القلم الروحاني
2009-12-25, 21:39
الْقِرَاءَةِ وَمِنْ ذَلِكَ : أَنَّ اللُّصُوصَ أَخَذُوا فِي زَمَنِ الْمُكْتَفِي مَالًا عَظِيمًا ، فَأَلْزَمَ الْمُكْتَفِي صَاحِبَ الشُّرْطَةِ بِإِخْرَاجِ اللُّصُوصِ .
، أَوْ غَرَامَةِ الْمَالِ ؛ فَكَانَ يَرْكَبُ وَحْدَهُ ، وَيَطُوفُ لَيْلًا وَنَهَارًا ، إلَى أَنْ اجْتَازَ يَوْمًا فِي زُقَاقٍ خَالٍ فِي بَعْضِ أَطْرَافِ الْبَلَدِ ، فَدَخَلَهُ فَوَجَدَهُ مُنْكَرًا ، وَوَجَدَهُ لَا يَنْفُذُ ، فَرَأَى عَلَى بَعْضِ أَبْوَابِهِ شَوْكَ سَمَكٍ كَثِيرٍ ، وَعِظَامَ الصُّلْبِ .
فَقَالَ لِشَخْصٍ : كَمْ يَكُونُ تَقْدِيرُ ثَمَنِ هَذَا السَّمَكِ الَّذِي هَذِهِ عِظَامُهُ ؟ قَالَ : دِينَارٌ ، قَالَ : أَهْلُ الزُّقَاقِ لَا تَحْتَمِلُ أَحْوَالُهُمْ مُشْتَرِيَ مِثْلِ هَذَا ، لِأَنَّهُ زُقَاقٌ بَيِّنُ الِاخْتِلَالِ إلَى جَانِبِ الصَّحْرَاءِ ، لَا يَنْزِلُهُ مَنْ مَعَهُ شَيْءٌ يَخَافُ عَلَيْهِ ، أَوْ لَهُ مَالٌ يُنْفِقُ مِنْهُ هَذِهِ النَّفَقَةَ ، وَمَا هِيَ إلَّا بَلِيَّةٌ ، يَنْبَغِي أَنْ يُكْشَفَ عَنْهَا ، فَاسْتَبْعَدَ الرَّجُلُ هَذَا ، وَقَالَ : هَذَا فِكْرٌ بَعِيدٌ ، فَقَالَ : اُطْلُبُوا لِي امْرَأَةً مِنْ الدَّرْبِ أُكَلِّمُهَا .
فَدَقَّ بَابًا غَيْرَ الَّذِي عَلَيْهِ الشَّوْكُ وَاسْتَسْقَى مَاءً ، فَخَرَجَتْ عَجُوزٌ ضَعِيفَةٌ .
فَمَا زَالَ يَطْلُبُ شَرْبَةً بَعْدَ شَرْبَةٍ ، وَهِيَ تَسْقِيهِ ، وَهُوَ فِي خِلَالِ ذَلِكَ يَسْأَلُ عَنْ الدَّرْبِ وَأَهْلِهِ ، وَهِيَ تُخْبِرُهُ غَيْرَ عَارِفَةٍ بِعَوَاقِبِ ذَلِكَ ، إلَى أَنْ قَالَ لَهَا : وَهَذِهِ الدَّارُ مَنْ يَسْكُنُهَا ؟ - وَأَوْمَأَ إلَى الَّتِي عَلَيْهَا عِظَامُ السَّمَكِ - فَقَالَتْ : فِيهَا خَمْسَةُ شَبَابٍ أَعْفَارٍ ، كَأَنَّهُمْ تُجَّارٌ ، وَقَدْ نَزَلُوا مُنْذُ شَهْرٍ لَا نَرَاهُمْ نَهَارًا إلَّا فِي كُلِّ مُدَّةٍ طَوِيلَةٍ ، وَنَرَى الْوَاحِدَ مِنْهُمْ يَخْرُجُ فِي الْحَاجَةِ وَيَعُودُ سَرِيعًا ، وَهُمْ فِي طُولِ النَّهَارِ يَجْتَمِعُونَ فَيَأْكُلُونَ وَيَشْرَبُونَ ، وَيَلْعَبُونَ بِالشِّطْرَنْجِ وَالنَّرْدِ ، وَلَهُمْ صَبِيٌّ يَخْدُمُهُمْ ، فَإِذَا كَانَ اللَّيْلُ انْصَرَفُوا إلَى دَارٍ لَهُمْ بِالْكَرْخِ ، وَيَدَعُونَ الصَّبِيَّ فِي الدَّارِ يَحْفَظُهَا .
