ترشه عمار
2009-12-25, 14:40
tercha.ammar h.a.kerim el-oued
************************************************** **
لكم هذا الحوار مع فيلسوف فرنسي معاصر(ميشال فوكو)
أنقله لكم للاطلاع
الفلسفة وعلم النفس - حوار مع م.فوكو - ترجمة: محمد ازويتة
غير أني عندما أقول بأن علم النفس هو عقبة، وقدر محتوم يستحيل تجاوزه، فأنا لا أنتقده كعلم، أي لا أقول بأن عليه أن يكون أقل أو أكثر فلسفة. سأقول ببساطة بأن هناك نوعا من السبات الأنتربولوجي الذي وجدت فيه الفلسفة وعلوم الإنسان نفسها، بشكل أو بآخر، منجذبة وغارقة مع بعضها البعض، وبالتالي (ما) يجب (فعله) هو الاستيقاظ (والخروج) من هذا السبات الأنثروبولوجي، كما تم الاستيقاظ من السبات الدوغمائي سابقا
أجرى الحوار أ.باديو
أ.باديو: ما هو علم النفس؟
م.فوكو: في رأيي ليس من الضروري تعريف علم النفس كعلم، ولكن ربما كشكل ثقافي، وهذا التحديد يندرج ضمن سلسلة من الظواهر التي عرفتها الثقافة الغربية منذ القدم، والتي استطاعت أن تتولد داخلها مجموعة من الأشياء كالاعترافات والحوارات، أو الخطابات، أو طرق التفكير، والتي يمكن معاينتها داخل بعض الأوساط في العصر الوسيط، أو في دروس للحب، أو في بعض الأوساط المتميزة في القرن السابع عشر الميلادي.
- هل توجد هناك علاقات داخلية أو خارجية بين علم النفس كشكل ثقافي وبين الفلسفة كشكل ثقافي؟ وقبل ذلك، هل يمكن اعتبار الفلسفة شكلا ثقافيا؟
- إنك تطرح (هنا) سؤالين:
1 – هل الفلسفة شكل ثقافي؟ سأقول لك بأني لست شديد الاهتمام بالفلسفة: وبالتالي لست في موقع يؤهلني لأعرف ذلك، (غير أنني) أظن أن هذا هو المشكل الكبير الذي يدور حوله النقاش حاليا، فربما تكون الفلسفة فعلا هي الشكل الثقافي الأكثر شمولية، والذي يمكننا من خلاله التفكير في ماهية الغرب.
2 – والآن ما هي العلاقة القائمة بين علم النفس كشكل ثقافي والفلسفة؟ هنا، أظن أننا داخل نقطة خلاف، يتعارض فيها كل من الفلاسفة وعلماء النفس منذ مائة وخمسين سنة. هذا المشكل الذي يعاد إثارته حاليا عبر مجموعة من الأسئلة، التي تتمحور حول إصلاح التعليم.
أظن أنه يمكن قول ما يلي: فعلا، من خلال علم النفس كانت العلوم الإنسانية في علاقة متشابكة مع الفلسفة منذ القرن 19 الميلادي، كيف يمكن إدراك عماء أو غموض وعيها الخاص ومناهجها قد حددت لنفسها مجالا سمته الروح أو الفكر، والذي يشكل حاليا إرثا وجدت العلوم الإنسانية (نفسها) مدعوة إلى توظيفه بطريقة واضحة وجلية وعلمية؟
هذا وإن كانت العلوم الإنسانية قد أخذت على عاتقها الاهتمام –بصفة شرعية- بهذا المجال الواسع المشار إليه سابقا، فلأن الفلسفة قد تركته بدون استثمار.
هذا ما يمكن أن نجيب به، وأظن أن هذا هو ما يقول به (أيضا)، وبكل تلقائية، أولئك الذين عرفوا بأنهم المشتغلون بالعلوم الإنسانية، أولئك الذين يعتبرون أن المهمة الفلسفية التقليدية، التي ولدت مع الفكر الإغريقي هي ما يجب إعادة الاهتمام بها حاليا، ولكن هذه المرة بأدوات العلوم الإنسانية. لا أظن أن هذا يحيط تماما بالمشكل، إذ يبدو لي أن تحليلا كهذا للأشياء يظل مرتبطا بشكل بديهي بتصور فلسفي هو الوضعية Positivisme.
