ترشه عمار
2009-12-23, 23:33
ما نحن بصدده عند الكلام عن سقراط لا يعني اننا نتحدث عن تاريخ او نأتي على سيرة ذلك الفيلسوف، وانما هدفنا مبعثه ان نبين ان حضارتنا المعاصرة تمتد بجذورها الى اولئك العظماء ممن خاضوا في كافة ميادين العلوم والمباحث الانسانية والاخلاقية..
* ومما تميز به سقراط في مناقشاته وحواراته، اصراره الدائم على ترسيخ الفضيلة في مواجهة الرذيلة.. فقال:
«الفضيلة علم، والرذيلة جهل.. ولو علم الانسان ماهية الفضيلة فلا شك انه سيعمل بها، ولو علم ماهية الرذيلة فلا بد ان يتجنبها».
وقد حظيت (الفضيلة) و(الرذيلة) بعناية الفلاسفة والمفكرين الاخلاقيين عناية كبرى، فامتدح الفيثاغوريون، الصداقة، وعاشوا فضيلتها، ومارسوا اساليب التقشف، ومحاسبة النفس.. وحاول هيروقليطس ربط العقائد الاخلاقية بمذاهب الفلسفة، واعتقد السفسطائيون: ان الانسان مقياس كل شيء، وان الحكمة هي فن بلوغ السعادة.
الى ان جاء سقراط، وقرر ان العدالة وسائر الفضائل تتلخص في الحكمة او معرفة الخير، وان السعادة تتحقق بممارسة الفضيلة.. ثم ربط بين امرين، الاول: ان الفضيلة علم، والثاني: انه من الممكن تعليمها ما دامت علما.. فإذا ثبت عدم صحة الفرضية الاولى، ثبت تبعا لذلك انعدام صحة الفرضية الثانية.
* والمعروف ان سقراط لم يكن يتناول اجرا على قيامه بمهنة التعليم لأنه يؤمن ان المعرفة موجودة داخل النفس البشرية، ويستطيع المرء ان يستنبطها بالتوليد، فكيف يأخذ المعلم اجرا على شيء ليس في ملكه؟! قد يكون الاجر جائزا في تعليم المهن الصناعية والحرف، اما عندما يكون التعليم يستهدف ترسيخ الفضائل التي من الممكن ان يجبل عليها الانسان باعتبارها متأصلة فيه، فهذا ما لا يجوز في عرف سقراط ولهذا نجد ان الكاتب المسرحي الكوميدي ارسطوفان جعل من سقراط مدعاة للسخرية في مسرحية (السحب)، واتهمه فيها انه يستغل تلامذته فيأخذ منهم المال ويعطيهم الخيال حتى يقال ان تلك المسرحية كانت من جملة الاسباب التي اشاعت عن سقراط تهمة افساد الشباب وتحويل ارائهم وجعلهم يثورون على العادات الجارية والتقاليد الموروثة في مجتمعاتهم.
وهذا حق، فسقراط كان يدعو الشباب الى الثورة على الموروث ولكنه لم يكن يتناول اجرا على التعليم ـ كما صورته المسرحية ـ... وهو لم يعلم تلامذته ان يسلكوا مسلك المناهج الفلسفية السابقة عليه التي تدعو الانسان الى ان يتغلب على الآخرين باستخدام قوة البيان، حتى وان كان ذلك التغلب يسلك طريق الباطل... فسقراط كان يهدف دائما في تعاليمه الى استخدام اشرف الطرق وانبلها الى بلوغ الحقيقة.
* وعلى الرغم من الشهرة الكبيرة والصيت الذائع لسقراط، فإن الوقوف على فلسفته على وجه اليقين، ظل امرا محيرا وعسيرا جدا، وذلك يرجع الى سبب اساسي، وهو ان هذا الفيلسوف لم يكتب في حياته حرفا واحدا، وانما انتقلت آراؤه وافكاره عبر تلامذته بعد وفاته، مما جعل بعض المحدثين في اوروبا ينكرون صحة وجود سقراط اصلا، وزعم هذا البعض ان افلاطون هو الذي كتب معظم تلك المأثورات والحوارات التي كانت تحدث بين سقراط ومحاوريه.. وانه ـ أي افلاطون ـ قد تخفى وراء اسم سقراط لأسباب، لا مجال لشرحها في ما نحن بصدده.
