الزمزوم
2024-11-21, 00:59
قومنة الاثنيات.. سلاح التخريب الاستعماري لتفكيك الأمم
نزهة جابري
توطئـة:
منذ انشطار الإمبراطورية العربية الإسلامية ووقوعها تحت الغزو الأجنبي المغولي ثم العثماني، إلى تقاسم تركة الرجل المريض حسب اتفاقية سايس بيكو لاحقا، والوطن العربي يقاوم واقع التجزئة الذي لم يكن حالة تاريخية أبدية مطلقة بالقدر الذي كان فيه واقعا مفروضا أملته دوائر الاستعمار الغربية ومصالحها، لأن التاريخ وعلم التاريخ يرفض هذا التصور اللامادي الذي يقف عائقا أمام الوعي بضرورة التصدي لمهمة توحيد أقطاره على قاعدة مشروع عربي تقدمي نهضوي. ومن الجلي أن الامبريالية توغلت كثيرا في هيمنتها على البلاد العربية، فلم تعد تكتفي بما حققته من معضلة التجزئة القطرية كمحصلة لاتفاقية سايس بيكو والتي تطورت من حالة جغرافية إلى حالة سياسية واجتماعية واقتصادية وقانونية، إذ أصبح لكل قطر دولة وعلم ودستور وعملة واعتراف دولي بغض النظر عن حجمه وثقله الاقتصادي والسكاني، بل عمدت على إرساء زعامات عرقية وطائفية واثنية تنوعت درجات تطرفها وانعزاليتها بهدف تعزيز التقسيم الجغرافي ضمن دائرة الكيانات القطرية ذاتها. ولأن كانت محاولات الانعزالية القطرية متهافتة من الناحية العلمية والحضارية والتاريخية، لكنها تركت أثرا على بعض الفئات الاجتماعية وساهمت في تظهير النفس العنصري الاثني الضيق على حساب الانتماء الوحدوي العربي الجامع.
ومن المداخل الثقافية النظرية التي خدمت الامبريالية في عدوانها على الوطن العربي، تمرير الخطاب الهوياتي في بعده العرقي النكوصي الرجعي إلى وعي بعض الفئات الشعبية، وذلك عبر تسييد الانتماءات الهوياتية الفرعية بل وحتى خلق انتماءات اثنية مبنية على هويات أحفورية قديمة مندثرة يتم رفعها إلى مقام الانتماء الهوياتي الوحدوي العروبي، بل ويتم فصلها عنه وتجييشها لتكون على عداء دائم معه عوض أن تكون عنصرا لإثراء الأمة العربية الواحدة.
هذا الخطاب الهوياتي الذي تنتجه مراكز الأبحاث الاستشراقية الغربية أساسا، ويضخ عبر قنوات إعلامية ومؤسسات ثقافية وجمعوية وشخصيات سياسية وفنية من خريجي مدارس التمويل والأنجزة في الوطن العربي، هو انعكاس لأزمة الرأسمالية التبعية وفي الآن نفسه هو تعبير عن غياب المشروع الوحدوي العروبي التقدمي. وهي أزمة نابعة من هذا الانفصام الكائن بين وجود ثقافة عربية عبر وعاء اللغة الواحدة بالأساس وعدم وجود دولة عربية مركزية. ولأن الهويات الاثنية والإقليمية والطائفية هي بالدرجة الأولى الابن الشرعي لأزمة غياب مشروع الوحدة العربي التحرري، وهي بالتالي أزمة ترتبط بالأساس بعوامل خارجية مصدًرة، أي بعامل التجزئة الاستعمارية المفروض منذ التغلغل الاستعماري أواسط القرن التاسع عشر وسايس بيكو كامتداد له، أكثر مما ترتبط بعوامل أزمة داخلية في بنية الهوية العربية الحضارية، لأن الأمة العربية في مرحلة التجزئة الاستعمارية كانت أمة في طور التوحيد ولم تكن أمة في طور التكوين.
انعزالية الخطاب الهوياتي:
من بين المقولات التي باتت رائجة في الخطاب الهوياتي الضيق فكرة إعادة الاعتبار للهويات المحلية، أو ما يسمى بهويات “الشعوب الأصلية” والمقصود بها الفرعونية والفينيقية والكنعانية والسريانية والأمازيغية، والمناداة بضرورة إحياءها بعد الطمس والتهميش الذي تعرضت له تاريخيا تحت سلطة “الاحتلال العربي”! وذلك كمدخل أساسي للحداثة ولفك الارتباط بالوطن العربي ومن ثم التحرر من بوثقة “التخلف” العربي نحو آفاق الحرية والدمقرطة وحقوق الإنسان! والواضح من خلال هذا الفهم المشوه، أن الطرح الهوياتي لم يتم تظهيره وإذكاءه في الوطن العربي بغية إثراء وإغناء الأمة وتعزيز تماسك الهويات المختلفة مع الهوية العربية المشتركة والجامعة، بل هو طرح صدامي مع العروبة منذ الأول هدفه الأساسي إضعاف الهوية الجامعة المشتركة، لصالح هويات اثنية فرعية تمزيقية تقتات على واقع الأزمة الاقتصادية والاجتماعية والتخلف السياسي القطري وتكرسه.
وما دام النيل من العروبة هو المقصد والمبتغى من صناعة هاته الفسيفساء من القوميات المصطنعة والاثنيات ومحاولة قومنتها دون أن تتوفر لجماعتها أدنى شروط الأمة، فلقد نالت الهوية والثقافة العربية من التشويه والاتهام والإساءة ما لم تنله قضية أخرى. فباث كل حديث عن العرب والعروبة في مرمى الاتهام بالعرقية والعنصرية، وباتت سردية “الاحتلال العربي” الذي يؤسس لتفوق “العرق العربي” على الشعوب الأصلية مقولة رائجة إعلاميا وأكاديميا، بحيث ينظر فيها للعروبة كانتماء عرقي مرتبط فقط برقعة جغرافية محددة وهي شبه الجزيرة العربية. وعليه فإن الهوية العربية بهذا المنظور هي هوية طارئة دخيلة من جهة ومن جهة أخرى هي هوية عنصرية استئصالية لا تؤمن بالتعدد الإثني والهوياتي وتلغي حق “الشعوب الأصيلة” التي استعمرها العرب في الوجود. ومن جهة ثالثة، هي هوية وهمية، إذ لا وجود لكيان اسمه الوطن العربي الذي أصبح مصدر شك بوجوده أصلا، وتاريخا وواقعا.