يمكن أن نقول أيضا شيئا آخر مضادا: وهو أن شيئا مثل الأنثربولوجيا قد أصبح ممكنا منذ القرن التاسع عشر الميلادي، وربما يكون هذا جزءا من قدر الفلسفة الغربية. وعندما أقول الأنتروبولوجيا، فأنا لا أقصد بها ذلك العلم الخاص المسمى بالأنثربولوجيا، والذي يدرس الثقافات الأخرى المغايرة لثقافتنا، بل أعني بها تلك البيئة الفلسفية الخالصة، التي جعلت حاليا جميع المشاكل الفلسفية تسكن داخل مجال يمكن نعته بمحدودية الإنسان. فإذا كنا لا نستطيع أن نتفلسف إلا في الإنسان، باعتباره كائنا طبيعيا homo natura أو كائنا متناهيا être fini، أفلا يمكن اعتبارا لذلك أن تصبح كل فلسفة في العمق أنتروبولوجيا؟ وفي هذه الحالة تصبح الفلسفة هي (ذلك) الشكل الثقافي الذي تكون كل علوم الإنسان –بصفة عامة- ممكنة داخله. هذا ما يمكن أن نقوله حول هذه العلاقة بين الفلسفة وعلم النفس، والذي سيكون إذا أردتم تحليلا مخالفا لما قلته منذ قليل، والذي يمكن أن يضم العلوم الإنسانية داخل هذا القدر الكبير للفلسفة الغربية، فيمكن –كما قلت سابقا- أن نجعل الفلسفة كمشروع لا هم له إلا ما يجب أن تكون عليه العلوم الإنسانية. هذا ما يمكن أن يعنيه هذا التقاطع، والذي لا بد أن نفكر فيه الآن حيث نحن، كما يمكن أن نفكر فيه عموما في السنوات المقبلة.
- قلتم في التصور الأول إن الفلسفة عموما منحت ميدانها لعلم وضعي ضمن لها التوضيح الفعلي. تبعا لهذا التصور، ما الذي يضمن خصوصية علم النفس بالنظر إلى أنواع أخرى من البحث؟ هل تستطيع الوضعية ضمان هذه الخصوصية بوسائلها الخاصة؟
كيف تفهمون مسألة اكتشاف اللاشعور؟ بأي نوع من "الاكتشاف" يتعلق الأمر؟
- معروف أن اللاشعور (حرفيا) قد تم اكتشافه من طرف فرويد "كشيء"، وقد أدركه كمجموعة من الميكانيزمات الموجودة في الإنسان عموما، وفي أي إنسان على وجه الخصوص.
فهل نفهم من ذلك أن فرويد قد اتجه بعلم النفس إلى نوع من التشيؤ الجذري والذي لم يتوقف تاريخ علم النفس المعاصر كله بعد ذلك عن الرد عليه. حتى حدود ميرلوبونتي والمفكرين المعاصرين؟ من الممكن. غير أنه من الممكن كذلك أن يكون علم النفس –داخل هذا الجو العام- قد أصبح نتيجة تعرضه للنقد شيئا ممكنا. ولكن من جهة أخرى فاللاشعور بالنسبة لفرويد يمتلك بنية لغوية، فلا يجب أن ننسى مع ذلك أن فرويد مفسر (Exégete) وليس سيميولوجيا Sémiologue، مؤولا Interprète وليس نحويا Grammairien ومشكلته أساسا ليست مشكلة لسانية، بل مشكلة تفسير الرموز Déchiffrement.
