عزالدين
2007-10-28, 17:37
تقويم الدور الحضاري لدولة الفونج الإسلامية (1504م – 1821م ) أ. د. بابكر فضل المولى حسين أحمد*
شهد السودان حقبا تاريخية متعددة في عصوره المختلفة ، تركت بعض آثار الحضارة الهامة ، وكانت آخر هذه الحقب التاريخية قبل قيام دولة الفونج الإسلامية فترة الحكم المسيحي في السودان ، ولكن الفترة التي مازال أثرها غالبا وممتدا في تاريخ السودان ، ومازال يتحكم في توجيه الحاضر والمستقبل فيه ، ويقرر الإتجاه الحضاري لشعبه ، هي هذه الفترة التي نحن بصدد إلقاء بعض الضوء علي مظاهر الحضارة فيها ، إلا وهي فترة حكم دولة الفونج الإسلامية ، وتحديد مدي فاعلية هذا الدور الحضاري الذي قامت به .
لقد ظلت الهجرات العربية ، الفردية والجماعية ، الشعبية والرسمية ، تعمل لنشر الإسلام في السودان ، منذ القرن الأول الهجري وحتي القرن العاشر عبر حدود مصر والبحر الأحمر ، ولكن بطريقة عفوية وبطيئة ، وجهد غير منظم ، ورغم النصر الكبير الذي تحقق بسقوط مدينة دنقلا سنة 1317م ، واعتلاء عرشها ملك مسلم إلا أن البلاد تعرضت للفوضي والفرقة . وظلت مملكة علوة المسيحية قائمة في المناطق الوسطي من السودان . ولم تحسم قضية التحول الحضاري نهائيا في السودان إلا بقيام دولة الفونج الإسلامية سنة 1504م علي يد عمارة دنقس وعبدالله جماع . وبذلك استطاعت دولة الفونج أن تقدم للسودان حكومة قوية موحدة ، ودولة شملت أكثر المناطق التي تكون سودان وادي النيل ، استطاعت أن تقدم جهدا عظيما في التمكين للإسلام والحضارة الإسلامية فيه . وكان لها الفضل في إعطاء السودان وجهه العربي الإسلامي الذي يظهر فيه اليوم.
إن الحكم علي مدي أهمية الدور الحضاري الذي قامت به دولة الفونج الإسلامية في السودان يقتضينا القيام بدراسة شاملة لمختلف الجوانب الحضارية التي حققتها هذه الدولة في السودان ، حتي نتبين الوحدة في المنطلق الفلسفي الذي يتحكم في مظاهر هذه الحضارة ، ومدي الترابط والتجانس في هذه المظاهر ، دراسة تتناول المظاهر السياسية والإدارية والاقتصادية والاجتماعية والفكرية ([1]) .
نشأة دولة الفونج الإسلامية :
كان سقوط دولة المقرة في شمال السودان علي يد المسلمين ، واعتلاء عرشها ملك مسلم عام 1317م تمهيدا لتحول السلطة في كل أقاليم السودان الأوسط والشمالي للقبائل العربية المسلمة ، وقد مرت فترة ليست بالقصيرة حتي قيام مملكة الفونج الإسلامية ، حيث تكاثر العرب في إقليم علوة ، وبرز وجودهم بصورة واضحة حتي طغي علي السكان الأصليين ، وإنتشر بذلك الإسلام يوما بعد يوم.
وتعتبر هذه الفترة من تاريخ السودان غامضة ، لقلة المصادر الوطنية ، والمصادر العربية ([2]) .
وقد كان قيام مملكة الفونج الإسلامية ثمرة تحالف بين الفونج بقيادة زعيمهم عمارة دنقس ، والعبدلاب بقيادة زعيمهم عبدالله جماع سنة 1504م علي أرجح الأقوال ([3]) .
وتشير المصادر إلي أن عبدالله جماع زعيم العبدلاب قام بالدور الأكبر في هذا الحلف وعمل علي تجميع كل القبائل العربية والقوي الإسلامية في المنطقة ، وعلي رأسها الفونج ، لتحقيق أهدافه وغاياته النبيلة في الإنتصار للإسلام والمسلمين ، وكان معروفا بثقابة الفكر ، وسداد الرأي ، وقوة الشكيمة ، وكان ظهوره في مسرح الأحداث في السودان في مستهل القرن السادس عشر الميلادي نقطة تحول بارزة في تاريخ السودان ([4]) .