منظور يهتز مع طرح حزمة أسئلة:
متى كانت العروبة عرقية أو انتماءً عرقيا؟ وهل العروبة هي وجود طارئ ودخيل على الشعوب التي توجد داخل جغرافيا الوطن العربي والتي يصفها هذا الخطاب الهوياتي “بالشعوب الأصلية”؟ وهل الهوية العربية في بعدها التقدمي إقصائية في حق المكونات الاثنية الأخرى؟
إن العروبة والتي هي أساس المشروع الوحدوي التقدمي العربي هي انتماء حضاري وسياسي وليس انتماءً عرقيا بالمطلق. فالعرقية وبالأخص ما يعرف بالعرقية الطبيعانية والتي تعتبر أن العرق هو مركب بيولوجي، يعتمد فقط على خصائص جينية: كلون البشرة، طبيعة الشعر، وشكل الجمجمة، وتربط هذه الخصائص بحدود جغرافية قارية هي مفهوم وهمي لا يؤخذ حتى على محمل الجد في المجتمع العلمي. لأن عملية تمييز البشر عرقيا على أساس علمي غير صحيحة إطلاقا، وإن كانت هناك اختلافات بيولوجية قائمة بين المجموعات البشرية ولكنها ليست ذات قدرة على صنع ما يسمى «بالعرق»، بمعنى أن وجود خصائص بيولوجية فطرية وراثية لا يمكن أن يؤسس لتشكيلة اجتماعية اقتصادية. واليوم عندما يطرح لفظ العرق في الأوساط العلمية فلا يعني البتة ذلك الانحياز لنمط جيني، بل المقصود به هو مركب اجتماعي مرتبط بالثقافة واللغة وعادات الشعوب والمجموعات البشرية. ومما يمكن الاستدلال به في هذا الصدد هي أعمال ريتشارد لوينتن وهو عالم أحياء وعالم وراثة وأستاذ بجامعة بهارفارد، والتي كان قد نشرها في السبعينيات من القرن الماضي في ورقة بحثية بعنوان “توزيع التنوع البشري”، وبيًن من خلالها أن أكثر من 90 في المائة من التباينات الجينية التي نراها بين البشر تقع ضمن “الفئة العرقية” نفسها وليس بين الفئات العرقية. أي إن الانتماء إلى العرق نفسه لا يعني بالضرورة التشابه الوراثي، مقارنة بما يحدث بين أفراد الأعراق المختلفة.
وعليه، فإن الزج بالعروبة في هذا الخندق العنصري المتعصب هي محاولة بائسة، فالعروبة بعيدة عن هذا الفهم العرقي، وإنما هي هوية حضارية وتاريخية مركبة من عناصر تاريخية متداخلة ومتشابكة لجميع الأقوام والاثنيات الموجودة داخل الرقعة الجغرافية الممتدة من المحيط إلى الخليج، ومن البحر المتوسط حتى جنوب الجزائر وصولا إلى القرن الإفريقي. بمعنى آخر هي التعبير المادي عن وجود الأمة العربية واقعاً تاريخياً امتد لعشرات الحقب وتأسس في الثقافة والحضارة والأرض المشتركة والتاريخ الممتد، وصنع وعاء للتواصل وللفكر هو اللغة الواحدة، وحين نقول نحن العرب، فإنما نعني ذلك التركيب البشري الثقافي الغني والمتجدد الذي اغتنى على مر التاريخ بعدة روافد ومكونات للشعوب والحضارات والتكتلات البشرية الأخرى.
الوجود والامتداد العربي على الأرض العربية:
جزء كبير ممن ينكرون وجود أمة عربية يستندون على فكرة أن العروبة “عرق” وثقافة دخيلة ومكون طارئ على هوية وثقافة “الشعوب الأصلية”، سواء في شمال شرق المتوسط أو غربه. بل أن البعض من دعاة الهويات الفرعية يبرر رفضه لفكرة العروبة والأمة العربية لا على أساس الفكرة في حد ذاتها، بل على أساس أن العروبة مؤسسة على أرض غير أرضها، لأنهم يعتبرون أن الحيز الجغرافي الذي يسمح فيه بالحديث عن العرب والعروبة هو شبه الجزيرة العربية، وغير ذلك يبقى التمايز قائما بين أسطورة البربري والسرياني والفرعوني والفينيقي والأكادي الأصيل وبين العربي الغازي، ويبقى الطعن قائما في الهوية العربية الحضارية الجامعة.
وفي هذا الصدد ينبغي الإشارة إلى أن المدارس الاستشراقية التي درست حضارات العالم القديم في الوطن العربي، لعبت دورا أساسيا في إرساء فكرة أن الامتداد العربي من شبه الجزيرة العربية إلى المحيط تم بعد ظهور الإسلام، وأن مناطق شرق المتوسط وغربه كانت قبل التاريخ الهجري لا تعرف أي وجود عربي. وهكذا حتى تظهر الأمة العربية منزوعة الصلة عن تاريخها ومنقطعة عن ماضيها. فالتاريخ يكتب ويكيف سياسيا حسب مصالح الغرب الامبريالية وحسب ما تقتضيه مشاريعه الاستيطانية في الوطن العربي. بيير روسي وهو أحد المؤرخين البارزين في التاريخ القديم يوضح في كتابه “التاريخ الحقيقي للعرب” -صفحة 70- ما يفيد واقع المؤامرة الاستعمارية التاريخية، حيث يقول:
“إن هوسنا المحب للخصام الذي بدأ تفريقه -الشعب العربي- إلى شعوب أقرباء كالمؤابين والمؤدنين أو العموريين، والكنعانيين، والآراميين، والسوريين، الخ… ولماذا؟ لأننا نعني أن نميز فيهم خصوصيات عرقية أو طائفية تجبرنا على أن نضع بينها العبرانيين، وذلك لكي نقدم الدليل بكل ثمن على صحة العهد القديم.”