ولكن ما الذي تعنيه لفظة "أول"، وماذا يعني أن نتعامل مع اللغة لا كلساني ولكن كمفسر وكمؤول سوى أن نقبل أولا بوجود نوع من الخطاطة (العامة) المطلقة التي يجب أن نكتشفها في ماديتها، ونعرف ثانيا أن هذه الخطاطة المادية تحمل دلالة معينة، ثم نحاول أن نتعرف على ما تريد أن تقوله ثالثا، ورابعا (وأخيرا) أن نكتشف وفقا لأية قوانين أرادت تلك العلامات أن تقول ما تريد قوله. ففي هذه اللحظة، وفي هذه اللحظة بالذات نتعرض للمستوى السيميولوجي، أي مشاكل المجاز المرسل والاستعارة على سبيل المثال، بمعنى الإجراءات التي تستطيع بواسطتها مجموعة من العلامات امتلاك القدرة على قول شيء ما، غير أن هذا الاكتشاف الرابع، هو فقط رابع بالنسبة لثلاثة اكتشافات (سابقة) أكثر أهمية، وهاته الأخيرة هي اكتشاف لشيء ما موجود هنا، أمامنا، اكتشاف لنص يجب تأويله، اكتشاف لأرض غريبة، تفتح أفقا على تأويل herméneutique ممكن.
- يميز المختصون في تفسير النصوص بين عملية "تفسير الرموز" déchiffrement وعملية "فك الرموز" décryptage، فـ "تفسير الرموز" يتضمن تفسير نص نتوفر على مفتاح له، بينما عملية "فك الرموز" تتضمن تفسير نص لا نتوفر على مفتاحه، أي عن بنية الرسالة نفسها. فهل ستكون المناهج النفسية من قبيل عملية "تفسير الرموز" وعملية "فك الرموز"؟
- سأقول لك بأنها عملية "فك للرموز"، غير أنها ليست هي تحديدا، ذلك أن مفاهيم مثل "تفسير الرموز" و"فك الرموز" هي في نظري مفاهيم قد تم تحديدها أساسا من طرف اللسانين، بهدف استعادة ما لا يمكن استعادته عند أية لسانيات أي علم التأويل..
فنلقبل إذن، إذا أردتم مفهوم "فك الرموز" (وبالتالي) سأقول لك بأن فرويد هو فعلا مفكك للرموز، بمعنى أنه يعرف أن هناك رسالة (ولكن) لا يعرف ما الذي تريد قوله، كما أنه لا يعرف القوانين التي تجعل العلامات تملك القدرة على قول ما تريد قوله. يتوجب عليه إذن وبحركة واحدة العمل على اكتشاف ما تريد الرسالة قوله، وفي نفس الوقت معرفة وفقا لأية قوانين تعمل الرسالة على قول ما تود قوله، وبتعبير آخر لا يجب على اللاوعي أن يكون حاملا لما يقوله فقط، بل حاملا لمفتاح ما يقوله أيضا. لهذا السبب فإن التحليل النفسي بتجربته ولغته قد أثار دائما اهتمام الأدب، فهناك نوع من الشغف من طرف الأدب المعاصر ليس فقط بالتحليل النفسي، ولكن بجميع الظواهر المرتبطة بالجنون، إذ ماذا يكون الجنون حاليا في العالم المعاصر إن لم يكن في النهاية رسالة للغة، لعلامات نعلم جيدا أنها تريد أن تقول شيئا ما –وسيكون من الفظاعة أن نفترض العكس- ولكن لا نعلم ماذا تريد أن تقوله، ولا كيف تقوله. وبالتالي علينا معالجة الجنون كرسالة تحمل في ذاتها مفتاحها الخاص، هذا ما فعله فرويد اتجاه العرض الهيستيري، وهذا ما يفعله أيضا أولئك الذين يحاولون الآن طرح مسألة الذهان.
وبعد كل ذلك، ما الأدب إن لم يكن نوعا من اللغة التي نعرف جيدا بأنها لا تقول فعلا ما تود قوله، إذ لو أراد الأدب أن يقول ما يود قوله، فسيقول ببساطة: "خرجت الماركيزة على الساعة الخامسة.." (ولكن) نحن نعرف جيدا أن الأدب لا يقول ذلك، إذن نعلم أن (الأدب) هو لغة ثانية، منطوية على ذاتها، تود قول شيء آخر غير ما تقوله. إننا لا نعرف ما هي هذه اللغة الثانية المختبئة، وما نعرفه ببساطة عن طريق قراءة الرواية هو أنه يتعين علينا اكتشاف ما تريد قوله، ووفقا لأية قوانين استطاع المؤلف قول ما يريد قوله، إذن يجب علينا أن نقوم بسيميولوجية للنص، وتفسيره في آن واحد.