أما الفونج فقد كان دورهم الرئيسي في قيام المملكة هو الإشتراك بقوة عسكرية غالبة أدت إلي سقوط دولة علوة وتخريب عاصمتها سوبا ([5]) .
إن قيام دولة الفونج كان مـن الأحداث ذات الشأن في تاريخ السودان وإفريقيا ، ولم يكن مثل هذا الحدث أمراً هيناً كما يتصور البعض ، وقد ترتبت عليه نتائج هامة علي الصعيدين المحلي والعالمي ، وقيامها كان إعلانا رسميا لإنتشار الدين الإسلامي والسيطرة العربية في السودان .
لقد بدأ بقيام دولة الفونج الإتصال الرسمي بين السودان والبلاد العربية والإسلامية ، وهذا يعتبر تحولا هاما ومنعطفا خطيرا ستكون له آثاره المستمرة علي مدي الأيام ، وكان انتصارا لحركة الجهاد الإسلامي في إفريقيا ، وعم الفرح والسرور معظم البلاد الإسلامية لأنها كانت بلسما لجراح المسلمين الذين أصابهم الحزن والاسي لسقوط دولة الأندلس علي يد المسيحيين عام 1492م في وقت قريب من قيام دولة الفونج .
نظم الحكم والإدارة في دولة الفونج الإسلامية :
وضعت الاسس الأولي للنظام السياسي والإداري الذي سارت عليه دولة الفونج الإسلامية في الإتفاق الذي تم بين عمارة دنقس وعبدالله جماع ، وبهذا الاتفاق تم ترتيب نظام الحكم والإدارة ( [6]) ، حيث اختار مؤسسا الدولة النظام الملكي الوراثي أسلوبا لممارسة الحكم والإدارة . وبموجب هذا النظام أصبح عمارة دنقس زعيم الفونج ملكا علي الدولة يمارس سلطاته من عاصمته التي اختطها ، وهي مدينة سنار ، بينما يكون عبدالله جماع وقومه نواباً عنهم في إدارة الأقاليم التابعة لهم في القسم الشمالي من الدولة ، وعاصمتهم قري.
ولم يكن هذا النظام الملكي غريبا علي السودان ، فقد كانت مملكتا المقرة وعلوة ، تمارسان نظاما ملكيا ، كما أن هذا النظام الملكي الوراثي كان مألوفا في الدول الإفريقية والبلاد العربية منذ القدم .
ولم يكن النظام الملكي لدولة الفونج الإسلامية ، نظاما مستبدا كما يظهر للوهلة الاولي ، وإنما كان يأخذ بالشوري ، فقد كان للدولة مجلس شوري يساعد في اختيار الحكام وتسيير شئون الدولة ، وكذلك يقوم بعزل السلطان إذا اقترف مايستحق العزل( [7]) .
وقد أخذت الدولة بنظام الحكم اللامركزي ، لأنه يناسب طبيعة النظام القبلي الذي ينزع إلي الحرية ، وكان سائدا في الدولة ، كما يناسب ايضا طبيعة التحالف بين الفونج والعبدلاب ، الذي يعطي العبدلاب قدرا كبيرا من الحرية والاستقلال الذاتي في ظل التبعية لملوك سنار داخل الدولة الواحدة . كما أن النظام اللامركزي يناسب أيضا ما يتطلبه اتساع بقاع السودان ، من توفر قدر كبير من الاستقلال والحرية والحكم اللامركزي .
ويتضح لنا أن نظام اللامركزية كان النظام الامثل والاوفق لمقابلة ظروف السودان في تلك المرحلة .
النظام الحربي لدولة الفونج الإسلامية :
اعتمدت دولة الفونج الإسلامية اعتمادا كبيرا علي الجهاز الحربي ، وهي مدينة في وجودها للقوة الحربية التي كانت تتمتع بها ، فقد رأينا أن ظهورها كان ثمرة انتصار حربي ، وأن دور الفونج الاساسي في الحلف الذي أدي إلي اسقاط دولة علوة وتخريب عاصمتها سوبا ، هو مهمة تجهيز الجيش ( [8]) . وقد استطاع هذا الجيش الانتصار علي طلائع الدولة العثمانية في حنك بالقرب من الشلال الثالث وأوقف بذلك زحف السلطان سليم الذي فتح مصر عام 1517م( [9]) .