وهذا الافراط في الشك لدى المنكرين لوجود الفيلسوف سقراط ليس له ما يبرره، لأن افلاطون لم يكن تلميذه الوحيد فـ (زينوفون) كتب هو الاخر نفس المحاورات السقراطية، بأسلوب اخر يختلف عن الاساليب التي اتبعها تلامذة سقراط.. بل ان ارسطو ـ وهو لم يلتق بسقراط لكنه قريب العهد به ـ قد ذكر آراء سقراط في اكثر من كتاب.
فهذا الفيلسوف الذي ولد عام 399 وتوفي عام 470 ق. م قد اثر في تاريخ الفكر الفلسفي تأثيرا بالغا، لأن طريقته في التعليم الفلسفي بوجه عام وفي التربية بوجه خاص، اثبتت انه هو الذي عمل على تأصيل وتجذير مذهب فلسفة الاخلاق الذي لا يزال يؤخذ به حتى يومنا هذا، وللدقة.. فإن جوهر روح مذهبه الفلسفي ما زال يهيمن على آراء ومعطيات معظم فلاسفة الاخلاق الذين جاءوا من بعده.
* لقد كان الاتجاه الفلسفي قبل سقراط شديد الاهتمام ـ كما اشرنا ـ بالعوالم الخارجية الى ان جاء هو ليتجه بالفلسفة نحو البحث في داخل اعماق النفس البشرية، فاتخذ من الانسان وطبائعه وغرائزه مادة اساسية في حواراته وتعاليمه وقد تمثل ذلك في حكمته المشهورة التي دونت على باب معهد دلفي: (اعرف نفسك).. لذا قيل ان سقراط هو الذي انزل الفلسفة من عليائها الى الارض.
* أما الاسلوب الذي اتبعه ذلك الفيلسوف في نهجه الفلسفي فهو عبارة عن مناقشة تدور بين شخصين او اكثر في هيئة سؤال وجواب، وقد يكون ذلك السؤال استنكاريا او استفهاميا او تهكميا ساخرا.. الخ. وفي النهاية يجب ان يصل المتحاورون الى نتيجة قد تقودهم الى التسليم او الى الرفض، فإن سلم المستفسرون من المتحاورين بما يقال، ترتبت على ذلك امور، وان سلموا بما يناقضه، ترتبت على ذلك امور اخرى، ولكن لا بد من التسليم باحدى النتائج المستخلصة من الحوار في كل الاحوال.
* وهذا النوع من الحوارات كان يستخدمه السفسطائيون وهم من كانوا يقومون بمهمة التعليم في فن الخطابة والبيان، وهي بضاعة قد نشطت ـ آنذاك ـ بسبب اخذ اليونانيين بالمنهج الديموقراطي الذي كان يقتضي من المرشحين ان يكونوا من ذوي الحجة والقدرة على الافصاح عن افكارهم لاقناع الناخبين بما يمتلكون من قوة البيان سواء كانوا على حق ام على باطل!!
* وقد عاش سقراط في هذه الاجواء، وكان هو الآخر يقوم بمهنة التعليم مثل السفسطائيين، لكنه اختلف عنهم، لأنه لم يكن يأخذ بمبدأ القوة كأساس للحق، ولا بمبدأ نسبية الحق، وانه تابع ـ اي الحق ـ لما يراه كل انسان حسب مصالحه.
.. والحوار السقراطي اتخذ طابعا معينا تميز به سقراط عن سواه، فهو يوقع محاوره او خصمه في الارتباك، ولا يبادر في الاتيان على الاجوبة في ما يطرحه من تساؤلات، ولكنه يستخرجها من محاوره نفسه، وبعبارة اخرى (يولدها).
هذا النهج اذن يدعو الى ان يفكر الانسان في نفسه، وان يمعن النظر في الآراء والمعتقدات، ولا يأخذ بها كقضايا مسلمة.. فإن فعل المرء ذلك اندحرت اذن تلك القداسة التي كثيرا ما تخلع على العادات والتقاليد والمعتقدات الموروثة، ويتبين للمرء ان بعضها صحيح، وبعضها الآخر فاسد، وانها ليست كلها حقا بل ان كثيرا منها يقوم على الباطل.
والقول بأن قوانين الدولة ومعتقداتها باطلة، كان يعد (ثورة) عليها، واكثر من كان يتأثر بهذه التعاليم السقراطية هم الشباب لان الشيوخ بعد ان تمرسوا باتباع التقاليد الجارية في حياتهم والموروثة من قرون سابقة، يصعب التأثير عليهم. فلما اخذ سقراط ينشر تعاليمه متبعا ذلك الاسلوب الذي يثير التفكير سعيا وراء الحق، وابتعادا عن الباطل، وتبعه في ذلك عدد من طليعة شباب اثينا، اتهمه اصحاب المصالح السياسية بأنه مصدر متاعب للدولة باعتباره يؤلب الشباب على ما هو سائد وموروث، ويدعو الى الثورة عليه.