ونتيجة لذلك هناك ما يشبه بنية متوازية بين الأدب والجنون يتمثل مضمونها في أنه لا يمكن القيام بالسيميولوجيا إلا عن طريق التفسير، كما لا يمكن القيام بالتفسير إلا عن طريق السيميولوجيا. وأظن بأن هذا التداخل لا يمكن فكه، ولنقل ببساطة أنه حتى حدود 1950م، كان يفهم، بشكل تقريبي أو مشوه، بخصوص التحليل النفسي والنقد الأدبي، أننا كنا بصدد شيء واحد اسمه التأويل. ولم يتم ملاحظة أنه كان هناك جانب كامل من السيميولوجيا، ومن تحليل بنية العلامات ذاتها.
والآن وقد تم اكتشاف هذا البعد السيميولوجي، وبالتالي إخفاء الجانب التأويلي، فإن بنية التضمين Enveloppement والطي Enroulement هي التي تميز لغة الجنون ولغة الأدب، ولهذا السبب نصل إلى هذه النتيجة وهي أنه ليست جميع العلوم الإنسانية وحدها التي أصبحت ذات طابع نفسي، بل حتى النقد الأدبي والأدب أيضا.
- إذا كان اللاشعور يظهر عموما على شكل موضوع –نص Objet حتى نحافظ على تصوركم المشيؤ- حيث تنكشف الرسالة في كل لحظة كملازمة لشفرتها، فهذا يعني غياب وجود شفرة شاملة، تستطيع الرسالة من خلالها، بطريقة مسبقة، أن تكشف عن معناها جملة. ونتيجة لذلك لا يمكن لعلم النفس أن يكون علما شاملا، إذ لا اهتمام له إلا بالنصوص، وما دامت (هاته الأخيرة) حاملة لشفرتها الخاصة والنوعية، فإنها فردية بالأساس، الشيء الذي يعني أن علم النفس هو علم يهتم بالفرد ليس فقط في موضوعه بل في منهجه أيضا، وبالتالي هل يمكن أن نتحدث عن علم تأويل شامل؟ .................................................. ..................
************************************************** **
لكم هذا الحوار مع فيلسوف فرنسي معاصر(ميشال فوكو)
أنقله لكم للاطلاع
الفلسفة وعلم النفس - حوار مع م.فوكو - ترجمة: محمد ازويتة
غير أني عندما أقول بأن علم النفس هو عقبة، وقدر محتوم يستحيل تجاوزه، فأنا لا أنتقده كعلم، أي لا أقول بأن عليه أن يكون أقل أو أكثر فلسفة. سأقول ببساطة بأن هناك نوعا من السبات الأنتربولوجي الذي وجدت فيه الفلسفة وعلوم الإنسان نفسها، بشكل أو بآخر، منجذبة وغارقة مع بعضها البعض، وبالتالي (ما) يجب (فعله) هو الاستيقاظ (والخروج) من هذا السبات الأنثروبولوجي، كما تم الاستيقاظ من السبات الدوغمائي سابقا
أجرى الحوار أ.باديو
أ.باديو: ما هو علم النفس؟
م.فوكو: في رأيي ليس من الضروري تعريف علم النفس كعلم، ولكن ربما كشكل ثقافي، وهذا التحديد يندرج ضمن سلسلة من الظواهر التي عرفتها الثقافة الغربية منذ القدم، والتي استطاعت أن تتولد داخلها مجموعة من الأشياء كالاعترافات والحوارات، أو الخطابات، أو طرق التفكير، والتي يمكن معاينتها داخل بعض الأوساط في العصر الوسيط، أو في دروس للحب، أو في بعض الأوساط المتميزة في القرن السابع عشر الميلادي.
- هل توجد هناك علاقات داخلية أو خارجية بين علم النفس كشكل ثقافي وبين الفلسفة كشكل ثقافي؟ وقبل ذلك، هل يمكن اعتبار الفلسفة شكلا ثقافيا؟
- إنك تطرح (هنا) سؤالين:
1 – هل الفلسفة شكل ثقافي؟ سأقول لك بأني لست شديد الاهتمام بالفلسفة: وبالتالي لست في موقع يؤهلني لأعرف ذلك، (غير أنني) أظن أن هذا هو المشكل الكبير الذي يدور حوله النقاش حاليا، فربما تكون الفلسفة فعلا هي الشكل الثقافي الأكثر شمولية، والذي يمكننا من خلاله التفكير في ماهية الغرب.