ومن بين الأعمال التي حذرت كذلك من سردية المدرسة الكلونيالية الغربية والفرنسية على وجه بالخصوص، هي أبحاث الدكتور واريك بول Warwick Ball وهو عالم آثار ومؤلف أسترالي، أجرى أعمال تنقيب وترميمات ضخمة في أفغانستان وإيران والعراق والأردن وغيرها، ونبه كثيرا إلى مغالطات المدارس الأوروبية التي حصرت تسمية “عرب” في دلالة “بدو”، وهو الأمر الذي لا علاقة له بالموضوعية التاريخية. وما يسترعي الاهتمام في أعماله هي حالة الإنصاف غير المعتادة التي يقوم بها هذا الكاتب تجاه تاريخ كل الشعوب غير الأوروبية، ومن بينها العرب، منذ فجر التاريخ ومنذ كانوا فينيقيين. حيث يقول في كتابه (Out of Arabia) أو (أصولنا من جزيرة العرب):
“غالبًا ما يُنظر إلى التاريخ العربي على أنه بداية من الإسلام. لكن للعرب تاريخ طويل يمتد إلى آلاف السنين- وهو تاريخ مرتبط ارتباطًا وثيقًا بالتاريخ والهوية الأوروبية. كان أسلاف العرب (الفينيقيون)، يستكشفون سواحل إنجلترا وغرب إفريقيا ويستوطنون الكثير من إسبانيا وصقلية وشمال إفريقيا قبل الألفية الأولى قبل الميلاد. كان على العرب أن يستمروا في هذا التقليد المتمثل في اختراق العالم قبل فترة طويلة من “عصر التوسع” الأوروبي. لذلك كان الإسلام تتويجًا كبداية”.
يضاف إلى ذلك ما قاله الباحث المختص في التاريخ السوري ريني دايسو René Dussaud في كتابه “العرب في سوريا قبل الإسلام”:
“من الخطأ أن يعتقد الناس أن دخول العناصر العربية إلى الشام يرجع إلى الفتح الإسلامي. إن الوثبة التي مكنت المسلمين من تحطيم الخطوط البيزنطية في موقعة اليرموك (636) ومن غزو سوريا، ثم الزحف نحو الشرق بعد ذلك حتى وصلوا إلى وسط آسيا ونحو الغرب مارين بشمال افريقيا فوصلوا إلى اسبانيا، هذه الوثبة قد دلت على القوة العربية في أوجها، ومع ذلك، فإن تلك الوثبة لم تكن إلا بمثابة تعظيم شديد لاتجاه قد ترك آثارا عديدة في التاريخ… وبعبارة أخرى، إذا كان الفتح الإسلامي الذي وقع في القرن السابع الميلادي، يبدو كما لو كان حادثا شادا في اتساعه، فهو في الحقيقة يعد حركة طبيعية للسكان العرب الذين كانوا يتجهون دائما لا إلى غزو الأقاليم الحضرية فحسب بل إلى الإقامة بها أيضا”.
وفي نفس مضمار الاستقصاء التاريخي عن جذور الوطن العربي، يوضح عالم الآثار الشهير الفرنسي جون مازيل “Jean Mazel” في كتابه “مع الفينيقيين في السعي وراء الشمس على دروب الذهب والقصدير”، صفحة 26-27 امتداد أصول الكنعانيين من جنوب الجزيرة العربية حيث يقول:
“على امتداد الشريط الساحلي البحر متوسطي لـ لبنــان… شعب عريق جذوره من أعماق الجزيرة العربية، والذي سمى نفسه “الشعب الأحمر”… إنهم الحميريون الذين سكنوا جنوب شبه الجزيرة العربية منذ نشأة الأرض، أطلقوا اسمهم على البحر المتواجد غرب أراضيهم “البحر الأحمر”، برعوا في البحر و الملاحة و قاموا بهجرات جد قديمة نحو الغرب بحثا عن المعادن النفيسة كالذهب و كل ما كان ذو قيمة، يجب أن نعرف أن الحميريين هم المجموعة الأكثر شهرة في الجزيرة العربية حيث سكنوا حضرموت الحالية وامتدت أراضيهم الشاسعة من عدن إلى مسقط…”.
كما يؤكد ترابط اللغة العربية القديمة في جنوب شبه الجزيرة العربية مع اللغة الفينيقية التي انتشرت في شمال إفريقيا قبل الوجود الإسلامي من خلال شهادته من نفس المصدر:
“اللغة الحميرية التي تسمى أيضا Sudarabic (لغة جنوب جزيرة العرب) هي لغة جد قديمة، وهي اللغة الأم للفينيقية الكنعانية لاحظ علماء الآثار في كتابات الملوك والكتابات الأثرية للنقوش الحميرية أن هناك العديد من الاتصالات مع الحروف الهجائية الفينيقية والعربية القديمة. كان المصريون القدماء يسمون مملكة حمير بـ”بلد بون” و تنطق بلغات أخرى Poun أو Pouaniti أو Poeni أو Puni ومنها جاء مصطلح “البونية” والبونيقية (Punique) كل الكلمات لها الدلالة نفسها، بعد هجرتهم نحو الشمال كما هو ظاهر على الخريطة المرفقة أسسوا مدنا على الشريط الساحلي اللبناني في تلك الفترة عرفوا باسم الفينيقيين (التسمية التي أطلقها عليهم الإغريق خاصة) وامتهنوا التجارة البحرية وتبادل السلع وترويجها من وإلى كل من الهند وإفريقيا وأوروبا وبلاد الأناضول المجاورة، وكما أنهم برعوا في فنون الزراعة والفلاحة وكانوا السباقين في اكتشاف تقنياتها قبل قرون تلت، أول من ابتكروا الأحرف الأبجدية ووضعوا نظام الكتابة، كانت حضارة جابت أصقاع الأرض واشتهرت بعلمها وقوتها وزاد صيتهم وذروة قوتهم حين أسسوا قرطاجة الإمبراطورية التي ملكت شمال إفريقيا وفرضت هيمنتها على البحر الأبيض المتوسط…”.
عالم اللسانيات الأمريكي س.هاريس “zellig s.harris”، والمشهور بعمله في اللغويات الهيكلية وتحليل الخطاب واكتشاف البنية التحويلية في اللغة، يوضح كذلك ترابط اللغات العربية القديمة مع لغة شمال افريقيا، حيث يعتبر اللغة البونيقية هي اللغة التي كانت منتشرة شمال افريقيا قبل الإسلام، ويقول في كتابه “قواعد اللغة الفينيقية”، في الجزء 8 صفحة 8: “استمرت اللهجة البونية للفينيقيين، بعد سقوط قرطاجة، وفي القرنين الخامس والسادس الميلادي وكانت لا تزال لغة القرويين (الأهالي)، والمرجح أنها استمرت إلى غاية الفتح العربي”.
وهذه شهادة كبيرة من طرف عالم لسانيات مرموق، فيها البرهان الذي يفند أسطورة أن الإسلام عَرَّب الأهالي، كما يضيف الدكتور بهجت القبيسي أن العربية أخذت مكان البونيقية للتشابه الكبير بينهما في المفردات اللغوية في مرحلة توسع الإمبراطورية الإسلامية.