* ومن المحاورات والمناقشات الهامة التي كثيرا ما تذكر بين خرميدس وسقراط مناقشة كانت تدور حول تعريف (العفة) حيث قال سقراط فيها: إنه من الواضح اذا كان الانسان يملك فضيلة العفة، فلا بد ان يتصورها، او ان لديه عنها مفهوما معينا.. فأجابه خرميدس: «العفة ان يظهر المرء وقارا هادئا في كل افعاله، في مشيته، وحديثه وجميع سلوكياته، وعلى الاجمال: فإن العفة تتلخص في البعد عن التهور والتسرع».
* وترتب على هذه المناقشة ان انبثقت تعريفات اخرى لمعانٍ تشتمل على التسرع، فقيل انه مطلوب في امور كثيرة، وان البطء مذموم فيها.. ويستمر النقاش عن العفة التي قال البعض انها تدعو المرء لان يحمر وجهه خجلا لينعكس ذلك الخجل على النفس، وما ان اشبع هذا الامر نقاشا، واذا بتعريف آخر يظهر ان العفة ترتبط بمعرفة الانسان لنفسه.. وهناء تقترب المحاورة بعض الشيء من مذهب سقراط الذي تدور فلسفته حول معرفة النفس البشرية.
* ولم يكن التحاور مقصورا على سقراط، فهناك محاورون عرفوا ببراعتهم منهم جورجياس وهو سفسطائي مشهور وخطيب لامع، اكتسب ثروة كبيرة من صناعة الخطابة، وهو من دعاة القوة وفرض الارادة باستخدام كل الاساليب للوصول الى تحقيق اي اهداف يسعى اليها الفرد.
ولم يكن جورجياس مموها يبغي التزييف والمغالطة، وانما كان مؤمنا بمذهبه كأسلوب في الحياة من منظوره، لكن سقراط يقف في الجانب الآخر المعاكس لطريق جوجياس حيث العدل والحكمة والحق، وهي معانٍ تحقق للانسان انسانيته بمعنى الكلمة، وهذا ما فعله ودافع عنه لدرجة انه دفع حياته ثمنا لتأكيد تلك المعاني.
***
* واذا جاز لنا ان نحكم من خلال مشاهدة ذلك التمثال النصفي الذي وصل الينا من انقاض التماثيل اليونانية القديمة، يمكن ان نقول ان سقراط كان بعيدا كل البعد عن الوسامة، فهو اصلع الرأس، ذو وجه كبير مستدير وعينين عميقتين ذاتا فراسة وانف كبير عريض مفلطح ولكننا لو اعدنا النظر في التمثال الرخامي لوجه سقراط، لوجدنا فيه شيئا من الدماثة واللطافة والبساطة، وهذه الصفات هي التي جعلت من هذا الفيلسوف والمفكر الانساني معلما محبوبا عند افضل شباب اثينا.
* ومع ان معرفتنا بسقراط معرفة قليلة، لا تتجاوز حدود ما وصل الينا مما كتبه افلاطون عنه، الا ان صورته قد استنبطت باذهاننا بتلك الهيئة المهلهلة الثياب، وهو يسير بتؤدة في الهواء الطلق، غير عابئ بسخافات السياسة، ولا بمفرداتها.
وقد كان الشباب يستمتعون بتحليلاته، وهجومه العنيف على النظام الديموقراطي في اثينا، بل ان هؤلاء الشباب كانوا ينظرون إليه بزهو واعجاب عندما كان يحاور مناقشيه ببراعة، ليلقي بالواحد منهم تلو الآخر فرائس سهلة بعد مهاجمته اياهم بالحجة القوية، والمنطق الحذق، والبراهين المقنعة.
* ان جميع المشاكل التي تثار في مجتمعنا الانساني المعاصر، وصارت مادة للنقاش عبر وسائط الاعلام المختلفة، التي ما زالت تثار هنا وهناك، قد هيجت من قبل تلك المجتمعات اليونانية الصغيرة، فكان الشباب هم الطلائع الاولى لاثارتها والتحاور فيها مع معلمهم سقراط، الذي غدت حلقاته تضم جميع الشرائح الاجتماعية ومنطلقاتها الفكرية. حقا... ان الحياة بغير الحوار البناء ليست جديرة بأن يعيش فيها الانسان، فالحوار الذي يتبعه تطبيق عملي هو الذي يصنع الحضارات الانسانية.