2 – والآن ما هي العلاقة القائمة بين علم النفس كشكل ثقافي والفلسفة؟ هنا، أظن أننا داخل نقطة خلاف، يتعارض فيها كل من الفلاسفة وعلماء النفس منذ مائة وخمسين سنة. هذا المشكل الذي يعاد إثارته حاليا عبر مجموعة من الأسئلة، التي تتمحور حول إصلاح التعليم.
أظن أنه يمكن قول ما يلي: فعلا، من خلال علم النفس كانت العلوم الإنسانية في علاقة متشابكة مع الفلسفة منذ القرن 19 الميلادي، كيف يمكن إدراك عماء أو غموض وعيها الخاص ومناهجها قد حددت لنفسها مجالا سمته الروح أو الفكر، والذي يشكل حاليا إرثا وجدت العلوم الإنسانية (نفسها) مدعوة إلى توظيفه بطريقة واضحة وجلية وعلمية؟
هذا وإن كانت العلوم الإنسانية قد أخذت على عاتقها الاهتمام –بصفة شرعية- بهذا المجال الواسع المشار إليه سابقا، فلأن الفلسفة قد تركته بدون استثمار.
هذا ما يمكن أن نجيب به، وأظن أن هذا هو ما يقول به (أيضا)، وبكل تلقائية، أولئك الذين عرفوا بأنهم المشتغلون بالعلوم الإنسانية، أولئك الذين يعتبرون أن المهمة الفلسفية التقليدية، التي ولدت مع الفكر الإغريقي هي ما يجب إعادة الاهتمام بها حاليا، ولكن هذه المرة بأدوات العلوم الإنسانية. لا أظن أن هذا يحيط تماما بالمشكل، إذ يبدو لي أن تحليلا كهذا للأشياء يظل مرتبطا بشكل بديهي بتصور فلسفي هو الوضعية Positivisme.
يمكن أن نقول أيضا شيئا آخر مضادا: وهو أن شيئا مثل الأنثربولوجيا قد أصبح ممكنا منذ القرن التاسع عشر الميلادي، وربما يكون هذا جزءا من قدر الفلسفة الغربية. وعندما أقول الأنتروبولوجيا، فأنا لا أقصد بها ذلك العلم الخاص المسمى بالأنثربولوجيا، والذي يدرس الثقافات الأخرى المغايرة لثقافتنا، بل أعني بها تلك البيئة الفلسفية الخالصة، التي جعلت حاليا جميع المشاكل الفلسفية تسكن داخل مجال يمكن نعته بمحدودية الإنسان. فإذا كنا لا نستطيع أن نتفلسف إلا في الإنسان، باعتباره كائنا طبيعيا homo natura أو كائنا متناهيا être fini، أفلا يمكن اعتبارا لذلك أن تصبح كل فلسفة في العمق أنتروبولوجيا؟ وفي هذه الحالة تصبح الفلسفة هي (ذلك) الشكل الثقافي الذي تكون كل علوم الإنسان –بصفة عامة- ممكنة داخله. هذا ما يمكن أن نقوله حول هذه العلاقة بين الفلسفة وعلم النفس، والذي سيكون إذا أردتم تحليلا مخالفا لما قلته منذ قليل، والذي يمكن أن يضم العلوم الإنسانية داخل هذا القدر الكبير للفلسفة الغربية، فيمكن –كما قلت سابقا- أن نجعل الفلسفة كمشروع لا هم له إلا ما يجب أن تكون عليه العلوم الإنسانية. هذا ما يمكن أن يعنيه هذا التقاطع، والذي لا بد أن نفكر فيه الآن حيث نحن، كما يمكن أن نفكر فيه عموما في السنوات المقبلة.