إن أبرز وأهم ما ينبه إليه الباحثين المدققين هو أصالة المكون العربي في المنطقة، مفندين فكرة أن العرب مجرد فقاعة ظهروا على وجه التاريخ مع ظهور الإسلام، أو أنهم كانوا مجرد بدو يعيشون على أطراف الصحراء في انتظار الفرصة للانقضاض على مجتمعات الزراعة والحضارة.
بالإضافة إلى ذلك، يوضح الخبير المعروف في التاريخ السومري واللغة السومرية صموئيل كريمر في كتابه “من ألواح سومر”، أن تاريخ شبه الجزيرة العربية موغل في القدم وأن أولى الهجرات العربية التي خرجت منها إلى بلاد الرافدين حدثت سبعة الآلاف قبل الميلاد أي في عصور ما قبل التاريخ. أما عن مناطق نزوح القبائل العربية من الجزيرة فهي مناطق الهلال الخصيب، خاصة بادية الشام وبلاد الرافدين، وفيها ظهرت مملكة الأنباط في البتراء ومملكة المناذرة في الحيرة بالعراق ومملكة الحضر قرب مدينة الموصل. كل هاته المماليك برزت حوالي 300 سنة ق.م، وهذا الأمر يدل على أن الأمة العربية التي يراد لها التفكيك بين أجزاءها، ثم تفكيك حاضرها عن ماضيها هي امتداد موضوعي ومادي لكل حضارات العالم القديم.
إن إيماننا الراسخ بحقنا العربي في الوجود على كامل أراضي الوطن العربي لا ينفي ولا يلغي حق أي طيف اثني آخر في الوجود. وحتى إن افترضنا تمايز العنصر العربي تاريخيا عن الاثنيات الأخرى في الوطن العربي، وافترضنا أن هذا الأخير تأسس على الحرب والضم والتوسع، هل يعني ذلك نفي الأمة العربية والعروبة اليوم؟ هل يعقل أن العروبة بما هي انتماء وتعايش حضاري انتظم مع هويات أخرى طيلة أكثر من 14 قرن مازالت تعتبر اليوم دخيلة وهوية طارئة؟ في هذا الصدد، يحق لنا أن نتساءل في سياق الوضع ووفقا لأجندة الطرح الهوياتي عن دوافع هاته المحاكمة، محاكمة الماضي المتخيل والمفبرك استشراقيا بمنطق الحاضر لتأبيد وضع التجزئة العربي. لماذا تحاكم العروبة اليوم وتتهم بالعنصرية والفاشية على أساس التوسعات والحروب الإسلامية القديمة؟ علما أن حضارات العالم القديم تلاقت وامتزجت فيما بينها بالحرب أكثر مما تلاقت بالسلم، وهي حقيقة يؤكدها تاريخ تشكل كل المجتمعات الإنسانية.
لذلك يجب أن نفهم أنه وفي سياق العدوان الامبريالي على الوطن العربي، سترتفع أصوات هنا وهناك على اختلاف تلاوينها السياسية والطائفية والعرقية لتدين العروبة ومجمل الثقافة العربية لغة وفكرا وفنا وأدبا وتعتبرها أمرا دخيلا على ثقافات بلدان شمال شرق المتوسط وغربه، بل وتندد بما تسميه “استعمارا واحتلالا عربيا” لهاته البلدان على أساس فهمها الخرافي المثالي للتاريخ. حيث يعتقد هؤلاء أن الهوية بنية مغلقة محنطة تكونت عناصرها في الماضي التليد، لا بناء تاريخيا دياليكتيكا تشكل تناقضيا ومحكوم بالصراع في الماضي والحاضر والمستقبل.
والغريب في الأمر أن من يحتضن إعلاميا وثقافيا خطاب إحياء الهويات والانتصار للشعوب الأصيلة المبطن بغاية تقسيم الوطن العربي، لا يسعه منطقه أن يسقطه على واقع وتاريخ العالم الغربي الاستعماري، فله أن يحاكم مثلا الوجود الأمريكي والكندي في القارة الهندية الشمالية التي سميت زورا بأمريكا بعد ذبح وإبادة جماعية للشعب الأصلي، بنفس القدر الذي يعتبر فيه تسمية البلاد العربية بالعربية زورا وكذبا على التاريخ. له أن يندد أيضا بعنصرية اعتبار هوية أمريكا هوية أوربية غربية تنتمي إلى تاريخ وقيم أوروبا الحضارية، بنفس القدر الذين يعتبر فيه أن عروبة المغرب والجزائر أو مصر أو سوريا إقصاءً منهجيا وموتا لهويات “الشعوب الأصلية”.
خلاصــة:
كل هاته العوامل التي سبق الحديث عنها وغيرها، تم تركيزها في مناخ جعل موضوع الأمة العربية والوحدة يتلاشى ويهمل، ويمهد الطريق لظهور بديل جديد متمثلا في محاولة قومنة الاثنيات المتواجدة في الوطن العربي من خلال سردية تعيد كتابة التاريخ العربي من جديد، مرتكزة بالأساس على إحياء هويات أحفورية قديمة ومتلاشية كالكنعانية والفنيقية والاكادية والبابلية والفرعونية الكيميتية ومنحها طابعا قوميا. وإن عملية قومنة الاثنيات لا يمكن أن تفضي بطبيعة الحال إلا لخلق كيانات أكثر تجزءا وانقساما من الكيان القطري العربي ذاته، كيانات ضعيفة عنصرية متنافرة ومتناحرة لا يمكن أن تكون إلا محكومة بالتبعية للمركز الامبريالي وتحت هيمنة الكيان الصهيوني.
بالإضافة أن العنصر الاثني والعرقي غير قادر لوحده على بناء قومية أو أمة بمعناها الحديث، أي بمعنى كيان يتأسس على منطلقات تاريخية وجغرافية وثقافية وعلى أساس العيش والمصير المشترك واللغة والدين ثم على أساس توفر الاقتصاد المشترك.
إن استحضار العروبة كانتماء حضاري تاريخي هو الذي أخرج الثقافة العربية من الدائرتين العرقية والجغرافية إلى الأفق الحضاري الواسع، والذي ساهم في الحفاظ عليه ونشره مسيحيون عرب ومسلمون من غير العرب، وبالتالي فإنّ العروبة كهويّة ثقافية هي ضرورة نضالية للتصدي لهاته الموجة من الخطابات الهوياتية الاستعمارية المصدر والرعاية، والمعادية لمشروع الوحدة وإنهاء حالة التجزئة.