فَإِذَا كَانَ سَحَرًا جَاءُوا وَنَحْنُ نِيَامٌ لَا نَشْعُرُ بِهِمْ
فَقَالَتْ لِلرَّجُلِ : هَذِهِ صِفَةُ لُصُوصٍ أَمْ لَا ؟ قَالَ : بَلَى ، فَأَنْفَذَ فِي الْحَالِ ، فَاسْتَدْعَى عَشَرَةً مِنْ الشُّرَطِ ، وَأَدْخَلَهُمْ إلَى أَسْطِحَةِ الْجِيرَانِ ، وَدَقَّ هُوَ الْبَابَ ، فَجَاءَ الصَّبِيُّ فَفَتَحَ .
فَدَخَلَ الشُّرَطُ مَعَهُ ، فَمَا فَاتَهُ مِنْ الْقَوْمِ أَحَدٌ فَكَانُوا هُمْ أَصْحَابُ الْجِنَايَةِ بِعَيْنِهِمْ وَمِنْ ذَلِكَ : أَنَّ بَعْضَ الْوُلَاةِ سَمِعَ فِي بَعْضِ لَيَالِي الشِّتَاءِ صَوْتًا بِدَارٍ يَطْلُبُ مَاءً بَارِدًا ، فَأَمَرَ بِكَبْسِ الدَّارِ ، فَأَخْرَجُوا رَجُلًا وَامْرَأَةً ، فَقِيلَ لَهُ : مِنْ أَيْنَ عَلِمْت ؟ قَالَ : الْمَاءُ لَا يُبَرَّدُ فِي الشِّتَاءِ ، إنَّمَا ذَلِكَ عَلَامَةٌ بَيْنَ هَذَيْنِ .
وَأَحْضَرَ بَعْضُ الْوُلَاةِ شَخْصَيْنِ مُتَّهَمَيْنِ بِسَرِقَةٍ ، فَأَمَرَ أَنْ يُؤْتَى بِكُوزٍ مِنْ مَاءٍ ، فَأَخَذَهُ بِيَدِهِ ثُمَّ أَلْقَاهُ عَمْدًا فَانْكَسَرَ ، فَارْتَاعَ أَحَدُهُمَا ، وَثَبَتَ الْآخَرُ فَلَمْ يَتَغَيَّرْ ، فَقَالَ لِلَّذِي انْزَعَجَ : اذْهَبْ ، وَقَالَ لِلْآخَرِ : أَحْضِرْ الْعُمْلَةَ .
فَقِيلَ لَهُ : وَمِنْ أَيْنَ عَرَفْت ذَلِكَ ؟ فَقَالَ : اللِّصُّ قَوِيُّ الْقَلْبِ لَا يَنْزَعِجُ ، وَالْبَرِيءُ يَرَى أَنَّهُ لَوْ تَحَرَّكَتْ فِي الْبَيْتِ فَأْرَةٌ لَأَزْعَجَتْهُ ، وَمَنَعَتْهُ مِنْ السَّرِقَةِ .
وَالْأَصْلُ فِي الْفِرَاسَةِ قَوْله تَعَالَى : { إنَّ فِي ذَلِكَ لِآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ } ، { فَسَّرَ ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : لِلْمُتَفَرِّسِينَ } ، ذَكَرَهُ الْحَكِيمُ التِّرْمِذِيُّ فِي نَوَادِرِ الْأُصُولِ .
وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ : { اتَّقُوا فِرَاسَةَ الْمُؤْمِنِ فَإِنَّهُ يَنْظُرُ بِنُورِ اللَّهِ } وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ : { إنَّ لِلَّهِ عِبَادًا يَعْرِفُونَ النَّاسَ بِالتَّوَسُّمِ } ، ذَكَرَهُمَا التِّرْمِذِيُّ .