وقد لاحظ بروس الرحالة الاوربي الذي زار سنار سنة 1772م ، قوة جيش الفونج وسطوته ، ووصف براعة الخيالة ، بأنها كانت أعظم قوة ضاربة في أعالي النيل ، وكان يحتفظ بها دائما علي درجة مرموقة من الكفاية واللياقة( [10]) .
غير أن هذه القوة الحربية كانت في النهاية السبب الرئيسي في تحول السلطة من أيدي ملوك الفونج إلي الهمج بقيادة الشيخ محمد أبولكيلك قائد الجيش .
النظام القضائي لدولة الفونج :
كان ظهور الفونج والعبدلاب في مسرح الأحداث في السودان أيذانا بظهور نظم قضائية جديدة للمجتمع السوداني تقوم علي النظام الإسلامي ، فمباديء الإسلام تعني عناية كبيرة بالعدالة ، كما أن الشريعة الإسلامية واجبة الاتباع علي كل مسلم( [11]) .
وهكذا عندما قامت دولة الفونج الإسلامية ، ارتبط النظام القضائي في السودان بالإسلام ارتباطا وثيقاً ، وغلب عليه فقه الإمام مالك لأنه المذهب الغالب في السودان ( [12]). وبذلك اصبح الفضاء الإسلامي سمة من سمات دولة الفونج ، وركيزة من ركائزها ، وأصبحت الشريعة الإسلامية هي القانون الذي يقوم عليه القضاء في عهد الفونج .
المظاهر الاقتصادية في دولة الفونج :
تعتبر دولة الفونج الإسلامية عموما ، من الدول التي تمتعت بظروف اقتصادية طيبة ، شملت مختلف ضروب النشاط الاقتصادي ، كالتجارة والزراعة والرعي ، وقد اشتهرت سنار بالثروة والغني ( [13]) . كما اشتهرت من قبلها الممالك المسيحية القديمة ، وقد تمثلت هذه الظروف الاقتصادية في توفر الأراضي الخصبة وكثرة الأمطار ، ووجود نهر النيل وفروعه المختلفة .
وقد كان تنظيم الاقتصاد في عهد الفونج انعكاسا لسياسة الدولة الإسلامية الناشئة ، فقد أصبحت مظاهر الاقتصاد في كثير من جوانبها إسلامية خالصة ، واخذت الدولة بالنظام الضريبي الإسلامي المتمثل في الزكاة والعشور والخراج . كما أخذت بنظام بيت المال الإسلامي وموارده المختلفة ، كما أصبح نظام ملكية الأرض مشابها لنظام الملكية في الدولة الإسلامية ، وتحولت ملكية الأرض للدولة بعد أن كانت سابقا ملكا خاصا للملك( [14]) .
ومن ناحية أخري كان الاقتصاد في دولة الفونج انعكاسا للحكم اللامركزي الذي سارت عليه الدولة ، فقد كانت اللامركزية تشمل أيضا فروع بيت المال في الأقاليم( [15]) .
ولم تكن الإدارة المحلية تتطلب دخلا كبيرا ، ولذلك لم يفرض ملوك سنار علي اقسام دولتهم غير جزية معلومة بسيطة يجمعها حاكم القسم ويدفعها للدولة ، وفي ظل هذا النظام اللامركزي للتنظيم الاقتصادي ، اكتفت الدولة بالإشراف العام علي الإقتصاد ولم تتدخل تدخلا كبيرا في التحكم في توجيهه أو احتوائه .
وعموما فإن الاقتصاد في عهد دولة الفونج رغم السلبيات التي لحقت به كالمجاعات والكوارث التي كانت تصيب البلاد من حين إلي حين ، إلا أن بعض الإيجابيات قد تحققت بفضل دولة الفونج ومن ذلك :
1- ارتبط نظام الاقتصاد بالنظم الإسلامية في المعاملات في البيع والشراء وتحريم الربا والغش والإحتكار .