المصدر: كنعان أون لاين
نزهة جابري
توطئـة:
منذ انشطار الإمبراطورية العربية الإسلامية ووقوعها تحت الغزو الأجنبي المغولي ثم العثماني، إلى تقاسم تركة الرجل المريض حسب اتفاقية سايس بيكو لاحقا، والوطن العربي يقاوم واقع التجزئة الذي لم يكن حالة تاريخية أبدية مطلقة بالقدر الذي كان فيه واقعا مفروضا أملته دوائر الاستعمار الغربية ومصالحها، لأن التاريخ وعلم التاريخ يرفض هذا التصور اللامادي الذي يقف عائقا أمام الوعي بضرورة التصدي لمهمة توحيد أقطاره على قاعدة مشروع عربي تقدمي نهضوي. ومن الجلي أن الامبريالية توغلت كثيرا في هيمنتها على البلاد العربية، فلم تعد تكتفي بما حققته من معضلة التجزئة القطرية كمحصلة لاتفاقية سايس بيكو والتي تطورت من حالة جغرافية إلى حالة سياسية واجتماعية واقتصادية وقانونية، إذ أصبح لكل قطر دولة وعلم ودستور وعملة واعتراف دولي بغض النظر عن حجمه وثقله الاقتصادي والسكاني، بل عمدت على إرساء زعامات عرقية وطائفية واثنية تنوعت درجات تطرفها وانعزاليتها بهدف تعزيز التقسيم الجغرافي ضمن دائرة الكيانات القطرية ذاتها. ولأن كانت محاولات الانعزالية القطرية متهافتة من الناحية العلمية والحضارية والتاريخية، لكنها تركت أثرا على بعض الفئات الاجتماعية وساهمت في تظهير النفس العنصري الاثني الضيق على حساب الانتماء الوحدوي العربي الجامع.
ومن المداخل الثقافية النظرية التي خدمت الامبريالية في عدوانها على الوطن العربي، تمرير الخطاب الهوياتي في بعده العرقي النكوصي الرجعي إلى وعي بعض الفئات الشعبية، وذلك عبر تسييد الانتماءات الهوياتية الفرعية بل وحتى خلق انتماءات اثنية مبنية على هويات أحفورية قديمة مندثرة يتم رفعها إلى مقام الانتماء الهوياتي الوحدوي العروبي، بل ويتم فصلها عنه وتجييشها لتكون على عداء دائم معه عوض أن تكون عنصرا لإثراء الأمة العربية الواحدة.
هذا الخطاب الهوياتي الذي تنتجه مراكز الأبحاث الاستشراقية الغربية أساسا، ويضخ عبر قنوات إعلامية ومؤسسات ثقافية وجمعوية وشخصيات سياسية وفنية من خريجي مدارس التمويل والأنجزة في الوطن العربي، هو انعكاس لأزمة الرأسمالية التبعية وفي الآن نفسه هو تعبير عن غياب المشروع الوحدوي العروبي التقدمي. وهي أزمة نابعة من هذا الانفصام الكائن بين وجود ثقافة عربية عبر وعاء اللغة الواحدة بالأساس وعدم وجود دولة عربية مركزية. ولأن الهويات الاثنية والإقليمية والطائفية هي بالدرجة الأولى الابن الشرعي لأزمة غياب مشروع الوحدة العربي التحرري، وهي بالتالي أزمة ترتبط بالأساس بعوامل خارجية مصدًرة، أي بعامل التجزئة الاستعمارية المفروض منذ التغلغل الاستعماري أواسط القرن التاسع عشر وسايس بيكو كامتداد له، أكثر مما ترتبط بعوامل أزمة داخلية في بنية الهوية العربية الحضارية، لأن الأمة العربية في مرحلة التجزئة الاستعمارية كانت أمة في طور التوحيد ولم تكن أمة في طور التكوين.
انعزالية الخطاب الهوياتي:
من بين المقولات التي باتت رائجة في الخطاب الهوياتي الضيق فكرة إعادة الاعتبار للهويات المحلية، أو ما يسمى بهويات “الشعوب الأصلية” والمقصود بها الفرعونية والفينيقية والكنعانية والسريانية والأمازيغية، والمناداة بضرورة إحياءها بعد الطمس والتهميش الذي تعرضت له تاريخيا تحت سلطة “الاحتلال العربي”! وذلك كمدخل أساسي للحداثة ولفك الارتباط بالوطن العربي ومن ثم التحرر من بوثقة “التخلف” العربي نحو آفاق الحرية والدمقرطة وحقوق الإنسان! والواضح من خلال هذا الفهم المشوه، أن الطرح الهوياتي لم يتم تظهيره وإذكاءه في الوطن العربي بغية إثراء وإغناء الأمة وتعزيز تماسك الهويات المختلفة مع الهوية العربية المشتركة والجامعة، بل هو طرح صدامي مع العروبة منذ الأول هدفه الأساسي إضعاف الهوية الجامعة المشتركة، لصالح هويات اثنية فرعية تمزيقية تقتات على واقع الأزمة الاقتصادية والاجتماعية والتخلف السياسي القطري وتكرسه.
وما دام النيل من العروبة هو المقصد والمبتغى من صناعة هاته الفسيفساء من القوميات المصطنعة والاثنيات ومحاولة قومنتها دون أن تتوفر لجماعتها أدنى شروط الأمة، فلقد نالت الهوية والثقافة العربية من التشويه والاتهام والإساءة ما لم تنله قضية أخرى. فباث كل حديث عن العرب والعروبة في مرمى الاتهام بالعرقية والعنصرية، وباتت سردية “الاحتلال العربي” الذي يؤسس لتفوق “العرق العربي” على الشعوب الأصلية مقولة رائجة إعلاميا وأكاديميا، بحيث ينظر فيها للعروبة كانتماء عرقي مرتبط فقط برقعة جغرافية محددة وهي شبه الجزيرة العربية. وعليه فإن الهوية العربية بهذا المنظور هي هوية طارئة دخيلة من جهة ومن جهة أخرى هي هوية عنصرية استئصالية لا تؤمن بالتعدد الإثني والهوياتي وتلغي حق “الشعوب الأصيلة” التي استعمرها العرب في الوجود. ومن جهة ثالثة، هي هوية وهمية، إذ لا وجود لكيان اسمه الوطن العربي الذي أصبح مصدر شك بوجوده أصلا، وتاريخا وواقعا.