وَالْفِرَاسَةُ نَاشِئَةٌ عَنْ جَوْدَةِ الْقَرِيحَةِ وَحِدَّةِ النَّظَرِ وَصَفَاءِ الْفِكْرِ ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : أَنَّهُ دَخَلَ عَلَيْهِ قَوْمٌ مِنْ مُذْحَجٍ فِيهِمْ الْأَشْتَرُ ، فَصَعَّدَ عُمَرُ فِيهِ النَّظَرَ وَصَوَّبَهُ وَقَالَ : أَيُّهُمْ هَذَا ؟ فَقَالُوا : مَالِكُ بْنُ الْحَارِثِ ، فَقَالَ : مَا لَهُ قَاتَلَهُ اللَّهُ أَنِّي لَأَرَى لِلْمُسْلِمِينَ مِنْهُ يَوْمًا عَصِيبًا ، فَكَانَ مِنْهُ فِي الْفِتْنَةِ مَا كَانَ ، وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ وَفْدٌ مِنْ الْيَمَنِ وَكَانَ عُمَرُ مَعَ الصَّحَابَةِ فِي الْمَسْجِدِ ، فَأَشَارُوا إلَى رَجُلٍ مِنْ الْوَفْدِ وَقَالُوا لِعُمَرَ : هَلْ تَعْرِفُ هَذَا ؟ فَقَالَ : لَعَلَّهُ سَوَادُ بْنُ قَارِبٍ ، فَكَانَ كَذَلِكَ ، وَكَانَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَطُوفُ بِالْبَيْتِ فَسَمِعَ امْرَأَةً تُنْشِدُ فِي الطَّوَافِ : فَمِنْهُنَّ مَنْ تُسْقَى بِعَذْبٍ مُبَرَّدِ نِقَاحٍ فَتَلِكُمْ عِنْدَ ذَلِكَ قَرَّتْ وَمِنْهُنَّ مَنْ تُسْقَى بِأَخْضَرَ آجِنٍ أُجَاجٍ وَلَوْلَا خَشْيَةُ اللَّهِ رَنَّتْ فَتَفَرَّسَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَا تَشْكُوهُ فَبَعَثَ إلَى زَوْجِهَا فَاسْتَنْكَهَهُ فَإِذَا هُوَ أَبْخَرُ الْفَمِ فَأَعْطَاهُ خَمْسَمِائَةِ دِرْهَمٍ وَجَارِيَةً عَلَى أَنْ يُطَلِّقَهَا فَفَعَلَ .
رُوِيَ أَنَّ بَعْضَ الصَّحَابَةِ دَخَلَ عَلَى عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَكَانَ قَدْ مَرَّ بِالسُّوقِ فَنَظَرَ إلَى امْرَأَةٍ ، فَلَمَّا نَظَرَ إلَيْهِ عُثْمَانُ قَالَ لَهُ : يَدْخُلُ أَحَدُكُمْ عَلَيْنَا وَفِي عَيْنَيْهِ أَثَرُ الزِّنَا ، فَقَالَ لَهُ الرَّجُلُ : أَوَحْيٌ بَعْدَ رَسُولِ
15 - 15 - ( فَصْلٌ ) وَمِنْ مَحَاسِنِ الْفِرَاسَةِ : أَنَّ الرَّشِيدَ رَأَى فِي دَارِهِ حُزْمَةَ خَيْزُرَانٍ ، فَقَالَ لِوَزِيرِهِ الْفَضْلِ بْنِ الرَّبِيعِ : مَا هَذِهِ ؟ قَالَ عُرُوقُ الرِّمَاحِ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ ، وَلَمْ يَقُلْ الْخَيْزُرَانُ لِمُوَافَقَةِ اسْمِ أُمِّهِ .
وَنَظِيرُ هَذَا : أَنَّ بَعْضَ الْخُلَفَاءِ سَأَلَ وَلَدَهُ - وَفِي يَدِهِ مِسْوَاكٌ - مَا جَمْعُ هَذَا ؟ قَالَ : مَحَاسِنُك يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ .
وَهَذَا مِنْ الْفِرَاسَةِ فِي تَحْسِينِ اللَّفْظِ .
وَهُوَ بَابٌ عَظِيمٌ ، اعْتَنَى بِهِ الْأَكَابِرُ وَالْعُلَمَاءُ .
وَلَهُ شَوَاهِدُ كَثِيرَةٌ فِي السُّنَّةِ وَهُوَ مِنْ خَاصِّيَّةِ الْعَقْلِ وَالْفِطْنَةِ .
فَقَدْ رَوَيْنَا عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : أَنَّهُ خَرَجَ يَعُسُّ الْمَدِينَةَ بِاللَّيْلِ ، فَرَأَى نَارًا مُوقَدَةً فِي خِبَاءٍ ، فَوَقَفَ وَقَالَ : " يَا أَهْلَ الضَّوْءِ " .