2- تطور نظام ملكية الأرض ، وأصبحت له اسس ثابتة وفق النظام الإسلامي بعد أن كانت الأرض ومن عليها ملكا للملك في النظم السابقة .
3- النظام الضريبي في الدولة رغم مظاهر البساطة إلا أنه في كثير من تفصيلاته ينبع من الإسلام فهو يقوم علي الزكاة والعشور والجمارك والضرائب المختلفة التي عرفت في الدولة الإسلامية .
4- انتظمت القوافل التجارية بين دولة الفونج والبلاد العربية والإسلامية وأصبحت التجارة اكثر رواجاً .
المظاهر الاجتماعية في دولة الفونج :
باستمرار الهجرات العربية ودخول الإسلام في السودان ، ثم قيام دولة الفونج الإسلامية حدثت نقلة جذرية في طبيعة التكوين الاجتماعي للسكان ، وطبيعة نظم الحكم وحياة المجتمع ، فقد زال ما كان قائماً من فوارق بين الراعي والرعية ، واستردت الرعية حريتها الفردية ، بعد أن كانت تعاني من عبودية مطلقة للملك ، وأصبحت تنعم بحياة كريمة في ظل التقاليد القبلية العربية والإسلامية ( [16]).
وبذلك قضي الإسلام علي نظام يقوم علي أسس إقطاعية ليقيم مكانة مجتمعاً يقوم علي مبدأ الإنسانية ويتمتع بالحرية والمسئولية الاجتماعية والمساواة الكاملة ، ويترجح لنا أن ذلك كان من أهم الأسباب التي جعلت السكان المحليين يسارعون لدخول الإسلام والإنضواء في بوتقة المجتمع الجديد إذ أن الإسلام أنقذهم من العبودية لملوكهم( [17]) . وبذلك فقد تشرب المجتمع الجديد العادات والتقاليد الإسلامية والعربية .
وبالتدريج تغلبت العربية علي اللهجات المحلية( [18]) . وأصبح المجتمع الجديد مجتمعا إسلاميا في تكويناته واتجاهاته ومثله وأهدافه وأشواقه . وانمحت الفروق الواسعة بين فئات المجتمع . ولم يلمس الرحالة الأجانب وجود طبقات اجتماعية ، فالأثرياء وحتي الملــــوك والسلاطين يأكلون ويلبسون مثل ما يفعل أفراد الشعب( [19]) .
وكان جانب المساواة الاجتماعية بين أفراد الشعب وطبقاته المختلفة من أهم العوامل التي ساعدت علي تحقيق وحدة اجتماعية حقيقية في المجتمع السوداني في عهد دولة الفونج الإسلامية ، فالإسلام يقيم الروابط الوثيقة علي أساس التقوي وليس علي أساس اللون أو العنصر . وهذا ما ساعد علي اختلاط القبائل العربية بالقبائل السودانية المحلية وانخراط الجميع في التكوين الاجتماعي الجديد علي أساس مباديء الدين الإسلامي ، وقد روي صاحب الطبقات أن الفقيه عمار أراد أن يزوج ابنته لتلميذه عبدالله بن صابون وهو مملوك لأمراة ، وقال في ذلك : " ماوجدت لها كفؤا غيره ، قال تعالى :"إن أكرمكم عندالله اتقاكم :" ( [20]) .
الحركة الفكرية في دولة الفونج الإسلامية :
لقد كان قيام دولة الفونج الإسلامية ، ميلاد دولة عربية إسلامية ، ذات إتجاه فكري محدد نحو الإسلام والحضارة الإسلامية ، وانتماء عضوي للكيان العربي الإسلامي ، والإسلام يرادف كلمة حضارة ، وعندما تقوم له دولة تصبح هذه الحضارة دستورها وأهم دعائمها في كل مايتصل بكيانها( [21]) . وهكذا يمكننا أن نعتبر قيام دولة الفونج وبقية الممالك الإسلامية في السودان هو الميلاد الحقيقي لغلبة الثقافة العربية والإسلامية في السودان( [22]) . وأما ماسبقها من جهود فهو حالة المخاض التي هيأت لهذا الميلاد ، ووضعت بذوره وبداياته حتي اكتملت عناصره .