منظور يهتز مع طرح حزمة أسئلة:
متى كانت العروبة عرقية أو انتماءً عرقيا؟ وهل العروبة هي وجود طارئ ودخيل على الشعوب التي توجد داخل جغرافيا الوطن العربي والتي يصفها هذا الخطاب الهوياتي “بالشعوب الأصلية”؟ وهل الهوية العربية في بعدها التقدمي إقصائية في حق المكونات الاثنية الأخرى؟
إن العروبة والتي هي أساس المشروع الوحدوي التقدمي العربي هي انتماء حضاري وسياسي وليس انتماءً عرقيا بالمطلق. فالعرقية وبالأخص ما يعرف بالعرقية الطبيعانية والتي تعتبر أن العرق هو مركب بيولوجي، يعتمد فقط على خصائص جينية: كلون البشرة، طبيعة الشعر، وشكل الجمجمة، وتربط هذه الخصائص بحدود جغرافية قارية هي مفهوم وهمي لا يؤخذ حتى على محمل الجد في المجتمع العلمي. لأن عملية تمييز البشر عرقيا على أساس علمي غير صحيحة إطلاقا، وإن كانت هناك اختلافات بيولوجية قائمة بين المجموعات البشرية ولكنها ليست ذات قدرة على صنع ما يسمى «بالعرق»، بمعنى أن وجود خصائص بيولوجية فطرية وراثية لا يمكن أن يؤسس لتشكيلة اجتماعية اقتصادية. واليوم عندما يطرح لفظ العرق في الأوساط العلمية فلا يعني البتة ذلك الانحياز لنمط جيني، بل المقصود به هو مركب اجتماعي مرتبط بالثقافة واللغة وعادات الشعوب والمجموعات البشرية. ومما يمكن الاستدلال به في هذا الصدد هي أعمال ريتشارد لوينتن وهو عالم أحياء وعالم وراثة وأستاذ بجامعة بهارفارد، والتي كان قد نشرها في السبعينيات من القرن الماضي في ورقة بحثية بعنوان “توزيع التنوع البشري”، وبيًن من خلالها أن أكثر من 90 في المائة من التباينات الجينية التي نراها بين البشر تقع ضمن “الفئة العرقية” نفسها وليس بين الفئات العرقية. أي إن الانتماء إلى العرق نفسه لا يعني بالضرورة التشابه الوراثي، مقارنة بما يحدث بين أفراد الأعراق المختلفة.
وعليه، فإن الزج بالعروبة في هذا الخندق العنصري المتعصب هي محاولة بائسة، فالعروبة بعيدة عن هذا الفهم العرقي، وإنما هي هوية حضارية وتاريخية مركبة من عناصر تاريخية متداخلة ومتشابكة لجميع الأقوام والاثنيات الموجودة داخل الرقعة الجغرافية الممتدة من المحيط إلى الخليج، ومن البحر المتوسط حتى جنوب الجزائر وصولا إلى القرن الإفريقي. بمعنى آخر هي التعبير المادي عن وجود الأمة العربية واقعاً تاريخياً امتد لعشرات الحقب وتأسس في الثقافة والحضارة والأرض المشتركة والتاريخ الممتد، وصنع وعاء للتواصل وللفكر هو اللغة الواحدة، وحين نقول نحن العرب، فإنما نعني ذلك التركيب البشري الثقافي الغني والمتجدد الذي اغتنى على مر التاريخ بعدة روافد ومكونات للشعوب والحضارات والتكتلات البشرية الأخرى.
الوجود والامتداد العربي على الأرض العربية:
جزء كبير ممن ينكرون وجود أمة عربية يستندون على فكرة أن العروبة “عرق” وثقافة دخيلة ومكون طارئ على هوية وثقافة “الشعوب الأصلية”، سواء في شمال شرق المتوسط أو غربه. بل أن البعض من دعاة الهويات الفرعية يبرر رفضه لفكرة العروبة والأمة العربية لا على أساس الفكرة في حد ذاتها، بل على أساس أن العروبة مؤسسة على أرض غير أرضها، لأنهم يعتبرون أن الحيز الجغرافي الذي يسمح فيه بالحديث عن العرب والعروبة هو شبه الجزيرة العربية، وغير ذلك يبقى التمايز قائما بين أسطورة البربري والسرياني والفرعوني والفينيقي والأكادي الأصيل وبين العربي الغازي، ويبقى الطعن قائما في الهوية العربية الحضارية الجامعة.
وفي هذا الصدد ينبغي الإشارة إلى أن المدارس الاستشراقية التي درست حضارات العالم القديم في الوطن العربي، لعبت دورا أساسيا في إرساء فكرة أن الامتداد العربي من شبه الجزيرة العربية إلى المحيط تم بعد ظهور الإسلام، وأن مناطق شرق المتوسط وغربه كانت قبل التاريخ الهجري لا تعرف أي وجود عربي. وهكذا حتى تظهر الأمة العربية منزوعة الصلة عن تاريخها ومنقطعة عن ماضيها. فالتاريخ يكتب ويكيف سياسيا حسب مصالح الغرب الامبريالية وحسب ما تقتضيه مشاريعه الاستيطانية في الوطن العربي. بيير روسي وهو أحد المؤرخين البارزين في التاريخ القديم يوضح في كتابه “التاريخ الحقيقي للعرب” -صفحة 70- ما يفيد واقع المؤامرة الاستعمارية التاريخية، حيث يقول:
“إن هوسنا المحب للخصام الذي بدأ تفريقه -الشعب العربي- إلى شعوب أقرباء كالمؤابين والمؤدنين أو العموريين، والكنعانيين، والآراميين، والسوريين، الخ… ولماذا؟ لأننا نعني أن نميز فيهم خصوصيات عرقية أو طائفية تجبرنا على أن نضع بينها العبرانيين، وذلك لكي نقدم الدليل بكل ثمن على صحة العهد القديم.”