وَكَرِهَ أَنْ يَقُولَ : يَا أَهْلَ النَّارِ .
وَسَأَلَ رَجُلًا عَنْ شَيْءٍ : " هَلْ كَانَ ؟ " قَالَ : لَا .
أَطَالَ اللَّهُ بَقَاءَك ، فَقَالَ : " قَدْ عُلِّمْتُمْ فَلَمْ تَتَعَلَّمُوا ، هَلَّا قُلْت : لَا ، وَأَطَالَ اللَّهُ بَقَاءَك ؟ " .
وَسُئِلَ الْعَبَّاسُ : أَنْتَ أَكْبَرُ أَمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؟ فَقَالَ : هُوَ أَكْبَرُ مِنِّي ، وَأَنَا وُلِدْت قَبْلَهُ .
وَسُئِلَ عَنْ ذَلِكَ قَبَاثُ بْنُ أَشْيَمَ ؟ فَقَالَ : رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَكْبَرُ مِنِّي ، وَأَنَا أَسَنُّ مِنْهُ .
وَكَانَ لِبَعْضِ الْقُضَاةِ جَلِيسٌ أَعْمَى ، وَكَانَ إذَا أَرَادَ أَنْ يَنْهَضَ يَقُولُ : يَا غُلَامُ ، اذْهَبْ مَعَ أَبِي مُحَمَّدٍ ، وَلَا يَقُولُ : خُذْ بِيَدِهِ ، قَالَ : وَاَللَّهِ مَا أَخَلَّ بِهَا مَرَّةً .
وَمِنْ أَلْطَفِ مَا يُحْكَى فِي ذَلِكَ : أَنَّ بَعْضَ الْخُلَفَاءِ سَأَلَ رَجُلًا عَنْ اسْمِهِ ؟ فَقَالَ : سَعْدٌ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ فَقَالَ : أَيُّ السُّعُودِ أَنْتَ ؟ قَالَ : سَعْدُ السُّعُودِ لَك يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ ، وَسَعْدٌ الذَّابِحُ لِأَعْدَائِك ، وَسَعْدٌ بَلَعَ عَلَى سِمَاطِك ، وَسَعْدُ الْأَخْبِيَةِ لِسِرِّك ، فَأَعْجَبَهُ ذَلِكَ .
، أَوْ غَرَامَةِ الْمَالِ ؛ فَكَانَ يَرْكَبُ وَحْدَهُ ، وَيَطُوفُ لَيْلًا وَنَهَارًا ، إلَى أَنْ اجْتَازَ يَوْمًا فِي زُقَاقٍ خَالٍ فِي بَعْضِ أَطْرَافِ الْبَلَدِ ، فَدَخَلَهُ فَوَجَدَهُ مُنْكَرًا ، وَوَجَدَهُ لَا يَنْفُذُ ، فَرَأَى عَلَى بَعْضِ أَبْوَابِهِ شَوْكَ سَمَكٍ كَثِيرٍ ، وَعِظَامَ الصُّلْبِ .
فَقَالَ لِشَخْصٍ : كَمْ يَكُونُ تَقْدِيرُ ثَمَنِ هَذَا السَّمَكِ الَّذِي هَذِهِ عِظَامُهُ ؟ قَالَ : دِينَارٌ ، قَالَ : أَهْلُ الزُّقَاقِ لَا تَحْتَمِلُ أَحْوَالُهُمْ مُشْتَرِيَ مِثْلِ هَذَا ، لِأَنَّهُ زُقَاقٌ بَيِّنُ الِاخْتِلَالِ إلَى جَانِبِ الصَّحْرَاءِ ، لَا يَنْزِلُهُ مَنْ مَعَهُ شَيْءٌ يَخَافُ عَلَيْهِ ، أَوْ لَهُ مَالٌ يُنْفِقُ مِنْهُ هَذِهِ النَّفَقَةَ ، وَمَا هِيَ إلَّا بَلِيَّةٌ ، يَنْبَغِي أَنْ يُكْشَفَ عَنْهَا ، فَاسْتَبْعَدَ الرَّجُلُ هَذَا ، وَقَالَ : هَذَا فِكْرٌ بَعِيدٌ ، فَقَالَ : اُطْلُبُوا لِي امْرَأَةً مِنْ الدَّرْبِ أُكَلِّمُهَا .