- قلتم في التصور الأول إن الفلسفة عموما منحت ميدانها لعلم وضعي ضمن لها التوضيح الفعلي. تبعا لهذا التصور، ما الذي يضمن خصوصية علم النفس بالنظر إلى أنواع أخرى من البحث؟ هل تستطيع الوضعية ضمان هذه الخصوصية بوسائلها الخاصة؟
كيف تفهمون مسألة اكتشاف اللاشعور؟ بأي نوع من "الاكتشاف" يتعلق الأمر؟
- معروف أن اللاشعور (حرفيا) قد تم اكتشافه من طرف فرويد "كشيء"، وقد أدركه كمجموعة من الميكانيزمات الموجودة في الإنسان عموما، وفي أي إنسان على وجه الخصوص.
فهل نفهم من ذلك أن فرويد قد اتجه بعلم النفس إلى نوع من التشيؤ الجذري والذي لم يتوقف تاريخ علم النفس المعاصر كله بعد ذلك عن الرد عليه. حتى حدود ميرلوبونتي والمفكرين المعاصرين؟ من الممكن. غير أنه من الممكن كذلك أن يكون علم النفس –داخل هذا الجو العام- قد أصبح نتيجة تعرضه للنقد شيئا ممكنا. ولكن من جهة أخرى فاللاشعور بالنسبة لفرويد يمتلك بنية لغوية، فلا يجب أن ننسى مع ذلك أن فرويد مفسر (Exégete) وليس سيميولوجيا Sémiologue، مؤولا Interprète وليس نحويا Grammairien ومشكلته أساسا ليست مشكلة لسانية، بل مشكلة تفسير الرموز Déchiffrement.
ولكن ما الذي تعنيه لفظة "أول"، وماذا يعني أن نتعامل مع اللغة لا كلساني ولكن كمفسر وكمؤول سوى أن نقبل أولا بوجود نوع من الخطاطة (العامة) المطلقة التي يجب أن نكتشفها في ماديتها، ونعرف ثانيا أن هذه الخطاطة المادية تحمل دلالة معينة، ثم نحاول أن نتعرف على ما تريد أن تقوله ثالثا، ورابعا (وأخيرا) أن نكتشف وفقا لأية قوانين أرادت تلك العلامات أن تقول ما تريد قوله. ففي هذه اللحظة، وفي هذه اللحظة بالذات نتعرض للمستوى السيميولوجي، أي مشاكل المجاز المرسل والاستعارة على سبيل المثال، بمعنى الإجراءات التي تستطيع بواسطتها مجموعة من العلامات امتلاك القدرة على قول شيء ما، غير أن هذا الاكتشاف الرابع، هو فقط رابع بالنسبة لثلاثة اكتشافات (سابقة) أكثر أهمية، وهاته الأخيرة هي اكتشاف لشيء ما موجود هنا، أمامنا، اكتشاف لنص يجب تأويله، اكتشاف لأرض غريبة، تفتح أفقا على تأويل herméneutique ممكن.
- يميز المختصون في تفسير النصوص بين عملية "تفسير الرموز" déchiffrement وعملية "فك الرموز" décryptage، فـ "تفسير الرموز" يتضمن تفسير نص نتوفر على مفتاح له، بينما عملية "فك الرموز" تتضمن تفسير نص لا نتوفر على مفتاحه، أي عن بنية الرسالة نفسها. فهل ستكون المناهج النفسية من قبيل عملية "تفسير الرموز" وعملية "فك الرموز"؟
- سأقول لك بأنها عملية "فك للرموز"، غير أنها ليست هي تحديدا، ذلك أن مفاهيم مثل "تفسير الرموز" و"فك الرموز" هي في نظري مفاهيم قد تم تحديدها أساسا من طرف اللسانين، بهدف استعادة ما لا يمكن استعادته عند أية لسانيات أي علم التأويل..