ومن بين الأعمال التي حذرت كذلك من سردية المدرسة الكلونيالية الغربية والفرنسية على وجه بالخصوص، هي أبحاث الدكتور واريك بول Warwick Ball وهو عالم آثار ومؤلف أسترالي، أجرى أعمال تنقيب وترميمات ضخمة في أفغانستان وإيران والعراق والأردن وغيرها، ونبه كثيرا إلى مغالطات المدارس الأوروبية التي حصرت تسمية “عرب” في دلالة “بدو”، وهو الأمر الذي لا علاقة له بالموضوعية التاريخية. وما يسترعي الاهتمام في أعماله هي حالة الإنصاف غير المعتادة التي يقوم بها هذا الكاتب تجاه تاريخ كل الشعوب غير الأوروبية، ومن بينها العرب، منذ فجر التاريخ ومنذ كانوا فينيقيين. حيث يقول في كتابه (Out of Arabia) أو (أصولنا من جزيرة العرب):
“غالبًا ما يُنظر إلى التاريخ العربي على أنه بداية من الإسلام. لكن للعرب تاريخ طويل يمتد إلى آلاف السنين- وهو تاريخ مرتبط ارتباطًا وثيقًا بالتاريخ والهوية الأوروبية. كان أسلاف العرب (الفينيقيون)، يستكشفون سواحل إنجلترا وغرب إفريقيا ويستوطنون الكثير من إسبانيا وصقلية وشمال إفريقيا قبل الألفية الأولى قبل الميلاد. كان على العرب أن يستمروا في هذا التقليد المتمثل في اختراق العالم قبل فترة طويلة من “عصر التوسع” الأوروبي. لذلك كان الإسلام تتويجًا كبداية”.
يضاف إلى ذلك ما قاله الباحث المختص في التاريخ السوري ريني دايسو René Dussaud في كتابه “العرب في سوريا قبل الإسلام”:
“من الخطأ أن يعتقد الناس أن دخول العناصر العربية إلى الشام يرجع إلى الفتح الإسلامي. إن الوثبة التي مكنت المسلمين من تحطيم الخطوط البيزنطية في موقعة اليرموك (636) ومن غزو سوريا، ثم الزحف نحو الشرق بعد ذلك حتى وصلوا إلى وسط آسيا ونحو الغرب مارين بشمال افريقيا فوصلوا إلى اسبانيا، هذه الوثبة قد دلت على القوة العربية في أوجها، ومع ذلك، فإن تلك الوثبة لم تكن إلا بمثابة تعظيم شديد لاتجاه قد ترك آثارا عديدة في التاريخ… وبعبارة أخرى، إذا كان الفتح الإسلامي الذي وقع في القرن السابع الميلادي، يبدو كما لو كان حادثا شادا في اتساعه، فهو في الحقيقة يعد حركة طبيعية للسكان العرب الذين كانوا يتجهون دائما لا إلى غزو الأقاليم الحضرية فحسب بل إلى الإقامة بها أيضا”.
وفي نفس مضمار الاستقصاء التاريخي عن جذور الوطن العربي، يوضح عالم الآثار الشهير الفرنسي جون مازيل “Jean Mazel” في كتابه “مع الفينيقيين في السعي وراء الشمس على دروب الذهب والقصدير”، صفحة 26-27 امتداد أصول الكنعانيين من جنوب الجزيرة العربية حيث يقول:
“على امتداد الشريط الساحلي البحر متوسطي لـ لبنــان… شعب عريق جذوره من أعماق الجزيرة العربية، والذي سمى نفسه “الشعب الأحمر”… إنهم الحميريون الذين سكنوا جنوب شبه الجزيرة العربية منذ نشأة الأرض، أطلقوا اسمهم على البحر المتواجد غرب أراضيهم “البحر الأحمر”، برعوا في البحر و الملاحة و قاموا بهجرات جد قديمة نحو الغرب بحثا عن المعادن النفيسة كالذهب و كل ما كان ذو قيمة، يجب أن نعرف أن الحميريين هم المجموعة الأكثر شهرة في الجزيرة العربية حيث سكنوا حضرموت الحالية وامتدت أراضيهم الشاسعة من عدن إلى مسقط…”.
كما يؤكد ترابط اللغة العربية القديمة في جنوب شبه الجزيرة العربية مع اللغة الفينيقية التي انتشرت في شمال إفريقيا قبل الوجود الإسلامي من خلال شهادته من نفس المصدر:
“اللغة الحميرية التي تسمى أيضا Sudarabic (لغة جنوب جزيرة العرب) هي لغة جد قديمة، وهي اللغة الأم للفينيقية الكنعانية لاحظ علماء الآثار في كتابات الملوك والكتابات الأثرية للنقوش الحميرية أن هناك العديد من الاتصالات مع الحروف الهجائية الفينيقية والعربية القديمة. كان المصريون القدماء يسمون مملكة حمير بـ”بلد بون” و تنطق بلغات أخرى Poun أو Pouaniti أو Poeni أو Puni ومنها جاء مصطلح “البونية” والبونيقية (Punique) كل الكلمات لها الدلالة نفسها، بعد هجرتهم نحو الشمال كما هو ظاهر على الخريطة المرفقة أسسوا مدنا على الشريط الساحلي اللبناني في تلك الفترة عرفوا باسم الفينيقيين (التسمية التي أطلقها عليهم الإغريق خاصة) وامتهنوا التجارة البحرية وتبادل السلع وترويجها من وإلى كل من الهند وإفريقيا وأوروبا وبلاد الأناضول المجاورة، وكما أنهم برعوا في فنون الزراعة والفلاحة وكانوا السباقين في اكتشاف تقنياتها قبل قرون تلت، أول من ابتكروا الأحرف الأبجدية ووضعوا نظام الكتابة، كانت حضارة جابت أصقاع الأرض واشتهرت بعلمها وقوتها وزاد صيتهم وذروة قوتهم حين أسسوا قرطاجة الإمبراطورية التي ملكت شمال إفريقيا وفرضت هيمنتها على البحر الأبيض المتوسط…”.
عالم اللسانيات الأمريكي س.هاريس “zellig s.harris”، والمشهور بعمله في اللغويات الهيكلية وتحليل الخطاب واكتشاف البنية التحويلية في اللغة، يوضح كذلك ترابط اللغات العربية القديمة مع لغة شمال افريقيا، حيث يعتبر اللغة البونيقية هي اللغة التي كانت منتشرة شمال افريقيا قبل الإسلام، ويقول في كتابه “قواعد اللغة الفينيقية”، في الجزء 8 صفحة 8: “استمرت اللهجة البونية للفينيقيين، بعد سقوط قرطاجة، وفي القرنين الخامس والسادس الميلادي وكانت لا تزال لغة القرويين (الأهالي)، والمرجح أنها استمرت إلى غاية الفتح العربي”.
وهذه شهادة كبيرة من طرف عالم لسانيات مرموق، فيها البرهان الذي يفند أسطورة أن الإسلام عَرَّب الأهالي، كما يضيف الدكتور بهجت القبيسي أن العربية أخذت مكان البونيقية للتشابه الكبير بينهما في المفردات اللغوية في مرحلة توسع الإمبراطورية الإسلامية.
