشاكل العالقة على صعيد الذاكرة. ولم تعد محاولات ماكرون في نظر الجزائريين التخفيف من حروب الذاكرة، سوى مجرد أوهام يحاول من خلالها استدراج الجزائر لملفات أخرى تشعر باريس أنها بصدد خسارتها بسبب أنانيتها المفرطة في إرساء علاقات ندية مع مستعمرتها السابقة.


وبخلفيات تفوح منها رائحة الانتهازية السياسية، تسقط القيم الفرنسية الواحدة تلو الأخرى، مع اندثار ما تبقى من فلول التيار الديغولي، وانزياح تيار الوسط، الذي يزعم ماكرون ومحيطه السياسي أنهم ينتمون إليه، نحو اليمين المتطرف، الذي زحف بقوة على مؤسسات الدولة الفرنسية، بالرغم من حلوله في المرتبة الثالثة في الانتخابات التشريعية الأخيرة.
ولم يكن ليحصل هذا الانزلاق الخطير للسياسة الفرنسية، لو تحالف ماكرون المصلحي (للبقاء في السلطة) مع تيار اليمين المتطرف، الذي لم يعد يتمثل فقط في تيار عائلة لوبان وحزبها “التجمع الوطني”، بل ينسحب أيضا على حزب “الجمهوريون”، الذي لم يعد يحمل من التيار الديغولي أي أثر، ويمكن تلمس هذا في الخطاب الذي يصدر يوميا عن وزير الداخلية في حكومة ميشال بارنيي، برونو روتايو، الذي لا يختلف خطابه عن خطاب مارين لوبان أو جوردان بارديلا في شيء.


هذه المعاينة ليست تجن على سياسة دولة، بل هي حقيقة راسخة يمكن تلمسها من خلال الخطاب الشوفيني المعادي لكل ما هو عربي أو مسلم في الإعلام الفرنسي، فما يتعرض له هذه الأيام أستاذ العلوم السياسية بجامعة السوربون، نجيب سيدي موسى، الذي انتقد كتابات وتصريحات بوعلام صنصال، من حملة مسيئة، إلا مظهرا من مظاهر إحكام اليمين المتطرف قبضته على كل شيء في فرنسا، ما ينذر بمستقبل غامض لقلعة الحريات التي لم تعد تؤمن بالحريات.


الباحث في الشؤون الإستراتيجية والحضارية أحمد سريرات لـ”الشروق”:
السلطات الفرنسية تشجع بروز اليمين المتطرف مع عودة ترامب




يدحض الكاتب والباحث في الشؤون الإستراتيجية والحضارية، أحمد سريرات، المزاعم التي تؤسّس لها النخب الفرنسية، والتي مفادها أن “باريس رائدة في مجال حقوق الإنسان”، حيث يصفها بأنها “الطرف المتطرف في الأمة الغربية في نشر حضارتهم العلمانية”.


ويتحدث سريرات، الذي نشر عددا من المؤلفات في مجال الفكر والحضارة، عن الأساس الذي تعتمده فرنسا في دعم حكومات “مارقة” بإفريقيا، ومساندة الاحتلال المغربي للصحراء الغربية، إضافة إلى الدور المشبوه لها في ليبيا بدعم الانقلابي خليفة حفتر.


هل يمكن تصنيف فرنسا ضمن الدول الرائجة في مجال حماية حقوق الإنسان، كما يدعّي ساستها؟


تاريخيا، تمثل فرنسا الطرف المتطرف في الأمة الغربية في نشر حضارتهم العلمانية، لأن البعد الديني في ثقافتها كان ضعيفا، فكان رجال الدين يستغلونه في توسيع نطاق امتيازاتهم في ملكية الأراضي والعقارات بحيث كانت الكنيسة الكاثوليكية أكبر مالك للأراضي في البلاد، وكان ذلك الوضع يجعل الدين المسيحي غير مؤثّر في منظومة المجتمع الأخلاقية، بالمقارنة مع الدول الأوروبية الأخرى كبريطانيا العظمى أو إسبانيا مثلا. والتحوّلات السياسية الكبرى في فرنسا كانت تتميّز بالعنف، لاسيما خلال ثورتهم التي دامت عشر سنوات، والتي تخللها “إعلان حقوق الإنسان والمواطن”، الذي كان وثيقة حقوق فوق دستورية ذات أثر قانوني، أصدرتها الهيئة التشريعية “الجمعية الوطنية”، بوصفها هيئة تأسيسية في حالة استثنائية مضطربة لوضع دستور وعقد اجتماعي جديد.