* ومما تميز به سقراط في مناقشاته وحواراته، اصراره الدائم على ترسيخ الفضيلة في مواجهة الرذيلة.. فقال:
«الفضيلة علم، والرذيلة جهل.. ولو علم الانسان ماهية الفضيلة فلا شك انه سيعمل بها، ولو علم ماهية الرذيلة فلا بد ان يتجنبها».
وقد حظيت (الفضيلة) و(الرذيلة) بعناية الفلاسفة والمفكرين الاخلاقيين عناية كبرى، فامتدح الفيثاغوريون، الصداقة، وعاشوا فضيلتها، ومارسوا اساليب التقشف، ومحاسبة النفس.. وحاول هيروقليطس ربط العقائد الاخلاقية بمذاهب الفلسفة، واعتقد السفسطائيون: ان الانسان مقياس كل شيء، وان الحكمة هي فن بلوغ السعادة.
الى ان جاء سقراط، وقرر ان العدالة وسائر الفضائل تتلخص في الحكمة او معرفة الخير، وان السعادة تتحقق بممارسة الفضيلة.. ثم ربط بين امرين، الاول: ان الفضيلة علم، والثاني: انه من الممكن تعليمها ما دامت علما.. فإذا ثبت عدم صحة الفرضية الاولى، ثبت تبعا لذلك انعدام صحة الفرضية الثانية.
* والمعروف ان سقراط لم يكن يتناول اجرا على قيامه بمهنة التعليم لأنه يؤمن ان المعرفة موجودة داخل النفس البشرية، ويستطيع المرء ان يستنبطها بالتوليد، فكيف يأخذ المعلم اجرا على شيء ليس في ملكه؟! قد يكون الاجر جائزا في تعليم المهن الصناعية والحرف، اما عندما يكون التعليم يستهدف ترسيخ الفضائل التي من الممكن ان يجبل عليها الانسان باعتبارها متأصلة فيه، فهذا ما لا يجوز في عرف سقراط ولهذا نجد ان الكاتب المسرحي الكوميدي ارسطوفان جعل من سقراط مدعاة للسخرية في مسرحية (السحب)، واتهمه فيها انه يستغل تلامذته فيأخذ منهم المال ويعطيهم الخيال حتى يقال ان تلك المسرحية كانت من جملة الاسباب التي اشاعت عن سقراط تهمة افساد الشباب وتحويل ارائهم وجعلهم يثورون على العادات الجارية والتقاليد الموروثة في مجتمعاتهم.
وهذا حق، فسقراط كان يدعو الشباب الى الثورة على الموروث ولكنه لم يكن يتناول اجرا على التعليم ـ كما صورته المسرحية ـ... وهو لم يعلم تلامذته ان يسلكوا مسلك المناهج الفلسفية السابقة عليه التي تدعو الانسان الى ان يتغلب على الآخرين باستخدام قوة البيان، حتى وان كان ذلك التغلب يسلك طريق الباطل... فسقراط كان يهدف دائما في تعاليمه الى استخدام اشرف الطرق وانبلها الى بلوغ الحقيقة.
* وعلى الرغم من الشهرة الكبيرة والصيت الذائع لسقراط، فإن الوقوف على فلسفته على وجه اليقين، ظل امرا محيرا وعسيرا جدا، وذلك يرجع الى سبب اساسي، وهو ان هذا الفيلسوف لم يكتب في حياته حرفا واحدا، وانما انتقلت آراؤه وافكاره عبر تلامذته بعد وفاته، مما جعل بعض المحدثين في اوروبا ينكرون صحة وجود سقراط اصلا، وزعم هذا البعض ان افلاطون هو الذي كتب معظم تلك المأثورات والحوارات التي كانت تحدث بين سقراط ومحاوريه.. وانه ـ أي افلاطون ـ قد تخفى وراء اسم سقراط لأسباب، لا مجال لشرحها في ما نحن بصدده.
وهذا الافراط في الشك لدى المنكرين لوجود الفيلسوف سقراط ليس له ما يبرره، لأن افلاطون لم يكن تلميذه الوحيد فـ (زينوفون) كتب هو الاخر نفس المحاورات السقراطية، بأسلوب اخر يختلف عن الاساليب التي اتبعها تلامذة سقراط.. بل ان ارسطو ـ وهو لم يلتق بسقراط لكنه قريب العهد به ـ قد ذكر آراء سقراط في اكثر من كتاب.