فَدَقَّ بَابًا غَيْرَ الَّذِي عَلَيْهِ الشَّوْكُ وَاسْتَسْقَى مَاءً ، فَخَرَجَتْ عَجُوزٌ ضَعِيفَةٌ .
فَمَا زَالَ يَطْلُبُ شَرْبَةً بَعْدَ شَرْبَةٍ ، وَهِيَ تَسْقِيهِ ، وَهُوَ فِي خِلَالِ ذَلِكَ يَسْأَلُ عَنْ الدَّرْبِ وَأَهْلِهِ ، وَهِيَ تُخْبِرُهُ غَيْرَ عَارِفَةٍ بِعَوَاقِبِ ذَلِكَ ، إلَى أَنْ قَالَ لَهَا : وَهَذِهِ الدَّارُ مَنْ يَسْكُنُهَا ؟ - وَأَوْمَأَ إلَى الَّتِي عَلَيْهَا عِظَامُ السَّمَكِ - فَقَالَتْ : فِيهَا خَمْسَةُ شَبَابٍ أَعْفَارٍ ، كَأَنَّهُمْ تُجَّارٌ ، وَقَدْ نَزَلُوا مُنْذُ شَهْرٍ لَا نَرَاهُمْ نَهَارًا إلَّا فِي كُلِّ مُدَّةٍ طَوِيلَةٍ ، وَنَرَى الْوَاحِدَ مِنْهُمْ يَخْرُجُ فِي الْحَاجَةِ وَيَعُودُ سَرِيعًا ، وَهُمْ فِي طُولِ النَّهَارِ يَجْتَمِعُونَ فَيَأْكُلُونَ وَيَشْرَبُونَ ، وَيَلْعَبُونَ بِالشِّطْرَنْجِ وَالنَّرْدِ ، وَلَهُمْ صَبِيٌّ يَخْدُمُهُمْ ، فَإِذَا كَانَ اللَّيْلُ انْصَرَفُوا إلَى دَارٍ لَهُمْ بِالْكَرْخِ ، وَيَدَعُونَ الصَّبِيَّ فِي الدَّارِ يَحْفَظُهَا .
فَإِذَا كَانَ سَحَرًا جَاءُوا وَنَحْنُ نِيَامٌ لَا نَشْعُرُ بِهِمْ
فَقَالَتْ لِلرَّجُلِ : هَذِهِ صِفَةُ لُصُوصٍ أَمْ لَا ؟ قَالَ : بَلَى ، فَأَنْفَذَ فِي الْحَالِ ، فَاسْتَدْعَى عَشَرَةً مِنْ الشُّرَطِ ، وَأَدْخَلَهُمْ إلَى أَسْطِحَةِ الْجِيرَانِ ، وَدَقَّ هُوَ الْبَابَ ، فَجَاءَ الصَّبِيُّ فَفَتَحَ .
فَدَخَلَ الشُّرَطُ مَعَهُ ، فَمَا فَاتَهُ مِنْ الْقَوْمِ أَحَدٌ فَكَانُوا هُمْ أَصْحَابُ الْجِنَايَةِ بِعَيْنِهِمْ وَمِنْ ذَلِكَ : أَنَّ بَعْضَ الْوُلَاةِ سَمِعَ فِي بَعْضِ لَيَالِي الشِّتَاءِ صَوْتًا بِدَارٍ يَطْلُبُ مَاءً بَارِدًا ، فَأَمَرَ بِكَبْسِ الدَّارِ ، فَأَخْرَجُوا رَجُلًا وَامْرَأَةً ، فَقِيلَ لَهُ : مِنْ أَيْنَ عَلِمْت ؟ قَالَ : الْمَاءُ لَا يُبَرَّدُ فِي الشِّتَاءِ ، إنَّمَا ذَلِكَ عَلَامَةٌ بَيْنَ هَذَيْنِ .
وَأَحْضَرَ بَعْضُ الْوُلَاةِ شَخْصَيْنِ مُتَّهَمَيْنِ بِسَرِقَةٍ ، فَأَمَرَ أَنْ يُؤْتَى بِكُوزٍ مِنْ مَاءٍ ، فَأَخَذَهُ بِيَدِهِ ثُمَّ أَلْقَاهُ عَمْدًا فَانْكَسَرَ ، فَارْتَاعَ أَحَدُهُمَا ، وَثَبَتَ الْآخَرُ فَلَمْ يَتَغَيَّرْ ، فَقَالَ لِلَّذِي انْزَعَجَ : اذْهَبْ ، وَقَالَ لِلْآخَرِ : أَحْضِرْ الْعُمْلَةَ .