فرنسا كانت رائدة فعلا في ذلك الوقت في نشر تلك الحقوق الهامة، ولكن كانت مجرد صحوة ضمير ما لبثت أن فقدت أثرها في الواقع بعد ذلك أثناء أحداث الثورة العنيفة.
في رأيي، وبناء على طبيعة الظروف التاريخية لحالة إصدار ذلك الإعلان، لا يمكن تصنيف فرنسا ضمن الدول الرائجة في مجال حماية حقوق الإنسان، وخصوصا أنّ تلك المبادئ الإنسانية مستمدة أساسا من الأديان السماوية، التي تعاديها العلمانية الفرنسية.


ما هي أوجه التناقضات الفرنسية بين “إعلان حقوق الإنسان والمواطن الفرنسي” وسياستها الاستعمارية؟


ذلك الإعلان كان شعارا سياسيا أكثر منه أخلاقي لتغيير نظام الحكم الملكي في فرنسا إلى النظام الجمهوري. وخاصية التطرف في الثقافة الفرنسية ظلّت ثابتة لم تتغير، بالرغم من تحقيق المجتمع الفرنسي رغبته في إلغاء النظام الإقطاعي الظالم، وتقزيم نفوذ طبقات النبلاء ورجال الدين، وتغيير طبيعة نظام الحكم.


ولقد ابتلانا الله، تعالى، باستعمار فرنسا في 1830 لمدة طويلة، بسبب وجود علة التطرف والاستعلاء في ثقافتهم، وميل شديد إلى العلمانية الغريبة عن ثقافتنا الدينية. فحكمة الله سبحانه اقتضت أن تستفز كرامة الجزائريين تلك العلل الظاهرة في سلوك الاستكبار والظلم عند الغزاة الفرنسيين، حتى لا تنقطع مقاومة الشعب الجزائري بكل فئاته للاستعمار، في ساحات المعارك المختلفة، فلا تنجح عملية تغريب المجتمع الجزائري وخداعه بشعار “إعلان حقوق الإنسان والمواطن الفرنسي”.


يمكن القول إنّ ممارسات فرنسا الاستعمارية في الجزائر، التي صنّفها المؤرخون النزهاء، بجرائم ضد الإنسانية، فضحت كذب الرسالة الحضارية التي حملها الغزاة الفرنسيون، وبيّنت بوضوح نفاق شعار حقوق الإنسان في السياسة الاستعمارية لفرنسا آنذاك.


هل أصبح سلوك اليمين المتطرف موقفا رسميا للدولة الفرنسية؟


العالم مقبل على تحوّلات كبرى، خصوصا بعد تولي الرئيس الأمريكي ترامب السلطة، وتحالفه مع الشركات العالمية لإحداث نقلة علمية واقتصادية وسياسية ثورية في قادم الأيام.
وفرنسا في نظري تستعد بطريقتها الخاصة لذلك التحوّل، بالضغط على مجتمعها بتشجيع بروز اليمين المتطرف في الإعلام والسلطة التنفيذية، حتى يتهيأ الناس لقبول قرارات مصيرية، قد تمس طبيعة النظام في فرنسا وتوجهاته المستقبلية.


ماذا يعني دعم الحكومة الفرنسية للاحتلال المغربي في الصحراء الغربية والانقلابي خليفة حفتر في ليبيا ودكتاتوريات أخرى في إفريقيا؟


واضح أنها ضغوط على الجزائر في الظاهر، من أجل الابتزاز والحصول على مكاسب اقتصادية فقدتها بسبب العلاقات المتشنجة بين الجزائر وفرنسا، كما أنها من المنظور الجيوسياسي، قد تشكّل تموقعا استباقيا من فرنسا، تحسبا للزلزال القادم على العالم الذي تمهّد له حرب أوكرانيا وحرب غزة.


الجزائر في كل الأحوال مستهدفة جيوسياسيا، نظرا لتأثيرها القدري في الأحداث الإقليمية وحتى العالمية، ولكنها مع ذلك تبقى “محروسة” من المنظور الجيو-حضاري، فموقعها الجغرافي الإستراتيجي يؤهلها للعب دور حضاري مستقبلي، وهي تتهيأ له منذ قرون في صمت.