يتبــــــــــــــــــع
شهد السودان حقبا تاريخية متعددة في عصوره المختلفة ، تركت بعض آثار الحضارة الهامة ، وكانت آخر هذه الحقب التاريخية قبل قيام دولة الفونج الإسلامية فترة الحكم المسيحي في السودان ، ولكن الفترة التي مازال أثرها غالبا وممتدا في تاريخ السودان ، ومازال يتحكم في توجيه الحاضر والمستقبل فيه ، ويقرر الإتجاه الحضاري لشعبه ، هي هذه الفترة التي نحن بصدد إلقاء بعض الضوء علي مظاهر الحضارة فيها ، إلا وهي فترة حكم دولة الفونج الإسلامية ، وتحديد مدي فاعلية هذا الدور الحضاري الذي قامت به .
لقد ظلت الهجرات العربية ، الفردية والجماعية ، الشعبية والرسمية ، تعمل لنشر الإسلام في السودان ، منذ القرن الأول الهجري وحتي القرن العاشر عبر حدود مصر والبحر الأحمر ، ولكن بطريقة عفوية وبطيئة ، وجهد غير منظم ، ورغم النصر الكبير الذي تحقق بسقوط مدينة دنقلا سنة 1317م ، واعتلاء عرشها ملك مسلم إلا أن البلاد تعرضت للفوضي والفرقة . وظلت مملكة علوة المسيحية قائمة في المناطق الوسطي من السودان . ولم تحسم قضية التحول الحضاري نهائيا في السودان إلا بقيام دولة الفونج الإسلامية سنة 1504م علي يد عمارة دنقس وعبدالله جماع . وبذلك استطاعت دولة الفونج أن تقدم للسودان حكومة قوية موحدة ، ودولة شملت أكثر المناطق التي تكون سودان وادي النيل ، استطاعت أن تقدم جهدا عظيما في التمكين للإسلام والحضارة الإسلامية فيه . وكان لها الفضل في إعطاء السودان وجهه العربي الإسلامي الذي يظهر فيه اليوم.
إن الحكم علي مدي أهمية الدور الحضاري الذي قامت به دولة الفونج الإسلامية في السودان يقتضينا القيام بدراسة شاملة لمختلف الجوانب الحضارية التي حققتها هذه الدولة في السودان ، حتي نتبين الوحدة في المنطلق الفلسفي الذي يتحكم في مظاهر هذه الحضارة ، ومدي الترابط والتجانس في هذه المظاهر ، دراسة تتناول المظاهر السياسية والإدارية والاقتصادية والاجتماعية والفكرية ([1]) .
نشأة دولة الفونج الإسلامية :
كان سقوط دولة المقرة في شمال السودان علي يد المسلمين ، واعتلاء عرشها ملك مسلم عام 1317م تمهيدا لتحول السلطة في كل أقاليم السودان الأوسط والشمالي للقبائل العربية المسلمة ، وقد مرت فترة ليست بالقصيرة حتي قيام مملكة الفونج الإسلامية ، حيث تكاثر العرب في إقليم علوة ، وبرز وجودهم بصورة واضحة حتي طغي علي السكان الأصليين ، وإنتشر بذلك الإسلام يوما بعد يوم.
وتعتبر هذه الفترة من تاريخ السودان غامضة ، لقلة المصادر الوطنية ، والمصادر العربية ([2]) .
وقد كان قيام مملكة الفونج الإسلامية ثمرة تحالف بين الفونج بقيادة زعيمهم عمارة دنقس ، والعبدلاب بقيادة زعيمهم عبدالله جماع سنة 1504م علي أرجح الأقوال ([3]) .
وتشير المصادر إلي أن عبدالله جماع زعيم العبدلاب قام بالدور الأكبر في هذا الحلف وعمل علي تجميع كل القبائل العربية والقوي الإسلامية في المنطقة ، وعلي رأسها الفونج ، لتحقيق أهدافه وغاياته النبيلة في الإنتصار للإسلام والمسلمين ، وكان معروفا بثقابة الفكر ، وسداد الرأي ، وقوة الشكيمة ، وكان ظهوره في مسرح الأحداث في السودان في مستهل القرن السادس عشر الميلادي نقطة تحول بارزة في تاريخ السودان ([4]) .