فَقِيلَ لَهُ : وَمِنْ أَيْنَ عَرَفْت ذَلِكَ ؟ فَقَالَ : اللِّصُّ قَوِيُّ الْقَلْبِ لَا يَنْزَعِجُ ، وَالْبَرِيءُ يَرَى أَنَّهُ لَوْ تَحَرَّكَتْ فِي الْبَيْتِ فَأْرَةٌ لَأَزْعَجَتْهُ ، وَمَنَعَتْهُ مِنْ السَّرِقَةِ .
وَالْأَصْلُ فِي الْفِرَاسَةِ قَوْله تَعَالَى : { إنَّ فِي ذَلِكَ لِآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ } ، { فَسَّرَ ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : لِلْمُتَفَرِّسِينَ } ، ذَكَرَهُ الْحَكِيمُ التِّرْمِذِيُّ فِي نَوَادِرِ الْأُصُولِ .
وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ : { اتَّقُوا فِرَاسَةَ الْمُؤْمِنِ فَإِنَّهُ يَنْظُرُ بِنُورِ اللَّهِ } وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ : { إنَّ لِلَّهِ عِبَادًا يَعْرِفُونَ النَّاسَ بِالتَّوَسُّمِ } ، ذَكَرَهُمَا التِّرْمِذِيُّ .
وَالْفِرَاسَةُ نَاشِئَةٌ عَنْ جَوْدَةِ الْقَرِيحَةِ وَحِدَّةِ النَّظَرِ وَصَفَاءِ الْفِكْرِ ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : أَنَّهُ دَخَلَ عَلَيْهِ قَوْمٌ مِنْ مُذْحَجٍ فِيهِمْ الْأَشْتَرُ ، فَصَعَّدَ عُمَرُ فِيهِ النَّظَرَ وَصَوَّبَهُ وَقَالَ : أَيُّهُمْ هَذَا ؟ فَقَالُوا : مَالِكُ بْنُ الْحَارِثِ ، فَقَالَ : مَا لَهُ قَاتَلَهُ اللَّهُ أَنِّي لَأَرَى لِلْمُسْلِمِينَ مِنْهُ يَوْمًا عَصِيبًا ، فَكَانَ مِنْهُ فِي الْفِتْنَةِ مَا كَانَ ، وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ وَفْدٌ مِنْ الْيَمَنِ وَكَانَ عُمَرُ مَعَ الصَّحَابَةِ فِي الْمَسْجِدِ ، فَأَشَارُوا إلَى رَجُلٍ مِنْ الْوَفْدِ وَقَالُوا لِعُمَرَ : هَلْ تَعْرِفُ هَذَا ؟ فَقَالَ : لَعَلَّهُ سَوَادُ بْنُ قَارِبٍ ، فَكَانَ كَذَلِكَ ، وَكَانَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَطُوفُ بِالْبَيْتِ فَسَمِعَ امْرَأَةً تُنْشِدُ فِي الطَّوَافِ : فَمِنْهُنَّ مَنْ تُسْقَى بِعَذْبٍ مُبَرَّدِ نِقَاحٍ فَتَلِكُمْ عِنْدَ ذَلِكَ قَرَّتْ وَمِنْهُنَّ مَنْ تُسْقَى بِأَخْضَرَ آجِنٍ أُجَاجٍ وَلَوْلَا خَشْيَةُ اللَّهِ رَنَّتْ فَتَفَرَّسَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَا تَشْكُوهُ فَبَعَثَ إلَى زَوْجِهَا فَاسْتَنْكَهَهُ فَإِذَا هُوَ أَبْخَرُ الْفَمِ فَأَعْطَاهُ خَمْسَمِائَةِ دِرْهَمٍ وَجَارِيَةً عَلَى أَنْ يُطَلِّقَهَا فَفَعَلَ .