فهذا الفيلسوف الذي ولد عام 399 وتوفي عام 470 ق. م قد اثر في تاريخ الفكر الفلسفي تأثيرا بالغا، لأن طريقته في التعليم الفلسفي بوجه عام وفي التربية بوجه خاص، اثبتت انه هو الذي عمل على تأصيل وتجذير مذهب فلسفة الاخلاق الذي لا يزال يؤخذ به حتى يومنا هذا، وللدقة.. فإن جوهر روح مذهبه الفلسفي ما زال يهيمن على آراء ومعطيات معظم فلاسفة الاخلاق الذين جاءوا من بعده.
* لقد كان الاتجاه الفلسفي قبل سقراط شديد الاهتمام ـ كما اشرنا ـ بالعوالم الخارجية الى ان جاء هو ليتجه بالفلسفة نحو البحث في داخل اعماق النفس البشرية، فاتخذ من الانسان وطبائعه وغرائزه مادة اساسية في حواراته وتعاليمه وقد تمثل ذلك في حكمته المشهورة التي دونت على باب معهد دلفي: (اعرف نفسك).. لذا قيل ان سقراط هو الذي انزل الفلسفة من عليائها الى الارض.
* أما الاسلوب الذي اتبعه ذلك الفيلسوف في نهجه الفلسفي فهو عبارة عن مناقشة تدور بين شخصين او اكثر في هيئة سؤال وجواب، وقد يكون ذلك السؤال استنكاريا او استفهاميا او تهكميا ساخرا.. الخ. وفي النهاية يجب ان يصل المتحاورون الى نتيجة قد تقودهم الى التسليم او الى الرفض، فإن سلم المستفسرون من المتحاورين بما يقال، ترتبت على ذلك امور، وان سلموا بما يناقضه، ترتبت على ذلك امور اخرى، ولكن لا بد من التسليم باحدى النتائج المستخلصة من الحوار في كل الاحوال.
* وهذا النوع من الحوارات كان يستخدمه السفسطائيون وهم من كانوا يقومون بمهمة التعليم في فن الخطابة والبيان، وهي بضاعة قد نشطت ـ آنذاك ـ بسبب اخذ اليونانيين بالمنهج الديموقراطي الذي كان يقتضي من المرشحين ان يكونوا من ذوي الحجة والقدرة على الافصاح عن افكارهم لاقناع الناخبين بما يمتلكون من قوة البيان سواء كانوا على حق ام على باطل!!
* وقد عاش سقراط في هذه الاجواء، وكان هو الآخر يقوم بمهنة التعليم مثل السفسطائيين، لكنه اختلف عنهم، لأنه لم يكن يأخذ بمبدأ القوة كأساس للحق، ولا بمبدأ نسبية الحق، وانه تابع ـ اي الحق ـ لما يراه كل انسان حسب مصالحه.
.. والحوار السقراطي اتخذ طابعا معينا تميز به سقراط عن سواه، فهو يوقع محاوره او خصمه في الارتباك، ولا يبادر في الاتيان على الاجوبة في ما يطرحه من تساؤلات، ولكنه يستخرجها من محاوره نفسه، وبعبارة اخرى (يولدها).
هذا النهج اذن يدعو الى ان يفكر الانسان في نفسه، وان يمعن النظر في الآراء والمعتقدات، ولا يأخذ بها كقضايا مسلمة.. فإن فعل المرء ذلك اندحرت اذن تلك القداسة التي كثيرا ما تخلع على العادات والتقاليد والمعتقدات الموروثة، ويتبين للمرء ان بعضها صحيح، وبعضها الآخر فاسد، وانها ليست كلها حقا بل ان كثيرا منها يقوم على الباطل.
والقول بأن قوانين الدولة ومعتقداتها باطلة، كان يعد (ثورة) عليها، واكثر من كان يتأثر بهذه التعاليم السقراطية هم الشباب لان الشيوخ بعد ان تمرسوا باتباع التقاليد الجارية في حياتهم والموروثة من قرون سابقة، يصعب التأثير عليهم. فلما اخذ سقراط ينشر تعاليمه متبعا ذلك الاسلوب الذي يثير التفكير سعيا وراء الحق، وابتعادا عن الباطل، وتبعه في ذلك عدد من طليعة شباب اثينا، اتهمه اصحاب المصالح السياسية بأنه مصدر متاعب للدولة باعتباره يؤلب الشباب على ما هو سائد وموروث، ويدعو الى الثورة عليه.