أما الفونج فقد كان دورهم الرئيسي في قيام المملكة هو الإشتراك بقوة عسكرية غالبة أدت إلي سقوط دولة علوة وتخريب عاصمتها سوبا ([5]) .
إن قيام دولة الفونج كان مـن الأحداث ذات الشأن في تاريخ السودان وإفريقيا ، ولم يكن مثل هذا الحدث أمراً هيناً كما يتصور البعض ، وقد ترتبت عليه نتائج هامة علي الصعيدين المحلي والعالمي ، وقيامها كان إعلانا رسميا لإنتشار الدين الإسلامي والسيطرة العربية في السودان .
لقد بدأ بقيام دولة الفونج الإتصال الرسمي بين السودان والبلاد العربية والإسلامية ، وهذا يعتبر تحولا هاما ومنعطفا خطيرا ستكون له آثاره المستمرة علي مدي الأيام ، وكان انتصارا لحركة الجهاد الإسلامي في إفريقيا ، وعم الفرح والسرور معظم البلاد الإسلامية لأنها كانت بلسما لجراح المسلمين الذين أصابهم الحزن والاسي لسقوط دولة الأندلس علي يد المسيحيين عام 1492م في وقت قريب من قيام دولة الفونج .
نظم الحكم والإدارة في دولة الفونج الإسلامية :
وضعت الاسس الأولي للنظام السياسي والإداري الذي سارت عليه دولة الفونج الإسلامية في الإتفاق الذي تم بين عمارة دنقس وعبدالله جماع ، وبهذا الاتفاق تم ترتيب نظام الحكم والإدارة ( [6]) ، حيث اختار مؤسسا الدولة النظام الملكي الوراثي أسلوبا لممارسة الحكم والإدارة . وبموجب هذا النظام أصبح عمارة دنقس زعيم الفونج ملكا علي الدولة يمارس سلطاته من عاصمته التي اختطها ، وهي مدينة سنار ، بينما يكون عبدالله جماع وقومه نواباً عنهم في إدارة الأقاليم التابعة لهم في القسم الشمالي من الدولة ، وعاصمتهم قري.
ولم يكن هذا النظام الملكي غريبا علي السودان ، فقد كانت مملكتا المقرة وعلوة ، تمارسان نظاما ملكيا ، كما أن هذا النظام الملكي الوراثي كان مألوفا في الدول الإفريقية والبلاد العربية منذ القدم .
ولم يكن النظام الملكي لدولة الفونج الإسلامية ، نظاما مستبدا كما يظهر للوهلة الاولي ، وإنما كان يأخذ بالشوري ، فقد كان للدولة مجلس شوري يساعد في اختيار الحكام وتسيير شئون الدولة ، وكذلك يقوم بعزل السلطان إذا اقترف مايستحق العزل( [7]) .
وقد أخذت الدولة بنظام الحكم اللامركزي ، لأنه يناسب طبيعة النظام القبلي الذي ينزع إلي الحرية ، وكان سائدا في الدولة ، كما يناسب ايضا طبيعة التحالف بين الفونج والعبدلاب ، الذي يعطي العبدلاب قدرا كبيرا من الحرية والاستقلال الذاتي في ظل التبعية لملوك سنار داخل الدولة الواحدة . كما أن النظام اللامركزي يناسب أيضا ما يتطلبه اتساع بقاع السودان ، من توفر قدر كبير من الاستقلال والحرية والحكم اللامركزي .
ويتضح لنا أن نظام اللامركزية كان النظام الامثل والاوفق لمقابلة ظروف السودان في تلك المرحلة .
النظام الحربي لدولة الفونج الإسلامية :
اعتمدت دولة الفونج الإسلامية اعتمادا كبيرا علي الجهاز الحربي ، وهي مدينة في وجودها للقوة الحربية التي كانت تتمتع بها ، فقد رأينا أن ظهورها كان ثمرة انتصار حربي ، وأن دور الفونج الاساسي في الحلف الذي أدي إلي اسقاط دولة علوة وتخريب عاصمتها سوبا ، هو مهمة تجهيز الجيش ( [8]) . وقد استطاع هذا الجيش الانتصار علي طلائع الدولة العثمانية في حنك بالقرب من الشلال الثالث وأوقف بذلك زحف السلطان سليم الذي فتح مصر عام 1517م( [9]) .