رُوِيَ أَنَّ بَعْضَ الصَّحَابَةِ دَخَلَ عَلَى عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَكَانَ قَدْ مَرَّ بِالسُّوقِ فَنَظَرَ إلَى امْرَأَةٍ ، فَلَمَّا نَظَرَ إلَيْهِ عُثْمَانُ قَالَ لَهُ : يَدْخُلُ أَحَدُكُمْ عَلَيْنَا وَفِي عَيْنَيْهِ أَثَرُ الزِّنَا ، فَقَالَ لَهُ الرَّجُلُ : أَوَحْيٌ بَعْدَ رَسُولِ
15 - 15 - ( فَصْلٌ ) وَمِنْ مَحَاسِنِ الْفِرَاسَةِ : أَنَّ الرَّشِيدَ رَأَى فِي دَارِهِ حُزْمَةَ خَيْزُرَانٍ ، فَقَالَ لِوَزِيرِهِ الْفَضْلِ بْنِ الرَّبِيعِ : مَا هَذِهِ ؟ قَالَ عُرُوقُ الرِّمَاحِ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ ، وَلَمْ يَقُلْ الْخَيْزُرَانُ لِمُوَافَقَةِ اسْمِ أُمِّهِ .
وَنَظِيرُ هَذَا : أَنَّ بَعْضَ الْخُلَفَاءِ سَأَلَ وَلَدَهُ - وَفِي يَدِهِ مِسْوَاكٌ - مَا جَمْعُ هَذَا ؟ قَالَ : مَحَاسِنُك يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ .
وَهَذَا مِنْ الْفِرَاسَةِ فِي تَحْسِينِ اللَّفْظِ .
وَهُوَ بَابٌ عَظِيمٌ ، اعْتَنَى بِهِ الْأَكَابِرُ وَالْعُلَمَاءُ .
وَلَهُ شَوَاهِدُ كَثِيرَةٌ فِي السُّنَّةِ وَهُوَ مِنْ خَاصِّيَّةِ الْعَقْلِ وَالْفِطْنَةِ .
فَقَدْ رَوَيْنَا عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : أَنَّهُ خَرَجَ يَعُسُّ الْمَدِينَةَ بِاللَّيْلِ ، فَرَأَى نَارًا مُوقَدَةً فِي خِبَاءٍ ، فَوَقَفَ وَقَالَ : " يَا أَهْلَ الضَّوْءِ " .
وَكَرِهَ أَنْ يَقُولَ : يَا أَهْلَ النَّارِ .
وَسَأَلَ رَجُلًا عَنْ شَيْءٍ : " هَلْ كَانَ ؟ " قَالَ : لَا .
أَطَالَ اللَّهُ بَقَاءَك ، فَقَالَ : " قَدْ عُلِّمْتُمْ فَلَمْ تَتَعَلَّمُوا ، هَلَّا قُلْت : لَا ، وَأَطَالَ اللَّهُ بَقَاءَك ؟ " .
وَسُئِلَ الْعَبَّاسُ : أَنْتَ أَكْبَرُ أَمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؟ فَقَالَ : هُوَ أَكْبَرُ مِنِّي ، وَأَنَا وُلِدْت قَبْلَهُ .
وَسُئِلَ عَنْ ذَلِكَ قَبَاثُ بْنُ أَشْيَمَ ؟ فَقَالَ : رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَكْبَرُ مِنِّي ، وَأَنَا أَسَنُّ مِنْهُ .
وَكَانَ لِبَعْضِ الْقُضَاةِ جَلِيسٌ أَعْمَى ، وَكَانَ إذَا أَرَادَ أَنْ يَنْهَضَ يَقُولُ : يَا غُلَامُ ، اذْهَبْ مَعَ أَبِي مُحَمَّدٍ ، وَلَا يَقُولُ : خُذْ بِيَدِهِ ، قَالَ : وَاَللَّهِ مَا أَخَلَّ بِهَا مَرَّةً .
وَمِنْ أَلْطَفِ مَا يُحْكَى فِي ذَلِكَ : أَنَّ بَعْضَ الْخُلَفَاءِ سَأَلَ رَجُلًا عَنْ اسْمِهِ ؟ فَقَالَ : سَعْدٌ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ فَقَالَ : أَيُّ السُّعُودِ أَنْتَ ؟ قَالَ : سَعْدُ السُّعُودِ لَك يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ ، وَسَعْدٌ الذَّابِحُ لِأَعْدَائِك ، وَسَعْدٌ بَلَعَ عَلَى سِمَاطِك ، وَسَعْدُ الْأَخْبِيَةِ لِسِرِّك ، فَأَعْجَبَهُ ذَلِكَ .