وهنا أود أن أفتح قوسا تاريخيا إذا سمحت لتوضيح أهمية المنظور الجيو -حضاري في قراءة الأحداث في التاريخ والواقع، لأن المنظور الجيو- سياسي قاصر ومحصور في التحوّلات السياسية وغير قادر على قراءة وفهم التحوّلات الحضارية التي تهمنا، فثورتنا المجيدة لم تأت من فراغ، بل أعقبت فترة تحصين ثقافي متحضّر وفترة تحصين ديني غير مُسيّس.
فالتحصين تم في حالة وضع إقليمي وداخلي كارثية، لما كانت الدولة الزيانية، التي كانت عاصمتها مدينة تلمسان، قد وصلت إلى أقصى درجة من الضعف في القرن الخامس عشر، وظهرت من جراء ذلك إمارات صغيرة مفكّكة ومتناحرة، فاستغل الإسبان ذلك الضعف، وشرعوا بكل يسر في احتلال موانئ الجزائر ومدنها الساحلية، إلاّ أنّ تقدير الله جعل من ذلك فرصة كبيرة لتجديد ثقافتهم المنهزمة، بمدد غني من الثقافة الأندلسية الإسلامية المتحضّرة، وتم ذلك بفضل سهولة اندماج الأندلسيين الفارين من بطش الإسبانيين الحاقدين، بالمجتمعات الأمازيغية المحلية، التي كانت تتحلى بقدر عال من المروءة والشهامة.


كم تمخض عن ذلك الوضع أيضا حالة من الفراغ السياسي، سمح بإنعاش الدعوة الدينية من قبل ثلة من العلماء المخلصين والدعاة الصالحين، ومنهم أشراف من السلالة النبوية، فقاموا بمهمة دينية تاريخية، لتحصين جينات الثقافة المحلية على مدى قرون أربعة، وخاصة عند مجيء الأتراك إلى المنطقة، في بداية القرن السادس عشر، لمساعدة الجزائريين على تحرير معظم المدن الساحلية وموانئها من الاحتلال الإسباني والإيطالي، ولم تبق إلا مدينة وهران وميناءها في غرب الجزائر تحت الاحتلال الإسباني، حتى القرن الثامن عشر.


وقد كانت فرصة أخرى لتدعيم ثقافة الأمازيغ بمدد آخر من الإيمان وتعاليم الدين، في كنف علماء ربانيين، بعيدا عن السياسيين الفاشلين، والمشغولين بالتناحر فيما بينهم، على سلطة هشة وزائلة، فرّب ضارة نافعة.


وقد قام أولئك العلماء والدعاة بعملية تجديد الوعي الديني في القرى والجبال، بتربية الأمازيغ وتعليمهم وتوجيههم، على مبادئ الإسلام وتعاليمه الحضارية الأصيلة، وكان ذلك في مدارس تحفيظ القرآن الكريم وتعليم العلوم الدينية، حتى تكون مستعدة لمواجهة غزو أخطر من الغزو العسكري المألوف لديهم، وهو الغزو الثقافي الغربي المقبل عليهم، والذي ما فتئ يتطوّر محتواه الحضاري، حتى بلغ النضج بداية من القرن التاسع عشر.


فخرجت، بفضل الله ورحمته، أجيال مباركة، حفظها الله، تعالى، من الانبهار الأعمى بمظاهر حياة الغربيين الحديثة، وأفكار حضارتهم المادية، فمهّدت لقيام كل أشكال المقاومة حتى تحرير الجزائر من الاستعمار الفرنسي. الجزائر قد تمسّها هزات عنيفة من الكائدين، ولكن قدرها الصمود والثبات، فلن تسقط بإذن الله، تعالى.


ما هي ملاحظاتك على تعامل الحكومة الفرنسية مع ملفات مثل العنصرية والتمييز الديني والنساء والفتيات المسلمات، اللاجئين والمهاجرين، وهي ملفات تم إدراجها في التقرير السنوي لمنظمة العفو الدولية؟

طريقة التعامل مع هذه الملفات هي مسألة سيادية للسلطة بالنسبة لفرنسا، ولكن ما يهمنا في هذا الشأن هو فهم طبيعة ذلك التعامل بطريقة تعسفية وتمييزية مع هذه الملفات، فذلك يكشف لنا أنّ هناك ارتباك في الترويج لمبادئ العلمانية بطريقة حضارية مقنعة. الإسلام أصبح كفكرة حضارية منافسة وصاعدة يزعج المثقفين الفرنسيين المتطرفين، ويفضح تراجع القيمة الحضارية لأفكارهم العلمانية.


المصدر: الشروق