وقد لاحظ بروس الرحالة الاوربي الذي زار سنار سنة 1772م ، قوة جيش الفونج وسطوته ، ووصف براعة الخيالة ، بأنها كانت أعظم قوة ضاربة في أعالي النيل ، وكان يحتفظ بها دائما علي درجة مرموقة من الكفاية واللياقة( [10]) .
غير أن هذه القوة الحربية كانت في النهاية السبب الرئيسي في تحول السلطة من أيدي ملوك الفونج إلي الهمج بقيادة الشيخ محمد أبولكيلك قائد الجيش .
النظام القضائي لدولة الفونج :
كان ظهور الفونج والعبدلاب في مسرح الأحداث في السودان أيذانا بظهور نظم قضائية جديدة للمجتمع السوداني تقوم علي النظام الإسلامي ، فمباديء الإسلام تعني عناية كبيرة بالعدالة ، كما أن الشريعة الإسلامية واجبة الاتباع علي كل مسلم( [11]) .
وهكذا عندما قامت دولة الفونج الإسلامية ، ارتبط النظام القضائي في السودان بالإسلام ارتباطا وثيقاً ، وغلب عليه فقه الإمام مالك لأنه المذهب الغالب في السودان ( [12]). وبذلك اصبح الفضاء الإسلامي سمة من سمات دولة الفونج ، وركيزة من ركائزها ، وأصبحت الشريعة الإسلامية هي القانون الذي يقوم عليه القضاء في عهد الفونج .
المظاهر الاقتصادية في دولة الفونج :
تعتبر دولة الفونج الإسلامية عموما ، من الدول التي تمتعت بظروف اقتصادية طيبة ، شملت مختلف ضروب النشاط الاقتصادي ، كالتجارة والزراعة والرعي ، وقد اشتهرت سنار بالثروة والغني ( [13]) . كما اشتهرت من قبلها الممالك المسيحية القديمة ، وقد تمثلت هذه الظروف الاقتصادية في توفر الأراضي الخصبة وكثرة الأمطار ، ووجود نهر النيل وفروعه المختلفة .
وقد كان تنظيم الاقتصاد في عهد الفونج انعكاسا لسياسة الدولة الإسلامية الناشئة ، فقد أصبحت مظاهر الاقتصاد في كثير من جوانبها إسلامية خالصة ، واخذت الدولة بالنظام الضريبي الإسلامي المتمثل في الزكاة والعشور والخراج . كما أخذت بنظام بيت المال الإسلامي وموارده المختلفة ، كما أصبح نظام ملكية الأرض مشابها لنظام الملكية في الدولة الإسلامية ، وتحولت ملكية الأرض للدولة بعد أن كانت سابقا ملكا خاصا للملك( [14]) .
ومن ناحية أخري كان الاقتصاد في دولة الفونج انعكاسا للحكم اللامركزي الذي سارت عليه الدولة ، فقد كانت اللامركزية تشمل أيضا فروع بيت المال في الأقاليم( [15]) .
ولم تكن الإدارة المحلية تتطلب دخلا كبيرا ، ولذلك لم يفرض ملوك سنار علي اقسام دولتهم غير جزية معلومة بسيطة يجمعها حاكم القسم ويدفعها للدولة ، وفي ظل هذا النظام اللامركزي للتنظيم الاقتصادي ، اكتفت الدولة بالإشراف العام علي الإقتصاد ولم تتدخل تدخلا كبيرا في التحكم في توجيهه أو احتوائه .
وعموما فإن الاقتصاد في عهد دولة الفونج رغم السلبيات التي لحقت به كالمجاعات والكوارث التي كانت تصيب البلاد من حين إلي حين ، إلا أن بعض الإيجابيات قد تحققت بفضل دولة الفونج ومن ذلك :
1- ارتبط نظام الاقتصاد بالنظم الإسلامية في المعاملات في البيع والشراء وتحريم الربا والغش والإحتكار .