إن أبرز وأهم ما ينبه إليه الباحثين المدققين هو أصالة المكون العربي في المنطقة، مفندين فكرة أن العرب مجرد فقاعة ظهروا على وجه التاريخ مع ظهور الإسلام، أو أنهم كانوا مجرد بدو يعيشون على أطراف الصحراء في انتظار الفرصة للانقضاض على مجتمعات الزراعة والحضارة.
بالإضافة إلى ذلك، يوضح الخبير المعروف في التاريخ السومري واللغة السومرية صموئيل كريمر في كتابه “من ألواح سومر”، أن تاريخ شبه الجزيرة العربية موغل في القدم وأن أولى الهجرات العربية التي خرجت منها إلى بلاد الرافدين حدثت سبعة الآلاف قبل الميلاد أي في عصور ما قبل التاريخ. أما عن مناطق نزوح القبائل العربية من الجزيرة فهي مناطق الهلال الخصيب، خاصة بادية الشام وبلاد الرافدين، وفيها ظهرت مملكة الأنباط في البتراء ومملكة المناذرة في الحيرة بالعراق ومملكة الحضر قرب مدينة الموصل. كل هاته المماليك برزت حوالي 300 سنة ق.م، وهذا الأمر يدل على أن الأمة العربية التي يراد لها التفكيك بين أجزاءها، ثم تفكيك حاضرها عن ماضيها هي امتداد موضوعي ومادي لكل حضارات العالم القديم.
إن إيماننا الراسخ بحقنا العربي في الوجود على كامل أراضي الوطن العربي لا ينفي ولا يلغي حق أي طيف اثني آخر في الوجود. وحتى إن افترضنا تمايز العنصر العربي تاريخيا عن الاثنيات الأخرى في الوطن العربي، وافترضنا أن هذا الأخير تأسس على الحرب والضم والتوسع، هل يعني ذلك نفي الأمة العربية والعروبة اليوم؟ هل يعقل أن العروبة بما هي انتماء وتعايش حضاري انتظم مع هويات أخرى طيلة أكثر من 14 قرن مازالت تعتبر اليوم دخيلة وهوية طارئة؟ في هذا الصدد، يحق لنا أن نتساءل في سياق الوضع ووفقا لأجندة الطرح الهوياتي عن دوافع هاته المحاكمة، محاكمة الماضي المتخيل والمفبرك استشراقيا بمنطق الحاضر لتأبيد وضع التجزئة العربي. لماذا تحاكم العروبة اليوم وتتهم بالعنصرية والفاشية على أساس التوسعات والحروب الإسلامية القديمة؟ علما أن حضارات العالم القديم تلاقت وامتزجت فيما بينها بالحرب أكثر مما تلاقت بالسلم، وهي حقيقة يؤكدها تاريخ تشكل كل المجتمعات الإنسانية.
لذلك يجب أن نفهم أنه وفي سياق العدوان الامبريالي على الوطن العربي، سترتفع أصوات هنا وهناك على اختلاف تلاوينها السياسية والطائفية والعرقية لتدين العروبة ومجمل الثقافة العربية لغة وفكرا وفنا وأدبا وتعتبرها أمرا دخيلا على ثقافات بلدان شمال شرق المتوسط وغربه، بل وتندد بما تسميه “استعمارا واحتلالا عربيا” لهاته البلدان على أساس فهمها الخرافي المثالي للتاريخ. حيث يعتقد هؤلاء أن الهوية بنية مغلقة محنطة تكونت عناصرها في الماضي التليد، لا بناء تاريخيا دياليكتيكا تشكل تناقضيا ومحكوم بالصراع في الماضي والحاضر والمستقبل.
والغريب في الأمر أن من يحتضن إعلاميا وثقافيا خطاب إحياء الهويات والانتصار للشعوب الأصيلة المبطن بغاية تقسيم الوطن العربي، لا يسعه منطقه أن يسقطه على واقع وتاريخ العالم الغربي الاستعماري، فله أن يحاكم مثلا الوجود الأمريكي والكندي في القارة الهندية الشمالية التي سميت زورا بأمريكا بعد ذبح وإبادة جماعية للشعب الأصلي، بنفس القدر الذي يعتبر فيه تسمية البلاد العربية بالعربية زورا وكذبا على التاريخ. له أن يندد أيضا بعنصرية اعتبار هوية أمريكا هوية أوربية غربية تنتمي إلى تاريخ وقيم أوروبا الحضارية، بنفس القدر الذين يعتبر فيه أن عروبة المغرب والجزائر أو مصر أو سوريا إقصاءً منهجيا وموتا لهويات “الشعوب الأصلية”.
خلاصــة:
كل هاته العوامل التي سبق الحديث عنها وغيرها، تم تركيزها في مناخ جعل موضوع الأمة العربية والوحدة يتلاشى ويهمل، ويمهد الطريق لظهور بديل جديد متمثلا في محاولة قومنة الاثنيات المتواجدة في الوطن العربي من خلال سردية تعيد كتابة التاريخ العربي من جديد، مرتكزة بالأساس على إحياء هويات أحفورية قديمة ومتلاشية كالكنعانية والفنيقية والاكادية والبابلية والفرعونية الكيميتية ومنحها طابعا قوميا. وإن عملية قومنة الاثنيات لا يمكن أن تفضي بطبيعة الحال إلا لخلق كيانات أكثر تجزءا وانقساما من الكيان القطري العربي ذاته، كيانات ضعيفة عنصرية متنافرة ومتناحرة لا يمكن أن تكون إلا محكومة بالتبعية للمركز الامبريالي وتحت هيمنة الكيان الصهيوني.
بالإضافة أن العنصر الاثني والعرقي غير قادر لوحده على بناء قومية أو أمة بمعناها الحديث، أي بمعنى كيان يتأسس على منطلقات تاريخية وجغرافية وثقافية وعلى أساس العيش والمصير المشترك واللغة والدين ثم على أساس توفر الاقتصاد المشترك.
إن استحضار العروبة كانتماء حضاري تاريخي هو الذي أخرج الثقافة العربية من الدائرتين العرقية والجغرافية إلى الأفق الحضاري الواسع، والذي ساهم في الحفاظ عليه ونشره مسيحيون عرب ومسلمون من غير العرب، وبالتالي فإنّ العروبة كهويّة ثقافية هي ضرورة نضالية للتصدي لهاته الموجة من الخطابات الهوياتية الاستعمارية المصدر والرعاية، والمعادية لمشروع الوحدة وإنهاء حالة التجزئة.
المصدر: كنعان أون لاين