* ومن المحاورات والمناقشات الهامة التي كثيرا ما تذكر بين خرميدس وسقراط مناقشة كانت تدور حول تعريف (العفة) حيث قال سقراط فيها: إنه من الواضح اذا كان الانسان يملك فضيلة العفة، فلا بد ان يتصورها، او ان لديه عنها مفهوما معينا.. فأجابه خرميدس: «العفة ان يظهر المرء وقارا هادئا في كل افعاله، في مشيته، وحديثه وجميع سلوكياته، وعلى الاجمال: فإن العفة تتلخص في البعد عن التهور والتسرع».
* وترتب على هذه المناقشة ان انبثقت تعريفات اخرى لمعانٍ تشتمل على التسرع، فقيل انه مطلوب في امور كثيرة، وان البطء مذموم فيها.. ويستمر النقاش عن العفة التي قال البعض انها تدعو المرء لان يحمر وجهه خجلا لينعكس ذلك الخجل على النفس، وما ان اشبع هذا الامر نقاشا، واذا بتعريف آخر يظهر ان العفة ترتبط بمعرفة الانسان لنفسه.. وهناء تقترب المحاورة بعض الشيء من مذهب سقراط الذي تدور فلسفته حول معرفة النفس البشرية.
* ولم يكن التحاور مقصورا على سقراط، فهناك محاورون عرفوا ببراعتهم منهم جورجياس وهو سفسطائي مشهور وخطيب لامع، اكتسب ثروة كبيرة من صناعة الخطابة، وهو من دعاة القوة وفرض الارادة باستخدام كل الاساليب للوصول الى تحقيق اي اهداف يسعى اليها الفرد.
ولم يكن جورجياس مموها يبغي التزييف والمغالطة، وانما كان مؤمنا بمذهبه كأسلوب في الحياة من منظوره، لكن سقراط يقف في الجانب الآخر المعاكس لطريق جوجياس حيث العدل والحكمة والحق، وهي معانٍ تحقق للانسان انسانيته بمعنى الكلمة، وهذا ما فعله ودافع عنه لدرجة انه دفع حياته ثمنا لتأكيد تلك المعاني.
***
* واذا جاز لنا ان نحكم من خلال مشاهدة ذلك التمثال النصفي الذي وصل الينا من انقاض التماثيل اليونانية القديمة، يمكن ان نقول ان سقراط كان بعيدا كل البعد عن الوسامة، فهو اصلع الرأس، ذو وجه كبير مستدير وعينين عميقتين ذاتا فراسة وانف كبير عريض مفلطح ولكننا لو اعدنا النظر في التمثال الرخامي لوجه سقراط، لوجدنا فيه شيئا من الدماثة واللطافة والبساطة، وهذه الصفات هي التي جعلت من هذا الفيلسوف والمفكر الانساني معلما محبوبا عند افضل شباب اثينا.
* ومع ان معرفتنا بسقراط معرفة قليلة، لا تتجاوز حدود ما وصل الينا مما كتبه افلاطون عنه، الا ان صورته قد استنبطت باذهاننا بتلك الهيئة المهلهلة الثياب، وهو يسير بتؤدة في الهواء الطلق، غير عابئ بسخافات السياسة، ولا بمفرداتها.
وقد كان الشباب يستمتعون بتحليلاته، وهجومه العنيف على النظام الديموقراطي في اثينا، بل ان هؤلاء الشباب كانوا ينظرون إليه بزهو واعجاب عندما كان يحاور مناقشيه ببراعة، ليلقي بالواحد منهم تلو الآخر فرائس سهلة بعد مهاجمته اياهم بالحجة القوية، والمنطق الحذق، والبراهين المقنعة.
* ان جميع المشاكل التي تثار في مجتمعنا الانساني المعاصر، وصارت مادة للنقاش عبر وسائط الاعلام المختلفة، التي ما زالت تثار هنا وهناك، قد هيجت من قبل تلك المجتمعات اليونانية الصغيرة، فكان الشباب هم الطلائع الاولى لاثارتها والتحاور فيها مع معلمهم سقراط، الذي غدت حلقاته تضم جميع الشرائح الاجتماعية ومنطلقاتها الفكرية. حقا... ان الحياة بغير الحوار البناء ليست جديرة بأن يعيش فيها الانسان، فالحوار الذي يتبعه تطبيق عملي هو الذي يصنع الحضارات الانسانية.