2- تطور نظام ملكية الأرض ، وأصبحت له اسس ثابتة وفق النظام الإسلامي بعد أن كانت الأرض ومن عليها ملكا للملك في النظم السابقة .
3- النظام الضريبي في الدولة رغم مظاهر البساطة إلا أنه في كثير من تفصيلاته ينبع من الإسلام فهو يقوم علي الزكاة والعشور والجمارك والضرائب المختلفة التي عرفت في الدولة الإسلامية .
4- انتظمت القوافل التجارية بين دولة الفونج والبلاد العربية والإسلامية وأصبحت التجارة اكثر رواجاً .
المظاهر الاجتماعية في دولة الفونج :
باستمرار الهجرات العربية ودخول الإسلام في السودان ، ثم قيام دولة الفونج الإسلامية حدثت نقلة جذرية في طبيعة التكوين الاجتماعي للسكان ، وطبيعة نظم الحكم وحياة المجتمع ، فقد زال ما كان قائماً من فوارق بين الراعي والرعية ، واستردت الرعية حريتها الفردية ، بعد أن كانت تعاني من عبودية مطلقة للملك ، وأصبحت تنعم بحياة كريمة في ظل التقاليد القبلية العربية والإسلامية ( [16]).
وبذلك قضي الإسلام علي نظام يقوم علي أسس إقطاعية ليقيم مكانة مجتمعاً يقوم علي مبدأ الإنسانية ويتمتع بالحرية والمسئولية الاجتماعية والمساواة الكاملة ، ويترجح لنا أن ذلك كان من أهم الأسباب التي جعلت السكان المحليين يسارعون لدخول الإسلام والإنضواء في بوتقة المجتمع الجديد إذ أن الإسلام أنقذهم من العبودية لملوكهم( [17]) . وبذلك فقد تشرب المجتمع الجديد العادات والتقاليد الإسلامية والعربية .
وبالتدريج تغلبت العربية علي اللهجات المحلية( [18]) . وأصبح المجتمع الجديد مجتمعا إسلاميا في تكويناته واتجاهاته ومثله وأهدافه وأشواقه . وانمحت الفروق الواسعة بين فئات المجتمع . ولم يلمس الرحالة الأجانب وجود طبقات اجتماعية ، فالأثرياء وحتي الملــــوك والسلاطين يأكلون ويلبسون مثل ما يفعل أفراد الشعب( [19]) .
وكان جانب المساواة الاجتماعية بين أفراد الشعب وطبقاته المختلفة من أهم العوامل التي ساعدت علي تحقيق وحدة اجتماعية حقيقية في المجتمع السوداني في عهد دولة الفونج الإسلامية ، فالإسلام يقيم الروابط الوثيقة علي أساس التقوي وليس علي أساس اللون أو العنصر . وهذا ما ساعد علي اختلاط القبائل العربية بالقبائل السودانية المحلية وانخراط الجميع في التكوين الاجتماعي الجديد علي أساس مباديء الدين الإسلامي ، وقد روي صاحب الطبقات أن الفقيه عمار أراد أن يزوج ابنته لتلميذه عبدالله بن صابون وهو مملوك لأمراة ، وقال في ذلك : " ماوجدت لها كفؤا غيره ، قال تعالى :"إن أكرمكم عندالله اتقاكم :" ( [20]) .
الحركة الفكرية في دولة الفونج الإسلامية :
لقد كان قيام دولة الفونج الإسلامية ، ميلاد دولة عربية إسلامية ، ذات إتجاه فكري محدد نحو الإسلام والحضارة الإسلامية ، وانتماء عضوي للكيان العربي الإسلامي ، والإسلام يرادف كلمة حضارة ، وعندما تقوم له دولة تصبح هذه الحضارة دستورها وأهم دعائمها في كل مايتصل بكيانها( [21]) . وهكذا يمكننا أن نعتبر قيام دولة الفونج وبقية الممالك الإسلامية في السودان هو الميلاد الحقيقي لغلبة الثقافة العربية والإسلامية في السودان( [22]) . وأما ماسبقها من جهود فهو حالة المخاض التي هيأت لهذا الميلاد ، ووضعت بذوره وبداياته حتي اكتملت عناصره .
يتبــــــــــــــــــع