فنلقبل إذن، إذا أردتم مفهوم "فك الرموز" (وبالتالي) سأقول لك بأن فرويد هو فعلا مفكك للرموز، بمعنى أنه يعرف أن هناك رسالة (ولكن) لا يعرف ما الذي تريد قوله، كما أنه لا يعرف القوانين التي تجعل العلامات تملك القدرة على قول ما تريد قوله. يتوجب عليه إذن وبحركة واحدة العمل على اكتشاف ما تريد الرسالة قوله، وفي نفس الوقت معرفة وفقا لأية قوانين تعمل الرسالة على قول ما تود قوله، وبتعبير آخر لا يجب على اللاوعي أن يكون حاملا لما يقوله فقط، بل حاملا لمفتاح ما يقوله أيضا. لهذا السبب فإن التحليل النفسي بتجربته ولغته قد أثار دائما اهتمام الأدب، فهناك نوع من الشغف من طرف الأدب المعاصر ليس فقط بالتحليل النفسي، ولكن بجميع الظواهر المرتبطة بالجنون، إذ ماذا يكون الجنون حاليا في العالم المعاصر إن لم يكن في النهاية رسالة للغة، لعلامات نعلم جيدا أنها تريد أن تقول شيئا ما –وسيكون من الفظاعة أن نفترض العكس- ولكن لا نعلم ماذا تريد أن تقوله، ولا كيف تقوله. وبالتالي علينا معالجة الجنون كرسالة تحمل في ذاتها مفتاحها الخاص، هذا ما فعله فرويد اتجاه العرض الهيستيري، وهذا ما يفعله أيضا أولئك الذين يحاولون الآن طرح مسألة الذهان.
وبعد كل ذلك، ما الأدب إن لم يكن نوعا من اللغة التي نعرف جيدا بأنها لا تقول فعلا ما تود قوله، إذ لو أراد الأدب أن يقول ما يود قوله، فسيقول ببساطة: "خرجت الماركيزة على الساعة الخامسة.." (ولكن) نحن نعرف جيدا أن الأدب لا يقول ذلك، إذن نعلم أن (الأدب) هو لغة ثانية، منطوية على ذاتها، تود قول شيء آخر غير ما تقوله. إننا لا نعرف ما هي هذه اللغة الثانية المختبئة، وما نعرفه ببساطة عن طريق قراءة الرواية هو أنه يتعين علينا اكتشاف ما تريد قوله، ووفقا لأية قوانين استطاع المؤلف قول ما يريد قوله، إذن يجب علينا أن نقوم بسيميولوجية للنص، وتفسيره في آن واحد.
ونتيجة لذلك هناك ما يشبه بنية متوازية بين الأدب والجنون يتمثل مضمونها في أنه لا يمكن القيام بالسيميولوجيا إلا عن طريق التفسير، كما لا يمكن القيام بالتفسير إلا عن طريق السيميولوجيا. وأظن بأن هذا التداخل لا يمكن فكه، ولنقل ببساطة أنه حتى حدود 1950م، كان يفهم، بشكل تقريبي أو مشوه، بخصوص التحليل النفسي والنقد الأدبي، أننا كنا بصدد شيء واحد اسمه التأويل. ولم يتم ملاحظة أنه كان هناك جانب كامل من السيميولوجيا، ومن تحليل بنية العلامات ذاتها.
والآن وقد تم اكتشاف هذا البعد السيميولوجي، وبالتالي إخفاء الجانب التأويلي، فإن بنية التضمين Enveloppement والطي Enroulement هي التي تميز لغة الجنون ولغة الأدب، ولهذا السبب نصل إلى هذه النتيجة وهي أنه ليست جميع العلوم الإنسانية وحدها التي أصبحت ذات طابع نفسي، بل حتى النقد الأدبي والأدب أيضا.
- إذا كان اللاشعور يظهر عموما على شكل موضوع –نص Objet حتى نحافظ على تصوركم المشيؤ- حيث تنكشف الرسالة في كل لحظة كملازمة لشفرتها، فهذا يعني غياب وجود شفرة شاملة، تستطيع الرسالة من خلالها، بطريقة مسبقة، أن تكشف عن معناها جملة. ونتيجة لذلك لا يمكن لعلم النفس أن يكون علما شاملا، إذ لا اهتمام له إلا بالنصوص، وما دامت (هاته الأخيرة) حاملة لشفرتها الخاصة والنوعية، فإنها فردية بالأساس، الشيء الذي يعني أن علم النفس هو علم يهتم بالفرد ليس فقط في موضوعه بل في منهجه أيضا، وبالتالي هل يمكن أن نتحدث عن علم تأويل شامل؟ .................................................. ..................